Tarikh Masuniyya
الحقائق الأصلية في تاريخ الماسونية العملية
Genres
شاهين مكاريوس
باسم مهندس الكون الأعظم
إدريس بك راغب
مقدمة
الباب الأول: إنشاء مدارس البنائين التي نشأت الماسونية منها
1 - في الأعمال البنائية
2 - بعض الأقوال في أصل الماسونية وتعاليمها وغايتها ومستقبلها
3 - الماسونية في بريطانيا
4 - الماسونية في غاليا
5 - الماسونية في جرمانيا
Unknown page
6 - في الشرائع والقوانين الماسونية الأساسية
7 - وصايا ماسونية
8 - في أهم المنشورات وتاريخ صدورها
9 - في المجامع الكبرى التي أقامتها الماسونية منذ مجمع يورك سنة 926ب.م حتى مجمع سنة 1787
الباب الثاني: أعمال الماسونية العملية قبل التاريخ المسيحي
تمهيد
1 - ملخص أعمال الماسونية من سنة 715 قبل المسيح إلى سنة 30ق.م
2 - الماسونية العملية من السنة الأولى المسيحية إلى الألف بعد المسيح
3 - الماسونية العملية من سنة 1001 إلى سنة 1717 بعد المسيح
4 - في طريقة فرسان مار يوحنا أو الستريكت أوبسرفانس1
Unknown page
5 - الاستعداد لتحويل الماسونية العملية إلى رمزية
إيضاحات
شاهين مكاريوس
باسم مهندس الكون الأعظم
إدريس بك راغب
مقدمة
الباب الأول: إنشاء مدارس البنائين التي نشأت الماسونية منها
1 - في الأعمال البنائية
2 - بعض الأقوال في أصل الماسونية وتعاليمها وغايتها ومستقبلها
3 - الماسونية في بريطانيا
Unknown page
4 - الماسونية في غاليا
5 - الماسونية في جرمانيا
6 - في الشرائع والقوانين الماسونية الأساسية
7 - وصايا ماسونية
8 - في أهم المنشورات وتاريخ صدورها
9 - في المجامع الكبرى التي أقامتها الماسونية منذ مجمع يورك سنة 926ب.م حتى مجمع سنة 1787
الباب الثاني: أعمال الماسونية العملية قبل التاريخ المسيحي
تمهيد
1 - ملخص أعمال الماسونية من سنة 715 قبل المسيح إلى سنة 30ق.م
2 - الماسونية العملية من السنة الأولى المسيحية إلى الألف بعد المسيح
Unknown page
3 - الماسونية العملية من سنة 1001 إلى سنة 1717 بعد المسيح
4 - في طريقة فرسان مار يوحنا أو الستريكت أوبسرفانس1
5 - الاستعداد لتحويل الماسونية العملية إلى رمزية
إيضاحات
الحقائق الأصلية في تاريخ الماسونية العملية
الحقائق الأصلية في تاريخ الماسونية العملية
تأليف
شاهين مكاريوس
شاهين مكاريوس
رئيس أعظم شرف مقام العقد الملوكي بالينويس في الولايات المتحدة الأميركية، وعضو شرف في جمعية أبطال الماسونية القدماء، وعضو شرف في كل من محفل اللولو بأميركا، ومحفل سليمان الملوكي بالقدس، ومحفل الثبات بمصر، ومحفل سورية بدمشق، ومحفل الملك سليمان الأميركي، ومحفل إدريس بمصر، ومحفل النيل الإيطالي بمصر، ومحفلي لبنان وفلسطين في بيروت، ومحفل أسكلة سليمان بيافا، ومقام كوكب الشرق الملوكي، ومجمع الكرنك الفرنسوي لدرجة 18، وعضو المحفل الأكبر المصري، والمقام الأكبر المصري، ورئيس ومؤسس محفل اللطائف ومقام اللطائف، ومحفل فينيقية، وحائز لدرجة النخل والصدف ودرجة 32 وغيرها.
Unknown page
سعادة الفاضل إدريس بك راغب
رسم ماسوني.
باسم مهندس الكون الأعظم
أما بعد، فهذا كتاب عن تاريخ الماسونية العملية منذ عرفت حتى الآن جمعته من كتب وفيرة المادة يعول عليها في صدق الرواية، وقد أفرغت في تأليفه واقتطافه جهدي، فجاء جامعا مستوفيا، ولما تم طبعه قدمته هدية سنية إلى سعادة الرياضي القانوني العالم الفاضل والجهبذ الكامل: «إدريس بك راغب»، الرئيس الأعظم للمحفل الأكبر الوطني المصري؛ إقرارا بفضله وغيرته على الماسونية وأهلها، واعترافا بما لسعادته من المآثر المأثورة في إحياء معالمها في القطر المصري وسائر البلاد العربية، وقد زينته برسمه الكريم؛ لعلمي أن كل ماسوني في القطر المصري وسائر البلدان يود حفظه؛ تذكارا لجميله العميم ومعروفه الذي لا يفتقر إلى تعريف.
وقد نشرت ترجمة سعادته فيما يلي نقلا عن أصدق المصادر، وأفاضل العارفين بسيرته المحمودة، علاوة على ما خبرته وعرفته بنفسي، والله أسأل أن يديم عزه، ويعمم فضله، ويوطد به دعائم المساواة والحرية والإخاء.
مؤلف الكتاب
شاهين مكاريوس
إدريس بك راغب
الرئيس الأعظم للمحفل الأكبر الوطني المصري، ورئيس أعظم محافل أفريقية الشمالية لدرجة
الأساتذة المعلمين
Unknown page
«إدريس بك راغب»، وقبل الكلام عن ترجمته نتكلم عن والده. هو المرحوم «إسماعيل باشا راغب»، وكان قد هاجر مع والده من موره إلى مصر في حروب اليونان مع الدولة، وترك في بلده «بتراس» أموالا وافرة وأملاكا واسعة؛ لأنه كان من ذوي البيوتات فيها وأهل الشأن بين أهلها، ولما وصل إلى مصر تحت أعباء الهجرة والغربة رآه رجل من أهل الفراسة ومعه ابنه «إسماعيل راغب» صبيا تلوح عليه مخايل النجابة، فأشار عليه أن يدخله في المدرسة الأميرية بأبي زعبل ففعل، فما لبث أن فاق أقرانه ودخل في معية «محمد علي باشا» كاتبا، فقربه «محمد علي» لما رآه فيه من الذكاء والأمانة، وقد دخل عليه يوما ليختم منه أوراقا، فدخل على عقبه المرحوم «سامي باشا» رئيس الديوان الخديوي في ذلك الوقت، ووقف فسأله «محمد علي» عما عنده فمجمج في كلامه كأنه ينتظر خروج ذلك الكاتب ليعرض ما لديه، فقال له «محمد علي»:
أويكتم عن هذا سر؟ اعرض ما عندك، فهذا كابني.
نقل هذه الحكاية المرحوم «راغب باشا» في وصف حكمة «محمد علي» في تربية حاشيته، ومما يذكر له من الشجاعة وقوة القلب أنه كان كاتبا لمجلس رئيسه «إبراهيم باشا» ذاك الأسد الأغلب، فتقدمت في المجلس دعوى أقر المجلس فيها على قتل رجل، فعارض المرحوم «راغب باشا» فيها معارضة أغضبت المرحوم «إبراهيم باشا»، فقال له: أوافقك على نظر الدعوى مرة ثانية، فإن كانت معارضتك على غير حق قتلتك مع الرجل، فقال: يا أفندينا إن الأعضاء رأوا رأيك فهم لا يتحولون عنه، وإنما أرجو من أفندينا أن ينظرها وحده وله الحكم بعد ذلك. ولما قرأ «إبراهيم باشا» أوراق الدعوى ظهر له صحة ما قال «راغب باشا»، فاعترف بخطأ ما رآه المجلس، وصواب ما رآه «راغب باشا»، وهذا مقام لا تتقدم فيه قدم في ذلك الزمان، والموت بين الشفة والسيف. ولما تولى «عباس باشا» الأول غضب على المورلية جميعا فانزوى «راغب باشا» في أبعاديته مدة حكومة المشار إليه. وقد قصده مرارا بالسوء وأحاطه بالجواسيس، ولكن الله سلمه. وفي ولاية المرحوم «سعيد باشا» كان هو القائم بإدارة الأمور فصار ناظرا على الجهادية والخارجية، وناظرا على الخزينة التي هي المالية، وكان لا يعيش له أولاد، ولما رزق بإدريس بك نصح الأطباء لوالده أن يخففوا من الإفراط في التحرز والوقاية التي كانت سببا لمرض الماضين، وكان المرحوم «سعيد باشا» يبعث بالتلغراف إلى مصر وهو في الإسكندرية يسأل كل يوم عن صحة المولود ويبشر بنفسه وزيره بصحة ولده.
ولما تولى «إسماعيل باشا» الخديوي الأسبق قلده وظيفة باشمعاون، وكانت تلك الوظيفة بمكان رئاسة الوزارة، فكان بيده الحل والعقد في جميع الأمور، وقد زاره الخديوي مرارا في بيته ولم يسبق هذا لغيره. ومن مآثره أنه لما كان ناظرا على المالية أحسن عليه الخديوي «إسماعيل» بثلاثين ألف جنيه فاعتذر عن أخذها لحالة المالية، ويقول الخبيرون إنه لو كان «إسماعيل باشا» تبع نصائحه لم يحصل ما حصل من ارتكاب الديون وغيرها.
وقد أصيب بالشلل في شقه؛ وسبب ذلك أن رجلا فرنسويا من أقارب «موسيو دلونكل» الشهير جاء إلى مصر وعرض عليه قرضا، فأخذ يخابره في شروط القرض و«إسماعيل» باشا يحذره أن لا يعتمد على كلام الرجل وهو يعارضه في ذلك، وفي آخر الأمر لما تبين المرحوم «راغب باشا» صدق فراسة «إسماعيل باشا» الخديوي في الرجل المذكور وغلطه في الاعتماد عليه لم يقدر أن يتحمل ذلك على مهارته فأصيب بالشلل فتداركه الأطباء، وقد بقي في جسمه أثر المرض ظاهرا إلى أن توفي، ولم يمنعه هذا من مباشرة الوظائف المهمة في الحكومة.
وقد صار رئيس الوزارة في مدة «عرابي» في عهد الخديوي «توفيق» أيضا، وكان له عناية عظيمة في تربية ابنه ووحيده «إدريس بك» فكان يدخله في أشغال الحكومة وهو في العاشرة من عمره ويشاوره مشاورة امتحان وتدريب في كثير من المعضلات، وما زال معه على ذلك حتى توفي، وقد صرف جميع ما في طاقته في تعليمه وتهذيبه وتثقيفه، وكان له بمنزلة المعلم في أوقات فراغه من الدرس، وإنك لتجد ذلك ظاهرا في أخلاق «إدريس بك»، فإنه جمع من محاسن الأخلاق ومكارم الشيم ما يدلك على أنه تخرج على فيلسوف حكيم، وقد جاء له بأفاضل المعلمين والأساتذة فهو يعرف اللغة الفرنسوية والإنكليزية والتركية والعربية والعلوم الرياضية، وله فيها تآليف ومقالات شتى كما سنذكره فيما يلي.
ومع أنه تربى في مهد النعيم، ونشأ في الحلية، فهو قوي الحجة، مبين البرهان، متخوشن في نفسه وسط تلك النعم. ومع أنه مالك لهذه الثروة الواسعة فهو محتقر للغنى، لا يمكن لمن ينتقد أحواله وأطواره أن يجد في طياته شائبة افتخار بما لديه من وافر المال، ومع أنه واسع المعارف، طويل الباع في العلوم الرياضية ، فلا يجد خليطه أدنى دعوى للعلم . أما الأخلاق ومحاسنها فهو من الأفراد المعدودين في التاريخ في باب الحلم، ولا يغلط واصفه إن قال إنه لم ير غضبانا أو قائلا هجرا، أو شاتما خادما، وله في الحزم في أشغاله والكرم في عطاياه آيات للسائلين.
ولد «إدريس بك» يوم الأربعاء في 21 أغسطس سنة 1862م فتربى في مهد العز كما تقدم، ورأى أساتذته منه تلميذا نجيبا يميل طبعا إلى العلوم، ولا تكاد تخفى عليه من دروسه خفية؛ فارتفعت منزلته عندهم ولم تطل المدة حتى ظهرت ثمار اجتهاده يانعة، فأحرز ثقة أساتذته به، ونال درجة عالية في العلوم الرياضية، وكان على صغر سنه سمير الكتب، وجليس التآليف، ولم يخل منزله يوما من العلماء الأعلام الذين كانوا يفدون عليه.
وكان يراسل جريدة المقتطف في أثناء طبعها في مدينة بيروت، وله بها الرسائل الرياضية والمقالات العلمية التي تدل على طول باعه وتضلعه من العلوم، وقد اختاره المجمع العلمي الشرقي عضو شرف فيه.
وفي شهر ذي القعدة سنة 1297ه الموافق شهر أكتوبر سنة 1879م اقترن بذات العصمة والعفاف السيدة «نظله» كريمة خاله المرحوم «عبد الله باشا عزت الأرنئوطي».
Unknown page
وفي شهر رمضان سنة 1302ه/يونيو سنة 1884م توفي إلى رحمته تعالى «إسماعيل راغب باشا» والد صاحب هذه الترجمة، ففقدت البلاد المصرية بوفاته ركنا من أعظم أركانها، وحزنت عليه حزنا شديدا، وفي ذلك الوقت أظهر «إدريس بك» من الحزم والعزم ما أطلق ألسنة الخلق عموما بالثناء عليه وعلى آدابه. وقد أنعم عليه المغفور له توفيق باشا خديوي مصر بالرتبة الثانية في 23 يوليو سنة 1885م/20 شوال سنة 1302ه؛ إظهارا لالتفاته السامي إليه وتشجيعا له على اقتفاء خطوات أبيه في خدمة الحكومة والوطن بالصدق والأمانة فسر هذا الإنعام كل من عرف حسن شمائل المنعم عليه وأملوا له زيادة الارتقاء في مدارج العلاء.
وفي هذه السنة (1885م) رزقه الله ولدا سماه «أحمد نصرت»، فأقام لأجله ليالي الذكر ووزع مع حضرة حرمه الفاضلة الإحسان على المستحقين، وشكروا الله على هذه البركة.
وسنة 1886م رزق ابنة سماها «فطنت» هانم، وعمل لها العقيقة كما عمل لأخيها قبلها.
وإذ كانت العشيرة الماسونية هي الجمعية المثلى التي جمعت نخبة أفاضل البلاد وعيون أعيانها، وكان يتقاطر إلى الانتظام في سلكها كل ذي نفس أبية وسجية زكية، ولما رأى صاحب الترجمة ما لهذه الجمعية الشريفة من الأعمال الحميدة قدم طلبه إلى محفل كوكب الشرق نمرة 1355 التابع لمحفل إنكلترا الأكبر، فقبل في الدرجة الأولى في 23 ديسمبر سنة 1887م، وكان رئيس ذلك المحفل وأعضاؤه يثقون به لما رأوه فيه من دماثة الأخلاق وكريم السجايا، فرقوه إلى الدرجة الثانية في 10 فبراير سنة 1888م فزاد حبه للماسونية وزاد حبهم له.
وترقى لدرجة الأستاذ في 29 مارس سنة 1888م، فكان قدوة حسنة لإخوانه، ورزق في هذه السنة ولدا سماه «محمد عزت».
وسنة 1889م انتخب بإجماع الآراء منبها أول لمحفل كوكب الشرق.
وفي 14 يناير سنة 1889م أرسل عطوفة ناظر الحقانية إفادة إلى سعادته يكلفه قبول منصب نائب قاض في المحكمة الأهلية فلبى الدعوة لخدمة وطنه العزيز، ولم تطل مدة قيامه في هذه الوظيفة حتى صدرت إرادة سمو الأمير بتعيينه قاضيا في محكمة مصر الأهلية، وكان من جملة آثاره فيها أنه كشف مخبآت قضية «مصطفى باشا الخازندار» الشهيرة، وأظهر بواطنها.
وفي 26 يناير سنة 1889م أحرز درجة أستاذ معلم في محفل مصر نمرة 311، وهو محفل إنكليزي تابع للشرق الإنكليزي، وفي 6 مارس سنة 1889م أسس محفل الهلال نمرة 30، وفي 8 مايو سنة 1889م ترقى إلى درجة العقد الملوكي في مقام البلور نمرة 1068، وفي أواخر سنة 1889م أجمعت الآراء على انتخابه رئيسا لمحفل كوكب الشرق، وفي 26 ديسمبر سنة 1889م عين منبها أول أعظم للمحفل الأكبر المصري.
وفي 10 يناير سنة 1890م تولى رئاسة محفل كوكب الشرق الموقر، وقد زرت المحفل في أثناء رئاسته فألفيته زاهرا زاهيا به، ورزق في هذه السنة ولدا سماه «إسماعيل راغب».
ويوم الجمعة مساء في 12 ديسمبر سنة 1890م اجتمع المحفل الأكبر المصري وقرر اجتماعه الماسوني في 9 يناير سنة 1891م لانتخاب موظفيه، وكان المغفور له «توفيق باشا» خديوي مصري رئيسا أعظم للمحفل الأكبر المصري، ولما كثرت أشغال المحافل وزاد عدد طالبي الانضمام إليها رغب سموه إلى الإخوان العاملين أن يعفوه من الرئاسة العملية، وأن ينتخبوا غيره من الأفاضل أصحاب الوجاهة والعلم، وفي 9 يناير سنة 1891م اجتمع المحفل الأكبر المصري في الدار الماسونية بحضور جمهور من الإخوان، وبعد إجراء الرسوم المعتادة انتخبوا «إدريس بك» رئيسا أعظم فسر كل الإخوان في القطر المصري من هذا الانتخاب.
Unknown page
ويوم الجمعة 23 يناير سنة 1891م أرسل سمو «توفيق باشا» نائبه في الرئاسة العظمى سعادة «حسين فخري باشا» ناظر الحقانية المصرية في تلك السنة، فعقد اجتماعا في المحفل الأكبر المصري وثبت الموظفين وأجلس «إدريس بك» على كرسي الرئاسة العظمى، فاستلم الأشغال بين تهليل الإخوان وسرورهم، وحينئذ انتخب سمو الخديوي «توفيق باشا» رئيس شرف مؤبدا للمحفل الأكبر المصري، و«فخري باشا» رئيس شرف أيضا، وبلغ سموه ما تم، فسر وأهدى إلى المحفل الأكبر مبلغ مائة جنيه تنشيطا له على أعماله الخيرية، وأعلنت المحافل الوطنية والمتحابة والمشارق السامية والمجالس العليا الماسونية في سائر أنحاء المسكونة بهذا الانتخاب فسر الجميع بذلك وأرسلوا رسائل التهاني تترى.
وفي 23 مارس سنة 1891م نال الدرجة الثامنة عشرة من شرق إيطاليا الأعظم.
وفي 29 أبريل سنة 1891م اجتمع المحفل الأكبر المصري برئاسته وبحضور جماعة من الإخوان العظام، وكان المحفل الأكبر مديونا بستة عشر ألف جنيه فاتفقوا على تسويته وأقنعوا أصحاب الدين بقبول ألف وأربعمائة جنيه تدفع نقدا ويتخلص المحفل من كل ديونه، ورأى أعضاء المحفل الأكبر تعسر الواسطة لوفاء ذلك الدين فلجئوا إلى أستاذهم الأعظم «إدريس بك»، فكان من باكورة أعماله أنه دفع المبلغ من ماله الخاص، فأصبح المحفل الأكبر المصري حرا في أعماله وماليته.
وفي 1 مايو سنة 1891 ألحق بمحفل نور الشرق التابع لشرق إيطاليا الأعظم، فمنحه في 5 مايو سنة 1891م الدرجة الثلاثين، ثم دخل في المجلس المصري الأعلى وأخذ فيه درجتي 31 و32.
وفي 3 يوليو سنة 1891م أحرز الدرجة السادسة والتسعين في الطريقة المنفيسية مكافأة على ما أتاه من الخدم الجليلة للهيئة الاجتماعية عموما والماسونية خصوصا، ولما كان المجلس الأعلى لدرجة 33 لا يعترف بهذه الطريقة تنازل عن هذه الدرجة.
وفي 29 سبتمبر سنة 1891م ترقى إلى الدرجة الثالثة والثلاثين، وهي أرفع الدرجات الماسونية في الطريقة الاسكوتلندية للبنائين الأحرار القدماء المقبولين.
ويوم الخميس 8 أكتوبر سنة 1891م مساء احتفل المحفل الأكبر بعيد تأسيسه وتثبيت الرئاسة العظمى لسعادة «إدريس بك»، فكان هذا الاحتفال جامعا كل أسباب المسرات. وقد توارد إليه الإخوان أعضاء جميع المحافل، وازدان صدر الحفلة بحضور كثير من الرؤساء ومندوبي المشارق العظمى المتحابة والمحافل الكبرى والمجالس السامية التي لها علائق ودادية وصلات حبية بالمحفل الأكبر، فكان هذا الاحتفال باهرا زاهرا لم يسبق له نظير في الهيئة الماسونية المصرية؛ لأنه جمع دواعي الأنس ومجالي الابتهاج، وكان الإخوان على سرر الصفاء متقابلين تعلو أسارير وجوههم أمارات البشر وإشارات الابتهاج؛ لأنهم علموا أن هذا اليوم تذكار عظيم لظهور شأنهم في عالم البناية الحرة وبزوغ كوكب سعدهم في أفق الماسونية.
وفي 17 نوفمبر سنة 1891م أسس مقام كوكب الشرق نمرة 1355.
وفي 3 يناير سنة 1892م أسس محفل الإخلاص للأساتذة المعلمين نمرة 440، وقد نال النياشين الرئيسة من كل المحافل التي قام عليها رئيسا، وهي: الهلال، وكوكب الشرق، ومقام كوكب الشرق، ومقام البلور، ومحفل الإخلاص.
وفي يوم الخميس الساعة السابعة وربع مساء في 7 يناير سنة 1892م توفي إلى رحمة الله «توفيق باشا» خديوي مصر في مدينة حلوان، فحزنت عليه الأمة المصرية عموما، والماسون خصوصا حزنا شديدا، ومشى الماسون جميعا في مشهده. وعلى إثر وفاته كتب سعادة «إدريس بك» رسالة تعزية لحضرة صاحبة الدولة والعصمة حرم المغفور له بالنيابة عن الجمعية الماسونية وتوجه بها إلى سراي القبة وقدمها إلى دولتها فقبلتها أكرم قبول من هذه الجمعية الشريفة، وسألت «إدريس بك» إبلاغ سلامها وشكرها الجزيل إلى أعضاء المحفل الأكبر الموقر وسائر إخوان العشيرة الماسونية في القطر المصري.
Unknown page
وعمل له صاحب الترجمة تذكارا ليوم الأربعين من وفاته لم يسبق له نظير في البلاد المصرية اجتمع فيه أكثر من ألف أخ ماسوني بملابسهم الرسمية برئاسة «إدريس بك»، فتليت فيه الخطب والمراثي.
وفي 12 يناير سنة 1893م أسس المقام الأكبر المصري لدرجة العقد الملوكي، وعين رئيسا أول أعظم له، وانتخب كاتب هذه الترجمة سكرتيرا أعظم له، وفي 3 فبراير سنة 1893م أسس محفل السفينة الملوكية نمرة 440 (المارك).
ورزق في هذه السنة ابنة سماها «عطيت هانم».
وفي هذه السنة (1893م) طبع القانون الماسوني للمحفل الأكبر بعدما نقح وأضيف إليه تكملات مهمة، وابتدأ بطبع كتب الدرجات الرمزية الثلاث ثم طبع شروحها كل درجة بكتاب على حدة، وكذلك درجة المارك والعقد الملوكي ومحفل الأساتذة المعلمين، وكتب التعليم وغيرها، ولم يقتصر على هذا، بل جعل جلسات المحفل الأكبر غاية في الانتظام ووطد اتحاده مع المشارق السامية ونظم اجتماع لجنته المستديمة.
وفي شهر أكتوبر سنة 1894م/ربيع أول سنة 1312ه أنعم عليه جلالة شاه إيران بنيشان شيرخورشيد (الشمس والأسد) من الدرجة الثانية على إحسانه إلى الحجاج الإيرانيين وغيرهم.
ورزق في هذه السنة ابنة سماها «أمينة هانم».
وفي هذه السنة (1894م) طبع كتابه المسمى «طيب النفس لمعرفة الأوقات الخمس»، وقدمه لأعتاب سمو «عباس باشا حلمي» خديوي مصر، ورفع منه كتابا إلى عظمة السلطان «عبد الحميد خان» وآخر لجلالة شاه إيران، وقد قرظه حضرة المشير الهمام ذي الدولة والفخار الغازي «أحمد باشا مختار» بالتركية فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
مؤلف عزتلو إدريس بك أفندي شو كتاب فوائد نصابك محتو ياتيله اشتغال ايتمكي نه أبي بولمش على الخصوص عمومه عوامي، وخصوصه حسابي برطرزده مختصر ومفيد تفسير مسائله كير شمكله برابر تطبيقاتنه دها زياده اهميت ويره رك بر طاقم دستور لري حل ومتعدد جد وللري املايه قدر صرف همت ايلمش حقاكه پك كوزل ياپمشدر كنديسنه تشكر له برابر دها بونك كبي نيجه اثار مفيده نشرينه موفق اولمسني الطاف سبحانيه دون تمنى ايلرم.
غازي
Unknown page
أحمد مختار
في 15 جمادى الثاني سنة 1312ه
وقرظه حضرة العالم المحقق سعادتلو «إسماعيل باشا الفلكي» ناظر مدرسة المهندسخانة والرصدخانة سابقا، فقال:
إن أبهى ما تزدان به الطروس، وترتاح إليه النفوس، حمد من اطلع في سماء العلوم هلالا يفيض نوره على العالمين، ويهدي بضوئه المسترشدين، والصلاة والسلام على قطب دائرة الوفاء، وصحابته الذين أظهروا أسرار العلم من زوايا الخفاء. وبعد؛ فقد سرحت الفكر في رياض هذا المؤلف العزيز المثال، وأمعنت النظر في غرره التي لم ينسج لها على منوال، فوجدت أن مؤلفه الفاضل قد جمع فيه من الفوائد ما لا يدخل تحت عد حاسب، ولا يقوم بحصره قلم كاتب. أظهر مكنونات كانت مودعة في زوايا النسيان، فأزال حجابها حتى تراءت للعيان، ومثل علم المواقيت أحسن تمثيل، بما لم يعهد له مثيل، فسهل على كل معرفة الميقات، فلا غرابة أن عددناه له من أعظم الحسنات، فكم ترك الأول للآخر، من عظيم المحاسن وشريف المآثر، نعم فهو نتيجة فكر رشيد، وعقل سديد، ورياضي له ذكر بين مشاهير الرجال، وله في أفئدة معاصريه جزيل الآمال، فنفع الله به وطنه، وأدام عليه من مدرار علومه ما يجعل أهل العصر الحاضر يرفعون له ألوية الشكر، ويقدمون إليه عظيم الثناء، وأكثر الله من أمثاله بين ظهرانينا لتقدم المعارف والعلوم.
وقرظه حضرة العالم الفاضل عزتلو أحمد بك ذهني ناظر مدرسة المهندسخانة الخديوية فقال:
ما أبدعته أفكار الحكماء الأوائل، وجالت في ميادين اختراعه جياد أقلام الأفاضل، ورصدت كواكب إدراكه نفس «إقليدوس»، ودارت على محور الإمعان دائرة أنظار «بطليموس»، بأعظم مما أنتجته أفكار من قسم على صحيح تصوره جمع المعارف والآداب، واطرحت دون بلوغ شأوه أقوال النبلاء في زوايا الانقلاب، همام لم تدون قاعدة في فن إلا وله بها الإلمام الشافي، والرأي السديد الوافي، ولا سيما علم الرياضة الذي غدا به كالرياض اليانعة، وغدت شموس أفكاره في بروج مطالعه ساطعة، كيف لا وهو المولى الذي يشار إليه بالبنان، ويشهد له بإحراز قصبات السبق في مضمار الرهان، ويقصر عنه في حلبته كل عالم وكاتب، السري اللوذعي «إدريس بك راغب»، فقد طالما بذل النفس والنفيس لنفع بلاده وأبناء وطنه، وغمرهم من بحار علومه بما تركهم مشمولين بمننه.
ومما صار عنوانا على تالد فضله وطريفه، وشاهدا عدلا على رائق معناه ولطيفه ، كتابه الذي بزغت في سماء الانتفاع أنوار أهلته، وجل عن الحساب تعداد منفعته، حيث كان هداية للناسك إلى سواء السبيل، وحسما للنزاع وإبطالا للقال والقيل، فلا غرو أن تسابقت نفوس الأدباء طرا إلى اقتنائه، فهو الحري بأن يبذل العاقل روحه ومدخر ماله في الحصول عليه وشرائه، ولقد سرحت ذهني في رياض سطور طروسه، وأجلت الأفكار في استجلاء مطالع شموسه، فإذا به كتاب غدا قطبا لدائرة أفكار الفضلاء، وشمس أفهام الألباء، كتاب قد أجزل الأنام منافعه، وهل تنكر الشمس في الرابعة، ولا يفوتك أن اسمه وافق مسماه، ونفح مسك طيبه وشذاه، فلا جرم أن كان راحة النفس في معرفة الأوقات الخمس، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وبجزيل فوائد فرائده فليتنافس المتنافسون.
وقرظه جناب العلامة الفاضل الدكتور «فارس نمر» منشئ المقتطف والمقطم فقال:
تصفحت كتاب «طيب النفس بمعرفة الأوقات الخمس»، فإذا هو مثل سائر ما نفثه يراع العالم الرياضي الكاتب سعادة «إدريس بك راغب» كتاب كلامه قل ودل، وبحثه عميق، ومعناه دقيق، ومنهجه منهج أرباب العلم والتحقيق، ولقد طال بحث الأئمة المتقدمين في توقيت الصلوات وكثرت كتب العلماء المحدثين في تعيين جميع الأوقات، ولكني لم أعثر بكتاب استوفى تحقيق المتقدمين واستقصى تدقيق المتأخرين قبل هذا الكتاب المستطاب الذي راعى في تعيين أوقات الصلوات الخمس فرق انكسار شعاع الشمس في الهواء محسوبا على اختلاف ضغط الجلد، وتفاوت درجة حرارته وانخفاض أفق الناظر، فجاء كتابا يعين به المصلي أوقات صلواته ويستعين به العالم على حساب أوقاته، لا زال مؤلفه الفاضل ينفع الشرق بعمله ومعارفه وينفح أهله بفضله وعوارفه.
فارس نمر
Unknown page
مصر في 1 يناير سنة 1895م
وفي سنة 1895م نال درجة النخل والصدف، وتعين عضو شرف في جمعية أبطال الماسونية القدماء في مدينة شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية.
وفي شهر مايو سنة 1895م عينته الحكومة المصرية مديرا للقليوبية، فأصلح شئونها ورتب أمورها، وساوى بين القوي والضعيف، وفي غضون إقامته في بنها قاعدة مديرية القليوبية أنشئ محفل ماسوني باسم بنها، وأنشئ مقام عقد ملوكي أيضا تابع له، وذلك بعنايته واهتمامه.
وفي 12 يناير سنة 1896م/27 رجب سنة 1313ه أنعم عليه بالرتبة الثانية المتمايزة. وفي هذه السنة 1896م رزق ولدا سماه «عبد الله»، وكان يوزع الخيرات على المحتاجين، ويقيم الأذكار والمبرات عند ولادة كل ولد من أولاده كما تقدم.
وظل في مديرية القليوبية إلى سنة 1897م فاستعفي من وظيفته لخلاف حصل بينه وبين بعض أولي الأمر، وقد أجمعت الجرائد المصرية على اختلاف مشاربها على مدح همته وشهامته. وفي أول فبراير سنة 1897م أنعم عليه بالنيشان العثماني الثالث، في 27 شعبان سنة 1314ه.
وفي سبتمبر 1897م (هذه السنة) عينه سمو البرنس «أوف ويلس» ولي عهد مملكة بريطانيا العظمى ورئيس المحافل الإنكليزية رئيسا أعظم على محافل أفريقية الشمالية لدرجة الأساتذة المعلمين.
وفي جلسة 30 سبتمبر سنة 1897م للمحفل الأكبر المصري أعيد انتخابه بإجماع الآراء رئيسا أعظم لسنة 1898م بناء على فضله وأهليته وتثبت في 8 أكتوبر سنة 1897م، وقد أينعت الماسونية أيام رئاسته العظمى ونجحت نجاحا يذكر حتى صار عدد المحافل المصرية أربعة وخمسين محفلا منها محفلان تأسسا على اسم سعادته وهما: محفل إدريس نمرة 43، ومحفل راغب نمرة 51، ولا تزال الماسونية في تقدم مستمر.
وقد أجمعت القلوب على حبه وإعلاء منزلته، وبعد صيته في الآفاق فتواردت عليه مدائح الشعراء من كل صوب حتى لو طبعت كلها لملأت مجلدات من الكتب، ولا أبالغ إذا قلت: إنه لا يتم مشروع خيري في مصر أو أمر مفيد يعود عليها بنفع عميم إلا كان له فيه يد بيضاء. وكم من مرة رأيناه مرأى العين يجود على المحتاجين ولا يرد سائلا قصده لسبب الفاقة والفقر! هذه الجمعيات الخيرية على اختلاف نزعاتها تؤيد كلامنا، وهذه الأفراد والبيوت التي أخنى عليها الدهر من أي طائفة كانت قد خصص لها مرتبات شهرية أو أسبوعية تتقاضاها من إحسانه حتى أصبح الجميع يترنمون بحمده والثناء عليه وكل يخبر بما ناله داعيا من صميم الفؤاد وسائلا مهندس الكون الأعظم أن يبقيه للإنسانية ذخرا وللشرق والشرقيين فخرا.
هذا ملخص ترجمة أول أستاذ أعظم عامل في الماسونية الشرقية الرمزية العربية، قرن العلم بالعمل، وأضاف إلى الفضيلة المعرفة، وإلي المعرفة الاتضاع، وإلي الاتضاع الإخاء وإلى الإخاء المحبة وإلي الكل الاستقامة، فظهرت لكل ذي ذوق سليم صفاته الغراء ومزاياه، حفظه الله ذخرا للقطر وأهله وأبقاه.
مقدمة
Unknown page
نشأ الإنسان وحوله من عجائب الدنيا العجيبة ما أثار دهشه، فحار في أمره وبدأ ينقب ليستطلع كنه أمرها، وجد في كشف القناع عما حجب عن عينيه من العظائم فلم يفلح سعيا.
ولما رأى نفسه حائرا في معرفة العوامل الموجبة لهذه المدهشات وتحقق إخفاق سعيه تركها وشأنها وجعل دأبه استقصاء النتائج الناشئة عن تلك العوامل فدرس أحوال الطبيعة ونقب عن صفاتها ليتمسك بالمفيد ويجتنب المضر.
وكان تعاقب الليل والنهار والحر والبرد والفصول الأربعة من حر الصيف القادح وبرد الشتاء القارس وظهور الأرض نضرة زاهية زاهرة ستة أشهر ويابسة قاحلة ستة أشهر أخرى لا نبات فيها ولا أزهار، وما يعقب ذلك من العوامل الطبيعية، كل ذلك قضى عليه بأشد الدهشة والحيرة فاشتد عجبه وشمر عن ساعد الجد ليستطلع طلع الأسباب التي أوجبت هذه التغييرات ولشدة ما تفحص بدأ يدرك النتائج وعرف منها الأسباب، وأحاط علما ببعض أحوال الطبيعة ومكنوناتها.
ورأى الشمس والقمر والكواكب السيارة فخالها أزلية غير مخلوقة، وظنها ثابتة لا تتحرك، إذ بينما كان كل شيء أمامه يزهو بأيامه ودولته، ويذبل ويبيد عندما تنقضي تلك الأيام، فلا يبقى منه أثر مذكور كان يرى الأجرام السماوية ثابتة في مراكزها لا تتغير ولا يعروها أقل عارض يوجب في حركاتها اختلافا، فنجم عن هذه الدهشات أمور لا تعلم ولا يستقصى خبرها؛ إذ شعر من أول وهلة بعواطف شكر نحو الجرم العظيم الذي ينيره ويخرج له نبات الأرض وحاصلاتها فيعيش بها. وزاد شكره حتى صار امتنانا وترقى الامتنان فصار عبادة، ومنها تفرعت عبادة المرء للأجرام السماوية التي عمت أربعة أقطار المعمور.
فيعبد الهنود براهما وهو الشمس، ويعدونه خالق روح الصلاح، ويعبدون سيفا ويعدونه مبدع روح الشر، وعد الفرس أوروماز الإله المبدع وأهريمان عدوه وهو الشر والضلال. واعتقد المصريون الاعتقاد نفسه فأوزيريس إلههم الصالح، ونيفون الطالح، وجرى غيرهم أيضا مجراهم فعدوا بعض الأشياء آلهة قادرة فعبدوها وأكرموها فوق كل شيء كآلهة قادرين.
ونرى الإنسان عند جميع الشعوب ساجدا أمام الطبيعة غير مميز في عبادته بين العامل والمعمول، وبين العلة والمعلول، معتقدا بقدرة موجد عظيم أبدع الكائنات وأشرك معه من رأى عبادته واجبة فتعددت الآلهة، ولكن بقيت النتيجة واحدة.
ولم تنسخ هذه العبادة تماما، بل اعتقدها قليل من القوم المختارين، وتناقلت منهم للخلف عن السلف حتى أصبحت قاعدة للشرائع التي كان يعلمها الكهنة المصريون في هياكل منفيس.
ورأى هؤلاء القوم العقلاء الاكتشافات الأولية التي حصلوها في العوامل الطبيعية، وما آل إليه بحثهم وتنقيبهم من الثمار الصالحة فجدوا ليجدوا واسطة تحفظها من الدثار وتخلد لها أثرا مأثورا فلجئوا إلى الإشارات والرموز؛ ليبقى لهم بذلك أثر وتذكار مجيد جزاء حق على جدهم واجتهادهم ومنها نجمت معرفة الإشارات والرموز التي اعتاد استعمالها الكهنة الأقدمون.
وأصبح هؤلاء بحسن إدراكهم وقوة حججهم ذوي نفوذ عظيم على الشعب الذي كان في جهالة تامة وعدوا أنفسهم بمثابة وسطاء بين الشعب والآلهة، فرأوا وجوب تكشير الطالبين في جمعياتهم ليشتد بهم أزرهم ويصبح أمر الحل والربط بيدهم من غير منازع ولا معارض، وسعوا في انتقاء الطالبين من نخبة القوم الذين يكتمون السر ولا يجبنون عند اقتحام خطر موهوم، فصاروا يمتحنون الطالب بتجارب شتى حتى إذا رأوا من أحدهم إقداما وبسالة أقسم يمينا معظمة أن لا يخون ولا يبوح بما علمه من الأسرار فأدخلوه جمعيتهم مسرورين.
ومن هؤلاء العلماء الأعلام نشأ استعمال التجارب والامتحانات في الجمعيات السرية القديمة، فكأن الكهنة وهم أعاظم الرجال الذين اشتهر فضلهم وعرف نبلهم تيقنوا أنه لا يمكن إظهار الحقيقة لأقوام غلاظ العقول لا يدركون إدراك أسرارها السامية؛ فخشية من أن يعبثوا بها أو تذهب عظمتها ضحية تلاعب الجهلة بها ستروا الحقيقة تحت رموز خفية أظهروها للجمهور، فحسب هؤلاء أن هذه هي عين الديانة التي يجب اتباعها فسلكوا مسلكها وهم في جهالتهم عامهون، فتفرع من ذلك قسمان في الديانة عظيمان: قسم للعامة وهو رموز وإشارات لا يدركون مغزاها ولا يفهمون معناها، وقسم للعلماء وهم الكهنة الذين علموا وتيقنوا حق اليقين أن وراء هذه الإشارات حقائق أدبية مانعة كل جاهل سافل عن إدراكها.
Unknown page
وكانت هذه الأسرار كلها متشابهة متفقة من حيث المبدأ والتعاليم، ولكنها مختلفة عن بعضها اختلافا طفيفا لا يعتد به حسب اقتضاء الحال، فكان المصريون والكلدانيون والحبشيون يلقنون هذه التعاليم سرا، وقد جعلوا الهندسة وعلم البناء أسا لعلومهم. وأنشأ الكهنة المصريون مدارس جمة تعلم علوما عظيمة، وجعلوا لكل مدرسة فرعا من هذه العلوم يدرسها الطلاب، ويلقن هؤلاء العلوم الدينية حتى إذا برعوا فيها سمح لهم قامة العبادة بصورة منظمة وهم يعدون بمثابة تلامذة الكهنة العظام، وكانوا يتألبون زرافات وكل ذي حرفة مع من شاكله لا يختلط أحدهم بالآخر، وكلهم يقيمون فروضهم ويتممون واجباتهم حسب ما رسمه لهم الكهنة، وكان ينشأ من هذا القسم الملوك وكبار الدولة وكل ذي نفس أبية.
ولم يحرز الكهنة المصريون محبة الشعب هذه وثقته العظمى بهم عن عبث، بل كان ذلك لحكمتهم وأصالة رأيهم وحسن تدبيرهم وشدة حرصهم على أسرارهم وتعمقهم في علومهم الأدبية، أما مرجع الفضل الأعظم في ذلك فعلى دراستهم وتمعنهم في كتابات من سلفهم من حكماء الفرس والكلدان الذين أبدعوا فيما كتبوه وأتوا بالسحر الحلال.
ولما تحقق أعاظم رجال اليونان كتاليس وسولون وفيثاغوروس وديموكوتيوس وأورفه وأفلاطون وأيدوكس وأوبيكيوس وهيرودوتس وليكورغوس ومن ماثلهم من العظماء الأقدمين ما هم عليه الكهنة المصريون من الفضل والتقدم في العلوم العالية شدوا الرحال إليهم وساروا يقطعون الفيافي والقفار ليصلوا إلى الهياكل المصرية ويسمعوا ما لم يسمعوه قبلا من الحكمة ويتعمقوا في تعاليم إيزيس وأوزيريس.
وانتقلت هذه الأسرار إلى اليونان على يد أورفه فإنه أتى بها ووضعها على طريقة يمكن اليونان فهمها وبنى عليها طريقة دعاها تعاليم سوماتراس، وحذا حذوه تريبتولم وسن تعاليم أخرى دعاها أوليزيس، وجاء بعدهم حكماء اليونان بما عرف عنهم من الذكاء والنشاط في الأعمال ودرسوا هذه الأسرار وتعمقوا فيها وبنوا عليها أساطيرهم المشهورة.
الباب الأول
إنشاء مدارس البنائين التي نشأت الماسونية منها
الفصل الأول
في الأعمال البنائية
قيل إن «موسى» أول من نقل الأسرار المصرية إلى شعبه اليهود، ثم انتقلت إلى اليونان بواسطة أورفه وهمة تريبتولم، ثم من هؤلاء إلى الرومان الذين أزهرت في أيامهم وأصبحت تضرب بقوتها الأمثال.
وكان نوما بومبيليوس
Unknown page
1
إذ ذاك ملكا على الرومان، وهو الذي اشتهر بحكمته وعدله في رعيته، فأقام بينهم مدارس كثيرة لعلوم متنوعة أخصها علم البناء وأدخل في مدارسه تلك الأسرار، وذلك سنة 715 قبل المسيح.
وكانت هذه المدارس صناعية دينية تعلم تلامذتها الأسرار التي انتقلت إليها من المصريين حتى إذا أتقنوها حق لهم مباشرة الأعمال الدينية أحرارا من غير منازع ولا معارض، وكانت صناعية من حيث إنها لا تتداخل في المسائل السياسية، وكان دأبها عمل ما يعود نفعه على العباد والبلاد، وكانت قوانينها مربوطة بشرائع عظيمة وقوانين جسيمة لا يمكن أن تتعداها أو تخالف منها شيئا.
أما دياناتها، فكانت مؤلفة من أسرار عميقة لا يطلع عليها إلا المترشحون لقبول الدرجات، فيدخل الطالب لها بناء بادئ بدء، ثم يترقى رويدا رويدا إلى أن يطلع على تلك الأسرار التي نراها في كتب من سلفهم من الآشوريين والمصريين والبراهمة والكلدان، وهذه آثارهم تدلنا صريحا على ما كانوا عليه من التقدم والنجاح في معارج القوة والفلاح.
وكان لهم في عهد الرومانيين امتيازات لما ينلها غيرهم، فكانوا معفين من الضرائب المفروضة على الشعب، وكانوا يجتمعون كل ليلة في محفلهم؛ وهو بناية من خشب يقيمونها قرب المنزل المراد إنشاؤه، وهناك يوزعون شغل الغد على الإخوة بأكثرية الأصوات، ويقبلون الطالبين الدخول بينهم ويطلعونهم على أعمالهم وأسرارهم بعد أن يقسموا يمينا مغلظة أن لا يبوحوا بالسر لأحد، وكانوا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: طالبين وإخوة ورؤساء، وكانوا ينتخبون الرئيس لخمس سنوات ويدعونه أستاذا.
وكانت أشغالهم في محافلهم تبدأ دائما بإقامة صلوات واحتفالات دينية، ولكنهم إذ كانوا من أمم شتى، وكان كل منهم يدين بغير دين الآخر وصعب عليهم إقامة الاحتفالات الدينية سوية؛ دعوا الإله الخالق الذي كان كل منهم يعتقد بواجب وجوده مهندس الكون الأعظم لاعتبارهم العالم بناية جسيمة وهيكلا عظيما أبدعه هذا المهندس العظيم.
وكانت الامتحانات في بدء نشأتها قاصرة في الدرجة الأولى والثانية على قليل من الاحتفالات الدينية وتفسير بعض رسوم للطالبين وتدريبهم في الأعمال وتلقينهم إشارات التعارف، وتحليفهم الأقسام العظيمة أنهم لن يخونوا الجمعية التي انتظموا في سلكها، وأنهم يخلصون لها ما زالوا في قيد الحياة عاملين.
وإذا ترقى الطالب وأصبح بجده واجتهاده وحسن سيرته أهلا لدرجة الأستاذ الرفيعة كان عليه أن يقدم الامتحانات الكثيرة والتجارب العديدة التي أخذها الرومان عن المصريين الأقدمين.
وكانت مدارس البنائين تقي طلابها من كل غائلة، وتكفل لهم شرفا أثيلا بالامتيازات التي حصلتها، والتي اشتد أزرها بها فنشأ فيهم لعظم همتهم وسمو مداركهم وشدة محبتهم بعضهم لبعض أفكار واعتقادات في ديانتهم لم يحرزها غيرهم من الشعوب، فكانوا يشحذون قريحتهم ويجهدون قواهم ليجدوا واسطة تكسبهم حسن السمعة بين الملأ، وكانت لهم كما كان لغيرهم من الأمم الغابرة التي هي من الجمعيات السرية قواعد وقوانين لا يطلع عليها غيرهم وإشارات يتعارفون بها.
ومن الرومان تفرعت مدارس البناء فامتدت أولا إلى غاليا سيزالبين؛ وهي البندقية ولومبارديه، وغاليا ترانسالبين؛ وهي فرنسا وبلجكا وسويسرا وبريطانيا العظمى الآن، ثم إلى الشرق وبلاد العرب، ومنهم جاءت إلى إسبانيا، حيث زهت وأزهرت كما تدلنا على ذلك الآثار الهائلة القائمة حتى الآن تشهد بفضل بانيها وعظم قوتهم.
Unknown page
وبقيت مدارس البنائين في رومية عاملة ناجحة حتى سقطت الإمبراطورية وخلف الأباطرة غيرهم من الحكام الذين كان دأبهم التخنث وحب الذات، فلم يكونوا كأولئك يبذلون النفس والنفيس لإعلاء شأن البلاد وإسعاد العباد، فذبلت نضارة الماسونية وعادت ضعيفة بعد قوتها ولبثت تسير القهقرى، حتى دان حكام رومية بالديانة المسيحية، فصارت الماسونية تتقدم رويدا رويدا وتسترجع نضارتها، وعادت إليها عظمتها الأولى.
الفصل الثاني
بعض الأقوال في أصل الماسونية وتعاليمها وغايتها ومستقبلها
لم يتفق المؤرخون على أصل الماسونية وكيفية نشأتها، فقد تضاربت الآراء واختلفت الأقاويل فيها، فمن ناسب أصلها إلى أقدم الأزمان، ومن قائل: إنها لا تتجاوز الجيل السابع عشر، وبالإجمال فإن دون معرفة الحقيقة أستارا مسدولة تمنع النور عن خرق الحجاب وتحقق شيء من ذلك؛ لأنه من أي مكان جئناها ومن أية وجهة طلبناها لنقف عند الحقيقة ونكون من أمرها على بينة صدق نرى أمامنا عقبات جمة تعرقل سعينا وترجعنا حيارى في أمر نشأتها ومعرفة أول مؤسس لها؛ وذلك لتوالي الأيام وكرور السنين والأعوام.
ولكنه لكثرة ما نقب العلماء والمؤرخون الماسونيون وجدوا سعيا في استقصاء الحقيقة بلغوا غاية طالما صبوا إليها وأدركوا أمنية كثيرا ما تاقوا إلى معرفة كنهها، فقد كشفوا القناع عن كثير من الحقائق والغوامض التي كانت تحول دون ذلك وتقف سدا منيعا بأوجهنا لا يخرقه الاستقصاء ولا يدفعه التنقيب.
وحدث عن هذه الجهالة في معرفة الحقيقة الراهنة أن اختلفت المذاهب في الماسونية، فمن مؤمن مسلم بحقيقة أمرها وشرف مبادئها عالم متيقن أنها أسست لتكون للعالم كنز الراحة ومجلبة السعادة والهناء، ومن مرجف مكابر يهرف بما لا يعرف، أبى إلا الكذب والنميمة مطية يعلوها، فسار وصوافن البغي والعناد تقله وتلقيه في مهامه الجهالة عامها لا يدري في أي واد يهيم فنسب إلى الجمعية الماسونية كل بذيئة واتهمها بما هي براء منه، وعاث في الأرض فسادا، وأبى الله أن يفلح المفسدون.
وقام بعد ذلك المؤرخون المدققون وشمروا عن ساعد الاجتهاد بهمة شماء ووقفوا أنفسهم وأوقاتهم لإدراك هذه الغاية العظيمة، وفضلوا الموت على الحياة، أو يعيشوا أشرافا مستنيرين. وبعد أن طال بحثهم واستقراؤهم في استطلاع طلع الحقيقة نسبوا الجمعية الماسونية إلى أصل قديم جدا، وقالوا: إنها اقتبست قواعدها من مدارس الأقدمين الفلسفية، وقالوا: إن الهنود والمصريين أول من نادوا بهذه الجمعية العظيمة؛ وذلك لما رأوه من موافقة الرموز والإشارات الماسونية الحديثة لتلك، وذهب بعضهم مذاهب أخرى يطول شرحها.
وقام المعارضون وقالوا: إنها شيدت يوم بنى «سليمان» هيكله المشهور، واحتجوا بما في الشرائع الماسونية من الكلمات العبرانية، وقالوا: إن «سليمان» شيدها يوم أسس هيكله سنة 1012 قبل المسيح، فكرسه بعد تسع سنوات من بنائه لعبادة إله قادر أبدع السموات والأرض، وأن هذا الهيكل كان أول بناء تأسس لعبادة إله واحد. فلو سلمنا بهذا الاعتقاد، ونسبنا إلى الماسونية هذا التقادم في العهد لرأينا أن الهيكل السليماني إشارة حقيقية إلى الجمعية الماسونية، وأن هذا البناء العظيم راموز الهندسة وعلم البناء فتتشبه به المحافل الماسونية؛ لأن كل أخ يضع فيه حجره وتشاد عليه هذه الجمعية العظيمة الشأن.
ولكن الماسونية حافظت على التقاليد القديمة التي وصلت إليها ولم تزل كذلك، وكل منها يشير إلى حقيقة هذا الهيكل ويشبهه في الرموز، ومن هذه التقاليد والرموز نتج الخطأ الفاحش الذي ارتكبه المؤرخون إذ حسبوا المجاز حقيقة فبنوا أقوالهم عليها.
وتمادى كثيرون في بحثهم واستقصائهم حتى ظنوا أنهم أصابوا محجة الصدق وفصل الخطاب، وأنهم علموا ما لم يعلمه غيرهم من الباحثين المدققين فنسبوا أصل نشأتها إلى الديانة المسيحية، إذ رأوا بادئ ظهورها أسرارا ورموزا كثيرة محجبة بحجب الخفاء كي لا يطلع عليها أحد من غير الذين أصبحوا باستقامتهم أهلا للانتظام فيها. وقال بعضهم: إنها لم تتجاوز القرون المتوسطة، وأن فرسان «ماري يوحنا» هم الذين أسسوها بعد أن أخذوا تقاليدها من الصليبيين، والصليبيون أخذوها من البراهمة والهنود، وأن أول محفل ماسوني تأسس في مالطة. وقال آخرون: إنها لا تتجاوز القرن السابع عشر، وبنوا أقوالهم هذه على حجج دامغة مبرهنين أنها أخذت إشاراتها ورموزها من الأقدمين، ولكنها لم تتجاوز قط هذا العهد، وبينوا أنها كانت قبلا عملية، وأصبحت بعد هذا التاريخ رمزية محضة لا تعلق لها بالأولى.
Unknown page
وهناك سبب آخر أوجب هذا التضارب في الآراء والتباين في الأفكار عن أصل هذه الجمعية وأول واضع لها، وهذا السبب هو اختلاف الامتحانات في القبول بالدرجات، ففي الأولى تشبه كثيرا ما كان يجريه المصريون، أما في الثانية والثالثة فهي عين ما يعلمه العبرانيون وما يجرونه. وهاك تفصيلا كافيا يدفع الشك والارتياب:
عندما أمر نوما بومبيليوس (وهو أول واضع لمدارس علم البناء في رومية) بتشييدها وإعلاء هذا الفن ومساعدة تلك الصناعة، وعرض حمايته العظمى عليها، وسن لها قوانين وشرائع عظيمة لا يمكن أحدا أن يتعداها، كان كثير من المترشحين إلى قبولها من اليونان الذين تلقنوا أسرارهم وتعاليمهم عن المصريين، وأتوا بها إلى بلادهم فأدخلوا هذه التعاليم إلى تلك المدارس، وجعلوا أسرار بلادهم عين تلك الأسرار التي أخذها من ثم عنهم الرومان. ولكن عندما اتسعت المملكة الرومانية وكثرت فتوحاتها وأصبحت وهي المالكة على العالم المعروف بأسره القابضة على زمام أموره، بدأ الناس يهاجرون زرافات إلى تلك البلاد لما رأوا فيها من عظم المكاسب وفرط المغانم وجاءوا البلاد الرومانية، فرأوا فيها الجمعيات الماسونية وهي شبيهة بالجمعيات التي عندهم من حيث إخفاؤهم الأعمال وعدم كشف الأسرار فانخرطوا في سلكها، وأدخلوا عليها كثيرا من تعاليمهم وأسرارهم السامية، وهذه الأسرار هي ما كان يعلمه اليهود زمن بناء الهيكل.
ولو أن الامتحانات والتجارب المستعملة الآن في قبول الطلاب تختلف كثيرا عما كان يجريه الأقدمون لما رأوا وجوب تغيير أشياء كثيرة منها حسب اختلاف الزمان والمكان وأهلية الأساتذة الذين كانوا يرأسونها، ولكنا نرى كثيرا منها حفظ بتمام النظام ولم يطرأ عليه تغيير البتة مع توالي الأيام وكرور السنين والأعوام، فالامتحانات التي أدخلت إلى محافل لوندرة سنة 1650م، والتي حورت أيضا سنة 1717م هي عين التعاليم والامتحانات التي كان يجريها قدماء الأنكلوساكسون. وفي تلك الأزمان تركت الجمعية مبدأها الأصلي التي بنيت لأجله واتبعت مبدأ آخر أعظم منه وهو إسعاد العالم والنظر في شئونه وأعماله والإتيان بكل مبرة يمكن إجراؤها وأدخلوا إلى الامتحانات التي يجرونها للأستاذ الأعظم نفس الطريقة الإسرائيلية التي أخذت عنها.
ومع هذه المشابهة كلها في الامتحانات بين الماسونية العملية والرمزية نرى اختلافا عظيما بينهما فلا يمكننا أن نخلط بين هذه وتلك، ولا أن نعد الامتحانات التي يجريها الماسون، إلا ما كان يجريه الأقدمون، إذ إنهم يتشبهون بهم ليس إلا.
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
فكانت الماسونية الرمزية تكتفي بعد هذه الامتحانات بتثقيف الطلاب في العلوم البنائية والرياضية والهندسية والفلسفية، وتبث فيهم روح التكافؤ على العمل ومحبة القريب ودرس الحوادث الطبيعية وما جرى مجراها، في حين أن الماسونية العملية تهذب العقول وتدمث الأخلاق وترفع المرء إلى مراكز سامية جدا من حيث الشهامة؛ فتلقنه علم الفلسفة الحقيقي والحكمة البشرية مقترنة بالإلهية مجتهدة لتجعل صفات الماسون لا عيب فيها ولا شيء يشينها فتقرب الخالق من المخلوق وتفهم كل ما له وما عليه من حيث العالم المدني، فهي الحكمة وأصالة الرأي التي يضطر لمعرفتها أي إنسان من أي مكان وأي مذهب كان فلا تقبل شرائع عليها، بل هي تعطي وتلقن الشرائع العظيمة؛ لأن مبدأها واحد وهو شريف إلى الغاية لا تشوبه شائبة وهو في أمن حريز من طوارق الحدثان وعوامل الأيام.
والماسونية منتشرة انتشارا يحسدها عليه أعظم الأديان المولودة التي امتدت في أربعة أقطار المعمور؛ لأن تلك تفرق في العالم بين الشعوب فمن عابد صنم، وكافر وجاحد ومبدع ومخالف، بينما نرى الماسونية فاتحة ذراعيها لقبول أولادها داعية إياهم إخوة فيدخلون هيكلها حزانى ويخرجون فرحين، يدخلونه وهم جهلاء لا يفقهون من دنياهم وأحوالهم شيئا، ويخرجون وكلهم عالم فاهم، فهي الممهدة السبل الوعرة المروضة الأخلاق الآمرة بالخير الناهية عن الشر وهي التي أعتقت الإنسان من شوائب المكر والضلال وصيرته عالما نحريرا.
فالماسونية تصلح ما فسد من عقائد الأديان بتعليمها المحبة والتواثق على السراء والضراء؛ لأنها تنفر من الضلال والشرور حليمة رءوفة حتى مع مضطهديها. وغايتها محصورة في هذه التعاليم، وهي: إبطال الغايات والتحزب في الأديان والأشكال والحرف والمراكز والآراء والوطنية، وملاشاة الأحقاد فتبيد معها شرور الحروب، والوصول بواسطة السلم إلى غاية شريفة سامية، وهي أن تجعل العالم كله عائلة واحدة لا فرق بين أعضائها ولا انفصال، يربطهم رابط الشهامة وتجمعهم جامعة الإخاء.
ورأى العالم فضل هذه الجمعية وغايتها السامية فبدأ العقلاء ينتظمون في سلكها متقاطرين، ولكنهم لم يدركوا حتى الآن الغاية التي طالما جنحوا إليها والأمنية التي تعللوا بها، إذ لا يتم هذا الأمر إلا حين يدرك الجميع القصد من وجودها ويعلمون أن الماسونية عضد الأديان التي تأمر بالخير وتنهى عن الشر فيدخلون في عدادها وتصبح هي الجمعية الوحيدة السائدة على العالم، ويظهر إذ ذاك كوكب الحق ساطعا في سماء العلم والعمل.
Unknown page
نعم، إن وقتا يرى العالم نفسه فيه متخلصا من ربقة الأسر والاستعباد لوقت سعيد. ولكن لما كانت الماسونية مؤسسة على مباني الحق قائمة على دعائم الصدق بلا شائبة تشوبها فسيأتي ولا شك يوم يظهر للعالم هذا الأمر ويصبح الجميع وكلهم أبناء أم واحدة وأب واحد لا تفرق بينهم عوامل الحقد والضغينة ولا عوامل التشيع والتحزب، وما ذلك إلا لانتظامهم في الماسونية التي هي عقد الاجتماع ورابطة الأخوة.
الفصل الثالث
الماسونية في بريطانيا
في السنة الثالثة والأربعين بعد المسيح أرسل الإمبراطور كلوديوس قيصر عددا غفيرا من البنائين إلى بريطانيا العظمى ليقيموا الأسوار، ويحصنوا التحصينات اللازمة، ويجعلوا بريطانيا وهي من الولايات الرومانية حينئذ حصينة تدفع بقوتها هجمات أعدائها الاسكوتيين الشماليين.
وكانت تلك البلاد قبل مجيء هؤلاء العاملين النشيطين خاوية خالية لا مدينة فيها ولا قرى ولا سبب آخر من أسباب الحضارة الرومانية العظيمة، فجاءها البناءون العاملون ونشطوا عقال اجتهادهم وبدءوا بإنشاء المدن والقرى وإقامة الأسوار والحصون اللازمة، فأنشئوا في المدن التي أقاموها الحمامات الجميلة والهياكل العظيمة الجسيمة بما جعلها بعد مدة وجيزة من إنشائها تضاهي رومية نفسها.
وكان البناءون يجعلون كل مدينة أقاموها زاهية زاهرة فجعلوا يؤسسون المدن ويشيدون فيها الأبنية الأنيقة، وأول بلدة أنشئوها مدينة يورك التي كانت تدعى قديما أيبوكاريوم، وهي شهيرة جدا في تاريخ الماسونية، فتأنقوا في بنائها جدا وجعلوها حصينة للغاية فاكتسبت شهرة عظيمة في زمن قصير، وأصبحت على قرب عهدها تنازع رومية الرئاسة.
ورأى الأهلون ما كان عليه الرومان من الحذق والمهارة في البناء والهندسة فسروا لعملهم وحفظوا لهم امتنانا جزيلا، وزاد امتنانهم رغبتهم في تعلمهم تلك الصناعة التي كانوا مقصرين فيها فانتظموا في سلك البنائين.
وكان الأغنياء ينظرون إلى هذه الأعمال الفخيمة بعين الرضا فصاروا يبذلون وسعهم في إعلاء القصور الأنيقة وجعل مبانيهم شائقة وجعلوا يتباهون ويتنافسون في عظمتها، وكانت البلاد تزهو وتتقدم يوما بعد يوم بهمة البنائين الرومانيين.
وكانت البلاد البريطانية عرضة لغارات سكان الشمال وهم الاسكوتسيون، فاضطر الأهالي إلى بناء القلاع والحصون في جهات مختلفة، ولم يكن عدد البنائين يكفي لهذه الأعمال الجسيمة فصار البريتيون الذين انتظموا في سلكهم وتلقنوا أسرارهم وأحرزوا كل الامتيازات التي يحرزها كل ماسوني حر عرف إخلاصه للجمعية يساعدونهم كثيرا في أعمالهم.
فنشأ عن مخالطة هذين القومين بعضهما لبعض وارتباطهما بعهود المحبة الأخوية قوة عظيمة لطائفة البنائين، فكان علمهم وعملهم واحدا وأسرارهم واحدة وتعاليمهم مشتركة فسموا مجتمع الأخوة والرؤساء العاملين من الرئيس الأكبر حتى العامل الأصغر محفلا، وكانوا يقيمون احتفالاتهم الدينية ومآدبهم الرسمية في خيام مضروبة قرب المكان المنوي إنشاؤه.
Unknown page
فلهذه الأسباب ولشدة عرى المحبة الوثيقة بين الأخوة وعظم تألبهم لإدراك غايات طالما صبوا إليها وكثرة اجتهادهم ليجعلوا علم البناء والهندسة رفيعا فلا يناله المتطفلون؛ أحرزوا شهرة قصر عن إدراك شأوها غيرهم من البنائين في الممالك الرومانية، وكانت تضرب الأمثال بعظمتهم إلى الجيل الثالث فيقال: أنشط من بناء بريطاني.
وجاءت بعد ذلك الديانة المسيحية بسمو تعاليمها وامتدت في بريطانيا امتدادا سريعا، وهي التي خولت المحافل الماسونية ما لها من عجائب العظمة التي أحرزتها، خلافا لغيرها من الجمعيات السرية، وصارت تلك المباني الهائلة التي كان يفتخر بها الحكم الروماني ويرسل إليها الأسرى مغللين مكبلين بالقيود يذوقون فيها مر العذاب ملجأ أمينا للمضطهدين ومحلات غبطة للعموم، وذلك من فضل الحرية التي دعا إليها المسيح وتلامذته الممتلئون من الحكمة والذين هزتهم محبة هذه الديانة العظيمة الشأن، فكانوا يذهبون من الشرق إلى الغرب يكرزون الأمم ويبشرون الشعوب بالحياة الأبدية.
وكان الذين يدينون بها عرضة للاضطهادات الشديدة التي كان يثيرها عليهم عبدة الأوثان، ولكنهم مع ذلك سمحوا لهم أن يقيموا مع جماعة البنائين، ويذهبوا إلى أربعة أقطار العالم الروماني ليشيدوا مبانيه ويجددوا حصونه.
ولحسن حظ مسيحيي بريطانيا كان حكام تلك الأقاليم أقل شراسة من غيرهم؛ فكان الاضطهاد على أولئك المنكوبين المنكودي الحظ الذين لا ذنب لهم سوى أنهم عرفوا الحق فاتبعوه أخف درجة في بريطانيا مما هو في غيرها من الممالك.
وصار الشعب يتألب معهم ويشاركهم في تعاستهم أسوة بالحكام والأشراف الذين لم يجردوا على المسيحيين سيوف رجزهم وغضبهم، ويرثي لهم في تلك الرزايا والنكبات.
فصار المضطهدون في الممالك الأخرى يهاجرون إلى بريطانيا لما رأوا فيها من رغد العيش بالنسبة إلى غيرها من البلدان وصارت منازل الأشراف وخصوصا المحافل الماسونية حرزا لهم حريزا.
ولما كان الحكام يستبدلون بآخرين ويرى هؤلاء أن لا مناص لهم من تنفيذ الأوامر الملكية القاضية عليهم باضطهاد المسيحيين اضطهادا شديدا أو يغيرون ديانتهم ويشركون بعبادتهم الأوثان، ويقربون لها الضحايا؛ كان النشيطون منهم على عمل الخير يحذرونهم بقرب الخطر ليكونوا من أمرهم على بينة فلا يتظاهروا بما هم عليه، بل يجهدون أنفسهم ليجدوا وسائط فعالة لصيانة قوم مظلومين.
وكان بعضهم يسافر إلى أيرلندا أو إلى اسكوتسيا ريثما يهدأ ثائر الاضطهاد الشديد وقد ذاق المسيحيون في اسكوتسيا حلاوة العيش وعرفوا غبطة الحياة فأرادوا مكافأتهم على إحسانهم الجميل وما أتوه نحوهم من الشفقة والحنان فأدخلوا معهم إلى تلك البلاد النصرانية علم البناء.
ومن ذلك العهد يبدأ تاريخ البناء في اسكوتسيا الذي أنشأه المسيحيون لعظماء تلك البلاد، فإن أبنيتها مشيدة على نمط البنائين الرومانيين القائمة على مر الزمان لا تؤثر فيها أيدي الأيام تدلنا صريحا على ما لمنشئها من الذكاء والمهارة الفائقة.
وفي سنة 287 خرج كاروزيوس عن طاعة مولاه وعصي على الأحكام الرومانية داعيا نفسه إمبراطورا، ولكنه خشي نكبات الزمان، وأن يحشد القيصر «مكسيمليانوس» شريك الإمبراطور «ديوكليتيانوس» جيشا جرارا فيبيده ومملكته الجديدة، فأراد أن يتخذ لنفسه حصنا حصينا من الرجال الذين اشتهرت شجاعتهم وعرف إقدامهم يقي به نفسه وبلاده من الهلاك فلجأ إلى جماعة البنائين الذين كان عددهم غفيرا، وكانوا ذوي سطوة لا تنازع.
Unknown page
وكان البناءون مؤلفين من يونان ورومان ومعظمهم من الأهالي الذين عرفوا فضل هذه الجمعية وما لها من الأيادي البيضاء فهرعوا إليها متداعين، فأصدر أمرا في عاصمته سانت ألبان التي كانت تدعى قديما فيرولام إلى أحد قواده المدعو «ألبانوس» خول الماسون فيه كل الحقوق والامتيازات التي كانوا قد أحرزوها في عهد «نوما بومبيليوس»، وزاد على ذلك أن منحهم لقب أحرار، فصاروا منذ ذلك العهد يدعون فري ماسون
Free masons ؛ أي البنائين الأحرار ليمتازوا عن الآخرين الذين لا علاقة لهم ولا ارتباط بهذه الجمعية الشريفة.
ولما رأى «كاروزيوس» نفسه مستقلا والسعد خادمه، وأنه لم يبق عليه خوف ولا خطر على سلطنته من الحكام الرومانيين فتح خزائن الأموال وبذل النفس والنفيس ليجعل بلاده عظيمة ورعاياه سعداء فشيد المباني، وأقام المعالم وحصن القلاع ومهد البلاد حتى جعلها في مدة وجيزة تضاهي أعظم الممالك إن لم نقل أنها تفوقها، ولكن أعوان كاروزيوس قاموا عليه وقتلوه عندما اقترب الأسطول الروماني إلى بريطانيا يقل قسطنطين كلوديوس الذي انتخبه الإمبراطور «مكسيمليانوس» نائبا عنه في غاليا وبريطانيا، وذلك سنة 295 بعد المسيح، فاتخذ مدينة أيبوكاريوم - وهي الآن يورك - مقرا لحكمه، وكانت هذه المدينة أشهر المدن البريطانية في حسن بنائها وزخارفها وكثرة محافلها القديمة والحديثة، فأصبحت هذه المدينة مهدا للمحافل الماسونية منذ ذلك العهد.
وبعد وفاة «كلوديوس» سنة 306ب.م في مدينة يورك خلفه ابنه قسطنطين بأمر قيصري وأبطل الاضطهادات التي كان يثيرها الأباطرة ظلما على المسيحيين، وأعلن نفسه حامي ذمارهم واعتنق ديانتهم، وأمر بأن تكون الديانة العامة في بلاده.
وزادت قوات المحافل والجمعيات منعة وامتدت النصرانية في عهد قسطنطين هذا فأنشئت الكنائس بهمة لا مزيد عليها، وكان الإخوة البناءون يشتغلون ليل نهار بهمة لا تعرف الملل ولا يعروها الكلل. وقطن قسطنطين يورك في أول حكمه أسوة بأبيه فتعرف فيها برؤساء المحافل ونخبة أعضائها، ولما جاء الشرق سافر معه كثيرون منهم إليه.
وكانت هجمات البرابرة على الأملاك الرومانية تزداد يوما بعد يوم فلم يعودوا يكتفون بما كانوا يأتونه من المظالم يوم كانوا ينهبون البلاد ويعيثون فيها فسادا ثم يخلونها وشأنها في بؤس وشقاء، بل صاروا إذا افتتحوا بلدة يأتون فيها أنواع المنكرات ويحتلونها غير مبالين بالعواقب؛ إذ لا شريعة تردعهم ولا مانع يمنعهم عن مثل هذه الفظائع. وهكذا أخذت بريطانيا تنسلخ عن حكم القياصرة يوما فيوما.
وكان الرومانيون يحاربون قبائل اسكوتسيا المتوحشة من ابتداء الجيل الثالث حربا يشيب لهولها الولدان، ولكنهم لما رأوا بلاءهم وشيكا، وأن الخطر يتهددهم من كل الجهات عزموا على غزو الغوطيين في بلادهم نفسها، فكان يلزمهم لذلك قوات عظيمة؛ لأن جيشهم كان منقسما فرقا في كل الممالك، فعزموا على ترك بريطانيا وشأنها وبدءوا يسترجعون عسكرهم منها شيئا فشيئا حتى تخلوا عنها تماما سنة 446 مسيحية. فدعا البريتيون مجاوريهم من القبائل لنصرتهم وتزلفوا إلى الساكسون والإنكلوس، فسارع هؤلاء إلى نجدتهم وشنوا الغارة على أهالي اسكوتسيا فانتصروا عليهم تمام الانتصار. ولكن انتصارهم كان وبالا عليهم، وكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ لأن هؤلاء الأنصار لم يسارعوا إلى تلبيتهم إلا ليقضوا لباناتهم من بلاد طالما صبوا إليها فاحتلوا بريطانيا وصاروا سبعة ممالك دعيت أنكلوساكسون.
وكان هؤلاء البرابرة بما يأتونه من المظالم وأنواع العداء سببا لشقاء تام حل على الأهالي المنكوبين؛ فدمروا البلاد وخربوا المباني الكبيرة والحصون، فعادت البلاد البريطانية تذبل كزهرة قصمت يانعة، وصارت تسير القهقرى دون أمل بالترقي والنجاح.
وعندما رأى المسيحيون وسائر أهاليها المتمدنين هذه الأعمال الوحشية، وعرفوا أن بقاءهم في البلاد شر ووبال عليهم أخذوا يهاجرون زرافات إلى بلاد الغال التي لم يفتتحها الساكسون. وهناك ثابروا على عبادتهم وأعمالهم في البناء كما تعلموه من أسلافهم وبدأت ريح الاضطهاد والشرور تهدأ رويدا رويدا وحلت خيرات الزراعة والفلاحة محل شرور الحروب، ورأى ذلك بعض المهاجرين فآبوا إلى بلادهم وشرعوا يبثون في الشعب روح التعاليم المسيحية، فتنصر من هؤلاء جم غفير وزاد نشاطهم وإقدامهم لما رأوا من تداعي الطالبين للانتظام في سلك جمعياتهم الشريفة فشمروا عن ساعد الجد والاجتهاد وجعلوا يكرزون الأهالي ويبشرونهم بالديانة المسيحية فتكلل عملهم بنجاح مجيد، ولكنهم أحبطوا سعيا عندما حسبوا ذواتهم قادرين على استجلاب الأشراف والملوك إلى كنف الكنيسة لا عامة الشعب فقط.
وفي أواخر القرن السادس أرسل البابا «غريغوريوس» الأول رجالا عرفوا بالفضل واشتهروا بالنبل وبحسن صفاتهم الأدبية والمادية (وهم رهبان ماري مبارك)؛ ليبشروا القبائل الساكسونية، ويدعونهم إلى الاهتداء، وكان يرأس هؤلاء الرهبان أوستينوس الشهير بصناعة الحفر. ولم يطل زمن بعثتهم حتى قرن عملهم بنجاح عجيب وتنصر ملوك الساكسونيين السبعة مع شعوبهم ورعاياهم العديدة. ولكنهم حاولوا إقناع هؤلاء المتنصرين جديدا بسلطة الحبر الروماني وبعصمته عن الزلل فأحبطوا سعيا ولم يلقوا آذانا صاغية، ولبث هؤلاء على اعتقادهم الأول من حيث السلطة الباباوية.
Unknown page