{ و } لنجابة طينته ألقينا في قلبه { برا } وإحسانا { بوالديه ولم يكن } في جميع أوقاته وحالاته { جبارا } عاقا لهما مستكبرا عن أمرهما { عصيا } [مريم: 14] تاركا حكمهما وأمرهما.
{ و } لسلامته عن جميع الآثام وطهارته عن جميع الخبائث والمعاصي { سلام عليه } أي: تحية وتكريم وحفظ وتسليم نازل عليه على الدوام { يوم ولد } نحفظه من الشيطان { ويوم يموت } نحفظه من زوال الإيمان { ويوم يبعث حيا } [مريم: 15] نصونه عن الخيبة والخسران ولحوق الحسرة والخذلان.
{ واذكر } يا أكمل الرسل { في الكتاب } أي: القرآن المنزل إليك سيد النساء { مريم } أي: قصتها، وحالتها العجيبة الشأن التي هي أغرب وأعجب من قصة زكريا، واذكر وقت { إذ انتبذت } أي: اعتزلت وتباعدت { من أهلها } حين حاضت وطهرت وأرادت الاغتسال على مقتضى طهارتها الفطرية ونجابتها الجبلية، فاختارت للخلوة والتستر { مكانا شرقيا } [مريم: 16] أي: في مشرق بيت المقدس، ومع كونه مكانا بعيدا خاليا عن الناس.
{ فاتخذت } وسدلت لكمال الاحتياط والانحفاظ { من دونهم حجابا } يسترها، ويحفظها عن أعين الناس إن وصلوا بغتة، لم لم تجردت عن لباسها واشتغلت؛ لأن تغتسل { فأرسلنآ إليهآ روحنا } أي: حامل روحنا وهو جبرائيل عليه السلام إظهارا لقدرتنا وحكمتنا، وإنفاذا لحكمنا الذي حكمنا به في سابق علمنا { فتمثل لها } جبرائيل عليه السلام { بشرا سويا } [مريم: 17] صحيحا صبيحا أمرد قططا مجعد الشعر لئلا تستوحض، ومع ذلك استوحشت وارتهبت رهبة شديدة، ومن غاية خوفها منه واضطرابها { قالت إني أعوذ } وألوذ { بالرحمن } الذي كفى لحفظ عباده عن مطلق الشذوذ سيما { منك } أي: من شرك ومن شر أمثالك فامتنع أنت بنفسك عني { إن كنت تقيا } [مريم: 18] خائفا عن الله، حذرا عن بطشه وانتقامه.
ثم لما رأى جبريل عليه لسلام من كمال عفتها وعصمتها ما رأى: { قال } مستحييا معتذار: { إنمآ أنا رسول ربك } أرسلني إليك { لأهب لك } بإذن الله إياي وأمره { غلاما زكيا } [مريم: 19] طاهرا عن جميع الرذائل والآثام، مترقيا في فنوف الفضائل والكمالات إلى أقصى النهايات، مظهرا لأنواع المعجزات والكمالات والكرامات، وأصناف الإرهاصات الخارقة للعادات.
ثم لما سمعت عليها لسلام مقالته، وتفطنت بنور الولاية أنه من قبل الله { قالت } مستعجبة مشتكية مستحية: { أنى } أي: من أين { لم يمسسني بشر } لم يجر علي أسبابه؛ إذ { يكون لي غلام و } بالنكاح مساس مواقعة موجبة للجمل والحبل { ولم أك } في مدة حياتي عاصية لله فاسقة خارجة عن مقتضى حدوده لأكون { بغيا } [مريم: 20] فاحشة زانية يلد مني ولد الزنا.
{ قال } جبرائيل عليه السلام: { كذلك } جرى حكم ربك، وأمضى عليه في سابق قضائه لا تستبعدي ولا تستعسري؛ إذ { قال ربك } الذي رباك على العصمة والعفاف { هو } أي: هبة الولد لك بلا مساس البشر، وسبق الأسباب العادية { علي هين } سهل يسير؛ إذ لا يعسر علينا شيء، ولا يعجز عن قدرتنا مقدور، بل إذا أردناه نقول له: كن فيكون بلا سبق سبب وعلة، { و } إنما نظهره ونوجده { لنجعله آية للناس } دالة على كمال قدرتنا وبدائع صنعنا وحكمتنا { ورحمة } نازلة { منا } على عبادتنا سيما عليك يا مريم { وكان } خلق عيسى ظهوره بلا أب في العالم، وعروجه إلى السماء { أمرا مقضيا } [مريم: 21] كائنا مثبتا في لوح قضائنا وحضرة علمنا.
ثم لما سمعت ما سمعت نفخ جبرائيل عليه السلام في درعها، فوصل أثرها إلى جوفها فحبلت: { فحملته } أي: صارت حاملة بعيسى فجأة وكبر في بطنها في الساعة، وبعدما ظهر عليها من أمارات الطلق ما ظهر { فانتبذت } واعتزلت وتباعدت منفردة { به مكانا قصيا } [مريم: 22] بعيدا عن العمران استحياء من أهلها ، ومن لوم الناس إياها وتعييرهم عليها بولادتها بلا زوج.
{ فأجآءها المخاض } وظهر أمارة الولادة، فألجأها التشبث { إلى جذع النخلة } اليابسة؛ لتعتمد عليها عند الولادة، وتستر بها عن الناس { قالت } حينئذ من شدة حزنها وكآبتها، ووفور ضجرتها من ألم الملامة والفضاحة متيمنة موتها: { يليتني مت } وعدمت { قبل هذا } اللوم والفضيحة { وكنت نسيا منسيا } [مريم: 23] متروكا معدوما لا التفات لأحد إلي أصلا.
ثم لما وضعت حملها واشتد الألم عليها { فناداها } أي: نادى الوليد أمه { من تحتهآ } بإلهام الله إياه وتنشيطا: { ألا تحزني } يا أمي، ولا يشتد عليك الأ/ر بواسطة ولادتي وظهوري بلا أب، واعلمي { قد جعل ربك تحتك } ولدا { سريا } [مريم: 24] سيدا مطيعا نقيا سجيا سخيا ذا إرهاصات وكرامات، من جملتها: إنه ظهر لك من تحت رجلك نهرا جاريا لدفع عطشك وتطهير الفضلات عن بدنك وثيابك.
Unknown page