376

{ و } لدفع جوعك { هزى إليك } أي: حركي إلى نفسك حين أخذت { بجذع النخلة } التي في جنبك { تساقط } أي: تتساقط منها ثمارها { عليك رطبا جنيا } [مريم: 25] بالغا في النضج غايته، وحان وقت اجتنابه.

قيل: كانت النخلة يابسة لا رأس لها، والوقت وقت الشتاء، فتغصنت في تلك الحالة، وأثمرت ونضجت ثمارها كرامة لعيسى وإرهاصا لأمه صلوات الرحمن عليهما.

[19.26-38]

{ فكلي } يا أمي من النخلة { واشربي } من النهر { وقري عينا } أي: نوري عينك بولدك وطيبي نفسك به { فإما ترين } أي: إن رأتي { من البشر أحدا } يسألك عن حالك وولدك { فقولي } في جوابه؛ يعني: أشيري إليه: { إني نذرت للرحمن صوما } أي: صمتا عن التكلم { فلن أكلم اليوم إنسيا } [مريم: 26] أي: إنسانا.

والحكمة في إلهام ولادتها وشاع بين الأنام قصتها، فمكثت مدة نفاسها في غار هناك وبعدما انقضت: { فأتت به } أي: بولدها { قومها تحمله } أي: ولدها على صدرها، فلما رأوه معها، أخذوا في لومها وتقريعها؛ حيث { قالوا } معيرين منادين بها على سبيل التوبيخ واللوم: { يمريم } الصالحة العفيفة المشهورة بالعصمة في بيت المقدس { لقد جئت } بالآخر { شيئا فريا } [مريم: 27] منكرا بديعا في غاية الشناعة والفضاحة.

{ يأخت هارون } هو رجل صالح نسبوها إليه تهكما، وقيل: هي من أولاد هارون أخي موسى، نسبوها إليه وإن تطاولت المدة بينهما { ما كان أبوك امرأ سوء } منسوب إلى الفواحش والزنا والخروج عن حدود الله { وما كانت أمك بغيا } [مريم: 28] زانية فاجرة بل هما من أصلح القوم وأزكاهما عن الفواحش والفسوق، فكيف أنت ومن أين اكتسبت هذا؟!.

وبعدما تمادى تعييرهم وتشنيعهم { فأشارت إليه } أي: إلى ولدها، بأن قل لهم في جوابهم ما يفحمون به ويسكتون، بل يتيهون ويتحيرون، ولما رأوا إشاراتها إليه وتفويضها الجواب نحوه { قالوا } على سبيل الاستهزاء: { كيف نكلم من كان في المهد صبيا } [مريم: 29] رضيعا ولم يعهد من مثله التكلم، أنت قد خجلت واستحييت تدفعيننا بهذا الرضيع، مع أنه معصوم لا ذنب له.

ولما رأى عيسى اشتداد اللائمين على أمه بالتقرح والتشنيع، واضطرار أمه واضطرابها من لومهم، أخذ في الجواب بإلهام الله إياه؛ حيث { قال } مفصحا معربا على وجه الفصاحة والبلاغة، ومشتملا على الحكمة البالغة: لا تعيروا أيها الجاهلون عن أمري وعلو شأني في أمي الكاملة المتناهية في العصمة والعفة، ولا ترموها بما لا يليق بعلو شأنها وجلالة قدرها { إني عبد الله } الحكيم المتقن في أفعاله، المستقل في حكمه وآثاره، خصني بالنبوة الرسالة، بأنواع الكرامات والمعجزات، وأبدعني من محض جوده من روحه، وأرسلني إلى عباده للهداية والإرشاد إلى توحيده؛ لذلك { آتاني الكتاب } أي: الإنجيل النازل من عنده علي؛ لترويج رسالتي وإرشادي وتتميم تكميلي { وجعلني نبيا } [مريم: 30] كسائر الأنبياء، { وجعلني مباركا } نفاعا كثير الخير والبركة لأهل الصلاح من البرية { أين ما كنت } وحيثما توطنت وجلست معهم يصل خيري إليهم.

{ و } من كمال تربية الله وتزكيته إياي { أوصاني } وأمرني { بالصلاة } والميل التام والتوجه نحوه بالجوارح والأركان { والزكاة } أي: التخلية والتطهير عن جميع الرذائل والخبائث المتعلقة بالنفوس البشرية، المنغمسة بالعلائق الدنيوية، المبعدة عن صفاء الوحدة الذاتية { ما دمت حيا } [مريم: 31] بروح الله الذي أبدعني منه خالصا صافيا عن جميع الكدورات، وأوصاني بما أوصاني من عناية منه لأكون باقيا على صفائي، وطهارة لاهوتي بلا كدر من خبائث الناسوت.

{ و } جعلني أيضا { برا } أي: بارا محسنا { بولدتي } ممتثلا بأمرها، قائما بخدمتها، خافضا جناح الذل من الرحمة إياها، والحمد لولي الحمد الذي رباني سيعدا على الطهارة الصلاح وأنواع الكرامة والفلاح والتذلل والتواضع مع عموم عباده { ولم يجعلني جبارا } متكبرا متجبيرا على الناس { شقيا } [مريم: 32] بعيدا عن روح الله مستجليا لعذابه.

Unknown page