ثم لما اشتكى عنده سبحانه بما اشتكى، ودعا ما دعا أجاب سبحانه دعاءه، وأسرع إجابته مناديا له على سبيل الترحم والتفضل: { يزكريآ } المتضرع المناجي إلينا، المستدعي منا خلفا يخلفك ويحيي اسمك { إنا } من مقام عظيم جودنا { نبشرك بغلام } يولد منك ومن زوجتك العقيمة العاقرة { اسمه يحيى } ليحيي مراسم دينك وشرعك وحبورتك مع أنه { لم نجعل } ولم نخلق { له من قبل سميا } [مريم: 7] بهذا الاسم.
بهل هو أول من سمي به.
سمع زكريا البشارة من قبل الحق، { قال } على سبيل الفرح وبسط الكلام معه سبحانه، وإن كان جميع أحواله حاصلا عنده سبحانه على التفصيل حاصلا حاضرا لديه مستبعدا مستغربا: { رب أنى يكون لي غلام } في سني هذا وضعفي ونحولي { و } قد { كانت امرأتي عاقرا } جبليا { وقد بلغت من الكبر } والكهولة والهرم { عتيا } [مريم: 8] يبسا؛ بحيث لا يبقى على رطوبة في مفاصلي وأركان بدني وقوائم جسمي؟!.
{ قال } سبحانه: يا زكريا لا تستبعد من قدرتنا أمثال هذا بل { كذلك } أي: مثل ذلك قدرنا لك أبنا بأن تكون باقيا على كبرك وهرمك، وزوجتك أيضا على هرمها وعقرها، نخرج ونوجد منكما الولد إظهارا لقدرتنا الكاملة وأمثال هذا وإن كان عسر عادة، علينا يسير وفي جانب قدرتنا سهل يا زكريا.
كذلك { قال ربك } اسمع قوله: { هو علي هين } أي: إخراج الولد منك ومن زوجتك علي سهل يسير وفي جنب حولي وقوتي حقير { و } كيف لا يكون سهلا إني { قد خلقتك } وقدرت وجودك فيما مضى من العدم { من قبل ولم تك شيئا } [مريم: 9] ولا مسبوقا بشيء، بل أوجدتك إيجادا إبداعيا، وأظهرتك من كتم العدم إظهارا إختراعيا بلا سبق مادة ومدة وسبب وعادة، وهذا هين بالنسبة إلى ذاك.
ثم لما تفطن زكريا بإنجاح مطلوبه، أخذ يطلب العلامة والأمارة لحمل امرأته؛ حيث: { قال رب اجعل لي } بفضلك { آية } علامة دالة على حمل امرأتي { قال } سبحانه { آيتك ألا تكلم الناس } أي: لا تقدر على المقاولة والمكالمة { ثلاث ليال } مع نهارها لا عن عروض عارضة ولحوق مرض وخرس بل كنت { سويا } [مريم: 10] صحيحا سالما عن جميع الأسقام، غير أن اشتغالك بالحق شعلك عن الخلق؛ بحيث لا تطيق التكلم معهم في المدة المذكورة إلا رمزا وإشارة إيماء.
ثم لما دنا وقت الحمل ولاحت أماراته { فخرج } صبيحة { على قومه من المحراب } أي: الحجرة التي هو فيها في خلوته للصلاة على عادته المستمرة، وكان من عادته أن يأمرهم في كل صبيحة خرج عليهم بالصلاة والدعاء والخشوع والتوجه { فأوحى } أي: أومأ وأشار { إليهم } بلا قدرة على النطق والتكلم { أن سبحوا } ربكم ونزهوه عما لا يليق بجنابه { بكرة وعشيا } [مريم: 11] أي: في الصبيحة التي أنتم فيها والبكرة التي ستجيء إلى العشية الآتية وإلى الصبحة بعده، أوصاهم كل يوم بذلك على الدوام، وفي تلك المدة ما قدر على التكلم لذلك أشار وأومأ.
[19.12-25]
ثم لما أومأ سوينا خلقة يحيى، وأخرجناه من بطن أمه صحيحا سويا، قلنا له تربية وتكريما: { ييحيى } الموهوب من لدنا المؤيد من عندنا { خذ الكتاب } أي: التوراة واشرع في ضبطها وحفظها { بقوة } أي: بنية خالصة وعزيمة صحيحة { و } إنما أمرناه بحفظها وضبطها؛ إذ { آتيناه الحكم } يعني: الحكمة المندرجة فيها، وأعطينا فهمها واستنباط الأحكام منها حال كونه { صبيا } [مريم: 12] لم يبلغ الحلم.
{ و } إنما آتيناه وأعطيناه في حال صغره فهم التوراة { حنانا } ترحما وتعطفا ناشئا { من لدنا } تكريما له ولأبيه { و } لهذا أيضا أعطيناه { زكاة } طهارة عن الخبائث والآثام كلها { و } لذلك { كان } مدة حياته من أوان صباه إلى موته { تقيا } [مريم: 13] حذرا عن المناهي والمنكرات، خائفا عن المعاصي والمحظورات.
Unknown page