182

والمنطق نعم العون في إدراك العلوم كلها. فلذلك حق للفاضل المتأخر أن يفرط في مدح المنطق. وقد بلغ به هذا الإفراط إلى أن قال: إن المنطق ليس محله من العلوم الأخرى محل الخادم؛ بل محل الرئيس لأنه معيار ومكيال. ولكني أقول: ليس كون العلم معينا على سبيل أنه معيار يرفعه، أو كونه معينا على سبيل أنه مادة يضعه؛ بل ما كان مقصودا بنفسه في كل شيء أشرف وأعلى من المقصود لغيره. فلا يحق أن يحاول إثبات رياسة المنطق على العلوم الأخرى. لكن بنا حاجة إلى أن نجيب من يسأل فيقول: إن المنطق إن كان محتاجا إليه في المباحث الفكرية، فيجب أن يكون محتاجا إليه في تعلم صناعة المنطق نفسه، وأن يكون هذا الكتاب الذي في القياس محتاجا إلى معرفته ليعلم به ما سلف قبله. ثم ما بال قوم هم يبرهنون ولا قانون عندهم، كأرشميدس الذي يبرهن على التعاليم ولم يكن في زمانه المنطق محصلا؛ بل ههنا آخرون جدليون، وآخرون خطباء، وآخرون شعراء، وما شئت من السوفسطائيون. فنقول أولا: إن التعليم على وجهين: تعليم هو إفادة العلم بما هو من شأنه أن يجهل، كمن يعلم أن الزوايا الثلاث من المثلث مساوية لقائمتين. وتعليم هو تذكير وإعداد. أما التذكير فأن يجعل الأمر الذي لا يجهل إذا أخطر بالبال مخطرا بالبال. فإن الذي ليس خاطرا بالبال هو مجهول من حيث هو ليس علما بالفعل التام؛ بل هو علم بالقوة القريبة من الفعل، وأقرب من قوة الذي إذا أخطر بالبال أمكن أن يتشكل فيه. فهذا هو التذكير. وأما الإعداد فأن لم يخطر معه بالبال أمور تجري مجراه، يكون كل واحد منها إذا علم لم يفد إلا العلم به نفسه؛ وإذا أخطر بالبال في مجاورة الآخر يوقع منهما أن يفيدا علما لم يكن. فيكون لا بد من أعداد تلك الكثرة لما يراد من التعليم المتوقع بإيقاع المجاورة. فليس كون الشيء بالبال وحده هو كونه مخطرا بالبال مع غيره. فضرب من التعليم هو هذا. وضرب من التعليم هو ما قلناه قبل. وذلك أيضا قسمين: فمنه قسم متصل متسق يبعد أن يقع في نمطه غلط، ومنه قسم ليس كذلك. ومثال الأول ما نتعلمه في علوم الحساب والهندسة. وعلامته قلة وقوع الاختلاف فيه. ومثال الثاني ما نتعلمه في علوم الطبيعيين، وعلامته كثرة وقوع الاختلاف فيه .

ثم إن الأمور التي تعلم في علم المنطق منها ما تعليمه على سبيل التذكير والإعداد، ومنها ما هو على سبيل الوضع، ومنها ما هو على سبيل النتاج والاحتجاج. ولذلك يحب أن يكون ظنك بأكثر ما في قاطيغورياس أنه إما وضع وإما تذكير وإعداد على أنه ليس علما منطقيا في الحقيقة، وما باري إرمينياس أكثره تذكير وإعداد، وبعضه احتجاج واستدلال. وما بعد ذلك مخلط من تذكير ومن تعليم أمور لا يقع فيها اختلاف إذا فهمت على وجهها لأنها من القسم المتسق. والمنطق، فإن أكثر الحاجة إليه فيما كان من التعليم على وجه القسم الآخر. فلذلك لا حاجة إلى جميع المنطق في جميع المنطق؛ بل الجزء الذي على سبيل التذكير والإعداد يحتاج إليه في الجزء الذي على سبيل الكسب، حتى يكون الجزء الذي على سبيل التذكير والإعداد يعتبر به الجزء الذي على سبيل الاحتجاج والكسب. ويكون الجزء الذي سبيل الاحتجاج مما يقل وقوع الاختلاف فيه عند الحقيقة. والذي يتوهم من وقوع الاختلاف فيه فإنما هو بسبب الألفاظ، ووقوع الاختلاف في معانيها، وذهاب كل فرقة إلى غرض آخر، لو اجتمعوا على الغرض الواحد لما تنازعوا في أكثر الأمر. وهو كلام غير منطقي دخيل في المنطق .

ومع ذلك فلا ننكر أن يبرهن غير المنطقي، وأن يجادل غير المنطقي، وأن يخطب غير المنطقي. فإن المنطقي أيضا إذا تعلم هذه الصنائع لم تنفعه نفس معرفته بهذه القوانين كثير نفع ما لم يحدث له ارتياض وتمرن يصير له استعمال هذه ملكة، كما أن النحوي إذا تعلم النحو لم ينفعه العلم بالنحو في أن يستعمل النحو استعمالا بالغا إلا بعد التمرن واكتساب الملكة. وقد تحصل ملكة في النحو من غير معرفة القوانين، وفي الجدل، وفي غير ذلك، إلا أنها تكون ناقصة. ولذلك يجوز أن تزول وتفسد كما زالت الملكة النحوية عن العرب. لأنهم كانوا معولين على الملكة. فلو كانت لهم مع الملكة قوانين تصدر أفعال الملكة عن الملكة وعناه، كانت معيرات، ما كان يقع ما وقع. فليس سواء من له ملكة وعلم بجميع قوانين تلك الملكة ممثلة لعقله منزوعة عن المواد يرجع إليها فيما يفعل، والذي له ملكة ساذجة لا تدعمها معرفة بالقوانين؛ بل الأولى أن تكون الصناعة محصلة ثم تكتسب الملكة على قوانينها. فإذن لا غنية عن المنطق لمن أراد أن يستظهر، ولا يعول على ملكة غير صناعية.

الفصل الثالث (ج) فصل في المقدمات وأجزائها وفي المقول على الكل بالإيجاب والسلب

Page 208