181

وأما كونه آلة فلآنه يعين. وليس كل معونة، فإن المعرفة قد تعين في معرفة أخرى على أن تكون مادة، وتعين على أن تكون مكيالا، وميزانا، ولا تكون مادة البتة، وإن كان المعيار قد يمكن أن يجعل بوجه من الوجوه جزءا أو مادة. فانا إذا قلنا مثلا: كل متحرك جسم، والنفس ليست بجسم، واقتصرنا على ذلك، وانتجنا: فالنفس ليست بمتحركة؛ لم يكن ههنا مادة منطقية البتة، ولم يكن المنطق بوجه من الوجوه معينا في هذا من حيث أنه مادة، بل من حيث هو مكيال يعرفنا أن هذا التأليف منتج. وكذلك إن كان بدل هذا حد من الحدود، أو رسم من الرسوم، فكان المنطق ينفع في أن يكال به هذه ويوزن، ولا ينفع في أنه جزء منه البتة. فإن تكلفت وقلت: لكن هذا شكل منتج، ينتج سلب المتحرك عن النفس، حتى حاولت أن تتم به الكلام، صارت المقدمة المنطقية جزءا من جملة القول. لكن غرضنا في الاعتراف بأن المنطق جزء، كما هو أيضا آلة، ليس على أن يصير جزء مادة على هذه الصفة، أعني الوجه الذي يدخل فيه على أن هذا متزن بالمنطق مكيل به. فإنا إذا علمنا المنطق، لم يحوج في كل قياس نعمله أن نصرح بالفعل بأنه متزن مطلق، حتى يكون ذلك مصرحا به، وجزءا من القول المنتج، بل إذا جاء تأليف نعلم في أنفسنا أنه منتج، أو حد نعلم في أنفسنا أنه حد انتجنا واقتصرنا عليه. كما أن النحوي إذا قال: ضرب زيد، اقتصر على هذا اللفظ في غرضه، ولم يحسن أن يقول: وزيد مرفوع بأنه فاعل؛ بل يعلم هذا ويستغني عن ذكره عند استعمال ما علم هذا لأجله . فالمنطق ليس معينا في العلوم على أن يؤخذ مادة فيها من حيث مطالبها مطالب غير منطقية. نعم أن كثيرا من الأصول التي في الجدل، أو في الخطابة، وفي الشعر، تؤخذ مقدمات، وقياسات لكن مطالبها تكون منطقية، مثل أنه، هل هذا الشيء أفضل أو غيره، وهل هذا ظلم أو ليس بظلم، وما أشبه ذلك. فإن هذه المطالب منطقية تجعل مقدمات ما منطقية مواد في إثباتها، وليس كلامنا في أمثال هذه المطالب.

وربما أدخل المنطق أيضا كالجزء في بعض المواضع إذا لم يوثق بذكر المتعلم ما علمه من ذلك المعيار في المنطق، فيكون ذلك على سبيل التذكير. كما أن النحوي أو اللغوي إذا استعمل غريبا من الإعراب أو اللغة في كلامه لداع ما فخشي أن لا ينتبه له السامع لم يقبح أن يشير إلى وجهه، فتصير إشارته إلى وجهه استعمالا لمقدمة نحوية أو لغوية. وربما كانت مطالب مشتركة أيضا بين المنطق وبين صناعة أخرى، وأكثر ذلك مع الفلسفة الأولى، فيكون بيانها المحقق في الفلسفة الأولى، وبيانها بوجه آخر، أو على سبيل الوضع، في المنطق، فتستعمل مواد في قياسات علمية. فإن التفت إليها من حيث تعلمت في المنطق، كان على سبيل التذكير، وكان إيرادها على سبيل إيراد ما هو مستغنى عنه. وإن التفت إليها من جهة أنفسها، كانت أوصولا موضوعة إذا استعلمت في علوم. ومثال هذا ما قيل: لما كان العلم الطبيعي علما بأمور ذوات مبادئ، وكلن العلم بذوات المبادئ إنما يستفاد من العلم بالمبادئ، فيجب أن ينظر أولا في المبادئ. فإن المقدمة الكبرى مما يعلم في الفن المشتمل على تعليم البرهان، وأيضا فإنما تتحقق بالحقيقة في صناعة الفلسفة الأولى، فإن أوردت على أنها وضع وخطاب متلامع من لن يسمع بالمنطق ولم يعلمه، كانت هذه مقدمة وضعية، يتقلدها الطبيعي من صاحب الفلسفة الأولى، ويضعها وضعا في علمه، كما هو الحال في أكثر مبادئ العلوم، وإن كان ذكرها وإيرادها على أنها شيء مفروغ منه في المنطق، معتقد فيه الحقيقة، فلا موقع له إلا موقع الذي من حقه أن لا يذكر ولا يورد، كما لا يذكر حال القياس أنه ناتج، الفاعل أن رفع؛ إذ كان إنما يعلم، ليستعمل في العلوم مكيالا ومعيارا، لا داخلا في الكيل والمعيار؛ بل إنما أورد أمثال ذلك تذكيرا لما يغلب عليه الظن بأنه ليس من المباحث المنطقية التي تثبت في الذهن لائحا كل وقت. وحق هذا أن يعلم ويعتبر وجوده فيما يتعلم من غير تصريح به، فإنه صرح به على سبيل تذكير .

وأما ما ظنه فاضل المتأخرين من أن المقدمات المستعملة في مناقضة مالسيس وبرمانيدس هي منطقية؛ إذ ذكر فيها الكم والتناهي، وأن التناهي للكم بذاته أو لغيره أولا وما أشبه ذلك، فقد زل. فإن النظر في الكم وما يلحق الكم ليس نظر منطقي. وقد فرغنا من هذا في بياننا لقاطيغورياس. فالمنطق معين على سبيل أنه ميزان، لا على سبيل أنه داخل في الوزن. وإنما هو منطق لأنه هكذا. وأما سائر العلوم الأخرى فيعين بعضها في بعض على سبيل أن المطلوب في هذا المعين يصير مقدمة ومادة للمعان لا على سبيل التعيين. فإن أوجب موجب أن لا يتناول بلفظة الفلسفة كل ما هو علم بموجود؛ بل يخضها بما هو علم مقصود لذاته وعلم بالموجودات ولا من حيث تعين في كل علوم أخرى، كان له أن يجعل المنطق آلة لا جزءا. لكنه كالتكلف المستغنى عنه.

Page 207