فنظرت إليه باكارا بإمعان نظرة الفاحص المتردد في أمره، ثم قالت له: إني أفضلك على سواك وأجعلك مستودع سري، مع أني لم أعرفك قبل الآن، وذلك لما توسمته فيك من دلائل الخير والشرف ولحاجتي إلى معين، فاعلم الآن أن لي سرا من الأسرار الخطيرة لا يمكن الإباحة به لأحد من الناس، إلا أن قلبي يحدثني أنك ستكون لي خير صديق. - إني الآن ذلك الصديق. - سوف نرى، سأسألك قضاء أمر دون أن أكلفك شيئا من المال، فلقد كنت من قبل كما قيل لك لا أعبد سوى المال، أما المرأة التي تراها أمامك الآن، فإنها لم يعد لها مطمع في مال أو جمال، وإذا قدر لها أن تحب فإنها تعيش من كسب أيديها كي تكفر عن هذا الحب.
فقاطعها الكونت وقال: كفى يا سيدتي ولا تذكري المال، فإنه من سفاسف الأمور لدي، وأخبريني بهذه المهمة. - إنك أتيت طامعا بحبي، وقد قلت لك إني لا أستطيع أن أحبك ولا أن أدعك تحبني لسبب قد تعلمه في مستقبل الأيام، وغاية ما أسألك إياه أن تكون لي صديقا مخلصا، وأن تطيعني طاعة الإخلاص إذا اقتضت الحال. - سأكون لك أطوع من البنان. - إذن فستكون أمام أصحابك وفي عيون العالم أجمع عشيقي، وأتظاهر أنا بحبك بحيث تكون السيد المطلق في هذا المنزل.
فدهش الكونت وقال: ما هذه الألغاز؟ - هو سر خفي لا أستطيع أن أبوح به لأحد، واعلم أيها الصديق أني لا أستطيع أن أحب أحدا، وأن قلبي لا يسعه إلا أن يتجرد لحب الله، وأني سأمضي الآن خاشية باكية مصلية، إلى أن أنفق النهار متظاهرة بالخلاغة والمجون والاسترسال ظاهرا في الغي والضلال، فلا تسألني أن أبوح بسري، ولكني إذا بحت به يوما فلا يعلمه سواك.
وأنا أعلم أن أمري يشكل عليك، فإن المرأة إما أن تكون شريفة طاهرة، وإما أن تكون على عكس ذلك، غير أنه لا بد لي من الجمع بين الطهارة الباطنة والغواية الظاهرة لهذا السر الغريب، الذي لا بد لك أن تعلمه، كما يحدثني قلبي، فإذا شئت أن تكون صديقي وعضدي، جعلت اعتمادي بعد الله عليك.
فتأثر الكونت من كلامها وقال: إني أوقف لك يا سيدتي قلبا لا ينبض فيه سوى الإخلاص، وقد أحسنت في اعتمادك علي، فإني إذا كنت لا أزال فتيا فإني سأكون رجلا عند الاقتضاء يحق الاعتماد عليه عند المهمات، وسأكون لك خير صديق لا يطلب إليك سوى الصداقة.
ثم ركع أمامها وقبل يدها باحترام، فقبلت باكارا جبينه وأنهضته وهي تقول: إنك شريف ونبيل، ويكفيني عزاء أنك عرفتني دون سواك. - إني منذ الآن عبد لك تدفعين بي إلى حيث تشائين، وبإشارة منك ألقي بنفسي إلى غمرات الموت.
ثم استأذنته هنيهة وخرجت إلى إحدى الغرف، وعادت تحمل أوراقا مالية قيمتها مائة ألف فرنك، فدفعتها إليه، فدهش الكونت وقال: لم هذا المال؟ - هو المال الذي ستنفقه علي. ألم نتفق على أن تكون عشيقي في عيون الناس؟ وإذا كنت عشيقي فلا بد لك من أن تشتري لي أمامهم كل يوم ما يروق في عينك من النفائس. - ذلك لا ريب فيه، ولكن ألعلك نسيت أني أثرى الأثرياء، وأن إيرادي يعد بالملايين. - كلا، بل أنت نسيت أني صديقتك في الحقيقة لا عشيقتك، فكيف أستطيع قبول شيء منك؟ وأنا قد رضيت أن يحتقرني الناس مكتفية بأن تحترمني أنت.
فوجم الكونت، وأخذ المال ثم خطر في باله الرهان الذي عقده مع شاروبيم، ولم يجد بدا بعدما عرف من فضائل باكارا ما عرف من أن يطلعها على كل شيء، فقص عليها بلهجة النادم جميع ما دار بينه وبين شاروبيم في النادي، فأصغت إليه باكارا بانتباه شديد.
ولما فرغ من حكايته نظر إلى وجهها، فرآه قد امتقع فقال لها: ألعلك تعرفين هذا الرجل؟ - كلا، إني لم أره في حياتي. - إذن، لماذا اصفر وجهك؟
أجابته باكارا بصوت منخفض: ذلك لأني بدأت أظن أن الله قد أرسلك إلي، فاقبل الرهان.
Unknown page