المقدمة
الإرث الخفي
المقدمة
الإرث الخفي
الإرث الخفي
الإرث الخفي
روكامبول (الجزء الأول)
تأليف
بونسون دو ترايل
المقدمة
1
كان نابوليون الأول عائدا من مدينة موسكو بعدما نشبت فيها نار الروسيين، وقد غرق نصف معسكره العظيم في مياه نهر بريزينا الثلجية، وكان السيل عرما والريح زعزعا تهب من جهة الشمال، والأفق مقتما متلبدا بالغيوم السوداء، والبرد قارصا، فكانت تلك الجنود التي ألقت الرعب في قلوب أوروبا المتحدة، تقاوم بقوة اليأس جواذب النعاس المميت، وتدافع بعامل الأنفة ألم الجوع القاتل، وكان بعض المشاة ينازعون العقبان جثث الخيول، ومنهم من كان يغلبه النوم فيرقد رقدة لا انتباه بعدها، وهم مع كل ذلك يلجئون إلى الفرار من حين إلى حين خشية مدافع الروسيين ومطاردة القوزاق، وإن بين أولئك المنكودين ثلاثة فرسان قد أووا إلى غابة صغيرة، وجعلوا يجردون الثلوج عن أغصان العليق، ثم أحرقوها وقعدوا حولها يصطلون.
وكان أحدهم في الخامسة والثلاثين من عمره مرتديا بملابس تدل على أن له في الجيش رتبة أميرالاي، وهو فوق الربعة في الرجال، أزرق العينين، قد ارتسمت على محياه النبيل علائم الشجاعة والصبر، وهو ملقى بين رفيقيه، وقد تكسرت ذراعه وأثخن بالجراح.
وكان الثاني قائد مائة، وهو في مقتبل الشباب أسمر لون الوجه، ذو نظر مضطرب لا يستقر، وقد جلس إلى جنب رئيسه يعينه على الاصطلاء، ولوائح الاضطراب ظاهرة على وجهه العبوس.
أما الثالث فكان من جنود الحرس، وقد طار فؤاده شعاعا لجراح مولاه، فكان جالسا بقربه، ودموع الحنو تنهمل من عينيه، فكان إذا سمع دوي مدافع أو أحس بوقع حوافر ينهض نهضة الليث، ويسير باحثا عن جهة المطاردين، ثم يعود إلى مولاه فيغسل جراحه الثخينة بمنهل الدموع.
وكان الظلام قد أقبل، وأخذ ضباب الشفق المقتم يمزج الأرض بالسماء، فنظر الأميرالاي إلى قائد المائة وقال له: ما ترتئي يا فيليبون، أنقيم الليلة في هذا المكان؟
فلم يدع الجندي مجالا للقائد، وأجاب بحماسة: مولاي، إن البرد قارص، وليس من الحكمة أن نبيت في هذه الغابة؛ فإن القوزاق قريبون منا .
فجعل الأميرالاي ينظر إليهما، ثم سأل فيليبون ثانية عن رأيه، فأجاب: لقد أصاب بستيان فيما ارتآه من وجوب الرحيل؛ لأننا إذا اختفينا في هذا المكان الخطر فلا نفيق، ومتى خمدت النار نموت من البرد، وفوق ذلك فإن دوي مدافع الروسيين ينذرنا بقربهم منا، فلا نجاة لنا إلا بالفرار.
فتنهد الأميرالاي وقال: يا للشقاء ويا للعار! أنهرب من وجه فرقة من القوزاق، وما يتحدث الناس عنا ومن عرف ما لنا من الإقدام، ولكن ويلاه من يستطيع أن يغلب الطبيعة، ومن يطيق ثباتا أمام هذا البرد الهائل؟ بل كيف أقدر على الرحيل وقد وهنت قواي لفرط ما نزف من دمائي؟ بالله دعوني أموت قرب هذه النار، فإن رجلي قد ضعفتا عن حملي.
قال هذا وقد صاح صيحة الألم، وانطرح أمام النار وهو على وشك الموت.
فتشاور رفيقاه بالنظر، ثم همس القائد بأذن الجندي وقال: إذا تركناه ينام، فلا نعود نقوى على إيقاظه.
فمال الجندي على أذنه وقال: لا بأس من رقاده ساعة، فإني أحمله نائما على كتفي.
فأصغى القائد قليلا ثم قال: إن الروسيين على مسافة ثلاثة فراسخ منا، فلينم إذا شاء ونحن نسهر بقربه.
وقد سمع الأميرالاي هذه العبارة فمد يده إلى فيليبون، وقال له: إنني أسديك أيها الصديق الحميم جميل الشكر لما تظهره نحوي من الرأفة والبر بي، وإني أهنئك لثباتك أمام البرد الهائل، فلو لم تكن أشجع مني وأصبر لكنت على ما تراني عليه الآن من الوهن وضعف العزيمة.
فأجابه القائد قائلا: إني أقاسي من البرد نفس ما تقاسيه، غير أنك مثخن بالجراح، وأنا لم ينزف مني قطرة دم، وهذا هو السبب فيما اتهمت به نفسك من الوهن وضعف العزيمة.
فشكره الأميرالاي وقال له: إصغ إلي فإني أشعر بدنو الأجل، وأحب أن أحدثك بأمر أرجو ألا يثقل عليك سماعه؛ إن لي من العمر خمسة وثلاثين عاما، وقد دخلت في سلك الجندية في السادسة عشرة من عمري، وارتقيت إلى رتبة أميرالاي ولي من العمر ثلاثون عاما، أريد بذلك أنه كان لي شيء من الشجاعة والصبر تدرجت بهما في سلم المعالي، وكدت أبلغ بهما منتهى آمالي، وهما صفتان ما نزلتا بنفس امرئ إلا رفعتاها من دركات الخمول إلى أقصى درجات التقدم، وكأني بهما الآن وقد سالتا مع دمائي النازفة من جراحي، وحل مكانهما هذا البرد القارص الذي لا يحتمل، وطالما خضت المعامع، واستهدفت لسهام الخطوب، وعرضت نفسا رخصت في حب الوطن إلى الأخطار، فإني أذكر معركة دفنت بها يوما كاملا تحت جثث القتلى، ويوما اقتحمت صفوف الأعداء في حصار ساراكوس في إسبانيا وفي صدري رصاصتان، وأخرى في واركرام ثبت على ظهر الجواد إلى نهاية القتال، وقد جرحت فخذي إحدى الحراب، وتراني الآن أشبه بالأموات جسما بغير روح، جبانا يهرب من مطاردة القوزاق، كل ذلك مما أقاسي من البرد لا مما نزف من الدماء.
فقال له القائد بلهجة المعزي: صبرا أيها الصديق، فسنغادر هذه البلاد المصقعة إلى بلاد تسطع بها أشعة الشمس، فيخرج الأسد من عرينه.
فتنهد الأميرالاي وقال: وا شدة شوقي إلى الأوطان! ووا أسفاه فإني سأموت قبل أن أرى بلادي! ثم تبسم ابتسام القانط وقال وهو يدفع جواذب النعاس القاتل: لا، لا يجب أن أنام، فإن علي أن أفتكر بامرأتي وولدي قبل ذلك، فأصغيا إلي، إنكما يا صاحبي ستعيشان بعدي، وسيطبع تذكار ودادي أثرا في قلبيكما، فأعيراني السمع فهذا آخر ما أحدثكما به. ثم مد يده إلى فيليبون، وقال: إنني تركت أيها الصديق في فرنسا وطني المحبوب امرأة في مقتبل الشباب وطفلا صغيرا، وعن قريب ستصبح تلك المرأة أرملة وذلك الطفل يتيما ... لا تقطع علي حديثي أيها الصديق، فإنني أتمنى لنفسي ما تتمناه لي من العيش لأشاهد امرأتي وولدي، ولكن قلبي يحدثني بقرب الوفاة، وأن تلك الأرملة وذلك اليتيم يحتاجان إلى نصير أمين.
فركع بستيان على ركبتيه، واستشهد السماء بيديه وهو يقول: إني سأبذل حياتي ودمي قطرة فقطرة في خدمة امرأتك وولدك إذا أصابك الدهر بمكروه.
فشكره الأميرالاي، وكان اسمه أرمان دي كركاز، ثم حول نظره إلى القائد فقال: وأنت ... أنت أيها الأخ الشفيق والصديق الصدوق ...
وكأن هذه الكلمات قد فعلت بالقائد فعل الكهربائية بالأجسام، فاضطرب عند سماعها كاضطراب الريشة في مهب الريح، ولكن ذلك مر بأسرع من التصور، فلم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه من الكدر، واقترب من أرمان مصغيا إليه، فقال أرمان: أنت يا خير من عرفته في أيامي، إنك ستكون سند تلك الأرملة، ووالد ذلك الطفل الصغير.
فاحمر وجه القائد، وبرقت أسرة وجهه، غير أن أرمان لم ينتبه إلى ذلك، فمضى في حديثه يقول: إني لا أجهل سابق غرامك بامرأتي منذ كانت تدعى باسم ذويها، وإنك تذكر يوم خلبت قلبينا بآدابها، وتزاحمنا على حبها، كيف تركنا لها الخيار في انتخاب أحدنا بعلا لها، فكنت يومئذ أوفر منك حظا، واختارتني لها قرينا برضاك، فلم يكن ذلك ليقطع صلات المودة بيننا؛ بل استحكمت في أثره علائق الوئام، واستوثقت عرى الإخاء؛ مما دعاني إلى شكرك في حينه شكر محب عرف سر الولاء، ودعا لك الله في صلواته إذ كنت السبب في ما وصل إليه من ذلك الهناء.
والآن فإن ذلك الزوج الرءوف سيزج في ظلمات الأبدية، وسيغادر تلك المرأة أرملة لا نصير لها إلاك، ولا رجاء لها سواك، فأنت ستكون بعدي زوج تلك الأرملة؛ لتكون أبا لذلك اليتيم.
نعم، إنك ستتزوجها من بعدي، وهذه وصيتي الأخيرة كتبتها عند نشوب هذه الحرب، وقد تركت لك بها نصف ثروتي، أما الآن فإنك ستقتسمها مع امرأتي وولدي؛ لأني أثق بك وبإخلاصك، ولا ريب عندي بأنك ستنفذ إرادة محبتك الأخيرة. قال ذلك ومد يده السليمة إلى جيب صدرته، فأخذ منها غلافا ضخما وأعطاه لفيليبون.
فاصفر وجه القائد، وأخذ الغلاف بيد ترتجف وهو يقول: كن مطمئنا أيها الصديق، فسأمتثل لأمرك إذا أصبت بمكروه، ولكنك ستبرأ من جراحك، وستعيش لامرأتك التي طبعت على قلبي خير أثر من الاحترام.
فتبسم أرمان تبسم القانط الواثق بدنو الأجل، ولم ينبس ببنت شفة، بل تأوه وأطبق عينيه، وقد غلبه النعاس، فقال فيليبون لبستيان: لندعه ينام بضع ساعات نتناوب بها السهر عليه. ثم أضجعاه بقرب النار وغطياه بما كان عليهما من الثياب، فلم تمر دقيقة حتى سمع غطيطه.
فجلس بستيان بقرب رأسه، وجعل يزيد الضرم كلما أخمدت النار أو كادت، وهو يحاذر من وقوع الشرر عليه، ويكاد يذوب حنوا على مولاه.
أما فيليبون فكان غارقا في لجج التصورات، ملقيا بنظره إلى الأرض وهو ينكتها بحسامه الطويل، وكان يقطع تصوراته من حين إلى حين ناظرا إلى أرمان نظرة احتقار وانتقام، وإلى بستيان نظرة حذر وتحسب، ولا بد لنا في سياق هذا الحديث من الإلماح إلى ماضي هذا الرجل الذي كان يحبه أرمان محبة إخاء، ويثق به ثقة عمياء، وهو لو مثلت صورة اللؤم لما مثلت بغير رسمه، نقول: إنه كان فاسد الأخلاق، كثير اللين والمكر، وهو في الأصل من رعاع الطليان، تطوع في الجيش الفرنسي فلم يكن أصحابه على فقره المدقع إلا من أصحاب الملايين.
ولم يمض عليه زمن يسير حتى ارتقى إلى رتبة قائد لفرط تحيله، ولاحتياج الجيش إلى قواد لا لبأسه وإقدامه، فإنه كان يستر جبنه ومكره ببراقع من الرثاء.
وقد ارتبط مع أرمان منذ خمس عشرة سنة برابط متين من الوداد حتى أصبحا لا يفترقان، وقد لقيا منذ ثلاثة أعوام مرت على المعركة التي نحن بصددها السيدة هيلانة ديران، ابنة أحد كبار القواد، وكانت بارعة في الجمال فعلق بها الاثنان، أما هي فاختارت أرمان بعلا لها على ما ذكرناه آنفا، فثارت الغيرة بفيليبون، وأضمر الشر لرفيقه كاتما أحقاده مترقبا فرص الانتقام، حتى إنه أطلق عليه الرصاص في مواقع كثيرة فلم يصبه بأذى، ولم يوفق لقتله، وهو في كل ذلك يظهر له التودد، وتزيد أحقاده بازدياد محبة أرمان له شأن من طبع على الخسة والدناءة.
والآن فقد وجد ضالته المنشودة، وتيسر له ما كان يحلم به من الانتقام، فنظر إلى بستيان الساهر على مولاه بحنو الوالدة، وقال بنفسه: إن هذا الجندي يثقل علي ويحبط مساعي. قال ذلك، وانتصب على قدميه، وذهب إلى جواده.
فسأله بستيان: ماذا تفعل؟ - أريد أن أمتحن غدارتي، فإني أخشى أن تكون قد ترطبت من البرد.
وعند ذلك أخذ مسدسا، وامتحنه أمام الجندي الذي كان يراقبه بسكون وارتياح، ثم أخذ مسدسا ثانيا فامتحنه كما امتحن الأول، وبعد أن وثق منهما صوب أحدهما على الجندي، وقال: أتعلم يا بستيان أن لي مهارة شديدة بإطلاق الرصاص؟ - هذا لا ريب فيه أيها القائد. - أتعلم أني أصبت يوما قلب عدو لي بمبارزة على بعد ثلاثين خطوة؟ - ذلك ممكن. - ولقد فعلت أعظم من ذلك، فإني كنت أراهن على أن أصيب إحدى عيني خصمي، وكنت أربح دائما، ولكني أؤثر دائما إصابة القلب؛ فإن ذلك يقتل الخصم على الفور.
فرجع بستيان منذعرا إلى الوراء لما رآه يصوب المسدس إليه، وقال بلهجة الرعب: ماذا تفعل؟
فأجابه ببرود: إني أصوب إلى القلب، فإني لا أريد لك العذاب.
وللحال أطلق عليه المسدس، فصاح ذلك الخادم الأمين من الألم، وسقط على الأرض مخضبا بدمائه.
وقد دوت الغابة بصوت البارود، واستيقظ أرمان بالرغم عن نعاسه الشديد، فنظر إلى ما حوله نظرة الرعب والقلق، ورأى ذلك الجندي المسكين ساقطا على الأرض ينظر إليه نظرة المودع الآسف، ويده على قلبه المطعون.
ثم نظر إلى فيليبون فرأى الزبد على شدقيه، وملامح الانتقام الوحشي ظاهرة بين عينيه، فنسي جراحه المؤلمة، وجلس مسرعا وهو يحاول الوقوف، ولكن فيليبون لم يمهله بل وثب عليه وثوب النمر المفترس، وألقاه على الأرض فوضع إحدى ركبتيه على صدره المثخن بالجراح، وضغط عليه ضغطا شديدا، وهو يقول: تبا لك أيها الغر الأبله، فلقد وثقت بي في حين كان يجب أن تحذر مني كما تحذر من ألد أعدائك، أنت يا من سلبني المرأة التي كانت مطمح آمالي، تلك التي لم أحب ولن أحب سواها في هذا العالم، طب نفسا فسأتزوج بامرأتك، وسأتمتع بأموالك على ما أوصيت، والآن فلم يعد لك إلا دقيقة واحدة للحياة؛ إذ لا فائدة لي من حياتك، فلتمت لأحيا بعدك.
فاجتهد أرمان أن يتخلص مجذوبا بميل حفظ الحياة، فعاجله فيليبون بإطلاق الرصاص، فسقط أرمان وهو يقول: يا أيها النذل! وكانت هذه آخر كلمة قالها.
أما فيليبون فغادر أرمان وقد سال نخاعه على يده الأثيمة، وبستيان وهو غارق بدمائه، ولم يطلع على ذنبه غير الله.
مضى على تلك الموقعة الهائلة والجرم الفظيع أربع سنوات، أصبح في غضونها ذلك القائد الوحشي أميرالايا وزوجا لأرملة ذلك النبيل أرمان دي كركاز.
وكان فيليبون يصيف مع امرأته وابنها في قصر له في كرلوفان، وهى من أحسن قرى بريطانيا، وكان هذا القصر من قبل لعائلة أرمان دي كركاز، فانتقل بعضه بالإرث إلى أرملته وبعضه بالوصية إلى ذلك الغادر، وهو واقع عند حدود فيتر على شاطئ البحر، تحيط به من أكثر جهاته غابات كثيرة الأشجار.
2
وكان ظاهر القصر يدل على قدمه، وهو محاط بسور تدل آثاره أنه من عهد الصليبيين، ومزدان من الداخل بأجمل التصاوير التاريخية، وقد جاء إليه فيليبون مع امرأته في أواخر أبريل عام 1836، ومعهما ولدهما الذي كان يدعى أرمان باسم أبيه القتيل، فكان قد حصل على لقب كونت عندما خمدت نار الثورة، فكان يعيش عيشة العزلة والانفراد مع تلك المرأة التعيسة التي أصبحت بعدما علمت بوفاة زوجها أرمان، شاحبة اللون ساهية الطرف نحيلة الأعضاء، بعد أن كانت من أجمل نساء عصرها كما شهد لها بذلك كل من كان يراها في بلاط نابليون العظيم.
فبينما كانت يوما منذ أربعة أعوام جالسة في منزلها تنتظر عودة زوجها بملء الجزع، وتتسلى على فراقه المؤلم بمداعبة ولدها الصغير، دخل عليها فيليبون وهو بملابس الحداد.
ولا بد لنا أن نذكر أن هيلانة كانت تكره هذا الرجل كرها شديدا، وتؤنب زوجها لموالاته وتحذره منه، غير أن أرمان كان طاهر القلب صافي السريرة، فلم يعر امرأته أذنا صاغية ولم يرعها سمعا، واستمر على مودة صديقه، فكان ذلك يزيد هيلانة نفورا من هذا الرجل وبغضا له، حتى إنها كانت تتشاغل عندما يزورهم أو تتمارض كي لا تجتمع به ولا تراه.
فلما رأته داخلا عليها بملابس الحداد، وهيئته تنذر بالمصاب، وقفت منذعرة، وقد ارتعدت فرائصها من الخوف، فدنا منها وأخذ يدها بين يديه وهو يتكلف البكاء، وقال: لا حيلة لنا يا سيدتي بقضاء الله، فلقد فجعت بزوجك، وفجعت بخير صديق لي، فلنستوف البكاء إذ نحن في المصاب سواء.
ولم يمر على ذلك بضعة أيام حتى علمت الأرملة بوصية زوجها القائلة بوجوب زواجها بعده بفيليبون، غير أن كره الأرملة لفيليبون كان شديدا، فعصت في بادئ الأمر إرادة زوجها ورفضت الزواج بصديقه الخائن.
أما القائد، فإنه أظهر انذهاله لوصية صديقه، وأنه غير أهل لها، وكان واسع الصدر كثير الصبر شديد اللين، فتوسل إلى الأرملة أن تقبله كصديق لها ولطفها فقبلته، وبقي بقربها ثلاثة أعوام يتظاهر بالحشمة والوقار، ثم جعل يستعطفها بملء التودد والحنان إلى أن أخذت تراجع نفسها في سابق حكمها عليه، وكانت قد سمت رتبته في البلاط الإمبراطوري، وأملت لولدها خيرا بواسطته لما رأت من علو منزلته واستحالة أخلاقه، فرضيت عنه بعض الرضى، وركنت إليه بعض الركون، فاغتنم تلك الفرصة، وجعل يزيد من تذلله وتصببه، وما زال بها إلى أن رضيت به بعلا وأشهر قرانهما.
ولكنها لم تلبث بعد ذلك القران التعيس أن عادت إلى سابق كرهها له ونفورها منه؛ لما رأته من شراسته وقسوته التي كانت كامنة في صدره كمون النار، ولما كان يظهر في الانتقام من تلك الأرملة الضعيفة، فرجعت إلى عزلتها فرارا من ذلك المفترس الذي كان يبسم لها أمام الناس ابتسام الحب والاحترام، ويبلوها بأشد العذاب عند اختلائهما.
وكان لا يشغل باله إلا بما يستطيع أن يسيء به إلى تلك المرأة التي لم تحبه غير يوم واحد، ولا يهتم إلا بما يسهل له سبل الانتقام منها، وهي لم تسئ إليه قط بحياتها إلى أن علم يوما أنها علقت بولد منه، فوجد ضالته المنشودة، وأملت عليه قريحته الجهنمية هذا التصور الفظيع: «إذا مات ابنها فإن ابني يرث جميع هذه الثروة العظيمة وحده، ولا أسهل من إعدام طفل لم يبلغ أربعة أعوام.» ومن ذلك الحين أخذ يترقب الفرص للوصول إلى هذه الغاية الهائلة.
ولقد سبق لنا القول أن قصر كرلوفان كان قائما على شاطئ البحر، وكان به سطح يحيط به رواق ضيق كان يلعب عليه أرمان عندما تتحول عنه أشعة الشمس.
وكانت أمه كثيرة الخشوع شديدة الرغبة في الصلاة؛ إذ كانت تجد بها خير تعزية على أحزانها، فتركته يوما يلعب وحده على السطح، وولجت غرفتها فجثت أمام صليب من العاج، واستغرقت في صلاتها فلم تفرغ منها إلا وقد غربت الشمس وسار الظلام، فانتبهت مرعوبة لهدير الأمواج، وأول ما خطر على بالها ولدها الذي لم تره بقربها.
وكان الجو قد أقتم، وثارت الرياح، وأدلهمت السماء، فلعلعت الرعود واندفع السيل كأفواه القرب، فهاجت الأنواء حتى كاد صوت الأمواج يزيد على قصف الرعود؛ فخرجت تبحث عن ولدها وهي تضطرب كالعصفور بلله القطر، فلم تكد تبلغ الباب حتى لقت زوجها داخلا بملابس الصيد وعليه ملامح الرعب، فارتاعت لرؤياه، وانقبضت نفسها لمنظره، فلم تستطع كتمان اضطرابها وسألته عن ولدها سؤال قلق وارتياب، فأجابها ببرود: إني عجبت لبعده عنك، ولو لم تسبقيني بالسؤال عنه لكنت سبقتك إليه.
فاختلج فؤاد تلك الأم التعيسة، وفتحت نافذة الغرفة تطل على السطح، ونادت بصوت متقطع: أرمان. فلم تسمع لصوتها صدى، ولم تجبها غير الرياح الثائرة.
وكان على الطاولة في الغرفة مصباح ضعيف يضيء بأشعته المضطربة جوانب الغرفة، فنظرت إلى فيليبون، وإذا بعلائم الخوف مرتسمة على وجهه، وعيناه تضطربان اضطراب الأثيم الخائف، فأحست بالخيانة وصرخت به تقول: ولدي، قل لي ما صنعت بولدي.
أما فيليبون فإنه تجلد جهد الطاقة، وقال: إني لم أر ولدك، ولم أدخل القصر إلا الآن.
فلم يزدها جوابه غير ريبة، وخرجت من الغرفة هائجة تصيح: أرمان أرمان. ولكن صوتها لم يسمعه غير ذلك البحر الهائج.
3
كان فيليبون قد عاد من الصيد، ودخل القصر منذ حين دون أن ينتبه إليه أحد من الخدم، فسار اتفاقا إلى السطح الذي كان يلعب الطفل عليه.
وكان الظلام قد أقبل، فلم يسر بضع خطوات حتى عثرت رجله بألعوبة الطفل، وهي فرس صغير من الخشب، فتحقق منها وجود الولد؛ لأنه لا يفارق ألعوبته، وبينما هو يبحث عنه إذ سمع غطيطا خفيفا، فسار إليه فرأى الطفل نائما بقرب حصانه الخشبي وقد تعب من اللعب.
وكان فيليبون قد صرف جميع ساعات النهار في العزلة، يجهد الفكرة لتمكنه من حيلة يلقي بها الطفل في شراك الموت طمعا بأمواله وتشفيا من أمه، فلم يهتد إلى سبيل، ولم يفتح له باب، فلما رآه راقدا على السطح أيقن بالفوز والظفر بأمنيته، فأخذ الطفل بين يديه، ونظر إلى الجهات الأربع نظرة السارق يحاذر رقيبا، ثم ألقى به إلى البحر، ووقف في الرواق يراقب سقوطه بعينين تتوقدان بنار ذلك القلب الفظ الأثيم، فهوى الطفل إلى البحر، واحتجب عن مرآه بين الأمواج، فكان كفنه الأبيض ذلك العجاج المتلاطم.
ثم وقف بعد ذلك يبتسم ابتسام المنتصر، وهو يقول في نفسه: قد بلغت ما أردت؛ فإن تلك الثروة العظيمة ستكون لابني من بعدي ولا دليل على جرمي، فإن ما يتبادر إلى الذهن هو أن الولد قد هوى إلى البحر من نفسه ولا بد لي في ذلك، ولم يرني أحد عند دخولي فلا خوف علي من التهمة. ثم لبث برهة ساهي الطرف بغير حراك إلى أن عاد إليه هدوءه وسكونه، فدخل إلى غرفة امرأته، وكان ما كان من محادثتهما.
أما امرأته، فكانت قد أقلقت بصياحها القصر وساكنيه، فشغلوا جميعهم في البحث عن أرمان، يجولون من مكان إلى آخر، وهي تبكي بكاء الخنساء، وتنادي ولدها بصوت متقطع يذيب قلب الجماد، كل ذلك وفيليبون يسير في إثرها وهو يتكلف الحزن ويتظاهر بالقلق، وما زالوا كذلك إلى أن عاد إليهم أحد الخدم وبيده قبعة الطفل وألعوبته، فلما رآهما فيليبون أظهر الاضطراب، وقال: وا أسفاه! إني أخشى أن يكون قد سقط إلى البحر. فوهت قوى امرأته لخوفها من هذا القول، وسقطت على كرسيها وهي توشك أن يغمى عليها من الإشفاق، فبينما الخدم يحيطون بها وفيليبون يحاول أن يطمئنها ويسكن روعها، إذ دخل رجل غريب ووقف في الباب ينظر إلى فيليبون نظرة العظمة والاحتقار، فلم يكد فيليبون يتبين وجهه حتى رجع وجلا إلى الوراء منذعرا، كأن الصاعقة قد انقضت عليه، واتكأ على الحائط كأن رجليه قد ضعفتا عن حمله.
4
أما ذلك الرجل الذي ظهر على باب الغرفة وراع منظره فيليبون، فقد كان يناهز الأربعين من العمر مرتديا برداء أزرق طويل، عليه إشارة حمراء كما كانت تلبس الجنود في ذلك العصر، وكان عالي القامة عليه ملامح الشهامة، وقد اصفر وجهه من الغيظ عندما أبصر بفيليبون، فرماه بنظرة احتقار خرجت من عينيه كالسهم المارق إلى فؤاده، ثم تقدم إليه وصرخ به يقول: أيها القاتل.
فانذعر فيليبون، وقال بصوت متقطع: من الذي أرى ... بستيان؟ أدنا يوم النشور؟ أبعث من في القبور؟
فقطع بستيان عليه الكلام، وقال: نعم، أنا هو بستيان، أنا هو ذلك الرجل الذي ظننت أنك قتلته وهو لا يزال حيا يرزق، نعم أنا هو ذلك الجندي الأمين الذي أطلقت عليه غدارتك، فأغمي عليه لفرط ما نزف من دمائه، ثم أفاق فوجد نفسه قرب مولاه القتيل، نعم أنا ذلك الخادم المطيع الذي مكث في أسر الروسيين أربعة أعوام، فعاد الآن يسألك عن دم مولاه الذي هدرته غدرا وعدوانا.
ثم نظر إلى الكونتسة وقال: سيدتي، إن هذا هو الذي قتل الولد كما قتل أباه.
ولقد تعجز الأقلام وينحبس اللسان عن وصف ما كان من الكونتسة بعد أن تبينت لها تلك الخيانة، وعلمت بمقتل زوجها وابنها، فزأرت كاللبوة التي فقدت أشبالها، وانقضت على فيليبون انقضاض الكواسر، تحاول تمزيقه بأظافرها وهي تصيح به: أيها القاتل، إن النطع ينتظرك، وسأقودك إلى الجلاد بيدي.
فكان فيليبون يهرب من وجهها، وقد شعر بدنو الأجل، وهي تجد في أثره، فبينما هي هاجمة عليه إذ وقفت متكئة على كرسي وصاحت صيحة ألم أضلت صوابها.
ذلك أن المخاض فاجأها، وأحست بابن ذلك الرجل يتحرك بأحشائها، فسقطت على الأرض واهية القوى بغير حراك، وكان مخاضها علة نجاة ذلك الرجل الذي عزمت أن تقوده إلى النطع، ذلك الخائن القاتل الذي لم ينقذه من انتقامها سوى ولده الذي كان يشفع به في أحشائها.
5
مضى على تلك الحوادث الهائلة أربعة وعشرون عاما، نعود بعدها إلى قص ما ستقفون عليه من حوادث، كان بدؤها في أواخر أكتوبر من عام 1840.
كان في إحدى ليالي هذا الشهر رجل يحكم عليه من لباسه أنه فرنسي الأصل، قطع نهر التيبر وسار إلى تراستاقر ماشيا مشية الفاكر المتأني.
وكان في عنفوان الشباب، له من العمر ثمانية وعشرون عاما، جميل الهيئة حسن الوجه أسود العينين ذو جبين متجعد، يدل على شدة معاناة ذلك الشاب لمتاعب الحياة لندور الغضون في جباه الشبان.
وكان يسير الهويناء في طريق ضيق إلى أن بلغ منزل قائم عند منتصف ذلك الطريق تعرش على جدرانه الدوالي الأيرلندية، وقد تهدلت أغصانها، واختبأت عناقيدها الذهبية تحت الأوراق، وكانت جميع نوافذ المنزل مغلقة، والسكوت سائدا شاملا، والنسيم بليلا لطيفا، والقمر تتماوج أشعته فوق الدوالي، فلا يسمع إلا حفيف الأوراق وتململ العناقيد.
فوقف الشاب عندما بلغ الباب، وفتحه بمفتاح صغير كان في جيبه، فولج منه إلى دهليز ضيق إلى أن وصل إلى سلم طويلة من المرمر كان في أسفلها غرفة فدخلها، وقد استاء إذ لم ير بها أحدا، فصعد السلم بمنتهى السرعة والقلق إلى أن بلغ إلى غرفة، فوقف أمامها يلهث من التعب، وطرق الباب فسمع صوتا لطيفا من الداخل قال له: ادخل.
فدخل ورأى صاحبة هذا الصوت مضطجعة على مقعد في تلك الغرفة المفروشة بأجمل الأثاث.
وكانت الصبية على غاية من الجمال تكاد تبلغ العشرين من العمر، فمذ رأته نهضت مسرعة، وهرعت إليه تقول ببشاشة وارتياح: لقد طال غيابك يا أرمان، فإني أنتظرك منذ حين.
فاعتذر لها أرمان وقال: إني كنت قادما إليك منذ ساعة، فأعاقتني زيارة رجل طلب إلي أن أنقش له تمثالا، فكان ما كان من أمر عاقني، ولكن ما لي أراك شاحبة اللون، وعليك ملامح التأثر الشديد؟
فاضطربت الفتاة وقالت: أنت ترد ذلك؟
فأجابها وقد أخذ يدها بين يديه، وجلس على المقعد بقربها: نعم يا حبيبتي مرتا، ويسوءني جدا أن أراك دائما قلقة البال ساهية الطرف واجفة القلب، كمن يخاف أمرا، ولقد رأيتك اليوم على ازدياد، فهل تريدين أن تطلعيني على كنه أمرك؟
فأجابت الفتاة: نعم يا أرمان، إنك مصيب بظنك، فلقد خفت اليوم كثيرا؛ ولذلك أنتظرك على جمر. - ممن خفت؟ وممن تخافين؟ وكيف تخافين وأنا بقربك؟
فأسكتته الفتاة وقالت: إصغ إلي يا أرمان واعمل برأيي، فإنه يجب أن نغادر روما، فإنك ظننت أني هنا بمأمن من مطاردي، وتوهمت أنه لا يهتدي إلي بهذا الشارع المنفرد، ولكن ظنونك قد خابت، فإنه قد علم بوجودي بروما كما علم بذلك بفلورانسا، ويجب أن نخرج من هذه المدينة العظمى كما خرجنا من تلك.
وبينما كانت تتكلم اعتراها اصفرار شديد، فسألها أرمان: أين هي فورترينا الخادمة؟ - إني أرسلتها كي تدعوك، فربما تكون قد سارت بطريق آخر غير الطريق التي أتيت منها. - ربما، ولكني موجس ريبة من تلك المرأة التي أقمتها في خدمتك، وأمرتها ألا تفارقك على الإطلاق. - لا تظن سوءا، فهي تؤثر الموت على خيانتي.
فنهض أرمان، وجعل يمشي في الغرفة بخطوات غير موزونة تدل على قلقه وارتيابه، ثم نظر إليها وقال: ولكن ما الذي دعاك إلى طلب الرحيل؟ - قد رأيته. - من؟ - هو.
ثم قامت إلى النافذة، وأشارت بأصبعها إلى باب على قارعة الطريق، وقالت: أمس رأيته بعد ذهابك من عندي واقفا على هذا الباب وهو ينظر إلى منزلي بعين يتطاير منها الشرر، وما كنت أضأت المصباح في منزلي، ولكن القمر كان مضيئا، فما وقع نظري عليه حتى صرخت من الرعب وأغشي علي.
وكأنها رأته إذ كانت تقص حكايته، فعاد إليها اضطرابها إلى حد خشي عليها من الإغماء، فأخذها أرمان بين يديه، وأجلسها على المقعد، ثم جثا أمامها على ركبتيه وقال: أتريدين أيتها الحبيبة أن تصغي إلي؟ أتريدين أن تتكلي علي كما يتكل المؤمن على الله، وأن تثقي بي كما يثق الولد بابيه؟
فتنهدت مرتا وقالت: نعم أيها الحبيب، قل ما تشاء فليس لي سواك في هذا العالم، فإنك عضدي ونصيري وأبي وأمي، فعليك معتمدي في كل حال، وعليك اتكالي بعد الله.
ثم أنهضته وأجلسته بقربها، فأخذ يدها بين يديه وقال: إني لقيتك منذ ستة أشهر جاثية عند منتصف الليل على باب الكنيسة باكية قانطة وعيناك مرتفعتان إلى الأفق، فخلت أني أنظر ملاكا هبط من السماء، وكنت تبكين وتبتهلين إلى الله أن يغفر لك، فدنوت منك وكلمتك بصوت لا أعلم في ذلك الحين إذا كان وجد طريقا إلى قلبك الطاهر، ولكني أذكر أنك نهضت في الحال، واتكأت على ذراعي فتبعتني.
وقد كنت على ثقة مني فأنقذتك من الموت وقد كنت تطلبينه، وعوضتك عن اليأس بالأمل، فكنت حينئذ من أسعد الناس، وأنت فقد برئت بعض البرء مما كنت تقاسيه، أليس كذلك؟
قالت: نعم يا أرمان، فإنك شريف وإني أحبك.
فتنهد أرمان وقال: وا أسفاه! ما أنا إلا نقاش بسيط ليس لي اسم ولا لقب ولا موطن، فلقد وجدت في البحر، ولي من العمر خمسة أعوام، وأنا معلق بما لا أعلم، أصادم الأمواج بالرغم من حداثتي، وإني وإن أكن مثريا فإن صناعتي كافية للقيام بأودي وأودك، وسأجعلك امرأتي بأقرب حين، ولكن لكي أحميك ألا يجب أن أعرف اسم عدوك وأطلع على سرك؟ من هو هذا الرجل الذي يطاردك، وكيف لا تخبرينني عنه، ألا تظنين بي الكفاءة لحمايتك منه؟
فأطرقت مرتا إلى الأرض، وقد احمر خداها من الخجل، ثم جعلت تختلج، وقد تبدلت تلك الحمرة باصفرار شديد كمذنب اضطر إلى قرار يخاف منه، فقال لها أرمان بصوت محب حنون خرج من صدره كمن يجهش للبكاء: حبيبة قلبي، لا تكتمي عني أمرا مهما كان من أمر ماضي حياتك، فإن ذلك لا يؤثر شيئا على حبي لك الذي لا تضعفه قوة في هذا العالم.
فرفعت عند ذلك رأسها وقالت: وا أسفاه! إذا لم يكن الحب ذنبا فلا أخجل لماضي حياتي. نعم، لقد أحببت حبا نقيا طاهرا رجلا فاسد الأخلاق لئيم دني الطبع، خدعت به وخلته شريفا ولا جرم، فقد كان لي من العمر سبع عشرة سنة، فاستغواني وسرقني من بيت أبي، ولكن شهد الله أني ما لبثت أن عرفت ما انطوى عليه من الخسة واللؤم حتى هجرته وهربت منه.
فوقف أرمان متأثرا وقال: قسما بحبك إني سأقتل هذا التعيس.
فأجلسته مرتا وقالت: أصغ أيها الحبيب، فإني سأقص لك أمري مع هذا الفاجر.
فجلس أرمان وعادت هي إلى حديثها فقالت: إني ولدت في بلوا من أب تاجر غني وأم من الشرفاء، وقد ماتت أمي وأنا في العاشرة من عمري، فبعث بي أبي إلى الدير، وحين بلغت السابعة عشرة خرجت من الدير، فلقيت ذلك الرجل الهائل.
وكان أبي قد ترك التجارة، وانسحب من الأشغال بثروة عظيمة، فمذ خرجت من الدير ترك مدينة بلوا وذهب بي إلى أرض جميلة له في أورليان، وهي تبعد بضعة فراسخ عن بلوا.
وكان على بعد ساعة من منزلنا قصر جميل لضابط إيطالي الأصل فرنسي التبعة، كان يدعى الكونت فيليبون.
وكان هذا الكونت يصرف مدة الصيف في هذا القصر مع امرأته وابنه الفيكونت أندريا، أكبر مجرم ظهر على وجه الأرض من أيام آدم وحواء.
أما الكونت فإنه كان رجلا حاد المزاج شرس الأخلاق، بعكس امرأته التي كانت مثال اللطف والدعة، والذي ظهر لي أنه كان يسيء إليها إساءة شديدة أثرت شر تأثير على مزاجها اللطيف، فإن رائيها كان يظنها في الثمانين من عمرها مع أنها لم تبلغ الخمسين.
وكانت علائق الوداد بين الكونت وبين أبي متينة، فذهب بي يوما إلى قصره حيث عرفت الكونتسة التي أحبتني بحنان وإشفاق، فصرت أزورها في كل يوم وهي تزداد نحولا، ولكنها كانت تتعزى بقربي منها بعض العزاء.
فما مضى على ذلك شهر حتى تبينت أنها عائشة مع زوجها كغريبين في هذا القصر، وعرفت ابنها الفيكونت أندريا، فتبين لي أيضا أنه لا يحب أمه على الإطلاق.
لم تزل تلك المرأة الفاضلة تزيدها العزلة وهنا والأحزان ذبولا حتى دنت ساعتها الأخيرة وأحست بالنزع الشديد في ليلة برد هواؤها وأظلم جوها، وهي تقاسي ألم النزع وحدها؛ لأن زوجها وابنها كانا في الصيد.
فبعثت تدعوني إليها، فأتيت على الفور ورأيتها مسجاة على فراشها تختلج، والكاهن بقربها يصلي صلاة الموت، وبعض الخدم ركع يبكون.
وكانت تبحث عبثا بنظرها الملتهب عن ابنها، ففاضت روحها الطاهرة في الساعة العاشرة، وكانت آخر ما قالت: «أندريا يا أيها الابن العقوق.» وأذكر أني سمعت خادما طاعنا في السن قال بصوت منخفض: «إن الفيكونت هو الذي قتل أمه.»
وبعد موتها بيومين عاد الكونت وابنه إلى القصر، وكان الفيكونت يكاد لا يفارق منزلنا، فلم يمض على هذا الائتلاف ثلاثة أشهر حتى استعضنا باللسان عن العين في نقل أحاديث قلبينا، ولا أعلم كيف دخل حبه إلى قلبي، ولا كيف فتنت به بعد أن علمت أنه كان السبب في موت أمه، بل أعلم أنه مرت بنا ساعة آمنت به كما تؤمن الملائكة بالله، فاستسلمت إليه، وضحيت - وا أسفاه - نفسا زكية على هيكل ذلك الحب الفاسد.
ومما كان يقوله لي بعد ذلك: مرتا إني أقسم لك بما تريدين من الأيمان أني سأتزوج بك. كنت عندما ألح عليه بوفاء وعوده كان يتعلل برفض أبيه؛ لما بين عائلتينا من التفاوت في الغنى، ويقول: إن ذلك لا يكون قبل وفاة أبي، وقد اتخذ من هذا الحاجز حجة على وجوب هربنا، فقال لي يوما: ألا تذهبين معي إلى إيطاليا فأتزوج بك فيها؟ - وأبوك؟ - إنه يغضب حينا، ثم لا يلبث أن يرضى. - وأبي؟ - سندعوه إلينا. - إذن فلنخبره بما عزمنا عليه، فهو لا يرفض إذا اعترفت له بما كان بيننا، ولئن يكون معنا أجدر بنا وأشرف لنا من أن نكون وحدنا.
فأطرق برهة وقد ظهرت عليه علائم الارتباك، ثم قال: ذلك لا يكون أبدا، وعلينا بذلك الإقرار خطر شديد؛ فإن أباك شديد المحافظة على الشرف، فلا آمن عليك منه إذا اعترفت له بما كان، وإذا صفح عنك فهو لا يشترك معنا بخداع أبي، ولكن متى علم الاثنان بارتباطنا الشرعي، وعلم أبي أن لا حل لذلك العقد فهو يصفح عني؛ لأني وحيده كما تعلمين، وله بي مبرة وإشفاق.
وكان ذلك جل ما تتوق إليه نفسي، وأنا أعتقد به الصلاح والإفراط في حبي، فقبلت بما اقترحه علي، وكتبت إلى أبي كتابا كادت تمحو سطوره دموعي، ثم سرت مع من عشقته نفسي في ليلة حالكة الأديم تكاد تكون أشد سوادا من حظي، فبلغنا مدينة ليلان بعد 8 أيام.
فاستأجر منزلا رحبا، وتعرف بأشراف ميلان الذين كان يقدمني إليهم كامرأته، فعاش فيها عيشة بذخ وإسراف كانت أعظم وسيلة لتقربه من أشراف تلك المدينة وحسن علائقه مع أعيانها.
وكنت دائما ألح عليه أن يكتب إلى أبي ويدعوه إلى المجيء إلينا، فكان يماطلني في ذلك إلى أن قال لي يوما: قد وصلني كتاب من أبيك وأبي يدلان على سخطهما علينا، فلا أستطيع الآن أن أكتب إلى أبيك في هذا الشأن، ولنصبر إلى أن تهدأ ثورة غضبهما.
فامتثلت لما أمر، وصبرت كما صبر، أما مسألة الزواج فكان يتجنب المباحثة فيها إلى أن أعياني الأمر، فكتبت إلى أبي رسائل جمة لم تصله واحدة منها؛ لأن أندريا كان يأخذها من الخادم كما علمت ذلك بعد حين.
ثم إني ألححت عليه يوما في طلب القران، فأخرج من جيبه كتابا، وأعطاني إياه وهو يقول: إن أبي قد طعن في السن، وهو سيموت عن قريب، فأتزوج بك.
أما الكتاب: فكان من أبيه، وهذا مفاده:
إنك مخطئ يا بني بإساءتك إلى تلك الصبية وإغرائها على الفرار معك، ولكني أؤمل أن لا تقترن بها، فإن بين نسبيكما ودرجتيكما بونا عظيما، وفوق ذلك فإني توفقت ووجدت لك عروسا موافقة، فأسرع بالعودة ودع تلك الفتاة تعود إلى منزل أبيها.
فسقط الكتاب من يدي مما نالني من الضعف، وقلت له: على ماذا عولت؟ - على أن ننتظر. - ماذا تنتظر؟ - موت أبي، فإني أعرف طباعه، فإذا عصيت له أمرا فهو يحرمني من إرثه لا محالة.
ثم تركني وانصرف ضاحكا كأن لم يكن شيء.
ومن ذلك اليوم ابتدأت أن أعلم أنه يريد أن يتخذني خليلة له لا حليلة، فأصبت بحمى ضعضعت حواسي أياما طويلة، ثم نقهت من دائي فذهبت من يوم برئي إلى كاهن، واعترفت له بجميع ما كان، فأملني بعفو الله عني، وأمرني أن أغادر هذا الرجل وأن أعود إلى أبي، فخرجت من حضرته وقد عزمت على أن أمتثل لأمره، وذهبت إلى منزله فأخبرته باعترافي إلى الكاهن، وبعزمي على الرحيل، فلم يحفل بطلبي وقال لي ببرود: إلى أين؟
فأنست من سؤاله عدم الاهتمام، وثارت بي الأنفة والأبوة، فقلت بعظمة وكبرياء: إني سأذهب إلى بيت أبي.
فتصنع الاضطراب وقال: أبوك؟
قلت: نعم أبي، وهو سيصفح عني ويغفر لي ذنبي لا ريب متى علم كيف كان خداعك لي.
فتنهد وقال بصوت الحزين الآسف: وا أسفاه! إني أكتم عنك من زمن طويل أمرا لم أكن أجسر على إطلاعك عليه لرقة عواطفك، ولخوفي عليك من تأثير الأحزان، ولكني لا أجد الآن بدا من إيقافك على ما كنت أكره أن أوقفك عليه؛ لأنك عزمت عزما ثابتا على فراقي.
ثم أخذ من جيبه كتابا عليه إطار أسود وقدمه لي، فأغمي علي بعد أن اطلعت عليه، وكان هذا الكتاب - وا أسفاه - ينعي أبي الذي مات من الحزن لأجلي، والذي لم يقتله سواي.
قالت هذا واتكأت على صدر أرمان تبكي بكاء مؤلما، فجعل يعزيها ويلاطفها إلى أن هدأت ثورة أحزانها، فعادت إلى تتمة حديثها فقالت: قلت لك إن أبي قد مات ولم يكن لي سواه في هذا العالم، فمذ رأيتني فريدة شريدة لا ملجأ لي ولا نصير غير أندريا الذي كان حبه لا يزال متمكنا من قلبي، رجعت عن سابق عزمي، وعولت على البقاء معه، وأنا أرجو أن يرق لمصابي ويفي بوعوده لي، فصرفت الشهور الأولى من حدادي وهو يتودد إلي ويعاملني بلطف وحنان، ولكنه لم يلبث بعد حين أن غلبه الطبع وعاد إلى معاملتي كخليلة، فقطعت كل رجاء، وعلمت أني كتبت أمالي على صفحات الماء.
وربما كان يحبني، ولكن حبه لي كان أشبه بحبه لكلبه أو لحصانه أو لمتاع يملكه، ثم أدركه الملل فجعل حبه يتلاشى شيئا فشيئا إلى أن زال تماما، وقام مقامه الجفاء والقسوة.
ولا بد أنك تستغرب بقائي على حبه بعد ما ظهر لي من قسوته، وبعد ما تيقنته من جفائه، فإني كنت معه على حد قول الشاعر:
أدعوه إلى هجرة قلبي فيتبعني
حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
ولكنه كان يزدني جفاء في كل يوم، وآخر ما كان منه أنه علق ببائعة زهر لقيها على باب أحد المراسح فشنفت قلبه، وانقطع اليها حتى سئمت الحياة، وعزمت عزما ثابتا على الهرب، ولكن كيف أفر؟ وإلى أين؟
6
ولا بد لي قبل أن أذكر لك أمر فراري أن أوضح لك شيئا عن أخلاق هذا الرجل وشراسته، فمن ذلك أنه اختصم يوما مع ضابط نمساوي فآل بهما الأمر إلى المبارزة.
وكان من شروط المبارزة أن يكون لكل من المتبارزين الحق بالإطلاق على خصمه متى شاء، فأطلق الضابط أولا فلم يصبه، فصرخت الشهود بأندريا كي يطلق النار، ولكنه لم يصغ إليهم بل تقدم إلى خصمه - وقد أيقن من فراغ غدارته - حتى صار منه على قيد خطوة، فوقف الضابط مكتوف اليدين باسم الثغر، ولكن ذلك اللئيم لم يتأثر لتلك البسالة، بل تقدم منه أيضا إلى أن وضع غدارته بصدره، وقال: إنك لا تزال بريعان الشباب، وسيكون حزن أمك عليك شديدا.
ثم قهقه ضاحكا وأطلق عليه الرصاص، فسقط المسكين يخبط بدمائه.
وقد كان مولعا بالقمار وفاتحا منزله للمتقامرين، فكان كثير التوفيق يربح في كل يوم أرباحا عظيمة، ولكن حظ المقامر لا يدوم ولا يثبت على حال.
وقد اتفق يوما أنه خسر مبالغ طائلة أربت على كل ما ربحه، فانصرف جميع المدعوين، ولم يبق منهم إلا البارون سبولتي، وهو كثير العناد في اللعب شديد الحظ فيه، فأقام يلعب وحده مع أندريا.
وكان أندريا قد امتقع وجهه، وأخذ العرق البارد يتصبب من جبينه؛ لفرط ما خسر في تلك الليلة المشئومة، فكان يلعب بحدة ويأس، بعكس البارون الذي كان يلعب بمنتهى البرود كمن هو واثق من حظه.
وكان قد ذهب أكثر الليل فلم يبق أمام أندريا سوى ورقة واحدة بألف فرنك فخسر، ولما لم يعد لديه شيء، وأحس بعزم البارون على الانصراف قال له: أيها البارون إن الدراهم قد نفدت مني، ولكن أبي وافر الغنى، وإني أريد أن تلاعبني على الشرف بمائة ألف ريال فقط.
فتململ البارون، ولكنه خشي أن يسيء إليه برفضه بعد كل ما كسب منه، فقبل بذلك على شرط أن يلعب دورا واحدا بلعبة «الكاراتيه»، فبرقت أسرة أندريا بأشعة الأمل، وأخذ الورق وقدمه لخصمه.
وإني لم أجد أشد هولا من هذا اللعب، ولا أعظم خطرا على أندريا من خسارته فيه، فإن شرفه كان متعلقا على الخسارة أو الربح؛ لأنه كان على ثقة من أن أباه لا يمده بشيء، وإذا خسر ولم يدفعه في اليوم الثاني حسب القواعد المقررة في المقامرة، فإنه يخسر شرفه وتسقط حرمته عند أشراف ميلان.
فأخذ البارون الورق وخلطه جيدا، ثم شرعا في اللعب، فربح أندريا في مرتين أربعة أعداد، ولم يبق عليه إلا عدد واحد ليربح، فخسر ذلك العدد، وربح في الدور الثاني أيضا فتساويا في الأعداد، وأصبح كلاهما في حاجة إلى عدد واحد، ولكن الأرجحية كانت للبارون لأن الورق كان بيده، فنظر إليه أندريا نظرة النمر المفترس وقال: ألا تريد أن نوقف اللعب ونؤجله إلى الغد؟ - لا حاجة إلى ذلك.
ثم خلط الورق وأعطاه، وبعد ذلك رمى ورقة إلى الأرض فكانت «الروا» وعدده واحد في قاعدة هذه اللعبة، فربح البارون ونهض يقول: إنك مديوني أيها الفيكونت بمائة ألف ريال.
فقال أندريا بصوت متهدج من اليأس: لنلعب أيضا أيها البارون، فإني كثير الغنى. - لم تسبق لي عادة أيها الصديق أن ألعب مرتين على الشرف، وفوق ذلك فإن الصباح قد طلع وأنا في حاجة إلى النوم.
فسكت أندريا وكأن الصاعقة انقضت على رأسه، ثم جعل ينظر بجمود إلى البارون وهو يجمع ذهبه وأوراقه، وأنا أراقبه حتى خشيت عليه من تأثيرات اليأس.
وبينما أنا أنظر إليه فاكرة في مصيره، وأكاد أذوب إشفاقا عليه؛ إذ رأيت عينيه قد برقتا بأشعة من الأمل، واستحالت هيئته بغتة من القنوط إلى البشر، فاعتذر إلي لكونه اضطرني إلى كثرة السهر ، وقام يشيع البارون.
وكان جميع الخدم نياما، وأنا وحدي ساهرة، وقد نالني من اليأس لخسارته نفس ما ناله، فلم يمض خمس دقائق حتى عاد إلى المنزل وعيناه تقدحان بشرر الغيظ، فرأيت بإحدى يديه خنجرا مصبوغا بالدماء، وباليد الثانية محفظة وبها جميع ما كسبه البارون تلك الليلة الهائلة، فصرخت من الرعب، وهربت من ذلك المنزل التعيس بغير أن يراني، فعثرت وأنا أعدو في الحديقة بجثة البارون القتيل، فزادني ذلك رعبا على رعبي، وأسرعت في العدو وأنا لا أعلم أين أسير، إلى أن بلغت للكنيسة التي رأيتني منطرحة على بابها، وكان ما كان من أمر إنقاذك إياي ومسيري معك.
فقال أرمان: قد علمت الآن ذلك السر في يأسك أيها الملاك المعبود، وعلمت لماذا تلحين في طلب الفرار. - كلا، فإنك لم تعلم بعد كل شيء، فإن هذا الشقي قد علم بإقامتنا في فلورانسا، وبعث إلي بهذه الرسالة الوجيزة وهي: «ارجعي إلي حالا، وإلا فإن عاشقك الجديد مقتول لا محالة.» يريد به أنت، فهل علمت الآن السبب الذي دعوتك لأجله إلى مغادرة فلورانسا؛ لأننا لو بقينا فيها لكان قتلك، فهو ذو قلب لا يعرف الرحمة، والآن فإنه يجب علينا أن نترك روما أيضا؛ لأنه عالم بوجودنا فيها.
ثم طوقته بذراعيها وقالت له بحنان: لنهرب أيها الحبيب، لنفر من ذلك القاتل. - كلا، لا نفارق أبدا روما، وإذا جسر على الدخول إلى هذا المنزل، فإني أريك كيف أقتله.
فاختلجت مرتا كالورقة تحركها رياح الخريف، وجعلت تنظر إلى أرمان نظرة ذهول، فأخذ ساعته من جيبه ونظر فيها ثم قال: إني ذاهب الآن لقضاء بعض المهام، وسأعود إليك بعد ساعة فأسهر على عتبة بابك، والويل لذلك الشقي إذا جسر على الدنو من هذا المكان.
قال ذلك وخرج عاجلا وجهته نهر التيبر، وفيما هو خارج لقي الخادمة مرتي، وهي عجوز كهلة أقامها في خدمتها لحراستها، فقال لها: أسرعي إلى سيدتك، واقفلي الباب جيدا، ولا تفتحي لأحد على الإطلاق، فإن معي مفتاحا.
فانحنت الخادمة وذهبت، ولكنها لم تكد تبلغ المنزل حتى سمعت صفيرا سريا، فولجت الباب، وبدلا من أن تقفله كما أمرها مولاها تركته مفتوحا.
وكانت تلك الليلة حالكة الظلام، والشارع خاويا خاليا من المارة، فلما دوى ذلك الصفير ظهر على إثره رجل كان يمشي الهوينا إلى أن بلغ المنزل، ففتح الباب ونادى بصوت منخفض «فلورينا»، فأجابت الخادمة: ها أنا. - وها أنا قد أتيت. - على الرحب والسعة فإنه قد ذهب، ولكنه سيرجع. - لا بأس، فإن الوقت فسيح لدينا، وقد هيأت العربة فلم يبق علينا إلا العمل.
ثم أخذ كيسا من جيبه وأعطاه إياها على سبيل المكافأة، فشكرت فضله، ودعت بالتوفيق، ثم تركت المنزل وهربت.
أما هو فإنه صعد السلم إلى غرفة مرتا فطرق الباب ثلاثا، ولبث ينتظر بسكينة أن يؤذن له بالدخول.
فاضطربت مرتا إذ علمت أن الطارق لا يمكن أن يكون أرمان؛ لأنه لم يحن وقت إيابه، ولا الخادمة؛ لأنها اعتادت أن تدخل بغير استئذان، وفيما هي مضطربة حائرة لا تعلم ما تعمل، إذ فتح الباب، ودخل ذلك الرجل فصرخت صراخ القانط، ورجعت إلى الوراء كأنها رأت الشيطان بصورة ذلك الإنسان.
أما هو فلم يبال بهذا الاضطراب، ولم يكترث بما لقيه من انذعارها، بل إنه خلع رداءه، وتقدم منها فقال: هذا أنا.
فقالت بصوت مختنق: أندريا! - نعم، أندريا فما الموجب لعجبك.
فرجعت أيضا إلى الوراء منذعرة، ولم تحر جوابا، فدنا منها وقال لها ببرود: أيتها الحبيبة، إنك هربت مني بسبب بسيط دلني على ضعف قلبك وشدة طيشك، وكان يجب أن تعلمي أنك إذا تركت الفيكونت أندريا فهو لا يتركك؛ لأنك تعلمين أنه من الذين لا يدعون خليلتهم تفر منهم إلى رجل عامل لا ثروة عنده ولا رزق له إلا من شغل يديه.
وكان أندريا في الخامسة والعشرين من عمره، أشقر الشعر، ربعة القامة، جميل الطلعة، قوي الأعصاب، فدنا منها وهي منطرحة على المقعد بين حية وميتة، وقال لها بلطف: هيا بنا أيتها الحبيبة، فإنك لا تعلمين أني لا أزال على ما كنت عليه من حبك.
ثم أخذ بيدها، فنفرت وأفلتت منه وهي تصيح به: اذهب من هنا.
فقال لها بصوت المتهكم: إن ذهابي لا بد منه، ولكننا نذهب سواء؛ لأني ما أتيت إلا لأجلك، وقد شدت لك قصرا في نابولي، فهلم بنا إليه نقيم على رغد العيش ونعيم الحياة.
فرجعت مرتا منذعرة إلى أن لصقت بالحائط، وقالت: كلا، ذلك لا يكون فاذهب عني لأني أبغضك. - ذلك ممكن، ولكني أحبك، فالبسي شيئا يقيك البرد وهلمي بنا فإن الوقت ضيق.
ولما رأى منها ذلك النفور، وأيقن أنها لا يمكن أن تتبعه عن رضى، أقبل عليها وحاول أن يحملها بين ذراعيه ويفر بها، فصرخت تستغيث: إلي يا أهل النجدة، إلي يا أهل المروءة، إلي يا أهل العرض!
فلم يجبها غير الصدى، أما أندريا فإنه حملها بين يديه ومشى بها إلى الباب، وفيما هو يسير بها وهي تستغيث ولا مجيب، إذ سمعت وقع أقدام سريعة على السلم، وكأنها علمت أن تلك الخطوات هي خطوات أرمان، فصرخت بذلك الصوت الذي تستغيث به النساء في موقف الخطر: إلي يا أرمان.
فألقاها أندريا على مقعد في ساحة الدار، وتأهب للقاء عدوه الألد.
أما مرتا فإنها لم تنقطع عن الصراخ، ولم تكف عن الاستغاثة حتى بلغ صوتها إلى مسمع أرمان، فهرول إليها كالنمر المفترس.
وقابله أندريا على الباب، فصرخ به أرمان: إلى الوراء أيها المختلس.
فأجابه أندريا بمثل هذا الشتم، ثم جردا خنجريهما، والتحم بينهما القتال، فلم ير أشد هولا من هذه الساعة.
أما مرتا، فإنها لم تر شيئا من هذه المعركة الهائلة؛ لأنها أغمي عليها، ووقعت قرب المقعد الذي كانت عليه جثة باردة بغير حراك، فلم ينتبها إليها، وشغلا عنها بما هما فيه، وكذلك الجيران والمارة فإنهم كانوا يسمعون صراخ المتقاتلين ولا يبالون، شأن سكان إيطاليا في ذلك الزمن؛ لكثرة تعدد مثل هذه الحوادث، ويقولون: ليس من الحكمة أن نتداخل في شئون الغير.
ومر عليهما ساعة وهما في أشد قتال حتى سالت الدماء من جسديهما، وصبغت ثيابهما بلون الأرجوان، فكانا إذا تعبا من الصدام يفترقان برهة وهما يلهثان لخفوق قلبيهما، وكلاهما ينظر إلى الآخر بعين الأفعى، ثم ينقضان على بعضهما انقضاض الكواسر، وما زالا يتراوحان بين النصر والفشل إلى أن لاحت فرصة لأندريا، فطعن خصمه بخنجره طعنة وقعت في عنقه؛ فسقط على الأرض لا يعي، وهكذا انتصر أندريا على أرمان، وأسرع إلى مرتا وهو مخصب بالدماء، فحملها بين يديه وخرج بها مسرعا فرحا وهو يقول: ظفرت بها وهي لي.
7
يوجد في باريس شارع عظيم بالقرب من مونتمارتر يدعى شارع بريدا يجتمع إليه الناس على اختلاف طبقاتهم، ومنازله مختصة بأرباب الحرف وبعض المتمولين، وكان يحيي به في أكثر الأحياء ليالي رقص عمومية يحضرها من يشاء بأزياء مختلفة، وبراقع على الوجوه يراد به التستر والخفاء، جريا على عاداتهم في مثل هذه الحفلات.
وقد غص في أحد الليالي منزل أحد المصورين بالناس، من مدعو وطفيلي، فدار الرقص والتفت الخصور وترنحت القدود على أطيب الألحان.
وإن بين أولئك المدعوين شابا مرتديا بملابس سوداء، وعلى وجهه برقع كان ينظر إلى تلك الحفلة نظرة الازدراء، وهو واقف على شرفة تطل على الطريق، لاه عن الرقص وبهجة ذلك المجلس بتأملات عميقة، وتصورات كان يجسمها التأثر فيخرجها صوتا متقطعا، بحيث لو دنا منه رقيب لسمع كل ما يقول.
وكان ينظر إلى منازل باريس وقصورها الباذخة بملء السويداء، وهو يقول بصوت منخفض: «هكذا تمر الحياة، وتسير بنا الأيام، وكلنا نسعى وراء السعادة، ونجد في أثر النعيم، ولا ينال من ذلك إربا ولا تقضى له لبانة. ارقصوا أيها المغترون، فإنكم لا تزالون في عنفوان الشباب ونضارة العمر، ولم تصلوا بعد إلى متاعب الحياة. افرحوا واضحكوا فإنكم لا تهتمون بغير أنفسكم، وأعينكم غافلة عن إخوانكم الذين يتعذبون ويبكون.
يا مدينة باريز العظمى، ويا ملكة العواصم، ويا أم البلاد، فيك اجتمع النعيم والهناء، وبساحتك استقر البؤس والشقاء. هنا النعيم طالع، وهناك البؤس مخيم، وأمامي الحظ مقيم، وورائي الكد عامل، وعن يميني أغاني السعداء وابتسام المحبين وأحلام الآمال الذهبية، وعن يساري بكاء المنكودين وشقاء الأرامل والأيتام وأنين الموجع ودموع ابن السبيل.
هنا ضجيج مركبات الموسرين، وهناك عويل المظلومين، وصوت سياط الجائرين، وقلقلة مفاتيح السارقين. أيتها المدينة العظمى لقد حويت وحدك من الفضائل والرذائل أكثر مما حوته جميع ممالك الدنيا! يا بابل القديمة ويا مرسح الوقائع الهائلة، لقد عجزت شرائعك عن معاقبة الجانين، وعجز أولو البر فيك عن إغاثة المساكين؛ فلا عوقب المسيء ولا كوفئ المحسن، فمن لك برجل موسر طاهر الأخلاق يغل يد الظالم، ويجبر قلب البائس، ويرثي لدمع الأرملة، ويحن لشقاء اليتيم؟ أواه ومن لي بالمال؟ فلو كنت مثريا لكنت ذلك الرجل.»
وقال ذلك ثم تنهد تنهدا طويلا، وحاول الدخول إلى ساحة الرقص فاعترضه أحد الرقاصين، وكان متسترا بثوب أيكوسي وقال بلهجة سخرية: عفوا يا سيدي، فإني أرى تشابها بين أخلاقك وثوبك المقتم.
فلم يكد يسمع الشاب صوت الأيكوسي حتى اختلج فؤاده واضطرب، ووقف مصغيا إلى حديث الأيكوسي، وقد تبين له أنه سمع هذا الصوت في موقف شديد، فقال الأيكوسي: يخال لي أني سمعتك تحدث نفسك بأحاديث جليلة الفائدة. - ربما. - ألم تقل فيما كنت تحدث به نفسك، أنك لو كان لك مال لكنت ذلك الرجل؟ - نعم، يوجد مهمة عظيمة لا يستطيع أن يتولاها في هذه المدينة الرحبة إلا من كان كثير المال. - أنا لها، فإن أبي أصبح على أهبة الموت، وسيدع لي بعد موته دخلا سنويا يزيد على المليون. - أنت؟ - نعم أنا. - إذن انظر إلى هذه المدينة التي بلغت إلى أضعاف ما بلغته بابل من العظمة. انظر إليها تر الذنوب تحتك بالفضائل، وأصوات الضحك تقترن بأنات البكاء، وأغاني الحب تمتزج بدموع اليأس، والقاتل السفاك يمشي على الأرض التي يمشي عليها الورع الشهيد، ألا تظن أن الرجل الحاذق الموسر يقدر أن يفرق بين هذه الأضداد؟
فنظر إليه الأيكوسي وقال له بصوت الهازئ: لقد أصبت فيما تقول، فإن من كان مثريا في هذه المدينة يعمل بها ما لا تقوى على عمله الأبالسة، فإن بها كثيرا من النساء تغري، وكثيرا من البنات تباع وتشرى، ولا أسهل على صاحب الثروة من أن يغري الفتاة التي تشتغل الليل والنهار لكسب درهم تنفقه على طعامها إذا أراحها من عناء هذه الأشغال بما ينفق عليها من المال، ولا أقرب إليه من إفساد ذلك الشاب الذي يعيش من عرق الكد والعمل أن يشتريه بالذهب الوضاح، والمرء ميال إلى الراحة مفطور على الكسل. هذا الذي أفهمه من هذه المهمة، وهذا ما كنت أجريه بفضل أموالي، لو لم أكن في غنى عنه بما هو موفور لدي من أسبابه.
وكان هذا الرجل مرتديا بثوب يمثل دون جوان، وهو رجل شهير بالفساد، فأتم حديثه يقول: ولا جرم إذا كنت أصرف اهتمامي إلى مثل هذه الشئون، فأني أمثل دور صاحب هذا الثوب التي لا تجهل سيرته، فلا فضيلة عندي إلا ما تعتقدونه رذيلة، ولا خيانة إلا ما تتوهمونه شرفا وصدقا، فإن الملاذ خلقت لي فوجب علي أن أتمتع بها وأسعى وراءها، وما الشرف والمروءة والفضائل غير أحاديث أوهام. قال هذا وهو يضحك ضحك الساخر، ثم أزاح البرقع عن وجهه، فرجع ذلك الشاب منزعجا إلى الوراء وصاح قائلا: أندريا!
فقال الفيكونت، وكان هو أندريا بعينه: نعم، أنا هو فهل تعرفني؟ - ربما. - إذن، أزح البرقع عن وجهك، عسى أن أعرف من أنت كما عرفت من أنا. - لم يحن الوقت بعد، وستعرفني عند العشاء. - لماذا؟ - ستعلم ذلك فيما بعد.
ثم تركه ودخل إلى قاعة الرقص، فتبعه أندريا وهو يقول: عجبا! يخال لي أني سمعت هذا الصوت ولا أذكر أين!
وبعد ذلك بهنيهة جلس جميع الحضور على المائدة، ورفعوا البراقع عن وجوههم حسب العادة المألوفة عندهم، فلم يبق منهم واقفا ومستترا غير ذلك الرجل الذي كان يحادث أندريا على الشرفة.
فاستغرب الجميع وقوفه وتستره، وقالت إحدى النساء: نحن على المائدة الآن، فاجلس وأزح البرقع. - لم يحن الوقت يا سيدتي، فإني آليت على نفسي أن لا أعلمكم بنفسي قبل أن أقص عليكم حديثا محزنا مؤثرا. - أتقص أحاديث الحزن في مثل هذا المقام؟ - ولكنه حديث غرام. - إذا كان حديثك عن الحب فلا بأس، فإن حديث الغرام شائق كيف كان. - ولكنه محزن يا سيدتي، وإني أخشى أن لا يقع منكن موقع القبول، أو يكون له عليكن تأثير.
فصرخ الجميع قائلين: لا بأس، قل.
فاسترعاهم السمع وقال: أنا صاحب هذه السيرة التي سأقصها عليكم، وقد جرت تلك الحادثة لي منذ سنين عندما كنت في ربيع شبابي ونضارة عمري، ذلك أن من الشبان من يعشق كثيرا من النساء فيتصبى الواحدة حتى تحسبه أسير غرامها، ويهيم بالثانية حتى تخاله قتيل هواها، يحن إلى هذه فتظنه وقع في شرك حبها، ويتشوق إلى تلك فلا تشك أن الوجد قد ملك قياده وصيره لها عبدا، أما أنا فإني لم أحب إلا امرأة واحدة حبا طاهرا مقدسا، وكانت أول مرة دخل فيها الحب إلى قلبي لم أكن أحبها حبا، بل أعبدها عبادة.
وكانت معرفتي بها أني رأيتها في إحدى الليالي المظلمة راكعة على عتبة باب الكنيسة تبكي وتستغفر الله عما جنته باستسلامها إلى شاب عشقته فخانها، وهربت إذ تبين لها أنه مجرم لص سفاك.
فارتجف أندريا عند سماعه هذا الكلام، أما الشاب فلم ينتبه إليه بل اندفع في حديثه فقال: وقد أراد ذلك السفاك أن يسلبني إياها بعدما بحث وعلم أنها عندي، فدخل إلى منزلها دخول السارق، وبينما هو يحاول أن يفر بها وهي تصيح وتستغيث، إذ دخلت أنا وهي مغمى عليها بين يديه.
فتطاعنا بالخناجر، ولا أذكر شيئا مما كان بيننا، ولا كم دامت تلك المعركة الهائلة، بل أذكر أنه طعنني بخنجره طعنة سقطت على إثرها لا أعي، ولم أستيقظ إلا بعد ساعتين فوجدت نفسي غريقا في بحر من الدماء، وذلك السفاك قد هرب بمن أحب.
قال هذا ونظر إلى أندريا، فرآه أصفر الوجه، والعرق ينصب من جبينه، فعاد إلى حديثه فقال: ولبثت ثلاثة أشهر أقاسي عذاب النزع، وأنا بين الموت والحياة، ولكني كنت في عنفوان الشباب فتغلبت قوى الشبيبة على تلك الحمى التي كدت أصل بها إلى الموت، وشفيت من مرضي، فقمت أطوف البلاد باحثا عمن عشقتها نفسي وعن خاطفها، ذلك اللص الذي كاد ينزع حياتي بنزعها مني.
وما زلت أطوف حتى التقيت بها في منزل حقير بقرية من قرى إيطاليا وحيدة شريدة، وقد غدر بها وتركها بغير مستقبل وبغير مال، فماتت وا أسفاه بين يدي، وهي تبتهل إلى الله، وتسأل لقاتلها الغفران.
ثم أجال نظره بين الحضور الذين كانوا محدقين به كأن على رءوسهم الطير، وقد ذهب الضحك من أفواههم وتقطبت وجوههم، فقال: والآن، فإن هذا الرجل، بل هذا اللص، بل هذا السفاك، قد لقيته هذه الليلة منذ ساعة، وآن لي أن أنتقم لتلك المرأة التعيسة ولنفسي. نعم، لقيت هذا الخائن فهو هنا بينكم.
ثم أشار بيده إلى أندريا وقال: وهذا هو.
وبينما أندريا يثب عن كرسيه إذ أماط الشاب اللثام عن وجهه، فصرخ جميع الحضور: هذا أرمان النقاش.
أما أرمان فإنه لم يبال بانذهالهم، بل نظر إلى أندريا، وقال بصوت يتهدج من الغضب: أندريا هل عرفتني؟
وفيما جميع الحضور منزعجون يتوقعون عراكا هائلا بين الاثنين، إذ فتح الباب وولج منه رجل كهل بملابس سوداء، فتقدم إلى أندريا دون أن ينظر نظرة إلى الحضور، وقال له: سيدي الفيكونت، إنك تعلم اشتداد وطأة المرض على أبيك الكونت فيليبون، وهو الآن على فراش الموت يريد أن ينظرك النظرة الأخيرة؛ لينال تعزية لم تنلها سيدتي والدتك.
فاغتنم أندريا هذه الفرصة للتخلص من موقفه الحرج، ونهض فودع الحاضرين بالإشارة فمشى.
أما ذلك الشيخ الذي جاء يخبره عن نزاع أبيه، فإنه مشى في إثره، وفيما هو يجيل نظره في الحاضرين إذ لاحت منه التفاتة إلى أرمان، فرجع إلى الوراء منذهلا وقال: إلهي! ماذا أرى؟ إن هذه حقيقة رسم الكولونيل أرمان دي كركاز! •••
أما الكونت فيليبون والد أندريا، فقد كان منذ ساعة مضطجعا على فراش الآلام، وبالقرب منه خادم كهل قوي الأعصاب يهيئ له دواء.
فكان الكونت يقول لذلك الكهل: إني سأموت يا بستيان، ولم يعد لي بالحياة أقل مطمع، فهل شفيت غلك من الانتقام؟ إنك بدلا من أن تقودني إلى المشنقة، وكان ذلك ميسورا لك ولم يزل بوسعك، آثرت أن تكون دائما بقربي لأذكر بمرآك سابق أيامي، فكنت تجلني بلسانك وتحتقرني بقلبك، وتدعوني بمولاك وأنا لا أشعر بعذاب أشد هولا من هذه الكلمة. ألم يرتو غلك إلى الآن؟ ألم يحن لك يا بستيان أن تعفو عن ذنبي الذي عوقبت فيه على الأرض، وسأجزى عنه في السماء؟
فقال بستيان: كلا يا مولاي، إن صوت ذلك الكولونيل لا يزال يصيح بك: «أيها التعيس، لماذا تزوجت بامرأتي؟» - ماذا تريد مني أيضا؟ فإنك تراني أموت وليس بقربي أحد، حتى ولا ولدي. - أريد أن أنتقم لتلك المرأة الفاضلة التي ماتت دون أن تتزود من وداع ولدها. أريد أن تموت أيضا كما ماتت دون أن تنظر ولدك.
فاجتهد فيليبون أن ينهض من فراشه وهو يقول: ولدي ... أريد أن أرى ولدي.
ولكن الضعف كان يمنعه، فلم يستطع حراكا.
فأجابه بستيان: إن ولدك متبع أثرك، وهو مثلك فاسد الأخلاق بذيء الطباع، يرتكب كل منكر ومحرم، ولكنه ولدك، ويسرك فيما أظن أن تنظر إليه النظرة الأخيرة قبل الموت.
فانهالت دموع الحنان من عيني فيليبون، وقال: ولدي ... دعني أنظر ولدي. - إنك لن تراه أبدا، فهو غائب عن القصر، ولا أحد يعلم أين هو سواي، فلا تطمع بمرآه. - بستيان، أليس بقلبك رحمة؟ - لا تذكر الرحمة، أو قل أين كان قلبك عندما قتلت الكولونيل وابنه وامرأته؟
فتنهد فيليبون تنهد مجرم أجبر على الإقرار، وقال: نعم، إني قتلت أرمان دي كركاز بالرصاص، وقتلت امرأته التي صارت امرأتي من بعده بالحزن وسوء المعاملة، أما ابنه ... - أتنكر أيها الخائن أنك ألقيته عن سطح المنزل إلى البحر؟ - لا أنكر، ولكنه لم يمت. - كيف ذلك؟ ألم يمت؟ - كلا، فقد أنقذه الصيادون وذهبوا به إلى إنكلترا، وبعد أن ترعرع ذهب إلى إيطاليا، ومنهما عاد إلى فرنسا، وقد عرفت ذلك منذ ثمانية أيام. - أين هو الآن، وكيف عرفت ذلك؟
فانقطع صوت فيليبون وقد بلغت روحه التراقي، فدنا منه بستيان، وقال بصوت الآمر: قل كيف عرفت ذلك، وأين هو؟ - عندما خرجت المرة الأخيرة أتنزه، لقيت وأنا في المركبة، شابا يبلغ الثلاثين من العمر يمشي على مهل، وكانت المركبة تسير بي سيرا بطيئا، فتبينت وجه ذلك الشاب، فرأيته يشبه أرمان دي كركاز شبها تاما ضاع له رشدي، فتبعته وبحثت عنه، فعلمت أنه نقاش، لا يعلم من أمر مولده سوى أن الصيادين أنقذوه من الأمواج، وأنه كان يدعى أرمان.
فقال بستيان وقد طار فؤاده شعاعا لهذا الخبر: أيها التعيس، إذا أحببت أن ترى ابنك، وأن لا يدنس اسمك بما عندي من البراهين، فأرجع تلك الثروة التي تتمتع بها إلى ذلك الشاب، واكتب بيدك أنك سرقتها منه، وأنا أجده. - لا حاجه إلى ذلك؛ إذ لا يحق لي أن أرث أرمان دي كركاز إذا كان ابنه حيا، فما عليه إلا أن يظهر حقيقة مولده، فيرجع إليه الشرع ذلك المال. - ذلك لا ريب فيه، ولكن كيف يتسنى له أن يثبت كونه ابن كركاز؟
فأشار فيليبون بيده إلى صندوق أمامه، وقال: إني لما رأيتني على فراش الموت تذكرت سابق أيامي، فندمت على ما فرط مني، وكتبت تاريخ ذنوبي مضيفا إليه جميع الأوراق التي تثبت نسب أرمان؛ ليكون هذا الإقرار كفارة عن ذنبي.
فأخذ بستيان الصندوق، وأعطاه لفيليبون ففتحه بيد ترتجف، وأخذ منه ملفا من الورق فأعطاه لبستيان.
أما بستيان، فإنه أخذه والفرح ملء فؤاده، وقال: طب نفسا فسأجد الولد، والآن فإني أسامحك عما أذنبت به إلي، وسترى ولدك.
ثم تركه وانصرف فركب في مركبة، وقال للسائق: أسرع إلى فندق بيكال. (وهو المنزل الذي كانت فيه حفلة الرقص.)
وبقي فيليبون وحده يقاسي ألم النزاع وهو يلتهب شوقا لرؤية ولده، فلم يمر على انتظاره ساعة حتى فتح الباب ودخل أندريا وهو بالملابس التي وصفناها، وكأنما الله اراد أن ينهي حياة هذا المجرم بالعذاب، فإنه لم يكد يرى ابنه بملابس الرقص حتى أدار وجهه إلى جهة الحائط، فتأوه وأسلم الروح قبل أن يتمكن ابنه من الوصول إليه.
فأخذ أندريا يده فلقيها باردة، فوضع يده على قلبه فوجده بغير حراك، فابتسم وقال: ها قد مات أخيرا، وصارت لي وحدي تلك الأموال.
ولم يكد يتم عبارته حتى فتح الباب ودخل منه اثنان، أحدهما بستيان والآخر أرمان، فنظر إليه بستيان شذرا، وقال: إن هذه الأموال ليست لك، بل لك السجن الذي ينتظره أولاد مثل أبيك أيها التعس، فاعلم الآن أيها الفيكونت، أن أباك قد قتل زوج أمك الأول، ثم رمى بأخيك الأكبر إلى البحر وهذا هو أمامك. أما أبوك، فقد ندم وهو على فراش الموت على ما اقترفه من الذنوب، فأرجع الأموال المسلوبة إلى صاحبها، وأما أنت فلست الآن في منزلك، بل في منزل أرمان دي كركاز؛ فاخرج من هنا.
فنظر أندريا نظر الباهت المنذهل إلى أرمان، فأخذه أرمان ومشى به إلى شرفة تطل إلى الطريق فقال: انظر إلى باريس التي أردت أن تستخدم ثروتك بها لإغراء النساء وإضلال الرجال، أما أنا وقد رجعت إلي تلك الثروة، فسأنفقها لخير الأعمال، فاخرج الآن من هنا فإني سأجتهد أن أنسى كوننا ابني أم واحدة، كي لا أذكر إلا ذنوبك وتلك المرأة التي قتلتها، فاذهب من هذه المدينة واحذر أن أراك.
فمشى أندريا، وقد شعر بالغلبة، إلى أن بلغ الباب، فالتفت إلى أخيه وقال: إن الأيام بيننا، فإذا أردت أن تكون مثال الفضيلة، فسأكون رسول جهنم على الأرض، وستكون باريس معترك القتال.
ثم خرج وهو يضحك ضحك اليأس، ويتهدد السماء بقبضتيه.
الإرث الخفي
(1) السير فيليام
كان في إحدى ليالي ديسمبر الباردة رجل ملتف برداء طويل، يمشي على رصيف سانت بول بالقرب من القلعة غير مبال بالبرد وبما كان يهطل عليه من المطر، وكان يقف من حين إلى حين ينظر إلى النهر السائر بالرياح الشديدة، ويحدث نفسه بكلام متقطع غير مفهوم.
وما زال يمشي إلى أن بلغ إلى منزل بالقرب من فندق لمبرت ذي الستة أقسام بعضها فوق بعض، فوقف عنده ونظر إلى نافذة القسم الأعلى، فرأى عليها مصباحا موضوعا بشكل يدل على أنه إشارة متفق عليها، فنظر إليه هنيهة وقال: ذلك يدل على أن كولار في منزله ينتظرني.
ثم أدنى إصبعيه من فمه وصفر، فانطفأ المصباح للحال، وبعد عشر دقائق أجيب بصفير مثله، فدنا من الباب، وما وقف هنيهة حتى سمع وقع أقدام ضعيفة، ثم تلاها صفير آخر فأسرع إلى لقاء القادم، وقال له سائلا: كولار؟
قال كولار: نعم. - يسرني أنك أمين على الملتقى. - ليس ما يعيقني عن خدمتك، وأرجوك أن تخفض صوتك، وأن لا تدعوني باسمي، فإني إذا عدت إلى ذلك فلا أخرج منه. - إنك مصيب، ولكن الشارع مقفر وليس هنا من يسمعنا. - لا ضرر من الحذر، وأرى أن الأوفق أن نذهب إلى شاطئ النهر فنتحدث هناك باللغة الإنكليزية، فإذا اتفق مرور أحد فهو لا يفهم ما نقوله. - ليكن.
ثم مشى الاثنان إلى جهة النهر، وهما غير مكترثين بالمطر، فقال كولار: متى عدت من لندرا؟ - في الساعة الثامنة من هذه الليلة، وأنت ترى أني لم أضع الوقت، فقل ما فعلت أنت في مدة غيابي؟ - جمعت عصابة على غاية الموافقة، وإن يكن الباريسيون لا يعدلون الإنكليز في مهنتنا، ولكني فعلت ما قدرت عليه، وإننا نقدر أن ندربهم في مدة وجيزة، وستراهم وتفحصهم. - متى؟ - الآن إذا أردت. - هل اتفقت معهم على الملتقى؟ - نعم، وإذا أمرت سرت بك إلى مكان بحيث تراهم واحدا فواحدا، ولا يراك منهم أحد. - حسنا فلنذهب. - ألا تريد أن نتفق قبل الشروع في العمل؟ - لنتفق. - تعلم يا مولاي أني بلغت الخمسين من عمري، فصار يجب علي أن أهتم بأيامي الأخيرة. - هذا عدل، فأظهر شرطك. - إني أطلب 25 ألف فرنك كراتب يدفع لي في كل سنة، وعشرة آلاف فرنك تعطى لي عند النهاية من كل عمل ينجح على سبيل المكافأة. - سيكون لك ذلك. - والآن بقي علي أن أتفق معك على رواتب عصابتي. - إني عرفت أهليتك فلم أساومك، أما عصابتك فإني لا أعرف منها أحدا. - هذا حق. - إذن فلنذهب إليهم، ومتى عرفتهم وخبرتهم أتفق معك على تعيين رواتبهم، ولكن قل لي كم عددهم؟ - عشرة، أليس ذلك بكاف؟ - يكفي الآن، وسنرى فيما بعد.
ثم غادرا ذلك المكان ومشيا، فكان كولار يسير أمام السير فيليام إلى أن بلغا إلى غطة مظلمة في شارع لاتين، فسارا فيها إلى أن وصلا إلى بيت قديم متداع إلى السقوط.
ولم يكن ينبعث منه نور، مما يدل على أنه غير مأهول، فأخذ كولار مفتاحا من جيبه وفتح به باب المنزل، فدخل مع السير فيليام ثم أقفل الباب وراءهما، وأشعل شمعة فأدخل السير فيليام إلى غرفة وقال له: هذا هو المكان الذي تستطيع أن ترى منه رجالي دون أن يروك، من هذا الثقب الموجود في الحائط.
فنظر السير فيليام، ورأى غرفة كبيرة جميلة الأثاث حسنة الظاهر، فسأل: لمن هذه الغرفة؟
فقال له كولار: هذه لرئيس عصابتي كوكيلات، وهو رجل حسن الصيت، وجميع سكان هذا الشارع يحسبونه متمولا متنحيا عن الأشغال، ويغبطونه لسعادته مع امرأته التي اشتهرت عند الجميع بالفضيلة. - حسنا، أين كوكيلات الآن؟ - ستراه عن قريب.
ثم وضع إصبعه بفمه وصفر، ففتح الباب ودخل رجل هزيل يناهز الخمسين من العمر، حاد النظر، مقطب الجبين، فانحنى مسلما، ونظر إلى كولار مستفهما.
فقال له كولار: إن هذا هو الرئيس.
وقال للسير فيليام: هذا هو كوكيلات.
وبعد أن فحصه السير فيليام أشار إلى كولار أن يصرفه.
فقال له كولار: إني ضربت موعدا لرفاقك في الساعة الأولى بعد منتصف الليل، وقد حان الوقت، فاذهب إلى لقائهم، أما أنا فسأبقى هنا مع حضرة الرئيس لقضاء بعض المهام.
فانحنى كوكيلات وانصرف.
أما السير فيليام فإنه جلس مع كولار أمام الثقب، وأقام ينتظر وفود العصابة، ولم يطل مكثهما حتى طرق الباب، وأخذ رجال العصابة يتوافدون تباعا، وكولار يصف كل واحد منهم بين مقامر ومزور وخاطف ومخادع ومفتح أقفال ومسجل وضخم الجثة فتاك، وغيرهم من أبناء الشر والوزر إلى أن أتم عددهم، وبلغ إلى التسعة، وبعد أن استعرض السير فيليام هذه العصابة قاله له كولار: أتريد أن يروك؟ - كلا. - لماذا؟ ألست راضيا عنهم؟ - ليس ذلك، ولكني أحب أن لا يراني أحد منهم، وأن لا تصلهم أوامري إلا بواستطك، وسنبحث غدا في شئونهم، ونجد لكل واحد منهم عملا يوافق مهنته ، والآن إني ذاهب وسأراك غدا في نفس المكان الذي رأيتك فيه هذه الليلة وبنفس الساعة.
ثم ودعه وخرج.
فدخل كولار لمقابلة رجاله، أما السير فيليام فإنه ترك هذا المنزل، واجتاز العطفة المظلمة إلى أن بلغ إلى الشارع، وفيما هو يمشي على مهل وهو مشتت الفكر ساهي البال، إذ سمع صوت سائق مركبة يقول له احذر، فصعد السير فيليام مسرعا إلى الرصيف ونظر إلى داخل المركبة، فاختلجت أعضاؤه وصاح بصوت يتهدج من الغضب قائلا: «أرمان!» أما المركبة فكانت تسير سيرا حثيثا، فلم يسمع ذاك الذي دعاه أرمان نداءه، ولم يتمكن من الانتباه إليه.
فوقف السير فيليام برهة ينظر إلى المركبة وهو يكاد يلتهب من الغيظ، إلى أن توارت عن عينيه فقال: ها قد التقينا أخيرا أيها الأخ الذي يسعى إلى الفضيلة، ويعدو بمثل هذه السرعة إلى مساعدة التعساء، اذهب وأنفق من الذي اختلسته مني، ولكن اعلم أني قد عدت إلى باريس ظمآن إلى الذهب والانتقام.
وفي اليوم الثاني ذهب السير فيليام لمقابلة كولار، فصفر له كما فعل بالأمس، فنزل إليه وسار به السير فيليام إلى ضفة النهر، وقال له: استعد فإن لدينا اثني عشر مليونا. (2) كيرمور
مضى يومان على مقابلة السير فيليام لكولار، الذي خدمه في لندرا خدمات ذكرها له بالشكر، وجعله يثق به ثقة لا مزيد عليها، حصل لهما فيهما ما سيقف عليه القراء في حينه، وقد حدث أن مركبة يدل ظاهرها أنها من مركبات الأمراء وصلت في ساعة متأخرة من الليل إلى قصر شاهق جميل الزخرف، غريب الإتقان، فلم تكد تبلغ إلى ساحة ذلك القصر حتى فتحت أبوابه، وكان مكتوبا عليها بأحرف ذهبية كبيرة: قصر الكونت كركاز.
فدخلت المركبة، وفي ذلك الحين ظهر على السلم رجل كهل بيده مصباح أقبل مسرعا إلى لقاء الكونت، فلما وصل إليه قال له: لقد ابتدأت أن أقلق عليك، فإنك لم تتأخر عن الرجوع إلى المنزل مثل تأخرك في هذه الليلة.
فأجابه أرمان، وقد كان هو بعينه: لا بأس في ذلك يا بستيان، فقد قضت علي بعض المهمات الخيرية أن أتأخر إلى الآن.
ثم توكأ على ذراعه وصعدا سوية إلى المنزل، فسار به بستيان إلى غرفته وقال له: إنك ستنام فيما أظن؟ - كلا يا بستيان، فإني مضطر إلى كتابة بعض رسائل، ولا أؤجل إلى الغد ما أقدر أن أفعله اليوم.
فأجابه بستيان بلهجة أبوية: ولكنك ساع إلى حتفك بقدمك؛ فإن كثرة السهر والتعب تضنيك. - إن الله كريم عادل يحفظ لي قواي؛ لأني أبذلها في خدمته.
وعند ذلك قرع باب الغرفة قرعا خفيفا، ثم دخل رجل يقوده أحد خدم القصر، فوقف أمام أرمان وقال: هل أنا بحضرة الكونت دي كركاز؟ - نعم.
فانحنى أمامه، وأخرج من جيبه رسالة مختومة فقدمها له.
وأخذ أرمان الرسالة وفضها، ونظر إلى التوقيع فلم يجد غير كلمة «كريمور»، وقرأ ما يأتي:
سيدي ...
إنك رجل ذائع الصيت كثير البر، وقد كرست ثروتك الطائلة في سبيل الخير والإحسان، وإن الذي يكاتبك هو رجل ثقل عليه ذنبه، وقد دنت ساعته الأخيرة، ويجب أن يراك لبعض الشئون، وإن الطبيب يقول إنه لم يعد لي من الحياة غير ساعات قليلة، فأسرع إلي فإني سأعهد اليك بمهمة خيرية لا يقوى على القيام بها سواك.
كريمور
فنظر أرمان إلى الرسول وتأمله، ثم قال له: ما اسمك؟ - كولار. - قل من أعطاك هذه الرسالة؟
فتصنع كولار هيئة البله، وقال: إني أسكن في منزل كريمور، وهو الذي أعطاني هذه الرسالة كي أوصلها إليك. - أين يسكن ذلك الرجل الذي أرسلك؟ - في شارع سانت لويس.
وكان الصباح قد كاد يطلع، فلم يبال أرمان بذلك، ولا بتحذير بستيان، بل أمر بأن تهيأ المركبة، ولم يمض على ذلك نصف ساعة حتى بلغ منزل كريمور، وكان كولار يسير بصحبته فنزل من المركبة، وسار بأمان في فناء المنزل إلى أن وصلا إلى غرفة المريض، ورأى فيها رجلا هزيل الجسم، نحيل الأعضاء، أصفر الوجه، مضطجعا في سريره يتقلب عليه من الآلام، فحيا أرمان بيده وأشار عليه بالجلوس، ثم أمر كولار بالانصراف.
ولما خلا لهما المكان قال المريض: إن مظاهري لا تدل على أني وشيك الموت، ولكن ذلك لا ريب فيه، وقد أكده لي الطبيب. - لا تخف أقوال الأطباء، فإنهم يخطئون.
فتنهد المريض وقال: إنك مصيب، ولكن طبيبي لا يغلط ولا يخطئ، وقد أكد أنه سينقطع لي عرق بعد ست ساعات يكون به انتهاء حياتي، وليس لأجل ذلك دعوتك، بل لأكلفك بقضاء مهمة لا أئتمن عليها سواك، فأرجو أن تصغي إلي. ثم تأوه وقال: إني أدعى البارون كيرماروت وليس لي وريث بعد موتي في عرف الناس والشرع، ولكن قلبي يحدثني أن لي ولدا يرثني من بعدي، ولا أعلم إذا كان ذكرا أو أنثى.
وقد تقدم لي القول أن ليس لي قريب في هذا العالم، فإذا مت فليس من يبكيني، وترجع ثروتي الطائلة إلى دار الأحكام لفقد الوارث.
أما ثروتي فهي عظيمة تكاد لا تحصى، ومصدرها غريب أيضا كغرابة ما ألقاه من العذاب الذي جازاني به الله عقابا عن ذنب هائل اقترفته في صباي.
ذلك أني كنت في سنة 1824 قائدا في الجيش، ولم يكن لي مستقبل غير سيفي، وكانت حرب الإسبان قد ابتدأت، فكانت فرقة الجيش الذي أنا فيه معسكرة في برسلون، وكنت أنا في باريس بالرخصة، فسرت منها مع اثنين من الضباط للانضمام إلى الجيش، وقد كان سفرنا على الجياد، فكنا نبيت في كل قرية نصل إليها عند ظلام الليل.
وإن الليل فاجأنا على بعد مرحلة من تولوز، فلم نجد سوى فندق صغير لجئنا إلى المبيت فيه بحكم الاضطرار.
ولم يكن بهذا الفندق من المسافرين سوى امرأتين قدمتا من بيريناس وفي تلك الليلة، وكانت إحداهما كهلة عجوزا، والثانية في عنفوان الشباب رشيقة القوام وضاحة الجبين غزالة العينين صبوحة الوجه، وقد قدمت مع أمها التي وصف لها الأطباء التجول، فاضطررنا إلى مشاركتهما في الحديث لما اضطررنا إليه من مشاركتهما في العشاء.
ولم تتهيبا منا، وكان لهما مزيد الثقة بنا بالنظر لملابسنا العسكرية، ولم يكن في الفندق غير غرفتين فناما بهما، أما نحن فبتنا في الفناء، وقد اتخذنا من القش اليابس رزما جعلناها وسائد.
وكنا في ربيع الشباب وطيش الصبا، وليس فينا من يزيد عمره على العشرين، فأثرت بنا المدام وهاجنا ما رأيناه من جمال الصبية، فاقترح أحدنا أن نقترع عليها، فقبلنا ذلك الاقتراع ضاحكين، واقترعنا فأصابتني القرعة دون رفاقي.
ولم يكن في الفندق ممن يخشى غير صاحبه، فرشوناه كي يتغاضى عنا، ودخلت إلى غرفة الصبية من النافذة، أما أمها فكانت تعول وتصيح، ولكن صياحها كان يسير في الهواء ولا يسمعه أحد.
وعندما طلع الصباح ذهبت برفاقي، وقد غادرت بالفندق تلك الفتاة مدنسة تعض البنان من الأسف، وتدعو علي الله في خلوتها، ولم أعلم منها سوى أنها كانت تدعى تريزا، وقد رأيت في جيبي بعد فرقها نوطا ذهبيا كانت تعلقه في رقبتها، ولا أعلم إلى الآن كيف وصل إلى جيبي، ولعل السبب في وصوله إلي أنه انقطع عند دفاعها، فسقط في جيبي اتفاقا.
ثم ذهبت ورفاقي إلى برسلونا لننضم إلى الجيش، وفي أول معركة قتل رفيقاي، فأعددت ذلك عقابا لما وإنذارا لي، وكان صوت سري يقول لي: إن الله لم يعاقبك في المعارك إلا ليبلوك بعقاب أعظم.
ثم توالت الأيام ودرجت الليالي، فنسيت ذنبي إلى أن وصلت إلى الثروة، وها أنا مظهر لك كيف وصلت إلي.
ذهبت يوما إلى مدريد فنزلت ببيت رجل يهودي كان يتاجر بالجلد، وقد كان أصل هذا اليهودي فرنسيا هاجر وطنه سنة 1789.
وعندما جعلت سكني في منزله كان مريضا، فاتفق بعد وصولي إليه بيومين أن اشتدت عليه وطأة المرض إلى أن بلغت حدا خشي عليه فيه الموت، ولم يكن يعوله في مرضه غير خادم واحد، فدعا بي إليه يوما عند منتصف الليل، وقد أعياه الداء وبرحت به الآلام.
فهرعت إليه، وجعلت أعينه وأعزيه على مصابه، وهو ينظر إلي نظرة الباهت، إلى أن سألني: ما اسمك؟ - كيرمور دي كيرماروت.
فرجع إليه صوابه عند ذكر اسمي، وخرج بلهجة الفرح والاستغراب يقول: أنت تدعى كيرماروت؟ - نعم.
فرفع يديه إلى السماء، ثم شكر الله وقال: أعطني أدوات الكتابة.
فأحضرت له ما طلب، فكتب بيد ترتجف:
إني أعترف أن كيرمور دي كيرماروت هو وريثي الوحيد دون سواه.
ثم أمضى هذه الوصية وبعد عشر دقائق أسلم الروح.
وقد وجدت بعد موته رسالة بين أوراقه تبين السبب في إعطائي ثروته؛ ذلك أن جدي البارون كيرماروت كان قد أودع في زمن المهاجرة 200 ألف فرنك عند هذا اليهودي، ثم توفي ولم يعلم أين كانت وفاته، وسافر اليهودي إلى إسبانيا فتاجر بمال جدي المودع عنده، وكثرت أرباحه، واتسعت ثروته بفضل ذلك، فرده إلي اثني عشر مليونا، وكنت في الثلاثين من عمري عندما وصلت إلي تلك الثروة الواسعة، فلم تدفعني عوامل الثبات إلى التنعم بها، بل عادت إلي تذكارات تلك الليلة الهائلة، وأصبح تمثال تريزا ممثلا نصب عيني، فأخذت أطوف البلاد باحثا عنها، فلم ألق إلا الخيبة، ولم أظفر بغير الفشل، وقد أدت بي خاتمة المطاف إلى باريس، فاشتريت هذا المنزل الذي أنا فيه فأصابني الله بداء عضال لم تنجح فيه حيلة الأطباء، وسيقضى علي بعد ساعات معدودة.
واليوم عرفت نهاية أجلي من الطبيب على ما أخبرتك، فتمثلت لعيني تلك الابنة المسكينة التي دنستها بنزقي، وحدثتني نفسي أنها لا تزال بقيد الحياة، وقد علمت أنك رجل كثير الخير والإحسان، وأن لديك عمالا وأعوانا يشاركونك في البحث عن التعساء ومساعدة أولي البأساء ومجازاة الأشقياء، فقلت في نفسي إنك الوحيد الذي يجدها ويسلمها تلك الثروة.
فقال أرمان: إني أشكرك لثقتك بي، ولكني أخاف ما يمكن أن يكون اتفق من موت تلك الابنة، وربما لم يكن لك منها ولد، فإن مناجاة الضمير قد تخطئ أحيانا. - إذا كانت الابنة قد ماتت ولم يكن لي منها ولد، فإن ثروتي تكون لك تنفقها في سبل الخير فتكون كفارة عن ذنبي، وأنا أعلم بأنك رجل كثير المال، ولكن ثروتي هي طائلة فإذا أنفقتها على المصابين مع ما تنفقه من مالك خففت من بلوى التعساء وأعانتك على بلوغ أمانيك، والآن فإني أرى على وجهك علائم الانذهال وأراك تشير بالرفض، فبالله لا تضع الوقت في الجدال، وانظر إلى الساعة فلم يعد لي من الحياة في هذا العالم غير ساعات معدودة، فانظر الآن إلى هذا الصندوق الذي هو بقربك، وهذا مفتاحه معلق بعنقي، تأخذه بعد موتي وتفتح الصندوق فتجد فيه وصيتين مختلفتين، إحداهما تثبت أنك أنت وريثي، والثانية تثبت أن تريزا هي الوارثة أو ولدها إذا كان لها ولد، ثم إنك تجد في طي هذه الوصية الأخيرة ذلك النوط الذهبي الذي وقع من عنقها في جيبي في تلك الليلة الهائلة، فإذا فتحته تجد فيه خصلة من الشعر وصورة امرأة هي صورة أمها لا ريب، فعسى أن تعينك على وجودها، وليس لدي غير هذا الدليل.
ثم سكت هنيهة وقد أعياه التعب، إلى أن عاد إليه شيء من قواه، فاستحلف أرمان على قبول الوصية، وقال وقد سمع قرعا على الباب: هو ذا الكاهن الذي دعوته قد حضر، فأدخله إلي فإني أريد أن أعترف وأستعد لملاقاة الديان.
ففتح أرمان الباب للكاهن، وخرج من الغرفة عندما شرع بالاعتراف، ولم يمض على ذلك ساعتان حتى صدق نبأ الطبيب ومات البارون، فدعا أرمان رجال الشرع في الحال، وختم على جميع موجودات المنزل، فلم يأخذ منها غير الوصيتين، وذهب الجميع ولم يبق في المنزل غير كولار الذي جعل ينظر إلى تلك الجثة التي لم تزل حارة، ويقول ضاحكا: أيها الأبله، إنك لو علمت السبب لدخولي في خدمتك لما أطقت أن تنظر إلي، والآن فطب نفسا فإن أرمان دي كركاز رجل صافي السريرة طاهر القلب، وسيعرف السير فيليام كيف يجد الابنة وكيف يغنم تلك الملايين. (3) سريز وباكارا
بعد هذه الحادثة بخمسة عشر يوما كان في الطبقة الخامسة من أحد المنازل الحقيرة ابنة تشتغل في غرفتها بغيرة ونشاط، وأمامها على منضدة جميع الأدوات اللازمة لعمل الزهور الصناعية.
وكان يظهر من ملامح وجهها أن لها من العمر ست عشرة سنة، وهي ممشوقة القامة بيضاء كالزنبق سوداء الشعر، وقد سميت بسريز، أي الكرز لحمرة شفتيها.
وكانت تشتغل وتغني، وأشعة شمس الصباح الذهبية قد ملأت غرفتها الصغيرة التي كان معلقا في جدارها قفص فيه عصفور من نوع الكناري كان يشاركها في الغناء من حين إلى حين.
فعندما كادت تصل في جمع طاقة الزهر إلى آخرها، ولم يبق لها إلا أن تحيطها بالورق، ألقتها من يديها على المنضدة، ثم تنهدت وقالت: إني سأتمم هذه الطاقة بعد عشر دقائق، فأسير بها إلى المعمل وبطريقي أراه.
إن يوم الأحد قد قرب، وسأكون فيه من أسعد النساء؛ فإن ليون سيصحبني مع أمه إلى المنتزه في بلفيل. قالت هذا وتبسمت بعد أن تنهدت قليلا، ثم عادت إلى شغلها وهي تحدث نفسها فتقول: إن ليون سيسافر إلى بلده فيبيع أرضا له فيها، وسيرقيه سيده فيجعله رئيس المعمل بعد شهرين حيث يتزوج بي في ذلك الحين، ولكني أرى ذينك الشهرين بمثابة جيلين، وما أصعب الانتظار على المحبين.
وفيما هي تناجي نفسها بمثل هذه الأحاديث إذ سمعت صوت غناء على السلم، تبينت منه صوت أختها فقالت: هذه هي باكارا التي لا أعلم السبب في كثرة زياراتها لي في هذه الأيام بعد أن كان يمر العام ولا أراها!
ثم فتح الباب ودخلت منه باكارا.
وكل من رأى هاتين الصبيتين يعلم للحال أنهما أختان؛ لكثرة ما بينهما من المشابهة، ولم يكن الفرق بينهما سوى أن سريز في السادسة عشرة من عمرها، عفيفة فاضلة ترتزق من شغل يدها وتقنع باليسير من العيش، وأن باكارا في الثانية والعشرين من العمر، وقد هربت منذ ست سنوات من منزل أبيها مع عاشق لها كان وافر الثروة، فعاشت عيشة بذخ وإسراف، ثم تخلف لها عاشقها عن ثروة عظيمة فاستبدلته بسواه، ونهجت سبل بنات الهوى. أما أبوها، فإنه مات من الحزن لما لبسه من عار ابنته، فاكتفت برضى أمها عنها التي ذهبت إليها وعاشت معها في قصرها الشاهق، تاركة ابنتها الثانية التي سرى إلى عروقها دم أبيها الفاضل، فلم تتبع أمها وأختها في سبيل الغواية، وعاشت بعيدة منفردة عنهما عيشة طاهرة تقية، ترتزق من شغلها وتقنع بالقليل.
وكانت لا تزور أمها ولا أختها على الإطلاق، ولا تدع لهما مجالا لزيارتهما لها؛ ولذلك استغربت عندما رأت أختها داخلة عليها لما رأته من ترددها في زيارتها منذ خمسة عشر يوما، وعلمت أن في ذلك سرا شاقها استطلاعه.
فجلست باكارا بالقرب من النافذة، ودار بينهما الحديث، فقالت باكارا: ألا تزالين يا سريز تحبين ليون؟ - وما يمنعني عن حبه، وهو رجل طاهر القلب حسن الأخلاق. - لا أنكر ذلك، ولكنه عامل بسيط، فإذا تزوج بك تعيشان عيشة فقيرة طول العمر، وتكونان تعيسان. - وأنا لا أرى رأيك في ذلك؛ فعندي أن الزوجين إذا توافقا وكانا متحابين لا يكونان تعيسين، وفوق ذلك فإن صاحب المعمل سيعين ليون رئيسا عليه، وهو سيبيع أرضا له في وطنه، فمتى تم ذلك فهو ينشئ لي محلا لبيع الزهور فنصبح من أسعد الناس، ولا يقتضي هذا المشروع من النفقات أكثر من أربعة آلاف فرنك، وهذا المال ميسور لديه.
فتبسمت باكارا ابتسام احتقار، وقالت: أنت تعلمين لو سألتني أضعاف هذه القيمة لما تأخرت دقيقة عن مددك. - أشكر فضلك، وأعتذر عن عدم قبولي هبتك؛ فإن الابنة الشريفة لا تأخذ المال إلا من أبيها أو زوجها. - ولكني أختك. - لو كان لك زوج، أو لو كنت على غير ما أنت عليه لقبلت.
فعضت باكارا شفتيها من الغيظ، وقالت: وما يضرك لو أخذت مني هذا المال على أن ترديه إلي متى تيسر لك؟ - اعذريني، فإني لا أحب أن أستدين.
ثم عادت إلى شغلها، فكانت تشتغل وتحادث أختها التي جلست بالقرب من النافذة، وقد أسندت رأسها بيدها متظاهرة بعدم الاهتمام، ولكنها بالحقيقة لم تجلس إلى النافذة إلا لتتمكن من النظر إلى نافذة المنزل المجاور التي رأتها مقفلة، فقالت بتمرمر: إنه ليس في البيت.
أما سريز فإنها كانت تراقبها خفية، وقد سمعت ما قالته، فقالت لها: ألا تصدقينني يا أختي في القول، فإنك منذ زمن قريب جعلت تأتين إلي في كل يوم بعد أن كنت منقطعة تمام الانقطاع، فما السبب في ذلك؟
فارتعشت باكارا، وأجابت أختها بصوت متكلف، فقالت: إني أزورك كل يوم لأني أحبك ، وفراغي يسمح لي بزيارتك. - ألم يكن لك ذلك الفراغ سابقا، أم لم يكن لي حب في قلبك من قبل؟
فأفحمت باكارا عن الجواب، ولم تجد بدا من الإباحة فقالت: إني مصابة بداء عضال يقال له الحب، أقول ذلك لأن جميع الباريسيين يعلمون أن باكارا هي بغير قلب تهزأ من الحب والمحبين في كل حين. نعم، أحب وقد سرت إلي هذه العلة من هذه النافذة؛ ذلك أني كنت عندك منذ شهر فنظرت عيناي شابا برز كالقمر من نافذة هذا المنزل المجاور، فنفذت سهام عينه إلى فؤادي، وسمعت بأذني رنين السهم في قلبي الذي لم يعرف الغرام من قبل، فصادف ذلك الحب قلبا خاليا فتمكن.
فضحكت سريز وقالت: إني أعلم من تعنين بحبك، فهو جارنا فرديناند روسي.
فتنهدت باكارا وقالت: نعم، هو بعينه، وإني أحبه أكثر مما تحبين أنت ليون، وقد رأيته ثلاث مرات من هذه النافذة فلم يعرني انتباها، ولم يتدان إلى النظر إلي، أنا التي ينطرح على قدميها أصحاب الملايين.
وأنا لا أحضر إلى هنا إلا لأراه، وأنت ترينني كيف أنتفض عند ذكره انتفاض العصفور بلله القطر، وهو غير عالم بحال قلبي، وبما يكابده من الصبابة، وأخشى إذا طال بي الأمر أن أكتب إليه أو أذهب إلى منزله، فأركع أمامه وأقول: فرناند ألا تعلم أني أحبك؟
ثم مسحت الدمع عن خديها وهو يتساقط كاللؤلؤ، وقالت: أليس من العار على المرأة أن تستسلم لرجل لا تعرف اسمه ولا شيئا من أمره، وتألف السهاد في حبه، فإذا نامت لا تحلم إلا به، ولا يتملل لعينيها سوى خياله؟
نظرت إليها سريز نظرة العجب، وقد أنكرت صدور مثل هذه العواطف عن أختها. - أنت تحبين إلى هذا الحد؟ - نعم، وإني أكاد أجن بهواه، وها أنا منذ ساعة عندك ونظري لا يحول عن النافذة، وقلبي شديد الخفوق، أليس هو بمنزله الآن؟ - إنه يرجع إلى منزله في الساعة الثانية. - حدثيني عنه يا سريز، وقولي لي من هو هذا الرجل؟ وماذا يشتغل؟ وكيف تعرفينه؟ - عرفني به ليون. - كيف ذلك؟ - إنه اشترى أثاث منزله هذا من المعمل الذي يعمل فيه ليون، وهو الذي فرشه، وقد عرف ليون في عسر مالي فساعده، والتحمت بينهما عرى الصداقة، ثم عرفني به، وأكثر الأحيان يسلم علي من نافذته. - إذن هو أعزب؟ - نعم. - ألا ترين أحدا يزوره؟ - كلا. - إذن فسيحبني كما أحبه.
وفيما هي تقول ذلك إذ فتحت النافذة وأطل منها فرناند، فاختبأت باكارا خلف أختها، وقالت لها: هذا هو.
فجعلت سريز تحرك روافد نافذتها حتى استلفتت أنظار فرناند، فسلم عليها، ثم أظهر انذهاله لما رأى أختها وراءها، وأنها تشبهها مشابهة تامة، فقالت له سريز: هذه هي أختي.
فانحنى فرناند مسلما عليها، أما باكارا فإنها انحنت على أذن أختها وتوسلت إليها أن تدعوه.
وقد أثر توسلها على فؤاد سريز بما أنساها موقفها وخطورة هذا السلوك، فأشارت إلى فرناند ودعته إلى الحضور إليها، فشكرها واعتذر عن عدم تمكنه من قبول هذه الدعوة؛ لاضطراره إلى الذهاب إلى مكتبه، ثم سلم مودعا وأغلق النافذة.
فقالت باكارا: إنه سيذهب ولا ريب إلى زيارة امرأة، ولكني سأعلم أين يذهب، وسأكون شديدة الغيرة من هذه المرأة، كثيرة الحنق عليها. - وبأي حق تغارين؟ فإن فرناند لا هو زوجك ولا محب لك. - سيصير أحد الاثنين. - أتتزوجين به؟
فهزت باكارا كتفيها وسكتت، فقالت سريز: أذكر أن ليون قال لي إن فرناند عازم على أن يتزوج. - فرناند يتزوج؟ - نعم، وماذا يمنعه؟ - يمنعه أني لا أريد أن يتزوج. - وبأي حق؟
فضربت باكارا رجلها في الأرض من الغيظ، وقالت: أيوجد في الحب حقوق؟ إني أحبه، وهذا هو حقي الوحيد. - ولكن إذا كان هو لا يحبك؟ - سيحبني، فإن أصحاب الملايين تنطرح على قدمي، وتتفانى في حبي، أيصعب علي وأنا باكارا أن أحب من رجل فقير.
وكانت سريز قد فرغت من جمع طاقتها، فأخذتها وخرجت بها مع أختها كي توصلها إلى معمل الزهور، فقالت لها باكارا: أتريدين أن أوصلك بمركبتي إلى المعمل.
فامتنعت وقالت: لا يليق بعاملة زهور مثلي تشتغل كل ساعات النهار لكسب فرنكين أن تركب في مركبة تجرها الجياد المطهمة، دعيني أذهب على الأقدام، واذهبي كما تشائين.
ثم ودعتها سريز وذهبت.
أما باكارا فإنها صعدت إلى المركبة، وأمرت السائق أن يقف، وما زالت بها إلى أن خرج فرناند، فقالت للسائق: اتبع هذا الرجل إلى حيث يذهب. (4) فرناند
كان فرناند في الخامسة والعشرين من سنيه، حسن الطلعة عالي القامة وافر الأدب، وقد ربي يتيما عند عم له، وتخرج في إحدى المدارس العالية، فاستخدم عندما بلغ العشرين من عمره في وزارة الخارجية براتب قليل، ثم أخذ راتبه يزيد شيئا فشيئا إلى أن فاق جميع أقرانه.
وكان كثير الشغف بفن الروايات، وقد علق آماله المستقبلة على هذا الفن؛ لشدة الإقبال في هذه البلاد التي لم تنشط من عقالها، ولم تبلغ ما بلغته من المدنية إلا بهذا الفن الجميل، فكان يصرف معظم فراغه بين المحابر والأقلام.
وكان شديد المطامع، من ذلك أنه عشق ابنة رئيسه في الوزارة، واسمها هرمين، وهو يعلم أن دون زواجه بها المصاعب الجمة، لفرط غناء أبيها ولشدة بخله، ولكنه كان كثير الأمل لتبادل الحب بينهما.
وكان والد هرمين قد دعاه إلى الطعام في ذلك اليوم الذي خرجت باكارا في إثره، وكان كثيرا ما يدعوه ليساعده في تأليف كتاب عزم على نشره باسمه، والاستعانة بفرناند عليه؛ لما كان يعلمه من حبه لابنته، والتذرع إلى مرضاته بجميع الوسائل.
ذهب فرناند يقطع الأرض نهبا، وقلبه يخفق خفوق الأجنحة من الشوق إلى هرمين؛ إذ لم يرها منذ ثلاثة أيام.
وكانت باكارا تسير في إثره إلى أن وصل إلى منزل رئيسه فولج إليه، وأمرت باكارا السائق أن يقف بعيدا عن الباب، ثم نزلت من المركبة فأسدلت برقعها ودخلت إلى نفس المنزل الذي دخله فرناند.
فأعطت البواب قطعة من الذهب، ثم دنت إليه مبتسمة، وقالت: أليس لك لسان؟ - كلي ألسنة ناطقة بشكرك. - إذن قل لي فإنك ستنال خيرا من خدمتي، من هو هذا الشاب الذي دخل الآن؟ - هو مستخدم في الوزارة، وهذا هو منزل رئيسه. - ما اسم رئيسه؟ - المسيو دي بيرابو. - هل هو متزوج؟ - نعم. - هل امرأته صبية؟ - كلا، فإنها تناهز الخمسين. - أليس له ابنة؟ - نعم، وهي على غاية من الجمال.
عضت باركارا على شفتيها، وقالت: ما اسمها؟ - هرمين، وأظن أنهما متحابان. - ما دعاك لهذا الظن؟ - ذلك لا ريب فيه عندي؛ لكثرة تردده على هذا المنزل، فإنه يجيء أربع مرات في الأسبوع. - في أية ساعة يغادر هذا المنزل اعتياديا؟ - في الساعة العاشرة مساء.
شكرته باكارا وأعطته دينارا ثانيا على سبيل الجزاء، ثم خرجت إلى المركبة التي كانت في انتظارها.
وبينما كانت باركارا تسأل عن فرناند، كان هو يصعد السلم لا يداخله ريب بها، ولا يعلم أمرا من غرامها به، حتى بلغ المنزل في الطبقة الثالثة وطرق الباب.
أما بيرابو هذا فإنه كان في أول عمره فقيرا معدما، وقد جاء باريس منذ ثلاثين سنة، فتوفق للدخول في خدمة الوزارة، ثم ترقى بجده ونشاطه وتزلفه من أولياء الأمور إلى أن عين رئيسا لإحدى دوائرها.
ولقد لقي عند قدومه امرأة تدعى تريزا لها ثروة وجمال، وكانت تلك المرأة قد ارتكبت هفوة لم تستطع إصلاحها، أو أنها خدعت، وكان لها ابنة صرفت إليها معظم حنوها، فتقرب منها بيرابو طمعا في ثروتها، وعلم أن ابنتها غير شرعية فتغاضى عن ذلك، ووعد تلك المرأة أن يكون لها أبا لابنتها، فقبلته بعلا بملء السرور، ومن ذلك الحين أصبحت ابنتها هرمين معروفة باسمه.
ولنعد إلى فرناند فنقول إنه عندما طرق الباب فتحت له هرمين، ولم تكد تراه حتى تلون خدها بصبغة الورد، فحياها تحية المحب الوله، ثم دخل معها إلى غرفة البيانو، فجلست تعزف عليه ألحانا كانت تهيج كوامن غرامهما، وتحرك عوامل قلبيهما، ثم شغلا عن حديث الألحان بأحاديث الغرام إلى أن شفيا غلهما، فقال لها فرناند: يسرني أن أخبرك عن قبول روايتي في ملعب سانت مارتين، وقد وعدني مديرها أنه سيمثلها في هذا الشتاء، وأنا أرجو أن ينالني من ذلك ربح عظيم، فعند ذلك أجسر في محادثة أبيك في شأن زواجنا.
فقالت هرمين بصوت منخفض: إني كنت أتحدث مع أمي أمس في هذا الشأن.
فاضطراب فرناند وقال: بماذا أجابت؟
أجابت هرمين قائلة: إن أمي راضية عن حبنا، ولا تمانع في زواجنا؛ لما تعلمه من كرم أخلاقك، وحسن مستقبلك، ولكنها تخشى معارضة أبي.
فأحنى فرناند رأسه بحزن وكآبة وقال: إني اختبرت أباك، وأنا أعلم أنه سيرفض طلبي بالنظر لفقري، وهو يعلم أن لا رجاء لي إلا من مستقبلي الروائي.
فقاطعته هرمين وقالت له: إصغ إلي، إن أمي سألتني بالأمس إذا كنت على ثقة من حبك. - آه يا هرمين، أعندك ريب في ذلك؟ - حاشاي أن أشك بصدق ودادك، ولكني أريد أن أقول إن أمي لها نفوذ على أبي، وهي تحبني حبا شديدا، وحيث إنها وثقت من صدق حبك لي بعد أن ثبت لها ذلك، فهي تبذل جهدها في إقناعه. - ومتى يكون ذلك؟ - في هذا المساء.
وعندها دخلت أمها فعانقت هرمين بحنو، ثم نظرت إلى فرناند وقالت له: أحقيقي يا فرناند أنك تحبها؟
فلم يجبها فرناند بحرف، ولكنه ركع أمامها ونظر إلى هرمين نظرة تكلمت عن فؤاده بأفصح لسان.
فارتعشت تريزا، وقد أيقنت من صدق حبه، ثم أنهضته ووضعت يده بيد ابنتها وهي تقول: إني لا أعترض في هناء ابنتي، وأنت يا فرناند إنك ستدخل مع هرمين إلى غرفة الشغل بعد العشاء، وتدعني في خلوة مع أبيها.
ثم تركت العاشقين يتناغيان ويتناجيان، وانصرفت إلى إدارة شئونها البيتية، فلم يمر بهما أحلى من تلك الخلوة، ولم يشعرا بأطيب من تلك الساعة، إلى أن أيقظهما من تلك الأحلام السعيدة دخول المسيو بيرابو، فلم ينظرا إليه حتى أيقنا أنه مصاب بحادثة أضاعت حواسه؛ لأنه كان شديد الاضطراب. (5) كينيون
بينما كانت باركارا تقفو أثر فرناند كانت سريز تسير بطاقة الزهر إلى المعمل، وهي تذهب من شارع إلى آخر فتهيج النفوس وتفتن العقول، وقد دارت بها العيون كالنطاق، وما من أحد كان يراها إلا ويدهش من محاسنها، ويسكر بجمالها العجيب فيقرظه بما يحضره من رقيق الكلام ورائق المعاني، ولكن أذنها لم تكن تصغي لمثل هذه الأحاديث، وقلبها لم يكن يحفل بمثل هذا المديح؛ لما كان يشغلها من أماني نفسها وحبها لخطيبها ليون، فكانت تمشي بوقار واحتشام لا تسمع حديث الأفواه ولا تفهم لغة العيون، إلى أن وصلت إلى المعمل فأودعت فيه الطاقة، ثم قبضت أجرتها، وأخذت شغلا جديدا، وبدلا من أن تعود إلى منزلها ذهبت في شارع شابون حيث يشتغل خطيبها، وهي تقول: كم أكون سعيدة إذا اتفق لي أن أراه؟
أما ليون رولاند، فإنه كان شابا يبلغ الثلاثين من العمر، أشقر الشعر، ضخم الجثة، قوي الأعصاب، ولم يكن جميل الوجه، غير أنه كان صافي السريرة طاهر القلب حسن النية، عاملا نشيطا شريف الأخلاق، وقد اتفق أنه حين مرور سريز كان واقفا بباب الحانوت الذي يشتغل فيه.
ولما رآها مارة أسرع إليها وسلم عليها، ونفسه تكاد تطير شعاعا من بهجة لقائها، ثم شكرها لمرورها بهذا الشارع، فقالت وقد صبغ الخجل وجنتيها: إني لم أمر من هنا إلا على أمل أن أراك. - قد صدق ظنك، ولو لم تمري من هنا الآن لكنت قصدتك في هذا المساء؛ لأنه يجب أن أحادثك في شأن مهم.
فارتاعت سريز وقالت: لقد شغلت بالي، بأي الشئون تريد محادثتي؟ - لا تخافي، فليس ما يحمل على الكدر، وأول ما أبدأ به هو أني عزمت أن أذهب غدا مع أمي إلى بلفيل، وسأكون من أسعد الناس حظا إذا قبلت دعوتنا وذهبت معنا. - أراضية أمك بذلك؟ - ذلك لا ريب فيه؛ لأنها تعلم أنك ستصيرين امرأتي بعد حين.
فأرخت سريز نظرها من الحياء، وجعلت تنكت الأرض بمظلتها، ثم نظرت إليه وقالت: أهذا المهم الذي تريد أن تحادثني فيه؟ - كلا، فإن هذه الحكاية قد جعلتها مقدمة لحديثي؛ لما أجد بها من السرور، وأية ساعة أشهى إلي من أن أكون وإياك في منتزه واحد. أما الذي أريد أن أقوله لك، فهو أنك تعلمين ما وعدني به صاحب المعمل من أنه سيجعلني رئيسا عليه بعد شهرين.
فتنهدت سريز وقالت: نعم. - والآن فإنه غير أفكاره. - ماذا أرجعه عن ترئيسك؟ - كلا، فإني عينت اليوم. - كيف ذلك؟ - ذلك أن الرئيس الذي خلفته في منصبه قد انتهى إليه إرث من قريب له توفي منذ يومين، فاضطر إلى السفر والتنحي عن الأشغال، ولكونه من مواطني فقد رجوته أن ينوب عني في بيع أرضي التي كان في نيتي أن أسافر لبيعها. - إذن قد رجعت عن السفر أيضا؟ - نعم، وبعد ثمانية أيام يصل إلي ثمن تلك الأرض، وبعد ذلك بخمسة عشر يوما نقدر أن نتزوج.
فظهرت على ملامح سريز علائم السرور، وعبق خداها بحمرة الخجل، ثم قالت: إن هذا الأجل قريب جدا. - وأنا أراه شديد البعد أيتها الحبيبة.
ثم ضغط بيديه على يدها، ونظر إليها نظرة توسل واستعطاف باحت بمكنونات فؤاده، واستوقفت بعض المارة.
فودعته بلطف وحنو، وأفلتت منه وهي تقول: إلى الغد وسنرى.
ولم يزل واقفا يشيعها إلى أن توارت عن عينيه في شارع سانت مارتين.
وفيما هي تمشي سمعت صوتا يناديها باسمها، فالتفتت ورأت شابا بالقرب منها رفع قبعته وحياها باحتشام، فدنت منه وسلمت عليه.
وكان هذا الرجل من أصدقاء خطيبها يدعى كينيون، وهو شاب في الثلاثين من عمره هزيل الجسم قبيح المنظر، ولكنه كان رقيق الحاسة، لطيف الشعور، طيب النفس.
وكان سيء البخت نكد الطالع، وقد عرف ذلك من دهره فأدار له ظهر المجن، ولم يعبأ بصروفه، وكان على الدوام باسم الثغر، طلق الوجه، شديد المزاح، كثير الميل إلى خدمة معارفه، وعلى الجملة لم يكن له في باريس بغيض.
فلما رأى سريز استوقفها، وبعد السلام سألها عن وجهتها فقالت: إني ذاهبة إلى أم ليون لأخبرها بأننا سنذهب غدا إلى منتزه بلفيل، فهل لك أن تكون معنا؟ - ذلك ما أتوق إليه، لا سيما وأني أجد فرصة مناسبة لتأنيب ليون. - على أي شيء تريد أن تؤنبه؟ - على صداقة عقدها من عهد قريب مع رجل لا يستأهل المودة، ويجب أن يحذر منه. - من هو هذا الرجل؟ - هو رجل صناعته عمل الأقفال يدعى روسينيول، وهو فاسد الأخلاق، قبيح السيرة، بذيء السمعة، وقد ساءني التحام الصداقة بينهما، وبلوغها إلى حد أصبحا فيه لا يفترقان، فرأيت أن من واجباتي أن أردع ليون عن معاشرته، وأن أظهر له ما لم يعلمه من فساد أخلاقه، وبعد ذلك فله الخيار بالميل إليه أو بالبعد عنه. - عجبا! إني لا أعرف هذا الرجل، وأنت تقول إنه من أصدقاء ليون. - نعم، وإن السبب في ذلك هو الصداقة بينهما حديثة العهد، وقلبي يحدثني أنها ستكون سيئة العاقبة، وما استوقفتك إلا لما أرجوه من مشاركتك إياي بنصيحته على تجنب معاشرته وتحذيره منه، فاجتهدي أن تردعيه، وأنا سأبذل مجهودي، ثم ودعها وذهب في شأنه، فواصلت سريز سيرها إلى منزل أم خطيبها، وفي الوقت نفسه كان يسير في الشارع رجل كهل يناهز الخمسين، قصير القامة، نحيل الجسم، مجعد الجبين، فاتر العينين، وكان لابسا ثوبا أزرق، وعلى سترته زر أحمر يشير إلى أنه متقلد وسام جوقة الشرف.
ولم يكن هذا الرجل سوى بيرابو والد هرمين، فإنه كان عائدا إلى منزله ليوافي فرناند الذي كان قد دعاه إلى الطعام - كما تقدم البيان - وقد اتفق أنه تقابل وجها لوجه مع سريز، فلم يكد يراها حتى اختلجت أعضاؤه واضطرب فؤاده، فوقف في البدء ينظر إليها بتدله، وقد اندلع لسانه، وجحظت عيناه، ثم رأى أنها لم تلتفت إليه، ولم تعره جانب الانتباه، فسار في إثرها يقفوها.
ولم يكن ذلك أول ما اتفق لهذا الكهل؛ فإنه كان ينفق أكثر ساعات فراغه متجولا في الشوارع يتعقب الحسان من بنات الهوى، فلم يكن يخيب منه أمل، ولا تضيع له أمنية؛ ليساره وكثرة إنفاقه، مما زاد من جرأته، ولكنه ساء فاله بسريز، ولقي منها ما غير معهوده، وألجمه ما رآه بها من الاحتشام بالتهجم عليها بالحديث، فاندفع يمشي في إثرها بأقدام مضطربة، وقد أعاد جمالها إلى قلبه دم الشباب.
ولم تعلم سريز أنها متبوعة حتى بلغت إلى شارع مقفر ورأته وراءها، فأسرعت في مشيها فاقتدى بها، فهلع قلبها وضاعفت سرعة سيرها حتى وصلت إلى منزل أم خطيبها، فدخلت وقد عاد سكونها، وأقامت عندها مدة طويلة تزيد على الساعتين.
ثم خرجت من عندها، وعندما وصلت إلى الشارع رأته واقفا على الرصيف، وعلى وجهه ملامح السأم من الانتظار، فلم تجد حيلة في الرجوع، ولا بدا من مواصلة السير، فمشت ولم تسر بضع خطوات حتى أدركها واستوقفها وهو يقول: سيدتي ...
فالتفتت إليه سريز وقالت له بلطف: لست يا سيدي من اللواتي تعهدهن، ولم تسبق لي عادة أن أحادث في الشوارع من يتبع خطاي، فخير لك أن تمضي في شأنك.
ثم تركته وهو لا يدري بماذا يجيب، ومضت فجعل يتبعها على مسافة بعيدة بحيث يراها ولا تراه، فلم تزل تسير حتى وصلت إلى منزلها فدخلت مسرعة، والتفتت وراءها فلم تره فاطمأنت، وصعدت السلم وهي تغني.
أما بيرابو فإنه رآها دخلت، ولكنه لم يعلم إذا كان المنزل منزلها، فلبث زمنا طويلا ينتظر إلى أن أعياه الانتظار، فذهب إلى البواب وأعطاه ذهبا كما فعلت باكارا في سؤالها عن فرناند، ثم سأله عن سريز فقال له البواب: اسمح لي يا سيدي أن أقول لك إنك تنفق وقتك ومالك عبثا؛ فإن هذه الفتاة شريفة. - ولكني كثير الأموال. - لا يجديك مالك نفعا، ولو أنفقت منه الملايين؛ لأنها ابنة طاهرة، وفوق ذلك فإنها مخطوبة، ولو كان لك شأن مع أختها لكنت أحادثك بعكس ما تسمع. - من هي أختها؟ - هي ابنة بغي كثيرة الجمال، لها قصر شاهق ومركبات. - وما اسمها؟ - باكارا. - أين منزلها؟ - بشارع مونسي. - حسنا. وتركه وانصرف، وهو مشتت الفكر مضطرب البال، وقد أصيب بذلك الداء العضال الذي ليس له دواء، وهو حب الشيوخ، فأحب سريز حبا ليس فوقه حب، ومضى وهو ينظم في أفكاره الجهنمية طرق غوايتها إلى أن وصل إلى منزله، وهو على ما وصفناه من القلق والاضطراب. (6) بيرابو
فعندما رأته امرأته وابنته صاحتا صيحة انذهال وقلق، وقالت له امرأته: بالله قل ماذا أصابك؟ وماذا اعتراك فإن هيئتك تحمل على الخوف؟
قال بيرابو وهو يرتعش: لست في شيء مما تتوهمين، وليس بي ما يحمل على الرعب. - إذن فما علة هذا الارتعاش؟ - بينما كنت مارا في الشارع، وإذا بمركبة قد جمحت جيادها كادت تصدمني لو لم تحل بيننا المقادير، وقد نجوت والحمد لله من هذا الخطر، فهلم بنا إلى الطعام. ثم قدم ذراعه إلى هرمين، وذهبوا جميعهم إلى المائدة.
أما فرناند فإنه لم يعبأ بهذا العذر الملفق، وأيقن أن السبب في اضطراب رئيسه هو غير ما قال، فأوجس خيفة من هذا الانقلاب، وعلم أن امرأته لا تستطيع أن تحادثه في شأنه وهو على مثل هذه الحال، ولكنه لم يلبث أن تغير ظنه باستحالة رئيسه من الانقباض إلى الهشاشة، مما يدل على أنه اهتدى إلى طريقة تمكنه من غواية سريز.
وعندما فرغوا من الطعام دخل فرناند إلى قاعة الكتابة، ثم تبعته هرمين بإشارة أمها، ولما خلا المكان ببيرابو وامرأته قالت له: أتسمح لي أن أحادثك بشأن هام؟ - وما عسى أن يكون هذا المهم؟ - إني أريد أن أحادثك بشأن ابنتي التي بلغت التاسعة عشر من عمرها، أي إنها بلغت سن الزواج. - تريدين أن تزوجي ابنتك؟ ولماذا؟ - لأننا لا ندوم لها. - ليكن، ولكن يجب أن نجد لها زوجا. - إن الزوج موجود. - هل هو غني؟ - كلا، ولكن مستقبله حسن.
فهز بيرابو كتفه وقال: ولكن هذا لا يكفي. - إنما هرمين تحبه بقدر ما يحبها. - ما اسمه؟ - إنك تعرفه وتقدره، فهو فرناند.
فوثب بيرابو عن كرسيه وقال بتعجب واحتقار: أزوج ابنتي من رجل لا مستقبل له ولا مال، ولا يزيد راتبه على الألفي فرنك. إنك لا ريب قد جننت؛ فإن مثل هذه الآراء لا تصدر عن العقلاء، وإذا كنت ظننت أني أصادق على هذا الزواج، فإن نفسك قد خدعتك فلا تحلمي به، فإنه لا يكون ولن يكون ما زلت في قيد الحياة.
ثم جعل يمشي في أرض الغرفة ذهابا وإيابا بخطوة غير موزونة، وهو يعثر بما تصادفه قدماه، ولا ينتبه كمن به جنة أو ضرب من اللمم، أما امرأته فكانت جالسة بالقرب من المستوقد، فلما سمعت ما كان من جوابه أخذت تشهق وتنتحب كالأطفال، ورآها والدمع يتساقط من عينيها فقال: إنك تبكين لكوني رفضت أن أزوج ابنتك من رجل لا مال له، في حين كان يجب عليك أن تشكريني لغيرتي على ابنتك التي هي ليست بابنتي، بل ابنة الصدفة، بل ابنة الزيغ والغي.
فوقع هذا الكلام على تريزا وقوع الصاعقة، ولم تكد تسمعه حتى وقفت وقد التهبت عيناها من الغيظ، وقالت: إنك تهينني، وإنك من أسفل الرجال.
فعلم بيرابو أنه قد أفرط في الإساءة إليها، وحاول إصلاح ما فسد، فقال لها بلطف: تلك بادرة بدرت مني، ولكنك أنت دفعتيني إلى هذا الحد.
فقالت له تريزا: إنك تعلم أني كنت منذ عشرين سنة ابنة نقية طاهرة، ولم أكن قط بغيا، وأني كنت في إحدى الليالي المشئومة في فندق على مرحلة من تولوز مع أمي التي وصف لها الأطباء التجول، فاغتصبني فيه أحد الجنود الأشرار وعلقت منه بهرمين، وقد اعترفت لك اعترافا جليا في كل ذلك عندما طلبت أن تتزوج بي طمعا بمالي، وقدمت لك ابنتي النقية فأخذتها بين ذراعيك وقلت لي: «طيبي نفسا، فسأكون أباها.» - وماذا رأيت بأقوالي؟ ألم أفي بوعدي إلى الآن بشأن هرمين؟ أعندك شك بأني أبوها؟ أيعلم أحد من الناس حقيقة السر؟ - كلا، ولكن هذه الابنة التي وعدتها أن تحبها كما تحب ولدك تسائل نفسها في كل حين: كيف يكون الرجل أبي، وكيف يعاملني بقسوة ونفور بخلاف ما يعامل به أختي؟ - ذلك لأني أفضل عليها أختها، وهي ابنتي، وهذا طبيعي معقول إنما ...
فأوقفته عن الكلام بنظرة ازدراء، وقالت: إنها كما كانت تستغرب نفورك منها كانت تعجب أيضا عندما تراني باكية العين، وتعلم أنك أنت السبب في هذه الدموع التي كنت أذرفها في خلوتي ولا يعلم بها غير الله.
فضرب الأرض برجليه من الغضب، وقال: إنك تتهمينني بما أنا بريء منه، فإني لم أسئ إليك، ولم أغتصب أموالك، فإنك إذا كنت أعطيتني مالا فقد استعضت عنه باسمي الشريف الذي ستر زلتك، ودفع عنك عار الغواية، فليس لك علي شيء بعد أن غسلت باقترانك بي ذلك العار. - إنك منخدع بما يوسوس لك ضميرك؛ لأنه يوجد شيء تفضله الأم على راحتها وهنائها ونفسها وشرفها، وهو هناء ولدها، ولقد رأيت مني امرأة صبورا طائعة منخفضة الرأس لا تخالف لك أمرا، ولا تعصي لك إرادة، وتسأل لك العفو من الله عندما تسيء إليها، ولكن هذه الإساءة كانت للأم، أما وقد أردت أن تسيء إلى ولدها، فإن هذا الرأس المنخفض سيرتفع، وهذه النفس الفاترة ستنشط وتدفع عن ولدها كل مكروه ... إن هرمين تحب فرناند وهو رجل حسن الأخلاق شريف النفس بعيد منال الهمة، وأنت الذي تصفه بهذه الصفات، فما لك الآن تناقض نفسك؟ وما الذي يمنعك عن الرضى بهذا الزواج؟ - يمنعني فقره المدقع. - إنك عندما تزوجت بي لم تكن أيسر منه مالا، ولا أوسع حالا.
فقال وقد احتدم غيظا: إني عندما تزوجت بك على هذا الحال، كان لك ولد لا تعلمين ولا يعلم الناس أباه، والآن ما لنا ولهذا الجدال، أتريدين أن أصادق على هذا الزواج؟ قولي فإن ذلك منوط بك.
فمسحت تريزا دموعها، وقد عزمت على أن تقاومه إلى النهاية فقالت: قل ماذا تريد أن أفعل؟
فجلس أمامها وقال: اسمعي ماذا يجب أن تفعليه، إذا كنت تطلبين هذا القران، إنه يحق لك حسب اتفاقنا أن تهبي ربع ثروتك البالغة مائة ألف فرنك إلى ابنتك هرمين، وأن تدعي الباقي لي أو لأولادي، فإذا كنت تتركين حقك من هذا المال إلى ابنتنا الشرعية رضيت بزواج هرمين ...
فقاطعته تريزا وقالت: كلا، فإني لا أؤثر أحدا من أولادي على الآخر، وما ميزت الأمهات على البنين.
فأجابها ببرود: إذا فلندع هذا الحديث، فإني اعترفت عند قراننا أن هرمين هي ابنتي الشرعية، ولا حق للابنة أن تتزوج بغير رضى أبيها إلا متى بلغت سن الرشد، وهي الآن دون هذا السن وأنا لا أصادق على قرانها. - ليكن ما تريد، أما نحن فسننتظر، ويسوءني أنك ستضطرني إلى أن أبوح لابنتي بكل شيء من أمر ماضي حياتي، وأن أذوب أمامها من الخجل.
وفيما هي تقول ذلك فتح الباب، ودخلت هرمين فطوقت عنق أمها بذراعيها وهي تقول: أماه ، إنك من أشرف النساء، ولم ترتكبي إثما تخجلين به أمام ابنتك، وإني أسألك المعذرة فقد سمعت كل حديثكما، وعلمت نبلك وقداسة قلبك.
ثم تركتها ونظرت إلى بيرابو، وقالت: إن أمي لا تريد أن تجردني من حقي من مالها، ولكن يحق لي أن أرفض هذ الحق، ولذلك أقبل بما اقترحته عليها. ثم انحنت أمامه بتهكم، ومشت إلى الباب ونادت: فرناند، فرناند.
ولما أتي أخذته بيده وقالت له أمام بيرابو: ألا تقبل بي امرأة لك يا فرناند بغير مال؟ (7) كولار
في اليوم الثاني من اتباع باكارا لفرناند، أي يوم الأحد صباحا، كان كولار الذي عرفناه بزعيم عصابة السير فيليام يسير سيرا سريعا في شارع أنتين إلى أن بلغ إلى شارع النصر، فمال منه إلى بستان كبير، قائم في وسطه قصر شاهق بناه أحد الأغنياء الإنكليز، فأقام فيه زمنا ثم سافر وترك فيه خادما له، وقد سمح له أن يؤجره وينتفع بريعه.
وكان قد استأجره السير فيليام حين رجوعه إلى باريز من لوندره، ولا بد لنا أن نذكر شيئا من سابق حاله في هذه المدينة التي أقام فيها زمنا طويلا على سعة من العيش وخصب من الحياة، نقول: إنه كان معروفا في لوندره أنه من الأشراف ذوي الثروة الواسعة، وهو في الحقيقة رئيس عصابة من اللصوص، وكان يسمي نفسه البارون فيليام، وقد حلق شاربيه كي لا يعرف، فكان يدخل إلى أحسن البيوت، وله عشرة من أشراف العائلات، وقد جمع كثيرا من المال من مهنته اللصوصية، أنفق معظمه على البذخ والإسراف، ثم غادر البلاد الإنكليزية بغتة، ولم يعلم أحد من معارفه علة هذا الرحيل الفجائي؛ فكثرت الأقاويل، وتواترت الظنون، وأشيع عند الأكثرين أنه كان متلبسا بلقب البارون، وأنه كان لصا سافلا، وأنه كان تلياني الأصل وإن كان يحسن الكلام باللغة الإنكليزية كأبنائها، فعندما عاد إلى باريس أطلق شعر شاربيه، وصبغ شعره بصبغة سوداء، وقد تغيرت ملامحه بعض التغيير، فساعدته تلك الصبغة على الخفاء.
وكان عندما وصل كولار إلى منزله واقفا أمام مرآة في غرفة النوم يصلح صبغة شعره، وهو يقول: إني منذ أشهر في باريس، وأشغالي سائرة على محور النجاح الأكيد، فإذا دامت الأبالسة على الصدق في خدمتي، فإن ملايين كرماروت ستكون لي وحدي.
تبا لك يا أرمان دي كركاز من بله يحب البشر، وينفق أمواله على المساكين، طب نفسا فإنك سترد تلك الملايين المؤتمن عليها إلى السير فيليام الذي عرف كيف يغير ملامحه، فلا تستطيع أن تعرف أنه أخوك العزيز أندريا الذي اختلست أمواله بحجة أن أباه سرق أموال أبيك.
أما كولار فإنه شديد الذكاء، وهو وإن كان لم يخدمني في لوندرا خدمات جليلة، فإنه كان غريبا فيها، أما الآن فهو في موطنه، ويعرف خفايا باريس كما يعرف خفايا منزله، فلا شك أن هذه العصابة التي ألفها سيكون لي منها خير فائدة، وقد ظهر من أعمالها إلى الآن ما يبشر بالنجاح الأكيد.
وفيما هو يناجي نفسه بمثل هذه الأحاديث إذ فتح الباب ودخل كولار، فحياه ثم جلس على الكرسي بالقرب منه، ودار بينهما الحديث الآتي:
قال كولار: إني أتيت لأخبرك عن أمور مهمة توفقت للوقوف عليها بواسطة رجالي الذين يشتغلون بالدقة والنظام. - أتظن ذلك؟ - هذا لا ريب فيه، ودليلي عليه أننا أصبحنا على اليقين من أن مدام بيرابو هي ذات تريزا التي نبحث عنها. - أصحيح ما تقول؟ - نعم، وإن ابنتها هرمين هي ابنة كرماروت صاحب الملايين، وليست بابنة بيرابو كما هو المتعارف عند الناس. - أرى من هنا يجب أن تبتدئ الرواية؛ فإن بيرابو شديد البخل، وإذا وعدناه بمليون فهو لا يرفض أن يزوج ابنته، ثم نظر إلى المرآة مبتسما وقال: أما ابنته فلا إخالها ترفض من كان مثلي زوجا لها. - إنما للصبية عشيق، وسيتزوج بها بعد خمسة عشر يوما كما علمت.
فاصفر وجه أندريا اصفرار اليأس، وقال: هذا محال. - إن ما أخبرتك به هو الحقيقة بعينها، وإن خطيب هرمين هو موظف في الوزارة الخارجية. - هل هو غني؟ - ليس له دراهم، ولكنه محبوب. - ما اسمه؟ - فرناند روشي. - أين منزله؟ - في شارع باريس.
فأخذ أندريا دفترا صغيرا، وكتب فيه بضعة سطور بالحرف المصري القديم، ثم سكن اضطرابه فقال: وما عندك وراء هذه الأخبار؟ - قبل كل شيء أحب أن أخبرك عن صداقة عقدتها حديثا مع رجل نجار. - لماذا؟ - لهيام قلبي بفتاة شغفت لبي، وأخذت بمجامع قلبي. - أنحن الآن بمعرض الغرام يا كولار؟ أتسمح حالتنا الحاضرة أن نعشق ونهيم؟ - قر بالا يا سيدي، فإن ذلك لا يشغلني فترة عن واجب خدمتك. - حسنا، ولكن أية صلة بين هيامك بتلك الفتاة وبين مصادقتك لذلك النجار. - أصغ إلي يا سيدي، إني لقيت حديثا فتاة جميلة الوجه، طاهرة القلب، عفيفة النفس، فهامت بها روحي وحن إليها قلبي، وبحثت عنها فعلمت أنها مخطوبة، ومن المقرر أن من يحاصر قوما يجتهد عند شبوب الحرب أن تدمر قلاع أعدائه، ويقطع كل مدد عنهم كي يجبرهم على التسليم؛ ولذلك عقدت تلك الصداقة مع هذا النجار الذي هو خطيبها، ولا أريد بذلك إلا فساد أخلاقه طمعا بأن تنفر عنه خطيبته سريز، أما هذا الشاب فإنه يدعى ليون رولاند، وله صداقة مع فرناند روشي خطيب هرمين.
فأظهر أندريا علائم الرضى، وقال: تمم حديثك، فقد بزغ لي منه نور من الأمل.
فقال كولار: وقد ذهبت أمس لزيارة ليون في محل شغله، فبينما أنا عنده إذ جاءه فرناند وأخبر صديقه والفرح ملء فؤاده بجميع ما كان من خطيبته وأمها وأبيها، وأنه سيتزوج بعد خمسة عشر يوما، وكيف أن بيرابو رفض أولا أن يزوج ابنته من فرناند حرصا على المهر، إلى أن تنازلت هرمين عن ذاك المال.
فاصفر وجه أندريا وقال: إننا في أحرج المواقف وأشدها، ولا أصعب من نزع الهوى من قلب فتاة تحب. - أصغ إلي، فلم أنته بعد من تقريري، واعلم أن لسريز أختا بغيا وافرة المال، وقد تهتكت في حب فرناند ولم تجد صبرا عنه.
فبرقت عينا أندريا بأشعة الأمل، وقال: هل هي جميلة؟ - إنها كثيرة الجمال والدلال. - هل هي عاقلة؟ - هي رجيحة العقل شديدة الذكاء. - إذن فهي تكفل لي غواية فرناند، وإقلاعه على حب هرمين، وسنرى في شأنها.
فقال كولار: يوجد أيضا شيء آخر لم أطلعك عليه، وهو أن والد هرمين مفتون بسريز، وقد تبعها أمس، ووقف بالقرب من منزلها طويلا، ثم عاد في المساء، وسهر طول الليل متجولا تحت نوافذ غرفتها. فهل أنت راض عن هذه الإفادات.
فلم يجبه أندريا بشيء عن سؤاله، وأخذ يفتكر بتلك السلسلة التي جمعت تريزا وهرمين وأمها وخطيبها ورولاند، وبعد أن أمعن الفكرة طويلا نظر إلى كولار وقال: أتعرف منزل باكارا؟ - نعم، فهو في شارع موتسي. - حسنا، فإن هذه الفتاة ستخدمني، وأنت فهل تحب سريز حبا شديدا؟ - لا أعلم، ولكني رأيتها في عنفوان الشباب كثيرة الجمال، فتقت إلى أن أتخدها خليلة لي، فأنا أحبها ولا أحبها. - ولكن إذا احتجنا إليها؟
فنظر إليه نظرة انذهال وحيرة، وقال: لم أفهم ما أردت! وكيف تحتاج إليها؟ - لننصب منها فخا لبيرابو، ويجب قبل شيء أن نتخلص من خطيبها ليون، فإنه يثقل علينا. - إن هذا رأي جليل، وسأشرع في إنفاذه هذه الليلة في بلفيل. - إذن لا يسوءك ذلك؟ - كلا، ولا سيما أننا مضطرون إلى إجرائه، وفوق ذلك لا داعي إلى الغيرة من الكهول.
فنادى أندريا خادمه، وأمره أن يهيئ المركبة، ثم قال لكولار: يجب أن تجد لي من اليوم إلى ثلاثة أيام منزلا للأجرة في الشانزليزه مع إصطبل للخيل، والآن اذهب لقضاء هذه المهمة ولا تغفل عن أمر ليون.
فذهب كولار، أما أندريا فإنه ركب المركبة وسارت به إلى منزل باكارا، وكانت باكارا لا تزال في غرفة النوم، وقد لسعتها عقرب الغيرة من هرمين وألفت السهاد، ولم تذق طعم الكرى، ولم تكن تعرف الحب قبل أن رأت فرناند، فكانت تهزأ بالهوى وتعبث بعشاقها، وهي بغير قلب يحن وبغير نفس ترحم، لا يهمها سوى جمع المال واحتقار الرجال وتركهم يقتتلون لأجلها، وهي ضاحكة لاهية، ومحبها يكتئب وينتحب حتى نفذت إليها سهام الهوى، وعرفت أن لها قلبا كقلوب البشر، وأحالها الحب من الحيوانية إلى الإنسانية، وجعلت تعض يديها من الغيرة، وهي تردد بصوت منخفض اسم فرناند.
وكانت قد اضطجعت على فراشها من الساعة العاشرة، وهي ترجو أن تطعم النوم، وتعلل نفسها بخيال من تحب، ولم يغمض لها جفن، وما زالت تتقلب على مثل الغضى إلى أن طرق الباب ودخلت خادمتها تخبرها بزيارة أندريا وبيدها رقعته.
فقالت لها: لا أريد أن أقابل أحدا، فأخبري كل من يزورني أني لست في المنزل.
وخرجت الخادمة، ثم رجعت بعد هنيهة، وقالت لها: سيدتي، إن هذا الرجل يلح في طلب مقابلتك، وهو واسع الثروة كما يظهر.
وأخذت باكارا رقعة أندريا وقرأت فيها: «السير فيليام ... بارون»، ثم ألقتها على منضدة أمامها وقالت: إني لا أعرف هذا الإنكليزي.
وخرجت الخادمة ثم عادت أيضا وقالت: سيدتي، إن هذا الرجل يقول إنه قادم لمخابرتك في شأن مهم. - ليس لي أشغال مهمة. اذهبي واصرفيه. - لقد كلفني أن أذكر لك اسم رجل يقول إنه يهمك شأنه. - قلت لك اذهبي، فإني لا أريد أن أعرف أمرا. - ولكن هذا لا يمنعني أن أذكر لك اسم الرجل الذي كلفني أن أذكره أمامك. - لقد تجاوزت الحد في عصياني، فأنا أطردك من خدمتي منذ الآن، ولا تعودي إلى هذا المنزل.
أما الخادمة فلم تكترث بما سمعت، وكانت قبضت من أندريا ما جعلها تعصي هذا العصيان. قالت لها ببرود: إن السير فيليام كلفني أن أقول لك إنه آت ليخابرك بشأن فرناند روشي.
ولم تكد باكارا تسمع اسم فرناند حتى وثبت من فراشها وقالت: هو آت ليخابرني بشأن فرناند، قولي له إني هنا وإني مستعدة لقبوله، اذهبي وأدخليه في الحال إلى قاعة الانتظار. ثم اختنق صوتها وجعلت تختلج وتضطرب اضطراب الريشة في مهب الريح. (8) البارون
ولبست ملابسها بسرعة، ثم دعت خادمتها فاني وأمرتها أن تدخله، فذهبت وعادت بأندريا الذي لم يقع نظره عليها حتى قدرها، وعرف من رياش منزلها منزلتها من سلامة الذوق، ونظر إلى عينيها فعلم شدة سلطانها على القلوب، فقال في نفسه: هذه هي المرأة التي أحتاج إليها، وسأجعل منزلها قفصا لفرناند، فلا يخرج منه قبل أن أقضي أوطاري.
وتأملت هي أيضا بدورها أندريا، فاستدلت من توقد عينيه ومن ابتسامه السحري ومن جبهته الواسعة أنه شديد الذكاء، فقالت في نفسها: إنه إذا كان عدوا لي فقد لقي مني كفؤا، وإذا كان صديقا فسأنتصر ولا ريب؛ لأنه سيكون لي أقوى نصير.
وبعد أن سلم عليها أشارت إليه أن يجلس، وصرفت فاني، فجعل أندريا ينظر إليها بغير تأثر ولا اختلاج كمن جاء يحدثها بأشغال مهمة، ولا يعبأ بما وهبتها الطبيعة من الجمال، ثم قال: إني أدعى يا سيدتي السير فيليام، وقد أتيت لأعرض عليك خطة. - قل ما تريد، ولكن احذر أن تحدثني بأحاديث الغرام، فإذا كان هذا مرادك، فإني أسألك تأجيله إلى يوم آخر، لما أنا مصابة به من ألم الرأس. - أعلم ذلك، فإن ألم الرأس مسبب عن قلة النوم، وإن الخيبة في الحب تعدو إلى الأرق. - ماذا تعني بالحب والخيبة فيه؟
فأجابها بسكينة: عجبا! كنت أظن أنك مفتونة بفرناند روشي، وأنك تحبينه حبا يوشك أن يكون عبادة.
فارتعشت باكارا، ولكنها تجلدت فقالت: إني لا أحب أحدا أيها الميلورد. - أنا دون الميلورد يا سيدتي، فإني بارون، ويسرني جدا أني خدعت. - نعم أيها البارون، فقد خدعوك. - ذلك لحسن الحظ. - ماذا تريد بذلك؟ - أريد أنه لو صح أنك تحبينه وثبت ما أعلمه من ذلك، لكنت الآن بمنتهى التعاسة.
فاصفر وجهها وقالت له بعظمة: لماذا أكون تعيسة؟ - لأنه يسوء المرأة أن يفر الرجل الذي تحبه من قبضتها.
فهاجت عواطف الكبرياء من باكارا وقالت: إن المرأة التي تكون مثلي تجفو الرجال، وليس الرجال الذين يجفونها. - إن الرجل لا يترك امرأة وافرة الجمال مثلك إلا عندما يريد أن يتزوج. فرناند سيتزوج.
فوقع هذا الإنذار عليها وقوع الصاعقة، فصاحت صيحة يأس، وسقط رأسها على الكرسي من الكآبة. - ها قد اعترفت أخيرا أنك تحبينه. - نعم، لم يعد من مجال للكتمان، فإني أحبه حبا مبرحا لم يعد لي فيه حيلة إلى الصبر، ولا جرم فهو أول سهم غرام نفذ إلى قلبي. نعم أحبه، وهو لا يتزوج وسأمنعه عن الزواج، ولو أفضى بي الأمر إلى قتل مزاحمتي عليه بيدي.
ثم تأوهت، وبدأت تنتحب انتحاب الأطفال.
فقال لها: سكني روعك يا سيدتي، فإني ما أتيت إلا لمساعدتك وإنقاذك مما أنت فيه. - كيف تساعدني؟ - انظري إلي وتأملي بي، ألا ترين من ملاحمي رجلا يقدر أن يفيدك إذا رضيت بي حليفا؟ - أنت تكون حليفي؟ - أي شيء يمنعني؟ - أنت تخدمني؟ - كل شيء ممكن. - ولكن ما الذي يدعوك إلى خدمتي؟ ولأية غاية تريد أن تحالفني؟ - من المؤكد أن لي بذلك مأربا، ولولا ذلك ...
وقبل أن يتم حديثة فتح الباب ودخلت فاني وأعطت سيدتها رقعة زيارة، أخذتها باكارا وقرأت فيها هذا العنوان:
بيرابو
رئيس قلم التحرير في وزارة الخارجية
ثم ألقتها بجزع إلى أعلى المنضدة وقالت: إني لا أعرف هذا الرجل، فقولي له إني لست في المنزل.
فاضطرب أندريا عندما قرأ الرقعة وقال لها: يجب أن تقابليه.
ثم نظر إلى فاني وقال لها: أدخليه إلى قاعة الانتظار.
فعلمت فاني أن أندريا أصبح الآمر في المنزل، فامتثلت لأمره وانصرفت.
أما أندريا فإنه عاد إلى باكارا وقال لها: ألا تعلمين أن هذا الرجل هو والد هرمين؟
فاختلج فؤادها وقالت: قد ذكرت الآن، إن هرمين هي خطيبة فرناند. - نعم، ولذلك يجب أن تقابليه. - ماذا يريد مني، وما الذي يدفعه إلى زيارتي؟ - إنه أتى ليتفق معك على أمر شائن، فاصغي إليه واحذري من أن تغضبيه ولا تنهي معه أمرا، بل عديه ولا ضرر من الوعود، وقولي له كي يعود إليك في الغد، وأنا سأختبئ وراء هذا الستار، فأنظر إليه من حين إلى حين.
ثم دعا فاني وأمرها أن تدخل بيرابو، وذهب واختبأ وراء الستار.
دخل بيرابو وسلم بغاية الاحتشام والاتضاع، وردت تحيته بعظمة وكبرياء، ثم أشارت إليه بالجلوس، فجلس وقال: أتأذن لي سيدتي أن أحادثها بما أتيت لأجله؟ - قل. - إنك قد علمت ولا ريب من رقعة الزيارة من أنا؟
فأشارت برأسها إشارة إيجاب. - إني واسع الثروة، وذو منصب عال في الحكومة.
فقالت بصوت الهازئ: إني أهنئك بهذا المنصب. - إني أقدر أن أقدم للمرأة تقدمات كثيرة، وأن أفيدها فوائد جمة لخطورة منصبي.
فظهرت علائم الحزن على محيا باكارا وتبسمت تبسم احتقار، فأزيح الستار للحال، وظهر منه وجه أندريا، فأشار إليها بما معناه «أنسيت ما أوصيتك به، وهل تريدين أن يتزوج فرناند؟» فغيرت ملامحها وظهرت بمظاهر البشاشة والأنس بما تشجع له بيرابو فقال: سيدتي إن لك أختا حسناء. - إنك آت لتحدثني بشأن أختي التي علقت بحبها كما يظهر. - نعم، إني أحبها حبا مبرحا ليس بعده حب. - أراك تضيع وقتك عبثا في حبها، فإنها طاهرة الأخلاق حسنة السيرة. - ولأجل ذلك أتيت إليك.
ونظرت باكارا إلى الستار ورأت أندريا مطلا من ورائه، كأنه يقول الزمي السكينة واحذري من إغضابه، فعادت إلى بيرابو وقالت: لا علاقة لي بشئون أختي، وقد قلت لك إنها حسنة السيرة. - ومع ذلك إذا أردت فربما يتيسر لك أن ...
فخطر على بال باكارا أن تبادله أختها بفرناند، وللحال عبق وجهها بحمرة الخجل، ثم استحال ذلك الاحمرار إلى الغضب، وحاولت طرد ذلك الفاسق، فظهر أندريا من خلال الستار وقال لها: إنك إذا طردته فإن فرناند يتزوج بعد ثمانية أيام.
فهدأ روعها وسكن هياجها وقالت: إن أختي بلهاء حمقاء، ولو اتبعت نصائحي لكانت الآن على ما أنا عليه من النعيم، ولكني أعود فأقول لك إنها مطلقة التصرف، وليس لي علاقة في شئونها. - وأنا أتوسل إليك أن تمدي لي يد المساعدة، فهل تريدين أن تتوسطي في هذا الشأن؟
فتوقفت عن الجواب ونظرت إلى أندريا، فرأته يشير إليها برأسه قائلا: قولي نعم.
فأرخت عينيها إلى الأرض من الخجل وقالت: ربما. - سأتقيد بفضلك إلى الأبد، ولا أجحد نعمتك مدى الدهر، فبالله ألا ما استبدلت الشك باليقين واستعضت عن ربما بنعم.
فنظرت إلى أندريا ورأته يشير إليها بأن تعده، فقالت: دعني أتأمل بذلك مليا. - أيطول زمن الافتكار؟
ونهضت عن كرسيها وهي تقول: عد إلي غدا وسنرى.
فأخذ بيرابو قبعته وودعها وهو يقول: إذن تسمحين لي أن أزورك وسترينها ولا ريب. - سأراها. عد إلي في الغد.
فخرج بيرابو وقلبه يخفق خفوق قلب عاشق في أوائل الشباب، ولم يكد يغادر الغرفة حتى خرج أندريا من وراء الستار، فقالت له باكارا: ما هذه الخيانة التي لا تطاق؟! ... أأبيع أختي وأزجها بيدي إلى هاوية الغي والفساد؟! لا، لا. إن ذلك لا يكون ولو هلكت غراما. نعم، إن لي قلبا قد من الصخر إزاء عشاقي، ولكن ذلك القلب يستحيل إلى رقة الهواء وصفاء الماء بإزاء عائلتي التي خرجت عن خطتها بتلك الغواية. ذلك الأب المسكين! كلا إن ذلك لا يكون ولن يكون.
فقال أندريا: اعلمي أنه لا أحد يستطيع حل عقدة الزواج بين فرناند وهرمين غير بيرابو، وأنك ترتكبين أشد الخطأ بمخالفته.
ثم اندفع يحادثها وقد طال الحديث بينهما ساعتين، فلم يعلم شيء مما كان بينهما، غير أنه لما خرج أندريا كان مرتفع الرأس وعليه ملامح النصر، فشيعته باكارا ورأسها مطرق إلى الأرض والدموع تجول في عينيها. أما سريز الطاهرة النقية فقد كانت مجال بحثهما، وقد عزمت باكارا على تضحيتها ذهابا مع تيار حبها الفاسد. (9) حنة
بزغت أنوار شمس الأحد المنتظر بفارغ الصبر من سريز، فنهضت من فراشها، ورتبت غرفتها الصغيرة، وأخذت تشتغل في تزيين ثوبها الجديد إلى أن قربت ساعة الظهيرة فلبسته، وعزمت على الذهاب إلى منزل خطيبها الذي كان ينتظرها مع أمه للذهاب إلى بلفيل على ما قدمناه.
وفيما هي تحاول الذهاب فتح باب غرفتها ودخلت فتاة قابلتها سريز بمنتهى الاحتفاء والإكرام.
أما هذه الفتاة فقد كانت جارة لسريز، وهي من ذوات النسب والأدب، عاشت في عهد أبيها الكولونيل بالدر عيشة سعة وهناء، إلى أن أحنى عليها الدهر بوفاة أبيها وغادرها يتيمة فريدة، ليس لها من يعتني بشئونها غير حاضتنها جرتريدة.
ولم يترك لها أبوها من المال إلا قدرا يسيرا يكاد لا يقوم بأودها، ولا ينطبق على اسمه الشريف المنزه عن كل وصمة وشين، فكانت تعيش من ربا ذلك المال على غاية من الاقتصاد، وقد أقلعت عن معاشرة أترابها من ذوات اليسار كي لا يطلعن على ما استحالت إليه حالها من العوز، فتركت قصر أبيها الشاهق واستعاضت عنه بغرفتين صغيرتين بالقرب من غرفة سريز، فألف بينهما الجوار، وجمعت بينهما صلة الأدب والعفاف، غير أن سريز كانت تعرف حقيقة نسبها وسابق حياتها، فكانت تجلها وتحترمها غاية الاحترام.
وكان اسمها حنة، ولها من العمر ثماني عشرة سنة، وهي على غاية من الجمال تدل ملامحها على أنها من أصل كريم، وهي بيضاء اللون شقراء الشعر ممتلئة الجسم رشيقة القوام، وكل ما بها يدل على جمال نادر المثال.
فلما فرغا من أحاديث السلام قالت لها حنة: إني آتية إليك أيتها الصديقة أسألك قضاء مهمة، راجية أن يكون لي منها خير وفائدة، ومأمولي أن تجيبيني إلى رجائي. - أنت يا سيدتي ترجينني بعد ما ثبت لك من إجلالي لقدرك واحترامي لمقامك. إني لك بجملتي فمري بما تشائين.
فاحمر وجه حنة وشكرتها، ثم قالت: إن حاضنتي جرتريدة قد شاخت وأضعف بصرها توالي الأيام، وقد خدمتني منذ ولدت، وما زالت تدأب ساعية في كل ما يئول إلى راحتي، إلى أن أوهى عزمها الكبر، فوجب علي السعي في راحتها؛ إذ هي عندي بمثابة الأم الحاضنة، ولأجل ذلك يقتضي أن يكون لي مال. - عندي مئتا فرنك وضعتها في بنك الاقتصاد، فإذا شئت إني أذهب الآن وأحضرها لك. - أشكر فضلك، فإني لا أحب كسب المال من هذا السبيل، بل أريد أن أشتغل. - أنت يا سيدتي تشتغلين وأنت فتاة شريفة النسب؟! - إن الشغل هو الشرف الثاني، ولعله الشرف الحقيقي، فلماذا يخجل منه الأشراف؟ أصغي إلي فإني تعلمت في المدرسة الخياطة والتطريز، وقد مهرت فيهما كثيرا، وإذا كنت تحبينني ذهبت بي لأحد المعامل لأتفق معه على الشغل فيه أو في منزلي. - أنت تذهبين إلى المعمل سيدتي؟! كلا، إن ذلك لا يوافق من كان في مقامك، وعندي رأي حسن. - ما هو؟ - هو أني أعرف مخزنا للتطريز بالقرب من معمل الزهور الذي أشتغل فيه، وإن رئيسة هذا المخزن صديقة لي، فسأحضر لك شغلا منه في كل أسبوع وعندما تنتهين منه أرجعه، فأوفر بذلك عليك مشقة الذهاب والإياب، ولا ينالني من ذلك أقل عناء؛ لأن هذا المخزن بجوار مخزن الزهور، وأنا مضطرة إلى الذهاب كل أسبوع.
فعانقتها وهي تقول: ما أشد كرمك! وما أطيب قلبك! - إذن إنك تقبلين؟ - نعم أيتها الحبيبة، إني أقبل اقتراحك مع الشكر. والآن دعيني أسأل عنك إني منذ أسبوع لم أرك. - أنا بخير وعافية، وليس لي ما أخبرك عنه سوى أن ليون قد رقي إلى رئيس، وأظن أنه بعد خمسة عشر يوما سيتم بيننا عقد القران. - أهنئك أيتها الحبيبة، وأدعو لك بتمام السعادة؛ لأنك أهل لكل هناء، وقد سررتني جدا بهذا النبأ، حتى إني لا أملك عيني عن البكاء. - إن هنائي لا يتم ولا يكمل إلا إذا أجبتني إلى ما سأرجوك به، فإني منذ يومين أتردد في التماس هذا الطلب منك. - قولي أيتها الصديقة ما تشائين، فلا أخالف لك إرادة، وإني أتوق إلى خدمتك، ولا سيما بعد أن بدا لي منك ما بدا من كرم الأخلاق. - عفوا يا سيدتي، فإن ما أحب أن ألتمسه منك هو أني سأذهب اليوم مع ليون وأمه في بلفيل، وما أشد ما يكون سرورنا إذا كنت معنا. أقول هذا وأنا التمس العفو عن هذا الطلب؛ لأني لم أتجرأ عليه إلا لما لي عليك من الدالة. - سأذهب معك بطيب خاطر، وسيكون لي من الأنس بينكم أوفر نصيب. - إذن تنتظرينا في البيت حيث نمر بك جميعنا في الساعة الرابعة.
فأجابتها بالقبول، ولبثت عندها هنيهة، ثم ودعتها وانصرفت.
فأفعم قلب سريز الصغير سرورا بما لقته من مؤانسة حنة، وخرجت من منزلها إلى منزل ليون وهي تغني كما يغرد العصفور على الأشجار أغاريد الصباح.
فأقامت حينا مع أم ليون، ثم جاء ليون وبرفقته كينيون الذي استوقف سريز على الطريق وحذرها من معاشرة كولار لخطيبها، فأخبرته سريز عن قبول حنة بالذهاب معهم، فسر بذلك وقال: وأنا أيضا قد دعوت صديقا لي حسن العشرة مزاحا اسمه كولار، فسيكون يومنا من أبهج الأيام.
فامتعض وجه سريز وكينيون لذكر هذا الرجل، وبينما ليون يطنب في مديح صديقه طرق الباب ودخل كولار، فسلم على الجميع، ثم دنا من ليون وقال: ما أتيت أيها الصديق إلا لأعتذر إليك عن عدم تمكني من الذهاب إلى الدعوة التي دعوتني إليها، فإن أبي قد قدم منذ ساعة من قريته وقد أصيب بمرض عضال، فاضطررت إلى ملازمته، واغتنمت فرصة رقاده للقدوم إليك في طلب الاعتذار.
ثم ودعهم وخرج من المنزل، فركب مركبة سارت به إلى قهوة تدعى بقهوة مصر، فنزل ولقي فيها رجلين كانا في انتظاره، فأمرهم بتغيير ملابسهم، ثم غير هو أيضا زيه وركبوا جميعا في المركبة، وأمر السائق أن يسير بهم إلى بلفيل.
أما ليون وأمه وسريز فإنهم ذهبوا إلى منزل حنة، فوجدوها تنتظرهم ولا شيء يعيقها عن الذهاب وذهبوا جميعا إلى بلفيل. (10) فاتح الأقفال
بينما كان ليون وأمه والصبيتان ينزلون من المركبة ليسيروا إلى فندق بلفيل، كان ثلاثة رجال مختبئين وراء الفندق يراقبونهم، وهم كولار واثنان من عصابته؛ أحدهما يدعى نيكولو، والآخر فاتح الأقفال، فقال لهما كولار مشيرا إلى ليون: انظرا هذا الرجل الذي يدخل الفندق مع هؤلاء النساء، وتأملاه جيدا، فهو نفس الرجل الذي أتينا لأجله.
فقال نيكولو: حسنا لقد عرفناه.
وقال فاتح الأقفال: وأنا لم أنس حرفا مما علمتنيه.
فقال كولار: أعد علي ما علمتك لأعلم إذا كنت ذاكرا. - إني أدخل مع نيكولو ونجلس في القاعة التي يجلسون بها، ثم أتظاهر كأني رأيت هذا الرجل فأصبح منذهلا، ثم أركض إليه وأسلم عليه وهو سيدهش ولا ريب لأنه لا يعرفني من قبل، فأقول عجبا أتنكر صداقتي أمام السيدات، ألست ليون رولاند عاشق باولينا، وإن لك منها ولدين، فيغضب عند ذلك ويحاول الإنكار، فأقول ما بالك تتظاهر بنسيان هذه الفتاة، وقد قلت لك إن باولينا هي الشقراء التي تسكن في شارع التمل، فيشتمني ويكذبني، فألكمه ويفتح باب الخصام، وعلى نيكولو البقية.
قال كولار: حسنا، واجتهد أن تنجح. وأنت يا نيكولو احذر من الفشل، واجتهد أن تقتله بضربة واحدة، والآن لقد آن أوان العمل، وادخلا إلى الفندق، أما أنا فإني أنتظركما في الشارع ، وسأهيئ لكم سبل الفرار إذا دعت الحاجة.
ثم تركهما ومضى، ودخلا إلى الفندق وهما غير مرتابين بشيء، ولكنهما لو انتبها لكانا رأيا رجلا متخفيا مثلهما، كان واقفا وراء صخر فسمع كل ما دار بينهما وبين كولار، وعندما دخلا في الفندق دخل معهما.
وكان هذا الرجل طويل القامة قوي الأعصاب، بين الثلاثين والخامسة والثلاثين من عمره، وهو بالرغم من تستره بملابس الفعلة كان يستدل من يديه على أنه من الأعيان، وأنه لم يلبس هذه الثياب إلا بغية التخفي.
وقد كان شاهد كولار ورفيقيه فارتاب بهم، ولذلك كمن لهم وراء الصخر، وسمع حديثهم دون أن يروه، وعندما دخلا إلى الفندق سار بإثرهما وهو يقول: ستعلمان أيها اللصان على من تدور الدوائر، وكيف أن عيون أرمان دي كركاز لا تغفل عن مراقبة الأشرار.
وقد علم القراء ولا ريب أن هذا الشاب لم يكن سوى أرمان دي كركاز الذي كان يتستر كل يوم بأزياء مختلفة، ويطوف جميع أنحاء باريس ليسد عوز المحتاجين، ويكشف ظلامة المظلومين، فتبع ذينك اللصين إلى أن دخلا إلى الفندق.
أما ليون، فإنه دخل إلى قاعة الفندق، ولم يكن جاء إليها أحد بعد، وجلس حول منضدة مستديرة، وجلست حنة على يمين أمه وسريز على يسارها بجواره، ولم تمض هنيهة حتى دخل نيكولو وفاتح الأقفال، وجلسا حول منضدة بالقرب منهم، فاستاء ليون لما رآه من ملابسهما وخجل أمام حنة.
ثم دخل بعد ذلك أرمان وجلس حول منضدة تجاه ليون وبالقرب من اللصين، فطلب ما يشربه، وجعل يتأملهما بإمعان بما أراب نيكولو، فقال لرفيقه: ما شأن هذا الرجل؟ وما أتى ليعمل هنا؟ - يظهر أنه قوي الأعصاب شديد القوى. - لم ينظر إلي شزرا كأني عدو له؟ - لينظر كما يشاء، فإن العيون لا تخلق إلا للنظر.
وعند ذلك التفت إلى ليون الذي كان يحدق بأرمان فتكلف الانذهال، وقال: أهذا أنت أيها الصديق؟
فانذعر ليون وقال: أتكلمني أنا؟ - عجبا ألم تعرفني؟ - أظن أنك غلطان. - وأنا لا أظن ذلك، ألست ليون؟ - نعم. - ليون رولاند؟ - نعم، ولكني لا أعرفك.
فأجابه بوقاحة وهزء: أظن أنك لا تتجاهل عن معرفة صديقك القديم إلا لوجود نساء معك. - إنك تهين أمي.
فلم يكترث باعتراضه وأتم كلامه فقال: أنسيت خليلتك باولينا التي ...
فلم يدعه أرمان يتم حديثه ونهض عن كرسيه، فضغط على عنقه بيد من الفولاذ وهو يقول: خسئت أيها النذل، فلن تنال مآربك.
فصرخ بصوت مختنق: إلي يا نيكولو.
أما نيكولو فإنه للحال أخذ مدية من المنضدة، وانقض على أرمان يحاول طعنه بها.
وأخذ أرمان من جيبه مسدسا وصوبه إلى وجه نيكولو، وهو ضاغط باليد الثانية على عنق فاتح الأقفال.
وإشهار السلاح الناري على الشجاع القلب الأبي النفس يكاد لا يكون له تأثير، وإذا أشهر على لص جبان دنيء الطبع منحط النفس، فهو يرتجف أمامه ويهلع له قلبه من الخوف، وهكذا فإن سلاح أرمان قد أفزع اللص إلى أن انذعر منه، ورجع حتى لصق بالحائط.
فقال له أرمان وكان لم يزل قابضا على عنق فاتح الأقفال: ألق هذه المدية من يدك، واحذر من أن يبدو منك ما يريبني بك، وإلا قتلتك في الحال شر قتلة.
فامتثل نيكولو لهذا الأمر الذي نزل عليه نزول الصاعقة، فقال أرمان لليون: اعلم أن لك عدوا ألد، بعث إليك بهذين اللصين ليقتلاك، ولم يأتيا إلى هذا الفندق إلا لهذه الغاية.
ثم قص عليه جميع ما سمعه وعلمه من مباحثتهما مع كولار، وعاد إلى اللصين فقال: إذا كنتما تؤثران الحياة اخرجا من هذا المكان.
فلم يجدا بدا من الامتثال وذهبا وهما يتوعدان.
ولما خرجا وسكن النساء، ولا سيما حنة التي كان ينظر إليها أرمان بإمعان، جاء ليون فشكره شكرا جزيلا، ثم دعاه إلى تناول الغذاء معهم، فحاول أن يرفض وهو يتردد عن القبول، إلى أن صادف نظره نظر حنة، فكانت كأنها تقول له: «حبذا لو بقيت معنا لنفيك حقك من الشكر.» فقبل الدعوة وجلس بينهم.
أما اللصان فإنهما انطلقا والخيبة رائدهما إلى أن لقيا كولار فأخبراه بما كان، فغضب عليهما أشد الغضب لجبنهما، ثم سألهما عن اسم ذلك الرجل الذي رد كيدهما، فلم يعرفاه، قال: إذن أنا أعرف اسمه، اجلسا معي وراء هذه النافذة إلى أن يمر.
وقد طال انتظارهما ساعتين حتى سئموا، ثم سمعوا وقع أقدام، فأطل فاتح الأقفال من النافذة ورجع منذعرا وهو يقول: هذا هو.
ونظر كولار فرأى أرمان وقد تأبطت حنة ذراعه، ووراءهما ليون وأمه وسريز، فصاح صيحة انذهال وقال: هذا أرمان! (11) ليلة الرقص
لم يكد كولار يتيقن أن الذي أحبط مساعيه هو أرمان، ولم يكد يراه حتى ترك رفيقيه، وهرول مسرعا إلى الشارع فركب مركبة، وأمر السائق أن يسوق الجياد خببا إلى سانت لازار نمرة 75، أي إلى بيت أندريا، فسارت به الجياد تنهب الأرض حتى بلغت المنزل بنصف ساعة، فوقفت ونزل كولار ورأى أندريا في مركبته مستعدا للسير، فأوقفه للحال وقال له: يجب أن ترجع إلى المنزل.
فقال له أندريا: ماذا حدث؟ وما الذي يضطرني إلى الرجوع؟ - سأخبرك متى اختلينا.
ورأى أندريا من ملامح كولار ما يدل على الاهتمام.
فامتثل ودخلا إلى المنزل، ولما خلا بهما المكان قال أندريا: أخبرني الآن ما الذي طرأ؟ - حدث ما ذهب بأمانينا أدراج الرياح. - عن أي أمنية تعني؟ - عن الإرث فإن أرمان يقتفي أثرنا.
فاصفر وجه أندريا من الغضب، وضرب على المنضدة بيده وهو يقول: إذن فهو يريد أن يموت.
ثم هدأت سورة غضبه، فحدثه كولار بجميع ما كان في بلفيل، ثم قال له بعدما انتهى من سرد تلك الحادثة: إنك تعلم أن ليون وخطيبته يعرفان فرناند، وهما الآن يعرفان أرمان، وأقل كلمة تحدث منهما بشأن تريزا ولو على سبيل الاتفاق، تمكنه من الوقوف على صاحب الإرث وتحبط جميع مساعينا، ألا تعلم أن فرناند أخبر ليون عما دار بين تريزا وزوجها من الحديث يوم كلمته بشأن زواج ابنتها هرمين بفرناند، وكيف أن هرمين علمت أنها لم تكن ابنة بيرابو، أيبعد أن يخبر ليون أرمان عن ذلك كما أخبرني، وأن يعلم أن هرمين ابنة كرماروت كما علمنا نحن؟
فأجابه أندريا ببرود: وأنا من رأيك. - أهكذا تجيبني، وأنا أكاد أجن خوفا من الفشل؟
فأجابه وهو يبتسم تبسم احتقار: كنت أظنك أشد ذكاء مما أراك. - ولماذا؟ - لأنك فقدت حواسك عند أول حادثة، فما يكون من أمرك لو أصبت بأمر جلل؟ فاعلم الآن أن مثل أرمان الوصي على هذا الإرث مثل الراعي، ومثل الإرث مثل القطيع، ومثلنا مثل الذئاب، فنحن نحاول افتراس هذا القطيع، وهو يحاول الدفاع عنه، فالقتال بيننا متوقع في كل حين. وقد قلت لي إن أرمان له معرفة بليون؟ - نعم. - ولكن أرمان لم يتعرف بعد بفرناند؟ - هذا ممكن. - إذن يجب أن نمنع واسطة التعارف بينهما. - كيف ذلك؟ - ذلك أمر هين، ولا ينقضي هذا اليوم حتى أجد طريقة موافقة. - ولكن إذا أجهزنا على ليون، فإن سريز تخبر أرمان. - سنجد طريقة لسريز أيضا. - سريز؟ أيخطر على بالك قتل سريز أيضا؟ - كلا، ولكننا سنرجو المسيو بيرابو أن يحتفظ بها. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك إذا بقيت على حب الفتاة فسنرى. - ولكن فرناند ... فإن أكثر أصحاب ليون يعلمون علاقته معه، وله مقام جليل عندهم لاستخدامه في الوزارة، فإذا فقد ألا يسأل أصحاب فرناند عنه؟ - ربما، ولكن طب نفسا، فسينال فرناند حظه من الشرك مساء غد، والآن أجبني هل استأجرت لي منزلا في الشانزليزه؟ - نعم، وهو منزل وفق مرادك. - حسنا، فسأراه صباحا لأني مضطر في هذه الليلة أن أذهب إلى حفلة راقصة في الوزارة الخارجية، حيث أتعرف بوالد هرمين. - إذن ستراه في هذه الليلة؟ - نعم، سأراه مع امرأته وابنته، والآن فإني ذاهب لأرى باكارا، فارجع إلى هنا في الليل، وانتظرني إلى أن أعود مهما تأخرت.
ثم افترقا، فذهب كولار بشأنه وأندريا إلى باكارا، فلما وصل إلى منزلهما ورأته فاني أسرعت إلى سيدتها وقالت: سيدتي هو ذا الإنكليزي قد عاد، أتسمحين له بالحضور مرتين في يوم واحد؟ فقالت لها باكارا بقسوة وجفاء: ليس هذا من شئونك، فاذهبي وأدخلي إلي السير فيليام في الحال. وبعد هنيهة دخل أندريا فجلس بالقرب منها، وقال لنتحدث الآن. - بماذا؟ - أصغي إلي، إنك كنت صباحا شاحبة اللون مضطربة، والآن فإنك على عكس ما كنت عليه، والسبب في ذلك أنك كنت في الصباح تحبين فرناند حب يأس، وأنت قانطة من قربه، والآن فإنك تحبينه حب رجاء، وتأملين أنه يحبك ويكون بقربك بعد حين. - ربما. - والآن تنتظرين غدا زيارة بيرابو. - ذلك لا ريب فيه، فهل امتنع عن الحضور؟ - كلا، ولكني أتيتك بخير علاج ينزع به من قلب هرمين حب فرناند.
فبرقت أسرة عينيها من السرور، وقالت: أصحيح ما تقول؟ - نعم، وسيكون فرناند بعد يومين منطرحا على قدميك.
فطار فؤادها من الفرح وقالت: قل ماذا تريد أن أضحي لأحظى بهذا النعيم. - لا أريد سوى أن تجلسي على هذه المنضدة، وتكتبي ما أمليه عليك. فامتثلت باكارا وأملى عليها أندريا ما يأتي:
حبيبي فرناند
هي ذي أربعة أيام لم أرك بها، وأنا أحسبها أربعة أجيال، أقول أربعة أجيال يا حياة دمي ويا ملاكي المعبود؛ لأنك تعلم أن حبيبتك باكارا لا تعيش إلا لأجلك كما أنك لم تعش إلا لأجلها أيها الناكث العهد، قبل أن تلهو عنها بشأنك الجديد كما تقول. ولا جرم، فهذه طباع الرجال الذين يحبوننا حبا يكاد يكون عبادة، ثم يصادفون ابنة ذات حشمة كما يقولون تتبسم بابتسام البلهاء، ولها من المهر مائتا ألف فرنك، فيميلون إلى الزواج بها رغبة في مهرها دونها.
وأظن أنك عندما ترتكب هذه الهفوة، وتبلغ الغاية من هذه السياسة الخرقاء، سياسة المطامع السافلة، ستجد واسطة لتقدمني إلى امرأتك، فإن البارون يريد أن يتزوج بي، فسأكون أنا امرأة محتشمة أيضا، وأقسم لك بكل ما هو عزيز لدي أني سأحضر عرسك من غير بد؛ لأنه لا أحب إلي من أن أراك بالملابس الرسمية متأبطا ذراع امرأتك المحتشمة.
إنك لم تتزوج بعد أيها القاسي، وأراك تهملني قليلا، وإنك أقسمت لي أنك لن تحب سواي في هذا العالم، فهذه هي أيمانك! وماذا يمنعك من أن تزور في كل يوم حبيبتك باكارا التي ستحافظ على حبك إلى آخر نسمة من حياتها؟
إني أكاد أجن من غيرتي، فاعلم أنك إذا لم تزرني في هذه الليلة فسيكون بيني وبين خطيبتك ما تكرهه.
يدي في يديك، وشفتاي على شفتيك.
باكارا
فلما انتهت من كتابة الرسالة، نظرت إلى أندريا كأنها تسأله عن الغاية من هذه الرسالة؟
فقال لها وهو يبتسم: ألم تفهمي إلى الآن المراد من هذه الكتابة؟ - كلا، وقد ابتدأت أن أرى نفسي ألعوبة بين يديك تديرها كيف تشاء. - ستفهمين كل شيء، فاكتبي الآن العنوان هكذا:
إلى المسيو فرناند روشي
في شارع ماريس
فكتبت. قال: اكتبي أيضا على هذه الرسالة هذه الحاشية:
إن خادمتي فاني ستحمل إليك هذا الكتاب، فاحذر من أن تغازلها، فإنني وإن أكن على ثقة من مداعبتك لها كما أكدوا لي، فلا أريد أن أصدق أنك تتدانى إلى حب خادمة غرفتي ... آه من الرجال!
فعندما انتهت قال لها أندريا: والآن أيتها العزيزة إنك لا تفهمين المراد من هذا الكتاب إلا غدا، أي عندما يقع في يد هرمين. - آه، لقد فهمت كل شيء الآن، ولكن من الذي يوصله إليها؟ - أبوها بيرابو. - هو بعينه؟ - أتريدين إذن أن نبيع سريز لهذا الكهل بغير ثمن؟ - هذا أكيد. - إن فرناند سيتناول الطعام غدا عند رئيسه، وبعد انصرافه يجدون هذا الكتاب على منضدة، أو على بساط الغرفة، فيفتحونه ويقرءونه وهو كاف لنزع حب فرناند من قلب هرمين إلى الأبد. - هذا لا ريب فيه، ولكن أتظن أن بيرابو يقبل بهذه الخيانة؟ - يقبل بكل شيء لأنه يحب سريز، والآن اسمحي لي أن أذهب إلى منزلي؛ لأنني أريد أن أستعد للحفلة الراقصة التي كما أخبرتك سأتعرف فيها ببيرابو. - إذن، فهو لا يحضر في هذا المساء؟ - كلا، ولكنه سيأتي غدا من غير بد. - وعندما يأتي، فماذا ينبغي أن أعمل؟ - تطلعيه على الرسالة. - وبعد ذلك؟ - تقولين له إنك تحبين فرناند، وإنه إذا سمح بزواجه بابنته فهو لا يرى سريز على الإطلاق، ثم تعطينه الرسالة وتقولين له أن يجتهد في أن تطلع عليها هرمين، وأن تكتب لخطيبها بعد ذلك سطرين بخطها يشيران إلى انحلال عقد الخطبة بينهما، وتعديه أنه متى أتم ذاك تجمعيه بسريز. - أتظن أنه يقبل؟ - لا أظن بل أؤكد، وسترين غدا يكون. ثم ودعها وانصرف.
وبعد ساعتين ذهب إلى حفلة الرقص، فعرفه الوزير بجميع من وجد في تلك الحفلة من الأعيان، وعرفه الجميع باسم السير فيليام، وكثر التحدث بشأنه، وقيل إنه راغب في الزواج، فجعلت الأمهات تتهافت وتتنافس في إكرامه، ثم عرفه أحد العاملين في الوزارة بالمسيو بيرابو، وتعرف بواسطته بهرمين، فرقص معها مرتين، وبذل قصارى جهده في مرضاتها حتى أعجبت بجماله وأدبه وحسن عشرته، وعند منتصف الليل ترك الحفلة وذهب إلى منزله وهو يقول: إنها جميلة، فإذا وفقت إلى الحصول عليها وعلى ملايينها أكون من أسعد البشر. (12) الرسالة
إن بيرابو كان رجلا شحيحا مفرطا في محبة الذات، وقد أثر عليه كثيرا احتقار امرأته له، وما رآه من كرم هرمين يوم رفضت حقها من المهر بمنتهى العظمة والجلال، غير أن حبه للمال أنساه كل ما لقيه من الإهانة، فصادق على زواج هرمين بفرناند، وجعل من ذاك الحين يبالغ في إكرام فرناند، ويزيد من ملاطفته ومؤانسته.
وفي اليوم الثاني من اتفاقه مع باكارا، وأخذه منها تلك الرسالة التي أملاها أندريا، ذهب إلى الوزارة حسب عادته، ودعا فرناند، فلما أتى قال له: إنني أحب أن أطلعك على مسألة سرية سأكشفها لك، ولكني قبل أن أنسى أقول لك: إن امرأتي وهرمين تنتظرانك اليوم للغذاء.
فاختلج فؤاد فرناند من الفرح، وظهرت على محياه علائم السرور.
فقال بيرابو: وإنهما بعد الغذاء يذهبان لحضور تمثيل رواية جديدة دعيتا إليها، وحبذا لو أقمت مقامي ونبت عني بمرافقتهما. - إنني رهين أمرك، ولا أحب إلي من الرضوخ والامتثال لإرادتك. - أشكر فضلك، والآن فأصغ إلي، فإنني مطلعك على كل أمري، ومعترف لك بما يحسبه البعض ذنبا من أشد الذنوب. نعم أيها الصديق، وربما كان ذاك ذنبا، فإن من تجعد جبينه وغارت وجنتاه وجحظت مقلتاه فقد فات حد الصبا، ولكن إذا شاب رأسي فإن قلبي لم يشب، وأنا الآن عاشق مفتون.
ولم يطق فرناند أن يملك نفسه، وقال له بدهشة واستغراب: أنت يا سيدي تعشق ؟ - نعم، فلا تقطع علي الكلام، إنني أحب كما يحب الفتى وهو في العشرين من عمره، وأرجو أن لا تخونني في سري. - معاذ الله يا سيدي أن أخونك في سرك، فقل ما تريد. - لقد بدأت بإقراري، فوجب علي أن أبلغ به إلى النهاية. أقول إن التي أحبها فتاة في مقتبل شبابها لم تر عيناي أجمل منها صورة ولا أبهج منظرا، ولقد بلغت من الجمال ما يفوق حد الوصف، فكأنها خلقت كما اشتهت، ولذلك فتنت بها، ولو تراها رؤيتي لهمت بها نفس هيامي.
فتبسم فرناند تبسم ازدراء، وقال: ليسمح سيدي أن أسأله إذا كان هذا الحب بل هذا الهيام متبادلا.
لا أعلم شيئا من ذاك، غير أن من بلغ سن الكهولة يغض الطرف ويتسامح في هذه الشئون، والذي أعلمه أنني أحب هذه الفتاة حبا يضيع صوابي ويعيقني عن واجباتي، فإن رئيسنا سيحيي في هذا المساء ليلة أنس، ولا أجد بدا من الذهاب بنفسي أو إرسال من ينوب عني، وقد علمت الآن أنني أؤثر الملتقى بتلك الفتاة على جميع الحفلات، وعلى قضاء كل ما يدعونه بالواجبات. - إذن فسأذهب من قبلك، وأعتذر عنك. - حسنا، ولكني لا أحب أن تعلم امرأتي وابنتي شيئا من ذلك، بل أود أن تعلما أنني ذهبت إلى تلك الحفلة. - ماذا تريد أن أفعل؟ - أريد أن ترافقهما إلى التمثيل، وبعدها ترافقهما معتذرا أن أحد أصدقائك عازم على السفر في الغد، وأنك ذاهب مع زمرة من الأصدقاء إلى إحياء ليلة وداع عنده، ثم تذهب إلى منزلك فتلبس ملابسك الرسمية، وتعود منه إلى منزل الرئيس فتنوب عني في حضور هذه الحفلة.
فأجابه فرناند بالقبول وهو شديد الأسف لاضطراره إلى البعد عن هرمين في هذه الليلة، ثم غادره وذهب إلى هرمين، فقابلته بمنتهى البشاشة والحنان، وذهبوا جميعا إلى قاعة التمثيل، وعادوا منها في الساعة الخامسة، واستأذن فرناند منهما على الشكل الذي اتفق مع حميه، ومضى إلى منزله.
أما بيرابو فإنه عاد إلى المنزل في الساعة السادسة، وبعد أن تناولوا الطعم دخلوا جميعا إلى قاعة البيانو، وجلست هرمين تعزف على تلك الآلة أشجى الأنغام، وجلس بيرابو بالقرب منها وهو يتكلف عدم المبالاة، أما تريزا فإنها صرفت اهتمامها إلى إصلاح نار المستوقد، وفيما هي تنحني لأخذ الملقط، عثرت برسالة مفتوحة فأخذتها دون أن تنظر إليها وأعطتها لزوجها وهي تقول: إن هذه الرسالة لك ولا ريب. فأخذها بيرابو وقرأ بصوت عال هذا العنوان: «إلى المسيو فرناند روشي» ثم قال: إن هذه الرسالة لفرناند وليست لي، وقد سقطت منه دون أن ينتبه إليها.
أما هرمين، فإنها لم تكد تسمع اسم فرناند حتى تركت البيانو، وتقدمت من بيرابو يدفعها الشوق إلى الاطلاع على هذه الرسالة.
وقال بيرابو وهو يتكلف السذاجة: إن هذا العنوان غريب في بابه، ويظهر أنه مكتوب بيد امرأة، بدليل هذه العبارة المكتوبة بعد العنوان، وهي «بواسطة خادمة غرفتي». فارتعشت هرمين واحمرت وجنتاها، ثم استحال ذلك الاحمرار إلى اصفرار، وجعلت تختلج، وقد حدثها قلبها بمصاب جلل.
أما بيرابو فإنه تظاهر أنه يقرأ الرسالة بغير اهتمام كمن يريد أن يقف عرضا على علائق صهره، ولكنه ما لبث أن قرأ سطرين منها حتى صاح صيحة انذهال وإنكار، وقرب من النور ليتم قراءة الرسالة بجلاء.
وعندما فرغ من تلاوتها تكلف الانفعال، ودنا من امرأته التي كانت واقفة تراقب ملامح زوجها وترتعش من الخوف، فقال لها: هذه الرسالة من باكارا المومس البغي الشهيرة، مرسلة إلى الذي أردت أن تصاهريه، فأهنئك بهذا الصهر الفاضل، وأرجو أن تقرأي هذه الرسالة كما قرأتها.
فأخذت تلك الأم المسكينة تقرأ هذه الرسالة التي خطتها يد الزور والباطل، والتي أهينت فيها ابنتها أقبح إهانة، ولم تبلغ إلى آخرها حتى صرخت صراخ اليأس وأغمي عليها، وأسرع زوجها إلى مساعدتها، وأخذ يصيح ويدعو الخدم، ويكثر من الجلبة والاهتمام ليدع وقتا لهرمين كي تطلع هي أيضا على الرسالة.
أما هرمين فإنها أخذت الرسالة وقرأتها إلى آخرها بغاية السكينة والهدوء، وبعد أن أتمت تلاوتها جعلت تنظر إلى أمها وإلى بيرابو نظرة يأس وهي لا تنبس ببنت شفة ولا تذرف دمعة، إلى أن أفاقت أمها من إغمائها، فعانقتها عناقا طويلا والدموع تنهل من عينيها كالمطر، ثم نظرت هرمين إلى بيرابو وقالت له بصوت متهدج كمن يجهش للبكاء: إنك سترجو ولا ريب المسيو فرناند أن ينسى ارتباطنا السابق.
فأجابها بيرابو وهو يتصنع الغضب: إذا جسر هذا التعس على الرجوع إلى هنا تلقى ما هو أهل له. - سكن جأشك يا أبي، فإن المسيو روشي لن يكون بعلا لي.
ثم مشت بعظمة إلى المنضة وكتبت ما يأتي:
سيدي
لقد طرأت حادثة لا أجد حاجة إلى ذكرها ألجأتني إلى العدول عن اتفاقنا السابق، وإنني سأدخل الدير بأقرب حين، فأرجو أن تنقطع عن زيارتنا فإنها ستكون بغير فائدة.
وبعد أن وقعت على هذه الرسالة، أعطتها لبيرابو فقرأها وقال: لقد أحسنت، وأنا سأرسلها إليه في حينه. ثم قال في نفسه وقد كاد يطير من الفرح: بشراي، فإن سريز هي لي. وبعد ذلك خرج من المنزل والرسالة في جيبه، فركب مركبة وقال للسائق: أسرع بي إلى شارع مونستي - أي منزل باكارا. (13) فاني
بينما كان بيرابو قادما إلى منزل باكارا، كانت باكارا مختلية مع أندريا في غرفة صغيرة كانت تعدها لمقابلة أصدقائها المخلصين، وهي فيها بمأمن من أن تسمع حديثها فاني، التي كان من عادتها أن تسمع كل محادثات سيدتها بوقوفها على أبواب الغرفة التي تقابل فيها زوارها.
وكانت باكارا ساعتئذ مضطربة الفكر صفراء الوجه، والدمع يترقرق في عينيها. أما أندريا فكان هادئا ساكنا، يبسم من حين إلى حين ابتسام الهزء والسخرية، وقد دار بينهما الحديث الآتي:
قالت باكارا: أيبلغ بي الحب إلى هذا الحد من الدناءة، فأبيع أختي بيع السلع؟ - لا يغرب عنك أيتها العزيزة أن الإنسان في هذا العالم لا يربح شيئا دون أن يخسر ما يقابل ذاك الربح، وأن بيرابو سيفرق بين ابنته وبين فرناند لأجلك، أليس من العدالة أن يناله ما نالك من الفائدة؟ - ولكنها أختي التي سأضحيها. - إنك لا تضحينها، بل تعملين لسعادتها ونعيمها. - إنها نقية طاهرة لا ترغب في معيشة البغي والفساد، فهي تريد أن تتزوج. - لا بأس، فإنها ستكون بعد حين من الزمان من أسعد النساء، وسيكون لها قصور وخيول ومركبات كما لك الآن، أليس ذاك خيرا لها من أن تشتغل الليل والنهار لسد عوزها، وأن تتزوج برجل عامل قذر الملابس، خشن اليدين، يسومها الخسف والعذاب وهوان العيش؟ ثم إنها بعد أن تقيم زمنا يسيرا مع بيرابو ريثما يتم مأربك من فرناند تنفصل عنه، وتعاشر شابا غنيا ذا ثروة واسعة ينفق عليها بكرم وسخاء، فلا يمضي عليها العام حتى تغدو في أحسن حال. والآن فإن الساعة بلغت الثامنة والنصف، وإن بيرابو يكون ولا ريب قد تمم حيلته، فاثبتي الآن في عزمك، وإلا فإني أذهب إلى هرمين وألقي الحجب بينك وبين فرناند، فلا ترينه إلى الأبد.
فأحنت باكارا رأسها ولم تجب بكلمة.
قال لها: قومي إلى المنضدة، واكتبي ما أمليه عليك.
فامتثلت وكتبت بإملائه ما يأتي:
يا أختي العزيزة
إنني في أشد موقف الخطر، فإذا لم تسرعي إلي فأنا هالكة لا محالة، ولا تسمح لي الحال بأن أذهب اليك ولا أن أقص عليك ما أنا فيه وما أنا عليه من الاضطرار إلى نصرتك، ولكني أعلمك فقط أن تأخرك عن الحضور ينتج عنه خطر على مستقبلي وعلى حياتي؛ فأسرعي أيتها الأخت العزيزة بالذهاب حين اطلاعك على الرسالة إلى شارع الحية نمرة 19، واسألي عن مدام كوكليت، وقولي لها إنك آتية من قبلي، وحينئذ تعلمين ما الذي يجب أن تفعليه لإنقاذ أختك.
باكارا
ولما انتهت من كتابة الرسالة سقط القلم من يديها، وجرى الدمع في عينيها وهي تقول: مسكينة أختي.
وفيما أندريا يلاطفها ويسكن من شجنها، إذ قرع جرس الباب الخارجي فقال: هذا هو بيرابو.
فنهضت باكارا لتذهب إلى غرفة الاستقبال العمومية، فقال لها أندريا: إذا كان القادم بيرابو اعلمي منه أولا ما حدث، ثم ارجعي إلي قبل أن تعديه بشيء.
فمسحت عن خديها آثار الدموع، وأصلحت شعرها، ثم دخلت إلى الغرفة، وأمرت فاني بإدخال الزائر، فدخل وكان بيرابو.
وقد دخل إليها وعليه ملامح الفوز، وحياها ببشاشة واحتشام، ثم أعطاها الرسالة التي كتبتها هرمين إلى فرناند، وقرأتها بسرور لا يوصف، وعندما انتهت إلى آخرها قالت بصوت منخفض: إنه لن يتزوج وقد قضي الأمر على وفق مرادي.
أما بيرابو فإنه انتظرها إلى أن فرغت من القراءة، فقال: والآن يا سيدتي، ألا تجرين شيئا لأجلي؟
ولم تجبه بشيء بل قالت له: اصبر وانتظرني قليلا إلى أن أعود إليك.
ثم تركته ومضت إلى أندريا وأخبرته بما كان بينهما، وأعطته الرسالة، فتلاها مرارا وهو يقول: قد تم الأمر على أكثر ما كنا نرجو، وهو فوق المأمول.
ثم نظر إلى باكارا وقال لها: والآن أيتها العزيزة، اذهبي إلى بيرابو وقولي له أن يذهب في الساعة العاشرة إلى شارع الحية نمرة 19، وأن يسأل هناك عن مدام كوكليت، وأن يعتمد عليها بالحرص على سريز. - أهذا كل ما تريده؟ - نعم، وحذريه أيضا من أن يبوح بأمر لفرناند إذا سأله عن السبب في قطع العلائق وعن رسالة هرمين، وعندما يذهب ارجعي إلي لأطلعك على ما يجب أن نصنعه بهذه الرسالة، واعلمي أنك إذا صبرت وعقلت، فإن فرناند يكون عندك ولا يخرج إلا بأمرك.
فخرجت باكارا والفرح ملء فؤادها، أما أندريا فإنه نادى فاني وقال لها: اركبي في مركبة سيدتك وخذي هذه الرسالة إلى أختها سريز، وإذا سألتك عنها لا تجيبي بشيء، بل قولي إنها في أشد حالات القلق، وخذي هذه الدنانير واستعيني بها على حالك.
وبعد ذلك ذهب أندريا من منزل باكارا، وأمر السائق أن يسير به إلى شارع الحية نمرة 19. (14) بيرابو
أما فاني فإنها ركبت مركبة سيدتها، وسارت بها إلى سريز، وكانت سريز قد قضت عدة ساعات من النهار في منزل صديقتها حنة، وأحبت أن تستعيض عما أضاعته من الوقت في النهار بالشغل في الليل، ولما دخلت فاني رأتها منكبة على شغلها تعمل بمزيد الرغبة والاجتهاد.
وانذهلت عندما رأت فاني قادمة إليها في مثل هذه الساعة، ولكنها لم تلبث أن قرأت رسالة أختها حتى استحال انذهالها إلى حزن عميق وقلق عظيم، وقالت: بالله قولي ما أصاب أختي؟ - لا أعلم، ولكنها كانت شديدة الاضطراب عندما سلمتني هذه الرسالة، حتى إني خشيت عليها من الجنون.
ونهضت سريز ولبست ثيابها بمنتهى السرعة، وقالت لفاني: أسرعي إليها وأخبريها عن ذهابي.
ثم خرجت من المنزل، وذهبت إلى أقرب محل تجتمع فيه المركبات، واستأجرت واحدة منها، وقد أنفت من الركوب في مركبة أختها، وقالت للسائق: أسرع بي إلى شارع الحية نمرة 19.
وكان قلبها يخفق وهي موجسة أشد الخوف على أختها، إلى أن بلغت بها المركبة إلى ذلك المنزل، فطرقت الباب بيد ترتجف ففتح لها، ولما دخلت رأت الظلام سائدا ولم تجد أحدا، فقالت بصوت مرتفع: ألا يوجد بواب في هذا المنزل؟
وأطلت امرأة عجوز من أعلى السلم، وبيدها مصباح فقالت: من هذا؟ - إني أتيت لأرى مدام كوكليت، فهل هي هنا؟ - نعم أنا هي، اصعدي.
وصعدت سريز وقد اشتدت مخاوفها؛ لخشونة صوت تلك العجوز، ولما رأته من قذارة ذلك المكان، حتى وصلت إليها فقالت: سيدتي، إني أتيت من قبل أختي باكارا.
واستحال عنف العجوز إلى الرقة والحنان، وقالت لها: اتبعيني.
ثم فتحت بابا كان مقفلا، ودخلت منه في رواق طويل مظلم، حتى انتهت منه إلى غرفة ضيقة ليس بها من الأثاث غير مقعد قديم وكرسي طويل ومنضدة عليها قنديل من النحاس، وكل ما فيه كان يحمل على الريبة، ودخلت إليها، وقالت لسريز بصوت تكلفت فيه جهد اللطف: ادخلي أيتها الحبيبة.
وامتثلت سريز، وجعلت تراوح نظرها بين تلك الغرفة، ووجه تلك العجوز، وهي تستغرب كيف أن أختها التي تعيش بمنتهى البذخ والسعة يكون لها علاقة واتصال بمثل هذ المرأة وفي مثل هذا المنزل.
وقالت لها العجوز: إنك آتية من قبل باكارا؟ - نعم، إنها أختي. - حسنا، اجلسي. - سيدتي إن أختي قد كتبت لي أنه يجب أن أجيء إليك، وأني أنا وحدي القادرة على إنقاذها مما هي فيه. - هذا لا ريب فيه، اجلسي قليلا ريثما يأتي الذي سيحدثك بشأنها، فقد آن له أن يحضر.
ثم وضعت المصباح الذي بيدها على المستوقد، وخرجت قبل أن تدع وقتا لسريز أن تسألها وأوصدت الباب.
وجلست سريز وهي عرضة للانذهال، وكانت تنظر إلى تلك الغرفة، وتتصور تلك العجوز، وتتذكر رسالة باكارا، وتتأمل بذلك السكون السائد في هذه الغرفة التي لم يكن يسمع بها غير دقات الساعة وخفقان قلبها، وكادت تجن من الخوف، ولم يطل انتظارها إلى الساعة العاشرة حتى سمعت حركة من ورائها، والتفتت فرأت بابا من الورق لم تكن نظرته قبل قد فتح ودخل منه رجل وأوصد الباب من ورائه، ثم دنا ومد إحدى يديه إليها للسلام بمنتهى البشاشة، ورفع بالثانية قبعته التي ظهر من تحتها تجعد جبينه، ولم تزدها هذه البشاشة غير قلق، ورجعت خطوة إلى الوراء، وهي تقول: أأنت هو الرجل الذي أنتظره؟ - نعم.
ثم أخذ بيدها وقال لها: تفضلي بالجلوس لنتحدث.
وسحبت يدها من يده، ولبثت واقفة وقالت: إن أختي باكارا ... - نعم، وهي بارعة في الجمال تكاد تضاهيك في محاسنها. - وقد كتبت لي ... - إني عالم بكل شيء. - إنها في حالة خطرة ... - خطر شديد. - وإنه يجب علي أن ... - نعم، إنها تثق بك جدا، وتتكل عليك، فهلم واجلسي بالقرب مني لنتحدث في هذا الشأن. هل تخافين مني؟ - لا.
وكانت لا تفهم شيئا من حديث بيرابو، وكانت شديدة البعد لسلامة نيتها عن أن تسيء الظن بمثل هذا الشيخ، وأن تعلم حقيقة نياته، وامتثلت لإشارته، وجلست على مقعد بالقرب منه، فقالت له بصوت شجي يلين الجماد: أتوسل إليك أن تنقذ أختي. - هذا لا ريب فيه، وهو غاية ما أسعى إليه، ولكن لنتحدث أولا بشأنك.
ثم أخذ يدها وحاول تقبيلها.
ورجعت إلى الوراء، وجعلت تنظر إليه بريبة وانذهال.
واقترب منها جيدا، وقال لها: تفرسي بي جيدا، ألم تعرفيني؟
فتذكرته سريز للحال، وقالت: نعم، أذكر يوم تبعتني إلى منزلي.
ثم نهضت مسرعة وحاولت أن تهرب، ولكنها افتكرت بأختها وقالت في نفسها: إن هذا الرجل لم يتبعني في ذلك الحين إلا لمحادثتي في شأن أختي. فخف ما عندها ولبثت ساكنة لا تبدي حراكا.
فقال لها بيرابو: يخال لي أني تراءيت لك بمظاهر القسوة، ولا أظن السبب في ذلك إلا تجاوزي سن العشرين، ولكني أوكد لك أنك ستكونين راضية عني، وسأتصرف معك بشرف ونزاهة، أصغي إلي، إني كثير الوجاهة والمال، وستلقين عندي جميع ما تتوقين إليه من السعادة والنعيم، وإني ...
ولم تدعه سريز يتم حديثه، وقد علمت كل شيء حتى خيانة أختها الهائلة، فركضت إلى الباب تريد الفرار، ولكنه كان موصدا. أما بيرابو فإنه تبعها وحاول أن يضمها إليه، فأفلتت منه وصرخت تستغيث وتقول: إلي أدركوني ...
ولم يجبها غير قهقهة بيرابو الذي بعد أن فرغ من ضحكه أعاد الكرة عليها، وأخذها بين يديه وضمها إلى صدره، فهبت لديها قوة من السماء مما أثار فيها من الغضب، وإن الحدة تضاعف القوى، ودفعته دفعة عظيمة فانطرح على الأرض، وأسرعت إلى المنضدة، وتسلحت بالمصباح النحاسي الذي كان عليها. أما بيرابو فإنه بعد أن نهض من سقطته ورآها وبيدها ذلك المصباح تزيد حنقا، أحجم عنها، ثم ثارت به عوامل الغرام، وذكر أنه ليس في المكان غير مدام كوكليت التي أعطاها مبلغا وافرا من المال، فوعدته بالسكوت والتغاضي عنها، فهجم عليها وهي تصيح وتستغيث.
وفيما هو ماسك بها وهي تدافع عن نفسها بشهامة ويأس، إذ فتح الباب فجأة وولج منه رجل، فبدلت صراخ اليأس بصيحة الفرح، وقد علمت أن العناية بعثت إليها بمن ينقذها من هذا الوحش الضاري، ولكن بيرابو لم يتبين وجه هذا الرجل حتى جمد الدم في عروقه، وتمتم قائلا: السير فيليام!
وكان هذا الرجل هو نفس السير فيليام أي أندريا، فدخل وبيده مسدس أشهره على بيرابو الذي أحنى رأسه عندما عرفه، وهو يكاد يذوب من الخجل، فمشى إليه بعظمة واحتقار، ثم رجع إلى سريز وقال: لا تخشي أيتها الفتاة، ولا بأس عليك، إن الله أرسل إليك من يصون طهارتك، وينقذك من أيدي الأشرار.
ثم رجع خطوة إلى الباب ونادى قائلا: كولار.
ودخل كولار في الحال من الباب الذي دخلت منه سريز، فعرفته أنه صديق خطيبها، فركضت إليه واحتمت به كما يحتمي الطفل بأمه في مواقف الخوف.
فقال له أندريا: إني أعهد إليك بإرجاع هذه الفتاة إلى منزلها، وإذا أصيبت بمكروه أنت المسئول عنها.
وتكلف كولار الانذهال، وقال: إنها بالحقيقة السيدة سريز كما أخبروني.
وقد اكتفى بما ذكره، ولم يوضح شيئا من مقاله، وأخذ بيدها فخرجا من ذلك المنزل وهي واثقة به مزيد الثقة، وداعية للسير فيليام. (15) الميثاق
بعد أن ذهبت سريز مع كولار بقي أندريا مع بيرابو في الغرفة نفسها، وقد لبثا هنيهة ينظر كل منهما إلى الآخر نظرة الأعداء في ساحة القتال، إلى أن ذهب أندريا وأوصد الباب، وعاد إلى بيرابو فقال: يخال لي يا سيدي أنك المسيو بيرابو رئيس قلم في وزارة الخارجية، وأنك والد السيدة هرمين التي تشرفت بالرقص معها ليلة أمس، وإني أراك اليوم في منزل مشتبه تحاول اغتصاب فتاة شريفة وتلقي بنفسك إلى ...
فقاطعه بيرابو وقال: ماذا يعنيك؟ - أنا لا يعنيني ذلك أبدا، ولكن يجب أن تعلم أن هذه الفتاة في السابعة عشرة من عمرها، وأنك قد حاولت اغتصابها قهرا وغلابا، وهذا الذنب من أكبر الجرائم وما وراءه غير السجن. أفهمت الآن؟
وأصغى إليه بيرابو وهو ينظر بملء الخوف إلى المسدس في يده، فأتم أندريا حديثه وقال: ولكي تصل إلى هذه النتيجة، أي لكي تبدل ثيابك التي تدل على منصبك العالي بثياب المجرمين، وتستعيض عن تلك النياشين التي تعلقها على صدرك بقيد يوضع في رجلك، ويستحيل اسمك الذي هو رئيس قلم في وزارة الخارجية إلى اسم مجرم مغتصب، لا ينبغي إلا شاهدان يشهدان أمام القاضي على جرمك الفظيع. - إذن أنت تريد هلاكي؟ - إن أمر هذه الفتاة يهمني، وسأشهد مع كولار على ما رأيناه.
فجثا بيرابو على ركبتيه وقال: رحماك إن كلمة منك تزجني إلى أعماق السجون.
وكان هذا الشيخ وقحا مع الأدنى متذللا للأعلى، قويا مع الضعيف جبانا مع القادر، فجعل يتوسل إلى أندريا وهو يبكي بكاء الأطفال، فأنهضه أندريا وقال: كفاك الآن توسلا، واجلس أمامي لنتحدث.
فقال بيرابو وقد استحالت ملامحه من اليأس إلى الأمل: أتعفو عني؟ - كلا، ولكني سأجتهد أن أتفق معك، وإن لم أكن قاضيا قادرا على سجنك، ولكن لي الآن سلطان عليك وعلى حريتك وشرفك ومنصبك، وسأرى إذا كنت أستطيع أن أحصل على مطلوبي بهذا السلطان.
فظن بيرابو أن أندريا طامع بالمال فقال له: أتريد مالا؟ نعم، إني لست بغني، ولكن قل كم تريد؟
فهز أندريا كتفيه مبتسما وقال: إني أريد أكثر مما تظن. - إذن أنت تريد خرابي؟ - ليهدأ روعك فلست بحاجة إلى مالك، وأصغ إلي.
فتنهد تنهد الراحة، ونظر إلى أندريا نظرة إجلال، فقال أندريا: إن لك ابنة وقد رقصت معها ليلة أمس. - نعم. - وقد عقدت خطبتها إلى فرناند روشي. - هذا أكيد. - إنك أخطأت في ذلك، فإن ابنتك قد أعجبتني، ويسرني أن تكون زوجة لي، والآن أصغ إلي. إن هرمين ليست بابنتك الشرعية، أليس هذا أكيدا؟ - نعم. - إنها ابنة رجل لا يعلم اسمه سواي، وقد مات تاركا 12 مليونا، ولا يعلم سواي أيضا بوصيته، وقد أوصى بها أن يبحث عن تلك المرأة، فإذا كان لها ولد منه تعطى له جميع هذه الملايين، أفهمت الآن؟
فأدرك بيرابو جلية الأمر، وجعلا ينظران إلى بعضهما كلصين دهم أحدهما الآخر، ثم اضطرا إلى الاتفاق بعد أن كان كل منهما يريد قتل الآخر.
فقال أندريا: إنني إذا تزوجت بابنتك فستكون هذه الملايين لها، وسيكون لك منها نصيب، وإذا أبيت فإني أكتم اسم أبيها فتخسر هذه الثروة الواسعة.
فقال بيرابو وقد هاجت به أطماعه: ستتزوجها من غير بد. - إذن أصغ إلي الآن، إنك رجل أهل لكل جريمة، كثير الشهوات ولكنك ضعيف العقل، فلا تستطيع أن تخوض في مضمار المآثم بغير مرشد، أما أنا فسأكون ذلك القائد، وستكون آلة بيدي أديرها كيف أشاء. - قبلت، وسأكون لك أطوع من العبيد.
ثم اختليا، ولم يعلم أحد ما دار بينهما، غير أنه لما خرج بيرابو كان قد وقع على شروط تقرر في بعضها موت فرناند. (16) أمين الصندوق
في اليوم الثاني من تلك الحادثة جاء بيرابو في الساعة العاشرة حسب عادته، وكان قد اطمأنت نفسه لوعود أندريا ، لا سيما بما يتعلق بسريز، فمما قال له: طب نفسا يا عماه، فإن اليوم الذي تزف إلي ابنتك تجد على باب منزلك مركبة فيها كيس ملآن من الذهب، وبقربه سريز، فتذهب بها إلى خير بقعة خارج باريس، وتقضي معها شهر العسل.
وكان أندريا ضاغطا على بيرابو بثلاثة أمور: أولها خوفه من تهمة الاغتصاب وهو شر الذنوب، ثم حبه لسريز وما يجد بها من الهيام المبرح، ثم طمعه بملايين ذلك الإرث الخفي. فلما دخل إلى غرفته في الوزارة على ما قلناه دخل إليه فرناند، ولم يكن قد وصلت إليه تلك الرسالة الهائلة، فكان باسم الثغر طلق المحيا، شأن السعداء في الحب، فحيا رئيسه وقال: إني آت لأخبرك عن حفلة الأمس. - عسى ألا تكون قد ضجرت، فهل حدثوك عني بشيء؟ - نعم، وقد تملحت لك عذرا لعدم حضورك. - حسنا فعلت، والآن أيها الصديق إنك قد أصبحت من أشد خلصائي، فلا أجد بدا من أن أطلعك على جميع سري فأصغ إلي. إن هذه الفتاة قد ملكت قيادي، واسترقت فؤادي، وأنا الآن مضطر إلى الذهاب إليها، فأرجوك أن تنتقل إلى غرفتي وتنوب عني في قضاء الأشغال، ثم أعود بعد ساعة، وسأترك لك مفاتيح الصندوق، فإذا جاء أحد ليقبض شيئا فادفع له من هذا الصندوق.
وكان يوجد في هذا الصندوق اعتياديا ألف جنيه بين ذهب وأوراق مالية، واسمه صندوق المساعدات السرية.
وكانت تلك الغرفة التي فيها بيرابو قاعة واسعة، وعلى الباب الخارجي خادمان لنقل أوامره إلى سائر المأمورين، فقال بيرابو لفرناند: اذهب الآن واقفل غرفتك وعد إلي.
فامتثل فرناند.
أما بيرابو فإنه فتح الصندوق بمنتهى الخفة، وأخرج منه محفظة خضراء وأخفاها في جيبه، ثم أقفل الصندوق وعاد إلى مجلسه، ولما دخل فرناند أعطاه المفاتيح، وخرج بعد أن أوصى المأمورين أن يعتمدوا على صهره فيما يعرض لهم من الأشغال أثناء غيابه، ثم ركب مركبته وأمر السائق أن يسير مسرعا إلى سانت لازار.
ولم يطل مكوث فرناند في غرفة حميه حتى دخل إليه أحد الخادمين فقال له: إن على الباب رجلا يحمل إليك رسالة.
فأمره بإدخاله فدخل.
وكان هذا الرجل كولار، والرسالة هي الكتاب الذي كتبته هرمين.
فوصل منها إلى أبيها ومنه إلى أندريا الذي عهد إلى كولار بإيصاله، ففض فرناند الرسالة ولم يكد يأتي في تلاوتها على آخرها حتى امتقع لون وجهه، وأحس أن الأرض أعقبت عليه، وكان كولار قد قال له: إن امرأتين إحداهما كهلة والثانية صبية قد كلفتاه بإيصال هذه الرسالة. فعلم أنهما تريزا وهرمين، ثم قرأ الرسالة مرة ثانية، فأضاعت رشده ونسي موقفه، فخرج من تلك الغرفة مهرولا بغير قبعة وبغير رداء، وهو يرجو أن يراهما على الطريق، ولم يكن معه غير مفاتيح الصندوق.
مضى على ذلك ساعة ولم يعد فرناند، وقد عاد بيرابو ولم يجده، فتكلف الانذهال ودعا بالخادم فقال له: أين فرناند؟
إنه ذهب بعدما ذهبت. - عجبا! أيذهب قبل أن أعود؟ - أظن أنه في غرفته؛ لأن قبعته لا تزال هنا.
وجعل بيرابو يبحث عنه في جميع الغرف، ثم عاد إلى أشغاله وهو يتظاهر بالتعجب والقلق، وفيما هو جالس إذ دخل عليه رجل وبيده صك يريد قبض قيمته، فقال له بيرابو: إن مفاتيح الصندوق ليست معي، فانتظر قليلا.
فلبث ذلك الرجل منتظرا حتى أعياه الانتظار، فتلبس بيرابو بالغضب، ودعا الخادم وقال له: اصعد إلى الطبقة العليا وابحث عنه، ولا بد أن يكون فيها؛ لأن قبعته ورداءه لا يزالان هنا.
فذهب الخادم ثم عاد وقال: إن فرناند خرج من الوزارة. - أيخرج من غير قبعة إن هذا مستحيل. - إن الحارس قد أكد لي خروجه، وقد قال إنه شاهده يركض في الطريق من جهة الباستيل.
واصفر وجه بيرابو، وأخذ يردد في ذاته: هذا محال، إن فرناند شريف. - لقد غاب عني أن أخبرك أنه قدم إليه رجل على إثر خروجك برسالة، ولما قرأها ذهب.
فتنهد بيرابو تنهد ارتياح، وقال: لا شك أنه ورد إليه نبأ مكدر اضطره إلى الذهاب، وإني أؤثر أن يكون ذلك على أن يكون ما تسرعت في تصوره.
ثم قال للخادم: اذهب إلى أمين الصندوق العمومي، وقل له أن يأتي إلي.
فذهب الخادم وعاد مع أمين الصندوق، فقال له بيرابو: إني نسيت مفاتيحي فأعطني مفاتيحك.
وأخذها منه ثم أسرع إلى الصندوق ففتحه، وللحال رجع إلى الوراء منذعرا واصفر وجهه ووقف ساكتا قلقا لا يبدي حراكا.
فقال له أمين الصندوق: ماذا أصابك؟
وسكت بيرابو هنيهة ثم قال: ألم نضبط بالأمس حساب الصندوق سوية؟ - نعم، وأذكر فيه اثنين وثلاثين ألف فرنك، منها أوراق مالية قيمتها ثلاثون ألفا كانت موضوعة في طي محفظة خضراء.
فقال بيرابو بصوت مختنق: إن تلك المحفظة قد سرقت، وقد سلمت مفاتيح الصندوق منذ ساعة إلى فرناند روشي، لثقتي به، ولاضطراري إلى الخروج.
ثم غطى وجهه بيديه كمن يريد أن يظهر خجله لعزمه على تزويج ابنته برجل لص.
ولم يمض على ذلك مدة وجيزة حتى شاع أمر فرناند عند جميع عمال الوزارة، وكان الجميع يتلقون هذا النبأ بالارتياب؛ لإجماعهم على احترام فرناند ولثقتهم من أمانته، ولكن كل ما مر به من الحوادث كاستيلائه على مفاتيح الصندوق، وخروجه من الوزارة راكضا يدل على وقوع التهمة عليه، ولا سيما تركه قبعته ليوهم أن خروجه مؤقت فلا يلتفت أحد إليه، ولا يبحث عنه قبل أن يتمكن من الفرار، وكانوا يعلمون أنه لم يكن ذا يسار، فتوهموا أنه طمع بما اؤتمن عليه من المال، ثم مرت الساعات ولم يعد فثبت الجرم وقضي على هذا البريء. (17) الشرطة
بينما كانت هذه الحوادث تجري في الوزارة كان فرناند التعيس يعدو في شارع سانت لويز حتى وصل إلى منزل بيرابو، فصعد إليه وطرق الباب ففتحت له الخادمة، ولما عرفته اعترضت سبيله ولم تدعه يدخل، فقالت له: إن المسيو بيرابو قد ذهب. - إني أريد أن أرى السيدات. - إنهن خرجن أيضا. - إذن أنتظرهن.
وأبعد الخادمة محاولا الدخول، فاعترضت أيضا في سبيله وقالت: إن انتظارك لا يجديك نفعا، فإنهن غادرن باريس، ولا يرجعن إليها قبل ثلاثة أيام.
فارتعش فرناند وقال: هذا محال. - ولكن هي الحقيقة أظهرتها لك حسبما بلغتها.
ورجع فرناند وهو يتعثر في مشيته كالشارب الثمل، ومشى في الأسواق مشية المجانين، وهو لا يعلم أين يسير، وقد أخذ منه اليأس بعدما تيقن من سفر هرمين، وتغلب على عواطفه حتى أضاع رشده، ثم اشتدت عليه تلك الأزمة، فسقط على قارعة الطريق مغميا عليه، وتسارع إليه الناس للاعتناء به، وفيما هم يهتمون بإنهاضه إذ مرت بهم مركبة فوقفت للحال ونزلت منها فتاة عليها مظاهر الغنى، واخترقت الجماهير حتى وصلت إلى فرناند وأحنت عليه إحناء الأم على ولدها، ثم وضعت يدها على قلبه، ومذ أحست بحركة فيه صاحت صيحة فرح وهي تقول: حبيبي فرناند.
فابتعد عنها جميع الناس، وكلهم واثق أن انصرافه لم يكن إلا عن يأس في الحب، أما تلك الفتاة وكانت باكارا فإنها أمرت السائق أن ينقل فرناند إلى المركبة، ثم صعدت في إثره خببا إلى منزلها.
ولم يفق فرناند إلا بعد أن وصل إلى منزل باكارا، فظن نفسه رأى حلما، ونظر حوله باندهاش فوجد نفسه في سرير بملابس النوم في تلك الغرفة الحريرية التي كانت باكارا تستقبل بها أندريا، ولم يكن قد بقي من النهار إلا بقية نور ضعيف تنير تلك الغرفة البديعة الرياش، فغالط نفسه وعاوده الظن أنه يحلم، فأطبق عينيه كأنه يريد أن يستتم ذلك الحلم، ولكنه لما عاد وفتحهما وجد شخص امرأة منحنية عليه كما تنحني الأم على طفلها، ثم أخذت يده وقالت له بصوت حنون رن في أعماق قلبه: أنت محموم.
فأجابها وهو في حالة الذهول: أين أنا؟
فأجابته باكارا وصوتها يتهدج: أنت في منزل صديقة.
ثم دنت من الموقد وأضاءت شمعتين كانتا عليه، فتأملها فرناند مليا، وصاح مندهشا وهو يظن أنه في حضرة ملاك لا في حضرة إنسان. - إن الطبيب يأمرك بالراحة، فلا ينبغي أن تتكلم ولا تتحرك؛ لأن مرضك شديد حتى إنك سقطت في الشارع مغميا عليك، ولو لم أكن حاضرة ...
فقاطعها وقال: أكنت حاضرة؟
فقالت وقد ورد الخجل وجنتيها: كنت مارة من هناك اتفاقا، فعرفتك وحملتك في مركبتي. - عجبا! أتعرفينني! - نعم، أولا تعرفني أنت؟
فقال وهو يمر يده على جبينه: أجل، أذكر أني رأيتك.
فقالت وقد أطرقت بنظرها إلى الأرض: أنا أخت سريز. - أجل، ولقد تذكرت الآن، ويخيل لي أني رأيتك عندها في النافذة. - هو ذاك، ولكن سنتحدث في هذا الشأن مليا غدا أو بعده، أما الآن إنك في حاجة إلى الراحة، ولا ينبغي أن تتكلم فاهدأ وكن عاقلا.
ثم انحنت عليه كما تنحني الأخت على أخيها وقبلته في جبينه قبلة رجف لها فؤاده واضطربت أعضاؤه، وكاد يعاوده الظن أنه في حلم لا في حقيقة، ثم شعر بأنفاسها تهب في وجهه وقلبها يخفق في صدرها فوق صدره، وخيل له أنه قد سمع كلمة خرجت من شفتيها الورديتين همسا، كما يهمهم نسيم الماء، تلك الكلمة التي ما وقعت في قلب رجل إلا اهتزت لها كل عروقه، والتي لا شبيه لها إلا رنة العود في قلب الحزين، أو صوت المطرب في أذن النشوان، ولا يقولها أحد بمثل تلك اللهجة والحنان إلا أفواه النساء، وهذه الكلمة هي «أحبك»، وهي كلمة تختلج لها كل نفس، فكيف إذا كانت نفس ابن عشرين. •••
ولما طلع الصباح ومرت نسائمه الباردة على جبهة العليل، ففتح عينيه ووجد باكارا واقفة تجاهه وقد ضمت رأسه بين يديها، وألقت عليه نظرات غرامها وانعطافها، وهي تكرر له هذه العبارة على اتفاق إمعان واختلاف روي «أحبك وأهواك».
وفيما هي كذلك وقد أخذها الحب وأطلقت عقدة لسانها أيدي الصبابة والهوى، طرق أذنها صوت جلبة ووقع أقدام كثيرة تدنو من بابها، فوثبت إلى السرير مسرعة، وارتدت أول ثوب وقع تحت يديها، ودنت من الباب فسمعت صوتا من ورائه يقول: افتحوا باسم الحكومة.
فعلمت أنهم رجال الشرطة على بابها، وداخلها الرعب والخوف منهم، مع علمها بأنها لم تجن في حياتها ذنبا يستوجب دخول حاكم في أمرها، إلا إذا كان ذنب الغرام الذي لا حكومة فيه، ولكنها تجلدت وفتحت الباب، وإذا بكبير الشرطة قد دخل عليها ووراءه اثنان من رجاله، وحياها بأدب ولطف، واعتذر عن دخوله في مثل تلك الساعة وقال: لا تخافي يا سيدتي، فإنما أنا أطلب رجلا يدعى فرناند روشي، فهل هو عندك؟
فأجابه فرناند من سريره: هو أنا يا سيدي فماذا تريد؟ - أأنت فرناند روشي الموظف في وزارة الخارجية؟ - أجل. - إذن البس ثيابك واتبعني، فأنا آت في طلبك بأمر من المدعي العام.
فاصفر وجه الفتى لهذه العبارة، وقال: يا رب ماذا تراني صنعت؟
فأجابه الشرطى بعنف: لا أعلم، فالبس ثيابك واتبعني.
فنهض فرناند راجفا مذهولا وهو لا يدري أنه ارتكب ذنبا، وارتدى ملابسه وهو يضطرب حتى إذا أتمها نظر الشرطي إلى تابعيه وقال لهما: اقبضا على هذا الرجل.
وكان فرناند قد تمالك وتشدد، فقال: ما بالكم تقبضون علي؟ وأي ذنب جنيت؟
فقال له الشرطي: إن رئيسك ائتمنك بالأمس على مفاتيح صندوقه، فاختلست منه محفظة تحتوي على ثلاثين ألف فرنك.
فصاح فرناند صياح الإنكار والدهش وقال: أنا أسرق، أنا أرتكب جريمة الاختلاس! إن هذا زور واختلاق. ثم وهت قواه وسقط بين أيدي الشرطة وهو قريب من الإغماء، فأخذوه بالرغم عنه.
أما باكارا فكانت واقفة منذهلة من شدة ما ترى، حتى إذا خرج الشرطة بأسيرهم وثبت من مكانها وثبته منكرة، وقد استنارت عيناها بفكر خطر في خاطرها، وتجلت لها حقيقة المكيدة على وجهها، وهمت أن تجري في إثر الجماعة وتنزع حبيبها من أيديهم، وتقول لهم: قفوا ليس هو الفاعل بل السير فيليام، ولكن خانتها قواها واحتبس لسانها، وسقطت على الأرض مغشيا عليها.
وعند ذلك فتح باب غرفتها ودخل منه أندريا، فنظر إليها بسكون وهدوء، وهو يتبسم تبسم الأبالسة، وقال في نفسه: لقد حسبت لك هذا الحساب، وقد حذرت لنفسي ما أمكن. ثم قرع جرسا أمامه، فدخلت فاني ومعها رجل قصير بلباس الأطباء، وهو أحد رجال العصابة الذين جلبهم كولار لخدمة هذا المحتال، فقال أندريا: ضعي سيدتك في سريرها، وانضحي وجهها بالماء حتى تفيق، وأنت تعرفين الدور الذي عليك. ثم التفت إلى الرجل وقال: أما أنت فستكون بصفة الطبيب على حسب ما اتفقنا. ثم تركهما وانصرف.
ولما فتحت عينيها بدأت باسم فرناند تكرر لفظه، حتى إذا رجع رشدها نظرت إلى فاني، وقالت: أين أنا؟ وماذا جرى؟ ثم نظرت فرأت الطبيب المتصنع جالسا على كرسي بجانبها، فصاحت مذعورة: من هذا الرجل؟ - هو الطبيب يا سيدتي. - عجبا! إذن أنا مريضة؟ - نعم، ومريضة جدا.
وعند ذلك نهض الطبيب وجس نبضها، وقال: هذا هو اليوم الثامن من أيام الحمى.
فصاحت مستنكرة: اليوم يوم الثامن؟!
فقال الطبيب وهو ينظر إلى الخادمة: إن الحمى قد خفت، ولكني أخشى أن لا يكون الهذيان قد زال، أو أن يكون مصيره إلى الجنون.
فصرخت باكارا وقد استوت جالسة: أمجنونة أنا؟ ويلاه ماذا جرى؟ وأين فرناند؟
فالتفت الطبيب إلى الخادمة وقال: انظري، فقد عاودها الجنون!
فقالت باكارا: لكني لست مجنونة. ثم أمسكت الخادمة وأدنتها منها، وقالت لها: انظري إلي يا فاني وأصدقيني الخبر، أمريضة أنا؟ - نعم يا سيدتي، ومن ثمانية أيام. - ذلك مستحيل، فقد كنت الآن سليمة، وكان الشرطي هنا. - لم يأت إلى هنا على الإطلاق. - عجبا! وفرناند كان بجانبي. - إن فرناند لم يأت إلى منزلك قط، وأنا لا أعرفه إلا بالسماع عندما تذكرين اسمه وكنت مريضة.
فبهتت باكارا وقالت: أمجنونة أنا حقيقة، أم أنا في حلم؟ - بل كانت الحمى شديدة عليك ثمانية أيام. - ذلك مستحيل وألف مستحيل. ثم عادت تحدث نفسها وتقول: إنني لست بمجنونة ولا حالمة، بل أنا مخدوعة مغرورة، وأخذت فرناند أمس عن الطريق مغشيا عليه، وجئت به في مركبتي، واستدعيت له طبيبا ولكن غير هذا الطبيب.
فقاطعها الطبيب المتصنع وقال للخادمة: إن هذا النوع من الجنون يسمى اختلال الشعور، ولا يمكن شفاؤه إلا باستعمال الحمام البارد كل ساعتين.
وكأن تلك العبارة كانت ضربة قاضية على باكارا، فغطت وجهها بيدها وأخذت تبكي، حتى إذا سكن روعها وخفف الدمع تأثرها عادت إلى صوابها، وعاودتها الحقيقة التي خفيت عنها، وقالت: كل هذا من أعمال فيليام. ثم جعلت تنقل نظرها بين الخادمة والطبيب عساها تستشف منهما ما يدلها على الحقيقة، فلم يظهر على وجههما شيء، فنهضت من سريرها مسرعة ووقفت تجاه مرآتها، وقالت : عجبا! ليس في هيئتي ما يدل على ما يقولون، وليس هذا الوجه وجه مريضة، بل أراني على أتم عافية. ثم نظرت نظرة ثانية إلى فاني، فلم يؤثر عليها ذلك النظر الحاد شيئا، بل ثبتت على تمثيل دورها، وقالت لها: عودي يا سيدتي إلى فراشك، ذاك خير لك.
فقالت باكارا: إنك توهمت أن هذا الإنكليزي وافر الثروة، وأنه سيكون لك من هباته ما يغنيك عن الخدمة، ولكنك جريت شوطا بعيدا، واقتحمت أمرا مستحيلا، فلست من الذين يعبثون بهم إلى هذا الحد.
ثم ذهبت مسرعة إلى منضدة، وأخذت خنجرا كان عليها، وقالت لذلك الطبيب المتصنع: إذا جرأت على الدنو مني فأنت ميت لا محالة.
فاختلجت فاني واضطربت رجلاها من الخوف، أما الطبيب المتصنع فإنه لم يكترث بهذا الإنذار، ونظر نظرة خفية إلى فاني أعادت إليها ما فقدته من الجسارة، فقالت لبكارا: أتريد سيدتي أن أساعدها على لبس ثيابها؟ - نعم اتبعيني. ثم سارت أمامها وهي تقول في نفسها لا أراني مجنونة، بل أراني أعقل مما كنت، ولا يزال فرناند ممثلا أمام عيني، وأنا أذكر أمر الشرطة، وكيف ساقوه إلى السجن بدعوى اختلاس، بقي أن فاني تخدعني، ولا ريب في أن كل ذلك من صنع فيليام. وفيما هي تلبس ثيابها نظرت إلى فاني فرأتها تمسح عينيها كأنها تبكي لما ألم بسيدتها، فقالت في نفسها: إن هذه الخادمة تمثل دورها على ما ينبغي من الإتقان، وقد بقي لدي برهان واحد أقدر أن أميط به الحجاب عن هذه الخديعة؛ إني أذكر أنه كان بعنق فرناند نوط ذهبي فيه خصلة من شعر حبيبته، وإنني قد قطعت سلسلة هذا النوط بأسناني لفرط ما ألم بي من الغيرة، وخبأته تحت فراش السرير، فإذا كان باقيا في مكانه فقد كشفت سر هذه الخائنة، وإلا فإن ما ادعته من حلمي وجنوني حقيقة لا ريب فيها. وللحال تركتها وذهبت إلى غرفتها، فمدت يدها وهي تختلج إلى المكان الذي خبأت فيه النوط، فعثرت به وأخذته والفرح ملء فؤادها، حتى إذا سكنت عوامل سرورها عادت إليها حكمتها، وأيقنت من مكيدة أندريا فقالت: سأنتقم سريعا، وسأذهب بتلك البلهاء إلى رئيس البوليس لتثبت عنده جنوني، وسيرى السير فيليام أنني أشد منه دهاء.
ثم رجعت إلى فاني فأتمت لبسها وقالت لها: إن الهواء بليل في هذا النهار والجو صاف، وقد أيقنت من صدق مقالك؛ فإني أشعر بضعف وفتور فلا أجد بأسا من النزهة واستنشاق الهواء النقي في مثل هذا اليوم. لم يبق لدي ريب بأني كنت أحلم، فإن حب فرناند قد تمكن مني بحيث أضاع رشدي، ولعل ذلك الحلم والجنون مسببان عن الحمى.
فقالت لها الخادمة: لا شك في ذلك، فإنك كنت لا تفترين عن ذكر اسمه الليل والنهار في مدة هذه الحمى، وتتحدثين عند انتباهك بأحاديث تثبت جنونك، وقد زالت الآن والحمد لله تلك الأعراض، فعليك الوقاية، وعندي أنه خير لك لو لبثت في منزلك إلى أن تتماثلي ويبعد عنك كل خطر. - كلا، فإنني مصممة على الذهاب فأسرعي واتبعيني؛ لأني لا أحب أن أسير وحدي. ثم مشت أمامها فتبعتها وهي تتظاهر بالقلق الشديد إلى أن خرجت من المنزل، فوجدت مركبتها بانتظارها فصعدت إليها، ثم تظاهرت أنها نسيت منديلها، فأرسلت فاني كي تعود به، واغتنمت فرصة غيابها وقالت للسائق: بأي يوم نحن من الأسبوع؟ - يوم الخميس. - ألم تذهب بي بالأمس إلى شارع سانت لويس؟ - نعم. - أتشهد بذلك لدى رئيس البوليس؟ - نعم. - الآن، فاصبر إلى أن تعود فاني، فسر بنا إليه، ولا تدعها تعلم بشيء من ذلك.
وقد أيقنت باكارا أن أندريا يسير على خطة مبهمة ضدها وضد فرناند، ولكنها لم تعلم شيئا من سر الخطة وغايتها، فعزمت على أن تطلع رئيس البوليس على الأمر بالتفصيل توصلا إلى كشف سر هذه الخيانة، وقد كان لها معرفة به بواسطة عشيقها القديم.
فلما عادت فاني سارت بهما المركبة حتى بلغت إلى منعطف يؤدي إلى شارع مونتمارتر، فعرجت عليه وسارت به، فانتبهت باكارا، ورأت أن السائق يسير في غير الطريق التي أمرته أن يسير بها، ففتحت نافذة المركبة واستوقفت السائق، وفيما هي تؤنبه إذ فتح باب المركبة بغتة، وصعد إليها ذلك الطبيب المتصنع الذي رأته في منزلها، ثم أغلق الباب وجلس بقربها؛ فصاحت صيحة رعب، أما هو فلم يبال بصياحها، وقال لها ببرود هازئا: إنك تخاطرين بحياتك بخروجك من منزلك، فإنك معتلة، ويجب علي أن أمنعك عن كل ما يعود عليك بالأذى شأن كل طبيب صادق مع مرضاه. وبينما هو يحادثها كانت المركبة تسير في شارع مونتمارتر.
فأيقنت باكارا أن سائق مركبتها قد باع نفسه مثل فاني لفيليام، وقالت للطبيب: أين تذهب بي؟
أنزل الطبيب المتصنع جميع ستارات المركبة وقال لها: ذاهب بك إلى مونتمارتر، فاحذري من أن تفتحي الستائر ولا تستغيثي، فإن الهواء والغضب يضران بك، وقد فك أثناء حديثه أزرار صدرته وأخرج من تحتها خنجرا، فجرده من غمده وقال: إن هذا أنجع دواء لتسكين الهياج، ولك بعد ذلك الخيار.
فأحست باكارا أنها مغلوبة، وأن حياتها في خطر إذا استغاثت، فعادت إلى سكونها وقالت: لقد ثبت لدي الآن أني مجنونة، فسر بي حيث شئت فلا أعصي أمرا، ولكن قل لي أين تذهب بي. - لقد قلت لك إننا ذاهبون إلى شارع مونتمارتر. - ولكن إلى أين؟
فأجابها بمنتهى البرود، إلى مستشفى المجانين. (18) المركبة الصفراء
لقد تركنا كولار ذاهبا بسريز إلى حيث أمره السير فيليام، فكان يقول لها: لا تجزعي أيتها السيدة واطمئني، فإني سأصحبك وأدافع عنك.
أما سريز فإنها لم توجس منه خيفة؛ لعلمها أنه صديق خطيبها، ولإنقاذه إياها من أيدي بيرابو، فكانت تسير إلى جنبه مطمئنة حتى وصلا إلى الشارع، وكان هناك مركبة صفراء كانت تنتظر كولار، فتقدم منها وطلب إلى سريز أن تصعد إليها، فعادت المخاوف إلى سريز، وخشيت من أن تعرض بنفسها لخطر جديد، فقالت له: لماذا لا نذهب على الأقدام؟ - إن منزلك بعيد. - إنني قادرة على المسير. - أما أنا فإني أتعب، ولا أستطيع أن أحتمل مثل هذه المشاق. - دعني إذن أسير وحدي. - إنني أخاف أن يقفو أثرك ولا تجدين من يحميك. ولم يجد خيرا من هذه الحجة لإرهابها ، فأطاعته وصعدت إلى المركبة، فصعد في إثرها وأمر السائق بالمسير.
وكان اضطراب سريز شديدا، ولم تنتبه إلى سرعة سير المركبة حتى بلغت بها إلى جسر السين، ورأت أنها قد عرجت إلى جهة الشمال في طريق الإينفاليد، فقالت برعب وقلق: إن السائق قد ضل، ولا أدري إلى أين يذهب بنا. - أنا أعلم. - ولكنه قد سار في غير الطريق التي يجب أن يسير بها. - كل السبل تؤدي إلى الجهة المقصودة.
فقالت سريز، وقد تضعضعت من هذا الجواب: دعني أنزل، فإني لا أريد أن أذهب في هذا الطريق.
ثم حاولت أن تفتح باب المركبة فوجدته محكم الإيصاد، فنظرت إلى الشارع فألفته خاليا مقفرا، فجعلت تستغيث بصوت مختلج لم يجبه غير الصدى.
أما كولار فإنه أشعل غليونه، وقال لها: لا تزعجي نفسك بصراخ لا يجديك، فليس هنا من يسمعك، وإذا أصغيت إلي تعلمين أني لا أريد بك شرا. - قل ما تشاء، إني مصغية إليك. - إني صديق ليون.
فعادت الطمأنينة إلى فؤادها عند ذكر اسم خطيبها، وقالت: إذن فلماذا لا تذهب بي إلى منزلي؟ - لأن ذلك ليس بوسعي؛ لأن ليون بخطر شديد، وإذا عدت إلى منزلك تعرضينه للموت.
فارتاعت سريز وقالت بملء الرعب: ليون يموت؟ - نعم، إذا رجعت إلى منزلك. - ولكن ما هذا الخطر الذي يتهدده، كيف أن بعدي عنه ينقذه؟ - هذا سر لا أستطيع أن أبوح به؛ لأنه سر سواي، ولكني أقول لك أنت إذا لم تطيعيني طاعة لا حد لها فإن خطيبك يموت قبل الغد.
وجعلت سريز تختلج اختلاج ريشة بمهب الريح، وأخذ صوتها يتهدج. - إني أطيعك ولا أخالف لك أمرا، ولكن بالله ألا ما أنقذت خطيبي. - الآن سررتني وسكنت مني روعي، فإني أشفق على ليون نفس إشفاقك عليه، فالبثي الآن بقربي وكفي البكاء، فلم يعد من خطر عليه، ولا تسأليني شيئا بعد ذلك؟ - رحماك، واسمح لي أن أسألك سؤالا واحدا. - تكلمي. - وصلتني منذ ساعتين رسالة من أختي. - أعلم ذلك واسمها باكارا. - وقد كتبت لي بها أن حياتها في خطر، وأني وحدي القادرة على إنقاذها، فإذا لم أسرع إلى مساعدتها في شارع الحية، فهي تموت.
فتصنع كولار الغضب، وقال: إن أختك قد بلغت منتهى الخيانة، فإنها قد نصبت لك شركا مذموما لتلقيك في أيدي بيرابو، وليست على شيء من الأخطار.
فاسترسلت سريز في البكاء، وهي تقول: أيمكن أن تخون الأخت أختها؟ - نعم، وحبذا لو استطعت أن أبوح لك بهذا السر، ولكني في ذلك أعرض حياتي وحياة ليون للموت، وربما كان لك حظنا من الموت. - بالله إذا كان في موتي إنقاذ ليون فاقتلني.
فأخذ كولار يدها بين يديه، وضغط عليها بتودد وحنان وهو يقول: لا تخشي أمرا، فإنني عندما يتاح لي أن أبوح بهذا السر تقفين على الحقيقة، وتعلمين أني خير صديق. ثم انقطع الحديث بينهما، وزادت المركبة في سرعة المسير، حتى إذا بلغت إلى سنت جرمين خارج البلدة عاد الرعب إلى سريز، فقالت: أتسير بي إلى محل بعيد؟ - كلا، سنصل إلى وجهتنا بعد ساعة. - إلى أين نحن ذاهبون؟ - لا أقدر أن أقول، ويجب علي الآن أن أعصب عينيك!
فصرخت سريز صراخ الرعب، فقال: تذكري سابق وعدك لي من إنك تطيعينني، وأن حياة ليون متوقفة على امتثالك. ثم أخذ منديلا من جيبه فعصب عينيها دون أن تبدي أقل اعتراض، وقال لها: لا تبحثي أبدا عن المحل الذي تذهبين إليه، فإن ذاك مما يضر بنا. فسكتت سريز وهي بمنتهي الانذهال تخال نفسها في حلم، فلم تنبس بكلمة، ولم تبد إشارة، حتى وقفت المركبة، فقال لها: قد وصلنا فهات يدك لأساعدك على النزول. ثم فتح باب المركبة ونزل وإياها.
وكانت المركبة قد وقفت في سهل متسع أمام حائط طويل، ففتح كولار بمفتاح كان في جيبه، وقاد سريز وهي معصوبة العينين، فمشت معه عرضة للاضطراب والخوف، وقد سمعت وقع أقدام وهي تسير مع كولار، ثم سمعته يقول: «هو ذا العصفور.» وسمعت صوتا خشنا أجابه: «لقد أعددت القفص.» ثم شعرت أن كولار قد ترك يدها، فمدتها حالا إلى العصابة وأزاحتها عن عينيها، ثم تطلعت بنظر قلق، وكان شفق الصباح قد بدأ يتوقد، فرأت نفسها في حديقة واسعة الأرجاء محاطة بسور طويل، وفي وسط هذه الحديقة منزل صغير، فحولت نظرها إلى الجهات الأربع فلم تجد أقل أثر للمساكن، ثم نظرت بعد ذلك إلى الذي سمعته يخاطب كولار، فرأت امرأة عجوزا تناهز الستين قد جعدت وجهها الأيام، وهي بمنتهي القبح؛ فرجعت سريز إلى الوراء منذعرة وقد أخذ منها الرعب. فدنت منها تلك العجوز، وكان اسمها مدام فيبار، فأخذت بيدها وتوددت إليها توددا عظيما لم يكن إلا ليزيد من خوفها ورعبها، فصرخت مستغيثة بكولار الذي بعد عنها، وتظاهر أنه لم يسمع نداءها، فكانت تناديه وهو يمشي مسرعا، وقد قبضت عليها العجوز بيد من حديد، فلم يمكنها الإفلات واللحاق به، حتى وصل إلى الباب الذي دخل منه فخرج وأقفله وراءه.
فأخذت العجوز تسكن جأشها، وتطيب قلبها، وهي تسير بها حتى وصلت إلى المنزل، فأدخلتها إلى غرفة بها مستوقد، وقالت: اجلسي هنا وتدفئي، فإن البرد شديد، وثوبك مبتل من المطر، وسأحضر لك شيئا من الشراب يعينك على الدفء.
فأبت سريز وقالت بجزع ويأس: كلا، لا أريد أن أبقى هنا، أريد أن أعود إلى باريس. - إن المسافة شاسعة، وإنك ستؤذين قدميك الجميلتين. - كلا، فإن لي مقدرة وقوة على الرجوع، وإذا تعبت في الطريق أستريح.
فتنهدت مدام فيبار، وقد تكلفت هيئة الرفق والإشفاق.
قالت سريز: نعم، إن لي قوة على المسير، وليس ما يتعبني في سبيل ذهابي إلى ليون. - من هو ليون؟ أهو عشيقك؟ - ألا تعرفين ليون؟ - كلا!
فداخل سريز الريب، وقالت: إذا كنت لا تعرفين ليون، فإنك لا تعرفين شيئا من سر هذه الحادثة! - وماذا تريدين أن أعرف؟ - كيف؟ ألم يخبرك كولار أنه أتى بي إلى هنا؛ لأن حياة ليون خطيبي بخطر؟ فضحكت مدام فيبار وقالت: كولار قال لك ذلك؟ - نعم. - وهل صدقته؟
فارتاعت سريز وقالت: أليس ذلك بصحيح؟
فعادت مدام فيبار إلى ضحكها وقالت: حقا، إن كولار من أعظم المضحكين، كما أن هذا الحديث من أطرب المضحكات.
فجثت سريز على قدميها وتوسلت إلى تلك العجوز وهي تبكي وتقول: بالله إلا ما قلت لي أين أنا وما يريدون مني؟ - ذلك هين سهل، فإن أحد الأغنياء العظام رآك فأحبك وأنت تعلمين البقية. - ليس ذلك بصحيح.
ثم ذكرت بيرابو فقالت: بل هي الحقيقة بعينها، فإن رجلا وحشي الأخلاق حاول ... ولكن رجلا شابا قد أنقذني منه وسلمني إلى كولار ليوصلني إلى منزلي.
فضحكت ضحكا شديدا ثم قالت: هذا هو الفتى الذي أخبرتك عنه، وأنت الآن في منزله. فصاحت سريز صيحة يأس. (19) المستنطق
ندع الآن سريز، لنعود إلى فرناند الذي تركناه خارج غرفة باكارا، فنقول: إنه كان يسير بينهم وهو يخال أنه يحلم، إلى أن وصلوا به إلى الحديقة، ورأى الخدم تنظر إليه بغرابة واندهاش، فأيقن أنه في يقظة، ثم افتكر بما يتهمونه به، وأن لا يد له بهذه الخيانة، فثار الدم في عروقه وحاول أن يتخلص من الشرطة، ولكنهم كانوا ثلاثة أشداء فأحاطوا به وتغلبوا عليه، وكان يقاومهم كلما لاحت له فرصة، واشتدت عليه الذكرى فقال له رئيسهم: إنك فرد ونحن ثلاثة، فدفاعك لا يفيدك شيئا ولكنه يثبت جريمتك، وما يؤثر عليك أن تحاكم وأنت بريء كما تقول؟ فإذا صح ذاك وهو ما أتمناه لك، فإن المحكمة لا تلبث أن تطلق سراحك، ولا ينالك شيء من الإهانة.
فقنع فرناند مكرها، وسار معهم بغير دفاع حتى وصلوا إلى السجن فأدخلوه إليه، فلبث فيه ساعة وهو منهوك القوى فاقد الرشد، وكان يؤثر الموت على أن يتهم بسرقة، وهو مشهور عند الجميع بالنزاهة والعفاف، فكان يذكر باكارا، ثم الجنود، فالتهمة، فالسجن، فكتاب هرمين، وواحدة من هذه المصائب تكفي لأن تهيج أعظم الناس رشدا؛ فيزبد كما تزبد الجمال، ثم ينكس برأسه إلى الأرض متأملا بما أحاط به من الكوارث، ويرى أن كل ما مر به من الحوادث يثبت تلك الجريمة الهائلة، فيتهدد السماء بقبضته، ثم يجد أن كل ذلك لا يفيده، ولا يجد بابا لتبرئة ساحته فتصغر نفسه، ويسترسل إلى الدموع، ويبكي بكاء الأطفال، وكان يعود بعد ذلك إلى الافتكار بهرمين ، وكيف بعثت إليه بتلك الرسالة، وهو لم يجن ذنبا يستحق هذه الإهانة، فينسى موقفه وما هو متهم به إلى أن يفيق من غفلة تصوراته، ويرى نفسه منفردا في ذاك الحبس الضيق حبس المجرمين، فيفقد صوابه ويعود إلى ما كان عليه.
وكان يقول: إن مفاتيح الصندوق معي، وقد تركت الوزارة حاسر الرأس، وأنا أعدو في الشوارع كالمجانين، وبدلا من أن أعود وأرجع المفاتيح إلى رئيسي بقيت معي إلى أن فتشوني، وقد وجدوني عند مومسة كثيرة المطامع، فهل بقي ريب بأني اختلست هذه النقود لأنفقها في سبيل مرضاتها؟ ولكني لم أسرق شيئا والمفاتيح كانت معي، فكيف سرق هذا المال؟ بل كيف وجدت عند تلك المرأة؟ وإذا صح أن المال قد سرق فمن السارق؟ ومن أتهم وأنا المسئول؟ ومن يدافع عني وليس لي غير بيرابو الذي أصبح خصمي؟ إلهي أنت خلقتني بشرا وهذا فوق طاقة البشر. وفيما هو على ذلك دخل عليه شرطي، وذهب به إلى الاستنطاق، فاستنطق على ما يأتي:
قال المستنطق: أنت هو الذي يدعى فرناند روشي؟ - نعم. - إنك متهم بجرم هائل، وكل ما لدينا من الأدلة يثبت جرمك، فإن رئيسك قد اضطر في الساعة العاشرة من صباح أمس إلى الخروج، فنقلك إلى غرفته، وأتمنك على مفاتيح الصندوق، الذي تحقق بعد إثبات أمين الصندوق العام أنه كان يحتوي على ثلاثة آلاف فرنك ذهبا، وثلاثين ألفا قراطيس مالية. - لم يكن لي علم بهذا لأني لم أفتح الصندوق. - ولكن مفاتيحه كانت معك؟ - نعم. - وقد وجدوها في جيبك عند تفتيشك؟
فأشار فرناند إشارة إيجاب. - وإن رجلا قد قدم إليك قبل خروجك، ولم نعلم عنه شيئا إلى الآن، فمن هو هذا الرجل؟ - لا أعرفه، فإني لم أره سوى مرة واحدة. - احذر من أن تضلني بإنكارك، وقل، ألم يكن هذا الرجل شريكك في الجرم؟
فأجاب فرناند بصوت خرجت فيه الحقيقة من أعماق قلبه: أقسم لك أنه لا يمكن أن يكون لي شريك لأني بريء. - ولكن من هو هذا الرجل، وماذا يبتغي منك؟ - قد أحضر لي رسالة . - ممن؟
فاختلج فرناند وأرخى نظره إلى الأرض، ثم قال: ذلك ما لا أقدر أن أبوح به؛ لأن الرسالة قد وردت إلي من امرأة شريفة لا يليق بي أن أصرح بذكرها في هذا الموقف. - إني كنت أتوقع منك مثل هذا الجواب الذي تحاول فيه الدفاع عما أنت متهم به، ولكن المسيو بيرابو قد أوقفني على الحقيقة، فإنك كنت مزمعا على أن تقترن بابنته، أليس كذلك؟
فتوسل إليه فرناند أن لا يذكر هذا الشأن، فقال المستنطق: وقد علمت أن لك خليلة!
فقال فرناند بكراهة ونفور: لا صحة لما يقال.
فلم يحفل المستنطق بجوابه واستمر في الحديث، فقال: وإن هذه الخليلة تدعى باكارا، وهي كثيرة الدلال شديدة التلهف إلى المال، فلا يبعد أنك لأجل مرضاتها ولشغفك بها قد ...
فقاطعه فرناند بحدة وقال: إني لم أعرف هذه الفتاة قبل أمس.
فقال المستنطق بلهجة الناصح: اعلم أن الإقرار في مثل هذه الشئون أولى من الإنكار الذي لا فائدة منه سوى تعظيم ذنبك.
فأجاب فرناند بلهجة جعلت المستنطق يثق ببراءته بالرغم عما لديه من البراهين: أقسم لك يا سيدي إني بريء. - هذا ما أتمناه لك، ولكن كيف تنطبق سرقة هذا المال وخروجك من الوزارة على ما كنت عليه من الاضطراب، واحتجابك، والقبض عليك في منزل تلك المومسة؛ على براءتك؟
فرفع فرناند عينيه إلى السماء، وقال: إن الله عظيم عادل، فهو يكشف سر هذه الخيانة، وإني أقسم بجلاله إني بريء. - سيذهب بك الآن جنديان إلى منزلك ومنزل خليلتك ويفتشان؛ فإذا لم يجدا بهما المحفظة نرى في شأن تبرئة ساحتك.
فصاح فرناند والفرح ملء فؤاده: هلموا إلى حيث تريدون، فإني بريء.
فدعا المستنطق جنديين وقال لفرناند بلطف ودعة: سر معهما، وعسى أن تبرئ ساحتك، وتنجو من هذا العار.
فذهبوا جميعا حتى وصلوا إلى منزل باكارا، ثم ركبوا مركبة وذهبوا إلى شارع مونسي.
وكانت باكارا قد خرجت من المنزل مع فاني كما تقدم، ولم يكن في المنزل غير الخدم، فبدءوا بتفتيش الغرف حتى بلغوا إلى الغرفة التي كان نائما فيها فرناند، وبعد أن فتشوا في خزائنها ولم يعثروا على شيء، نظر أحدهم فرأى رداء رجل معلق، فقال: هو ذا رداء رجل، وعسى أن يكون رداء المتهم، فلنفتش فيه.
وكان هذا الرداء لفرناند، وذلك أنه عندما سقط مغميا عليه في الطريق كان مرتديا به، ولم يفطن إليه عندما أخذته الجنود، فبقي عند باكارا، ولما رأى الجنديين يشيران إليه قال: هذا الرداء لي.
وجلس على كرسي وعليه لوائح عدم المبالاة، أما الجندي فإنه أخذه وقال: إنه ثقيل، وأظن أن المحفظة في جيبه.
ثم مد يده إليها، فأخرج منها تلك المحفظة الخضراء بنفسها فارغة من المال، فقال لفرناند: لا أظنك تقوى بعد ذلك على الإنكار.
أما فرناند فلم يجبه بحرف، ولكنه صاح صيحة يأس وسقط مغميا عليه، فانتصر أندريا بما كاده للبريء، وأصبحت تبرئته ضربا من المحال. (20) البحث عن تريزا
بينما كان أندريا يدير بحذقه هذه الحادثة، وقد زج بفرناند بالسجن بتهمة الاختلاس، وحبس باكارا في المستشفى بعلة الجنون، وحجر على سريز في منزل مدام فيبار، ففرقهم عن بعضهم، وأبعد كل من يحتمل أن يوقف أرمان دي كركاز على آثار تريزا وابنتها، وكان أرمان يسعى بملء الغيرة والنشاط لإيجاد تلك المرأة وولدها، ليدفع إليهما ملايين البارون كرماروت المؤتمن عليها.
وكان يستعين على ذلك ببستيان وببوليس سري، ولم يكن إلى الحين الذي رأيناه فيه يقفو أثر الرجلين في بلفيل قد وقف على شيء من أثر تريزا، فوصل إلى تلك القرية في حينه، ومنع ذلك الاعتداء عن ليون رولاند، ولا يزال يذكر القارئ أنه كان قبل دعوة ليون، فلما عزموا على الرحيل قدم ذراعه إلى حنة، وسار الجميع إلى منزل سريز.
ومن غرائب القلب في سرعة تأثره وتقلبه أنه لا تكاد تسري إليه النظرة أحيانا حتى تفعل فيه لأول وهلة فعل سواها بعد طول الممارسة والتكرار، كأنما هي بين الحب والكره وقع السعادة والشقاء، فإن كليهما يملأ القلب عند وقوعه، وكثيرا ما تختلف نظرتان فتكونان بدء الحب الأكيد أو البغض الشديد عند أول مقابلة منهما في الغراء، وهما زهرة ورد يتهاداها القلبان من طريق العيون في الحب وفي الكره، سهمان مسمومان تتراشق بهما القلوب عن قسي الجفون، وهو سر من أسرار الطبيعة لا يعرفه إلا من يعرف سر الوداد والبغضاء، ولعله تشابه القلبين أو تباينهما جملة حتى يمتزجا أو يتنافرا في لحظة عين كما يمتزج النور بالنور، ويتنافر الضياء بالظلام، ولقد كان من هذا القبيل نظرة أرمان إلى حنة؛ فإنه لم يكد يقع نظره عليها حتى شعر أن جمالها يملأ فؤاده، كما يملأ النور العين عند انفتاحها، وأنها ارتسمت على جوارحه كما يرتسم أثر الختم عند الطباعة، وأنه قد أصبح لها وهو يعلم أنها أصبحت له بدافع الأمل الذي يرجوه فيها، واعتقاده أن من القلب إلى القلب دليلا، وما أدري هل استحسان النظرة هو الذي ينشئ هذا الأمل والاعتقاد، أم هما ينشئان تلك النظرة، ويكونان رائد القلب إلى العيون:
والذي حارت البرية فيه
داء قلب بنظرة العينين
وإن الذي زاد أرمان ميلا إلى حنة وحنوا عليها، ما استشفه في ظاهر هيئتها من ذلة الانكسار وآثار الشقاء والحزن، وهي آثار قد تفعل في القلب الشريف أحيانا ما لا تفعله طلائع الحسن والازدهاء. فلما وصل القوم إلى منزل سريز، دخلت إلى منزلها ودخل معها ليون وأمه، أما حنة فإنها اعتذرت وسألت أرمان أن يوصلها إلى منزلها، فسار وإياها وقال: إلى أين تريدين أن أوصلك؟ - إلى شارع مسلي.
وفيما هما يمشيان قال: أتعرفين سريز حق المعرفة؟ - نعم أعرفها أيام كان أبوها حيا، وكنا جيران. - عجبا! فإني أرى من تباين حالتيكما ...
فقاطعته الفتاة وقالت: صدقت يا سيدي، ولكن المصائب والشقاء تناسب بين القلبين في الألفة أكثر مما يناسب بينهما المقام.
ثم تنهدت تنهدا طويلا رق له قلب أرمان وقال لها: أتراك يتيمة؟ - نعم، فإن أمي قد ماتت من بضعة أشهر، وأبي راح قتيلا في ساحة الحرب.
وعند ذلك وصلا إلى منزل الفتاة فودعها، وقبل يدها باحترام، وعاد إلى منزله مفكرا مهموما وهو يقول: أتراني لا أزال فتيا، أم لا يزال في قلبي وتر لم تنقر عليه أصابع الغرام؟
ولما كان الصباح دعا إليه بستيان فقال له: البس ثوبك العسكري، واذهب في الحال إلى شارع مسلي نمرة 11، واجتهد أن ترى فيه منزلا معدا للأجرة، وإذا لم تجد فادفع للبواب قدر ما يشاء ليخلي لك أحد المنازل المأهولة، فإن ذلك لا يصعب عليه، وبعد أن تجد ذلك المنزل تنقل إليه الأثاث ثم تذهب إليه فتقطن فيه باسم باستيان، أما هذا المنزل نمرة 11 فإن ابنة تدعى حنة ساكنة فيه، ويهمني أمرها جدا، وأول ما تشرع به عندما يتيسر لك أن تكون بجوارها هو أن تفحص عنها، فقد علمت أنها ابنة رجل كريم النسب، وقد أحنى عليها الدهر بوفاة أبيها وفقد ثروتها، ثم تجتهد أن ترتبط معها بالعلائق الوثيقة، فإن ما بلغته من العمر يدفع عنك كل ريبة. فاذهب الآن وعد إلي سريعا في كل حال لأعلم ماذا فعلت.
وبعد أن ذهب بستيان قام أرمان إلى مكتبته فأخذ منها دفترا ضخما، وكتب فيه بالخط المصري هذين الاسمين «ليون رولاند في شارع البوربون، وسريز في شارع التامبل»، ثم كتب تحتهما هذه المذكرة: «يجب البحث عن الغاية التي دفعت نيقولا وفاتح الأقفال إلى الاعتداء على ليون وخطيبته.» وبعد أن فرغ من الكتابة أخذ يقلب صفحات الدفتر، ثم غلبت عليه الهواجس فغرق في تأملات عميقة.
وما زال على أتم الذهول حتى قرع الباب ودخل بستيان فقال: إن تلك الابنة التي أرسلتني لأبحث عنها تسكن في الطبقة الرابعة من المنزل، وقد توفقت لإيجاد منزل مقابل له فاستأجرته بستمائة فرنك، وبعد ذلك ذهبت إلى البواب واستطلعت منه كنه أمر الصبية، فقال لي: إنها تدعى حنة بالدر وإنها حسنة التربية، أما أجرة منزلها فهي ثلاثمائة فرنك، وهي عائشة مع خادمة لها طاعنة في السن شديدة الطوع لها، وهي حسنة السيرة جدا لا تزور ولا تزار، وقد أخبرني البواب أنه شاهد منذ يومين نورا في غرفتها بعد منتصف الليل، ففحص عن ذلك فعلم أنها تشتغل أشغالا يدوية، ولم يكن يراها تشتغل قبل هذا العهد.
وقد كانت من قبل تسكن منزلا كبيرا في شارع شابون إلى أن ماتت أمها، ولم يبق لديها من المال ما يتيح لها أن تعيش في بذخها السابق، فتركت ذلك المنزل الأنيق، واستبدلته بهذا المنزل الحقير بغية الاقتصاد، ويظهر أنها اضطرت لفقرها أن تعيش من أشغال يدها، وهي حسنة الصيت وافرة الأدب، وجميع معارفها من الأعيان.
وبينما كان بستيان يقص أخبار حنة كان قلب أرمان يختلج بعاطفة سرية، وقد طفح سرورا بما سمع.
ثم قال بستيان: وقد علمت أيضا من البواب أنه كان عندها في منزلها القديم بيانو، وعندما استبدلت منزلها لم تنقله إليه، مما يدل على أنها اضطرت لفقرها إلى بيعه.
فقال أرمان: إذن اذهب واشتري بيانو قديم الطراز، وأنا أعلم أنك لا تعرف أن تعزف على هذه الآلة، ولكني أرغب إليك أن تشتريها وتنقلها لمنزلك، ثم تدعي أن منزلك ضيق، وأن هذه الآلة لا يمكنك أن تبيعها؛ لأنها كانت لابنتك وهي آخر تذكار بقي لك منها، فترجو السيدة أن تسمح لك بأن تودعها عندها.
فامتثل بستيان ومضى لينفذ أمر سيده. أما أرمان فإنه وضع رأسه بين يديه، وانتقل إلى عالم التصور والخيال، فصورت له أوهامه تذكار تلك الفتاة مرتا، التي طالما أحبها وطالما حاول إنقاذها من أندريا الخائن، فلم يقدر على ذلك.
وكان هذا الخيال الذي هو خيال حبه الماضي المشئوم، قد تجلى لديه بكمال صورته كأنه يغالب غرامه الجديد، ولكنه لم يمكنه أن يقوى عليه؛ لأن ذلك الحب القديم لم يبق منه إلا أثر صغير، وقد محت باقيه تقلبات الأيام في ذلك القلب الذي ملأته ظلمة الأحزان، حتى لم يعد يغير فيه الأمل إلا نورا ضعيفا يحلي من وراءه صورة المحبوبة الجديدة، وتنبت من تحت أكداره زهرة الحب الجديد كما تنبت الوردة تحت الشوك، وكما يخضر غصن الآس بين المقابر، وإنما كان ذلك لأن القلب لا يزال يحب ما دام حيا، وكل حب قديم يحدث فيه لا يكون إلا رمادا تلوح من تحته نيران الحب الكامن؛ ولذلك لم يكد خيال مرتا يمتثل لعينيه إلا نظر من ورائه تلك البسمة الحلوة على شفتي حنة، كأنها اليقظة تمحو الأحلام، والنور يبدد غياهب الظلام، والذي كان يساعده على زوال تلك الصورة الماضية هو ما كان يتصور معها من تذكار أندريا عدوه، الذي طالما طبع على فؤاده من ذكرى المصائب ما لا يكاد يمحوه كرور الأيام، ثم قال في نفسه: كيف يكون حظي لو أحببت هذه الفتاة، ثم ظهر بيننا خيال أندريا الجهنمي وعرف بحبنا، وكاد لنا كيدا كما فعل في أمي وأمه وحبيبتي وحبيبته؟ (21) بستيان
وكانت حنة قد أصيبت بنفس ما أصيب به أرمان من الحب، وهي وإن تكن قد رأته بملابس الفعلة غير أنها أيقنت لما رأته من حسن أدبه وكرم أخلاقه أنه بلباس التخفي، وأنه يستر تحت تلك الملابس نفسا طاهرة، وأدبا وافرا، ومنزلة عالية بين أرباب المقامات، ولم تكن تعرف الحب من قبل، فصرفت معظم ليلتها بالتصورات المقلقة، ونهضت في الصباح باكرا، وهي على ما كانت عليه من الاضطراب، فاستسلمت إلى التأملات ولم يوقظها من تلك الغفلة غير صوت بستيان الذي كان منهمكا حينئذ في نقل أثاثه وهو يتباحث مع البواب بصوت مرتفع في شأن البيانو، وأين يجب أن يضعه، فأشار عليه البواب أن يودعه في منزل السيدة حنة، وكان على اتفاق مع بستيان في ذلك الشأن، بحيث إنه كان يتكلم بصوت مرتفع بلغ إلى مسمع حنة، فاختلج له فؤادها اختلاجا شديدا.
وكان بعد ذلك أن بستيان دخل إلى حنة، فتعرف بها واستأذنها بوضع البيانو عندها، حسبما أوعز إليه أرمان، ولما رتب منزله ولم يعد لديه ما يشغله فيه أقفله وخرج منه، فاستأجر مركبة، وأمر السائق بالذهاب إلى شارع سنت كاترين، وفيما تسير به المركبة حانت منه التفاتة، فرأى مركبة قادمة من جهة الباستيل وهي تسابق في مسيرها الهواء، وكان يقود هذه المركبة شاب عليه ملامح الأشراف، وبالقرب منه خادم كان جالسا وراءه مكتوف اليدين، فحدق بستيان نظره في ذلك الشاب، ولم يكد ينتبه إليه حتى صاح منذعرا: يا إلهي! إن هذا أندريا وقد صبغ شعره بالسواد.
ثم نظر إلى السائق وقال: إنك إذا تمكنت من أن تسير في إثر هذه المركبة بحيث لا تحتجب عنك، فإني أجازيك خير الجزاء.
فضرب السائق الجواد بالسوط، فانطلق يعدو كالسهم، وما زال يسير في إثر المركبة حتى وقفت أمام قصر جميل بهيج المنظر، فنزل الشاب منها، ودخل إلى القصر مسرعا. أما بستيان فإنه أوقف المركبة على بعد قليل، وتقدم إلى مركبة الشاب فوقف أمام الجواد، وجعل يكلف أن يفحصه وقد أعجب به، ثم نظر إلى الخادم وقال له: أيبيع سيدك هذا الجواد؟ - لا أعلم، وإذا شئت فاسأله عن ذلك. - من هو سيدك؟ - إنه إنكليزي يدعى السير فيليام. - وأين منزله؟ - هو الذي تراه أمامك. - أهو الذي كان يسوق المركبة بنفسه وكنت وراءه. - نعم.
فتركه بستيان ودخل إلى ذلك القصر، فأوصله أحد الخدم إلى غرفة أندريا، واستأذن له بالدخول فدخل.
وكان أندريا قد غادر باريس منذ ثلاثة أعوام، فتغيرت هيأته بعض التغيير، ولكنها لم تكن تخفى على بستيان الذي رباه منذ نشأته. فلما رآه اندهش وظهرت منه إشارة الانذهال بالرغم منه، فلم يحفل بها أندريا، فقال بستيان: إني رأيت ذلك الجواد الكريم الذي كنت تسوقه، وقد أعجبت به غاية الإعجاب.
فأجاب أندريا بلهجة إنكليزية: إنه من خير الجياد، وقد أعطيت فيه ستة آلاف فرنك فأبيت بيعه. - ألا تزال إلى الآن تأبى هذا الثمن؟ - نعم.
وعند ذلك نهض أندريا فذهب إلى منضدة وأخذ سيكارة، فقدمها إلى بستيان الذي رأى به عرجا، فصاح وقد نسي موقفه قائلا: هذا هو بعينه.
وكان ذلك أن أندريا قد كبا به الجواد مرة في حداثته، فكسرت رجله وبقي فيها هذا العرج، فلما رآه بستيان يعرج لم يعد عنده شك به.
أما أندريا فإنه سمعه يقول: «هذا هو بعينه.» التفت إليه وقال بغاية الهدوء: أتعرفني يا سيدي، إني لم أرك قبل الآن؟ - لقد قيل لي إنك تدعى السير فيليام، وهذه أول مرة أرى فيها إنكليزيا ذا شعر أسود. - لست إنكليزيا بل أنا أيرلندي.
فقال بستيان ببرود: أظن أنك ولدت في فرنسا. - إنك غلطان يا سيدي فيما ظننت. - لا أراني غلطانا، بل إنك مولود في فرنسا بقصر كارلوفان.
ثم وقف وقال: وإن أباك يدعى فيليبون. - أعود وأقول لك إنك مخطئ. - وأنا أقول لك أيضا إن أباك الكونت فيليبون، قد تزوج بأرملة الكولونيل أرمان دي كركاز، وإن له منها ولدا وهو أخوك. - ليس لي أخوة ولم أولد بفرنسا، وليس أبي الكونت فيليبون، بل أنا وحيد، ولدت في أيرلندا، وأدعى السير فيليام. - إن أخاك يدعى الكونت أرمان دي كركاز، كما أنك تدعى الفيكونت أندريا.
فأجابه أندريا ببرود أدهش بستيان قائلا: إنك مخطئ، فإني لم أسم بهذا الاسم. - أصغ إلي أيها الفيكونت، إن أخاك قد بحث عنك طويلا في جميع الأنحاء، وهو قد غفر لك وعفا عنك، وعزم على أن يقاسمك ثروته، فإن قلبه الشريف لا يعرف الحقد، ولا سيما وأنتما ابنا أم واحدة، فهو يود أن تعيشا في منزل واحد، وقد تيسر لي بعد ما بذلت من العناء في التفتيش عنك أن أجدك، فلماذا تحاول الاحتجاب عني.
فأجابه أندريا بغاية الهدوء والسكينة: إني أقسم لك إنك مخطئ، وإني لا أعرف الكونت دي كركاز، ولا اسمي الفيكونت أندريا، ولم أتشرف برؤياك قبل الآن.
أما بستيان فإنه رأى مسعاه قد أخفق، وقد بذل ما لديه من الوسائل، فإنه استعمل في بادئ الأمر الحيلة، ثم ذكر له ثروة أرمان الواسعة، وأن أخاه يبحث عنه في كل مكان ليشاطره هذه الثروة، آملا أن تثور به المطامع، فيخلع ثوب الخفاء ويعترف باسمه الحقيقي، فذهبت جميع آماله أدراج الرياح.
وكان بستيان على كهولته شديد الأعصاب متين القوى، فلما رأى إخفاقه ثار به الغضب، فتقدم من أندريا، وقبض عليه بيدين من الفولاذ، وهو يقول: أيها الفيكونت، إنك لا تستطيع أن تخدعني طويلا، وستعرف الآن أنك لست بالسير فيليام؟
فتصنع أندريا الانذهال، وأجابه باللهجة الإنكليزية المعهودة قائلا: ألا تريد أن تدعني وشأني، فقد ابتدأت أن أحسبك مجنونا؟ - لتعلمن أيها الفيكونت أني أشد منك ساعدا، وأني قادر على خنقك ببضع ثوان، فاحذر من أن تستغيث إذ لا يجديك الصراخ نفعا. - إذن تريد قتلي؟ - كلا، بل إني أريد أن أجردك من ثيابك، وأكشف عن صدرك لأتبين فيه علامة أعهدها من قبل، فإني رأيتك عاريا مرارا كثيرة في حداثتك، وكنت أرى تحت ثديك الأيمن شامة سوداء. - إن بصدري كثيرا من تلك الشامات، وستحقق ما أرتك عيناك من الأوهام.
ثم أفلت منه ونزع ثوبه ومزق قميصه، فظهر من تحته صدر كثير الشعر ملآن من تلك الشامات السوداء التي تسميها النساء حبات الجمال، فارتاع بستيان مما رآه، ورجع إلى الوراء، وقد علا وجهه الاصفرار، وهو يقول: ليس هو إياه ولكن الشبه شديد.
وكان السير فيليام هو ذات أندريا، ولكن لم يدر بخلد ذلك الكهل الطيب السريرة أنه صبغ شعره بلون السواد، وأخفى كل أثر يعرف فيه.
ووقف الاثنان بعد ذلك ينظر كل منهما إلى الآخر إلى أن افتتح أندريا الحديث، فقال: إن كل ما ظهر لي منك يدل على الجنون، فأنت دخلت إلي وأنا لا أعرفك، ودعوتني باسم رجل لم أسمع بذكره في حياتي، وعندما أظهرت لك خطأك بلطف وأدب هجمت علي هجوم الكواسر، فأنا أعتبر أنك أهنتني.
فأجاب بستيان بصوت المتوسل، وقد شعر بما ارتكب من الخطأ: أسألك أن تتعطف بالإصغاء إلي دقيقة واحدة. فاعلم الآن أن أندريا الذي دعوته بالفيكونت أندريا والذي يشبهك شبها غريبا، هو رجل شرير وأهل لكل الذنوب، وإن له أخا يدعى الكونت أرمان دي كركاز له من النبل ومكارم الأخلاق بقدر ما لذلك الخائن من الدناءة والشؤم والإقدام على كل منكر. أما ذلك الخائن، فهو شديد الحقد على أخيه الذي رد إليه الشرع ثروة واسعة كان سلبها أبوه من أبيه؛ إذ هو أحق منه بها، وقد سافر منذ ثلاث سنوات من باريس على إثر ذلك وهو يجد ولا ريب وراء وسائل الانتقام؛ لأنه على ما أبنت لك أهل لكل شر، وإني أحب الكونت دي كركاز كما يحب الأب ابنه، وهو يحب فتاة طاهرة الأخلاق، فإذا علم بأمرها ذلك الخائن، فهو لا يعدم وسيلة لغوايتها؛ لأنه هو شديد المكر كثير طرق الغواية. وقد علمت الآن أن الذي دفعني إلى التصرف معك، على ما أنكرته علي، لم يكن إلا ذلك الشبه الغريب، ومع ذلك أعتذر إليك وأسألك الصفح عما كان.
فلبث أندريا هنيهة يفتكر ثم قال له ببرود: إن ذلك الحديث الذي قصصته علي جليل الفائدة، ولكنه لا يرضيني تمام الرضى، ولا أجد سبيلا للعفو عما أسأت إلي به؛ لذلك أسألك أيضا أن تخبرني عن اسمك وعن محل سكنك، فإني لم أقتنع بسلامة قصدك.
فأجابه بستيان، وقد وقع عليه هذا الكلام وقوع الصواعق: إني أدعى بستيان.
فأجابه أندريا باحتقار: بستيان ماذا؟ - بستيان فقط؛ فإني نشأت في باريس، وولدت بها دون أن أعرف اسم أبي، ولكن نابوليون العظيم قلدني وساما في معركة واغرام، وسماني قائدا في فرقة الحرس.
فقال أندريا: لا بأس في ذلك، فإن بيني وبينك شيئا من التكافؤ، وقد قلت لك إني لم يسعني قبول عذرك، فأنا أسألك ترضية عما فرط منك. - ليكن ما تريد، فقد علمت اسمي، وإني أقيم في شارع سنت كاترين في منزل الكونت أرمان دي كركاز. - حسنا، وسأبعث لك بشهودي بعد غد؛ لأني مقيد اليوم وفي الغد. - إنك تجدني طوع أمرك عندما تشاء.
ثم أخذ من جيبه رقعة زيارة فوضعها على المستوقد وحيا أندريا وذهب، فشيعه إلى خارج الباب.
ولما خلا أندريا بنفسه جعل يضحك ضحك الساخر، وهو يقول بنفسه: إني كنت أجهل أن أخي العزيز عاشق، وقد كنت أظن أنه اكتفى بما لقيه من حبه السابق، إلى أن أعلمني بذلك بستيان، فصح ما قيل: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود.» أما الآن فإنه ذهب وهو واثق من أني غير أندريا، وإن العدو الخفي أشد هولا من العدو الظاهر، وسيكون ذلك الأخ العزيز شاهده بلا ريب، فسنتقابل وجها لوجه، وسأعلم كيف أقنعه أني أيرلندي الأصل، حتى إذا تزوجت بهرمين أطلب منه ملايين كرماروت فيدفعها لي بغير صعوبة.
وفيما هو في هذه التأملات إذ وردت عليه رسالة من كولار ففضها، وقرأ بها ما يأتي:
إن الفتاة التي يحبها أرمان دي كركاز تدعى حنة دي بالدر، وهي بارعة في الجمال ومنزلها في شارع مسلي.
فسر بهذا النبأ وقال: سأجتهد بعد أن أقتل بستيان بأن أتخذها خليلة لي.
أما بستيان فإنه خرج من منزل أندريا أصفر الوجه شديد الاضطراب، وذهب إلى أرمان فقص عليه جميع ما كان بينه وبين السير فيليام، فارتاع لذكر أندريا إلى أن تيقن أن السير فيليام شبيه له وليس هو بعينه، فاطمأن ولم يعد يشغله سوى منع هذه المبارزة بإحدى الوسائل لخوفه على بستيان. وبعد أن فرغ بستيان من حكايته قص عليه ما كان بينه وبين حنة، فسر لنجاحه وقال له: اذهب إلى منزلك الجديد واختلق عذرا يمكنك من زيارة حنة، ولا تخرج من عندها إلا حينما تسمع قرعا على باب منزلك، وأكون أنا القارع، فتخرج وتشيعك هي بالطبع إلى الباب حيث أكون أنا هناك. - قد فهمت.
وذهب للحال لينفذ ما عهد إليه، ولم يكد يخرج بستيان من الباب حتى دخل خادم المنزل، وفي يده رسالة، ففضها أرمان وقرأ هذه السطور:
إنه في شهر أكتوبر عام 1800، أي في غضون الحرب الإسبانية، ذهبت فتاة صبية تدعى تريزا مع أمها إلى قرية بجوار فونتنبلو، فأقامتا فيها فصلي الشتاء والربيع، وعندما رجعتا كانت الفتاة حبلى، ولا يعلم هل كانت أرملة أم أنها ارتكبت خطأ، وقد ولدت في آخر الربيع ابنة دعتها هرمين، ثم أقامت عاما كاملا في مارلوت، وسافرت في آخر أكتوبر إلى باريس، فأشيع في مارلوت أنها ذهبت لتتزوج، ويؤكدون أنها تزوجت برجل مستخدم في الوزارة.
هذا هو مفاد الرسالة التي لم يهتم بها أرمان كثيرا؛ لكثرة ما كان يرد عليه من أمثالها في كل يوم، ولكنه أخذ دفتر مذكراته، وكتب فيه بالخط المصري:
يجب البحث إذا كان يوجد رجل في وزارة الخارجية قد تزوج في آخر شهر أكتوبر من سنة 1800 بابنة تدعى تريزا ، وإذا كان لها ابنة تدعى هرمين.
ثم أرجع الدفتر إلى مكانه، وذهب إلى منزل بستيان الذي كان ساعتئذ عند حنة، فقرع الباب، وجاء الأمر طبقا لما تصوره، فإن بستيان عندما سمع القرع استأذن من حنة، فخرجت تشيعه إلى الباب الخارجي حيث كان أرمان ينتظر وقلبه شديد الخفوق.
فلم تكد تراه حتى عرفته فاصفر وجهها، واختلج فؤادها، ولكنها تجلدت وانحنت مسلمة عليه بابتسام، ثم دخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب. أما أرمان فلم يخف عليه اضطرابها، فكان سروره لا يوصف. (22) الرسالة
مر على ذلك يومان، وقد جرى من الحوادث ما عرفه القراء؛ كأسر سريز في منزل مدام فيبار خارج باريس، وسجن فرناند لاتهامه بالسرقة، وحبس باكارا في مستشفي المجانين، واتفاق أندريا مع بيرابو على الزواج بهرمين. فبينما كان أندريا جالسا في منزله في اليوم الثاني من اتفاقه على المبارزة مع بستيان، وهو قد نال جميع ما يبتغيه من إبعاد جميع من يخشى أن يعترضوا في سبيل مساعيه، بحيث لم يبق عليه سوى إقناع هرمين على الزواج به ليفوز بتلك الملايين، إذ دخل عليه بيرابو، ودار بينهما الحديث الآتي:
فقال بيرابو: إني أتيت لأخبرك عن سفر هرمين وأمها. - إلى أين سافرتا؟ - إلى بريطانيا، فإن لنا فيها بعض الأنسباء، ولا إخال أن فرناند يستطيع الوصول إليها.
فأجابه أندريا ضاحكا: يقتضي له للوصول إليها أن تصادق الحكومة على سفره. - ذلك مستحيل فإن جرمه قد ثبت، وسيحكم عليه بأقرب حين. - ألا توافقني يا عماه على رأيي، وهو أن الحكومة تقدر أن تعثر على المجرم الحقيقي.
فارتعش بيرابو وقال: ذلك لا ريب فيه. - إذن إن هرمين وأمها قد سافرتا. - أجل، إن هرمين قد حاولت الانتحار في بادئ الأمر، ثم الآن لانت بعض اللين ورضيت بالسفر. - إن السفر خير بلسم لجراح الأحزان، وإن العشاق يسافرون باليأس ويرجعون بالنسيان، فلا دواء لمثل هذه الأمراض خير من السفر. - لا ريب عندي بشعائر هرمين، لا سيما عندما تعلم جريمة فرناند. - كلا، لم يحن الوقت بعد لإطلاعها على ذلك؛ حذرا من أن يؤثر عليها تأثيرا لا تحمد عقباه، وإن النساء غريبات الأطوار، فربما زادتها خيانة من تحب تعلقا به. وفي كل حال يجب أولا أن يصدر حكم المجلس. - كما تشاء. - بقي علي أن أسألك إذا كان يمكنك أن تعرفني بأنسبائك في بريطانيا عندما أذهب إليها. - لقد افتكرت بذلك من قبل ورتبته على أحسن منوال؛ فإن كبير العائلة شديد الولع بالصيد، محب لكل راغب فيه، ولا أيسر لك من أن تتظاهر بشدة الميل إلى الصيد، فتلتحم بينكما العلائق، وتتصل إلى العائلة فلا يمضي الشهر إلا وأنت صهري. - وعند ذلك تنعم بسريز وبحظك من الملايين. - يجب أن أصبر شهرا كاملا، إن ذلك لأجل طويل، وإني أكاد أجن من شوقي إليها. - ذلك منوط بك، فإذا أمكنك أن تزف هرمين إلي بعد أسبوع تكون لك سريز، وهذه هي طريقتي واحدة بواحدة جزاء. - لا أراك مصيبا في ذلك؛ لأنك تعلم ما ينالني من الفائدة بزواجك هرمين، وأنت وحدك تعرف. - تريد أن تقول إني وحدي أعرف المودعة عنده تلك الملايين، ولكن ألا يتفق لذلك الرجل المودعة عنده أن يعلم اتفاقا أو بإحدى الطرق اسم الوارث، فإذا أعطيتك سريز الآن، واتفق بعد ذلك حصول هرمين على الإرث، فإنك ترفض لتستأثر دوني بالملايين. - ولكن أنسيت أني المجرم الحقيقي في مسألة فرناند؟ - لم أنس ذلك، ولكن الرابطين أشد من الرابط، ومن كان مثلك فإنه يتحمل كل عار لكسب الدراهم، ولكنه ينفق ذلك الدرهم في سبيل غرامه، ولا أشد من غرام الشيوخ، فإذا أعطيتك سريز فإنك تلبث في خدمتي، ولكنك تخدمني ببطء كشريكك في الجرم، وأنا أريد أن تخدمني بغيرة كعاشق؛ لذلك أعود فأؤكد لك أني في اليوم الذي أتزوج فيه بهرمين تنعم أنت بسريز، ولندع الآن الخوض في هذا إذ لا فائدة منه، واعلم أني سأذهب بعد بضعة أيام إلى بريطانيا، فعليك أن تستأذن من الوزارة فتذهب قبلي إلى امرأتك وابنتك، واجتهد أن تكتب لي في كل يوم عن هرمين، وأن تمهد لي السبيل. - سأعمل كما أشرت وسأسافر اليوم.
ثم ودعه وانصرف، وخرج أندريا بعده، وذهب إلى السفارة الإنكليزية حيث اجتمع بصديقين له فيها، وعرض عليهما ما كان بينه وبين بستيان، وسألهما أن يكونا شاهديه، فقبلوا وخرجوا سوية من السفارة، فرجع أندريا إلى منزله، وذهب الشاهدان إلى منزل الكونت أرمان دي كركاز ليتفقا مع بستيان على شروط المبارزة، فلم يجداه بل وجدا أرمان الذي بذل ما في وسعه لمنع المبارزة، فلم يجد إلى ذلك سبيلا؛ لما اشتهر به الإنكليز من العناد في مثل هذا الموقف، فاتفقوا على أن المبارزة تكون بالسيف، ويكون الملتقى في الساعة السابعة من الغد في غابة بولونيا، ثم تركاه وذهبا إلى أندريا فأخبراه بما كان، وبعد أن ذهبا وردت إلى أندريا رسالة من كولار هذا نصها:
أكتب إليك الآن من منزل فتاة بجوار منزل حنة قد أغويتها بحيث أصبحت آلة في يدي أديرها كيف أشاء. وقد وثقت الآن أن بستيان لا يبيت هذه الليلة في منزله الجديد، فلا يبقى أحد بجوار حنة، بحيث يخلو لنا الجو، فتدبر وسأحضر إليك بعد قليل للمداولة في هذا الشأن.
أما حنة فإنها كانت قد اجتمعت مرارا ببستيان، فعلمت منه نزاهة قصد أرمان وشغفه بها وشدة رغبته بالاقتران بها؛ ما زاد حبها له وحقق أمانيها، ثم زارها أرمان فحقق بالعيان ما كانت علمته بالخبر، بحيث أصبحت لا تحلم إلا بتلك الأماني الزاهرة، ولا تحدث نفسها إلا بحب أرمان وبما ستلاقي معه من الغبطة والسعادة، وكانت قد استوثقت بينهما العلائق، فكان يكثر من زيارتها على قدر ما يسمح له المقام.
وقد علم القراء أنه عندما أتى شاهدا أندريا كان بستيان في منزله الجديد، فذهب إليه أرمان وتباحث مليا بشأن البراز، وكانا يتكلمان بصوت مرتفع بحيث سمعت حنة بعض حديثهما، وعلمت أنه سيحصل مبارزة ولكنها لم تعلم اسم المتبارزين، وكان آخر ما قال أرمان لبستيان: يجب أن تذهب الآن لترتب هذا الأمر المكدر، وأنت تعلم أنها تحبني بقدر ما أحبها، ويسئوني أنني لا أستطيع زيارتها في هذا المساء، حيث علينا أن ننام باكرا، وأما غدا فإنك تأتي إليها من قبلي وتخطبها رسميا بالنيابة عني. ثم انصرفا.
فاختلجت حنة لما سمعت وسقطت على كرسي في حالة تقرب من الإغماء وتقول: رباه! ما عسى أن يكون هذا الأمر المكدر!
ولبثت بعد ذلك ساعتين وهي غارقة في بحار الهواجس والقلق، إلى أن قرع الباب، فانتبهت من سبات غفلتها ونظرت إلى حاضنتها جرتريدة داخلة وبيدها رسالة مختومة، فقالت: لقد كلفني رجل لا أعرفه بأن أعطيك هذا الكتاب، ثم دفعته إليها ومضت، وفضت حنة ختامه وقرأت ما يأتي:
أول ما أبدأ به سؤالك المعذرة عما جسرت عليه من مكاتبتك.
فظنت أن هذا الكتاب قادم إليها من أرمان، فبحثت آخره لترى التوقيع فرأته غفلا، فعادت إلى القراءة:
إني أحبك يا سيدتي، وأول مرة نظرتك علمت أن قلبي قد شغل بعد ذلك الخلاء بهواك، وإن بك وحدك يناط مستقبل سعادتي.
فوضعت حنة يدها على قلبها وهي تقول: رباه! هذا هو. ثم استمرت في قراءتها:
إني واسع الثروة أيتها الحبيبة، وقد رأيتك ملاكا طاهرا، فأعددت لك جنة أعيش فيها على قدميك متى أراد الله تحقيق هذه الأماني، ولا أصح من تسميتها بذلك المنزل الأنيق الذي تحيط به الأشجار، وتكتنفه الرياحين والأزهار، وتئن فيه الأنهار لتغريد الأطيار حيث تناجي بلسان الهوى وتكشف أسرار القلوب؛ لأنك ستقيمين فيه، ومنازل الملائكة هي الجنات.
أيتها الحبيبة، إني لم أجسر أن أبوح لك بغرامي؛ لأني معرض لخطر عظيم، فإني سأبارز عدوا لي في الساعة السابعة من الصباح.
فما قرأت هذه الفقرة حتى شعرت أن الأرض قد انطبقت عليها، فصاحت صيحة عظيمة، وسقطت على الأرض مغشيا عليها.
وعندما أفاقت من إغمائها وجدت نفسها مضطجعة على سريرها، وأمامها حاضنتها جرتريدة وفتاة حسناء عليها ملامح الضنك، وفي عينيها ما يدل على المكر والرياء.
وكانت هذه الفتاة هي التي أغواها كولار، وكتب في منزلها رسالته السابقة إلى أندريا، وقد سمعت صيحة حنة قبل إغمائها وسقوطها واستغاثة جرتريدة، فأتت مدفوعة من كولار الذي كان باقيا عندها، وعرضت على جرتريدة مساعدتها فقبلتها.
أما حنة فإنها لم تلبث عندما استفاقت أن عادت إلى الافتكار بأرمان، وأنه في خطر عظيم، فعزمت على أن تذهب إلى منزله، وتبذل كل ما تستطيع في سبيل منع هذه المبارزة، ثم رأت خيالا قد انتصب أمام عينيها وخيل لها أنه يقول: «لا يجب على المرأة الشريفة أن تمنع من تهواه عن أن يخاطر بحياته للدفاع عن شرفه.» وكان هذا الخيال خيال أبيها، فنهضت من فراشها فركعت أمام صليب معلق في الحائط وصلت، ثم رجعت إلى الفراش فمكثت ريثما تناولت قليلا من المرق، ولم يمر على ذلك عشر دقائق حتى استرخت عيناها وشعرت بنعاس عظيم لم تستطع مقاومته، وثقل رأسها فانطرحت على الفراش، وكانت جرتريدة جالسة بالقرب منها على كرسي طويل.
وبعد ذلك بساعة فتح باب الغرفة، ودخل إليها رجل ومشى إلى فراش حنة وهو يضحك ضحك الساخر ويقول: خليلتي قد أتمت واجباتها على ما يرام، ووضعت في القدر جميع ما أعطيتها من المرقد بحيث أن صوت المدافع لا يقوى على إيقاظ خليلة السير فيليام المستقبلة. وكان هذا الرجل هو كولار.
استيقظت حنة عند الضحى وقد نفدت أشعة الشمس إلى غرفتها، فنظرت إلى ما حولها فلم تر ذلك الصليب الذي كانت تصلي أمامه بالأمس داعية لأرمان، وقد وجدت نفسها نائمة بملابسها على مقعد في غرفة متسعة، يرى من نوافذها أنها محاطة بالأشجار المرتفعة.
وقد رأت في وسط تلك الغرفة البديعة الأثاث سريرا ذا عواميد موشحة بالذهب، وستائر من المخمل، وفيها جميع ما تحتاج إليه العذارى من كل ما يروق للعين ويحلو للنفس، وجميع أدوات الزينة مما يتفاخر به عظماء باريس، وتماثيل ومرائي مرتبة أحسن ترتيب، مما يدل على سلامة ذوق مرتبها، وفي الجملة فإن هذه الغرفة كانت محتوية على كل ما تحلم به العذارى.
وقد خيل لها أنها في حلم عندما رأت نفسها في غير منزلها، وفي غرفة توافق ذلك الكتاب الذي ورد إليها وهي تظنه من أرمان، فأخذ العرق ينصب من جبينها، وهي تجهد النفس ولا تقدر على حل شيء من هذه الألغاز، فقامت ومشت في أرض الغرفة ضائعة الصواب موجعة القلب، وهي لا تزال تعتقد أنها في حلم، ثم فتحت إحدى النوافذ فهب في وجهها نسيم الصباح البليل، وأطلت منها على روضة غناء كثيرة الأشجار، وسمعت تغريد الأطيار، فتمثلت لها تلك الجنة التي ذكرت في كتاب أرمان، ثم أخذت تفحص جميع الأشياء الموجودة في الغرفة المجهولة عندها، فتحققت أنها في يقظة، وأخذ الخوف يداخل قلبها وهي تقول: ترى أين أنا؟ وكيف جيء بي إلى هذا المنزل الذي تدل ظواهره على أنه خارج باريس؟ وما لي لا أرى حاضنتي جرتريدة؟ ويلاه! أفي يقظة أنا أم في منام؟ كلا، إن ذاك غريب لا محالة. ولكن نسيم الصباح الذي كان يبرد جبينها الملتهب، وأشعة الشمس التي كانت تتدفق على الحقول الخضراء، وتغريد الطيور التي كانت تتناجى في الشجر وتتناغى فوق رءوس القضب، وحفيف الأشجار وتمايل الغصون التي كانت ترقص لنغمات النسيم؛ كل ذلك كان يثبت لها أنها في يقظة. وفيما هي تتأمل في تلك الغرفة، وقع نظرها على رسالة مفتوحة على المستوقد، فأسرعت إليها وأول ما نظرتها رأت أن خطها هو نفس خط رسالة الأمس، فأخذتها إذ أيقنت أنها من أرمان وقرأت ما يأتي:
الساعة التاسعة صباحا
لقد تبارزت في الساعة السابعة فانتصرت، وأنا سليم لم أصب بشيء.
فصاحت صيحة فرح وقالت في نفسها: ما يهمني بعد ذلك أن أعرف أين أنا، فإن الذي تحبه نفسي حي. ثم عادت إلى الرسالة تتم تلاوتها فقرأت:
دخلت إلى غرفتك أيتها الحبيبة فرأيتك نائمة فلم أوقظك، بل إني لثمت جبينك الوضاح كما يقبل الأخ أخته، ورجعت على الأثر بملء السكون.
أيها الملاك المحبوب، إنني أتصور فرط انذهالك عندما تستيقظين، وتجدين نفسك في مكان لا تعرفينه من قبل، وتجهلين كيف وصلت إليه، وأية يد قادرة اغتنمت فرصة رقادك ونقلتك إلى هذا القصر، بل إلى هذه الجنة التي لم تشد إلا لأجلك، فاطمئني أيتها الحبيبة إنني لا أحبك حبا بل أعبدك عبادة، وإن تلك اليد القادرة لا تستخدم قوتها إلا لخدمتك، فإن تلك اليد هي الحب.
فرجف قلب حنة ونظرت إلى ما حولها نظرة قلق ورعب، وقالت في نفسها: كيف يمكن أن ذلك الرجل الذي سمعته بالأمس يقول لبستيان «إنك ستخطبها لي في الغد رسميا» أن يجري على هذا السيل، أتراه يريد أن يتخذني خليلة له، وأنه اغتنم فرصة رقادي. ولم تجسر أن تطلق ظنها إلى ما وراء ذلك وعادت إلى تتمة الرسالة:
أيتها الحبيبة، إني رجل شريف، وأريد أن أبقى أهلا لحبك الشريف، فإنك تحبينني بقدر ما أحبك، فتجدين نفسك على ما كنت من الطهارة، ومع ذاك فإني أسألك الصفح والمعذرة، فقد انتشلتك لأنني لم أستطع الصبر على ما رأيتك فيه من ضيق العيش، وأنفت من أن أراك تأوين إلى منزل حقير، وعلمت بأنك لا ترضين بالرحيل معي قبل أن يتم بيننا القران، فالتجأت إلى الحيلة، وأغريت خدم المنزل، ووضعت في طعامك مرقدا، حتى إذا غفوت بتأثير ذاك المرقد نقلتك إلى مركبة مقفلة سارت بك كل الليل حتى وصلت إلى هذا المكان، ولكني أعود فأقول لك اطمئني؛ لأنك في منزلك، وستكونين امرأتي في أقرب حين.
فوضعت حنة يدها على قلبها، وهي تحاول تسكين خفقانه، ثم عادت إلى الرسالة فقرأت:
واعلمي أيتها الحبيبة، أنه قد يمر على المرء في حياته حوادث غريبة محاطة بالأسرار الخفية، فإني بالأمس كنت معرضا لخطر البراز وقد انتصرت فيه بحول الله، وأراني اليوم في خطر شديد أعظم من الأول، أما الأول فقد أنقذني منه ساعدي، وأما الثاني فلا ينقذني منه سواك، فانتبهي إلى ما أطلبه منك.
إن في ذاك سرا أيتها الحبيبة لا يتعلق بي وحدي ولا يسوغ لي إفشاؤه، وقد يمر عليك في هذا المكان بضعة أيام لا ترينني فيها، فاطمئني وثقي بي لأنني أحبك. إذا لم تبحثي أبدا أين أنت، وإذا كنت لا تحاولين مغادرة هذا المنزل، وإذا كنت لا تسألين الخدم الذين جعلتهم منذ اليوم في خدمتك أقل سؤال، أكون في مأمن من هذا الخطر، وإلا فإن أقل مخالفة تجرينها تقضي علي بالموت، فتدبري واعملي بما يدعوك إليه واجب الحب.
وسيصلك مني رسالة في كل يوم، ثم لا تقلقي لبعد جرتريدة عنك، فإنني قد أخذتها معي لأنها تعلم بحبنا، وهذا أيضا من الأسرار التي لا أستطيع أن أبوح بها لك الآن. فأستودعك الله أيتها الحبيبة على أمل اللقاء القريب.
وكان هذا الكتاب غفلا كالكتاب السابق، أي بغير توقيع. (23) المبارزة
لندع حنة الآن تعيد تلاوة هذا الكتاب الغريب، ولنعد إلى أرمان وبستيان، فنقول إنهما خرجا من منزل بستيان، وذهبا توا إلى منزل أرمان حيث دخلا إلى قاعة السلاح، وامتحن أرمان بستيان بلعب السيف فوجده متين الساعد، ولكن لعبه قديم لا ينطبق على القواعد المقررة في هذا العصر بما جعله في قلق عليه، ثم دخل كل إلى غرفته وناما باكرا، وعند الساعة السادسة استيقظ أرمان فأيقظ بستيان، وقال له: هلم بنا الآن؛ إذ يجب علينا أن نصل قبلهم، فإن الفرنسيين لا يتأخرون.
ثم ذهبا إلى غابة بولونيا، فلم يلبثا هنيهة حتى قدم مسير فيليام مع شاهديه، وفيما هم في المركبة نظر إليهم أرمان، فاختلج واضطرب عندما رأى أندريا، وأشار إليه وهو يقول لبستيان: هل أنت واثق من أنه ليس أندريا بعينه؟ - إنني على أتم الثقة كما ثبت لي بعد الامتحان.
ثم وقفت المركبة ونزل أندريا منها مع شاهديه، فتبادلوا التحية، ودار بين أرمان وشاهدي أندريا الحديث الآتي:
قال أرمان: نحن الآن يا سيدي في موقف حرج يتيح لنا المداولة بصراحة وجلاء، فلا يؤخذ كلامنا في غير مأخذه بما يمكن أن يتناول منه مس كرامة أو ظن، لسوء قصد، وإنني أستأذن منكما فألقي عليكما هذا السؤال: أتعرفان السير فيليام من زمن طويل، وهل تعتقدان أنه أيرلندي؟ - إننا نعرفه منذ شهرين، وقد اطلعنا على أوراقه العائلية، فهي تثبت أنه السير فيليام وأنه أيرلندي. - لم يعد عندي ريب في ذاك، وإن كان الشبه عظيما بينه وبين أخي. والآن فإنني أرى أسباب البراز طفيفة جدا بحيث يجب التساهل فيه، لا سيما وأن التباين شديد بين سني المتبارزين. - ونحن الآن على رأيك؛ لذلك نقترح أن يكف عن المبارزة عند أول جرح، وأن لا يقصد أحدهما قتل الآخر. - ليكن ما تريد، وليسرع في القتال.
فخلع المتبارزان سترتيهما وفحص الشهود السيفين، ثم أعطيت الإشارة، فبدأ العراك، وكان بستيان شديد الهياج في القتال خلافا لأندريا الذي كان يقاتل بأتم السكون، كأنه يريد أن يقلد الإنكليز بجميع حركاتهم. أما أرمان فإنه علم لأول وهلة أن بستيان دون خصمه، يفضله بالثبات وقوة الساعد، ولم يمض على مبارزتهما خمس دقائق حتى صح ظن أرمان، فإن أندريا دحر بستيان ووضع سيفه بصدره، فعفى عنه، ولم يدع الحسام يصل إلى جسمه، فأوقف أرمان القتال، ولم يعد لديه أقل ريب بأن السير فيليام هو إيرلندي، بدليل ما رآه من عفوه عن بستيان بعد المقدرة عليه، وهي شهامة لا يعرفها أندريا.
وبعد أن أوقف القتال واعترف بستيان بأنه مغلوب، تقدم أندريا وصافحه، ثم أشار إلى الحضور فقال: اسمحوا لي الآن أيها السادة أن أظهر لكم السبب الذي حملني على البراز بعد أن قدم لي خصمي من الاعتذار ما هو كاف. ذاك أنني كنت يوما جالسا في أحد المنتديات مع بعض مواطني، فدار بيننا حديث عن البراز فأنكره مواطني وقالوا إن الشرفاء لا يتبارزون، أما أنا فقد اعترضت عليهم، وأثبت وجوب المبارزة، وأخذت أترقب الفرص كي أثبت ما قلته بالفعل، ثم ما كان بيني وبين خصمي، فعزمت على مبارزته تأييدا لقولي ورفضت قبول ذلك الاعتذار.
وبعد أن قال ذلك تقدم من أرمان فقال: يا سيدي الكونت، إني أشبه أخا لك تبحث عنه منذ حين في سائر الأنحاء. - لا أنكر وجود الشبه بينكم، ولكنكما تختلفان بالشعر فإن شعره أشقر وشعرك أسود. - ومع ذلك فإنني أريد أن تزورني يوما، فأطلعك على أوراقي التي تثبت لك حقيقة نسبي.
فاعتذرا له اعتذارا حسنا.
أما أندريا فتكلف هيئة ودية وأشار إلى الجميع، فقال: لا ريب أيها السادة أن كلا منكم قد أحب امرأة واحدة في حياته على الأقل، أما أنا فإنني أعشق الآن فتاة ملكت لبي، وقد أسكنتها بين الغابات لشدة غيرتي عليها، ولم أستطع أن أراها مساء أمس لاضطراري إلى الاجتماع بكم في هذا الصباح.
ثم التفت إلى أرمان فقال له: إنني أكون لك من الشاكرين أيها الكونت إذا تفضلت وأوسعت في مركبتك مكانا لشاهدي، كي أستأثر بمركبتي وحدي؛ فإنني غير راجع إلى باريس.
فأحنى أرمان رأسه إشارة إلى القبول، وصعد أندريا إلى المركبة، وهو يقول: أليست السعادة الحقيقية أن يجتمع العاشق بمن يحب، وعندي أن من يحب خطيبة له يجب عليه أن يخفيها عن جميع العيون.
فافتكر أرمان بحنة، واختلج قلبه، أما أندريا فإنه ضرب الجواد بالسوط وقال لأرمان بصوت الهازئ: إذا احببت امرأة فإني أشير عليك أن تحافظ عليها كما يجب.
فاصفر وجه أرمان وافتكر ثانية بحنة، فملأ قلبه الخوف.
وسارت مركبة أندريا تعدو به كالبرق الخاطف ساعات طويلة إلى أن بلغت إلى ذاك المنزل الذي جلست فيه حنة وسريز، وهو منزل مدام فيبار، ففتح بابا سريا ودخل منه، فنظر إلى الرمل وإذا عليه أثار أقدام، فتنهد تنهد الفرح، وقال: وقع الطير في الشرك وقد أصبحت حنة لي.
وفيما هو يسير في الروضة، رأى كولار مضطجعا تحت ظل شجرة على غاية الاطمئنان، فدنا منه وقال: ما وراءك من الأخبار؟
فنهض كولار ووقف أمامه بإكرام واحترام، وقال: إنها لا تزال نائمة؟ - في أية ساعة تركت المرقد؟ - في الساعة العاشرة.
فنظر أندريا إلى ساعته وقال: الآن ثمانية وهي لا تفيق قبل العاشرة. ثم مشيا سوية ودخلا إلى ذاك المنزل الأنيق، فولجا تلك الغرفة التي تركنا فيها حنة منذهلة مستغربة لوجودها في مثل هذا المكان، وكانت ساعتئذ نائمة، فدنا منها وتفرس في وجهها، ثم قال: إني أهنئ أخي أرمان لسلامة ذوقه، فهي بالحقيقة على غاية من الجمال. وبعد ذلك سأل كولار عن سريز فقال: إنها لا تزال تبكي وتشكو من معاملة مدام فيبار.
فاغتاظ أندريا من ذلك، وقال له: اذهب وادع لي مدام فيبار، وأخبر سريز بأني قادم لزيارتها.
فذهب كولار وجلس أندريا بالقرب من منضدة، فكتب إلى حنة الرسالة التي مر ذكرها، ثم نهض ووقف أمام حنة فجعل ينظرها ويقول: إنها بارعة الجمال وهي الآن متأثرة من المرقد فلا تشعر بشيء، ولو كان سواي لكان ينتقم انتقاما أشد وأقسى، وأنا لا أريد جسم هذه الفتاة بل إني أريد قلبها، فهي قد ابتدأت أن تحب أرمان وستنتهي بأن تحبني، وقد كان يتمثل أرمان لها بالأمس شخص الفضيلة، ولكني سأدعها ترى فيه بعد ذلك المكر والدناءة والخداع، وأنه مخادع وقد انتحل اسمي ليتمكن به من غوايتها، فسأكون أنا أرمان الحقيقي بعينها، ويكون أرمان المنتحل الخائن.
وبعد أن انتهى من تصوراته قرع الجرس، فدخلت الخادمة وكان أعدها لخدمة حنة، فأمرها أن تدعو جميع الخدم، ولما أتوا قال لهم: إنني أعطي كلا منكم مائة دينار إذا كنتم تظهرون أمام هذه السيدة النائمة أنني أنا الكونت أرمان دي كركاز، وإذا كنتم تجعلونها تعتقد بذلك، وإلا فإنني أطردكم جميعا.
ثم صرفهم وخرج في إثرهم وهو يقول: سينطلي مثل هذا المحال على سريز أيضا، فإذا لم تقتنع حنة من الخدم، فهي تقتنع ولا ريب من صديقتها سريز! (24) الوعود
لقد تركنا سريز مغميا عليها في منزل مدام فيبار، وبعد أن أفاقت من إغمائها نقلتها إلى غرفة عالية حسنة الأثاث، ثم تركتها ومضت في شأنها بعد أن أقفلت الباب عليها، وكان أول ما بدأت به سريز بعدما رأت نفسها وحيدة بهذه الغرفة، أنها أسرعت إلى الباب وحاولت فتحه والخروج، ولكنها رأته مقفلا فأخذت تصيح وتستغيث، ولكن لم يجبها غير الصدى، ولما لم تستطع شيئا أخذت تبكي بكاء الأطفال. وعند الظهر دخلت عليها مدام فيبار بآنية طعام فرفضت أن تأكل، فتركتها وخرجت فأقفلت الباب من المخارج، وفي المساء عادت إليها بالطعام فرفضت أيضا، فلم تكترث مدام فيبار بذلك، وفعلت نفس ما فعلته عند الظهر، وفي اليوم الثاني تغدت بالقليل من الطعام، وأرادت أن تخرج من الغرفة، فمنعتها العجوز وعاملتها أسوأ المعاملة.
ومضى على سريز في ذلك المجلس ثلاثة أيام حتى نضب الدمع من عينيها، وكادت تجن من اليأس، وفيما هي ذات يوم متكئة على النافذة فتح باب غرفتها ودخل منه السير فيليام، فلما رأته صاحت صيحة رعب شديدة، وركضت منذعرة إلى آخر الغرفة كمن تريد الهرب.
أما السير فيليام فكان هادئا مبتسما، وقد تكلف هيئة اللطف والاحترام، فرفع قبعته وانحنى مسلما بمنتهى الأدب، وقال: اطمئني يا سيدتي، فإني رجل شريف.
فلبثت بمكانها تنظر إليه نظرة القلق والريبة، وقد ذهب عنها بعض ذلك الرعب، فقال لها بصوت رقيق: أصغي إلي يا سيدتي، فإني سأخبرك بما لا تعرفينه. - أيمكن يا سيدي أن تكون أنت الآمر بجميع ما كابدته من المتاعب والإهانة؟
فتصنع أندريا الغضب وقال: من الذي جسر على ذلك؟ - تلك العجوز الشمطاء، التي قالت لي أنهم أتوا بي إلى هذا المكان بقصد أن ...
فقاطعها أندريا وقال: كل ما قيل لك كذب وزور، وسأنتقم لك.
فقالت سريز وقد تهدج صوتها وأجهشت بالبكاء: إني أسيرة في هذه الغرفة منذ ثلاثة أيام، ولم أعلم شيئا عن ...
فلم يدعها تتمم وقال: تريدين أن تقولي إنك لم تعلمي شيئا عن خطيبك ليون رولاند ... اطمئني، ولينعم بالك فإن خطيبك يستحق حبك، وسأجعل لك مهرا يتسع فيه حالكما بحيث تعيشان على أتم السعادة.
فتنهدت سريز تنهد الفرح، وقالت: لم أكن أصدق أبدا يا سيدي ما كانت تقوله لي هذه العجوز. - ماذا كانت تقول لك؟ - إنه لم يؤت بي إلى هنا إلا بأمرك ... لأنك شاب واسع الثروة، وأنا صبية فقيرة ... - فتظاهر أندريا أنه التهب من الغيظ، وقال: أنا الكونت أرمان دي كركاز، أرتكب مثل هذه الدناءة! - أنت يا سيدي هو الكونت أرمان دي كركاز؟ - أجل يا ابنتي، وقد عرفت خطيبك ليون بواسطة خادمي بستيان الذي قد رأيته ولا ريب، فهو ذلك الرجل الذي أنقذكم من أخصامكم في فندق بلفيل. - أجل، أجل، إني أذكر ذلك وقد عرفته. - إذن فأصغي إلي ولا تخشي أبدا، فإنك حسناء فاضلة وكذلك ليون، فهو أهل لك، وأنا سأكون لك بمثابة أب أو أخ، فإن مدام فيبار قد قالت شيئا من الحقيقة، وهو أنه قد أتي بك إلى هنا بأمري، ولكن ما قالته لك من أني أريد غوايتك إفك وبهتان، والذي يجب علينا الآن هو إنقاذ ليون وحنة.
فصرخت سريز بمنتهى الانذهال: حنة! - نعم، حنة دي بالدر التي أحبها حبا مبرحا، والتي ستكون امرأتي في أقرب حين، فإنها أصيبت أيضا بنفس ما أصبت به أنت، وإني أراك شديدة الاضطراب لهذه الحوادث الغريبة التي تمر عليك كألغاز، فأصغي لي أوضحها لك، فلنبدأ بك أولا ثم نعود إلى حنة، فأنتما قد أصبتما بمصاب واحد.
إنك تحبين ليون وهو يحبك، وقد كنتما اتفقتما على أن يكون قرانكما بعد خمسة عشر يوما، وإن لك أختا شقية بغيا باعتك بيع السلع إلى رجل غني قادر على أن يقتحم أشد الأمور، وهذا الرجل هو بيرابو رئيس القلم في الوزارة، وهو الذي أنقذتك منه، واضطررت إلى نقلك هنا كي تكوني بمأمن من كيده ريثما يدعى إلى المجلس ويحاكم بما جنت يداه، وهو لا يستطيع أن يأتي إليك وأنت في هذا المكان، أفهمت الآن؟ - فما الذي دعاك أن تعاملنا بمثل هذا الإحسان؟ - إني رجل واسع الثروة، وقد أوقفتها لصنع الخير ودفع كل شر، ولدي رجال صادقون أبثهم في جميع الأنحاء، فيطلعوني على كل شيء، وهم الذين أعلموني بما كان بين أختك وبيرابو من الاتفاق بشأنك، والآن فأصغي إلي فإني أكلمك عن حنة.
ثم وضع يده على قلبه، وقال: إني أحبها حبا ليس فوقه حب، وقد كانت معرضة لخطر يشبه الخطر الذي كنت أنت معرضة له؛ ذلك أن بستيان خادم غرفتي قد انتحل اسمي وتقدم إليها باسم الكونت أرمان دي كركاز.
فقالت سريز بانذهال: بستيان الذي كان معنا في بلفيل؟ - أجل، هو بعينه وقد توهمتم يومئذ أن الصدفة قد بعثت به إليكم لإنقاذكم من ذينك اللصين اللذين لم يكونا إلا رفيقيه، والسبب في ذلك أن بستيان هذا قد رأى حنة، واقتفى أثرها مرارا، وعلق بها، فاتفق مع شريكيه عندما رأى حنة ذاهبة معكم إلى بلفيل، ومثل هذه الرواية المضحكة التي تعلمينها، بحيث اضطررتم بعدما شاهدتم من شهامته أن تدعوه إلى ذلك العشاء، ثم ذهبتم إلى منزلكم فاغتنم هذه الفرصة لإيصال حنة، التي سرها ما رأته فيه من الشهامة إلى منزلها، وإنك لا تعرفين هذا الرجل إلا بالنظر، أما أنا فقد عرفته بالخبر، فهو أهل لكل شيء، فلما رأى ميل حنة إليه انتحل اسمي فتسمى بأرمان دي كركاز، وأعطى اسمه لرجل كهل استأجر منزلا باسم بستيان بجوار منزل حنة، فتعرف هذا الرجل بها، وأخبرها أنه كان له سابق صداقة مع أبيها، فلما وثقت به أخذ يخبرها عن ميل الكونت دي كركاز إليها، ويحدثها بشهامته ومكارمه، ثم زارها ذلك الخائن المتلبس باسمي، وأظهر لها ما يؤيد كلام شريكه المنتحل اسمه، فأحبته عندما تأكد لها أن حبه شريف، وأن ما وراءه إلا الاقتران.
فاضطربت سريز وقالت باشمئزاز: ذلك محال! فإن مثل حنة دي بالدر لا يمكن أن تحب خادما. - وإنها كانت تحسبه الكونت أرمان، وهو حسن الظواهر، فخدعت به وقد أطلعت على هذا السر الغريب اتفاقا؛ لأن خادمي هذا كان يفتخر أمام رجالي بأن حنة دي بالدر تحبه. وإذا كنت أحبها حبا شريفا طاهرا، كمن يحب الفتاة التي سيتزوجها، ورأيت أنها قد تدلهت في حب ذلك الخائن الذي كان يتلبس باسمي، فقد أسقيتها مرقدا، وجئت بها في الليل إلى هذا القصر بعد أن كتبت لها كتابا بغير توقيع.
فصرخت سريز بفرح: أهي هنا الآن؟ - أجل وسترينها، فهلمي معي إليها.
ثم أخذ بيدها وخرجا من الغرفة سوية، وفيما هما في طريق الروضة صادف مدام فيبار، فنظر إليها شذرا وقال لها بقساوة: إن زوجك كان رجلا صادق الخدمة، وإني أراك على عكس ذلك، فإني عهدت إليك الاعتناء بهذه الفتاة فأوسعتها شتما وسبابا، وعاملتها أسوأ معاملة؛ لذلك أكتفي بطردك.
وفيما هو يقول ذلك أشار إليها بطرف خفي ففهمت مراده، وانصرفت وهي تتكلف هيئة الكدر.
ولما وصلا إلى غرفة حنة قال لسريز: أصغي إلي جيدا، فإن حنة لا تزال نائمة ولا تستيقظ إلا عند الساعة العاشرة، عندما أكون سافرت؛ لأني مضطر إلى التغيب ثمانية أيام في قضاء بعض الشئون المهمة، وإنك ستقيمين معها إلى أن أعود بحيث تكونين بمأمن من أختك الخائنة، ومن مطاردة بيرابو اللذين سينالان من العقاب ما يكونان فيه قدوة لسواهما، وإني سأكتب لها كل يوم وستقعين على رسائلي إليها، فلا تظهري لها سوى أن الذي يحبها الحب الأكبر هو الكونت أرمان دي كركاز، وليس ذلك الخائن بستيان، وإني أرجو أن يكون لرسائلي تأثير عليها، فتمحو من قلبها حب ذلك السافل.
فنظرت إليه سريز متعجبة وقالت: كيف لا تنسى حبه بعد أن تعلم بدناءته، ولا يقتضي لأن تهواك إلا أن تراك. - إذن أودعك على أمل اللقاء القريب، فإني مضطر إلى السفر، ولا يوافق أن تراني الآن. - قل لي بالله متى أرى ليون؟ - لا أقدر أن أفيدك بالتدقيق، ولكن ثقي بي واصبري قليلا، وإني أقسم لك أنك ستزفين إليه بعد خمسة عشر يوما.
ثم تركها وقلبها مفعم بالأمل، وانصرف فلقي كولار بانتظاره فقال له: لقد تم كل شيء وفق المراد، فإني لم أسرق امرأة أرمان فقط، بل قد سرقت اسمه ايضا، والآن فلننظر في شأن الملايين؛ إذ قد شفيت نفسي من الانتقام. - هذه هي النقطة المهمة. - وأنا من رأيك، والآن فإني مسافر إلى بريطانيا لأقترن بهرمين.
وهكذا، فإن أندريا قد انتصر بجميع أعماله؛ فإنه سجن فرناند، واستولى على حنة وسريز، ووضع باكارا في مستشفى المجانين، بحيث لم يعد في وسع الكونت أرمان دي كركاز أن يجد الوارث لملايين البارون كرماروت. (25) قلق ليون
مر يوم على اختطاف سريز، التي كانت تمر كل مساء بالمعمل الذي يشتغل فيها خطيبها، وكان ليون ينتظرها في الباب الخارجي في وقت معين، وقد انتظرها ذلك اليوم حسب العادة، فلم تمر به، فقلق وظن أنها مريضة أو أصيبت بسوء، فصبر بملء الجزع إلى أن أقفل المعمل، وانطلق مسرعا إلى منزلها، فقرع الباب فلم يجبه أحد، فظن أنها ذهبت إلى الشارع في بعض الشئون، فلبث منتظرا إلى أن تعود ، وقد طال انتظاره حتى عيل صبره، فنزل إلى البواب وسأله عن سريز فقال له: إنها ذهبت أمس مساء ولم تعد إلى الآن. - كيف ذلك وهل ذهبت وحدها؟ - كلا، بل قد ذهبت مع فاني، خادمة باكارا، وأظن أن أمها أو أختها أصيبت بمكروه، بدليل ما رأيت على وجهها عند خروجها، من ملامح القلق.
فارتاع ليون لذكر باكارا؛ إذ كان يخشى دائما منها، ولم يكد ينتهي كلام البواب حتى تركه وذهب مهرولا إلى شارع مونسي حيث منزل باكارا، فوجد الأبواب والنوافذ مقفلة، فقرع الباب قرعا شديدا فلم يجبه أحد، وكان في زواية الطريق حمال وقد اعتاد خدمة المنزل، فلما رأى ليون يقرع الباب ذلك القرع الشديد تقدم منه وقال له: لا يوجد أحد في المنزل، فإن صاحبته قد سافرت في هذا الصباح. - ذلك مستحيل، ألا تعلم أين ذهبت؟ - كلا.
فاختلج فؤاد ليون وتأكد له أن باكارا قد اختطفت سريز، فترك ذلك المكان وهو يكاد يجن من اليأس، وذهب إلى أمه آملا أنها تفيده شيئا عن سريز، فألفاها لا تعلم شيئا، فذهب إلى صاحب المعمل الذي كان يشتغل فيه وهو يرجو أن ينفعه شيئا برأي سديد، وكان صاحب هذا المعمل رجلا عاقلا محبا لليون، فسكن جأشه وطيب قلبه، وقال إن خطيبته قد ذهبت ولا ريب مع أختها، ووعده أن يذهب معه غدا إلى دائرة البوليس فيعرضون الشكوى، فذهب ليون إلى منزله، ونام تلك الليلة على أحر من الجمر، فلم يغمض له جفن، وعندما طلع الصباح ذهب إلى منزل سريز، فقيل له إنها لم تعد، فتوجه إلى منزل باكارا فوجد الأبواب مقفلة، فذهب إلى صاحب المعمل وانطلقا سوية إلى دائرة البوليس، فأخبرا الرئيس بما علماه عن اختفاء سريز، فقال لهما: إن البنات التي تخطف في باريس يكون اختطافهن في الأغلب الأعم عن طوعهن، ومع ذلك فسأنظر في هذا الشأن، فارجعا إلي بعد يومين.
وكان هذان اليومان لدى ليون أشبه بعامين، فخرج من عند الرئيس وقلبه مفعم من اليأس، فارتأى أن يذهب إلى منزل حنة عساه أن يعلم منها ما يوقفه على سر اختطافها. فذهب ولما وصل لم ير غير جرتريدة جالسة في المنزل، وهي تنوح وتبكي البكاء الأليم، فعلم منها أن حنة قد اختطفت، وأنها قد تركت رسالة هذا نصها:
حبيبتي جرتريدة
إنك ستستيقظين فلا تجديني؛ لأني قد سافرت إلى مكان لا أستطيع أن أخبرك عنه، ولأجل ذلك لا أقدر أن أسميه، أما السبب في هذا السفر الفجائي، فهو أني أريد الهرب من الكونت أرمان دي كركاز الذي لا أحبه لألحق بالرجل الذي هامت به روحي، والذي لا أقدر أيضا أن أسميه، فاطمئني أيتها الحبيبة، وربما نلتقي بعد حين.
فقص عليها ليون خبر اختطاف سريز، وفيما هما يتحادثان سمعا وقع أقدام على السلم، فأطلت جرتريدة بحيث رأت القادم هذا الكونت أرمان دي كركاز، فنظره ليون وقال بمنتهى العجب: هذا الذي رأيناه في بلفيل وأنقذنا من اللصوص.
وكان القادم الكونت أرمان بعينه يصحبه بستيان، فإنه بعدما سمع من أندريا ذلك التحذير على إثر المبارزة، اشتد قلقه على حنة ولم يهدأ له بال، فأسرع مع بستيان إلى زيارتها وهو يقول: إن قلبي يحدثني بمصاب جلل.
وعندما وصل إلى ذلك المنزل وجد جرتريدة تشهق وتنتحب، فعلم بوقوع المصاب، وأعطاه ليون رسالة حنة، فلم يتم قراءتها حتى سقط على المقعد واهي القوى وهو يقول: إن ذلك صنع أندريا، وهو الذي رأيناه. (26) رسالة بيرابو
ولنعد الآن إلى بيرابو وهرمين اللذين تركناهما على ما عهده القراء فيهما من التأثر من الكتاب الذي كتبته باكارا إلى فرناند.
وقد أفضى اليأس بهرمين إلى أن قالت لأمها على إثر هذه الحادثة: أماه إني أحب أن أدخل الدير، ولا أريد الزواج. - إنك تدخلين إلى الدير، وتتركينني وحدي؟
وكان صوت تريزا يتهدج من الحنان بما أثر تأثيرا شديدا بهرمين، فقالت: كلا يا أماه، بل أبقى بقربك ما دمت حية، وما دفعني إلى هذا القول غير اشتداد الأحزان.
ثم أكبت على عنق أمها تعانقها وتبكي البكاء الشديد.
طال هذا البكاء زمنا طويلا إلى أن سكن جأش هرمين، فقالت لأمها: إني لا أستطيع أن أمكث ساعة في باريس، فهل لك أن نذهب لزيارة عمتي مدام كرمارك.
فقبلت أمها هذا الاقتراح بفرح لا يوصف؛ لأنها كانت ترجو أن يخفف السفر أحزانها، فأجابتها بالقبول.
وعند منتصف الليل عاد بيرابو إلى المنزل، فأخبرته امرأته باقتراح هرمين بوجوب السفر الذي يمهد للعشاق سبل السلوان، فصادق هو أيضا على هذا الطلب، ليس حبا بشفاء هرمين بل لرغبته أن يكون حرا في غيابهما عن باريس فيمرح كما يشاء. وهكذا فإنهما عند الصباح سافرتا إلى بريطانيا، ولما وصلتا إليها قابلتهما مدام كرمارك بمزيد التودد والاحتفاء.
وكانت مدام كرمارك امرأة عجوزا عائشة مع زوجها في قصر واسع تكتنفه الأشجار وتحيط به الغابات والحقول، وكان مولعا بالصيد بحيث كانت تقضي جميع ساعات نهارها بعزلة، فلا ترى أمامها غير الخدم؛ لذلك أنست بلقائهما وتعزت برؤياهما مما كانت تلقاه من ضجر الوحدة والانفراد.
وبعد يومين من ذلك استأذن بيرابو من الوزارة لاحقا بهما، حسبما كان الاتفاق بينه وبين أندريا، وكانت جودة الهواء وما كانت تلقاه هرمين في تلك البرية من جمال الطبيعة قد لطف أحزانها، فلم تسكب دمعة بل كانت تبتسم بعض الأحيان إذا سمعت نكتة مضحكة، وربما كان ذلك منها من قبيل التصنع إرضاء لأمها التي كانت تذوب لهفا على ما أصابها، والتي كانت تخشى عليها في كل حين أن يفعل الحزن في جسمها النحيف ما تفعل ريح الشتاء بأوراق الشجر.
ولم تكن هي ولا أمها تنتظران بيرابو، فاندهشتا جدا لرؤياه. أما هو فإنه عانقهما عند وصوله بغاية الحنان، وأظهر لهما من التودد ما لم تكونا تعهدانه فيه، وفي يوم وصوله أخذ بيد امرأته بعد أن قاما عن المائدة، وخلا بها فقال: أصغي إلي فإني لا أجهل أنك تسيئين بي الظنون، وليس لك بي ثقة المرأة بزوجها، ولكني أتيت لأباحثك في شأن هرمين التي أحبها كما تحبينها أنت ... إني كنت أعلم من قبل فساد أخلاق فرناند الذي رمانا بهذه النكبة؛ ولذلك كنت أرفض مصاهرته، ولم أقبل به زوجا لهرمين إلا لما رأيته من رغبتك، وحذرا من أن أسوءك بهذا الرفض، فإن هذا الرجل التعس لم يرتكب فقط ما تعلمينه من خيانة لهرمين، بل إنه قد ارتكب ذنبا من أعظم الذنوب. أتعلمين ما كان مراده من زواج هرمين؟ إنه لم يتزوج بها إلا لينفق مهرها على خليلته التي أوصلت به إلى هذا الشقاء.
وكانت والدة هرمين لا تزال تحب فرناند، فقالت لزوجها: بالله كفى، ولا تحكم على هذا الشاب بمثل هذه القسوة. - إنك لا تعرفين شيئا بعد.
فقالت وهي تضطرب: وما عسى أن يكون قد طرأ أيضا؟ - إن فرناند في السجن.
ثم قص عليها جميع ما حصل لفرناند من اتهامه بالسرقة، ومن القبض عليه في منزل باكارا، ووجود الدراهم المسروقة عندها، ولما انتهى من هذه الحكاية قال: وستنشره الصحف بعد صدور الحكم، ولأجل هذا قد حضرت اليوم كي أطلعك على هذا النبأ؛ فإني أخشى أن تقف هرمين على جرم خطيبها بإحدى الصحف فتصاب بما لا ينجع فيه دواء، والآن لم يبق علينا سوى أن نطرد هذه الأفكار من مخلية هرمين، فإن المسمار يدفع المسمار، والحب الجديد يدفع الحب القديم.
فقالت تريزا والدموع تنهل من عينيها لما سمعته عن فرناند: ماذا تعني بالذي قلته؟ - أتذكرين حفلة الرقص الأخيرة التي حضرناها في وزارة الخارجية؟ - نعم، وماذا تريد بهذا السؤال؟ - أتذكرين أيضا الشاب الإنكليزي الذي عرفك به سفير إنكلترا، والذي رقص مع هرمين؟ - نعم، إني أذكره وإنه يدعى السير فيليام. - نعم هو ذاك. فاعلمي الآن أن هذا الشاب شريف الحسب حسن الأدب وافر الثروة، وقد علق بحب هرمين حين رآها في تلك الحفلة، وقد زارني مرتين بعد السفر كما ...
فقاطعته تريزا وقالت: إن هرمين متى أحبت رجلا فلا تحب سواه. - ولكنها متى علمت أن ذلك الذي تحبه قد خدعها وخانها بدناءة، ثم متى علمت أنه لص، فلا يبقى في قلبها أثر من حبه. فإذا رأت شابا شريفا جميلا، قد اجتمعت جميع الصفات الحسنة فيه يحبها، فلا يبعد أن تبادله هذا. - إنك قلت إن هذا الشاب يحب هرمين. - إنه يحبها كثيرا. - كيف يمكن أن يحبها، وهو لم يجتمع بها إلا مرة واحدة؟ - إن روميو أحب جولييت وهو لم ينظرها إلا نظرة واحدة. - شهد الله أني إذا لقيت رجلا يقدر أن يرد إلى ابنتي قلبها المسلوب أنطرح على قدميه، وأقول له: «رحماك أنقذ ابنتي مما هي فيه.» - وإن ذلك الرجل هو السير فيليام. - إذن يجب أن نعود إلى باريس. - لا حاجة إلى ذلك، بل هو يأتي إلى هنا، وإني سأكون من أسعد البشر إذا يسر الله هذا الزواج، فإن الرجل عريق النسب وثروته تقدر بالملايين، ولا أقرب من أن تحبه هرمين متى حصلت بينهما العشرة؛ لما هو عليه من الذكاء، وطيب الحديث، ووفرة الآداب، وما شاكل من كل ما تتوق إليه نفوس الأديبات.
وما زال بها حتى أقنعها، واتفقا على اتخاذ الوسائل اللازمة لتحببه إلى هرمين، ثم افترقا فدخل بيرابو إلى مخدعه، وكتب إلى أندريا ما يأتي:
أيها الصهر العزيز
لم أزل بامرأتي حتى أقنعتها، وأصبحت آلة بيدنا نديرها كيف نشاء، ولم يبق عليك سوى أن تسرع بالحضور، وأن تكتب لي قبل سفرك.
وقد وصلت هذه الرسالة إلى أندريا بعد خروجه من عند سريز، فخلا بكولار وقال له: إني مسافر الآن لأهتم بالملايين، وسأدعك أمام عدو هائل يجب أن تخافه. - ألعلك تريد به أرمان دي كركاز. - هو ذاك. - طب نفسا فسأراقبه. - إن فرناند بالسجن، ولا يمكن أن يخرج منه، فيجب أن تحرص الحرص الشديد على سريز وحنة. - لا تخشى من هذا القبيل. - بقي علينا عدو أشد هولا من الجميع، وهو ليون رولاند. - أتريد أن يموت؟ - هذا ما أرتئيه، أيستطيع نيقولا أن يقتله؟ - لا ريب فيه، ولكن كيف يقتله، وفي أي مكان؟ - إنك لا تزال أبله ضعيف الرأي، أيصعب عليك أن تدعه يذهب خارج باريس بإحدى الطرق؟ - لقد خطر لي فكر، وهو أن ليون يعتقد أني صديق له، وسأذهب به في الليل إلى بوجيفال بدعوى أني علمت أن سريز مختبئة هناك، ويكون نيقولا مترقبا حضورنا فنقضي عليه. - هذا فكر حسن، ولكن لا تفعل شيئا قبل أن أكتب لك.
ثم ألقى إليه بعض أوامره، وودعه وسافر إلى بريطانيا. (27) جموح المركبة
وكانت قد استحكمت العلائق بين مدام كرمارك وضيوفها، فبينما كانوا يوما جلوسا على المائدة، وذلك بعد وصول بيرابو بيومين، دخل مأمور البريد وقدم إلى بيرابو رسالة ففضها، وقرأ ما يأتي:
سأسافر بعد ساعة حيث أنتظرك في سنت مالو التي تبعد خمس عشرة مرحلة عن القرية التي أنتم فيها، فأسرع إلي عندما تقف على هذه الرسالة لأني بانتظارك.
فنهض بيرابو وقال: لقد جاءني رسول من قبل الوزارة، وهو ينتظرني في سانت مالو، فيجب علي أن أسرع في المسير إليه.
ثم انحنى على كتف امرأته وقال لها سرا: إني ذاهب لألاقي السير فيليام، وسأعود عند الغروب، فاذهبي مع هرمين لملاقاتي.
فأمرت مدام كرمارك أن تهيئ له المركبة، فركب فيها وسار ينهب الأرض نهبا حتى وصل إلى سنت مالو، وكان أندريا قد سبقه إليها منذ ربع ساعة، فاجتمعا وقال له أندريا: كيف مسير أعمالنا؟ - على أتم النجاح، فإن امرأتي أصبحت تميل إليك أشد الميل؟ - حسنا، فكيف عزمت على أن تعرفني بأهل المنزل الذي أنت فيه؟ - إن البارون دي مادي هو صديقك، وهو ابن أخت مدام كرمارك، ومنزله بجوار منزلها، وستدخل القرية عندما يحن الظلام فتسأله الضيافة، وعلي تتميم الأمر. أما الآن فإن طريقنا إلى المنزل وعرة المسالك. - أعرف ذلك.
وبالحقيقة فإن أندريا يعرف تلك الطرق أتم المعرفة؛ لأنه كان يسكن على عهد أبيه فيليبون في قصر كارلوفان، كما يعلمه القراء، وهذا القصر واقع في البراري نفسها. - عجبا! كيف تعرف هذه الطرق؟ - إني أعرفها أكثر منك. - إذن تذهب إلى مغارة الذهب، وتجلس على تلك القمة العالية المشرفة على الأوقيانوس، حتى إذا مرت امرأتي وابنتها تجدانك جالسا في ذلك الخلاء مستغرقا في تأملاتك المحزنة. - حسنا، ولكن لدي طريقة أفضل، ذلك أني أنقذك على مرآها من خطر عظيم. - تنقذني أنا؟ - نعم، فأصغي إلي.
ثم اتفق وإياه على ما سيقف عليه القراء في حينه.
وافترقا، فذهب بيرابو على مركبته لملاقاة امرأته وابنته، وذهب أندريا على جواده من طريق آخر إلى القمة الكائنة أمام مغارة الذهب.
ولم يكن أشد خطرا من تلك الطريق التي سار فيها بيرابو على المركبة، فإنها كانت ضيقة لا يزيد عرضها على ثلاثة أمتار، وهي شديدة الارتفاع يحيط بها من الجهة اليمنى وديان عميقة كثيرة الصخور، ومن الجهة اليسرى البحر الأوقيانوس، وهي كثيرة الشعاب بحيث إن أشد الخطر فيها كان على المركبات التي إذا جمحت بها الجياد تسقط بها إما إلى ما وراء البحر، وإما إلى الوديان، ومع ذلك فقد كان المنتزه العام لأهالي تلك القرى؛ لكثرة ما يكتنفها من جمال الطبيعة، ولا سيما في شهر نيسان، التي تساق هذه الحادثة في غضونه.
وبينما كانت هرمين وأمها سائرين الهوينا في تلك الطريق لملاقاة بيرابو، إذ رأتا جوادا كريما يرعى الكلأ، فدنتا منه فأبصرتا عليه سرجا مزركشا بالخيوط الذهبية على غاية من الدقة في الصناعة، مما يدل على أن صاحبه من أولي اليسار، ثم حومتا بنظرهما لتبحثا عن صاحب هذا الجواد، فرأتا على قمة عالية رجلا فاخر اللباس جالسا على صخر مرتفع، وهو واضع رأسه بين يديه ينظر إلى الأرض نظرا ساهيا وهو غارق في بحار تصوراته، فاختلج فؤاد الأم وقالت في نفسها: لا ريب بأن هذا الفارس هو السير فيليام.
أما هرمين فإنها أنكرت وجود هذا الشاب على مثل هذه الحالة من العزلة التي تدل على منتهى الكآبة، فقالت لأمها: ترى ما شأن هذا الرجل، وما علة انفراده في مثل هذا المكان؟ - ربما كان مصورا يمثل جمال هذه المناظر، فيرتزق منها. - ذلك محال؛ فإن مصورا يرتزق من عمل يديه لا يكون له مثل هذا الجواد، وفوق ذلك إني لا أرى أمامه معدات التصوير. - إذن فهو سائح، وقد استوقفته هذه المناظر البهجة. - لا هذا ولا ذاك يا أماه، بل هو رجل منكود، وقد التجأ إلى هذه البراري لترويح النفس، وللتأمل بعظمة الله.
فارتعشت أمها في البدء ثم اختلج فؤادها بعاطفة سرور وأمل؛ لأنها رأت أن هرمين قد نسيت مصابها، فاشتغلت عنه بمصاب الغير وقالت في نفسها: إذا كان هذا هو السير فيليام فإن مقابلة واحدة تكون كافية في مثل هذا المكان، ولا شيء يؤلف بين القلوب مثل الأحزان.
وقد عزمت أن تجعله أمام ابنتها مثالا للفضيلة كي يروق بعينيها.
وكانت الشمس قد ابتدأت تصفر مؤذنة بالمغيب وهي تلقي بأشعتها الباردة على ذلك العباب، فترقص أشعتها الذهبية على أمواجه الزاخرة، وتدبج الحقول الخضراء بأبهج الألوان. فنهض ذلك الشاب واتشح برداء طويل، ثم ذهب إلى جواده فامتطاه، وسار به إلى جهة سان مالو، ولم تستطع هرمين أن تتبين وجهه، ولكنها قدرت أن تعلم أنه في شرخ الشباب، وظهر لها من مشيته وسهيانه أنه منقبض الصدر شديد الحزن، وما زالت تشيعه بالنظر إلى أن غاب في أعماق الوادي.
وكانت قد اتفقت مع أمها لملاقاة بيرابو، فأوجست خيفة لطول غيابه إلى أن رأت عن بعد نقطة سوداء كانت تدنو منها وتتسع حتى تمثلت بهيئة مركبة، فعلمت أنها مركبة أبيها. ثم سمعتا صوت استغاثة من تلك المركبة، عقبه صوت بارود ارتج له الوادي، فنظرتا فإذا بالمركبة قد وقفت فأيقنتا أنها في خطر، وكانتا واثقتين من أنها تحمل بيرابو، فجعلتا تركضان إلى أن بلغتا إليها، فإذا بالجواد قد سقط ميتا، وبيرابو خارج المركبة يصافح السير فيليام ويشكره الشكر الجزيل، ولما رآهما تقدم منهما وقال: إني مديون لهذا النبيل بالحياة؛ فإن جواد المركبة قد جمح، ولو لم يطلق عليه الرصاص لكانت سقطت المركبة بي إلى الوادي.
وبينما كان بيرابو يقص على تريزا وهرمين ما كان من الجواد، كان أندريا مطرقا بنظره إلى الأرض، إلى أن انتهى من حديثه، فرفع عينيه ونظر إلى هرمين، وصاح صيحة كآبة وانذهال، ثم انحنى عليها مسلما، ووثب مسرعا إلى جواده، فسار به يقطع الأرض نهبا.
فأخذوا ينظرون إلى بعضهم، وكلهم يقول: من هذا الرجل الغريب الأطوار؟
ثم قال بيرابو: يخال لي أني نظرت هذا الشاب قبل الآن.
قالت تريز: وأنا كذلك، ولكني لا أذكر أين.
قالت هرمين: وأنا أيضا نظرته قبل ذلك، وقد عرفته فهو السير فيليام الذي عرفنا به سفير إنكلترا في حفلة الرقص التي أحيتها الوزارة الخارجية، وأذكر أني رقصت معه أيضا.
فقال بيرابو: إذن ما الذي دعاه إلى هذا السلوك الغريب، ولماذا غادرنا بهذه السرعة؟
فقالت هرمين، وقد أثر عليها ما رأت عليه من الكآبة: إنه عندما نظر إلينا تنهد تنهدا طويلا عميقا، ثم صاح صيحة أسف، وقد كان قبل جالسا على هذا الصخر، ساهي الطرف مشتت البال لا يعبأ بجمال هذه البراري، ولا يكترث بتلك الأمواج التي قد ذهبتها أشعة الشمس، مما يدل على أنه بلغ أقصى درجات الكآبة.
فقال بيرابو: ذاك يدل على أنه عاشق منكود.
فتنهدت هرمين وقالت: مسكين هذا الشاب.
وحول بيرابو الحديث إلى غيره، وقال: إن الجواد قد قتل، فكيف نرجع إلى المنزل. - إننا نذهب على الأقدام، فإني أعرف طريقا قريبة.
ثم تأبطت ذراع أمها، ومشت معها مشيا سريعا كأنها تريد أن تدرك الشاب الذي حمل فؤادها على الشفقة عليه، ولا سيما بعدما رأته نظر إليها فاصفر وجهه وتنهد، وكانت تبحر بنظرها في جميع الجهات آملة أن ترى ذاك المنكود الذي ماثلها في اليأس، ورأت أنه يكابد من الأشجان نفس ما تكابد.
أما أندريا، فإنه ما زال يسير إلى أن وصل إلى منزل كرمارك، وقد كان قد جن الظلام فأوقف جواده أمام الباب وقال لأحد الخدم: قل لسيد هذا المنزل إن غريبا تائها يسأله الضيافة.
فهرول الخادم مسرعا إلى مدام كرمارك، ووصف لها هيئة أندريا وملابسه، ثم قال لها: إنه تائه يسأل الضيافة. - أسرع بإدخاله، فإن هذا المنزل معد للضيوف منذ تشيد.
فذهب وعاد به، وانحنى أمامها مسلما، وقال: أسألك يا سيدتي الصفح والمعذرة، فإني تهت في هذه البرية، وقد أظلم الليل فلم أعلم أين أنا.
فأشارت إليه بالجلوس وقالت: إن قصري معد منذ أعوام لقبول الغرباء والتائهين، ولكل من يلتجئ إليه.
فقبل يدها باحترام، ثم عاد فقال: إنني ذاهب يا سيدتي إلى قرية مانوار لزيارة صديق يدعى البارون دي مادي، وقد ضللت الطريق.
فظهرت على وجهها علائم البشاشة، وقالت: أنت صديق البارون دي مادي؟ إنه ابن أختي وأنت الآن في منزلك. - لم أكن أعلم ذلك من قبل، وإنني أشكرك في كل حال، وأرجو أن تسمحي أن أتسمى لديك، فإني أيرلندي الأصل وأدعى السير فيليام.
فانحنت بدورها.
فقال أندريا بلهجة محزنة: إنني أضرب الأرض وأطوف الليل والنهار جائلا دون غاية ومن غير قصد. - عجبا! كيف تجول من غير قصد؟ - وا أسفاه! نعم يا سيدتي، إنني أخترق الهضاب والبطاح وأجوب الفلوات، وأتجول في البلاد كقانط لا يقبل العزاء، أو كمجرم يفر من القضاة وما أنا مجرم، بل أنا قانط لأني محب غير محبوب ولا يمكن أن أحب، وقد كنت منذ ساعتين تائها في هذه البراري ليس لي وجهة غير منزل صديقي البارون، وأنا أظنني بعيدا عمن أحبتها نفسي وهامت بها روحي، ولكني عدت فوجدت تلك الضالة المنشودة، فلم تكن رؤياها إلا ليهيج مكامن أشجاني. - كيف رأيت التي تحبها في هذه القرية؟ - نعم، وعندما رأيتها هربت منها، فلكزت بطن الجواد وأنا لا أعلم أين أسير ولا أصغي لصوت قلبي المنكود، فسار بي الجواد يسابق الرياح إلى أن جن الظلام، وسلك سواء السبيل، ثم وقف ذلك الجواد الكريم أمام هذا المنزل الكريم، فدلني بأنه أعقل مني، وأنا لا أعلم إذا كنت بعيدا عن قرية صديقي البارون أو قريبا منها، فالتجأت إلى هذا المنزل إلى أن أهتدي إلى وجهتي، وأنا أسألك صفحا وألتمس منك عفوا. - كفى يا سيدي لا تعتذر، فإنني أشكر العناية التي أضلتك الطريق، وأرسلت إلي هذا الضيف النبيل.
فانحنى أندريا وقبل يدها ثانية باحترام، ثم دار بينهما الحديث الآتي:
قالت: ألا تبالغ في حديث غرامك؟ - كلا يا سيدتي، فإن حبي لا أصفه إذ لست أنصفه، ولا أعده إذ لست أحده، وليس هو حب بل هو جنون بل هو داء قاتل لا يعمل فيه دواء ولا تنفذ فيه حيل الأطباء. - ولكن ألا يمكن لتلك المرأة أن تحبك؟ - ليس لي ذرة من الأمل. - إذن هي من غير قلب. - إنها من أشد الناس شعورا، وأعظمهن تأثيرا، وقد اجتمعت بها كل الصفات التي تجعل المرأة تعبد عبادة لا تحب حبا.
فتبسمت تبسما خفيفا، ثم قالت: أهي متزوجة؟ - كلا، فهي عذراء. - إذن أنت متزوج؟ - كلا يا سيدتي، فإني لا أزال عازبا، ولي من العمر ثمانية وعشرون عاما، ومن المال ما يقدر بالملايين. - وما يمنعك عن الاقتران بها؟
فأجابها بصوت نفذ إلى أعماق قلبها: إنها تحب سواي. - إن حديثك بمنتهى الغرابة، فإني منذ أربعين عاما في هذه القرية، وليس بها الآن من العذارى غير فتاتين؛ إحداهما السيدة ب. والثانية السيدة ر. ولا بد أن تكون إحداهما التي صادفتها بهذه الضواحي. - كلا يا سيدتي، فإني لا أعرف هاتين الصبيتين. - إذن أين لقيتها، وهل كانت في مركبة أم كانت تسير على قدميها؟ - كانت تمشي. - أكانت وحدها؟ - كلا، بل كانت مع أمها تسيران في طريق سانت مالو. - إلهي ماذا أسمع، أليست تدعى بهرمين؟
فوضع يده على قلبه وتنهد طويلا، ثم قال: أواه! نعم هي بعينها. - إنها نسيبة لي، وهي ابنة بيرابو رئيس قلم في الوزارة الخارجية.
فتنهد ثانية وقال: نعم. - إني أعجب يا سيدي كيف أن مثل هرمين تبلغ من فساد الذوق إلى أن لا تحب مثلك، وترغب عنك بسواك. - إنها تحب شابا لا يستحق حبها، فهو غير أهل لها. - كيف ذلك؟ ومن هو هذا الشاب؟ إنني أريد أن أدقق البحث في هذا الشأن، وهي آتية فسنرى.
فصاح أندريا صيحة اندهاش وقال: أهي آتية إلى هنا؟ - لا ريب في ذلك، فإننا ننتظرها للعشاء.
فنهض مسرعا وقال: أستودعك الله يا سيدتي، فإني لا أطيق النظر إليها، وليس بوسعي أن أقف أمامها.
ثم خرج مسرعا بغير أن يدع لها مجالا لمنعه.
وبعد أن مثل هذه الرواية المضحكة، وسار إلى منزل صديقه البارون دي مادي، ووصل بيرابو وهرمين وأمها إلى المنزل، فوجدا مدام كرمارك على غير ما عهدوها من البشاشة، فسألوها عما أصابها فقالت: إني أعجب لأطوار الإنكليز، فإنهم كثيرو الشواذ في معاملاتهم.
فإجابها بيرابو: عن أي إنكليزي تعنين؟ - ألم تصادفوه في مسيركم؟ - من ذاك؟ - السير فيليام.
فقال بمزيد الاندهاش: كيف رأيته، وأنا أبحث عنه في كل مكان؛ لأني مديون له بحياتي؟ - كيف ذلك؟!
فقص بيرابو حديث المركبة وجموح الجواد.
قالت: كل ذلك يدل على أنه من نبلاء القوم، وقد جاء إلى هنا منذ حين بحجة أنه تائه عن الطريق، ثم ذهب لأنه لم ... وكادت تظهر السبب في رحيله، ثم رأت أن ذلك لا يوافق قصه أمام هرمين، فأرادت إبعادها بحيلة فقالت لها: أرجوك أن تذهبي إلى المطبخ وتحثي الطاهي على تهييء الطعام. فذهبت هرمين، ولما خلا بهم المكان قالت مدام كرمارك: أتعلمان أن السير فيليام عاشق مفتون. فأشار بيرابو برأسه إشارة إيجاب، قالت: أتعلم ذلك؟ - نعم، إنه قد توله بحب هرمين، وقد خطبها من شهر. - أرفضت طلبه؟ - لم أرفضه إلا لأن هرمين كانت مخطوبة، وهي على أهبة الزواج.
ثم قص عليها حديث فرناند روشي، وكيف ارتكب ذلك الإثم الذي زج بسببه في السجن، وهتك حرمته بما دعا إلى حل هذا العقد بينهما.
فارتاعت مدام كرمارك وقالت: عجبا! كيف أن هرمين تحب مثل هذا السافل؟
فأجابتها تريزا: إنها تحبه حبا ليس فوقه حب. - يجب نزع هذا الحب من قلبها، فهو يشينها، ويجب أن تحب السير فيليام من غير بد، فهو من نبلاء القوم، شريف الحسب، وافر الأدب، واسع الثروة، حسن السمعة، ولا أجد لها عذرا في رفض حبه، فيجب أن نتفق جميعا على إقناعها إذا لازمت الإصرار على هذا الغي، وسأشرع بتمهيد هذا السبيل منذ الآن؛ إذ ينبغي قبل كل شيء أن يحصل التعارف بينهما. ثم دعت بخادمها وقالت له: أعطني أدوات الكتابة. فأتاها بها، فكتبت إلى البارون ما يأتي:
يا ابن أختي العزيز
إنه قد زارني منذ خمسة أيام نسيبي بيرابو مع امرأته وابنته التي لها ولع بالصيد وشغف بركوب الخيل، وأنا أعلم أن عندك السير فيليام، فإذا رأيت أن تحضره معك في الغد فنذهب سوية إلى الصيد، وأكون لك من الشاكرين.
وأعطت الكتاب إلى خادمها وقالت له: سر إلى ابن أختي، وارجع إلي حالا بالجواب. •••
بينما كان السير فيليام مجدا في الاستيلاء على قلب هرمين، كان أرمان يبحث مع ليون وبستيان عن حنة وسريز، وقد فرق رجاله الخفيين في جميع أنحاء باريس، فلم يقفوا لهما على أثر. وكان أرمان شديد الحزن لبعد حنة، وكان يبكي لفرقها البكاء المر، وفي اليوم الرابع من اختطافها كان جالسا في منزله وهو مشتت البال ضائع الرشد، فدخل عليه ليون رولاند الذي أصابه من فقد سريز نفس ما أصاب أرمان، وقال له: يظهر يا سيدي الكونت أن الشقاء قد أحاط بجميع معارفي، وإن لي صديقا طاهر الأخلاق أحبه كأخ وقد رزئ بمصاب. - من هو هذا الصديق؟ وما أصابه؟
فأعطاه ليون رسالة مفتوحة، وقال له: اقرأ يا سيدي الكونت.
فقرأ أرمان ما يأتي:
صديقي العزيز ليون
إنك الرجل الوحيد الذي أقدر أن أكتب إليه، وأسأله مساعدة وعزاء، فإني كنت يوم آخر عهدي بلقاك من أسعد البشر؛ لقرب اقتراني بمن أحب، وكنت محترما في عيون الناس، أما اليوم أيها الصديق فإني مطرود من خدمتي، متهم بالاختلاس، منطرح في أعماق السجن، ولا أعلم أين يقذفون بي بعد الحكم علي. فتعال أيها الصديق لأراك المرة الأخيرة، فإن الشقاء سيقتلني، وأظنني أموت قبل صدور الحكم، محبك.
فرناند روشي
فلما أتم أرمان قراءة الرسالة سأل ليون عن فرناند، فقال له: إنه مستخدم في الوزارة الخارجية، وإنه في السجن منذ أربعة أيام. - بأي ذنب قد سجن؟ - لا أعلم، ولكني أقسم أن فرناند لا يمكن أن يجترم ذنبا يعاقب عليه بالسجن والطرد. - أين منزله؟ - هو ذلك المنزل المقابل لمنزل سريز. - أكان له معرفة بحنة؟ - ربما، فإنه كان يراها كثيرا مع سريز. - إن كان ذلك فهو من الغرابة بمكان؛ فإن أربعة أشخاص متعارفين قد احتجبوا تقريبا في وقت واحد، مما يدل على أن يدا واحدة قد وضعت هذه الحوادث، ولكن لماذا ولأية غاية؟ ومن هو الفاعل؟ إن ذلك من الأسرار المغلقة التي يصعب حل رموزها، فلنذهب إلى فرناند عسى أن نقف منه على شيء.
ثم ذهب الاثنان إلى السجن، واستأذنا بزيارة فرناند فأذن لهما، فلما شاهده أرمان حن إليه قلبه، وهاجت به عواطف الشفقة؛ لما رأى على ملامحه من اليأس والانفعال، فقال له: إنك لم ترني قبل ذلك ولا تعرفني، ولكن سأهتم بشأنك وآخذ بناصرك لأسباب لا يمكن التصريح بها الآن، ولأني أعتقد ببراءتك، غير أني أحب أن أعرف بالتدقيق بما يتهمونك وكيف أنت هنا.
فقال فرناند: إنهم يتهمونني باختلاس ثلاثين ألف فرنك من صندوق الوزارة الذي كانت مفاتيحه معي. ثم قص عليه حكايته من حين ائتمنه بيرابو على المفاتيح، وكيف أعطاه كولار الرسالة من هرمين، إلى أن قبض عليه بمنزل باكارا.
ولما انتهى من حكايته نظر أرمان إلى ليون وقال: لم يبق لدي ريب بأن اتهام هذا الشاب بالاختلاس، واختطاف حنة وسريز صنع يد واحدة، وقد صار يجب أن أرى باكارا.
فقال ليون: وا أسفاه! هي أيضا قد احتجبت، ولا يعلم أحد بمكانها.
فقال فرناند: وإن الأغرب من ذلك وجود المحفظة في جيب سترتي التي كانت معلقة في منزل باكارا، وأنا لم أمسها على الإطلاق.
فقال أرمان: ثق أيها الشاب أن الحقيقة ستتضح عن قريب، وإنه يهمني حل هذا اللغز أكثر ما يهمك، فأخبرني الآن عن خطيبتك هرمين أهي جميلة؟ فأجابه فرناند ببساطة: لا أعلم، ولكنني أحبها. - هل هي غنية؟ - كلا، وفوق ذلك فإن بيرابو لم يسمح بقراني بها إلا على شرط أن تجرد من مهرها الذي يصل إليها من أمها، وأن بيرابو ليس بأبيها. - هل تزوجت أمها مرتين؟ - كلا، ولكنها قد ارتكبت هفوة في صباها، وإن والد هرمين غير معروف.
فتذكر أرمان تلك الرسالة التي أتته من قبل، وكان بها أن امرأة تدعى تريزا قد ارتكبت هفوة في مارلوت، فولدت بنتا ثم تزوجت برجل مستخدم في الوزارة في باريس، فقال في نفسه: ألا يمكن أن تكون هي تلك المرأة التي بحثت عنها منذ حين؟ وقد علم من فرناند أن والدة هرمين تدعى تريزا، فتأكد لديه أنها ابنة البارون كرماروت صاحب الملايين المؤتمن عليها، وقال في نفسه: إن هذه الحادثة ستكشف لي جميع هذه الأسرار.
ثم ودع فرناند وقد وعده بأن يزوره في اليوم الثاني، ولم يذكر شيئا من أمر ذلك الإرث الخفي الذي ستحصل عليه هرمين، وذهب مع ليون إلى منزله، فأخذ ذلك النوط الذي أعطاه إياه البارون كرماروت وهو على فراش الموت؛ ليكون كعلامة يعرف بها صاحبة الإرث على ما تقدم في موضعه من سياق هذا الحديث كما يذكر القراء.
وقد عزم على أن يذهب إلى منزل بيرابو فيتحقق الأمر، ثم عدل عن ذلك بغية التأني، وقال لليون: لا ريب عندي ببراءة فرناند، وأن الرجل الذي رماه بهذه التهمة يريد أن يتزوج بهرمين، ولكن إذا صح ذلك ألم يقدر ذلك الرجل أن يفسخ بينهما عقد الخطبة بغير هذه الواسطة، وبعد فكيف أن فرناند بعد أن أغمي عليه في الطريق وجد في منزل باكارا التي هي أخت سريز، وكيف أن باكارا وسريز وحنة قد احتجبن تقريبا في يوم واحد؛ إن ذلك يدل على أن فاعل هذه الفعلة لم يدفعه إليها الغرام وحده، بل له بذلك مآرب أخرى، وربما كانت مآربه عظيمة، فإذا صح أن مدام بيرابو هي التي أبحث عنها من زمن طويل، فستكون ثروة ابنتها 12 مليونا قد ائتمنني عليها البارون كرماروت، ولا أحد غيري يعلم هذا السر، أيمكن لذلك الذي ألقى التهمة على فرناند بقصد إبعاده عن هرمين أن يكون عارفا بهذا السر، وكيف يتاح له معرفة ذلك، وهب أنه عرف بذلك الإرث الخفي، وأن هرمين هي الوارثة، فما السبب في اختطاف سريز وأختها وحنة.
فقال ليون: أظن أن باكارا هي التي فعلت كل ذلك، فإنها مشغوفة بفرناند. - ذلك لا يمكن أن يكون، فإنها إذا كانت تحبه فهي لا تريد له ضررا، وما أظنها إلا آلة قد أدارتها يد قوية، ولا أحد سوى باكارا يقدر أن يفيدنا عن ذلك المجرم، فيجب أن أرها من غير بد مهما تجشمت من المشاق.
ثم أطرق مليا، فطرأت على باله حنة، وتذكر ابتسام السير فيليام السخري، فطار فؤاده شعاعا وقال: كل ذلك من صنع أندريا.
وللحال دعا بستيان وقال له: ألا تزال واثقا أن السير فيليام هو غير أندريا؟ - لا ريب عندي في ذلك، فقد امتحنته بغاية التدقيق. - ولكن قلبي يحدثني بأنه هو بعينه، لا بأس من أن تنظره مرة ثانية، فإنك مديون له بزيارة، فاذهب الآن إليه على الفور، واجعل حديثك معه على غاية التودد، واجتهد أن تدعه يكثر من الحديث، فقد رابتني لهجته التي يستشف منها المدقق أنها فرنسية محضة.
فذهب بستيان، ثم عاد بعد قليل، وقال: إنه غادر باريس، وقد قال لي خادمه إنه ذهب إلى أيرلندا، وسيعود إليها بعد خمسة عشر يوما.
فارتاع أرمان وخشي أن يكون هذا الذي اختطف حنة، وسار بها إلى تلك البلاد.
وكان قد أرسل ليون إلى منزل بيرابو فعاد أيضا مسرعا، وقال: إن مدام بيرابو قد سافرت مع ابنتها إلى بريطانيا من يوم قبض على فرناند.
فضرب على جبهته بيده، وقال: أقسم أن كل ذلك من صنع أندريا.
وفيما هو يتمايل إذ دخل خادم غرفته وقال له: يا مولاي، إن امرأة على الباب تقول إنك تعرفها وهي تطلب أن تراك. - لتدخل.
فلما دخلت ورآها صاح صيحة انذهال وقال: هذه باكارا. •••
ولكي نظهر كيف أن باكارا قد جاءت إلى منزل أرمان وهي لا تعرفه، ينبغي أن نعود إلى حيث تركناها مع الطبيب المتصنع تسير في المركبة إلى مونمارتر فنقول: يذكر القراء أنها كانت جالسة في المركبة بين خادمتها فاني وبين ذلك الطبيب المتصنع، وأنها عندما حاولت أن تستغيث أشهر عليها الخنجر فارتاعت وسكنت، ثم إنها بعد حين همت أن تثب من المركبة فأمسكها بيديه، وقال لها: اختاري بين أن تكوني في مستشفى المجانين أو أن تكوني في السجن مع المجرمين.
فأجفلت باكارا وقالت: أنا أزج في السجن! وأي جرم ارتكبت؟! - إنك ارتكبت جرم السرقة، فإن لك شركة في سرقة المحفظة المحتوية على ثلاثين ألف فرنك التي سرقها عشيقك فرناند من الوزارة، وقد قبض عليه في منزلك. - إذن فهو بالحقيقة سارق! - لا أعلم إذا كان هو الذي سرق المحفظة، أو إذا كان أحد أعدائه قد وضعها في جيبه، ولكن الذي أعلمه أن الشرطة قد ألقوا القبض عليه في منزلك حيث وجدوا المحفظة في جيبه بما كان فيها من المال. - أوجد المال عندي؟ - نعم، في غرفتك الذاتية.
فانطرحت داخل المركبة واهية القوى وهي تقول: إلهي ماذا أسمع؟
وعند ذلك وقفت المركبة، ففتح بابها ودخل أندريا، وقال لفاني: اصعدي أنت واجلسي بجانب السائق، ودعيني أجلس مكانك.
فامتثلت، أما باكارا فإنها نظرت ابتسام أندريا السخري، فقالت: لقد عرفت من قبل أن ذلك من صنعك. - هذا مما يثبت لي رجحان عقلك، فلا تضيعي مني تلك الثقة فيك، واعلمي أني لا أريد بك ضررا، وربما اتخذتك خليلة بعد حين، فإنك وافرة اللطف بارعة الجمال، ولكني أسعى وراء أمر خطير، وإن حريتك تعرقل مساعي، وربما كانت عقبة في سبيلي، فاضطررت إلى أسرك مكرها بضعة أيام من قبيل الحذر والاحتياط، وسترد إليك حريتك بعد ذلك، وتعوضين أضعاف ما خسرته. - أنا لم أسئ إليك قط، فلماذا تريد أن تسيء إلي؟ - ألم تفهمي بعد أني شديد الشغف بك، وقد اضطررت إلى أن أحجبك عن العيون حذرا عليك. - مما تحذر علي، فإني لم أسرق المحفظة. - ولكن السارق وجد عندك، والمحفظة وجدت في غرفتك. - يا للخيانة! إنه بريء. - ربما، ولكن من صالحي أن يكون هو المجرم. - أنا لا أرضى بذلك، وسأظهر مكرك وخيانتك أمام الشرع. - كيف تقدرين أن تثبتي براءته، وقد وجدته الشرطة في منزلك، وفي جيبه المحفظة والمال، فكأنك بذلك تقودين نفسك بيدك إلى السجن، وتثبتين أنك شريكته في الجريمة، ومع ذلك فإني أخيرك بين السجن وبين مستشفى المجانين، وعندي أنه خير لك أن تلزمي السكون؛ فلا مرد لما قضي به عليك، ولا يمر بك ثمانية أيام حتى تنفرج عندك الأزمة، وتعودي إلى منزلك فلا يحنق عليك البارون. - أنا كتبت له أن ذلك زور وبهتان. - ومع ذلك فقد ورد اليوم إلى البارون رسالة بخطك، ويظهر أن كاتبها قد أجاد تقليد الخط حتى لم يدع للبارون أقل شك فيها.
فصاحت باكارا صيحة منكرة، وعلمت أنها أصبحت في قبضة هذا الرجل يفعل بها ما يشاء.
وعند ذاك وقفت المركبة على باب المستشفى، فقال لها: لقد تم الاتفاق بيننا على أن تكوني هادئة، وذلك خير لك على ما أبنته. - ولكن ماذا يجري بفرناند أيحكمون عليه؟ - لا تخافي، فإن فرناند متهم بسرقة، وهذا ما يدعو هرمين إلى ترك حبه والاقتران بي! - ومتى اقترنت بك فماذا يكون؟ - يكون أنني أبرئ فرناند من تهمته.
فصاحت باكارا صيحة الفرح، وقالت: بالله كيف ذلك؟ - هو سري، فاسمحي لي بكتمانه. - وهم يطلقون سراح فرناند؟ - نعم، ويقترن بك!
فتنهدت الفتاة وأحنت رأسها كمن يستسلم للقضاء، وقالت: افعل ما تريد!
وعندها نزل السائق، وقرع باب المستشفى، وأدخل المركبة إلى ساحته، فنزل أندريا وأقفل الباب على باكارا والطبيب، وذهب إلى رئيس المستشفى فقال: إنني أريد أن أستودعكم فتاة مجنونة تدعى أليس هوتية، وهي معشوقتي، وأنا أريد أن أتولى النفقة عليها، أما جنونها فقد أصابها على إثر حادثة جرت لها مع مومسة شهيرة تدعى باكارا غارت هذه الفتاة منها على عشيقها حتى اختل عقلها، وأصبحت تزعم أنها هي نفس باكارا.
قال الرئيس: لا بأس، فسنجتهد في علاجها.
فدفع له أندريا أجرة شهر مقدما، وانثنى إلى المركبة فأخرج منها باكارا، وقال لها: لقد أصبح اسمك الآن أليس، وإنك مجنونة غيرة من باكارا حتى صرت تعتقدين أنك هي بعينها، وهذا كل جنونك، أفهمت؟ - إنك شيطان مريد! - لا بأس، ولكن افتكري بإنقاذ حبيبك.
ثم خاطبها بصوت عال فقال كمن يملق مجنونا: تعالي يا حبيبتي أليس لتنظري هذا المنزل الذي اشتريته لك حديثا.
ثم تأبط ذراعها وسار بها حتى أدخلها إلى الغرفة المعدة لها، فتركها هناك بحجة أنه يرى الحديقة، وخرج فاستدعى طبيب المستشفى، وقص عليه حكاية جنونها المزعوم، وأنه قد أصابها منذ ثلاثة أيام، ورأى الطبيب فاني تتبع سيدتها فقال: من هذه الفتاة؟ - هي خادمة أليس، أفلا يمكن أن تبقيها معها تسهيلا لخدمتها؟ - لا بأس في ذاك، فهو يفيد العليلة.
فعاد أندريا إلى باكارا فوجدها جالسة حزينة، فعزاها بلطف وقال: لا تجزعي، فإن حبسك لا يطول، فقد أبقيت معك خادمتك فاني. - بل أبقيتها جاسوسة علي. - أنا ذاهب وسأراك غدا.
ثم ودعها وانصرف، ودخل الطبيب على إثره وهو يقول: اعذريني يا سيدتي إذ دخلت بلا استئذان.
فتقدمت إليه باكارا، وقالت: قد عرفت من أنت يا سيدي، فإنك طبيب هذا المكان!
فانذهل الطبيب لرقتها وسكونها، وعادت فقالت: إنني أعلم أيضا أين أنا، وأعلم أنك قادم لتفحصني.
فزاد انذهال الطبيب من هذا الثبات الذي يدل على العقل.
وعادت باكارا وقالت: لا تحسب أني أرتكب الحماقة التي يرتكبها كل داخل إلى هذا المكان، ويكون أول كلامه لك غير مجنون.
فابتسم الطبيب بسمة الريب، وأدركت معنى ابتسامه فقالت له: أنا أبرهن لك على ذلك.
فجلس الطبيب إلى جانبها، وأخذ يدها وقال: إن داءك غير عضال، وعلاج أيام قليلة يكفي لشفائه.
فنظرت إليه نظرة هادئة، وقالت: أتسمح لي أن أكلمك، وتصغي إلى آخر ما أقوله؟ - تكلمي يا سيدتي. - ألا يحصل أحيانا أن يأتوك بأناس عقلاء أصحاء يزعمون أنهم مجانين رغبة في إخفائهم عن أعين الناس.
فاضطرب الطبيب وقال: ذلك ممكن، فهل أنت من أولئك المظلومين.
فأخذت يده بلطف وهزت رأسها، واستوت جالسة شأن كل امرأة تعودت الدلال واستهواء القلوب، وقالت: اسمع لأقص عليك حكاية غريبة ندر أن تسمع بمثلها في هذه الأيام. فعاد الطبيب ظنه أنها مجنونة، ولكنه صبر إلى النهاية وأصغى، فقصت عليه حكايتها بالتفصيل من يوم أحبت فرناند إلى يوم إلقاء القبض عليه بتدقيق وبيان غريب، وقالت: إنها مستعدة لتأييد أقوالها بشهادة كل الذين عرضوا لها في هذه الحكاية، ثم دلت الطبيب على منزلها في شارع مونسي، وسألته أن يذهب إليه ويجتمع فيه بأمها فتتجلى له الحقيقة.
فأثر كلامها على الطبيب وقال لها: إني ذاهب الآن إلى منزلك، فأفحص الأمر بنفسي، فإذا صح الأمر كما تقولين فإني أكون لك محاميا لا طبيبا، وسأعود إليك في المساء، ثم تركها وانصرف.
جلست باكارا في غرفتها تنتظر الأجل المضروب على أحر من الجمر.
وكان أندريا قد قدر ذلك من قبل؛ فاتفق مع مومس كثيرة الدهاء وأقامها بمنزل باكارا، وقد علمها ما تقول، فلما جاء الطبيب حكت له قصة باكارا كما رواها له أندريا، فلم يعد لديه ريب بجنونها، وعاد إلى المستشفى وهو آسف عليها.
ولما رأته باكارا داخلا عليها صاحت صيحة فرح، واستهلت حديثها معه بالشكر له والثناء عليه، ثم قالت: إنك قد رأيت أمي ولا ريب، وثبت لك الآن أني غير مجنونة، فجل ما ألتمسه منك الآن أن تسير معي إلى دائرة البوليس، فتوضح مكر السير فيليام، وتنقذ ذلك التعيس البريء من عذاب السجن. وعند ذلك دخلت فاني فنظرت إلى الطبيب نظرة استفهام أجابها على سؤالها بابتسامة حزينة تدل على الشفقة، ثم قال: لقد بدأت بها أعراض الجنون، ويجب أن تستحم بالماء البارد.
فصاحت باكارا صيحة منكرة، وقد سمعت ورأت كل شيء، فقالت: إذن أنا مجنونة حقيقة.
فأجابها الدكتور: لا بأس يا سيدتي، فإن داءك غير عضال، وستنقهين منه بزمن يسير إذا لزمت السكون. - ألم تذهب إلى منزلي، ألم تر أمي وخدمي فيه؟ - ذهبت يا سيدتي، ورأيت فيه باكارا.
ففطنت حينئذ لحيلة أندريا، واسترسلت إلى اليأس فهاجت هياج المجانين، ثم هدأت ثورتها، وعاد إليها سكونها، فوضعت رأسها بين يديها، وجعلت تبكي بكاء مرا، وفيما هي على ذلك إذ سمعت الدكتور يقول لفاني: لقد التمست من رئيس المستشفى أن يسمح لك بالبقاء ليلا بقرب سيدتك، فأبى علي ذلك، ولكنه سمح أن تزوريها في النهار، وأن تبقي بقربها إلى الساعة العاشرة مساء فقط. فلم تنبس ببنت شفة، وجعلت تفكر بما سمعته من الدكتور عند خروج فاني من المستشفى في كل يوم.
ثم ذهب الدكتور، فبقيت باكارا في غرفتها مع فاني، فنظرت إليها باكارا وقالت: إنك تمثلين رواية مضحكة، ولكنها ستكون مفجعة، وتنالين جزاء ما جنته يداك. - ستتأكد سيدتي بعد حين أنني من أشد الناس تعلقا بها، ستظهر لها الأيام حقيقة ما أقول.
ولما دنت الساعة العاشرة عزمت فاني على الذهاب، فقالت لسيدتها: إنني ذاهبة، وسأعود في صباح الغد، فهل تريدين أن أحضر لك شيئا معي؟ - نعم، أحضري لي علبة الشغل التي في غرفتي. - أستودعك الله يا سيدتي إلى الغد. - إلى الغد. ثم قالت بصوت منخفض، وقد التهبت عيناها بشرر الانتقام: إلى الغد أيتها الخائنة، وسترين كيف يكون جزاء الخائنين.
ولبثت طوال الليل تهيئ في فكرها سبيل الفرار، ولما طلع الصباح عادت إليها فاني بعلبة الشغل، وكان فيها لفافة كبيرة من الخيوط القطنية الثخينة، وكانت قد طلبت العلبة لأجل هذه الخيوط فأخذتها منها، وتظاهرت كل النهار بالبشاشة بما سر الحكيم، ودعاه أن يضاعف لها أوقات الاستحمام، وعند الساعة الثامنة قالت لفاني: إنني أحب أن أنام، فأغلقي نوافذ الغرفة، ورتبي لي السرير. وبينما كانت تغلق النوافذ نظرت إليها باكارا، ثم نظرت إلى نفسها بالمرآة كأنها تريد أن توازن بين القوتين، وأخذت خنجرا كانت قد خبأته في صدرها، ثم هجمت على فاني هجوم الأسد على فريسته، ووضعت يديها في طوقها حذرا من أن تستغيث، ثم ألقتها على الأرض، فركعت على صدرها، وأشهرت عليها الخنجر وهي تقول: إذا استغثت أو فهت بكلمة فإنك ميتة لا محالة. - عفوا سيدتي ومرحمة!
فاستعرت مقلتا باكارا من الغضب حتى خيل لفاني أن ساعتها الأخيرة قد دنت، وقالت: إنك تقولين إني مجنونة، والجميع هنا يعتقدون بجنوني، فإذا قتلتك لا أعاقب بقتلك؛ إذ ليس على المجانين حرج. ثم أدنت الخنجر من صدرها وقالت: احذري من أن تفوهي بكلمة وإلا قتلتك بغير إشفاق، واعلمي أنني أريد الخروج من هذا المكان، ولا أحد سواك يستطيع مساعدتي على ذاك. - كيف أستطيع إخراجك فإن الأبواب مقفلة؟ - إنهم يفتحونها لأجلك؛ لأنك تخرجين كل يوم الساعة العاشرة. - ولكنهم لا يدعونك تخرجين معي. - أعرف هذا، ولكنك ستبقين وأخرج مكانك، فاعلمي الآن أنني أشد منك ساعدا، وأنني مسلحة بهذا الخنجر، وأنني إذا قتلتك فلا حرج علي؛ لأنهم يحسبونني مجنونة، فاختاري إذن بين الامتثال وبين الموت. - مري بما تشائين. - انهضي واخلعي ثيابك في الحال.
فامتثلت فاني وخلعت ما عليها من الثياب. - أعطني الآن علبة شغلي. فأحضرتها لها وهي تكاد تجن من الخوف، فأخذت باكارا لفافة الخيوط وأمرتها أن تضم بعضها إلى بعض وتجدل حبلا رفيعا، فامتثلت، ولما انتهت أخذت باكارا الحبل، وقالت لها: أديري يديك إلى الوراء. ففعلت، وربطتهما باكارا بذلك الحبل رباطا وثيقا، ثم ربطت رجليها، وبعد ذلك خلعت ثيابها، فلبست ثياب فاني وقالت لها: قولي لي كيف تخرجين من هذا المكان، وإياك أن تكذبي بحرف واحد، فإنني أعود إليك فأميتك شر ميتة، واذكري أنني مجنونة. - يوجد في آخر الرواق بابان؛ أحدهما إلى جهة اليسار، وهو الباب الذي يخرج منه المجانين إلى الحديقة، والآخر إلى جهة اليمين فتخرجين من ذاك الباب إلى رواق آخر طويل حيث تجدين في آخر ذاك الرواق بابا كبيرا، وهو باب المستشفى العام. - أما كان يسألك البواب شيئا؟ - لم أخرج غير مرة واحدة، وقد سألني من أنا، فقلت له أنا خادمة السيدة التي دخلت إلى المستشفى بالأمس، ثم فتح لي الباب فذهبت. - ألم يتبين وجهك؟ - كلا، فإنه فتح لي الباب وهو يقرأ في جريدة، وفوق ذاك فإن النور ضعيف.
وخرجت باكارا بعد أن أقفلت الباب، واستوثقت من صدق فاني، وذهبت في الطريق التي أشارت إليها حتى وصلت إلى آخر الرواق، فوجدت البواب منهمكا في القراءة، فسألته أن يفتح الباب وهي تقلد صوت فاني، ففتح دون أن ينظر إليها، فخرجت وهى تظن أنها تحلم ولم تصدق أنها تمكنت من الفرار، فجعلت تركض في الشارع المقفر وهي تلتفت إلى الوراء من حين إلى حين شأن الهارب الخائف، ثم وقفت في عطفة الشارع تفتكر أين تذهب، فإنها خشيت من الرجوع إلى منزلها حذرا من أندريا، ولعلمها أنه رشا جميع خدم المنزل بحيث أصبحوا جميعا في قبضة يده، وخطر لها أن تذهب إلى عشيقها البارون؛ لأنه هو وحده القادر على إنقاذها وإنقاذ حبيبها فرناند، لما له من النفوذ والوجاهة، فمشت حتى مرت بها مركبة فركبتها، ودلت السائق على منزل البارون فسار بها إليه.
وكانت كثيرا ما تأتي إلى ذاك المنزل فتبيت فيه، وقد عرف جميع الخدم أنها عشيقة البارون سيدهم فكانوا يتملكونها ويكرمونها، ولما دخلت أنكر عليها الخدم لباس الخادمات، وحسبوا أنها تريد مزاحا، فأمرت أحدهم أن يدفع إلى السائق أجرته وهي غير مكترثة بعجبهم، وسألتهم عن البارون، فقالوا: إنه خرج منذ حين. قالت: أتعلمون أين ذهب؟ قالوا: كلا. قالت: حسنا سأنتظره. ثم ذهبت إلى غرفته الخصوصية وانطرحت على مقعد فيها.
ولما كانت الساعة السابعة دخل عليها البارون فأيقظها، وكان قد وردت إليه رسالة مزورة عن لسانها تخبره فيها أنها سافرت مع أمها وتغيب بضعة أيام، ولما أفاقت من نومها قال مندهشا: ألم تسافري بعد؟
فضحكت وأخبرته بأمرها، وكيف أنهم خدعوها وأرسلوها مجنونة إلى البيمارستان، وكيف خلصت منه، وكيف أقامت مقامها في منزلها امرأة سواها باسمها، وأنها قادمة إليه ترجو مساعدته وإسعافه، وأن يعطيها مبلغا من المال تستعين به على أمرها؛ لأنها أخذت من منزلها ولا مال معها.
فنقدها البارون ما شاءت، وسألها عن الإسعاف الذي تطلب فقالت: هو أن تكتب لي تذكرتين إلى مدير الشرطة، وقاضي التحقيق؛ لأن لي معهما شأنا أريد أن يسعفاني فيه، وأن يسمعا ما أنصه عليهما منه، وأن لا يسألها أكثر من ذلك، فأطاعها البارون كما هو دأبه وكتب لها ما سألته، فوضعت الرسالتين في جيبها شاكرة مسرورة، وكانت قد استبدلت ثياب الخادمة بما كان لها من الثياب في منزل عشيقها البارون، ثم ركبت في الساعة الثامنة من الصباح مركبة، وانطلقت مسرعة إلى مدير الشرطة.
وكان البارون معروف المقام لدى هؤلاء القوم، فلما قرأ المدير رقعته أمر بإدخال باكارا إليه، وكان يهمه أن يراها لما شاع من وجود فرناند عندها، وأنهم قبضوا عليه بتهمة السرقة فاستقبلها وهو يقول: يسرني أن أراك يا سيدتي؛ لأن المحكمة تلح علي من يومين أن أقبض عليك، ولكن يظهر قدومك لي بنفسك أنني لا أحتاج إلى هذا الأمر؛ لأنني سأعرف منك شيئا. - نعم، وهو شيء مهم. ثم قصت عليه في حديث طويل كل حكايتها مع السير فيليام، وكيف اتهم فرناند افتراء وزورا إلى آخر ما يعرفه القراء مما في علمها من هذا الشأن، وبينما هو منذهل من حديثها وغرابة تلك الخدعة قالت: والآن أتسمح لي أن أقابل فرناند في حبسه؟ - ذلك يحتاج إلى إذن قاضي التحقيق.
فأعطته الفتاة التذكرة التي معها باسم القاضي، وأضاف هو من عنده سطرا، وأرسلها مع أحد الحجاب، ولم يلبث أن جاءه الجواب بالإذن، فأمر الحاجب أن يوصلها إلى سجن فرناند، وسألها أن ترجع إليه بعد نهاية المقابلة.
وكان قبل دخولها عليه بقليل خرج من عنده ليون والكونت أرمان بعد أن أطمعاه بالخلاص من ورطته، ولما دخلت إلى سجنه وجدته في جانب سريره مهموما مفكرا، فدنت منه وطوقته بذراعها، فاندهش من مرآها في بادئ الأمر، حتى تبسم بالرغم عنه كما يتبسم العاشق لمعشوقه المسيء إليه، وينسى إساءته عند أول وهلة من مرآه، ثم خطر له ما وصل إليه من إساءتها واعتدائها، فدفعها عنه بازدراء وقال: أتتبعيني إلى هنا؟ - رويدا يا فرناند، إنك تكون ذا حق باحتقاري، ولكني أرجو منك أن تسمع لي ما أقول، وأن تعي برهان براءتك من ذلك كما ألقيه عليك. - أتقرين الآن بأنني غير مجرم. - بل أقر أكثر من ذاك، أي بأسماء المجرمين الحقيقيين. - عجبا! إلى هذا الحد؟
فتنهدت الفتاة وغطت وجهها بيديها، وقالت: ويلاه! إنه لا يصدقني، ولا يزال يحسبني شريكتهم في الذنب.
وكان في صوتها رنة حنو وحزن رق لها قلب فرناند، وتلطف معها وقال: ألم تكوني أنت الساعية في هلاكي؟ - عجبا يا فرناند! أيسعى إنسان في إهلاك من يهواه؟
ثم ركعت أمامه وشخصت إليه بعينين مغرورقتين بالدمع، وقالت له بصوت الحزين اللائم: إنه لو كان لي عرش لأعطيتك إياه.
وكان صوتها اللطيف ومنظرها المؤثر قد فعلا في قلب فرناند حتى رق لها وأنهضها وهو يقول: صدقت، فإن من المستحيل أن تسعي في إهلاكي ما دمت تقولين إنك تحبينني، فتكلمي وأفصحي عما تعلمين.
وأخذت يده برفق، وقالت وهي تنظر إليه نظرة ملؤها الحنو والغرام: عفوا يا فرناند إذا تجاسرت وقلت لك إنني أهواك، أنا التي لا أستحق أن تهواني ولست إلا فتاة ساقطة، ولكن براءتي من ذنبي إليك تستلزم أن أقر لك بهواك، وما أنكر عليك أنني لست أهلا لك، ولا مستحقة لودادك، ولكني أسمع أن الحب الحقيقي يظهر من الأدناس ويصلح فاسد القلوب، ويكون داعي مغفرة وسماح من عند الله الذي يغفر كثيرا لمن يحب كثيرا. - نعم؟ ثم ماذا؟ - إني أنا باكارا المرأة الساقطة لدى الجميع، قد شعرت أنني صرت خيرا مما كنت من يوم علق قلبي بهواك، وصرت أحسب أنني أصبحت شريفة يوم دخل إلى قلبي شعاع من الأمل بأنك تهواني، ولكن عفوا إذا انطلق لساني في شكوى الغرام، فإنما أنا قادمة لأجلك وساعية في خلاصك، فاسمع ما أقول لك. ثم مسحت مدامعها وشددت صوتها، وقالت: إن أول مرة رأيتك فيها يا سيدي كنت في النافذة عند أختي، وكنت أنت في نافذتك، ولكنك لم تكلمني ولم تنظر إلي، وأظن أنك لم تشعر بوجودي أيضا، ولكن ذلك لم يمنعني عن غرامك عند أول نظرة إليك، وعند أول خفوق من فؤادي، عند تلك النظرة فأحببتك، ولكن لا تسل كيف، إني بكل ما يمكن للقلب أن يحب، ومن تلك اللحظة أخذ الحب فؤادي وعقلي وكل حياتي بأسرها؛ لأنك تعلم أن امرأة مثلي مارست أصناف الرجال، ولعبت بقلوب الفتيان، واستهوت نفس العاشقين، لا يدخل الحب قلبها إلا اغتصابا، ولكنها متى أحبت فهي مجنونة هواها لا تحسب فيه للعواقب حسابا.
ثم عادت فركعت بين يديه، وهو يبسم لها تبسم الظافر على المرأة المفتخر بامتلاك فؤادها، وقال: مسكينة أنت. - قف. لا تشفق علي؛ لأنني لا أستحق منك شفقة ولا رحمة، بل احتقارا وكرها. - إذا كان الأمر كذلك، فأنا أسامحك وأعفو عنك. - اسمع فليس ذاك كل الأمر؛ فلقد مر علي يوم مشئوم أخبرتني فيه أختي أنك عازم على الزواج.
فاضطرب الفتى لهذه العبارة، وقال: هو إذن؟ أنت التي كتبت ...
فقاطعته وقالت: لا لست وحدي، بل أنا وهو. - من هو؟ - هو الوحش الضاري السير فيليام. - إنني لا أعرف هذا الرجل. - ستعرف من هو؛ فإنني يوم علمت أنك عازم على الاقتران كنت في بيت أختي، وكنت أنت في نافذتك فتطارحنا السلام، وخرجت أنت وكانت مركبتي لدى الباب فركبتها وانطلقت في إثرك حتى وصلت إلى منزل عروسك، فنزلت أنا وسألت عنها، فقيل إنها تدعى هرمين، وأن أباها يدعى بيرابو، فعدت إلى منزلي حزينة كئيبة تتنازعني الأفكار من كل جانب، ولكن فكر حرمانك من عروسك لم يكن قد خطر لي بعد، فقضيت ليلي مسهدة الجفن على فراشي، واسمك يتردد بين شفتي حتى الصباح، فدخل علي رجل، بل شيطان بصورة إنسان يقال له السير فيليام.
فقال فرناند منذهلا: ولكني لا أعرف هذا الرجل! - أما هو فقال لي: إنك تحبين فرناند، وأنا أحب ابنة بيرابو.
فارتعش فرناند لهذا الخبر، وعادت باكارا وقالت: وإذا بوالد هرمين تقدم إلي من وراء فيليام، وهو يقول لي إنه مغرم بأختي، ثم دخل فيليام معي في حديث طويل كله دهاء وخداع، لم أذكر منه سوى أنه لعب بعقلي واستولى على فكري، وبعت أختي سريز لوالد خطيبتك على أن يمنعك من زواج ابنته.
وهنا أخذت باكارا في البكاء الشديد، وأخذ فرناند يدها وقال: لا بأس، أنا أسامحك. - قف لا تسامحني الآن، فإنني لم أقل لك كل شيء، أما السير فيليام فإنه بعد أن أتم اتفاقنا على هذه الصفقة الخاسرة، أملى علي رسالة إليك أشكو لك فيها غرامي، كأنك عشيقي من زمن مديد، وجعلني أهزأ بالفتاة التي ستصير عروسك، وأذكرك بأنك وعدتني بأنك لا تسلوني ولو تزوجت.
وقاطعها فرناند وقد أخذ يستنير من الأمر، وقال: أكتبت كل هذا؟ - نعم، ودفعت الرسالة إلى بيرابو، وقد احتال فألقاها في أرض بيته يوم كنت تأكل عنده، بحيث وجدتها هرمين بعد ذهابك وقرأت ما فيها.
فجمد فرناند كأنه أصيب بصاعقة، وأدرك السبب الذي دعا هرمين إلى النفور منه ، ولكنه بقي جاهلا أمر السرقة وتدبيرها، وعادت باكارا إلى حديثها: والآن وقد عزمت على إنقاذك، وأن أتهم هذين الشقيين مكانك. - ولكن اذكري أن أحدهما والد هرمين.
أحنت رأسها وجرت على خدها دمعتان فطرتهما يد الغيرة من أعماق قلبها، وقالت: نعم. إنك تهواها، ولكن ما يهمني ذلك فأنا سأسعى في إنقاذك وتلافي ما بدر من إساءتي إليك، وإذا أصبحت سعيدا بعد ذلك بمن تهواها خففت عني وقر العذاب.
وتذكر فرناند عند ذاك زيارة الكونت أرمان وقوله له يجب أن نبحث عن باكارا، فاضطربت أفكاره، وقال: لقد أتاني رجل الآن، ووعدني بإنقاذي أيضا، وهو يريد أن يراك، وقد كان معه ليون خطيب أختك، ثم خرجا قبل دخولك بقليل، وهو يدعى الكونت أرمان دي كركاز، ومنزله في شارع كاترين، اذهبي إليه وانظري ماذا يريد.
فأخذت باكارا رأس السجين بين يديها وقبلته في جبينه قبلة عاشق مفارق، وقالت: لا بد من تبرئتك، ولو آل الأمر إلى اتهام نفسي مكانك، وويل لك يا سير فيليام، وكن على حذر. ثم خرجت بعزة وكبرياء كأن غرامها الصحيح قد جعلها عند نفسها من أطهر النساء، وعادت إلى مدير الشرطة وزادته إيضاحا في الأمر، ووعدته بأنها لا تخرج من باريس، وأنها مستعدة لإجابة الحكومة عند استدعائها. ثم ذهبت إلى منزل الكونت أرمان فدخلت عليه وهو يقول لليون: لا يمكن أن تنحل هذه الدسيسة إلا إذا قابلنا باكارا.
ولما رآها ليون داخلة وثب إليها وهو يقول: أين سريز، وماذا فعلت بها؟
فاصفرت الفتاة وقالت: أليست في منزلها؟ - لا، لقد فقدت منذ ثلاثة أيام. - ويل لهم لقد خطفوها! - ومن هم! - السير فيليام وبيرابو.
ولما لفظت اسم فيليام نظر أرمان إلى بستيان، وقال: أرأيت أنني عرفته وهو أندريا بعينه.
ثم سكت ليون، وأخذ بيد باكارا، وقال: تكلمي ولا تخافي، نحن من أصدقائك.
وقصت عليه القصة التي حكتها لفرناند، فارتجف الكونت من هول ما سمع وقال: قد وضح الأمر الآن، فإن يد أندريا في كل هذه الأمور ولا أقدر عليها منه، وهو قد عرف أن بنت بيرابو هي ابنة كرماروت، وقد اتفق مع بيرابو على هذا الأمر، وكلاهما مشتركان في هذه السرقة التي اتهم بها فرناند.
ثم صرف باكارا وهو يقول والغيظ يحنقه: احذر أيها الأخ العزيز، فقد فتحت بيننا حربا لا هدنة فيها ولا شفقة. •••
وقد كشف أرمان تقريبا الحجاب عن هذه المكيدة، وثبت لديه أن بيرابو شريكه فيها، فأخذ يتراوح بين رأيين؛ إما أن يشكوهما إلى الشرع، وإما يحتال لبلوغ مآربه من إنقاذ فرناند وحنة وسريز، أما الرأي الأول فقد خشي أن يفشل فيه؛ إذ ليس لديه من الشهود غير باكارا، وفوق ذلك فإن السير فيليام غائب عن باريس، وإن إشهار جريمة بيرابو يمس بكرامة هرمين، أما الرأي الثاني فهو شديد الخطر غير مضمون النجاح، غير أنه رأى أن يسير، فإذا فشل فيه عاد إلى الأول، وعلى هذا أمر باكارا أن لا تخرج من المنزل، وأوصى ليون أن يأتي إليه في كل يوم، وأن يدخل من باب سري في الحديقة، وأخذ يسعى في التفتيش على حنة وسريز، وأول ما شرع به أنه أحاط برجال المنزل الذي ذهبت إليه سريز في شارع الحية، وهو المنزل الذي دهمها فيه بيرابو، واختطفها منه كولار، فأمر أن يراقبوا جميع من يدخلون إليه ومن يخرجون منه.
أما فاني فإنهم انتبهوا إليها في الصباح وهي في آخر رمق من الحياة، فحلوا قيودها، وعلموا منها كيف كان هرب باكارا، فأطلقوا سراحها، وذهبت توا إلى منزل السير فيليام لتخبره بما جرى، وكان قد سافر، فأخبرت كولار الذي جمد لهذا النبأ كمن أصيب بالصاعقة، وقال في نفسه: إذا اجتمعت باكارا بليون فقد ضاعت كل آمالنا، وذهبت أمانينا أدراج الرياح. وقد عزم في البدء أن يكتب إلى السير فيليام يستقدمه، ولكنه رأى أن رجوعه يؤخر عقد الزواج وكسب الملايين، فعدل عن ذلك وقرر الإسراع في قتل ليون، وذهب يبحث عنه في المحل فلم يجده فيه، وأخبره رئيسه بما حل به بعد فقد خطيبته من اليأس، فتركه وانصرف يبحث عنه في جميع الأنحاء حتى لقيه في الساعة الخامسة خارجا من منزل أمه، فدنا وسلم عليه، وقال له بصوته الكئيب: كيف أنت أيها الصديق؟ - إني أكاد أجن من اليأس. - إني أعرف كل شيء أيها الصديق، وشهد الله إننا في هذا المصاب سواء، أنت تعلم حبي لك.
فاختلج ليون وقال: أنت تعرف كل شيء؟ - نعم، أعرف أيها الصديق أن سريز رحلت عنك. - قل إنها قد اختطفت. - لا، بل قل إنها قد سافرت، فإن الصبايا يختطفون في بلدة مثل باريس.
أجابه ليون بصوت خشن قائلا: إن سريز ابنة شريفة. - لا أنكر ذلك ولكن ... - ولكن ماذا؟
فأجابه بلهجة حزن، ولكني أعرف ما أقول.
فأمسكه ليون بذراعيه وهزه بعنف، وهو يقول: أنسيت أنها ستكون عروسي؟ - وإن تكن قد اختطفت. - نعم، إني سأنتقم لها، بل سينتقم لها عني الكونت.
ارتعش كولار وقال: عن أي كونت تعني؟ - الكونت أرمان دي كركاز، فقد عرفنا مرتكب هذا الجرم. - كيف عرفتموه؟ ومن هو؟ - هو ذاك الإنكليزي المحتال، أريد به السير فيليام.
بذل كولار معظم ما لديه من القوة حتى تمكن من إخفاء انفعاله، وقال في نفسه، قد غلبنا وذهبت الملايين، ثم رجع إليه سكونه وقال لليون: إني كنت قادما عندما لقيتك من المعمل الذي تشتغل فيه، أحببت أن أراك كي أحادثك بشأن سريز. - أتعلم شيئا عنها؟ - نعم، ولأجل هذا أتيتك، ولكن المقام لا يسمح لي بمثل هذه الأبحاث، فاذهب معي إلى قهوة قريبة أظهر لك ما تود معرفته في هذا الشأن. ثم ذهبا وجلسا حول منضدة معتزلة.
فقال كولار: إني صديقك، ولا أحب لك الزلل والخطأ. - أي زلل وأي خطأ؟ - إني أعلم ما لا تعلمه.
فصرخ به ليون: كفاك ألغازا، وقل لي ما تعلمه من شأن سريز. - لا أعلم شيئا، ولكني رأيتها أمس في بوجيفاك.
قال ليون وقد ظهرت عليه ملامح السرور: إنك رأيتها أمس في بوجيفاك، قل مع من كانت؟ وكيف رأيتها؟ - رأيتها في مركبة مقفلة.
فارتاع ليون وجعل العرق ينصب من جبينه، وقال: قل مع من رأيتها؟
فظهر من كولار أنه يتردد، فهزه ليون وصاح به يقول: إنك ستقتلني بهذا التردد، فبالله إلا ما قلت لي مع من رأيتها. - رأيتها مع شاب أسمر اللون وعليه ملامح الأغنياء.
قال ليون بلهجة الحزين: إن هذا محال. ألم تكن تستغيث؟
فقال كولار: مسكين أنت يا ليون، إنك لا تعرف أخلاق النساء، فإني رأيتها على أتم السكون، بل رأيته يحدثها وهي تبتسم له ابتسام الرضى والحب.
فهاج ليون لما سمع وقال: إنك تكذب، وأنت منخدع، فليست سريز التي رأيتها؟ - إنها هي بعينها، فلم أخدع ولا أنا كاذب. - إلى أين كانت تسير؟ - في طريق الوادي، فلم أعلم بعد ذلك شيئا لأني لم أتبعها.
فقال بلهجة الانتقام: كولار إنك ستذهب معي إلى بوجيفاك حيث نبحث سوية عن سريز، وسنبيت هناك إذا لم نتوفق للقائها إذا الظلام قد أقبل.
فتظاهر كولار أنه يفتكر ثم قال: نعم، سأذهب معك وسنجدها بإذن الله، غير أني لا أستطيع مبارحة باريس قبل ساعة، فانتظرني ريثما أعود. ثم ودعه وانصرف، وارتأى ليون بعد ذهابه أن يخبر الكونت أرمان كي لا يفوته شيء من أمر هذه المكيدة، فكتب له رسالة أوقفه فيها على ما دار بينه وبين كولار، وكيف أنه سيذهب معه بعد ساعة إلى بوجيفال، ثم ختمها وخرج ليبحث عمن يوصلها إليه، ولقي اتفاقا صديقه المخلص كينيون، وأطلعه على جلية الأمر، وكلفه أن يوصل الرسالة إلى الكونت.
وقال له كينيون: إني ناصح لك أن لا تسير مع هذا الرجل ولا تثق به، فإنه يضمر لك كيدا وقد حذرتك منه مرارا. - إنك مخطئ في رأيك به، فهو لي ولا بد من الذهاب إلى بوجيفال. - أنت بعد ذلك وشأنك، لقد بذلك لك ما يجب علي من النصح، ولم يبق علي سوى أن ألتمس منك أمرا واحدا. - ماذا؟ - هو أن لا تخبر صديقك كولار بهذه الرسالة التي سأذهب بها إلى الكونت. - أعدك بأني لن أحدثه بشأنها.
ثم افترقا فرجع ليون إلى القهوة وذهب كينيون إلى منزل أرمان فأعطاه الرسالة، وأخبره عن سوء ظنه بكولار وأنه يكيد لليون.
قال أرمان: إذن هلم معي إلى حيث ليون، وإننا سنسير بأثرهما إلى بوجيفال متنكرين. أما كولار فإنه ترك ليون وذهب توا إلى نيكولو وأمره أن يسير مع رفيق له إلى بوجيفال، وأوقفه على المكيدة، ثم عاد إلى ليون ووجده بانتظاره، وركب وإياه مركبة وسارا.
ولم يكن ليون يفكر سوى بأمر واحد، وهو أن يجد سريز وينتقم من خاطفها، وكان يهيج هياج المجانين ويتهدد السماء بيده، ثم يعود إلى السكون وتهدأ عاصفة غضبه، ويضع رأسه بين يديه ويفكر تفكير الحزن.
وقد رأى ليون أن الليل قد جن، فنظر إلى كولار وقال: إن الظلام قد ادلهم، والأفق مربد بالضباب، فكيف نبحث عنها في الليل الدامس؟ قال كولار: إن الظلام أفضل من النور، وفي مثل هذه الشئون أؤثر أن نصل ليلا فنبيت في فندق بوجيفال، وهو فندق يقدم إليه أكثر خدم الأغنياء في تلك الجهات، فربما علمنا منهم ما يدلنا على مكان سريز. وقنع ليون بهذا الجواب، وعاد إلى تأملاته.
وما زالت المركبة تسير حتى وصلت إلى مارلي وأوقفها كولار بإشارة، وقال لليون: إن الطريق إلى الفندق لا تسير فيها مركبات، ولنذهب على الأقدام. ونزل الاثنان ومشيا.
وكان هذا الفندق الذي تكلم عنه كولار واقعا على ضفة النهر بالقرب من طاحونة كبيرة تديرها مدام فيبار التي طردها أندريا أمام سريز كما يذكر القراء، ولم يكن معها غير صبي يبلغ الثالثة عشرة من سنه يدعى روكامبول، وهو غاية في المكر والدهاء.
فلما وصل ليون وكولار وجدا العجوز والصبي يلعبان بالنرد، وحياهما كولار تحية صديق، ثم تبادل إشارة خفية، فقال كولار: إننا نريد المبيت الليلة في هذا الفندق، فهل لديك غرفة موافقة لنا؟ - نعم. وأمرت روكامبول أن ينير لهما الغرفة الصفراء.
وصعد الصبي وصعدا بإثره، فأنار لهما الغرفة، وسألاه أن يحضر لهما زجاجة خمر، ولما عاد بها قال كولار لليون: دعني أسأله عساي أن أعلم منه شيئا.
ثم أشار بعينيه إشارة سرية: أتصدقني في الحديث يا روكامبول؟ - إني لا أكتمك أمرا يا سيدي كولار، وأنا لا أعرف الكذب، قل ما تشاء. - ماذا حدث عندكم في هذا الأسبوع؟ - لم يحدث شيء جديد. - ألم يجئ من باريس إلى هذه الضواحي أحد من الأغنياء؟ - نعم، قد جاء منذ حين شاب قيل إنه إنكليزي واسع الثروة.
فارتعش ليون وقال: هذا السير فيليام الذي طالما حدثتنا باكارا عن مكره.
قال كولار: ألا تعلم أين يسكن هذا الإنكليزي؟ - كلا. - أهو متزوج أم أعزب؟ - لا أعلم شيئا من ذلك. - أتقدر أن تصفه لي؟ - نعم، لقد رأيته مرة، وهو يناهز الثلاثين من العمر، أسمر اللون، خفيف شعر الشاربين.
قال كولار: كفى هذا بعينه.
ثم سمع روكامبول أن العجوز تناديه، فهرول مسرعا إليها.
وقال لليون: أوعيت كلام الصبي، فإنه لا يعلم شيئا من أمر سريز كما يظهر. - إنه يعلم كل شيء، ولكنه لا يريد أن يقول.
ثم سمع كولار وقع أقدام على السلم، فأشار إلى ليون أنه يلزم مكانه وفتح الباب وأطل منه ورأى روكامبول ووراءه نيكولو ورفيقه، وتبادل معهما إشارة، وعاد إلى ليون فدار بينهما الحديث الآتي، وهما يشربان الزجاجة، وقال كولار: أتعلم يا ليون أن هذا الفندق كثير الخطر، وقد يقتل فيه المرء من يريد قتله ولا يعلم بجريمته أحد؟
فنظر إليه ليون باندهاش، فابتسم كولار ابتسام الأبالسة وقال: نعم، إن القتل في هذا المكان لا يكون إلا خنقا، وتلقى الجثة تحت حجر الطحن، ثم تدفعها المياه، ولا يعلم بعد ذلك أكان موت صاحب الجثة قتلا أم اتفاقا.
وارتاع ليون وقال: أيوجد هنا قتلة؟ - إذا اقتضى الحال.
فنظر إليه ليون وهو يحسبه سكران، وقال: كيف إذا اقتضى الحال؟ - إذا كان يوجد من تثقل علي حياته، فإذا قتلته فإني لا أحسب قتله ذنبا كبيرا، ولنفرض أنك أنت الذي حياته تثقل علي.
فصاح ليون مستنكرا: أنا! - لنفرض أنك أنت كذلك، وأنك صديق رجل يثقل علي أيضا نظير الكونت أرمان دي كركاز مثلا، وإني لذلك احتلت عليك، وجئت بك إلى هذا المكان. - إنك لتخيفني يا كولار بهذا المزاح. - لا بأس ولنفرض أيضا ... ثم نقر بيده على الحائط وقال: تعالوا يا أصحابي لقد وقع الطير في الشرك. ولم يكد يتم كلامه حتى دخل نيكولو وفاتح الأقفال، فأدرك ليون سر الأمر بما رأى عليهما من هيئة الغدر، ووثب من مكانه، وتناول سكينا كانت أمامه، وقال لكولار: أتريد أن تقتلني؟ - نعم، لأنك تثقل علي!
فرجع ليون حتى لصق بالحائط ورفع سكينه وقال: تقدموا الآن.
فتناول نيكولو زجاجة الخمر الفارغة وضربه في رأسه، فانكسرت وسالت دماؤه وسقط على الأرض صريعا، وهجم عليه الثلاثة، وتناول كولار منديلا كبيرا، ووضعه في عنق ليون الجريح وهم بخنقه، وإذا بدوي رصاص ونور قد سطع، وسقط كولار مصابا برصاصة في صدره.
وكان مطلق الرصاصة الكونت أرمان نفسه، فإنه لما أخبره كينيون بذهاب ليون إلى بوجيفال مع كولار، داخله ريب في أمر هذا الرجل وسار بمركبته في إثرهما كما يعلم القراء، حتى أدركهما على الطريق، وتمكن من رؤية كولار في المركبة، وتذكر أنه رآه مرة حين جاء لاستدعائه إلى منزل البارون كرماروت صاحب الملايين، فزادت شبهته فيه، وعلم أنه كان ملازما للبارون وقد وقف على سر الملايين، وداخله الريب بأنه هو الذي أطلع أندريا على ذلك السر، فاقتفى أثره حتى رآه صعد مع رفيقه إلى الفندق، ثم رأى صاحبيه القاتلين قد تبعاه، فأخذ كينيون الذي جاء معه وتوارى به وراء نافذة الغرفة التي جرت بها الحادثة، إلى أن جرى الأمر أمامه، ورآهم يهمون بقتل ذاك المسكين، فأطلق تلك الرصاصة من النافذة، كانت السبب في خلاصه، ثم وثب إلى الغرفة والغدارة في يده، وعرفه نيكولو في الحال، فخرج برفيقه مسرعا، وتركا صاحبهما ميتا وهربا، فمرا على صاحبة الفندق وأخبراها بالأمر، فتظاهرت بأنها أغمي عليها من الخوف.
وصعد روكامبول وهو يصيح: إلى القاتل إلى القاتل.
وبادره كينيون وتهدده بالقتل إذا لم يسكت، فسكت مكرها.
وتقدم أرمان إلى كولار ورآه لا يزال حيا وهو ينظر إليه ويقول: لقد ظفرت علي هذه المرة، ولكن رئيسي سينتقم لي. - ويحك! أتموت كذا بغير إقرار ولا ندم؟ - هيهات أن تعرف مني شيئا! - ولكن بالله أخبرني أين حنة وأين سريز؟ - تريد أن تعرف ذلك، إذن فاعلم أن حنة قد أصبحت معشوقة السير فيليام، وغير هذا لا أقول شيئا.
ثم أطبق عينيه على إثر هذه الكذبة الشنعاء، ومات والدم يتدفق من فمه، فتقدم الكونت إلى الصبي روكامبول، وقال له: أتعرف أنت شيئا من أمر هؤلاء اللصوص؟
ونظر إليه الغلام نظرة الشجاع الباسل، وقال: نعم، أعرف كل شيء.
فصاح أرمان صيحة الفرح: إذن أخبرني أين حنة وسريز؟
ورفع كينيون سكينه على صدر الولد وقال: تكلم أو تقتل. - لا أقول شيئا، فاقتلوني إذا شئتم!
وقال الكونت: دعه، قد يتكلم.
ثم التفت إلى الصبي وقال له: أتريد أجرتك؟ - نعم، وإلا اقتلوني لأن الحياة بغير مال لا خير فيها! - كم تريد؟ - عشرة دنانير أولا. - فرمى له الكونت كيس دراهمه وقال: خذ ولكن تكلم. - إن كولار قد كذب عليك. إن الفتاة التي تبحث عنها ليست عشيقة السير فيليام، ولم ترد أن تستسلم له. - وأين هي؟ - على عشر دقائق من هنا محبوسة في بيت، وأنا أدلك عليه. - هلم بنا.
وتقدم الفتى أمامهم، ثم التفت إلى الكونت وقال: أظن أن هذا الخبر يساوي أكثر من عشرة دنانير؟! - إذا وجدت حقه سأعطيك خمسين. - إذا كان ذلك فنعم وكرامة.
ثم خرج أمامهم حتى مر بالعجوز، وهي تتظاهر بالإغماء، فدنا منها بحجة أنه يريد إيقاظها وهمس في أذنها أن اهربي في الحال، فإني سأغشهم ولا أدعهم يعلمون شيئا. ثم مر يقودهم وهو يقول: إن الفتاتين في وسط النهر. وسار بهم على جسر هناك حتى إذا توسط الماء نظر فرأى كينيون إلى جانبه، فدفعه بكلتا يديه فسقط في النهر، والتفت إلى الكونت وقال: السلام عليك يا كونت، فإنك لا تعرف من أمر حنة شيئا. ثم وثب وثبة سابح ماهر، وغاب في النهر تحت الظلام قبل أن يفيق الكونت من انذهاله، فعاد أرمان حزينا إلى الفندق، فوجده خاليا من صاحبته، فأخذ ليون الجريح، وترك جثة كولار غارقة بدمائها في تلك الغرفة. •••
بينما كان أرمان مجدا في إنقاذ ليون وهو يجد بالبحث عن حنة وسريز، كان أندريا يعمل على غزو قلب هرمين، وقد تذرع إلى ذاك بجميع الوسائل بحيث أصبح جميع من يحيط بها من أنصاره، وقد ذهب من منزل مدام كرمارك على ما علمه القراء إلى صديقه البارون مادي، وخف صديقه لاستقباله بغاية التودد، ورأى على وجهه ملامح الحزن، وسأله عن علة هذه الكآبة، فقص عليه حديث غرامه بهرمين، وأن لا رجاء له من هذا الحب، وتأثر البارون تأثرا شديدا وقال: طب نفسا فإنك نبيل في قومك جميل الطلعة كثير المال، فلا تيأس من حب هرمين، وستكون امرأة لك في وقت قريب؛ فإنها أهل لمثلك وأنت كفء لها، وهي نسيبتي وأنت صديقي، وسأخدمك في هذا الشأن كما أخدم نفسي. فشكره أندريا بلهجة الموجع القلب.
وفيما هما على العشاء وردت على البارون رسالة مدام كرمارك، فسر بها وقال: قد وجدت طريقة حسنة لأعرفك بهرمين؛ ذلك أني سأدعو أسرتها غدا إلى الصيد وستكون معنا. ثم قام إلى منضدة وكتب إلى مدام كرمارك رسالة يدعوها بها مع بيرابو وامرأته وابنته إلى الصيد غدا في وادي سيبرس، ثم بعث بها إليها مع رسولها.
وقد رقد أندريا تلك الليلة وقلبه يطفح بالأمل.
وعاد الرسول إلى مدام كرمارك، ولما اطلعت على الرسالة سرت بها غاية السرور وقالت لهرمين: إن البارون دي مادي يدعونا غدا إلى الصيد، فهل تذهبين؟
قال بيرابو: إننا نذهب من غير بد، فلا أجد أجمل من الصيد في هذه الوديان.
وكانت هرمين قد تعودت ركوب الخيل، ولكنها لم تر في حياتها صيد الوحوش البرية، فسرت بذلك ووعدت بالذهاب.
وقالت مدام كرمارك: يظهر من هذه الرسالة أن السير فيليام سيكون من المدعوين. واختلج قلب هرمين ولم تجب بشيء، بل تركتهم وانصرفت إلى غرفتها وهي تفكر، وكانت لا تزال تحب فرناند، ولكن حبها له كان حبا بغير أمل كما يحبون الأموات، وقد علمت أنه غير أهل لها، فكانت تجتهد أن تنساه، وكان قلبها يحدثها بأنه سيكون للسير فيليام شأن في حياتها، وكانت تفكر به وترتعش وهي لم تره غير مرتين، وتأملت تلك الليلة وهي تحلم به أحلاما مزعجة.
ولما طلع الصباح تأهبوا للرحيل، وامتطت فرسا كريما وسارت مع أمها وبيرابو وخادم، وفيما هم على بعد مرحلة من الوادي سمعوا صوت النفير وعواء الكلاب، فقال لهم الخادم: أسرعوا واتبعوني، إنهم يحصرون الوحش وقد دنا أجل صيده.
وكانت الساعة العاشرة من الصباح، والشمس تتوقد في قبة الفلك، فترقص أشعتها الذهبية على الغصون، وتقع من خلال الأوراق على الأرض كالدنانير، ولم يكد الخادم يسير أمامهم حتى دفعوا الجياد، وانطلقت بهم مسرعة تخترق تلك السهول، تمرق مروق السهم في الفضاء حتى بلغوا الوادي، وعلا نباح الكلاب، وأول ما رأته هرمين ذلك الوحش البري الذي يطاردونه وهو يزأر زئير السباع وعيناه متقدتان بشرر الغيظ والرعب، وكان يعدو على غير هدى بين الصخور، ثم رأت بعده الكلاب تهاجمه من كل صوب وتسد عليه سبل الفرار، ورأت بعد ذلك على بعد يسير فارسا راكبا على فرس سود كالليل يقفز به من فوق الصخور، وسيماء الشجاعة والإقدام تلوح على ذاك الفارس الذي ظهر أنه في عنفوان الشباب، ثم تبين لها أن ذاك الفارس هو السير فيليام، فخفق قلبها خفوقا لا يوصف، ثم رأته قد ترجل عن جواده وتقدم من الوحش بقلب جسور ثابت، وضرب الكلاب بالسوط ففرقها عنه، ثم هاجم الوحش مهاجمة مستبسل يرى الموت سهلا في رضى من يهواها.
ونظرت هرمين إلى ذاك الرجل الذي يخاطر بحياته أمامها في سبيل ضربة تستحسنها، ورأته قد التحم مع الوحش في عراك عنيف حتى لم تعد تميز بينهما، ثم نظرت فرأته قد طعن الوحش بخنجره طعنة شديدة غرق فيها إلى اليد، وسقط ذلك الحيوان الهائل صريعا، وأثر ذلك المنظر بهرمين تأثيرا شديدا حتى سقطت على الأرض مغشيا عليها، وتسارعوا إليها ونضحوا وجهها بالماء، فاستفاقت ورجع الجميع إلى القصر، وكلهم ينظر إلى أندريا نظرة العجب والإكرام، وهو يقول في نفسه: لقد استتب لي النصر، وإذا لم أفز بقلبها بأقرب حين ، كنت أبله لا أستحق هذه الملايين. •••
ولنعد الآن إلى حنة التي تركناها في تلك الغرفة، وقد استفاقت، وجعلت تقرأ الرسالة التي تحسبها من الكونت أرمان الذي كانت تحبه حبا شديدا، وجعلها تغفر له إساءته في ذلك التصرف الغريب، ولم يدخلها شيء من الريب، بل إنها كانت تشفق عليه وتخشى أن يصاب بمكروه من ذلك الخطر الذي كتب لها عنه، وفيما هي على ذلك فتح الباب ودخلت فتاة وقالت: إن سيدي الكونت قد أقامني في خدمتك. وهمت حنة أن تسألها أين هي وكيف أتت إلى هذا المكان، ثم ذكرت الرسالة التي أوصيت بها أن تجتنب الأسئلة وسكتت، وقالت الفتاة: لقد قدر سيدي الكونت ما ستلاقيه من الضجر في الاعتزال والوحدة، فأرسل إليك صديقة تودين أن تكون معك! - ومن هي هذه الصديقة؟ وما اسمها؟ - اسمها سريز.
ولم تكد تتم كلامها حتى دخلت سريز، وصاحت الفتاتان صيحة فرح وتعانقتا.
وأخذت كل من الفتاتين تسأل الأخرى عن السبب في وجودهما في هذا المكان، ولكنهما لم تعلما شيئا، واتفقتا على أن تجتنبا البحث في هذا الشأن عملا بما أوصاهما، وانصرفتا عن كل ذلك الحديث إلى بث الهوى وشكوى الغرام.
وعند المساء دخل كولار فنظرت إليه حنة نظرة قلق، فسكنت سريز روعها وقالت إنه خادم الكونت، أما كولار فإنه انحنى أمام حنة وقال لها: إني يا سيدتي آت من قبل الكونت بهذه الرسالة. فتلتها حنة وكل فحواها أنه اضطر إلى البعد عنها بضعة أيام لشاغل مهم، وأنه سيعود إليها بأقرب حين ويقترن بها، وأنه سيرسل لها في كل يوم رسالة مع كولار، ويوصيها أن تثق به، وقد حذرها بالختام من الخروج من المنزل غاية التحذير، وبعد أن فرغت من تلاوتها قال لها كولار: إذا أحببت أن تجيبي على هذه الرسالة، فأنا أوصل رسالتك إلى سيدي الكونت. فاحمر وجه حنة، وقالت له: نعم، سأجيبه فانتظرني.
ثم قامت إلى منضدة، وكتبت له رسالة لم تذكر بها شيئا من غرامها، بل أظهرت له بها شدة استغرابها لسلوكه، وأنها لا تقدر أن تحكم بشيء على هذا السلوك المستغرب قبل أن تراه، ويوضح لها سر الأمر، ثم ختمتها بالدعاء له، ورجائه بسرعة العودة، وبعد ذلك أعطتها لكولار، فأخذها وانصرف.
وفي اليوم الثاني لم يعد كولار ولا وردت رسالة، فقلقت لذلك وانتظرت إلى الغد، ثم مر عليها أربعة أيام، ولم يعد كولار الذي كان قتل كما تقدم؛ فاشتد قلق الفتاة، وثبت لديها أن حبيبها قد أصيب بذاك الخطر الذي كتب لها عنه.
وفيما سريز تسكن روعها وتطيب قلبها، دخلت خادمة غرفتها وأعطتها خمس رسائل، ودهشت حنة وطار قلبها من الفرح، ففتحت جميع تلك الرسائل وقرأتها واحدة فواحدة، وكان بالرسالة الأخيرة إشارة إلى قرب من تحب، ولم تتمالك نفسها من الفرح، وأكبت على عنق سريز وهي تقول والدمع يجول في عينيها: بشرى، فهو حي لم يمت. ثم أفاقت من ذلك السرور فسألت الخادمة عمن أتى بهذه الرسائل. - روكامبول. - من هو روكامبول؟ - صبي نسيب لكولار.
أما روكامبول، فإنه بعد أن وثب إلى النهر أسرع في السباحة إلى أن بلغ الضفة فاختبأ كل ذلك الليل في إحدى الحانات، وقد قدم إلى مدام فيبار فأخبرها بما صنع مع الكونت إيثارا لخدمة السير فيليام الذي سيحسن إليه الجزاء متى وقف على هذا الصنيع، فأخبرته بحديث حنة وسريز مع السير فيليام وشدة احتفاظه بهما، فذهب روكامبول عند الصباح إلى الخمارة فنقل جثة كولار إلى القبور، وأزال آثار الدماء، ثم أقفل الفندق، وكتب على الباب «أقفل الفندق لإفلاس صاحبه» ثم سار إلى المنزل الذي فيه حنة، وأخبر جميع الخدم أن كولار سافر في شأن مهم، وأنه أنابه مكانه لحين رجوعه، فأطاع الجميع كما كانوا يطيعون كولار، وبعد يومين أخبرته الخادمة أن حنة شديدة القلق لتأخر الرسائل عنها، فأدرك روكامبول أن الرسائل التي كانت تأتي بها إلى حنة، فذهب حالا إلى باريس وأخذ تلك الرسائل الخمس التي أعطاها للفتاة كما تقدم.
أما حنة فإنها عندما علمت بقرب قدوم الكونت فرحت فرحا لا يوصف، ونامت تلك الليلة براحة وسكون، وهي تحلم بأمانيها الزاهرة.
ولما طلع الصباح تزينت أحسن زينة زادتها جمالا على جمالها، وفيما هي تنظر إلى المرآة وتتبسم، دخلت عليها الخادمة وقالت: سيدتي قد جاء الكونت. فصاحت حنة صيحة فرح وقد اضطرب فؤادها اضطرابا لا يوصف، وسقطت على المقعد وهي قريبة من الإغماء. •••
أما أرمان فإنه بعد أن رأى ما رآه من مكر الصبي، ولم يجد حيلة لإنقاذ كينيون، عاد إلى الفندق وهو يرجو أن يرى فيه المرأة فتدله على حنة وسريز، فلم يجد غير جثة كولار سابحة بالدماء، ففتش بالضواحي فلم يعثر على أحد، فعاد واليأس ملء فؤاده إلى باريس، وعند وصوله لقيه بستيان وأعطاه تقريرا بعث به أحد رجاله السريين وهذا مآله:
إن الرجل المعروف في باريس باسم السير فيليام لم يسافر أبدا إلى الهافر، بل ذهب إلى بريطانيا إلى صديق له يدعى البارون دي مادي.
فلما انتهى من تلاوته تأمل هنيهة ثم قال لبستيان: لم يعد لدي أقل ريب بأن هذا الرجل هو أندريا بعينه، وانه لم يسافر إلى بريطانيا إلا ليجتمع فيها بهرمين ويغريها على الزواج به، فإذا لم تسرع لإنقاذها فهو يبلغ مآربه؛ لذلك يجب أن تسافر في الحال إلى بريطانيا، فتقف على مجرى الأحوال، وتكتب لي كل يوم عما يكون.
فسافر بستيان، وكان الجميع يعرفونه في تلك الضواحي، فعلم منهم ما كان من أمر الصيد، وكتب إلى الكونت في اليوم الثاني من حضوره ما يأتي:
لم أكد أصل حتى علمت عن أندريا، أو عن السير فيليام إذا أردت، ما تهتم بمعرفته؛ فهو ضيف البارون دي مادي، وقد ذهب أمس إلى الصيد بصحبة البارون وبيرابو وهرمين، فقتل وحشا هائلا بطعنة خنجر، وكان ذلك على مرأى من هرمين فأغمي عليها، وهو الآن في منزل مدام كرمارك جالس على المائدة إلى جانب هرمين. ويتحدثون هنا بأن زواجها سيكون وشيكا.
أما أندريا فإنه قد فاز أتم الفوز، وأنست به هرمين فمالت إليه بعض الميل.
وكان قد علم بوجود بستيان في كرلوفان فلم يعبأ بذلك، ولكنه كان قلق البال لانقطاع أخبار كولار عنه.
وبينما هو عائد ذات ليلة من منزل كرمارك إلى منزل البارون عند منتصف الليل، وهو يسير على جواده في ذلك الممر الضيق الخط، الذي سبق وصفه للقراء، والبدر منير في قبة الفلك يملأ بأشعته ذلك البحر الهائج وتلك الوديان الساكنة، إذ رأى عن بعد رجلا مقبلا إليه يمشي الهوينا، ولما دنا منه انذعر كمن طلعت عليه أفعى؛ إذ تبين له أنه بستيان ورآه مسلحا وهو أعزل، فتمالك روحه وحياه منذهلا كأنه يستغرب وجوده في هذا المكان، ثم دار بينهما الحديث الآتي:
فقال بستيان: إني أعجب لما بدا منك من الانذهال لمرآي، مع أنك تعلم أني أتيت من باريس. - إني أعلم ذلك، ولكني دهشت لوجودك في هذا المكان عند منتصف الليل. - لأني كنت بانتظارك، إن لدي ما أقوله لك. - إني مصغ، فقل ما تشاء. - علمت أنك تسعى للاقتران بهرمين ابنة بيرابو، وأنك لم تأت إلى هنا إلا لهذه الغاية. - ذلك ممكن. - وقد علمت أن هذه الفتاة واسعة الثروة. - كلا، فإن مهرها لا يتجاوز الخمسين ألف فرنك، وصل إليها من أمها، وهو مهر لا يكاد يذكر. - ربما، ولكنها سترث ثروة طائلة؛ لأن البارون كرماروت قد ترك لها بعد مماته اثني عشر مليونا كما تعلم. - إنها ثروة واسعة، ولكني لا أعلم شيئا من ذلك. - نعم، وإنك تعلم أيضا أن الوصي على هذه الأموال هو الكونت أرمان دي كركاز.
فاضطرب أندريا وقال: قلت لي إنك كنت بانتظاري، فهل أنت تنتظرني للمباحثة في مثل هذه الشئون؟ وهل في مثل هذا المكان يتباحث الناس؟ - سوف ترى أن هذا المكان يفضل على سواه، فتفضل بالنزول عن جوادك واجلس معي على هذا الصخر، لأني سأحدثك عن امرأة تعرفها ويهمك شأنها. - من هي هذه المرأة؟ - إنك تعرفها يا سيدي حق المعرفة، وهل نسيت أنك حبستها في مستشفى المجانين؟
اصفر وجه أندريا وقال بمنتهى الاضطراب: أخرجت من المستشفى؟
فقال بستيان بصوت الهازئ: أرأيت يا سيدي كيف خانك الجلد؟ نعم، إنها هربت من المستشفى، وأتت إلى الكونت أرمان.
فصاح أندريا صيحة يأس، وعض على شفته من الغيظ حتى كاد يدميها.
فقال له بستيان: أرأيت الآن أن ما أحدثك به شديد الأهمية جدير بالإصغاء؟ فتفضل إذن بالنزول عن جوادك لنجول في هذا الحديث.
وحاول أندريا الامتناع، فأخذ بستيان غدارة من جيبه وصوبها عليه، وهو يقول: تخير بين أن تنزل أو تموت.
وارتاع أندريا ونزل عن الجواد حذر الموت وقد علم أنه مغلوب.
وأسرع بستيان إلى امتطائه وصوب الغدارة على أندريا، وقال: إنك إذا حاولت الفرار أقتلك بغير إشفاق، فأصغ إلي الآن. إن باكارا قد أفلتت من ذلك السجن الذي وضعتها فيه، وحدثت الكونت أرمان بجميع ما كان من اتفاقكما مع بيرابو، ومن الرسالة التي استكتبتها إياها إلى يوم سرقة المحفظة، واتهام فرناند وهو بريء، والآن وقد ثبت لنا أن الفيكونت أندريا يحاول الاقتران بهرمين، طمعا بما سترثه من الملايين. - إذن لا تزال تعتقد أني هو نفس أندريا؟ - نعم، ولم يعد لك سوى سبيل للنجاة مما أنت فيه؛ ذلك أن تعدل عن الزواج بهرمين، ثم تدلنا على المكان الذي خبأت فيه حنة وسريز، وتغادر هذا البلد في الحال، وفي مقابل ذلك فإني مكلف من قبل أخيك الكونت أرمان، أن أنقدك خمسمائة ألف فرنك وإلا فإني قاتلك لا محالة. وصوب عليه الغدارة مرة ثانية. - إذا قتلتني فإنك لا تعرف أمرا. - إذن قل أين حنة وسريز؟
فقال أندريا بصوت القانط المغلوب: إنهما في بوجيفال في منزل محاط بروضة واسعة قرب الوادي، وهما في حراسة امرأة تدعى مدام فيبار. - احذر من أن تحاول الهرب فإني أقتلك، وإنك ستبقى في هذا الأسر عندي إلى أن أخبر الكونت بما كان، ويكتب لي أنه وجد الفتاتين، وإن كنت كاذبا فيما تقول فإني أقتلك بغير رحمة، والآن سر أمامي إلى كارلوفان.
فمشى أندريا وهو لا ينبس بكلمة، وبعد أن هدأ روعه نظر يمنة ويسرة ورأى ذلك الممر، وعلى يمينه البحر العجاج وعلى يساره ذلك الوادي العميق، فقال في نفسه: إن عثرة واحدة من الحصان تكفي أن تلقي براكبه إلى هذه الأعماق. وكان معه خنجرا، ففطن إليه وجعل ينظر إلى الهوة، وكان الجواد شديد القرب منها، فتظاهر أنه عثر وسقط على الأرض، فاستل خنجره بأسرع من لمح البصر، وطعن الجواد في بطنه طعنة شديدة؛ فصاح ذلك الجواد صيحة منكرة، وهوى براكبه إلى الوادي.
فوقف أندريا يشاهد ذلك السقوط ساخرا وهو يقول: حقا إن هذا المكان يفضل على سواه.
ورجع أندريا إلى منزل البارون، وبات تلك الليلة قرير العين، وفي اليوم التالي خلا بهرمين وبثها جواه بلهجة يأس وحزن عميق، فألفاها لا تزال معلقة بفرناند، ولكنه أنس منها إشفاقا عليه لما مثل أمامها من القنوط، فأيقن من الفوز؛ لعلمه بأن الإشفاق هو أقرب الطرق المؤدية إلى الحب، وكان يقول في هذا المعنى: إن درجات الحب تتألف من ثلاث هي: عدم المبالاة، والشفقة، والحب، وإن بين هذه الدرجات مسافات تعد بالسنين وبالأيام، وقد يحتاج إلى أعوام للوصول من عدم المبالاة إلى الشفقة، وأما من الشفقة إلى الحب فقد يصل المرء بأيام قلائل، وربما وصل بيوم أو بساعة.
وفي اليوم الثاني بينما كانت مدام كرمارك جالسة في قاعة الاجتماع مع بيرابو وتريزا وهرمين، دخل الخادم بجرائد باريس، فأخذت واحدة منها وتصفحتها، ثم وقع نظرها على أصل عنوانه «سرقة في الوزارة»، فاسترعت سمع الحضور وقرأت بصوت مرتفع ما يأتي:
حدث في الأسبوع الغابر أن أحد عمال وزارة الخارجية قد اختلس ثلاثين ألف فرنك.
واضطربت هرمين وتبسم بيرابو تبسم الأسف، واندفعت مدام كرمارك في القراءة فقالت:
وكان ذلك أن رئيس هذا المستخدم اضطر إلى الذهاب، وأعطاه مفاتيح الصندوق، ولما عاد وجده قد اختلس ذلك المال وهرب، وقد قبضت الحكومة عليه بمنزل خليلته وزجته في السجن. أما هذا السارق فإنه يدعى فرناند روشي.
فصاحت هرمين صيحة منكرة وسقطت مغميا عليها بين يد أمها، وعند ذلك فتح الباب ودخل أندريا، فعلم ما حدث لأول نظرة، وأسرع إلى هرمين وأخذ زجاجة من جيبه ونضح وجهها بما فيها إلى أن أفاقت، وأخذ الجريدة وقرأ ذلك الفصل ، ثم ألقاها إلى الأرض وهو يقول: إني أعلم هذا من قبل.
وبعد ذلك خلا بهرمين في حديقة المنزل، وهي تكاد تجن من اليأس، فقال لها: ما يكون جزائي منك إذا أنقذته من السجن وبرأت ساحته أمام الشرع؟ - أني أحبك.
ثم ألقت بنظرها إلى الأرض، وقالت: وإن لم أحبك، فإني أرضى بك بعلا على الأقل. - إذن سأنقذه. - افعل يا سيدي، وهذه يدي لك منذ الآن. - إني مسافر الساعة إلى باريس. - ارحل، وعندما تعود أزف إليك، وأكون امرأتك.
فوعدها ورحل في الحال إلى بوجيفال، وكم بلغ من أسفه عندما وصل وعلم من روكامبول ما مر من الحوادث، وكيف كان قتل كولار؛ لأنه كان معتمدا عليه في إنقاذ فرناند بأن يدعه يعترف أمام القضاة أنه هو الذي ارتكب جرم السرقة، وليس فرناند، ثم خطر له خاطر فقال لروكامبول: أين دفنت جثة كولار؟
قال: إنها لم تدفن، وهي لا تزال في قبو الفندق. - أصغ إلي. إني أجد على وجهك ملامح الذكاء، وقد رأيت أنك تؤثر خدمتي بدليل خداعك للكونت، فوجبت علي مكافأتك، وسأعينك في خدمتي خلفا لكولار. والآن إني أريد أن يظهر للشرع أن قاتل كولار هو نيكولو وليس أرمان. - كيف يكون هذا؟ - هو سهل هين، ويقتضي أن تشهد مع مدام فيبار أمام القاضي، أنه هو القاتل.
فنقده أندريا مبلغا وافرا من المال وقال: أعطها هذه الدنانير، فهي تطلق عقدة لسانها، وعد إلي في الليل لنذهب سوية إلى الفندق.
فذهب روكامبول ودخل أندريا إلى غرفة حنة التي تركناها قد سقطت على المقعد عندما أنبئت بقدوم أرمان، ولما رأت أندريا داخلا إليها وهي تنتظر أرمان، صاحت صيحة شديدة ورجعت إلى الوراء.
وكان يتوقع مثل ذلك، فدعا بسريز وبجميع الخدم، فساعدوه على إقناع الفتاة أنه هو نفس الكونت أرمان دي كركاز، وأن الذي كانت تحبه باسم أرمان لم يكن إلا خادمه.
ثم تركها على أمل العودة إليها بعد أسبوع للاقتران بها، فلبثت حنة حائرة ساهية وخيال أرمان ممثل أمام عينيها.
أما أندريا فإنه كان يعلم أن لكولار خليلة في لوندرة، فكتب إليها بتوقيع كولار هذه الرسالة:
حبيبتي إملي
إني سأعود إليك بعد ثلاثة أيام من غير بد، فقد توفقت بالحصول على مال كثير نقدر أن نعيش به سعيدين، إن لدي الآن ثلاثين ألف فرنك، وإليك بيان السبب في كسب هذا المال، إنه من أغرب المضحكات؛ ذلك أني كنت أطوف يوما بشارع سانت لويس، ولما قربت من وزارة الخارجية دعتني فتاة كانت تسير مع أمها، دفعت إلي رسالة كي أوصلها إلى صاحبها وقد نقدتني أجرتي، وقرأت على الغلاف هذا العنوان «فرناند روشي - في وزراة الخارجية»، ففضضت الرسالة وقرأتها، وعلمت أنها من خطيبته التي تدعى هرمين تخبره فيها أنها فسخت عقد الخطبة، وسرت بالرسالة وأنا أضحك حتى بلغت الوزارة، وسألت عن فرناند فأدخلوني إليه، وكان وحده في غرفة متسعة، وأمامه صندوق نقود مفتوح، رأيت فيه محفظة فيها كثير من القراطيس المالية، فحدثتني نفسي بسرقتها، وبعد أن أعطيته الرسالة وتلاها نظرت إليه وإذا بوجهه قد أقتم بظلام اليأس، وخرج من تلك الغرفة وهو يعدو كالمجانين دون أن ينظر إلي، فأسرعت إلى المحفظة، وأخذت ما فيها من المال، ووضعتها في جيب سترته ثم خرجت أترقبه، ورأيته بعد حين خارجا من الوزارة، وهو يحمل في سترته تلك المحفظة دون أن يعلم أنه سيكون له مع الوزارة شأن.
وقد ظهر للقراء من هذه الرسالة، اعتراف كولار بأنه هو الجاني، وأن فرناند بريء، وقد قلد فيها أندريا خط كولار تقليدا رائعا لا يختلف عن الحقيقة.
وبعد أن أتم كتابتها قدم إليه روكامبول وأخبره بقدوم مدام فيبار، ثم سار وإياه إلى الفندق، وأخرجا جثة كولار من القبو، ووضعاها في الغرفة التي قتل فيها، وأخذ أندريا تلك الرسالة التي كتبها، ووضعها بجيب كولار وقال لروكامبول: اذهب الآن إلى مدام فيبار، وقل لها أن تسرع إلى دائرة الشرطة، وتخبر الرئيس بما كان من قتل كولار، وأن القاتل هو نيكولو، وأن ذينك اللصين كانا يأتيان بكثرة إلى فندقها، وأنها سمعت كولار يقول في تلك الليلة التي قتل فيها لرفيقه أنه سيسافر قريبا إلى لوندرة، وأنها سمعت بعد ذلك دوي الغدارة، فصعدت معك إلى الغرفة ورأيتما كولار ميتا، وأنذركما هؤلاء بالقتل إذا بحتما.
فذهب روكامبول مسرعا.
وعند الصباح ذهبت مدام فيبار إلى رئيس الشرطة، وأخبرته بكل ما ألقاه إليها روكامبول، فقبض على نيكولو، وذهب رئيس الشرطة إلى الفندق، ونظر جثة كولار، وفحص جيوبه، ورأى بها ذلك الكتاب الذي كتبه أندريا، فلما اطلع عليه سر سرورا مزيدا لبراءة فرناند التي لم يعد فيها ريب بعد تلك الرسالة، فأمر بدفن الجثة، وعاد إلى السجن وأطلق سراح فرناند، الذي ذهب توا إلى منزل الكونت أرمان، فوجد به ليون وباكارا وأرمان الذي كان قلق البال على بستيان؛ لأنه لم يكتب له منذ خمسة أيام، فقص عليهم كيف كان إنقاذه، وكيف أن رئيس الشرطة اطلع على كتاب في جيب كولار القتيل يعترف به أنه هو السارق، فثبت لأرمان أن كل ذلك صنع أندريا، وأنه لم ينقذ فرناند إلا إرضاء لهرمين!
وفيما هم يتباحثون في هذا الشأن فتح الباب، ودخل خادم قصر الكونت في كارلوفان وعليه ملامح الكآبة، فقص على الكونت حديث موت بستيان المفجع، وأنهم رأوا جثته على شاطئ البحر، وكيف أنهم رأوا جواده مطعونا بخنجر.
فأزبد وجه أرمان وكاد يتميز من الغضب، وأمر بإعداد المركبة وقال: هلم بنا إلى بريطانيا.
بعد أن وثق أندريا من نجاة فرناند، وأخبر هرمين وذويها بما كان من إنقاذه وتبرئته، فتنهدت هرمين تنهد القانط المستسلم إلى القضاء، وقالت: لقد وعدتك يا سيدي بالقران، ولا أزال على وعدي.
وسر الجميع بذلك، واتفقوا على أن يكون القران بعد يومين.
ولما دنا اليوم المعين احتفل في منزل مدام كرمارك بعقد الزواج بغاية الاحتفاء، وكان الحضور كثيرين، والمنزل يكاد يلتهب بالأنوار، ولم يبق غير التوقيع على شروط الزواج ليفوز أندريا بتلك الملايين. فبينما المسجل يقرأ تلك الشروط دخل خادم وقال لسيدة المنزل: سيدتي إن على الباب الكونت أرمان دي كركاز مع رفاق له.
ثم دخل الكونت فانحنى أمام مدام كرمارك، وقال : عفوا يا سيدتي إذ جسرت ودخلت إليكم بمثل هذه الساعة، فإني لم أقدم على ذلك إلا لسبب خطير؛ إنني يا سيدتي حامل وصية البارون كرماروت الذي توفي منذ شهرين عن ثروة طائلة تبلغ اثني عشر مليونا.
والتفت إلى أندريا وقال: أليس كذلك؟
فاصفر وجه أندريا وقال: لا أعرف هذا البارون، ولا علم لي بشيء من أمر هذه الثروة.
ولم يجبه أرمان وعاد إلى سيدة المنزل، وقال: أتأذن لي سيدتي بإبعاد المسجل ريثما أبين لكم حقيقة تجهلونها؟
فذهب المسجل إلى قاعة المدعوين، ودنا أرمان من والدة هرمين وبيده ذلك النوط الذهبي الذي أعطاه إياه البارون كرماروت، فقال لها: أتعرفين يا سيدتي هذا النوط؟
فأخذته تريزا، ولم تكد تراه حتى اختلج فؤادها، وعادت إليها ذكرى تلك الليلة الهائلة، فتورد خداها بحمرة الخجل، وأرخت نظرها إلى الأرض، وقالت: نعم.
فقال لها أرمان بصوت منخفض: إن هذا الرجل قد تاب عن ذنبه، وقد عاقبه الله عقابا شديدا، وكلفني بعده أن أسأل له منك الصفح.
ثم عاد يخاطب بيرابو بصوت مرتفع، فقال: يجب يا سيدي أن تغير شروط الزواج، فإن السيدة هرمين ليست بابنتك، بل هي ابنة البارون كرماروت وهي صاحبة الملايين.
فصاح بيرابو صيحة منكرة، ونظر إلى أندريا فرآه مضطرب كمن صعق أو كمن به جنة. أما هرمين وأمها، فكانتا ترتجفان كورق الخريف يحركه الهواء.
ودنا أرمان من أندريا وحدق نظره وقال: إني لو تأخرت ساعة لكنت زوج هرمين وفزت بالملايين.
فشمخ أندريا بأنفه وأجاب: لا علم لي بهذه الملايين، وسيان عندي إن كانت عروسي غنية أو فقيرة، فإن لدي من المال ما يكفيني ويكفيها. - وأنا أعلم عكس ذلك؛ فإنك كنت زعيم لصوص في لندرا، وقد هربت منها إلى باريس، فصبغت شعرك وانتحلت اسما غريبا، ثم علمت من كولار بوصية البارون، وأن هرمين هي وريثته، فنصبت المكايد السافلة للاقتران بها، ولكني وقفت على جميع كيدك، ورددته إلى نحرك.
ثم نظر إليه نظرة احتقار، وذهب إلى الباب ونادى: فرناند فرناند ...
فارتعش أندريا وأمسكت هرمين بيد أمها حذرا من أن تقع، ودخل فرناند ونظر إلى بيرابو نظرة منكرة، ودخلت في إثره باكارا وهي بملابس الراهبات فركعت أمام هرمين، فقال فرناند: لسنا الآن أمام المحاكم ولا بحضرة القضاء، بل نحن بحضرة عائلة أنت رئيسها لسوء بختها وهي لا تخونك، وأنا أسألك الآن أن توضح لها كيف كانت سرقة المحفظة، وأن تعترف بأني لم أسرق المال.
ودنت باكارا وقالت: إني يا سيدي كنت امرأة خاطئة، وأنا أجتهد الآن بالتكفير عن ذنوبي التي ارتكبتها عندما كنت أدعى باكارا.
ثم قصت على الجميع سابق حبها لفرناند، وتلك الرسالة التي كتبتها بإملاء السير فيليام وبالاتفاق مع بيرابو.
وقال أرمان لأندريا: أرأيت أيها الشرير كيف انتصر الخير على الشر، أسمعت يا أندريا؟
ثم أشار بيده إلى الباب، وقال له بملء الاحتقار: اخرج من هنا.
وأخذ بيد فرناند وضمها إلى يد هرمين، وهو يقول: إنك أهل لها وهي أهل لك، فليبارككما الله.
فركع فرناند على قدميه، ونظرت إليه باسمة ودموع الفرح في عينيها.
أما أندريا فإنه خرج وعيناه تتوقدان بجمر الغضب، ومر بأرمان فقال: إنك انتصرت أيها الأخ، ولكن ساعتي لم تأت بعد، وسوف ترى كيف أنتقم.
وقالت تريزا لزوجها: أؤمل يا سيدي أن لا تحضر زفاف هرمين، وأرجو أن تذهب في الحال إلى باريس.
فخرج بيرابو كما خرج أندريا، واليأس ملء فؤاده.
ونهضت باكارا وقالت: وأنا لا أستحق أيضا أن أحضر هذا الزفاف، فأستودعكم الله، وأدعو للعروسين بالرغد والهناء.
ثم حاولت الخروج فأوقفها أرمان وقال لها: تعالي واستندي علي، فإنه مهما كانت ذنوب المحبين كثيرة وعظيمة فإن الله يغفرها لهم؛ لأنهم كفروا عنها بما قاسوه من العذاب.
وقال أندريا لبيرابو وقد ركبا مركبة البريد عائدين إلى بوجيفال، تعال معي إن سريز ستكون لك وستكون لي حنة. •••
ويذكر القراء أننا تركنا حنة مشغولة البال من وداع أندريا لها وتظاهره بحبها، وما ألقاه عليها من عبارات ذلك الغرام المصطنع، الذي يشبه تجربة الشيطان للإنسان، وقد كان مضى عليها إلى ذلك اليوم ثمانية أيام من ذهاب أندريا عنها، وهي لا يقر لها قرار من غريب ما سمعت ورأت. إنها أصبحت مخدوعة مأخوذة لا تدري إلى أي الرجلين تميل، إلى الذي أحبته أو إلى الذي قال لها أنا هو، وبالتالي أتحب الجسم أم الاسم؟ وهل تهوى الخادم الذي أنقذها أم الرجل الحقيقي الذي انتحل ذلك الخادم اسمه؟ ثم تغالبها أفكارها، ويقوى عليها جمال من تهواه، فتقول لرفيقتها سريز: لا يمكن أن يكون ذلك الرجل خادما، ولا يمكن أن يخدعني قلبي.
فلما كانت في مساء ذلك اليوم سمعت مركبة دخلت الدار، ودخل عليها الخادم، وقال: قد أقبل مولاي الكونت دي كركاز.
ثم خرج ودخل أندريا مسرعا إليها وركع أمامها وقبل يدها، وقال: لقد سمح لي الدهر أن أراك أخيرا.
فنظرت إليه ورأت على وجهه ذلك الجمال الجهنمي الذي لا يمكن للشيطان أن يتزيا بأحسن منه، فخانتها قواها وصاحت صيحة منكرة وهي تحسب أنها في حلم لا في يقظة، فأخذها بين يديه وهو يخاطبها: يا حنة، ويا حبيبتي، ويا حياتي، ها قد حضرت إليك، ولا فراق يفصل بيننا بعد فأنت ستصبحين عروسي.
فأطبقت الفتاة عينيها وهي ترتجف تحت عوامل وجد ونفور لا يمكن إيضاحهما، ثم تمثلت لها صورة أرمان، فاضطربت في مكانها.
والتفت السير فيليام إلى سريز وكانت واقفة تنظر إليهما، وقال لها: إنك سترين حبيبك قريبا، وغدا تزفين إليه.
فسقطت الفتاة على كرسي من هذه المفاجأة، فنهض إليها أندريا وسقاها بعض نقط من زجاجة كانت معه، فانتعشت واستوت جالسة، فقال لها: اذهبي إلى الغرفة التي كنت فيها في وسط الحديقة وانتظري قليلا، فإن ليون آت إليك.
ثم أوصلها إلى الباب فانطلقت مسرعة مستبشرة بقرب اللقاء، وخلا له الجو، فعاد إلى حنة وعيناه تبرقان بنار الانتقام، وانطلقت سريز مسرعة إلى تلك الغرفة المنفردة، وهي لا ترى في طريقها أحدا من الخدم، كأن القصر أصبح خاليا لا أنيس به سواها، حتى بلغت غرفتها فوجدت فيها مصباحا منيرا، ولكنها لم تسمع حسا ولا حركة فجلست على كرسيها، وإذا برجل قد ظهر بغتة فصاحت وهي لا تعي: ليون! ولكنها لم تلبث أن تأملته حتى صرخت من الرعب، وعرفت أن الداخل عليها بيرابو ذلك الشيخ القبيح المكروه، فأقفل الباب وراءه وتقدم إليها قائلا: ما أسعدني بلقاك أيتها الحبيبة!
فنهضت سريز من مكانها مذعورة وهربت من وجهه إلى آخر الغرفة، فقال لها ضاحكا: ما هذا الذي تفعلينه؟ أتهربين من وجه من يهواك؟
ثم أقبل عليها فهربت من وجهه، ووقعت وراء منضدة تحول بينها وبينه، فقال لها هازئا: كفى مداعبة وجنونا يا حبيبة قلبي، فإنك لا تلبثين أن تتعبي، ويكون لي ما أريد.
فصاحت الفتاة مستغيثة: ليون ... ليون ...
فأجابها الشيخ: لقد ضحكوا عليك؛ فإن ليون لا يأتي، وأنا الذي أتيت مكانه، وها نحن الآن وحدنا والباب مقفل، فلا أمل لك بالنجاة مني.
فعادت الفتاة تصيح مستغيثة وتهرب من وجهه وهو يتبعها حتى تعبت، واستولى على جسمها خدر شديد، فخانتها قواها، وأظلم النور في عينيها، وقد أثر فيها الشراب الذي سقاها إياه أندريا تأثيره المطلوب، فسقطت على الأرض لا قوة بها ولا حراك، فهجم عليها الشيخ كما يهجم النمر على فريسته الساقطة، وإذ بصوت أوقفه مكانه، والتفت فرأى رجلين لدى الباب، ثم رأى أحدهما قد هجم عليه وضربه، وألقاه على الأرض، ووضع ركبته على صدره، وقال: ويل لك أيها الشيخ الأحمق، لقد أتيتك في أواني.
وكان ذلك الفتى ليون رولاند، والذي معه أرمان دي كركاز، وفتحت سريز عينيها وقالت: أنقذني فقد كدت أموت.
ثم أدارت عينيها في الغرفة وأبصرت أرمان وقالت له والشرب يحبس لسانها: حنة ... في البيت ... أسرع أنقذها.
وكان السبب في قدومهما أنهما بينما كانا عائدين إلى باريس كان أندريا قد وصل إلى مجلس الفتاتين، وصرف من فيه من الخدم وخاطب روكامبول: قد انتهت حراستك، فاذهب الآن وأنا ذاهب في رحلة، وسأدعوك متى احتجت إليك.
تم وعده بمكافأة حسنة، ولكنه لم يدفع له شيئا، ورأى الغلام لوائح الكدر على وجهه، فعلم بفراسته أنه لم ينجح في مسعاه، وأن آماله قد خابت أو كادت تخيب، فانطلق عائدا إلى باريس، وفيما هو في وسط الطريق قابله أرمان وليون وهما عائدان إلى باريس كما أسلفنا، فعرفاه في الحال أنه الغلام الذي خدعهما ورمى رفيقهما في النهر، فانقض عليه ليون، واحتمله بين يديه إلى غابة هناك، وجرد خنجره على صدره، وتهدده بالموت إذا صاح، والتفت إلى أرمان وسأله: ماذا تصنع به الآن؟ - نستنطقه عن محل الفتاتين.
ثم وضع الخنجر على صدره وقال له: تكلم أو تقتل.
وكان الغلام قد قدر في فكره أن أندريا قد أحبط مسعاه، وأن لا أمل بنيل مكافأة منه، وأن الكونت أغنى منه وأصدق في وعده، فرأى أن يبوح بالأمر، بعد أن يستوثق من نيل المكافأة اللازمة عليه، فأجابه: ماذا تريد مني؟
فسأله الكونت: أن تخبرنا أين حنة وسريز؟ - لا أدري إلا إذا أعطيتماني ما أريد. - وما تريد؟ - ألف دينار. - هي لك فتكلم.
فأخبرهما بجلية الأمر، وأن الفتاتين على خطر إذا لم يسرعا لإنقاذهما في تلك الساعة، وأقسم له الكونت أن يعطيه ما طلبه، فسار الفتى بين أيديهما إلى بوجيفال حتى أوصلهما إلى غرفة سريز حيث رأياهما داخلين على غرفة ذلك الشيخ الفاسد، وحيث قالت سريز لأرمان: أسرع وأنقذ حنة.
وأخذ الغلام بيد أرمان وقال له: تعال يا مولاي فأنا أدلك على مكانهما.
ثم سار به مسرعا إلى غرفتهما، فسمع صوت أندريا يخاطبها: أحبك يا حنة وستكونين لي. - أما أنا فلا أحبك.
ثم استنار فكرها بغتة وقالت: إنك لست الكونت، فإن الرجل الشريف لا يفعل هذا.
ورأى أندريا أن اللين لا يفيد معها، فانتفض في مكانه وتطاير بريق الغضب من عينيه، وقال: نعم، إني لست الكونت، بل أنا أندريا المغضوب عليه، وأخو الذي تحبينه، وأكرهه كما يكره الملاك الشيطان، ولا بد من أخذك بالرغم عنه.
ثم هجم عليها وطوقها بذراعيه، وقبل شفتيها تلك القبلة الفاسدة التي يرتعش لها جسم كل امرأة شريفة، وقال لها: إنك في قبضة يدي وهيهات لأرمان أن ينقذك مني.
ولم يتم كلامه حتى سقط الباب مكسورا، ودخل أرمان كالصاعقة وقال: بل يخلصها منك بالرغم عنك، فاركع واستغفر الله فقد قربت ساعة مماتك.
فاصفر وجه أندريا وخانته شجاعته لدى الموت، فسقط راكعا على ركبتيه، والتفت أرمان إلى حبيبته وسألها: إن هذا الرجل قد أهانك فهو يستحق الموت، ولكنه أخي من أمي، فماذا تريدين أن أصنع به؟ - اعف عنه بالله.
فرفع أرمان غدارته من جبهة أندريا، وقال له: إني أعفو عنك الآن باسم تلك الوالدة، وباسم مرتا التي كنت السبب في هلاكها، وباسم هذه الفتاة الطاهرة التي دنستها بشفتيك، فاذهب ملعونا من الله والناس، وعسى أن الله يشفق عليك يوما أنت يا من لم يشفق على أحد.
وبعد ثمانية أيام من هذه الحادثة أقيمت صلاة حافلة في كنيسة باريس، اقترن بها الكونت أرمان بحنة، وفرناند بهرمين، وليون بسريز، وكان إلى جانبهم على هيكل الكنيسة امرأة لابسة السواد تصلي وتبكي وهي بأثواب الراهبات، وقد أصبحت تدعى الأخت لويزا، وكانت من قبل تدعى باكارا.
مقدمة
ربيبة الدير
مقدمة
ربيبة الدير
ربيبة الدير
ربيبة الدير
أم روكامبول (الجزء الأول)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
مقدمة
دقت نواقيس الدير قبل أن ينبثق نور الفجر مؤذنة بالصلاة، فتهافت الرهبان إلى المصلى.
وبينما الرهبان يصلون صلاة الفجر، كان داغوبير قد بدأ أعماله وامتزجت أصوات مطرقته بأصوات الرهبان.
إن داغوبير هذا كان حدادا وبيطارا في ذلك الدير، ولكنه لم يكن من الرهبان ولا يتصل بهم بغير الجوار.
وهو فتى في الثانية والعشرين من عمره، متين القوى، وافي الذراعين، عظيم الزندين، مدمج المفاصل، تظهر الشجاعة بين عينيه، ولا يخلو وجهه من الجمال.
كان والد داغوبير وأجداده إلى عهد بعيد يتوارثون هذا الاسم توارثهم مهنة الحدادة والبيطرة في جوار الدير، حتى كان نبلاء أورليان يقولون: لو كان نسب الأسرات بتقادمها لكان هذا الحداد مساويا لنا في الحسب.
ثم إن رهبان الدير كانوا يموتون ويحل سواهم محلهم فيه، كذلك أعضاء عائلة داغوبير فإنهم كانوا يتوارثون تلك المطرقة وتلك الدكان، كما تتوارث الملوك التيجان.
ولهذه العائلة حكاية كان يتناقلها الناس كما يتناقلون أحاديث الخرافات، وهي أن جد هذه العائلة كان يتصل تاريخه بعام 1350.
وكان للكهنة والنبلاء في ذلك العهد مطلق السلطان، فاتفق يوما أن حراس غابات الدير جاءوا بهذا الرجل إلى الرئيس مكتوف اليدين، واتهموه أنه اصطاد أيلا في تلك الغابات، فأمر رئيس الدير بجلده خمسين سوطا وبدفع غرامة كانت فوق طاقته، وسجنه إذ لم يستطع دفعها.
واتفق في ذلك اليوم أنهم انتخبوا رئيس الأديرة العام، والعادة أن الرئيس العام حين ينتخبونه يأتي إلى هذا الدير فيقيم فيه يوما، ثم يذهب مع رئيسه إلى مركز رئاسته العليا.
وكان حصان رئيس الدير قد حفت حوافره، وليس في تلك القرية بيطار غير داغوبير السجين، فأمر الرئيس بإحضاره من سجنه وأمره أن ينعل فرسه، فأبى الرجل لحقده على الرئيس، فقال له: إذا أصررت على الرفض أمرت بشنقك.
فأجابه بملء السكينة: إني مستعد للموت.
فغضب الرئيس ولكنه كان مضطرا إلى مرافقة الرئيس الأكبر، فكظم غيظه وقال له: لماذا لا تريد أن تنعل فرسي؟ - لأنك أسأت إلي ولم تعوضني شيئا. - إني أصفح عنك وأتخلى عن الغرامة التي فرضتها عليك. - إن هذا التعويض لا يكفيني. - إذن سل ما تشاء فإني أمنحك كل ما تريد. - إني أريد أن تمنحني أرضا يسير فيها الماشي ثلاث ساعات في أي مكان أردته من أملاك الدير. - قد منحتك ذلك. - وأريد أن تأذن لي ببناء منزل ودكان للحدادة. - قد أذنت لك. - وأريد أن تكون هذه الأرض والمنزل والدكان حقا لأعقابي يتوارثونها من بعدي. - قد منحتك هذا الحق أيضا.
ثم كتب له صكا بهذه المنح، فأنعل له فرسه وتمكن من مرافقة الرئيس العام.
وتوالت السنون والقرون فكانت تلك الدكان عند باب الدير لا يشتغل فيها غير أعقاب داغوبير، فكانوا مع الرهبان على أتم خير وسلام.
أما داغوبير هذا الذي بقي من تلك العائلة في عهد هذه الرواية فكان يدعى جان داغوبير.
وقد كان في مقتبل الشباب كما قدمناه، ولم يبق من تلك العائلة سواه، ومع ذلك فإنه كان لا يزال عازبا، إما لخوفه من الزواج، وإما لأنه لم يجد بعد من تشاركه في هذا القيد.
ولقد قلنا إن الرهبان كانوا يصلون صلاة الفجر، وداغوبير يقرع السندان بمطرقته فيوقظ الأطيار من سباتها؛ لأن الفجر لم يكن قد انبثق بعد.
وفيما هو ذلك سمع وقع حوافر جواد، فذهل لقدوم هذا الجواد بمثل هذه الساعة، وترك مطرقته وقام إلى الباب ليرى من القادم، فرأى فارسا ينهب الأرض بجواده وهو قادم من جهة سولي، فقال في نفسه، لا شك أن هذا الفارس من النبلاء، وهو ذاهب إلى قرية سانت ألبير لحضور حفلة العيد.
غير أن هذا الفارس لم يتجاوز الدير؛ فإنه حين وصل إلى دكانه أوقف الجواد، ونادى داغوبير فقال له: أهنا الدير الذي يدعونه دير أبناء الله أيها الصديق؟ - نعم يا سيدي. - ألا يزال الأب جيروم رئيسه؟ - نعم.
وكان أمام هذا الفارس على الجواد فتاة صغيرة، فحملها بين يديه وترجل عن الجواد وهو ينظر إلى الفتاة نظرة حنو وإشفاق، ثم دخل بها إلى دكان الحداد دون أن يهتم بجواده، ووضع الفتاة برفق قرب النار؛ فإن البرد كان شديدا قارصا.
وكانت الفتاة زرقاء العينين بارعة الجمال شقراء الشعر، فجعل داغوبير ينظر إليها معجبا بهذا الجمال الملائكي.
أما الفارس فقد كانت علائم الاضطراب بادية بين عينيه، فالتفت إلى داغوبير وقال له: أرجوك أيها الصديق أن تقرع باب الدير؛ إذ يجب أن أقابل الأب جيروم في الحال.
فقال له داغوبير: إني لو قرعت الباب ساعة لما فتحوه. - لماذا؟ - لأن الرهبان منشغلون الآن بصلاة الفجر، ونظام الدير لا يأذن بفتح الباب قبل انتهائها.
فأجابه بلهجة الجازع: ولكن لا بد من مقابلة الرئيس. - يستحيل ذلك يا سيدي قبل انتهاء الصلاة، وهي لا تنتهي إلا حين شروق الشمس فيفتح الباب.
فتنهد الفارس وقال: وأنا يستحيل علي الصبر، وا أسفاه! إذ يجب أن أكون عند شروق الشمس بعيدا عن هذا المكان.
وكان هذا الفارس في الخمسين من عمره، تدل ملابسه على أنه من نبلاء الريف، وهي من المخمل الأصفر مزدانة بشرائط من الفضة ، وكانت الوحول قد اتصلت بها مما يدل على أنه اجتاز مسافة عظيمة.
وكانت الفتاة قد جلست على كرسي قرب النار، فلما دفئت تثاقل جفناها فأطبقتهما ونامت.
فأشفق داغوبير عليها وقال للفارس: أتأذن لي أيها النبيل أن أصعد بها إلى سريري فتنام فيه مرتاحة؟
فلم يجبه الفارس، بل خرج من الدكان وقرع باب الدير بعنف شأن القانط، فلم يجبه أحد، ولم يسمع غير أصوات الرهبان يصلون.
واستمر يقرع الباب ربع ساعة دون فائدة فعاد إلى دكان الحداد، فرأى داغوبير أن دمعة سقطت على خد الفارس.
أما الفتاة فكانت لا تزال نائمة. •••
كان حزن الفارس شديدا، حتى إن داغوبير لم يجسر أن يقول له شيئا بشأن قرعه باب الدير.
أما الفارس فإنه دنا من الفتاة وناداها باسم حنة، ففتحت الفتاة عينيها وقالت: إني متعبة جدا فدعني أنام، ثم أطبقت عينيها وانحنى رأسها الجميل على كتفها.
فنظر الفارس عند ذلك نظرة غريبة إلى داغوبير، وقال له: إني أسفك دمي في سبيل فتح باب الدير الآن.
فتأثر داغوبير تأثرا عظيما ليأس الفارس، وقال له: أتريد يا سيدي أن أكسر باب الدير؟ - كلا، فإننا نضيع الوقت، وقد أغضب بذلك رئيس الدير، وأنا في حاجة إلى رضاه.
ثم نظر إلى داغوبير كأنما قد خطر له خاطر وقال: ماذا تدعى؟ - داغوبير. - أأنت من أهل هذه البلاد؟ - إني ولدت في هذا البيت وسأموت فيه.
فنظر إليه نظرة الفاحص وقال: إن هيئتك تدل على أنك شريف القلب.
فأجابه بلهجة الإعجاب: إنك لو سألت جميع أهل المقاطعة لما حكموا على عائلة داغوبير إلا كما حكمت أنت علي.
فذكر الفارس ذكرى بعيدة وقال له: أليست هي عائلتكم التي نالت امتياز الإقامة بجوار الدير منذ أربعة قرون؟ - نعم. - لقد وثقت بك الآن؛ فإن لعائلتكم شهرة بعيدة بالوفاء. - قل يا سيدي ما تريد، فإني ما خدعت أحدا ولا أبدأ بخداعك.
فنظر الفارس إلى الفتاة وقد جال الدمع في عينيه، ثم قال لداغوبير: إن هذه الفتاة التي تراها ليس لها سواي في هذا الوجود يحميها. - لعلك قريبها؟ - إني أبوها وعمها وأخوها؛ إذ ليس لها سواي، ولكني مضطر إلى الافتراق عنها عاما أو عامين، وربما فارقتها أكثر من ذلك، ويجب علي أن أكون في باريس في هذا المساء، وأن أبرح فرنسا بعد يومين إلى أميركا، فإن شرفي وسعادة هذه الفتاة موقوفان على سفري. - ألعلك يا سيدي تريد إبقاءها عند الأب جيروم؟ - نعم، وسأعهد إليك بقضاء هذه المهمة.
ثم أخرج خاتما من إصبعه ومحفظة من جيبه، أما الخاتم فقد كان منقوشا عليه شعار النبلاء، وأما المحفظة فقد كانت محشوة بالأوراق المالية.
فدفع الخاتم والمحفظة إلى داغوبير وقال له: عندما يفتح باب الدير اذهب بالفتاة إلى الأب جيروم وأعطه الخاتم والمحفظة، فإنه متى رأى الشعار على الخاتم عرف من أنا ومن هي الفتاة. - سأفعل يا سيدي كل ما أمرتني به. - بقي أمر وهو أننا في زمن كثر فيه الاضطراب وأخذ الشعب يجاهر باستيائه حتى بتنا نخشى هبوب الثورة، على أن الشعب إذا ثار فإنما يثور على النبلاء والرهبان، وقد ينقض على هذا الدير ويعجز الأب جيروم عن حماية الفتاة، فهل تتولى حمايتها إذا اتفق ذلك؟ - إني أحميها كما يحمي الأب ابنته في مواقف الشدائد، وأزود عنها مكروه الشعب، فإني من الشعب.
فالتفت الفارس فرأى صليبا معلقا في الجدار، فقال له: أقسم لي بالصليب أنك صادق فيما تقول. - أقسم به وبكل مقدس في السماء أني أسفك دمي قبل أن تسقط شعرة من رأسها. - حسنا، والآن أستودعك الله وأرجو أن يقيك ويقي هذه الفتاة.
ثم دنا من الفتاة وهو يضطرب حنوا، فقبلها وقال لها: الوداع أيتها الحبيبة، وليحرسك الله فإنك من ملائكته. وخرج مسرعا يتبعه داغوبير، فصافحه مودعا وامتطى جواده وسار به ينهب الأرض، فلبث داغوبير واقفا يشيعه حتى توارى عن الأنظار.
ثم دخل إلى دكانه وكان الفجر على وشك البزوغ، فكانت الفتاة لا تزال نائمة، فحملها بين يديه وصعد بها إلى منزله.
وكان داغوبير قد احتفظ بسرير أمه وأبقاه على حاله بعد موتها تذكارا لها، فإنها ماتت منذ خمسة أعوام، وقد وضع فوقه صليبا، فلما صعد بالفتاة إلى تلك الغرفة شعر بعاطفة احترام، وأنكر أن ينومها في سريره، فرفع الصليب عن سرير أمه وأنام الفتاة عليه ثم عاد إلى دكانه.
وكان الرهبان لم يفرغوا من صلاتهم بعد، فهم أن يعود إلى عمله غير أنه خشي أن تستيقظ الفتاة من صوت المطرقة، فامتنع عن العمل وجلس عند باب الدكان ينظر نظرات ساهية إلى الغابة الفسيحة المنبسطة أمام الدير.
وفيما هو يسرح النظر في تلك الغابة رأى نورا أحمر من جهة الغرب يتعاظم ويمتد من فوق أشجار السنديان، فتعجب لهذا النور المتصل بعنان السماء، وقال في نفسه إنه لا يمكن أن يكون نور الشفق، ثم رأى كأن السماء قد باتت كتلة من نار، فأيقن أنها حريقة قد شبت في أحد القصور أو في إحدى المزارع.
ولم تكن الحرائق نادرة في ذلك العهد، فإن المجاعة وقحل المواسم وفداحة الضرائب واستبداد النبلاء هاجت الفلاحين، فتألفت منهم عصابات تطوف في حقول الأغنياء فتحرق المزارع والقصور.
وقد ثبت داغوبير في يقينه من هذه الحريقة؛ لأن أصوات الرهبان انقطعت فجأة وأخذت أجراس الدير تدق دقات خاصة بالاستغاثة، فتجيبها أجراس من الأماكن المجاورة بمثل دقاتها إشارة إلى التأهب.
ثم رأى أن باب الدير قد فتح وخرج منه جميع الرهبان، فساروا إلى جهة النار وفي طليعتهم الأب جيروم وهم يبلغون مائة راهب.
فدبت الحماسة في صدر داغوبير وهم أن يسير في أثرهم، غير أنه تذكر الفتاة واليمين التي أقسمها على الحرص عليها فبقي في مكانه.
أما الفتاة فإنها كانت لا تزال نائمة. •••
كان الأب جيروم رئيس هذا الدير طويل القامة عريض المنكبين، تتقد عيناه ذكاء ويضيء فيها بارق الشباب.
وكانت الأديرة في ذلك العهد كغرف الجيش، فكان لكل فرقة رئيس فعلي ورئيس اسمي، وأما الكولونيل فكان يشتري هذا المنصب بالمال ولا يكون له منه غير شرف الانتماء إليه، وأما الكولونيل الفعلي فهو الذي كان يتولى قيادة الفرقة، ويبلغ هذا المنصب بجده واستحقاقه.
وكذلك الأديرة في ذلك العهد ، فقد كان لكل دير رئيس شرف ممن يميلون إلى مثل هذا الجاه، ورئيس عامل يتدرج فيه من أدنى الدرجات باجتهاده إلى مقام الرئاسة.
أما الأب جيروم فقد كان من الفريق الثاني، وهو من أهل الجد والذكاء والهمم العالية، فدخل إلى الدير راهبا بسيطا ورقي فيه حتى بلغ الرئاسة العليا، وأما الرئيس الاسمي فلم تطأ قدماه ذلك الدير.
وإن لدخول الأب جيروم إلى الدير حكاية سرية، فإنه في ليلة من ليالي ديسمبر الباردة وذلك منذ خمسة عشر عاما، كان فارسان يسيران في غابة هذا الدير وقد فتحت ميازيب السماء وانهالت الأمطار كأفواه القرب حتى وقفا عند باب الدير.
وكان أحدهما مرتديا بملابس النبلاء، وكان الآخر خادما كما يظهر؛ فإنه حين ترجل عن جواده ألقى عنانه إليه، ثم مد إليه يده وقال له: أستودعك الله يا متى، إلى الأبد ... ولا أنسى إخلاصك في خدمتي ما حييت.
فتلقى الخادم هذا الوداع بالبكاء، وأكب على يد سيده يقبلها ويغسلها بدموعه وهو يقول: أتدخل يا سيدي إلى الدير وتنقطع عن العالم هذا الانقطاع، وأنت الغني النبيل الذي أجمع الناس على حبه واحترامه؟ - ذلك لا بد منه، الوداع فاذهب بأمن الله.
ثم أشار إلى خادمه بيده إشارة منعته عن العودة إلى الحديث، فاندفع في البكاء وقاد جواد سيده بعناية وسار ماشيا في الغابة، وهو كلما خطى خطوة يلتفت إلى الوراء فيرى سيده واقفا تحت المطر عند باب هذا الدير الذي من يدخل إليه لا يخرج منه إلا إلى ظلمة الأبد.
أما السيد فإنه لبث واقفا حتى توارى الخادم بالجوادين عن الأنظار، فقرع باب الدير.
وفي اليوم التالي احتفل الرهبان بتدشين هذا الراهب الجديد، وبدأت أعماله الشاقة التي لا بد أن يعملها كل منتظم في سلك الرهبنة حين دخوله.
وبعد عشرة أعوام أصبح هذا الراهب البسيط رئيسا لذلك الدير، ولم يعلم أحد حقيقة اسمه، ولا تلك النكبة الهائلة التي دعته إلى اعتزال العالم في مقتبل الشباب والانصراف إلى خدمة الله.
ولكنه نال شهرة واسعة في تلك المقاطعة بالتقوى والإصلاح وحسن الإدارة، فزالت حين تولى الرئاسة شكاوى الناس من جور الرهبان وانقطعت المظالم وحسنت سيرة الرهبان، فلم تعد تخشى النساء التنزه في الغابات.
وقد تقدم لنا القول إن الحرائق كانت كثيرة في تلك الأيام، فاشتهر الأب جيروم في خلالها بالغيرة والجرأة والإقدام، فإنه كان إذا شبت النار في موضع أسرع إليها في طليعة رهبانه، واقتحم النار غير هياب فلا يعود إلا بعد إخماد النار.
ولذلك لم يذهل داغوبير لشبوب النار، ولكنه استاء لعدم تمكنه من المساعدة في إطفائها.
ولبث الحداد واقفا عند باب دكانه إلى أن أشرقت الشمس وملأت أشعتها الكون، ورأى أن أنوار الحريقة قد خمدت وانقطع صوت أجراس الاستغاثة.
فصعد من دكانه إلى الغرفة النائمة فيها الفتاة، ووقف عند السرير يتأمل ذلك الجمال الذي لم ير أطهر منه جمالا وأبدع مثالا.
وكانت لا تزال نائمة وهي تبتسم كأنها حالمة بما يدعو إلى الابتسام، فشعر داغوبير أن قلبه يضطرب ويخفق حنوا، وود لو طال غياب الرهبان كي يبقى معها في هذا الموقف.
وفيما هو يتأمل محاسنها تنهدت ثم فتحت عينيها، فنظرت إلى ما حولها نظرا تائها ونادت عمها، ثم استقر نظرها على داغوبير فعرفته وقالت له: أنت هو الذي كان يضرب الحديد بالمطرقة؟
فاضطرب وقال لها بلهجة تشف عن الاحترام كأنه يكلم فتاة في العشرين من عمرها: نعم يا سيدتي. - إذن أنا في منزلك؟ - نعم. - وأين هو عمي؟
فتلعثم داغوبير ولم يدر كيف يعلل لها عن سفره، ثم تشجع وقال لها بصوت حنون: إن عمك قد سافر، ولكنه سيعود، وقد أوصاني أن أعتني بك في مدة غيابه.
فلم يظهر عليها شيء من الخوف، ولكنها نظرت إلى وجهه المسود من الدخان وقالت له: إن وجهك أسود لكنه يدل على الصلاح. - إذن أنت غير خائفة مني؟ - كلا. - أتبقين عندي إلى أن يعود عمك؟ - دون شك.
وعند ذلك سمع داغوبير صوت رجل يناديه من الدكان، فقال لها: ابقي هنا إلى أن أقضي حاجة هذا الرجل فأعود إليك.
ثم نزل إلى الدكان فلقي فيها أحد الرهبان المنوط به إرسال البريد، وهو يريد نعلا لجواده فقال له: إني خشيت ألا أراك وأن تكون بين الذين ذهبوا لإطفاء النار. - كنت أود أن أكون، ولكن حال دون ذهابي بعض الموانع، فأين شبت هذه النار؟ - في قصر دي بوربيير فالتهمته. - أهو هذا القصر الجميل الذي بني حديثا ولم يسكنه أحد بعد؟ - هو بعينه، ولكن أصحابه أقاموا فيه منذ أسبوع قادمين إليه من باريس. - إنهم أغنياء وسيعيدون بناءه.
فهز الراهب رأسه وقال: لم يبق من يشيده فقد مات أصحابه. - كيف ماتوا؟ أبالنار؟ - هذا ما يرويه الرواة. - كم يبلغ عددهم؟ - إنهم ثلاثة، رجل عجوز وسيدة وولد صغير، لا أعلم إذا كان ذكرا أو أنثى.
فارتعش داغوبير وقال: ألم يجدوا جثثهم؟ - كلا، فإن الخدم تمكنوا من النجاة، وأما أصحاب المنزل فلم يرهم أحد حين شبوب النار. - ولكن ماذا يدعون؟ - الكونت والكونتس دي مازير. - أهم قادمون من باريس؟ - نعم، لكن لهم أقرباء في هذه المقاطعة.
وكان داغوبير يحدثه ويشتغل بنعل الفرس، فلما أتم عمله ركب الراهب جواده وانطلق.
وحاول داغوبير عند ذلك أن يعود إلى الفتاة لكنه رأى كثيرا من العصابات عائدين من محل الحريق، فاستوقفهم وقال لهم: لعلكم عائدون من المحل الذي شبت فيه النار؟
وكانوا كلهم يعرفونه، فأجابه أحدهم: نعم. - أعرفوا الذي وضع النار؟ - نعم، قد عرفوه. - من هو؟ - هم أصحاب القصر أنفسهم.
فدهش داغوبير دهشا عظيما، ولم يعلم كيف يمكن أن يكون ذلك. •••
وعاد محدثه إلى الحديث فقال: يظهر أن الأب وأم الفتاة كانوا ينوون الانتحار من زمن بعيد.
فارتعش داغوبير وقال: أكان ولدهما بنتا؟ - نعم. - ولكن كيف عرف أن أصحاب القصر هم الذين أضرموا النار فيه؟ - لقد عرف من أمرهم أنهم جاءوا ليلا في مركبة، فدخلوا إلى القصر وعادت المركبة إلى باريس، وكان يصحبهم ثلاثة خدم، فكان الخدم يبيتون في فسحة كبيرة تطل على الحديقة في الدور الأرضي، بحيث إنهم تمكنوا من الفرار حين شبت النار، خلافا لأسيادهم فقد كانوا مسجونين في غرفة بابها من الحديد كما يقال، فحاول مخمدو النار فتح هذا الباب وكسره فلم يستطيعوا، فكانت النار تلتهم القصر، وأصحابه لا يفوهون بحرف. - لكن جميع ذلك لا يثبت أنهم هم الذين قد أضرموا النار. - بل إن هناك برهانا آخر يثبته، وهو أنهم أرسلوا كتابا إلى مدير الناحية كتبوا على غلافه هذه العبارة: «لا يفتح قبل الساعة السادسة»؛ أي بعد الحريقة، فإن النار كانت التهمت كل شيء في تلك الساعة وجعلت القصر وساكنيه رمادا. - وماذا كان يتضمن هذا الكتاب؟ - الاعتراف بأنهم هم الذين أضرموا النار بغية الانتحار.
ثم تحدثوا مع داغوبير هنيهة بشأن هذا السر الغريب الذي لم يتمكن أحد من حله وانصرفوا.
فعاد داغوبير إلى الفتاة فوجد أنها قد عادت إلى النوم، فتركها نائمة وذهب إلى الدير لمقابلة الأب جيروم.
فلما رآه الأب جيروم نظر إليه نظرة جفاء وقال له بلهجة المؤنب: لقد كان من عادتك أن تكون في طليعة المقدمين على إطفاء الحرائق، ولكني لم أرك اليوم معنا. - هو ذاك يا سيدي غير أني لم أستطع الذهاب معكم هذه المرة. - لماذا؟
وكان في الغرفة راهب آخر، فنظر داغوبير إلى الرئيس وقال له: ألتمس منك يا سيدي أن تصغي إلى حديثي، وأن تأذن لي بمحادثتك على انفراد.
فأشار الرئيس إلى الراهب فانصرف، وعند ذلك أخبره داغوبير بذلك الفارس الذي جاءه قبل الفجر، وأعطاه الخاتم ووضع على الطاولة محفظة الأوراق المالية.
فأخذ الرئيس الخاتم وما لبث أن تمعن فيه حتى اصفر وجهه، واضطربت أعضاؤه فقال لداغوبير: أين هو هذا الفارس؟ - لقد سافر وأودع عندي الفتاة. - ألم يقل لك متى يرجع؟ - إنه غير عازم على الرجوع يا سيدي، لكنه قال لي إنك متى رأيت شعار الخاتم تعلم كل شيء.
فزاد اضطراب رئيس الدير وقال: لكن لماذا غادر الفتاة عندك؟ - كي أودعها عندك. - عندي أنا؟ - نعم.
فجعل الأب جيروم يقلب الخاتم وينظر فيه متمعنا إلى أن عرفه، فقال: اللهم عفوك، فقد أنرت قلبي بنور السكينة، فنسيت كل ما في الوجود.
ثم نظر إلى داغوبير، وقال له : أين هي الفتاة؟ - عندي وهي نائمة في سرير أمي الآن. - أرآها أحد عندك؟ - كلا. - إذن عد إلى دكانك واحرص كل الحرص على هذه الفتاة، ثم عد إلي بعد ساعة فإني في حاجة إلى الانفراد والتفكير.
فانحنى داغوبير وانصرف.
أما الأب جيروم فإنه أخذ المحفظة فوضعها في جيبه، وذهب إلى هيكل الكنيسة فأنار شمعة في حين أن شعاع الشمس كان يملأ الكنيسة أنوارا وأقفل الباب كي لا يدخل إليه أحد.
ثم أخذ يفحص الخاتم وكان كبيرا ضخما تبلغ استدارة فصه حجم الدينار، وهو ينفتح فينجلي عن مكان يسع الفولة الكبيرة.
ففتحه فوجد في داخله ورقة بيضاء مطوية طيات كثيرة، فاضطرب قلبه وانصب العرق من جبينه وقال: رباه! إني اعتزلت العالم ولكنه لم يعتزلني، وأردت الانقطاع إلى خدمتك ولكن الذين أحبوني من قبل أبوا إلا أن يكدروا صفو اعتزالي.
ثم ركع وجعل يصلي، حتى إذا أتم صلاته فتح تلك الورقة المطوية ونظر فيها فإذا هي بيضاء لا كتابة فيها.
غير أنه يعلم سر الكتابة المخفية التي كانت شائعة في ذلك العهد، فأدنى الورقة البيضاء من نور الشمعة وصبر قليلا، فظهرت كتابة دقيقة بحروف سوداء، فقرأ فيها ما يأتي:
عزيزي موري
أول ما أبدأ به سؤالك المعذرة عما أثقل به عليك بعد انقطاعك عن العالم وانصرافك إلى خدمة الله، وإنما كتبت لك هذه السطور لما كنت أخشاه من استحالة الاجتماع بك.
لقد مضى على افتراقنا أيها الصديق عشرون عاما، ولكن مهما بلغت من العزلة والانقطاع إلى الله، فإنك لا تنسى ذلك الصديق القديم.
ألم نحب حبا واحدا ونتعذب عذابا واحدا، غير أنك لجأت إلى الدير فأمنت الشقاء وبقيت أنا عرضة للعواصف.
وها أنا آتي اليوم إلى أخي بالسلاح، ذلك الصديق القديم الذي اتشح الآن بثوب الرهبان فأقول له: هلم أيها الأخ لمساعدة أخيك، تعال أيها الصديق لنصرة صديقك.
إنك أردت أن تنسى الماضي فهربت منه ولكنه تبعك، وأنا الآن أسألك أيها الصديق، باسم الصداقة القديمة وباسم تلك التي أحببناها سوية أن ترأف بهذه الفتاة التي لا نصير لها سواي في هذا الوجود، ولكن حين تقرأ هذه السطور أكون قد برحت هذه البلاد فلا يبقى للفتاة سواك.
إني مسافر إلى البلاد الأميركية، ولا أعلم إذا كنت أعود منها، أما هذه الفتاة التي أستودعك إياها فإن جميع الناس يعتقدون أنها ميتة، وهذه خير وسيلة لإنقاذها من الموت.
إنك سترى بعد ساعة على بعد ثلاث مراحل من الدير الذي تقيم فيه قصرا يحترق لا يدركه أهل النجدة إلا وقد التهمته النار.
وغدا يقول الناس الذين شاهدوا الحريق إن صاحب هذا القصر وامرأته وابنته البالغة من العمر تسعة أعوام قد ماتوا بالنار، فدعهم أيها الصديق يقولون هذا القول ولا تكذب موت الفتاة، فإنها تلك الفتاة التي ائتمنتك عليها وهي «ابنتها»، ولا حاجة لي أن أخبرك بشقاء تلك الأسرة، التي طالما أخلصنا لها وسفكنا في سبيلها دمنا، فإنك خبير به مثلي.
والآن فقد أرسلت لك ما بقي معي من المال لتنفقه على تربية الفتاة، فإذا بلغت العشرين من عمرها وعدت من البلاد الأميركية أتولى أنا أمرها وتكون مهمتك قد انقضت.
أما إذا لم أعد، فلا بد لك عند بلوغها هذا السن أن تذهب إلى ذلك المنزل الذي كنا نقيم فيه معا في باريس حين كنا من الحراس.
وهناك تدخل إلى الغرفة التي كنا نبيت فيها، فتبحث وراء المدخنة وتزيل قشر الجدار فتجد رخامة فتزيلها فتنكشف لك عن شبه خزانة تجد فيها صندوقا، وهذا الصندوق يحتوي على ثروة هذه الفتاة الطائلة، وتجد فيه أيضا كتابة تنبئك عن اسمها.
هذه هي المهمة التي يعهد إليك بقضائها صديقك القديم راوول دي مواليبير، الذي كان أخاك بالسلاح حين كنت تدعى أرنو دي نوفوازي.
راوول
فلما أتم الأب جيروم تلاوة هذا الكتاب ضم يديه وقال: أيتها التذكارات الماضية المؤلمة، لقد حسبت أني نجوت منك وأنك لا تجسرين على العودة إلي من أبواب هذا الدير.
ثم تنهد وقال: إذن قد ماتت تلك الحبيبة.
وركع فقال: اللهم إني ألتمس لها الرحمة، وأسألك العفو عن هذا الالتماس.
ولبث حينا طويلا وهو راكع يصلي، حتى إذا فرغ من الصلاة نهض وقد أشرق وجهه بنور البشر كأنما الصلاة قد أزالت اضطرابه، فأخذ ذلك الكتاب وقد عاد إلى لون البياض وزالت الكتابة عنه بعد ذهاب تأثير النور، فطواه وأعاده إلى الخاتم. ثم أطفأ الشمعة وخرج من الهيكل إلى باب الدير وهو يبارك الرهبان الذين كانوا ينحنون له بملء الاحترام حين مروره بهم، فلما خرج من باب الدير ذهب توا إلى دكان الحداد.
أما داغوبير فلم يكن يشتغل في ذلك الحين، بل كان واقفا عند باب دكانه ينتظر بفارغ الصبر أن يدعوه الرئيس.
فلما رأى الرئيس داخلا إليه اصفر وجهه، ولم يجسر أن يسأله عن شيء.
فقال له الأب جيروم: أين هي الفتاة؟
فأجابه بصوت مضطرب: إنها فوق، في الغرفة. - ألا تزال نائمة؟ - نعم.
فصعد الرئيس السلم المؤدي إلى تلك الغرفة، وتبعه داغوبير وقلبه يخفق خفوقا شديدا، فإن قلبه ما حن في حياته على أحد حنوه على هذه الفتاة.
ووصل الرئيس إلى الغرفة فوقف عند بابها كأنه لا يجسر على الدخول، ثم مشى إلى ذلك السرير الذي كانت نائمة عليه وهي لا تزال تبتسم وتحلم خير الأحلام.
فما لبث أن تمعن في وجهها الصبوح حتى تجهم وجهه.
ولعله رأى أن البنت تشبه الأم فاضطرب هذا الاضطراب، ولكن عواطف الكاهن انتصرت على عواطف الرجل، فأشار إلى داغوبير كي يدنو منه، ثم قال له همسا: لعلك تشفق على هذه الفتاة وتريد لها الخير؟ - إني أسفك دمي من أجلها. - إنك رجل طاهر القلب يا داغوبير، ورجائي أن تقضي المهمة التي انتدبتك إليها بشأن هذه الفتاة.
فارتعش داغوبير وقال: دون شك يا سيدي فمر بما تشاء. - إن هذا الفارس الذي جاءك بها وقرع باب الدير دون فائدة يجهل بلا شك نظام الدير، ولكنك تعلم أن النساء لا يدخلن إلى ديرنا ولو كن في عهد الحداثة. - نعم يا سيدي إني أعرف هذا النظام. - ومع ذلك فإن هذا الفارس الذي بعد الآن عنا وقد لا يعود عهد إلي بالعناية بهذه الفتاة، وسافر وله بي ملء الثقة، فهل تجد نفسك خليقا بأن تحبها كما تحب أختك لو كان لك أخت؟ - دون شك يا سيدي، بل أحبها كما أحب نفسي وأحنو عليها حنان الأمهات على الرضيع. - أتتعهد بحمايتها وبالدفاع عنها حين الاقتضاء؟ - لقد قلت لك يا سيدي، إني منذ بضع ساعات لم أكن أعرفها أما الآن فإني أسفك دمي من أجلها. - إذن فاعلم الآن أن منزلك قد بات منزلها، فإني عهدت بها إليك.
ثم أعطاه محفظة الأوراق المالية والخاتم، فأشار إلى الموضع الذي يفتح في الخاتم وقال له: إني أصبحت كهلا عرضة للموت في كل حين، فإذا مت فافتح هذا الخاتم تجد فيه ورقة مطوية، تبدو لك لأول وهلة أنها بيضاء لا كتابة فيها، فإذا عرضتها لحرارة شمعة ظهرت الكتابة جلية وقرأت جميع ما تحتويه، فعلمت أنه لا بد لك من السفر في خدمة الفتاة إذا كنت في ذلك الحين فارقت الحياة.
فأخذ داغوبير المحفظة والخاتم فوضعهما في خزانته؛ حيث يضع ما يقتصده من الأموال وعاد إلى الرئيس.
فقال له الرئيس: ليس هذا كل ما أطلبه إليك، فإن بعد ثلاثة أيام يتفق عيد القديس هيبرت فيحضر كثير من النبلاء لزيارة هذا الدير، ويزورك بعضهم لتجديد نعل أفراسهم، فيجب أن تخبئ الفتاة لبعد رجوعهم ولا تدع أحدا منهم يراها حتى الرهبان.
فأجابه داغوبير بملء البساطة: إن إخفاءها يا سيدي ثلاثة أو أربعة أيام قد يكون من الممكنات، أما إذا كنت تريد أن أبقيها عندي فلا أستطيع إخفاءها عن عيون الناس لزمن طويل. - ولكننا من الآن إلى انصراف الزائرين نجد وسيلة نتجنب بها فضول الناس وتساؤلهم على إبقائها عندك، فهل لك أقرباء؟ - لم يبق لي غير عمة في شاتونيف. - إذن قل إنها ابنتها فتقطع ألسنة الفضول.
وكانا يتحدثان همسا تجنبا لإيقاظ الفتاة، غير أن الفتاة تحركت في مضجعها فقال له داغوبير: إنها بدأت تستيقظ.
فأخذ الأب جيروم يدها بيد تضطرب فلثمها، وخرج مسرعا من تلك الغرفة كأنه قد ارتكب جريمة بتقبيل يد تلك الفتاة، لفرط التشابه بينها وبين أمها.
وعند ذلك فتحت عينيها، فلم تجد أمامها غير داغوبير فجعلت تنظر إليه وهي تبتسم.
ربيبة الدير
1
بعد ستة أعوام مضت من الحوادث التي بسطناها في مقدمة هذه الرواية، كان شاب في مقتبل الشباب يترجل عن جواده في الغابة المجاورة لدير أبناء الله.
وكانت الساعة الثالثة بعد الظهر، والشهر شهر نوفمبر، فكان الطقس جميلا والسماء صافية والهواء باردا عليلا.
وكانت ملابس الشاب تدل على أنه من نبلاء القرى، فهو يلبس ثوبا مخمليا أخضر، ووشاحا عليه شرائط فضية، وحذاء يبلغ إلى ركبته، وعلى جنبه بوق، وعلى كتفه بندقية، مما يدل على أنه يصطاد.
وكان في التاسعة عشرة من عمره، وهو جميل الوجه أشقر الشعر ناعم اليدين أزرق العينين يدل سكونهما على الكآبة.
وكان قد ربط جواده إلى إحدى أشجار الغابة، غير أن هذا الجواد كان يسمع من حين إلى حين نباح الكلاب وصوت أبواق الصيد فيصهل ويحفر الأرض برجليه، كأنه يريد الإفلات من قيده والذهاب إلى مصدر الأصوات.
أما الفتى فإنه اضطجع فوق العشب، فأسند رأسه إلى إحدى يديه وجعل ينظر إلى السماء الصافية بعينيه وبقلبه وهو تائه في مهامه الخيال.
وبقي على ذلك نحو نصف ساعة، إلى أن سمع صوتا نبهه وأيقظه من سبات خياله، فالتفت إلى مصدر الصوت فلم ير أحدا، وقال في نفسه: إن هذا الصوت صوت وثوب بين الأدغال، فلا بد أن يكون صاحبه «بنوات».
ولقد أصاب في ظنه فإنه لم يكد يتم عبارته حتى رأى فتى قد وثب وظهر أمام الجواد.
وكان هذا الفتى يبلغ نحو السادسة عشرة من العمر، وقد وهبته الطبيعة بنية شديدة وجمالا بديعا ورشاقة نادرة وعقلا سليما، ولكنها أبت إلا أن تشوه جماله بحدبة في ظهره فنغصت عليه عيشه رغم تلك المواهب.
وكان الناظر إلى هذا الفتى - لأول وهلة - يستقبح منظره لحدبته، ولكنه إذا رآه عن قرب رأى عينين تدلان على السلامة ووجها يشير إلى الذكاء.
وكان شديد القوى ضعيف الحركات سريع العدو إذا طارد غزالا جرحه الصياد أدركه وسبق الكلاب إليه.
وقد كانت أمه ولدته في هذه الغابة، فنشأ فيها يتيما منذ الولادة وألف العيش بين الغابات والأدغال، فكان لا يطيب له الرقاد إلا في ظلال الأشجار، ولا يقتات إلا من نبات الحقول وما يصطاده من الأطيار، فكان نبلاء تلك الناحية وجميع الذين أذن لهم الرهبان بالصيد في تلك الغابة يعرفونه ويحبونه؛ لسلامة قلبه وشرف مبادئه وشدة ميله إلى الحرية والاستقلال، فقد رغب الكثيرون منهم في استخدامه، ولكنه كان يأبى الخدمة على فقره ويؤثر الحرية على التقييد.
فلما وثب وصار قرب الجواد التفت الفتى المضطجع ورآه، فأجفل الأحدب وقال له: أسألك العفو يا سيدي الكونت، فإني أخشى أن أكون قد أيقظتك.
فابتسم له الفتى وقال: كلا يا بنوات، فإني لم أكن نائما. - إذن كيف ذلك يا سيدي لوسيان؟ ألم تشترك معهم في الصيد؟ - نعم، ولكني ضللت عنهم فاضطجعت هنا إلى أن أستريح. - إذن قم يا سيدي إلى جوادك، وأنا أهديك إلى الرفاق فإني أعرف مكانهم. - كلا يا بنوات، فإني غير راغب بالصيد مع ابنة عمي، وقد تعبت فآثرت الراحة. - ولكنهم سوف يظفرون بالأيل الذي يطاردونه منذ الصباح، ألا تريد أن تكون معهم ساعة الفوز؟ - كلا، فإني سأقيم هنا إلى أن تغيب الشمس فأعود إلى بوربيار. - أتعود إليها من طريق الغابة؟ - كلا، بل من طريق سولي.
فابتسم الأحدب ابتساما معنويا وقال: أي إنك ستمر بالدير؟
فارتعش الكونت لوسيان ونظر إلى الأحدب نظرة قلق.
وكأنما الأحدب أدرك معنى قلقه، فوقف أمامه بملء الاحترام وهو يحمل قبعته بيده وقال له: لقد عرفتني يا سيدي الكونت منذ عهد بعيد، فهل سمعت من تكلم عني كلمة سوء؟ - كلا يا بنوات، فإنك من أهل السلامة والصلاح. - بل من أهل الغيرة والكتمان يا سيدي، فمن ائتمنني على سره لا يخرج سره من صدري ما حييت.
فنظر إليه الكونت نظرة تائهة وقال له: أحقا ما تقول؟ - حبذا لو أذن لي سيدي الكونت أن أتكلم بحرية. - تكلم. - أظن أن سيدي يخطئ بالطواف غالبا حول جدران الدير وشراء نعل فرسه من عند داغوبير؟
فاحمر وجه لوسيان ورأى الأحدب ذلك، فقال له: إنك أذنت لي يا سيدي أن أتكلم بحرية؟ - هو ذاك. - إذن أتأذن لي بمواصلة الحديث؟ - تكلم. - ثق يا سيدي أن داغوبير طيب القلب نبيل الشعور، ولكنه شديد البنية متين الساعد فإذا كدره أحد ...
فقاطعه لوسيان وقال له بعنف: ومن يحاول تكديره؟ - بمناسبة المدموازيل حنة، فإن الناس يقولون إنها ابنة عمته وآخرون يقولون إنها ابنة عمه، ولكنه يحرص عليها حرص اللبؤة على أشبالها، إن هذه الفتاة يا سيدي التي يسميها بعضهم ربيبة الدير ويدعوها بعضهم مدموازيل حنة ما خلقت لفلاح مثلي ولا لنبيل مثلك، أما داغوبير فإنه يكلمها بملء الاحترام وهو حاسر الرأس، ونحن نعلم يقينا أنه لا يخطر لأحد من النبلاء عندنا أن يجعلها امرأته، والذي أراه أنه خير لك ألا تكثر التردد على دكان داغوبير.
فلبث لوسيان مطرقا مفكرا، ثم هم أن يجيبه فحال دون ذلك ما سمعاه من نفخ أبواق الصيد ونباح الكلاب، ورأيا ذلك الأيل الذي يطارده الصيادون قد مر بهما مرور السهم، والكلاب في أثره، فأسرع لوسيان إلى جواده فامتطاه، وجرى بنوات في أثر الكلاب منقادا بسليقته الفطرية.
وعند ذلك أقبل فارسان وفارسة، وكان لوسيان ممتطيا صهوة جواده بحيث خيل لأولئك الفرسان أنه لم يبرح الصيد، بل إنه كان في طليعة المطاردين.
وكانت الفارسة أول من بدأ الحديث، فقالت: هو ذا لوسيان.
وقال أحد الفرسان: أين كنت أيها الكونت؟
وقال له الآخر: أرأيت الأيل؟ - إنه مر بي منذ هنيهة.
فقالت الفارسة: إنه سيسقط إذن في مستنقعات الدير.
فأجابها لوسيان: إني أرى رأيك يا ابنة عمي الحسناء.
أما هذه الفتاة فقد كانت بارعة الجمال، وهي سوداء العينين سوداء الشعر، لها دلال الإناث ونشاط الغلمان.
فقالت له بلهجة تكاد تكون لهجة سيادة: ولكن من أين أنت قادم؟ وكيف افترقت عنا؟ - أسألك العفو يا ابنة عمي، فقد تهت عنكم ولم أسمع نفخ الأبواق إلا الآن، ولكن خطر لي أن الأيل سيمر بهذه الجهة فأتيت إليها.
فهزت الفتاة كتفيها ولكزت بطن جوادها، فانطلق بها في تلك الغابة دون أن تتدانى إلى مجاوبة هذا الفتى الذي كان يدعوها ابنة عمه.
2
وكان الجواد ينطلق بها وهي ثابتة فوق ظهره ثبوت الرواسي، حتى كانت ديانا نفسها إلهة الصيد.
أما لوسيان والفارسان فإنهم لما رأوها دفعت جوادها لم يجدوا بدا من الاقتداء بها والسير في أثرها.
وكان الأيل المنكود قد انتهكت قواه وأوشكت الكلاب أن تظفر به، فكانت تنهشه كلما أدركته نهش الحيوان المفترس، وكان يدافع عن نفسه بقرنيه العظيمين دفاع المستبسل المستميت إلى أن يجد مخرجا من أنيابها فيفر وتعود إلى مطاردته.
وكانت مدموازيل أورور؛ أي ابنة عم لوسيان تنهب الأرض بجوادها في أثر الأيل وهي تدنو منه من حين إلى حين.
وكان الأيل قد دنا من المستنقعات، فلما وصل إليها والصيادون في أثره علم بالسليقة أنها ستكون سبب هلاكه، فعاد عنها ودخل بين الكلاب والصيادين بسرعة البرق، وانطلق بين الأدغال.
وقد راعهم هذا الانقلاب الفجائي، فعادوا إلى مطاردته بين الأدغال والفتاة أشدهم تحمسا، ولكنه كان أسرع عدوا من الجياد.
وكان أدلاء الصيد والكلاب يتقدمون الصيادين، فلم تمض هنيهة حتى سمعوا نفخ البوق يشير إلى أنهم رأوه، فانطلقت الجياد إلى جهة مصدر الصوت.
وما مر بضع دقائق حتى سكت البوق فجأة، وانقطع نباح الكلاب، وسمعوا أصوات بشر يتشاتمون.
فلما وصلت مدموازيل أورور ورفاقها إلى تلك الجهة الصادرة منها الأصوات رأت ما لم يكن يخطر لها في بال، وهو أن الأيل كان جريحا وقد سقط على الأرض فاحتاطت به الكلاب كالنطاق، وهناك نحو عشرة من الفلاحين يتهددون ويتوعدون بمناجلهم وفئوسهم، ودليل الصيد واقف لا يجسر على الدنو منهم.
ذلك أنه حدث أمر يعد في هذه الأيام بسيطا مألوفا لا مأخذ فيه، ولكنه في ذلك العهد - عهد الاستبداد وسلطة النبلاء - كان يعد من الجرائم الفظيعة النادرة.
وهو أن الأيل انطلق في الغابة بين الأدغال ودخل إلى حقل مزروع، فأسرع أحد الفلاحين ورمى ساق الأيل بمنجله إشفاقا على زرعه، فأصابه بجرح خطير وسقط على الأرض.
فلما رأى الفلاحون ما كان من رفيقهم أكبروا عمله؛ إذ كان جرأة نادرة في ذلك العهد، وأيقنوا أن الصيادين النبلاء سينتقمون منه شر انتقام، فبادروا لنجدته.
أما دليل الصيد فإنه حين رأى ما جرى، رفع سوطه وهم أن يضرب ذلك الفلاح.
ولكنه رأى أن إخوانه قد تكاثروا من حوله فخاف شر العاقبة، واستعاض عن السوط باللسان فشتمهم أقبح شتم إلى أن قال لهم: سوف ترون أيها الأشقياء ما يكون من عقابكم.
فأجابه الفلاح الذي رمى الأيل: ليعاقبنا أسيادك بما يشاءون، واحذر أن تدنو خطوة منا فلا يكون نصيبك غير الموت.
وكان لدى الدليل سلاح ناري ولكنه خشي أن يطلقه، فعاد إلى الشتائم وعادوا إلى ردها.
وعند ذلك وصلت مدموازيل أورور ورفاقها وقد اتقدت عيناها بنار الغضب، وجعلت تضطرب اضطراب ذلك الأيل الجريح.
أما الفلاحون فإنهم حين رأوها قدمت يصحبها رفاقها النبلاء وعدد عظيم من الحاشية، رعبوا وأركنوا إلى الفرار بحيث لم يبق منهم غير ذلك الفلاح الذي رمى الأيل.
وكان شابا يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، وهو طويل القامة هزيل لكن عينيه كانتا تتقدان ببارق الشهامة.
فرفعت مدموازيل أورور سوطها فقالت له: ويحك أيها التعس الشقي! كيف جسرت على قتل الأيل الذي أصطاده؟
فضم الفلاح يديه إلى صدره وقابل نظراتها النارية دون اكتراث وقال: اضربي إذا أردت فإن الحق للقوة وأنتم الأقوياء الآن، ولكننا سننال قريبا هذه القوة وهذا الحق.
فأنزلت الفتاة سوطها دون أن تضربه، فقال لها أحد الفرسان الذين يصحبونها: أتريدين أن أترجل عن جوادي وأؤدب هذا الوقح؟ - كلا، فإني أحب قبل ذلك أن أعرف السبب الذي دعاه إلى هذه الجرأة.
فأجابها الفلاح قائلا: إنني لم أجترئ عليك يا سيدتي، وشهد الله أني حين ضربت الأيل لم أكن أعرف أصحاب الكلاب التي كانت تطارده، ولكني أسفت على هذا الزرع من دوس الأرجل؛ فإني أعيش منه مع أولادي.
فقال له دليل الصيد وقد تشجع لقدوم الجماعة: لقد كذبت أيها الشقي.
ثم هجم عليه يريد ضربه، فأوقفته الفتاة وقالت للغلام: أتعلم من أنا؟ - نعم، أعلم أنك مدموازيل أورور دي مازير. - ألديك شك بعد هذا العرفان أني قادرة على سجنك؟ - إذا خطر لك هذا الخاطر فليس من يمنعك عن سجني، ولكن عملك يزيد نقطة على كأس الشقاء التي أوشكت أن تطفح.
فغضبت الفتاة والتفتت إلى رفاقها فقالت: أسمعتم ما يقول هذا الفلاح الفيلسوف، إنه يجسر على المجادلة وإبداء الأفكار.
فقال لها أحد الفرسان: ألا ترين أنه يستحق العقاب الأليم؟
وقال آخر: إني يا سيدتي لو كنا في غير هذا الزمن لرجوتك أن تصفحي عن هذا الرجل، ولكننا أصبحنا في زمن تجاسر فيه الشعب على أن يرفع رأسه المنخفض ولا يرهبنا في كل حين؛ ولذلك أرى أنه يجب أن يؤدب هذا الغلام خير تأديب يكون به عبرة لسواه من المتمردين.
فنظرت إليه الفتاة قائلة: أهو رأيك؟ - نعم يا سيدتي.
وعند ذلك التفت إلى دليل الصيد فقال له: جرد هذا الفلاح من ملابسه واجلده في البدء عشرين جلدة، ثم اربطه بذيل فرسك واركض به إلى الدير وادفعه إلى السجان بأمرنا.
أما الفلاح فإنه لم يجد متسعا من الوقت للدفاع أو للفرار أو التماس العفو؛ لأن السماء أرسلت إليه مدافعا لم يكن يخطر له في بال.
وكان هذا المدافع لوسيان ابن عم أورور، الذي كان يناديه الأحدب «سيدي الكونت».
فإنه قبل أن يصل الدليل إلى ذلك الفلاح، سار إلى وسط الحلقة وقال للدليل بلهجة السيادة: إنك أيها الرجل في خدمتي وقد وجبت عليك طاعتي، فاحذر أن تمس هذا الرجل بسوء.
فصاحت الفتاة والفارسان صيحة دهش.
أما لوسيان فإنه اقترب من ابنة عمه دون أن يتدانى إلى النظر إلى الرجلين وقال لها: أسألك العفو يا ابنة عمي، فقد دعتني ثلاثة أمور إلى فعل ما فعلت؛ أحدها أنهم أمروا دليل الصيد وهو في خدمتي أن يعمل عملا وحشيا لا يحتمل ارتكابه في هذا العصر الذي نحن فيه، والثاني أن هذه الكلاب كلابي وبالتالي فإن الأيل التي تطارده كلابي ملكي ، فإذا أهين أحد بسببه فأنا الذي أهان دون سواي.
فاتقدت عينا الفتاة ببارق من الغضب، ولكنها ابتسمت ابتسام المتهكم وقالت له: قد سمعت السببين يا ابن عمي العزيز، فهل لك أن تقول الثالث؟
فأجابها بملء السكينة: إني متى ذكرت لك السبب الثالث أصبحت من رأيي، وهذا السبب هو أن هذا الفلاح الذي تريدين عقابه إنما قتل الأيل في حقله؛ أي في بيته، ومن يحق له أن يعارض رجلا في منزله؟!
فقال هكتور دي بوليو وهو أحد الفارسين: يظهر يا سيدتي الكونتس أنك لم تعرفي ابن عمك بعد. - لقد عرفته الآن حق العرفان. - إنه فيلسوف من أصدقاء الشعب، ومن خير تلامذة جان جاك روسو وفولتير.
فالتفت لوسيان إلى هذا الرجل وقال له: إني لا أسمح أن أستاء من ممازحتك يا سيدي البارون؛ لأنك ضيفي وضيف أمي، ولكني أقول لك إن هذا الفلاح إذا كان قد أخطأ، فإن معاقبته على ما اقترحه صديقنا الشفالييه تعد جريمة، ومن منا يرضى لنفسه أن يكون من أهل الجرائم؟
أما الفلاح فإنه حين تدخل لوسيان في أمره ذهبت جرأته وسالت الدموع من عينيه، فنظر إلى لوسيان نظرة ملؤها الشكر والامتنان وقال له: أسألك المعذرة يا سيدي، على أني لو علمت أن الصيد صيدك لما أقدمت على قتل الأيل ولو أفسد كل زرعي.
فقال له لوسيان: لا بأس عليك فاذهب في شأنك، وإذا أتلفت كلابي بعد الآن شيئا من زرعك فأخبرني أعوض عليك ما أتلفته.
أما مدموازيل أورور فإنها التفتت إلى الفارسين بينما كان الفلاح يسير إلى منزله، وقد اصفر وجهها من الغضب فقالت لهما: ألا تريان أن ابن عمي قد أهانكما إهانة عظيمة؟
فقال لها الشفالييه ببرود: إني أرى رأيك يا سيدتي، وسأبرح قصره هذه الليلة.
وقال المسيو بوليو: وأنا أفعل فعلك.
فأجابهما لوسيان: افعلا ما يحلو لكما.
ثم قال لدليل الصيد: أما أنت فعد بالكلاب إلى القصر.
وعند ذلك حيا الجماعة وأطلق لجواده العنان.
فشيعته ابنة عمه بنظرات ساهية، وقالت بلهجة شفت عن الكره والاحتقار : من كان يظن بأنهم يعدونه زوجا لي، ولكن هذا لن يكون.
فقال لها الشفالييه: ولكن لوسيان لم يخطر له هذا الخاطر.
ثم ابتسم ابتسام المتهكم وقال: إن قلبه لا يتسع لحبين.
فارتعشت الفتاة واصفر وجهها لكنها لم تجب.
أما الشفالييه فإنه همس في أذن رفيقه قائلا: إن لوسيان قد عاملنا معاملة الرفيع للوضيع، ولكني أقسم لك إني سأنتقم منه شر انتقام.
وعند ذلك سار الفارسان والفتاة بطريق سولي.
3
لنعرف الآن قراء هذه الرواية بلوسيان وابنة عمه.
كان لوسيان يدعى الكونت دي مازير، وكانت ابنة عمه تدعى مدموازيل أورور، وهي من أعرق الفرنسيين حسبا، وقد لقبت بكونتس في بافاريا مكافأة لها عن خدمات أبيها الجليلة للأسرة الملكية، وبرحت ألمانيا مع أبيها منذ بضعة أعوام عائدة إلى فرنسا فأقامت فيها.
أما لوسيان فقد جاء مع أمه للإقامة في قصر دي بوربيير، وهو ذلك القصر الذي نشرنا خبر احتراقه في مقدمة هذه القصة.
ويذكر القراء أن ذلك القصر قد التهمته النار بجملته منذ ستة أعوام، وقيل يومئذ إن أصحابه الكونت دي مازير وامرأته قد التهمتهم النار فيما التهمت.
وكان محيط بهذا القصر أراض شاسعة، ولم يكن لصاحبه غير وارثين، وهما لوسيان ابن أخيه وأخوه والد أورور.
فجاء لوسيان وأمه، وعاد والد أورور بابنته من ألمانيا فاقتسما الإرث، فكان حظ لوسيان القصر وما يحيط به وحظ والد أورور الأراضي.
وكانوا كلهم غرباء عن هذه المقاطعة التي أقاموا فيها، فإن الكونت الذي التهمته النار وخلف لأخيه وابن أخيه هذا الإرث كان قد اشترى تلك الأراضي قبل احتراق القصر بعام.
وكان إيراد هذا الإرث الذي خلفه يبلغ نحو المليون، غير أن الإشاعات تكاثرت بعد موته بالنار أن ثروته لم تكن قاصرة على الأراضي، بل إنه ترك مبلغا طائلا مؤلفا من أوراق مالية وضعت في صندوق صغير.
فبحث الورثاء بحثا مستفيضا إثر هذه الإشاعة عن الصندوق دون أن يجدوه.
ثم تعاقبت الأيام على هذه الإشاعة فمحتها من الأذهان.
أما الورثاء فقد كانوا يعيشون عيشة بذخ ورخاء، لا سيما مدموازيل أورور فقد كانت بارعة الجمال مولعة في الصيد، وقد طالما تمنى الفتيان الأغنياء خطبتها غير أنهم كانوا يشيعون أن ابن عمها لوسيان سيخطبها فيتراجع الخطاب آسفين.
على أنه مع هذا النسب وهذا التقارب كان يوجد في العائلتين شبه انفصال، فإن لوسيان كان يزور منزل عمه وأورور كانت تزور منزل ابن عمها خلافا لوالدته ووالدها، فإنهما كانا لا يتزاوران على الإطلاق ويبالغ كل في اجتناب الآخر، فإذا التقيا اتفاقا حيا كل منهما الآخر ببرود كأنهما غريبان.
وما خلا ذلك فقد كانت العائلتان عائشتين بملء الرخاء والهناء، فإن لوسيان كان يدعو كثيرا من أصحابه إلى حفلات الصيد، فكان كثير البشاشة مطلق الوجه، تبدو آثار النعيم بين عينيه.
وكان الفلاحون يحبونه بقدر ما كانوا يكرهون ابنة عمه، فإنه كان كثير البشاشة وكانت هي كثيرة التيه والخيلاء.
غير أنه حدث له انقلاب فجائي منذ بضعة أشهر، فامحت آثار تلك البشاشة وتمكنت منه السويداء وذهبت رغبته بالصيد.
فكان يظهر بمظاهر الفتور مع ابنة عمه، بعد أن كان لا يطيب له العيش إلا بقربها.
أما أورور فكانت كثيرة الإعجاب بنفسها، شديدة التيه بجمالها، فكانت تعلل انقلاب ابن عمها من الطيش إلى الرزانة، ومن الزهو إلى السويداء لأنه قد بلغ مبالغ الرجال، وأثر حبها على قلبه هذا التأثير فناء في مهامه التفكير.
وكانت تعبث به منذ الحداثة، وقد تعودت السيادة عليه، ورضيت أن تكون امرأة له منذ أراد أهلهما هذا الزواج.
لكنها لم تكن تحترمه، بل تعده ضعيفا بسيطا، وتمني نفسها باستعباده بعد القران.
أما وقد بسطنا أخلاقها واعتمادها على نفسها وتعودها السلطة على ابن عمها، فلا بد أن يدرك القارئ عجبها حين لقيت من ابن عمها ذلك الجفاء وتلك المقاومة في حادثة الصيد، فإنها كانت تحسبه عبدا لها، وقد رأت فجأة أن هذا العبد قد تمرد وخلع عن عاتقه نير العبودية.
فغضبت غضبا شديدا، خلافا لرفيقيها الفارسين فإنهما تلقيا هذه الحادثة بملء الارتياح.
وكان أذكى الفارسين ميشيل دي فالون، فلما أطلقت أورور العنان لجوادها تبعها الفارسان فلم يستطيعا اللحاق بها، فالتفت الشفالييه إلى رفيقه وقال له: أرى أيها الصديق أن مدموازيل أورور لا بد لها أن تقف، وإن من الحذق ألا يحذو جوادانا حذو جوادها في الركض فقد أعياهما التعب. - لقد أصبت، فإن جوادي سيسقط صريعا. - إذن لنغتنم فرصة اختلائنا فنسير الهويناء ونتحدث. - بماذا تريد أن نتحدث، وأية فرصة نغتنم؟ - نتكلم بجلاء أيها الصديق. - هذا جل ما أبتغيه. - إنك تعشق الكونتس؟ - بل إني مفتون بها. - وأنا كذلك أيها الصديق، فإن غرامي لا يقل عن غرامك.
فنظر البارون إلى الشفالييه نظرة منكرة، غير أن الشفالييه لم يعبأ به وقال له: أرجو ألا تدفعك الغيرة إلى الحقد علي، فإن اتفاقنا ميسور إذا شئت. - أصغ إلي، فإنه لو خطر لنا منذ ساعة أن نبسط حبنا للكونتس لما كان حظنا غير الجفاء والاعتراض. - أتظن ذلك؟ - بل أؤكده. - والآن؟ - أصغ إلي كل الإصغاء، فإني وإياك فقيران بالقياس إلى الكونتس، ولو جمعت ثروتي وثروتك لما بلغت ربع ثروتها. - لا أنكر ما تقول، ولكن ماذا تريد بهذا القول؟ - أريد أننا نستطيع الآن التفريق بين لوسيان وابنة عمه إلى الأبد ونغتنم فرصة هذا التفريق. - إن هذا قد يكون، ولكن الكونتس لا يمكن أن تكون زوجة الاثنين. - هو ذاك، فإني توقعت ما تقول، ولكن لنتفق الآن على إلقاء النفرة بين الخطيبين. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك يعمل كل لنفسه. - لقد أصبت ولكن ... - ولكن ماذا؟ - كيف نستطيع الوصول إلى هذه الغاية؟ - إن لوسيان يعشق ... - إنه يعشق ابنة عمه. - كلا.
فاضطرب البارون فوق سرج فرسه وقال: من يعشق إذا كان لا يعشق ابنة عمه؟ - ألم تذهب مرة إلى نواحي الدير؟ - بل ذهبت ألف مرة. - إذن لقد عرفت داغوبير. - بلا ريب، فإني أشتري من محله نعال جيادي. - ألم يتفق أنك رأيت مرة في محله فتاة جميلة، يقولون إنها قريبة داغوبير؟ - نعم، وهي بارعة الجمال. - إذن فاعلم أن لوسيان مفتون بها.
فضحك البارون وقال: لعلك تمزح أيها الصديق؟ - كلا، بل أقول الحق. - وهل تجهل ابنة عمه هذا الغرام ؟ - كل الجهل، فإذا شئت أخبرناها بأمره منذ الليلة، فإني أعرف أخلاق الكونتس فهي شديدة الكبرياء، فإذا علمت أن ابن عمها يهوى فتاة قروية ويؤثرها عليها، نفرت منه كل النفور وكان بينهما فراق الأبد. - ولكن مهما بلغت النفرة بينهما فإن أهلهما يوفقون بينهما؛ لأنهم راغبون في هذا الزواج. - إنك مخطئ في هذا الظن؛ لأنك لا تعلم من أخلاق الكونتس ما أعلم، فإنها إذا رغبت أمرا لا يثنيها عنه شيء.
فتنهد البارون وقال: حقق الله هذا الرجاء.
وعند بلوغهما من الحديث إلى هذا الحد، وصلا بجواديهما إلى مكان كثير الأدغال فرأيا الكونتس واقفة في انتظارهما.
فلما رأتهما ابتسمت وقالت لهما بلهجة المتهكم: لا بد لكما أن تحكما أن فرسي أسرع من فرسيكما.
فقال لها الشفالييه: نسألك العفو أيتها الكونتس، فقد بذلنا جهد الطاقة للحاقك فلم نستطع.
فأجابت: وأنا قد انتظرتكما، ولكن أتعلمان في أي طريق ذهبت الكلاب؟ - إنها سارت في أقرب طريق يؤدي إلى بوربيير كما أمر صاحبها. - ولوسيان؟
فابتسم الشفالييه ابتسامة دلت على ما فطر عليه من المكر وقال: إن لوسيان يسير في غير هذا الطريق. - ماذا تعني بذلك يا شفالييه؟
فابتسم البارون وقال: إن صديقي الشفالييه يحب النميمة يا سيدتي الكونتس فلا تصدقيه.
فقطبت حاجبيها وقالت: إني لا أفهم الألغاز، فأرجوك يا شفالييه أن تخبرني بجلاء عن الطريق التي سار فيها لوسيان؟ - إنه سار يا سيدتي في طريق الدير.
فابتسمت الفتاة ابتسامة الاحتقار وقالت: إنه ليس فيلسوفا فقط، بل إنه من أهل التزهد والعبادة. - إنه لم يذهب بطريق الدير من أجل هذا. - إذن ما هي غايته؟ - إنه يوجد عند باب الدير دكان حداد بيطري. - لعل نعل فرسه سقط؟ - إنه يسقط باستمرار قرب محل هذا البيطري. - إني لا أفهم ما تقول يا حضرة الشفالييه. - إذن فاعلمي يا سيدتي أن لهذا البيطري قريبة بارعة في الجمال.
فاصفر وجه الكونتس عند ذلك، كأنما عقرب الغيرة قد لسعتها، ونظرت إلى الشفالييه بعينين تتقدان من الغضب وقالت: لعلك تمزح يا سيدي؟ - معاذ الله يا سيدتي أن أجسر على ممازحتك في هذه الشئون، ولكني أقول لك الحقيقة وهي أن لوسيان ابن عمك وخطيبك قد فتن بفتاة قروية يلقبونها بربيبة الدير.
فهاجت عوامل الكبرياء في صدر الفتاة وتبدل اصفرار وجهها بالاحمرار، فنظرت إلى الفارسين نظرة شفت عن العظمة وقالت: أقسم لك يا سيدي أنه إذا كان ما يقوله الشفالييه أكيدا فإني لن أكون أبدا الكونتس دي مازير.
فقال الشفالييه: إني لا أكذب يا سيدتي، وإذا شئت برهنت لك عن صدقي. - متى؟ - متى أردت. - إذن هات برهانك إذا كنت من الصادقين.
وقد ظهرت على وجهها عند ذلك علائم الاحتقار لابن عمها والنفرة منه، حتى إن الفارسين وثقا من نجاحهما فيما يبغيان، وفرحا فرحا لا يوصف.
4
كان الكونت لوسيان في خلال ذلك سائرا في طريق الدير، وقد اتخذ أقرب الطرق المؤدية إليه.
ولكنه لم يبعد نحو مائة خطوة حتى سمع وقع ركض من ورائه بين الأدغال، فالتفت فرأى أن الذي يركض في أثره كان بنوات الأحدب.
فوقف لوسيان حتى وصل إليه فقال له: من أين أنت آت؟ - من أقفر الطرق، فإني خشيت أن أكون عرضة لانتقام أهل سولي. - لماذا ينتقمون منك؟ - لأنهم يكرهون مدموازيل أورور، فإذا عرفوا أني كنت معكم بعد تلك الحادثة لا أسلم من انتقامهم. - ولماذا يكرهون ابنة عمي؟ - لأنها شديدة على الفقراء، فهم يكرهونها بقدر ما يحبونك؛ ولذلك أريد أن أكون في خدمتك حين تريد الصيد وحدك، وأما إذا كنت مع ابنة عمك فإن في خدمتك كل الخطر. - إذن لقد أحسنت بانتصاري لهذا الفلاح. - لقد أحسنت كل الإحسان يا سيدي، بل ربما تكون قد اجتنبت مصابا شديدا. - كيف ذلك؟ - إن هذا الرجل الذي أرادت ابنة عمك معاقبته يحبه قومه ويخضعون له كل الخضوع، وهو في كل يوم أحد يخطب بهم في الخمارة ويحمل على النبلاء والكهنة والرهبان حملات منكرة، فيصغون إليه إصغاء تاما حتى إنهم باتوا يعتقدون اعتقاده بالنبلاء وهو أنهم بلية الفقراء.
فأطرق لوسيان مفكرا وقال: أهو قال هذا القول؟ - نعم يا سيدي وقد انضم الجميع إلى لوائه، فلو جلدته ابنة عمك بسياطها لكان انتقام الفلاحين شديدا. - كيف يكون انتقامهم؟
فارتعش الأحدب كأنه خشي الزيادة في التصريح وقال: غير أني لا أعلم إذا كانوا يقولون هذه الأقوال وهم يستطيعون تأييدها بالأفعال، والذي أراه أنهم لا يجسرون.
فعلم لوسيان أنه لا يريد أن يجاهر بكل ما يعلمه فقال له: إنك تعلم يا بنوات أني أحبك، وأنك تستطيع أن تقول لي كل شيء دون أن تصاب بمكروه. - هذا لا ريب فيه عندي يا سيدي. - قل إذن كيف يكون انتقامهم؟ - سأخبرك يا سيدي.
ثم وضع يده دون كلفة على جواد لوسيان وقال له: لقد بات النبلاء في عيون الفلاحين فريقين: فريق يحبونه ويخدمونه وفريق يكرهونه ويضمرون له الحقد، فإنني أعرف كثيرين يثنون عليك في كل مجلس، ولكنني أعرف كثيرين أيضا لو دعوهم إلى إحراق قصر ابنة عمك لأجابوا الدعوة راضين. - لماذا؟ - لأن ابنة عمك وأباها يكرهان الشعب، والشعب يكرههما أشد الكره، فإن الفلاح في حقله إذا رأى طائرا يسبح في الفضاء ما شاء ثم يستقر على شجرته، وأيلا يجتاز عشر مراحل ثم يأوي إلى زرعه، إنه لا يخطر له في بال أن هذا الطائر وهذا الأيل ملك النبلاء والرهبان، فإذا قال النبيل إن هذا الطائر لي ولا يحق لأحد صيده، فإننا نخضع لقوله مكرهين ولكننا لا نفهم ما يقول.
وإنه يوجد بيننا من النبلاء من قدم عهد التصاقهم بنا إلى مائة عام ومائتين، فهؤلاء النبلاء لا نكرههم بل نكون لهم عونا حين الاقتضاء، ولكننا نكره أولئك النبلاء الذين قدموا حديثا إلينا. - من كان منهم مثلي؟ - كلا، فإنهم يحبونك لأنك لين العريكة كثير البشاشة، ولكنهم يكرهون أولئك الذين يحملهم الصلف على استعبادهم كابنة عمك مثلا فإنهم لا يحبونهم. - وعمي؟ - وعمك كذلك، فإنه سجن منذ عام ستة من الفلاحين لأوهى الأسباب، حتى إن زعيمهم قال منذ عهد قريب: لقد آن أوان الانتقام من هذا البيت. - ولكن كيف ينتقمون؟ - بالنار، فإنهم يعتقدون أنها عقاب الآخرة؛ أي عقاب الله.
فأطرق لوسيان مفكرا ، وفرغ الأحدب من حديثه، وسار الاثنان حتى كادا يدنوان من الغابة، فهم بنوات بالانصراف وقال له: أستودعك الله يا سيدي. - كيف ذلك؟ أتتركني؟ - إني راجع إلى الغابة. - ألا تصحبني إلى الدير؟ - لا شأن لي يا سيدي في الدير.
وفرك الأحدب أذنه دون أن يتم كلامه.
فقال له: ثم ماذا؟ - إني اصطدت بضعة طيور خبأتها في جيوبي، وأخاف أن يراها الرهبان معي فإنهم لا يأذنون لنا بالصيد في الغابة.
فأخذ لوسيان ريالا من جيبه ودفعه إليه، فرده الأحدب وقال له: إني حين أرافقك في الصيد وأقود كلابك، فإنما أفعل ذلك لما أجده من السرور في خدمتك واللذة في الصيد، فما أنت مدين لي بشيء.
فرد لوسيان الريال إلى جيبه، وقال له: ماذا تصنع بهذه الطيور التي اصطدتها؟ - أبيعها. - إذن اذهب بها في هذا المساء إلى منزلي وأنا أشتريها منك. - حبا وكرامة يا سيدي. - والآن أترافقني إلى قرب باب الدير أم لا تزال خائفا من الرهبان؟ - أصحبك إلى حيث شئت، ورجائي ألا تنسى ما نصحتك به بشأن داغوبير.
فحاول لوسيان أن يبتسم، فلم يستطع لاضطرابه وقال له: إني لا أريد لأحد شرا، ولكن نعل فرسي قد سقط، ولا بد لي من الذهاب إليه؛ إذ لا يوجد بيطري سواه.
وسار الاثنان حتى اقتربا من محل داغوبير، فرأى الأحدب عن بعد أن النار خامدة فيها، فابتسم وقال للكونت: يظهر أن داغوبير غير مقيم في محله أو أنه يشتغل في الدير، فإني لا أرى ناره ولا أسمع صوت مطرقته.
ثم وصلا إلى باب الدكان، فجعل الأحدب ينادي داغوبير وهو لا يجيب.
وبعد هنيهة شعر لوسيان باضطراب شديد، ذلك أن نافذة الغرفة التي هي فوق الدكان قد فتحت، وبرز منها وجه فتاة تفتن الجماد بجمالها وقالت: إن داغوبير ليس هنا.
أما الفتاة فكانت حنة التي يلقبها أهل تلك الناحية بربيبة الدير.
فلما رآها لوسيان رفع قبعته احتراما وقد عبق وجهه احمرارا، وقال لها: أين هو داغوبير يا سيدتي؟ - لعلك محتاج إليه؟ - نعم، فإن نعل فرسي قد سقط.
فابتسمت الفتاة وقالت: إنه يسقط كثيرا يا سيدي.
فاضطرب لوسيان وقال لها الأحدب: أين هو داغوبير يا سيدتي؟ - إنه في الدير، فإن الأب جيروم قد دعاه إليه.
فقال لوسيان: إذن سأنتظره إلى أن يعود.
أقفلت الفتاة النافذة ونزلت إلى الدكان وقالت له: تفضل يا سيدي بالدخول فإن البرد يؤذيك.
ثم أخذت بيدها البيضاء حبل منفخ الحداد، وجعلت تجره بغية إيقاد النار لتدفئته.
أما بنوات فإنه ذهب إلى باب الدير فقرعه، ففتح له أحد الرهبان وقال له: ماذا تريد؟ - أريد أن أرى داغوبير. - ذلك محال الآن فإنه يتداول مع الأب جيروم، فما تريد منه؟ - نعل فرس. - إذا كنت تريده من أجل هذا يا بني فلا فائدة من إخباره؛ لأن الرئيس مريض وقد دعاه إليه لمداولته في أمور خطيرة.
فعاد الأحدب إلى الدكان، وكان لوسيان قد ربط جواده عند بابه وجلس قرب النار يتحدث مع ربيبة الدير الحسناء، أما الأحدب فكان ينظر إليهما نظرة المعجب بهما، ويقول في نفسه: ما أخلق هذين الملاكين بالاتحاد فقد خلق كل منهما للآخر.
5
ولندخل الآن بالقارئ إلى داخل هذا الدير، ونبسط السبب الذي دعا الرئيس من أجله داغوبير.
إن الأب جيروم كان قوي البنية متين الأعضاء لا يزال في دور الكهولة، غير أنه أصيب فجأة بمرض خفي على الأطباء فكانت قواه تنحط تدريجيا في كل يوم.
وكان هذا حاله منذ شهر حتى بات لهزاله كالخيال، فكان يقضي جميع مهامه الرئيسية على استفحال مرضه، ولكنه لا يفرغ من قضاء هذه المهام حتى يشعر أن التعب قد أضنكه وأنهك قواه.
وكان في خلال مرضه إذا اعتدلت الحرارة خرج من الدير متنزها إلى دكان داغوبير، فيجلس عنده وهو يتأمل محاسن تلك الفتاة، فيعود إلى تذكار الماضي وتتقد عيناه ببارق الشباب، ثم يطرق برأسه ويبتسم ابتسام السويداء.
وفي ذلك اليوم كان الطقس معتدلا فكان داغوبير يرجو أن يزوره الرئيس، ولكنه انتظر عبثا إلى أن حانت الساعة الرابعة، فجاءه أحد الرهبان وقال له: إن المرض قد اشتد بالرئيس وهو يدعوك إليه لشأن خطير.
فامتثل داغوبير وذهب مع الراهب إلى غرفة الرئيس، فأشار الرئيس إلى الراهب بالانصراف وبقي وحده مع داغوبير، فبدأ الأب جيروم الحديث وقال له: إني أشعر بضعف شديد، ولكني أعرف أعراض هذا الداء وما أنا في خطر منه، غير أني دعوتك إلي يا بني لأحدثك بشأن خطير فاجلس بجانبي.
فجلس داغوبير وقال له: مر يا سيدي بما تشاء.
فقال له الرئيس: لا بد أن تكون علمت بأني أريد محادثتك بشأن حنة.
فأطرق داغوبير برأسه وقال: نعم. - إن هذا الداء الذي ألم بي حمى بطيئة سرت إلي عدواها في زمان الشباب من بلاد بعيدة، حين كنت جنديا، ثم عاودتني الآن بعد أعوام كثيرة.
وقد عاودتني مرة منذ خمسة عشر عاما، وكنت راهبا في هذا الدير فلزمت الفراش ستة أشهر، ولكني كنت راهبا بسيطا في ذلك العهد فلم ينتبه لأمري أحد.
أما الآن فإن جميع الأنظار متجهة إلي، وأرى كثيرين من الطامعين في منصبي ينتظرون موتي بفارغ الصبر.
فإن الطمع يدخل في نفوس رجال الدين كما يعلق بسواهم من الناس، فإن الإنسان إنسان كيفما كان.
على أنه إذا قدر لي الموت يا بني فلا أموت بهذا الداء الذي أشكو منه الآن، ورجائي أن أعيش كثيرا لخدمة الله ونجاح هذا الدير وسعادة تلك الفتاة التي اؤتمنت عليها، ومن أجل هذا دعوتك إلي، فقل لي الآن كم تبلغ الفتاة من العمر؟ - إنها بلغت السابعة عشرة. - بقي لدينا ثلاثة أعوام للقيام بما انتدبنا إليه يا صديقي، ولكن الثلاثة أعوام تعادل في بعض الأحوال ثلاثة قرون، ومن يعلم ما يحدث في خلال هذه السنين الثلاث.
إن هذا الصديق سافر منذ سبعة أعوام ولكنه لم يعد، فلا بد أن يكون قد مات، وفي كل حال فأية فائدة من الانتظار؟ إذن يجب أن نتأهب للسفر. - إني مستعد للسفر إلى أقصى حدود الأرض. - كلا، بل إلى باريس، وأنت تعلم يا بني أن رؤساء الأديرة لا يستطيعون مبارحة أديرتهم إلا بعد استئذان الرئيس الأعظم، وقد أرسلت التماسي وسيجيبني الرئيس إليه فيما أظن، فإذا كنت غير مخطئ في تشخيص علتي فإن قواي تعود إلي بعد شهر فأسافر وإياك. - أتسافر معنا حنة؟ - دون شك، فإننا نبحث عن ثروتها ثم ...
وهنا توقف الأب جيروم.
فاضطرب داغوبير وقال: ثم ماذا؟ - إن حنة من بيت نبيل، وهي وافرة الثروة، فلا بد أن يتزاحم عليها الخطاب، فلا نعدم رجلا بينهم سليم القلب يخطبها؛ إذ لا بد من تزويجها.
فأجابه داغوبير بصوت مختنق: هذا لا ريب فيه. - والآن قل لي، أما كنت ترى أحدا من الشباب النبلاء يرود حول الدير وحول دكانك بحجة الصيد أو شراء نعل لفرسه؟ - لقد أصبت فقد رأيت كثيرين منهم يتذرعون بمثل هذه الحجج للنظر إلى الصبية لا سيما واحدا منهم. - أهو شاب؟ - نعم، يبلغ العشرين. - أهو جميل؟ - نعم. - إنه غني دون شك ونبيل. - إنهم يدعونه الكونت دي مازير.
فوقف الأب جيروم منذعرا حين سمع هذا الاسم وبدت عليه علائم الاحتقار، فقال: أي اسم ذكرت لي؟
فبهت داغوبير وقال: الكونت دي مازير يا سيدي، وهو فتى حسن السمعة لا يذكره أحد إلا بالخير. - ويح لهذا الشقي. - إني أعجب يا سيدي من احتقارك لهذا الفتى بعد إجماع قومنا على حبه واحترامه، ولو علمت قبل اليوم أن الفتاة غنية وأنه يجب تزويجها من نبيل غني مثلها لما اخترت لها غيره زوجا. - لعله يحبها؟ - أظن.
فزادت ظواهر احتقار الرئيس وقال: كيف عرفت ذلك؟ لعله اجتمع بها؟ - إني حين أشتغل في دكاني يا سيدي، ولا يكون لديها ما تعمله في المنزل تأتي إلي فرارا من الوحدة، فتحادثني وهي تشتغل بإبرتها وأحادثها وأنا أشتغل بالمطرقة، وذلك منذ سبعة أعوام إلى اليوم.
وقد اتفق يوما منذ ستة أشهر أن جاءني فتى لإصلاح نعل جواده، وهو لوسيان، فرآها عندي وحادثها، وبعد أسبوعين رجع إلي، ثم جعل يجيئني كل أسبوع بنفس الحجة، وماذا تريد أن أصنع به يا سيدي؟ وأي لوم علي. - لا لوم عليك ولا تثريب.
ثم ساد السكوت هنيهة بينهما، وعاد الرئيس إلى الحديث فقال: أصغ إلي الآن يا بني، فإنك على كونك فلاحا وحدادا فإن بين جنبيك قلبا يتسع للنبل أكثر من اتساع قلوب أولئك النبلاء، ولكن حائلا عظيما يعترض بينك وبين حنة.
فأطرق داغوبير دون أن يجيب. - ولقد كنت أؤثر ألف مرة، أن أراها امرأتك على أن تكون امرأة الكونت لوسيان، فإن هذا البيت قد تلطخ بالدماء.
واعلم يا داغوبير أني اعتزلت العالم وأصبحت من رجال الله، ومن كان راهبا مثلي فقد وجبت عليه الرأفة والمساهلة والإغضاء، غير أني ما سمعتك تذكر هذا الاسم حتى نسيت موقفي وثارت في تلك العواصف القديمة، فهاجت من نفسي المكامن.
داغوبير، إن هذه الفتاة لا أمان لها في منزلك ما زال هذا الكونت يجيء إليك، فإذا اضطررت في سبيل طرده إلى سحق رأسه فافعل ولا حرج عليك.
قال له داغوبير: كفى يا سيدي فقد كفاني ما سمعت، وثق أن لا خوف على الصبية.
فرفع الأب جيروم يديه إلى السماء وقال: رباه هبني من لدنك قوة أستطيع بها الذهاب إلى باريس لإنقاذ الفتاة من مخالب الأثمة، ولا أسألك بعد هذا غير الموت.
ثم نظر إلى داغوبير وقال له: ماذا فعلت بالخاتم؟ - إنه في إصبعي.
فنظر الرئيس إلى الخاتم منذهلا فإن هذا الخاتم الذهبي قد اسود واستحال لونه إلى لون الحديد.
فقال له داغوبير: لا تعجب يا سيدي، فإن الخاتم هو نفسه وإنما سودت لونه بالدخان كي لا أستلفت إليه أنظار أهل الفضول، فإن من كان فقيرا مثلي لا يلبس عادة مثل هذه الخواتم ذوات الشعار. - لقد أصبت يا بني، والآن فقد فهمت قصدي. - نعم. - إذن، احرص كل الحرص على حنة إلى أن أتمكن من السفر. - اعتمد علي يا سيدي.
وهنا أطلق الرئيس سراحه.
فانصرف داغوبير حتى إذا وصل إلى باب الدير قال له الحاجب: إنهم محتاجون إليك. - أين؟ - في الدكان.
فخفق قلب داغوبير وخرج من الدير، فرأى عند باب دكانه جوادا ورأى رجلا واقفا قربه، فعرف أن الرجل كان بنوات الأحدب وأن الجواد جواد الكونت لوسيان.
فهاج غضبه ودخل فجأة إلى الدكان، فرأى الكونت لوسيان جالسا قرب حنة وهي محمرة الوجه.
6
ولنعد الآن إلى مدموازيل أورور، فقد تركناها مصفرة الوجه من الغضب وهي تسأل الشفالييه برهانا عما قاله لها من حب لوسيان لحنة، فقال لها الشفالييه: إني مستعد لإبداء البرهان يا سيدتي الكونتس عندما تريدين. - إني أريده الآن، فقل، إني مصغية إليك. - إن برهاني يا سيدتي لا يقال بل ينظر. - كيف ذلك؟ - أتقنعين إذا رأيت لوسيان في دكان الحداد؟ - كلا، فإنه قد يكون دخل إليها لإصلاح نعل فرسه. - وإذا رأيته جالسا بجانب الفتاة يحدثها وينظر إليها نظرات غرام؟
فاتقدت عيناها وقالت: يكفي به برهانا. - هذا الذي أردت أن أظهره لك يا سيدتي. - كيف؟ - إن لوسيان قد ذهب الآن دون شك إلى البيطري، فإني رأيت جواده يعرج، ولا شك أن الفتاة ستكون في الدكان، فإنها تقيم فيها عادة بعد الظهر، فإذا شئت يا سيدتي ذهبنا إلى مستنقعات الدير على الجياد، فنغادر جيادنا فيها ثم نذهب على الأقدام فنختبئ بين أشجار الغابة المقابلة لدكان داغوبير وهناك ترين ما أخبرتك به فيحقق الخبر.
فثارت العواصف في قلب أورور وقالت: لقد رضيت، هلموا بنا.
فنظر الشفالييه إلى البارون نظرة انتصار، وتقدمت الفتاة الفارسين إلى المستنقعات فتبعها الفارسان يسيران فوق جواديهما جنبا إلى جنب، فقال البارون للشفالييه: أواثق أنت مما تقول؟ - إني واثق كل الثقة. - أرأيت حقيقة أن جواده كان يعرج؟ - نعم، وسوف ترى حقيقة أنه قرب الفتاة.
وبعد عشر دقائق وصلوا إلى المستنقعات، فربطوا جيادهم فيها وساروا في الغابة حتى وصلوا إلى شجرة باسقة كثيرة الفروع محاذية للدكان، فاختبئوا وراءها وقال الشفالييه: انظري يا سيدتي، ألا ترين جواد لوسيان عند باب الدكان؟ - نعم. - تعالي إلى الجهة اليمنى تري داخل هذا الدكان.
وكان داغوبير في ذلك الحين لا يزال في الدير، فذهبت الكونتس إلى الجهة اليمنى فرأت رجلا وامرأة جالسين.
أما الشفالييه فإنه قال: إن الوقت لا يزال فسيحا لدينا، فلنصبر لا سيما وأنه غير عازم على الرحيل كما يظهر.
وكانت الشمس قد توارت في حجابها وأوقدت حنة مصباحا في الدكان، فكانت أورور ترى كل شيء في داخلها، فلما رأت لوسيان بجانب حنة ينادمها عضت الغيرة قلبها وشدت على قبضة السوط الذي بيدها حتى كادت تسحقها.
ورأى الشفالييه ما ظهر من غيرتها، فقال لها: كيف رأيت يا سيدتي؟ أوثقت الآن مما قلته لك؟
فأجابته بلهجة القنوط: نعم، لقد برح الخفاء، ولكن اطمئن فسوف أنتقم أفظع انتقام من هذا الخائن الأثيم.
فقال لها البارون: أما وقد وثقت يا سيدتي من خيانته، فلنعد إلى جيادنا فلا فائدة من البقاء هنا.
فأجابته: كلا، إني أحب أن أرى كل شيء ... وأريد أن أصبر إلى النهاية.
وفي ذلك الحين، كان داغوبير قد خرج من الدير ورأى جواد لوسيان مربوطا إلى باب دكانه، فثار ثائره وانقض على الدكان انقضاض الصاعقة.
فلما رأته حنة زاد احمرار وجهها، أما لوسيان فإنه اصفر ووقف، فقال لوسيان: إني أنتظرك منذ ساعة.
فأجابه داغوبير: ليس لدي الآن نعال حاضرة، وقد انقضى النهار فلا وقت لصنع نعل جديدة. - ولكن جوادي يعرج. - يوجد في سولي بيطري فاذهب إليه، ثم أرجوك يا سيدي الكونت أن تأذن لي بأن أعهد إليك بمهمة خاصة. - لي أنا؟ - نعم.
ثم مشى إلى الباب، فعلمت حنة أنه لا يريد أن يكلمه أمامها، فصعدت إلى المنزل وهي تضطرب.
أما داغوبير فإنه لما رآها صعدت، رجع إلى الدكان فنظر إلى الكونت وقال: إني أعهد إليك بمهمة خاصة كما قلت لك، ولكني أحب أن أسديك نصيحة.
فهاجت عوامل الكبرياء في نفس الكونت وقال له: أنت تسديني نصيحة! - نعم يا سيدي، ويجب أن تسمعها، ونصيحتي هي أن جوادك غير صالح ويجب استبداله. - لماذا؟ - لأنه كثير الحاجة إلى النعال. - لعلك تريد أني أحضر كثيرا على دكانك؟ - إني لا أريد أن أوضح كلامي، افهمه كما تريد.
وقد قال هذا القول وأطرق بعينيه، أدرك لوسيان قصده وقال له: أصغ إلي يا داغوبير فإني شاب نبيل غني. - إني أعرف كل ما تقوله يا حضرة الكونت. - وإني أحب قريبتك. - وأعرف هذا أيضا. - وليس في طباعي شيء من طباع أمثالي النبلاء، بل إني أحتقر صلفهم وكبرياءهم، ولا أتزوج إلا المرأة التي أحبها.
فلم يجبه داغوبير بشيء. - وقد قلت لك إني أحب قريبتك، فهل تريد أن أجعلها الكونتس دي مازير؟
وكان الكونت يتوقع أن يستقبل داغوبير هذه المنة بملء السرور، غير أنه لم يبد عليه شيء من ظواهره، بل قام إلى مطرقته الضخمة فتسلح بها وقال له: أصغ إلي يا سيدي الكونت، إن قريبتي لم تخلق لك، وأعلم أني حداد فقير وأنك سيد عظيم، ولكني غير خاضع لك ولا سلطان لك علي؛ ولذلك أمنعك من الدخول إلى محلي. - ماذا تقول؟ إنك مخطئ يا داغوبير. - هذه آخر كلمة أقولها، فاعلم الآن أنه مهما بلغ ارتفاعك وضعتي وغناك وفقري، إني أقتلك إذا عدت إلى هذا البيت.
وقد قال هذا القول بصوت منخفض لم تسمعه حنة، ثم قال له: اخرج من هنا.
فاصفر وجه لوسيان من الغضب والخجل ولم يجب.
فرفع داغوبير المطرقة فوق رأسه وقال له: قلت لك اخرج.
وكان لوسيان من رجال الشهامة والنبل، فوقع هذا الكلام عليه وقوع الصواعق ووضع يده على قبضة خنجره؛ إذ لم يكن لديه سيفه في تلك الساعة، وهم أن يجرده ويطعنه به.
غير أن داغوبير كان أسرع منه، فإنه انقض عليه وقد أدرك قصده فحمله بين يديه كما يحمل المطرقة وخرج به من الدكان من غير أن يفوه بكلمة ووضعه فوق سرج جواده، وقال له: امض في شأنك واحذر أن ترجع.
وكان داغوبير مشهورا بين قومه بالقوة، حتى كانوا يضربون به المثل فيقولون: فلان قوي كداغوبير.
فلما وجد الكونت نفسه فوق فرسه، جمد الدم في عروقه وكبر عليه الأمر، فلم يثب من ذهوله حتى حاول الرجوع إلى الدكان وهو يزبد من الغيظ بالرغم من نصح الأحدب له بالرجوع والاكتفاء بما حدث، ولكن داغوبير كان قد أسرع إلى الدكان وأقفل بابه وصعد إلى المنزل غير مكترث لوعيد الكونت.
أما لوسيان فإنه جعل يضرب باب الدكان بقبضة خنجره ويقول: افتح أيها الشقي ، فلا بد لي من قتلك ولو صعدت إلى الغمام.
فلم يفتح الباب كما كان يتوقع، بل فتحت النافذة وأطلت منها حنة وقالت له بلهجة بينت عن يأسها: أسألك بالله يا سيدي الكونت ألا تهيج غضب قريبي.
فقال لها الكونت: إن قريبك قد أهانني إهانة لا تغتفر جزاء لقولي بأني أحبك، وإني أريد أن أجعلك ...
أما حنة فإنها أقفلت النافذة قبل أن يتم جملته.
وفي الوقت نفسه فتحت نافذة أخرى، وهي نافذة داغوبير وأطل منها الحداد وقال له: يظهر يا سيدي الكونت أنك فقدت رشدك، وإني أنصحك بالانصراف. - بل إني سأقتلك شر قتل أيها الشقي، فقد جسرت على ما لم يجسر عليه أحد من قبلك، وسأحرقك وأحرق منزلك بالنار. - أما أنا فسأخمد تلك النار المتصاعدة إلى رأسك.
ثم احتجب داغوبير هنيهة وصاح الأحدب بالكونت يقول له: احذر! غير أن لوسيان لم يجد سبيلا للحذر، فإن داغوبير عاد مسرعا إلى النافذة يحمل كوز ماء كبير فكب جميع ما فيه من الماء البارد فوق رأس الكونت.
انتفض لوسيان انتفاض العصفور بلله القطر، وقد سكن تأثره لانشغاله بتأثير تلك المياه، ثم عاوده الهياج وهم أن يعود إلى الباب ويحاول كسره ولكنه تراجع منذعرا؛ إذ سمع صوت ضحك يشبه ضحك الساخر.
فغلى الدم في عروقه من الغضب والتفت إلى مصدر الصوت وكان من الغابة، فرأى فيها أشباحا وسمع أيضا صوت ضحك سخري.
فلكز بطن جواده ودفعه إلى تلك الأشباح، وعند ذلك رأى نور مشعل قد بزغ فجأة وهو من تلك المشاعل الخاصة بأهل الصيد، فوقف خجلا مبهوتا؛ إذ رأى على نور ذلك المشعل البارون والشفالييه وبينهما ابنة عمه الكونتس، وهي لا تزال تضحك ضحك الساخر وبين عينيها علائم الاحتقار والغضب.
أما الكونتس فإنها نظرت إليه، وقالت له بلهجة المتهكم المنتقم: أراك يا ابن عمي العزيز قد أحييت العصور السالفة، إنك وحدك تحاصر حصنا حصينا لاختطاف فتاة.
ثم ضحكت ضحكا شديدا وقالت: نعم، إن الحصن لم يكن إلا دكان حداد، وإن الفتاة لم تكن إلا قروية من رعاة الخرفان، ولكن ذلك كان سائغا في العصور الوسطى، فأهنئك ببسالتك.
وعند ذلك ذهبت مع رفيقيها إلى حيث ربطوا الجياد، وقف لوسيان لا يعي ولا يدري ما يصنع لفرط اضطرابه، ولبث واقفا وهم يتوغلون في الغابة حتى تواروا عن الأنظار.
فثاب من دهشته وتمثل له ضحك الكونتس ونظرات الفارسين كسهام من نار، فقال: إني لا أستطيع مبارزة امرأة، ولكن هذا الشفالييه سيرى مني ما يؤدبه خير تأديب.
وكانت الجماعة قد احتجبت عن نظره غير أنه كان لا يزال يرى نور المشعل، فدفع فرسه إلى جهة النور فرأى ابنة عمه تسير إلى جانب الشفالييه.
وكان بنوات الأحدب يثب وراء فرس لوسيان ويحاول أن يخفف وطأة هياجه، ولكن الغضب كان متمكنا من نفس الكونت فلم يحفل بكلامه، إلى أن قال الأحدب بلهجة المتوسل: بالله قف يا سيدي واسمع ما أقول.
أوقف الكونت فرسه وقال: ماذا تريد؟ - أريد أن أسألك إذا كنت تنوي اللحاق بهم. - دون شك. - أشير عليك يا سيدي ألا تفعل. - لماذا؟ - لأنك في أشد حالات الهياج، فقد يدفعك الغضب إلى فعل ما لا تود أن تفعله، وعندي أنه خير لك أن تسير في هذا الطريق الذي يؤدي توا إلى قصرك بدلا من التعريج بسولي، فإن جوادك يعرج وطريق سولي شاقة السير. - أتصحبني إلى القصر؟ - نعم يا سيدي، وهي فرصة أغتنمها لمحادثتك.
فأطرق الكونت هنيهة مفكرا، ثم قال: هلم بنا وسر بجانبي.
فمشى الأحدب بجانبه وقال له: لقد كان هذا اليوم يوم شقاء يا سيدي الكونت، ولو اتبعت نصيحتي منذ البدء لما أصابك شيء من هذا، وأصغ إلي يا سيدي، فإني لا أعرف البارون دي بوليو فلا أقول عنه خيرا ولا شرا، ولكني أعرف الشفالييه حق العرفان. - وما رأيك فيه؟ - إنه من رجال الشر والمكر. - أتظن ذلك؟ - بل أؤكده لك يا سيدي، وأزيدك أنه مفتون بالكونتس أورور، وهو الذي قال لها كل شيء. - ماذا قال؟ - أخبرها أنك تختلف دائما إلى محل الحداد، وأنك عاشق لقريبته.
فعاود لوسيان الغضب عند سماع اسم داغوبير وقال: أما هذا فسأعاقبه شر عقاب. - إنك مخطئ يا سيدي كل الخطأ إذا انتقمت منه. - كيف أكون مخطئا بعدما رأيت ما بدر منه؟ - لأن داغوبير قد فعل ما يجب عليه، فإن الشرف يا سيدي لا ينحصر بأهل الجاه والمال والنبل، وقد أردت إغواء قريبته فلم يطق الصبر على هذا العار.
فاهتز لوسيان فوق فرسه واضطرب حتى أوشك أن يسقط، ثم قال له: أتظن يا بنوات أني أريد إغواءها؟ - إن الظواهر يا سيدي تدل على صدق هذا الظن. - ولكنك مخطئ، فإني أحب حنة. - أرأيت كيف أني صادق بظنوني؟ - هو ذاك، ولكني إذا كنت من رجال الأنساب فلا أتقيد بها، وقد أحببت تلك الفتاة ورأيتها من أهل الطهر والفضيلة والعفاف فلم أكترث لما يحول بيني وبينها من تباين المقام، وأردت أن أتخذها امرأة لي.
فصاح الأحدب صيحة دهش وقال: أحقا ما تقول؟ - كل الحق، وقد جاهرت بنيتي لداغوبير فكان جزائي منه ما رأيت. - أأنت واثق يا سيدي أنه سمع اقتراحك؟ - كل الثقة. - أفهم مرادك؟ - دون شك، فإني كلمته بأتم التصريح والجلاء. - إنه أمر عجيب يحار فيه عقلي.
ثم أطرق هنيهة وقال: إذا كان الأمر قد اتفق كما رويته يا سيدي، فلا شك أن داغوبير قد ارتكب خطأ عظيما، ولكني أعرف داغوبير حق العرفان وألتمس منك يا سيدي أن تعدني وعدا. - ما هو؟ - هو ألا تشكو داغوبير ولا تنتقم منه قبل أن تراني. - ماذا تريد أن تصنع؟ - أريد أن أراه. - وبعد ذلك؟ - أقف على حقيقة أفكاره وأعود إليك صباح غد إلى قصرك، فأخبرك بما يكون، على أن تفي بوعدك ولا تعاقبه بشيء قبل أن أعود. - سأفي، فمتى تذهب إليه؟ - الآن. - إذن إلى اللقاء غدا.
فغادره الأحدب عند ذلك عائدا إلى داغوبير، وبقي الكونت وحده في الغابة.
7
وكانت النجوم تسطع في السماء ولكنها لا تكشف اربداد الظلام، وقد ساد السكون في تلك الغابة المتسعة فسادت السويداء على الكونت، وتلاها حزن عميق أسال الدمع من عينيه، فإن أصوات ضحك ابنة عمه والفارسين كانت لا تزال تدوي في أذنه.
ثم جعل يفتكر بحنة فيتمثل له كيف أنها أقفلت النافذة بعنف حين جسر على المجاهرة لها بهواه، وجعل يسير الهويناء وهو يقول في نفسه: لا شك أن هذا اليوم من شر أيام الشقاء، فإنه اختصم مع ابنة عمه، بل أصبح هزءا في عينيها؛ إذ رأت ذاك الحداد يطرده أقبح طرد.
وهنا عاودته عاطفة الانتقام ولكنه جعل يسأل نفسه فيقول: ترى ممن أنتقم؟ أمن ابنة عمي أورور؟ ولكنها مصيبة في هزئها بي، ألست خطيبها منذ شببت عن الطوق؟ ألم أكن خائنا نذلا في عينيها؟ فكيف لا يحق لها أن تهزأ بي؟ أم تراني أنتقم من داغوبير؟ وأي طيش أعظم من هذا الطيش؟! وإذا أسأت إليه بالانتقام فكيف أتقرب من قريبته وقد أقمت بيني وبينها مثل هذا السد؟ بقي هذا الشفالييه الذي قال لي عنه بنوات إنه من أهل الشر والدسائس، وهو مصيب فيما قال، ولا شك أن هذا الرجل حمل ابنة عمي على التجسس علي؛ فهو خائن نمام وسيلقى ما يستحقه من العقاب، إني سأذهب إليه غدا وأسأله الإيضاح والترضية، فإذا أباها علي صفعته وأدركت من مبارزته والانتقام منه ما أريد.
وكان لوسيان يبحث عمن ينتقم منه شفاء لغله، فلما استقر على هذا الخاطر سكن ثائر غضبه وخف جأش هياجه.
ثم ذكر ما لقيه من انذهال الأحدب حين أخبره عن صدق نيته في عزمه على الاقتران بحنة، فعلل انذهاله تعليلا معقولا، وهو أنه في ذاك العهد كان التباين عظيما بين الأشراف وبين الطبقة العامة، فلا يخطر لأحد في بال أن يتدانى النبلاء إلى الاتصال بالعوام بصلة القران، ولا يجول في بال أحد أن كونتا عظيما يتزوج فتاة قروية؛ ولذلك خف ما عنده وقال في نفسه، إن داغوبير معذور، فلا شك أنه حسبني هازئا به وأني أحتال عليه بمثل هذه الوعود؛ تذرعا إلى إغواء الصبية، ولكن الأحدب سيزيل هذا الشك من نفسه ويقوم بالمهمة التي انتدبته بها خير قيام.
وكان لوسيان في مقتبل الشباب، وهو جميل غني ، فلم يخش ألا يروق في عيني حنة، وكان يعلم أن أمه تكاد تعبده، فلم يخف أن تحول دون هذا الزواج، وماذا بقي إذا كانت له حنة؟!
وعند ذاك شعر فجأة أنه بات يكره ابنة عمه كرها شديدا، ولم يعد يبالي بما كان منها وما سيكون، وأما الشفالييه فإنه سيدعوه إلى المبارزة وينتقم منه لهزئه به شر انتقام.
وكان لوسيان يحدث نفسه بهذه الأحاديث، والجواد يسير به حيث يشاء، فاجتاز به مسافة بعيدة وهو لا يشعر، حتى بات على مسافة نصف مرحلة من قصره، ووصل إلى مكان من الغابة تشعبت فيه الطرق، فانتبه عند ذلك من سبات تصوراته ونظر إلى ما حواليه، فرأى على اشتداد الظلام شبحا أسود اعترضه فعلم أنه فارس.
وعند ذاك أوقف جواده، فوضع يده على غدارته وقال: من القادم؟
فأجابه الشبح بصوت الهازئ: لا تخف يا سيدي الكونت، فما أنا من اللصوص. فظهرت على وجه الكونت علائم السرور الوحشي؛ إذ علم أن صاحب الصوت كان الشفالييه صاحب النميمة، فدنا منه بجواده وقال له بصوت يضطرب من الغضب: أهذا أنت يا سيدي الشفالييه؟ - نعم يا حضرة الكونت. - كيف غيرت طريقك؟ فقد رأيتك سائرا في طريق سولي. - ذاك لأني كنت أرجو أن أراك. - ماذا تريد مني؟ - أريد أن أعطيك رسالة عهد إلي بإيصالها إليك. - ممن الرسالة؟ - يجب أن تعلم أنها من سيدتي الكونتس.
فقال له لوسيان بلهجة شفت عن الاحتقار، هاتها فسأقرؤها عندما أصل إلى النور. - لا حاجة إلى الانتظار يا سيدي الكونت؛ إذ لدي مشعل، فإذا شئت أنرته فقرأت الرسالة على نوره. - لا أجد فائدة في قراءة الرسائل الآن، لا سيما وأني في حاجة إلى محادثتك. - محادثتي أنا؟ - نعم يا حضرة الشفالييه، فإني أود مباحثتك في أمور خطيرة. - ما عسى أن تكون هذه الأمور الخطيرة؟ - هي يا شفالييه أنك رجل سافل.
وكانت الإهانة عظيمة، غير أن الشفالييه تجلد وتظاهر أنه لم يحفل بها فقال: ولماذا تدعوني بسافل؟ - بل إنك سافل وخائن معا.
فاحتفظ الشفالييه بسكينته وقال له: إنك إذا كنت تريد أن تجعل هذه الشتائم مقدمة للقتال فلا فائدة منها. - لماذا؟ ألعلك لا تبارزني؟ - ليس هذا الذي أعنيه، بل أريد أن أقول إنه لا فائدة من الشتم، فإذا كنت تريد قتالي تجدني غدا رهن أمرك. - بل اليوم. - إنك تمزح يا سيدي الكونت. - كلا، بل أريد أن يكون قتالنا في هذه الساعة، ولا إخالك تمتنع إلا إذا سرى الخوف إلى قلبك. - إنك تعلم يا كونت أني لا أخاف، ولكن أنقتتل هنا في ظلام الليل من غير شهود؟ - نعم. - ولكن ليس لدينا سيوف. - إن في خنجر الصيد غنى عن الحسام. - يظهر أنك لا تريد مبارزة بل مجزرة. - أريد قتالا لا يفصل فيه بيننا غير الموت. - ليكن ما تريد أيها الكونت العزيز، ولكن بقي هناك أمر أراك لم تفطن إليه. - ما هو؟ - هو أن من يقتل رفيقه منا يحسب في عرف الشرع والناس سفاكا مغتالا لا قاتلا في براز.
قال: أتظن ذلك؟ - دون شك، فقد عرف من رأى ما كان منا في الغابة أن كلانا يكره الآخر، وهذا القتل في الغابة دون شهود يوسع مجال الظنون ويحمل على محامل الاغتيال. - إنك تعترف إذن بأنه يجب أن أكرهك؟ - وإني لست مخطئا في حملك على هذا الكره، فقد رأيتك في حالة تدعو إلى الهزء فما تمالكت عن الضحك. - وأنا رأيت هذا الهزء لا يغسل إلا بدمك. - ليكن ما تريد، ولكنك إذا قتلتني الآن فليس ما يمنع ابنة عمك عن القول إنك قتلتني انتقاما لكتاب قطع علاقتها معك، وإنك قتلتني لأني كنت أنا حامل هذا الكتاب، وأما إذا قتلتك أنا فإن الأقوال تختلف. - ماذا يقولون؟ - يقولون إني عاشق الكونتس، وإني قتلتك للتخلص من مزاحمتك.
فرأى لوسيان أن براهينه جلية لا تدحض، فاقتنع بها وقال له: إذن إلى الغد، فأحضر شهودك وأنا أحضر شهودي.
قال: وأين تريد أن يكون القتال؟ - هنا حيث نحن الآن. - ليكن ما تريد، ولكنك تعلم أني لا أبيت في هذا المكان لأنتظر الغد، فلنعد معا إلى المنزل.
فأجابه الكونت بجفاء: إن الطرق لجميع الناس.
فلم يجبه الشفالييه وسار بجواده الهويناء وتبعه الكونت، فكانا يسيران في طريق واحد.
ولنعد الآن إلى الأحدب، فإنه حين غادر لوسيان ذهب توا إلى داغوبير فلقيه يشتغل في دكانه فدخل إليه.
أما داغوبير فإنه حين رآه قطب حاجبيه وقال له: ماذا أتيت تعمل أيها الشقي؟
فقال له الأحدب: لماذا تشتمني يا داغوبير وأنا لم أسئ إليك؟ - هو ذاك، ولكنك كنت مع هذا الكونت الذي عاملته بما يستحقه من الطرد. - إنك أخطأت يا داغوبير؛ فإن الرجل طاهر القلب شريف النفس لا يحتقر العامة خلافا لجميع النبلاء. - لا أنكر ما تقول. - وهو يحب حنة.
فاتقدت عينا داغوبير ببارق من الغضب وقال: اسكت. - لماذا تريد أن أسكت؟ إنه يحبها حبا طاهرا نقيا، وهو يريد زواجها لا إغواءها كما توهمت.
وكان الأحدب يتوقع أن يرى من داغوبير ما يدل على الانذهال أو الشك، ولكنه لم يظهر شيئا من ذلك، بل جعل يطرق الحديد بمطرقته دون أن يجيب.
فقال له الأحدب وقد راعه سكوته: لقد قلت لك يا داغوبير إنه يريد أن يتزوجها.
قال: أعلم ولكني لا أريد. - أنت لا تريد أن يتزوج الكونت دي مازير حنة؟ - نعم. - ولكن هذا جنون محض.
فألقى داغوبير مطرقته ودنا من الأحدب، فوضع يده الضخمة فوق كتفه وقال: إن الكونت لوسيان لا يكون زوجا لحنة ما دمت في قيد الحياة. - ولكن لماذا؟ - لأني لست وحدي الذي يأبى هذا الزواج، بل إن الذي يأباه رجل عظيم أثق به كما أثق بالله. - من هو هذا العظيم؟ - هو الأب جيروم.
فبهت الأحدب وأطرق يفكر، فقال له داغوبير: لا ريب عندي أن الكونت قد أرسلك إلي. - هو ما تقول، فلا أنكر عليك. - إنك الآن عرفت جوابي الأخير فاحمله إليه كما تلقيته.
فخرج الأحدب من الدكان فقال في نفسه، إن الكونت لا يزال في الغابة ولا بد لي من إدراكه قبل أن يصل إلى المنزل. ثم دخل إلى الغابة وأطلق ساقيه للريح في الطريق التي سار فيها لوسيان.
8
بينما كان الكونت والشفالييه يسيران في الغابة أحدهما في أثر الآخر دون أن يتحادثا سمع لوسيان صوت ركض من ورائه.
وكان القمر قد بزغ في تلك الساعة يخترق الغيوم ويتهادى متألقا في السماء بين النجوم، فالتفت لوسيان فرأى أن هذا الراكض كان بنوات الأحدب، فخفق قلبه وأوقف جواده في الحال.
والتفت الشفالييه أيضا ولكنه لم يستطع أن يسأل الكونت عن السبب الذي حمله على الوقوف.
غير أنه تباطأ في السير وجعل يلتفت إلى الوراء من حين إلى حين وقد عرف بنوات وأنه رسول لوسيان.
أما الأحدب فإنه وصل إلى لوسيان، فقال له وهو يلهث تعبا: إني كنت موقنا من إدراكك في الغابة ولهذا عدت إليك. - ولماذا عدت إلي؟ ألم نتفق على أن تزورني غدا؟ - هو ذاك، ولكني رأيت داغوبير.
فلم يجبه لوسيان بشيء وصبر وهو يضطرب إلى أن يخبره الأحدب بما جرى، فبدأ الأحدب الحديث فقال: لقد رأيت يا سيدي أن داغوبير يفتكر كما كنت أفتكر. - ماذا يفتكر؟ - أن زواجك بمدموازيل حنة محال. - تريد أنه يرفض هذا الزواج؟
فأحنى بنوات رأسه إشارة إلى الإيجاب.
فارتعد لوسيان وقال: أي عذر تجاسر على انتحاله هذا الرجل؟ - عذره أن أمر تزويج الفتاة غير منوط به. - بمن؟ - بالأب جيروم. - رئيس الدير؟ - هو بعينه.
فعاد الرجاء إلى قلب لوسيان وقال: إذا كان ما يقوله حقا فإن الأمر سهل ميسور، نعم إني لا أعرف هذا الراهب، ولكن يقال إن أصله من النبلاء وإنه دخل إلى الدير بسبب حادث غرام، فسأذهب إليه وأخبره بغرامي ورجائي أن يثق من سلامة قصدي ولا يعترض سبيلي.
فهز الأحدب رأسه وقال: لا تتوسع في مجال الأمل يا سيدي الكونت.
قال: ولماذا؟ أتظن أن الراهب يرفض طلبي؟
قال: لا أعلم ما يكون بعد اجتماعك به، ولكن الذي أعلمه أنه هو الذي يرفض الآن.
قال: كيف عرفت ذلك؟ - من داغوبير، وهو لا يكذب.
فاصفر وجه الكونت وقال: ولكن ماذا يحمله على هذا الرفض؟ - لا أعلم يا سيدي، ولكن الذي رأيته من غضب داغوبير على اشتهاره بالسكينة أنهم قد حدثوه عنك ... وأنهم أصدروا إليه الأوامر بشأنك. - من الذي يصدر الأوامر إلى داغوبير؟ - الأب جيروم، فإنك تذكر يا سيدي أنه حين وصلنا إلى دكان داغوبير كان لا يزال في الدير. - هو ذاك. - إنه كان مختليا مع الأب جيروم، فلما خرج من الدير لم يكن على ما عهدته به من الدعة والسلامة، بل إني رأيت الشر باديا بين عينيه.
فلم يدعه الكونت يتم حديثه، وقال له: أصغ إلي يا بنوات، أتريد أن أرسلك بمهمة إلى الأب جيروم؟ - بملء الرضا يا سيدي. - إنك تذهب إليه في هذه الليلة نفسها، وترجوه عني أن يأذن بمقابلتي صباح غد بعد الصلاة. - سأذهب يا سيدي، ولكن ... - ولكن ماذا؟ - يجب أن تعطيني كتابا إليه؛ فإن الفقراء أمثالنا لا يأذنون لهم بدخول الدير، فإن الرهبان يعاملوننا بنفس العنف الذي يعاملنا به النبلاء.
فاغتم لوسيان لهذا الطلب؛ إذ لم يكن لديه في تلك الغابة شيء من أدوات الكتابة.
فقال له الأحدب: وفوق ذلك يا سيدي، فإنه لا يستطيع أحد دخول الدير بعد أن تمضي الساعة التاسعة.
فنظر لوسيان في الساعة فوجد أنها لم تتجاوز الثامنة، ورأى أنه لم يبق له غير واحد من أمرين؛ وهما: إما أن يرجع عن إرسال الرسالة في هذه الليلة، أو أنه يجب إرسالها في الحال لضيق الوقت، وإذا ذهب إلى المنزل وكتب الرسالة فيه فات الأوان.
على أن الانفعالات النفسية مهما اختلفت واشتدت فلا تعادل في شدتها تأثير الغرام، فإن هذا الكونت كان يحاول منذ نصف ساعة قتل الشفالييه، أما الآن فقد تذكر أن هذا الشفالييه الذي سيقاتله غدا لديه قلم من الرصاص ودفتر في جيبه ومشعل، فندم لاختصامه معه.
غير أن الندم على الخطأ أوجد فيه الرغبة في الإصلاح وقد تمثلت حنة في خاطره، فهان عليه أن يكلم الشفالييه ويسأله قضاء مهمة كما يسأل الصديق الصديق.
وعند ذلك لكز جواده فسار به والأحدب يتبعه، حتى وصل إلى الشفالييه فقال له: إننا سنقتتل غدا أليس كذلك؟ - هذا ما أردته أنت ولا سبيل إلى مراجعتك. - هو ذاك، ولكنك من أهل الظرف والأدب فلا أجد ما يمنعني عن أن أسألك قضاء مهمة. - قل ما تريد. - أريد قلمك الرصاص وورقة من دفترك. - هما لك، وأزيدك أني أنير لك المشعل فإنك تريد الكتابة دون شك. - لا حاجة إلى المشعل فإن نور القمر يغنيني عنه. - كما تريد. ثم أعطاه الدفتر والقلم فأخذهما لوسيان وكتب الرسالة الآتية:
إن الكونت لوسيان دي مازير المقيم في قصر دي بوربيير يرغب في مقابلة «نيافة الأب جيروم رئيس الدير» في أقرب فرصة ممكنة لمباحثته في شأن خطير.
وهو يلتمس من نيافة الأب جيروم أن يتفضل ويسمح بمقابلته له صباح غد بعد انتهاء الصلاة.
لوسيان دي مازير
ثم انتزع الورقة من الدفتر ودفعها إلى الأحدب وقال له: اذهب بهذه الرسالة إلى حيث قلت لك، وعد إلي غدا بالجواب.
فأخذها الأحدب وانطلق يعدو بين أشجار الغابة.
أما لوسيان فإنه رد الدفتر والقلم، وقال للشفالييه: أشكرك يا سيدي كل الشكر. ثم مشى إلى جانبه وهما ساكتان مطرقان لا يتكلمان.
ومر بهما عدة دقائق وهما ساكتان إلى أن بدأ الشفالييه الحديث فقال: لقد تشرفت الآن فخدمتك خدمة رأيت أنها جليلة، فهل تريد أن أرشدك إلى طريقة تكافئني بها عن هذه الخدمة؟ - أكون لك من الشاكرين، ولكن بشرط ألا تدعوني إلى مصافحتك. - دون شك، فإن قتالنا غدا لا بد منه في كل حال. - إذن تكلم. - لا شيء يروعني يا سيدي الكونت مثل السكون والوحدة، ولا يزال لدينا نحو نصف مرحلة للوصول إلى القصر، فإذا شئت خففنا مشقة هذا السير بالمحادثة. - بأي أمر تريد أن نتحدث؟ - لا فرق عندي في ذلك، ولكن إن شئت تحدثنا عن الأب جيروم رئيس الدير.
فارتعش لوسيان ارتعاشا لم يخف على الشفالييه، فقال في نفسه، أرى أنني قد ظفرت به.
9
وعند ذلك بدأ الشفالييه الحديث فقال: إنك أيها الصديق دعوتني خائنا سافلا، فلم يبق سبيل لمنع قتالنا، غير أنه لما كانت العادة ألا يوضح المتبارزان شيئا في ساعة المبارزة فقد أخبرك الآن بما مضى. - إذن تكلم يا سيدي فإني مصغ إليك. - إنك عاملتنا معاملة الرفيع للوضيع أنا وابنة عمك والبارون بسبب ذلك الفلاح، فكبرت علي هذه المعاملة حتى حملني الغضب على القول إنك اقتبست حب الفلاحين من ترددك على الحداد. - أنت قلت هذا القول؟ - وهذا كل ما قلته، ولكن ابنة عمك تحب الاطلاع على كل أمر، فأرادت أن تعلم السبب في ترددك على داغوبير، فسألتني وسألت البارون، فقال لها البارون: إنك لا تذهب إلى دكان الحداد إلا بسبب قريبته الحسناء، وقد أشرت له بيدي وعيني إشارات مختلفة، ففهم إشاراتي ولكنه لم يمتنع عن التصريح، إما لحقده عليك وإما لكونه من أهل البلاهة.
فقال له لوسيان: وماذا أجابت ابنة عمي؟ - إنها أنكرت هذه الوشاية كل الإنكار وأقسمت أن ذلك لا يمكن أن يكون، وكنت أقول لها هذا القول، ولكن هذا البارون الأبله أبى إلا الإصرار على قوله حتى اتصل إلى مراهنة الكونتس على أنك مقيم الآن مع مدموازيل حنة، فاستاءت الكونتس ورضيت بالرهان، وطلبت إلي أن أصحبها مع البارون إلى دكان الحداد، فلم أجد بدا من الامتثال، وأنت تعرف بقية ما حدث. - أحقا إن الأمر جرى كما رويته؟ - هو ما قلته لك يا سيدي الكونت فلست من الكاذبين. - إذا كان الأمر كذلك فإني أعتذر عما بدر مني وأرجوك قبول عذري. - إذا كان للحب شهداء فللصداقة شهداء أيضا، ويسوءني أنك عاملتني تلك المعاملة الجافية، فقد كان بوسعي أن أسديك نصيحة.
فهاجت في صدر لوسيان عاطفة الكرم وقال له: إني قد اعتذرت إليك أيها الصديق عما بدر مني، والآن أمد يدي لمصافحتك إذا شئت. - إني شديد الحرص على صداقتك لما أعلمه من سلامة قلبك، فكيف أرفض اقتراحك. ثم مد إليه يده فصافحه وقال له وهو يبتسم: إن خصامنا لم يشهده أحد فلا نحتاج بعد الصلح إلى إظهار ما دعانا إليه لأحد. - لقد أصبت. - إذن لقد عدنا إلى صداقتنا القديمة. - دون شك. - إذن نتكلم بما تقتضيه الصداقة من الجلاء والإخلاص، فهل أنت حقيقة تعشق هذه الفتاة؟ - أنا مفتون بها. - ولكن ألا تعلم أيها الصديق أن هذا الحب يحول دون زواجك بالكونتس؟ ونعم إنها كتبت إليك كتابا دفعتها إليه الحدة، ولكن غضب النساء سريع الزوال. - سيان عندي الآن غضبها ورضاها، فإني لا أحبها ولن أحبها ولا أكون لها زوجا. - ما هذه الأقوال يا كونت؟ أبلغ حبك لتلك الفتاة هذا المبلغ فأضاع رشادك؟ - إذا كان في هذا الحب ضياع الرشاد، فأنا ضائع الرشد لأني سأتزوجها. - لا شك أنك مجنون. - بل إني عاقل لا أتقيد بالتقاليد، وغاية أمري أني أريد أن أكون سعيدا. - أنت الكونت دي مازير أقدم رجال النسب تتزوج قروية خاملة. - إن عرش الغرام لا يرقى إليه على سلم الأنساب، وكفى بصدق الغرام نسبا. - شأنك وما تريد، فأنت ولي نفسك، غير أنه يجدر بك أن تنوي هذه النية من قبل. - لماذا؟
فابتسم الشفالييه وقال: لأنك كنت نجوت من ذاك الماء الذي تدفق عليك من النافذة. - لقد أخطأت أيها الصديق، فإني لم أجازى هذا الجزاء إلا حين جاهرت بهذه النية.
فدهش الشفالييه وقال: ماذا أسمع؟ لا شك أني من الحالمين. - بل هي الحقيقة أرويها لك أيها الصديق كما اتفقت. - إذا كنت صرحت لهذا الحداد بنيتك وعزمك على الزواج بقريبته، فأي عذر انتحله للرفض؟ - يقول إن زواج الفتاة غير منوط به، بل بالأب جيروم. - إن كان كذلك فقد فهمت كل شيء. - قل ماذا فهمت؟ - فهمت أن هذا الراهب سيصر على رفض هذا الزواج أكثر من إصرار داغوبير.
فبهت لوسيان وقال: لماذا؟
وكان الشفالييه كثير المكر شديد التفنن باختراع الحيل وتلفيق الأحاديث، فأطرق هنيهة ثم قال له: ألم تجد أن هذه الفتاة الحسناء التي تحسبها قروية مترفة الكف ناعمة البنان صغيرة القدمين. - ماذا تريد بهذا؟ - أريد أن هذه النعومة لا توجد عادة في النساء القرويات؛ ولذلك فقد تبادر إلى ذهني أن هذه الفتاة قد تكون من أسرة نبيلة.
فصاح لوسيان صيحة فرح وقال: حبذا لو صح ما تقول، فلا أجد بينكم معارضا لي في زواجها. - ولكني أرى أن الرهبان قد استولوا على ثروتها.
فتحمس لوسيان وقال: إذا ثبت ذلك بسطت حمايتي عليها وطالبت الدير بثروتها. - ولكنك لا تستطيع ذلك إلا إذا كنت زوجها. - وما يمنعني أن أكون زوجا لها؟ - الأب جيروم، فإنه يؤثر أن يزوجها فلاحا لا يجسر على المطالبة بحقها فتبقى الثروة لأولئك الرهبان. - ولكني أحب حنة ولا أجد بدا من الاقتران بها. - إن هذا محال إذا نهجت النهج الذي رسمته لنفسك. - إذن ماذا يجب أن أصنع؟ - دعني أسألك في البدء ماذا كتبت للأب جيروم؟ - سألته أن يأذن لي بمقابلته. - إنه سيرفض طلبك. - أتظنه يفعل؟ - بل أؤكد، فاصبر إلى الغد، فإذا كان جوابه الرفض كما أتوقع، فأنا أرشدك إلى طريقة تسهل لك سبيل الزواج بمن تحب.
فمد لوسيان يده إلى هذا الصديق الكاذب وشكره شكر الممتن لفضله.
فقال الشفالييه وقد تكلف لهجة الإخلاص: كفى أيها الصديق، فقد وصلنا إلى القصر.
وكان دليل الصيد قد تقدمهم إلى المنزل، فروى جميع ما حدث في الغابة وما كان من اختصام لوسيان مع ابنة عمه، وتنوقلت هذه الحادثة بين أهل القصر حتى بلغ خبرها إلى أم لوسيان، غير أن الكونتس لم تحفل بهذا الخصام لاعتقادها أنه حادثة عارضة وأن الصلح بين الخطيبين سهل ميسور.
فلما دخل لوسيان والشفالييه استقبلتهما الكونتس حسب العادة، فأقام لوسيان بينهما مدة وجيزة بعد العشاء ثم اعتذر ودخل مضجعه، وهو يود لو محق الليل وأشرق الصباح فيعلم ما يكون من جواب رئيس الدير.
ولم يكد يشرق الصباح حتى هب لوسيان من رقاده وأقام ينتظر الأحدب بفارغ الصبر، فلم يطل انتظاره حتى أقبل الأحدب يحمل رسالة من الأب جيروم، فأخذها لوسيان بيد تضطرب وقرأ ما يأتي:
سيدي الكونت
إني مريض لا تسمح لي العلة بمقابلة أحد، وفوق ذلك فليس بيني وبينك من المهام ما يدعو إلى المقابلات الخاصة، إلا إذا كنت تريد مقابلتي في شأن يتعلق بصالح الدير، فإذا كان ذاك فأرجو أن تقابل وكيلي فإنه ينوب عني في قضاء هذه المهام.
الأب جيروم
فحمل لوسيان الكتاب وذهب به إلى الشفالييه وهو يزبد من الغضب، فدفعه إليه وقال: لقد كنت مصيبا في ما توقعته.
فقرأ الشفالييه الكتاب ثم رده إليه وقال له: أتريد الآن أن أرشدك إلى الطريقة التي وعدتك بها. - بلا ريب، ولأجل هذا أتيتك. - ألا تزال عازما على الاقتران بحنة؟ - كل العزم، فلا يحول دون هذا القصد حائل. - إذن فاعلم أن طريقتي بسيطة جدا. - ما هي؟ - هي أن تختطفها.
ففكر لوسيان وقال: ولكن الأب جيروم حريص عليها. - نغتنم فرصة انشغاله مع الرهبان بصلاة الصبح. - وداغوبير؟ - أنا أتعهد به. - كيف؟ - إني أزيله عن طريقك. - أترتكب جناية؟ - كلا، ولكني أستطيع إبعاده عنك ثمانية أيام، وفي خلال هذا الأسبوع تتمكن من الذهاب بالفتاة إلى باريس، وهناك يعقد زفافكما أول كاهن تراه.
ثم ضحك ضحك الفوز والانتصار، وقد أيقن أن الكونت لوسيان بات في قبضة يده يتصرف به كيف شاء.
10
ولنعد الآن إلى مدموازيل أورور التي تركناها سائرة في طريق سولي يصحبها الشفالييه والبارون، فإنها كانت تسير دون أن تفوه بكلمة، وقد احترم الفارسان سكوتها فلم يكلماها.
ولما وصلت إلى سولي، التفتت إلى الشفالييه وقالت له: إني أريد أن أعهد إليك بإيصال رسالة إلى ابن عمي الكونت لوسيان دي مازير.
فانتزع الشفالييه ورقة من دفتره ودفعها إلى الكونتس، فكتبت إلى ابن عمها كتابا مؤلما فقطعت به معه كل علاقة واتصال، فأخذه الشفالييه وسار إلى لوسيان كما تقدم.
أما أورور فإنها سارت مع البارون عائدة إلى منزلها، فكانت ساكنة وعلائم الغضب بادية بين عينيها، ولكنها مع ذلك تصغي إلى حديث البارون، فإنه كان يحدثها بحكاية ربيبة الدير تلك القروية التي فتن بها لوسيان وآثرها عليها.
على أن البارون لم يكن يروي لها حكاية حنة الحقيقية، بل كان يقص عليها من أمرها ما كان يتناقله الناس والإشاعات المختلفة فيها، حتى كان من جملة ما رواه عن هذه الفتاة أنها ابنة رئيس الدير الشرقي، ولدت سفاحا وعهد إلى الأب جيروم بتربيتها.
فكانت أورور تسمع أحاديثه دون أن تجيب، وكان البارون صابرا على جفائها.
ولكن الأمل كان ملء فؤاده، فكان يقول في نفسه إنه سيصحبها إلى منزلها وستدعوه إلى مناولة العشاء معها دون شك، فيغتنم هذه الفرصة للفوز باسترضائها على مزاحمة الشفالييه.
على أن رجاءه قد خاب، فإنهما حين اجتازا الغابة ودنوا من المنزل، وصلا إلى عطفتين إحداهما تؤدي إلى منزل الكونتس.
أوقفت جيادها ومدت يدها للبارون فصافحته وقالت له: إني أشكرك شكرا جزيلا يا سيدي البارون، وها قد بلغت إلى منزلي فلا حاجة إلى إزعاجك بإيصالي إليه.
فاستاء البارون استياء شديدا وحاول أن يلح عليها بإيصالها إلى المنزل، غير أنها لم تدع له وقتا للكلام فإنها ودعته وأطلقت لجوادها العنان.
وقد جرت شوطا بعيدا وهذا البارون واقف في مكانه وهو حائر مبهوت.
أما أورور فإن العواصف كانت هائجة في صدرها، وقد كبر عليها أنها لم تعد تستطيع أن تستعيد بجمالها لوسيان، فباتت تعده من أسفل الرجال لا سيما بعد أن تحول عنها لافتتانه بفتاة قروية لا نسب لها يعرف وقد ربيت في دكان حداد بين عصبة رهبان.
غير أن أورور على كبريائها كانت عادلة، فإنها رأت حنة على نور المصباح المضيء في دكان داغوبير فاعترفت بأنها من أجمل الفتيات، وقد رسمت الغيرة وجهها في مخيلتها حتى كانت تراها كلما فكرت بها كأنها أمامها، إلى أن وقف جوادها عند باب المنزل فأسرع الخدم إليها، وفتحت عند ذلك نافذة وظهر منها رأس شيخ.
وكان هذا الشيخ والد أورور، فقال لها: كيف عدت يا أورور؟ ألا تتعشين في بوبيير؟
فأجابته بجفاء: كلا. - لماذا؟
فلم تجبه بشيء، ولكنها ألقت عنان جوادها لأحد الخدم وصعدت إلى المنزل.
وكان أبوها مصابا بداء النقرس وقد اشتد عليه الداء في ذلك اليوم حتى ضيق أخلاقه.
فلما صعدت ابنته إليه استقبلها بجفاء وقال لها: أنت تعلمين أني أؤثر العزلة حين تشتد علي أعراض هذا الداء، فلماذا عدت بعد عزمك على العشاء في بوربيير؟ - إني لم أعد يا أبي إلا لاشتداد هذه الأعراض عليك.
فابتسم أبوها ابتسام المشكك وقال: إنك ما عودتني يا أورور مثل هذا البر بي فقولي الحقيقة، فلا بد أن يكون هناك سبب دعاك إلى الحضور قبل العشاء. - لقد أصبت يا أبي. - إذن أخبريني بما جرى. - إني اختصمت مع لوسيان. - إنه خصام غرام.
فاتقدت عينا الفتاة ببارق من الحقد، وجلست أمام أبيها فقالت له: لعلك متمسك يا أبي بتزويجي من لوسيان؟ - دون شك يا ابنتي، فلم يبق من أسرتنا إلا أنت وهو، ويجب أن نحصر ثروتنا بينكما. - ولكن هذا محال يا أبي، فإني لا أريد الزواج بلوسيان. - إنك ورثت يا ابنتي من أمك بعض تسرعها، فإني حين كنت خطيبها وهي من نساء الشرف في بلاط بافاريا، كانت تقول مثل قولك إذا استاءت مني أقل إساءة.
أجابت: إني غير متسرعة كما تقول، فاعلم يا أبي أن لوسيان لن يكون زوجي، وإني أؤثر أن أكون عروسة الموت على أن أكون عروسة له.
فأكبر أبوها الأمر وقال لها: أجد ما تقولين؟ - كل الجد، فإني أكره لوسيان وأحتقره. - ولكن ماذا حدث؟ وماذا بدر منه؟ - إنه لا يحبني. - أواثقة أنت مما تقولين؟ - نعم، وقد وثقت بأنه يحب سواي. - إذا كان ذلك فإنه ذنب لا يغتفر. - هو أذنب هذا الذنب. - إن هذا محال، فإني أعرف ما ينطوي عليه صدر لوسيان. - ولكني لم أقل لك إلا الحقيقة.
فهز كتفيه وقال: إني أعرف جميع النبلاء في هذه الضواحي فلم أجد في قصورهم فتاة جديرة بمزاحمتك فيه.
أجابت: إنه لم يعشق من في القصور، بل عشق فتاة قروية تقيم في دكان حداد.
وقد قالت هذا القول بصوت يتهدج من الغضب.
أما أبوها فإنه ضحك ضحكا عاليا وقال: أمن أجل هذا اختصمتما؟
فتأثرت الفتاة لضحكه وقالت: يظهر أنك لم تصدقني يا أبي.
وكان أبوها من مشاهير أهل الدعارة في عهد صباه، فقال لها: بل إني واثق من صدقك فيما تقولين، ولكن هذا يدل على أن لوسيان ابن أبيه؛ أي ابن أخي. - إني لم أفهم ما تريد. - أريد أن لوسيان يحبك حبا مقدسا لا شك فيه، ولكنه أراد أن يتلهى بمغازلة تلك الفتاة إلى أن يتم قريبها صنع نعل فرسه.
ثم قهقه ضاحكا وقال: لعل تلك الفتاة جميلة؟
فاصفر وجه أورور من الغضب، وبلغت منها الحدة أنها مزقت قفازها بأسنانها.
أما أبوها فإنه لم يكترث لغضبها وقال لها: وماذا عليك من مغازلته لتلك القروية؟ فإنه في مقتبل العمر ولا بد له من الاندفاع في تيار الشباب، حتى إذا تم عقد القران بينكما انصرف عن هذه السفاسف ومنح تلك الفتاة هبة تعينها على الزواج.
فأنفت أورور من سماع هذه الكلمات البذيئة المعاني، السافلة المبدأ، وخرجت من غرفة أبيها مغضبة، وظواهر الأنفة والاشمئزاز بادية بين عينيها، فدخلت إلى حجرتها وكتبت رسالة إلى والدة لوسيان وأرسلتها مع أحد الخدم، ثم تعشت وحدها.
ولم تكن أورور تحترم أباها فزادها كلامه الأخير احتقارا له، وكانت تعلم أنه جرى شوطا بعيدا أيام صباه في ميادين الدعارة والفساد.
وكانت قد سمعت مرة من امرأة عمها كلاما دعا إلى انقطاع الزيارات بينها وبين أبيها، فكانت تقول في نفسها: لا بد أن يكون أبي قد ارتكب ذنوبا لا تزال تتمثل في ضميره إلى الآن.
ثم ذكرت ما بينها وبين أبيها من التباين في الأخلاق والمبادئ حتى أوشكت أن تنكر نفسها؛ إذ لم يخطر لها أن أباها يكلم ابنته بمثل ما كلمها به.
وهنا تاهت في مهامه التفكير وعادت بتصورها إلى عهد الحداثة، فذكرت أن أباها كان يقيم في البلاط الملوكي في ميونخ، وأنها رأت مرة رجلا دخل إليه، فكلمه بلهجة تشف عن الغضب والاحتقار، وذكرت أن أباها كان يدعو هذا الرجل: «يا أبي»، ثم ذكرت أن هذا الرجل خرج من حجرة أبيها وهو يقول: إني أشكرك، ولم يعد بيننا أدنى اتصال.
وكانت في ذلك العهد صغيرة تلعب في القاعة، فلم يفطن لها المتحدثان وقد تجسمت الآن الذكرى في مخيلتها فقالت: لا بد أن يكون لأبي سر عظيم ولا بد أن يبوح لي بهذا السر.
وعند ذلك خرجت من حجرتها وعادت إلى حجرة أبيها، فقال لها بلهجة المتهكم: أراك عدت إلي، فهل سكن ثائر غضبك؟
فأجابته ببرود قائلة: إني قد بلغت الرشاد وبات يحق لي الوقوف على أسرارنا العائلية. - أية أسرار يا ابنتي؟ وماذا تريدين أن تعرفي؟ - أريد أن أعرف السبب الذي دعا إلى هذا التقاطع بينك وبين امرأة عمي، فإن كلا منكما يحاذر أن يرى الآخر.
فاصفر عند ذلك وجه أبيها وجعل ينظر إليها نظرة الفاحص، فقاومت نظراته وقالت له بلهجة السيادة: إني أريد أن أعلم.
11
وكانت تقول هذا القول وعلائم صدق العزيمة بادية بين عينيها، حتى إن أباها اصفر وجهه واضطرب وقطب حاجبيه.
ولكن اضطرابه لم يطل، فإنه عاد إلى سكينته وابتسم ابتسام الساخر، وقال لها: أتعلمين يا ابنتي، إنك تسألينني سؤالا يصعب الجواب عليه. - مهما يكن من أمرك معها، فلا يخلق كتمانه عن ابنتك. - وماذا تظنين أن يكون بيني وبينها؟ فإن غاية ما بيننا فتور دعت إليه أخلاقها الغريبة، ثم إني أعلم أنها لا تحبني ولذلك ترينني منقطعا عن زيارتها. - إني قد أكتفي بهذا السبب الذي ذكرته لو كنت لا أزال في عهد الحداثة، ولكنه لا يجوز علي الآن وقد بلغت سن الرشاد. - إذن ماذا تريدين أن أقول لك؟ - الحقيقة. - ليكن ما تريدين، فاعلمي إذن أن امرأة عمك لا تحبني ولا تحترمني. - لماذا لا تحترمك؟ - لأني كنت سيئ السلوك في عهد صباي. - أهذا هو كل السبب؟ - نعم. - فهزت كتفيها وقالت: أرى يا أبي أني لم أفصح معك القول، فهل تريد أن أصرح؟ - دون شك. - إنك ربيتني يا أبي وغرست في نفسي فكرة الزواج بلوسيان، وكذلك الكونتس امرأة عمي فقد عللت ابنها لوسيان بزواجي منذ الحداثة، ولكنك مع ذلك تحاول اجتناب الكونتس وهي تحاول اجتنابك. - هو ذاك، فماذا تستنتجين من ذلك؟ - لم أستنتج شيئا من ذلك بعد، ثم إن ما بينكما لا يدل على الفتور فقط بل على الكره الشديد فإنها قد تجاهر بكرهك، وأنت إذا ذكر اسمها أمامك يصفر وجهك. - إني لم أفهم قصدك بعد. - أتريد أن تفهم كل ما يجول في خاطري؟ - إني مصغ إليك. - أرى يا أبي أنه يوجد بينك وبين الكونتس دي مازير سر هائل ... وربما كان بينكما أيضا ...
وهنا توقفت عن الكلام كأنها لم تجسر على إتمام الحديث، فقال لها أبوها: ماذا ترين بيننا أيضا؟ - عفوك يا أبي، فإني مدينة لك بالاحترام وأخشى أن أتجاوز حده إذا قلت هذه الكلمة التي توقفت عن قولها، ولكنها تحرق شفتي. - قوليها ولا بأس عليك. - أخاف أن يكون بيننا ما هو فوق السر. - لعلك تريدين القول إن بيننا جريمة؟
فأطرقت أورور برأسها ولم تجب.
وساد السكون هنيهة بينهما، إلى أن عاد أبوها إلى الحديث فقال: إني لا أستطيع يا ابنتي أن أقول لك شيئا، فقد يكون سرا أو فوق السر كما تقولين، غير أني لا أستطيع أن أبوح لك بشيء إلا بعد زواجك. - ولكني قلت لك إني لا أريد أن أتزوج لوسيان. - ولكنك ستتزوجين سواه؛ إذ لا بد لك من الزواج، وعند ذلك أي حين تستبدلين اسم والدك باسم ذلك الزوج نعود إلى تتمة هذا الحديث.
فألحت عليه وقالت: ما يمنعك أن تقول اليوم ما تريد أن تقوله غدا؟ - إن ألمي شديد يا أورور، فلا تلحي علي أو حسبت إلحاحك عصيانا لإرادتي.
ثم قرع جرسا أمامه، فدخل خادم حجرته فقال له: أنر يا بنيامين طريق ابنتي وأوصلها إلى حجرتها وعد إلي، فإن أعراض الداء شديدة علي الليلة.
وهكذا خرجت أورور من حجرة والدها مع ذلك الخادم الشيخ.
أما ذلك الخادم، فقد كان قديما في خدمة هذا البيت حتى إنه نشأ فيه وولدت أورور مدة خدمته.
فلما رآها تضطرب ورأى عينيها تتقدان، أدرك شيئا من حقيقة ما جرى فأوصل الفتاة إلى حجرتها وهو ينظر إليها نظرات حزن لم تخف عن الصبية، فدخلت وهي متأثرة من والدها ومن نظرات ذلك الخادم تأثرا شديدا، وقالت في نفسها: إنه إذا كان هناك سر فلا شك أن بنيامين عارف بهذا السر.
وكان بنيامين هذا ألماني الأصل يدعى فرينز، فلما رجع إلى فرنسا مع والد أورور سماه سيده بنيامين.
وكانت والدة أورور ألمانية أيضا، فاتصل بنيامين بخدمتها قبل أن تلد أورور، وقد ماتت الأم وابنتها طفلة فلم تكد تذكرها.
ولكن جميع تذكارات الحداثة عادت إليها في هذه الليلة، فذكرت أن بنيامين كان يبكي بكاء شديدا حين وفاة أمها، بل ذكرت أنها سمعت حديثا جرى بين الخادم وبين والدها، فذكرت أن الخادم كان يقول له: كلا، لا أبرح هذا المنزل؛ لأنها قبل وفاتها أمرتني ألا أفارق ابنتها لحظة.
وهو حديث غريب بين خادم ومخدوم.
بل ذكرت أيضا أن بنيامين كان يعبدها عبادة في زمن حداثتها، ثم أخذت ظواهر حنوه تتناقص تدريجيا حتى بات كأنه لا يكترث بها، فكيف حدث هذا الانقلاب؟
عزمت أورور في هذه الليلة أن تعلم كل ما أشكل عليها من هذه الحوادث، فلم تعد تفتكر بلوسيان بل كانت أفكارها منصرفة إلى أمها.
وأقامت في غرفتها وصبرت إلى أن سمعت صوت إقفال حجرة والدها، فخرجت من غرفتها ولقيت بنيامين خارجا من عند والدها، ووضعت يدها على كتفه وقالت له: اتبعني.
وسارت به إلى حجرتها وأقفلت الباب.
وقد لبث بنيامين واقفا في حضرتها تأدبا فقالت له: اجلس يا بنيامين، فإني سأحدثك وإن حديثنا سيطول.
وامتثل الخادم وجلس قربها، فقالت له: إنك عرفت أمي يا بنيامين، أليس كذلك؟
فقال لها الخادم الشيخ: نعم يا سيدتي.
وقد اضطرب وسالت دمعة على خده.
وقالت له أورور: لماذا لم تحدثني عنها؟ ولماذا انقلبت هذا الانقلاب وبت تنهج معي مناهج الاحتراس والتحفظ بعدما عودتني الحب الأكيد في زمن الحداثة.
وأطرق الشيخ دون أن يجيب.
وسألت: وأخيرا عما حدث بين أبي وامرأة عمي، وما يدعوهما إلى الكره؟
وارتعش الشيخ لقولها، وقال لها: لماذا تسألينني هذه الأسئلة يا سيدتي؟
أجابته بلهجة أثرت عليه تأثيرا عظيما: ذلك لأني أريد أن أعرف كل شيء، ولماذا لم تذكر لي أمي مرة في جميع مدة اتصالك بنا؟ أجب إني أريد أن أعرف كل شيء.
واتقدت عيناه ببارق دل على تولد إرادة فجائية في نفسه وقال: اعلمي يا سيدتي أن أمك لم يكن لها غير صديق واحد حين فارقت هذه الحياة، وهذا الصديق كان أنا. - ألم تعهد إليك بالعناية بي؟ - نعم. - لعل أبي طردك بعد وفاتها من المنزل، أليس كذلك؟
فدهش وقال: كيف عرفت هذا؟ - إني سمعت الحديث حين كنت طفلة، ولا يزال عالقا في ذهني إلى اليوم. - إذن اعلمي أن أمك عهدت إلي بمهمة، وإذا كنت ترين أني لم أقم بقضائها، وإذا رأيت مني هذا التحفظ الشديد عقب ذلك الحب القديم، فذلك لأني لا أراك تنهجين مناهج أمك في شيء. - ماذا تعني بذلك؟ - إن أمك كانت من ملائكة الله يا سيدتي، وأنت أصبحت متكبرة عنيفة شديدة الوقع على الفقراء، قليلة الاكتراث بمصائب البؤساء، وشتان بينك وبينها، فأنت وإياها على طرفي نقيض. - وإذا ثبت إلى رشادي، واقتلعت هذه الطباع من نفسي وتخلقت بأخلاق أمي؟
فجثا الشيخ على ركبتيه واغرورقت عيناه بالدموع وقال: أرى أنك بدأت تشبهينها؛ لأن صوتك لا يختلف عن صوتها. - بل أريد أن يكون لي قلبها، وقد قلت لي إن أمي عهدت إليك بمهمة، فما هي هذه المهمة؟ - سوف ترين، فتفضلي بانتظاري يا سيدتي.
ثم تركها وخرج من الغرفة وغاب هنيهة، ورجع يحمل صندوقا صغيرا من خشب الأرز ووضعه أمام الفتاة وقال لها: هذا ما أمرتني أمك أن أسلمك إياه وهي على فراش الموت حين تبلغين سن الرشاد.
ثم دفع إليها مفتاح الصندوق، فأخذته وفتحت الصندوق بيد ترتجف ووجدت فيه مدالية وأوراقا.
وقد استلفتت المدالية في البدء نظرها، فأخذتها ونظرت فيها فإذا هي رسم امرأة، ولكنها لم تكد تتبين الرسم حتى صاحت قائلة: رباه! ماذا أرى؟ لعلي جننت؟
ذلك أن هذا الرسم كان يشبه تلك الفتاة التي رأتها عند داغوبير شبها عجيبا حتى كأنه رسمها، فالتفتت إلى بنيامين وقالت له: بربك قل لي، من هي صاحبة هذا الرسم؟
فلم يجبها بنيامين بحرف وخرج من الغرفة تاركا الصندوق أمام أورور.
12
مر بذلك ثلاثة أيام، كانت أيام رموز وأسرار إذا صدقت تلك الحوادث التي جرت في قصر بوربيير، وهو القصر الذي يقيم فيه لوسيان وأمه الكونتس دي مازير.
إن والدة لوسيان لم تكترث بخصام ابنها وخطيبته، وكانت تعتقد أنه سيذهب في الصباح إليها ليصالحها.
غير أن لوسيان لم يفعل شيئا من هذا، فإنه ركب في الصباح جواده يصحبه الشفالييه وقد لبس كلاهما ملابس الصيد.
وكانت أمه تراقبهما من وراء زجاج النافذة، حتى ابتعدوا وهي تحسب أن ابنها ذهب توا إلى خطيبته ليسترضيها، ويذهب بها إلى الصيد.
غير أن رجاءها قد خاب؛ لأن لوسيان رجع في المساء وحده لأن صديقه الشفالييه رجع إلى منزله.
فدخل لوسيان إلى حجرته لتغيير ملابسه، واغتنمت أمه هذه الفرصة وعلمت من دليل الصيد أن ابنها لم يذهب إلى منزل أورور خطيبته وأنها لم تحضر حفلة الصيد.
ورجعت إلى غرفتها ودعت ابنها إليها وقالت له: لا يزال لدينا ساعة قبل أوان العشاء فلنتحدث في خلالها.
ونظر لوسيان إلى أمه، ورأى أن هيئتها تدل على الجد والخطورة.
وكانت والدة لوسيان بين العمرين، ولكنها أقرب إلى عهد الشباب منها إلى عهد الكهولة كما تدل ظواهر جمالها، في حين أنها بلغت الخامسة والأربعين.
وكانت ممشوقة القوام، شقراء الشعر، سوداء العينين، إذا ابتسمت دل ابتسامها على الترفع واحتقار ما يبدو لأنظارها، ومعظم هيئتها تدل على العظمة والجلال.
وكانت مثل الكونت دي مازير والد أورور كثيرة السويداء، إذا تاهت في مهامه التفكير ظهر أنها متعبة البال وأن في حياتها سرا من الأسرار التي يؤلم تذكارها.
غير أن لوسيان لم يكن مثل أورور، فإنه لم يكترث لظواهر أمه ولم يكن يحاول أن يكتشف أسرارها، ولم يخطر له أن يبحث عن ماضيها في حال من الأحوال.
فلما نادته أمه وجلس قربها يسمع ما تريد، قالت له: لقد بلغت الآن سن الرشاد يا بني، وقد آن لي أن أكلمك كما أكلم الراشدين.
فذعر لوسيان لملامح جدها، وقال لها: ماذا عسى أن تقولي لي يا أماه؟ - إني أريد أن أحدثك بشأن مستقبلك، فإنك اختصمت منذ يومين مع ابنة عمك الكونتس أورور، في حين أنك تعلم علم اليقين أنها ستغدو امرأتك.
فأطرق لوسيان دون أن يجيب .
فقالت له: إن أورور تهواك يا لوسيان. - كلا. - كيف ذلك؟ لعلها كتبت لك أنها تكرهك؟ - كلا. - إذن على أي شيء تعتمد في ثقتك أنها لا تهواك؟ - على هذه الرسالة.
ثم أعطاها الرسالة التي كتبتها أورور وأرسلتها إليه مع الشفالييه يوم حادثة الصيد، فأخذتها أمه وقرأت ما يأتي:
يا ابن عمي
أنت بت عالما مثلي دون ريب أنه لم يبق فائدة من هذه المواربة التي قد تنتهي بيننا إلى ما لا تحمد عقباه، فارجع عن خطبتي لأني لا أستطيع أن أهواك، ولنعش قريبين لا خطيبين، فإن زواجنا محال.
ابنة عمك
أورور
فلما أتمت تلاوته قالت له: إن هذا الكتاب يدل على محاولتها نكايتك. - ربما، ولكنه يتضمن أمرا آخر لا ريب فيه. - ما هو؟ - هو أنها لا تحبني. - أنت مخطئ يا بني، فإن النساء لا يؤخذن بأقوالهن. - إذا كنت مخطئا في عرفان قلبها، فلست مخطئا في عرفان قلبي. - كيف هذا؟ - إني لا أحبها.
فاضطربت أمه ونظرت إليه نظرة تشف عن الانذهال العظيم، ثم قالت له: ما معنى هذه الأقوال يا لوسيان؟ - إنها الحقيقة. - ما هذا يا بني؟ هل جننت؟ - إني لا أحب أورور ولا أكرهها، ولكني لا أريد أن أتزوجها. - لماذا؟
فاحمر وجه لوسيان ولم يجب.
وكأنما هذا السكوت قد أثر على أمه، واستشفت منه دلائل العزم الأكيد، فقالت له: أرى أنه لا بد لي أن أذكر لك أمورا كنت أؤثر الإغضاء عنها.
ونظر إليها لوسيان منذهلا وقال: ماذا تعنين يا أماه؟ وما هذه الأمور؟ - أنت تعجب دون ريب حين تراني مصرة على تزويجك بأورور، في حين أنت تراني أكره أباها أشد كره. - هي الحقيقة، فقد خطر لي مرارا ذاك الخاطر دون أن أستطيع تأويله. - لقد آن أوان الإباحة بكل شيء. - تكلمي يا أماه إني مصغ إليك. - لقد كان لأبيك يا بني شقيقان، أحدهما والد أورور والآخر كبير بيت دي مازير.
وكانت أسرة مازير فقيرة ولكنها عريقة بالنسب، فتزوج عمك الأكبر أميرة ألمانية فنال منها ثروة عظيمة.
فمنذ سبعة أعوام؛ أي بعد وفاة والدك بزمن طويل، احترق قصر عمك فالتهمته النار مع امرأته وولده، وهو هذا القصر الذي نقيم فيه الآن، وقد اتصل إلينا بالإرث وأعدنا بناءه. - لعلنا ورثنا أمواله؟ - نعم، ولا. - إني لا أفهم ما تقولين. - إن رجال الشرع حين جردوا ثروة عمك صاحب هذا القصر الذي ورثناه منه، قالوا إن ثلاثة أرباع هذه الثروة مفقود، وإن المال المفقود كله أوراق مالية موضوعة في صندوق صغير من الحديد، غير أن هذا الصندوق لم نجده فلم نرث غير الأرض، فاقتسمناها مع عمك والد أورور. - ألم تعلموا من أخذ الصندوق؟ - كلا، ولكن أصغ لي، فإن لعمك المتوفى قصرا في باريس في شارع باي، كان الصندوق فيه، فلما كان عمك المتوفى هنا دخل لص إلى القصر في باريس ومعه شريكان، فأوثقوا حارس القصر وكمموا فمه غير أن الحارس عرف اللص بالرغم من تنكره. - لعله تمكن من سرقة الصندوق؟ - هذا ما نظنه. - ولكن أية علاقة يا أماه بين هذه السرقة وبين كرهك عمي والد أورور؟ - إن ذلك اللص الذي عرفه حارس القصر كان عمك والد أورور.
وقف لوسيان منذعرا وقال: رباه! ماذا أسمع؟ أيمكن هذا أن يكون؟ - لقد كان، فإننا لو افترضنا أن الحارس قد خدع به فكيف اختفى الصندوق؟
فسكت لوسيان هنيهة ثم قال: أرأيت يا أماه كيف أني لا أستطيع الاقتران بأورور؟ - لماذا؟ - كيف تسألينني وأنت تقولين إن أباها سرق المال؟ فهل تريدين أن أتزوج ابنة لص؟ - إني أريد أن تتزوجها كي يعود هذا المال إليك بعد وفاة أبيها، وليس ذاك اليوم ببعيد، فإن مرضه شديد.
فقاطعها لوسيان وقد بدت عليه علائم الكراهة والاشمئزاز وقال: يشهد الله يا أماه أعبدك وأحترمك ولا أحب حبا يعادل حبي لك في هذا الوجود، ورجائي أن ما أردت قوله الآن غير تجربتي.
ثم حيا أمه وحاول الانصراف، فأدركت أمه أنها تسرعت في إخباره مثل هذه الأمور مرة واحدة وقالت له: إذا كان الأمر كذلك، فلندع أمر هذا الزواج في الوقت الحاضر. - بل وفي كل حين، وأرجو ألا تحدثيني به فإنه محال. وبعدها فتح الباب ودخل الخادم وقال: إن العشاء يا سيدتي قد تهيأ.
فدخل لوسيان مع أمه إلى قاعة الطعام فتعشيا ثم افترقا.
ودخلت أمه إلى غرفتها فجعلت تقول في نفسها: إني قد أخطأت خطأ عظيما بعدم مراقبة لوسيان، فإن قراءة كتب الفلاسفة قد جعلته يحتقر المال ويميل إلى مبادئهم، وقد أخطأت أيضا بما رويته له عن عمه، ولكني أرجو أن يصلح اجتماعه بأورور ما أفسدته بتسرعي.
وفيما هي تناجي نفسها دخلت عليها تنوان وهي وصيفتها، فقالت لها الكونتس: أرأيت لوسيان يا تنوان؟ - نعم، إنه يتنزه في الحديقة ولكن ملامح الغضب بادية بين عينيه، ولا شك بحت له ببعض الأسرار. - نعم، فلقد أخبرته بشأن عمه. - أخطأت يا سيدتي خطأ لا يغتفر، لا سيما وأنت تتهمين والد أورور نفس التهمة التي يتهمك بها. - لم أفهم ما تقولين؟ - إن الكونت إذا كان يريد تزويج ابنته أورور بلوسيان فلاعتقاده أنك أنت سارقة الصندوق.
فذهلت الكونتس وجعلت تنظر إلى الوصيفة نظر الفاحص دون أن تتكلم.
13
إن هذه الوصيفة كانت تبلغ عمر سيدتها الكونتس، وهي ليست على شيء من الجمال، ولكن في عينيها سر عجيب ولنظراتها تأثير غريب.
وكانت من إحدى قبائل النور، قدمت إلى باريس في صباها تلتمس الرزق، فاقتبست في تلك العاصمة من الدهاء والحيلة ما جعلها في طليعة الماكرات من بنات حواء.
وبعد أن ارتكبت جميع أنواع الموبقات، سنحت لها فرصة فاتصلت لدهائها بوالدة لوسيان وكانت لها وصيفة دون أن تعرف حقيقة ماضيها، فلم يمض بها ردح من الزمن حتى باتت سيدة القصر المطلقة لها الكلمة النافذة والقول الفاضل فيه، حتى إن لوسيان نفسه كان يخشاها والكونتس لا تخرج في شيء عن رأيها.
ولم يكن دخولها في خدمة الكونتس إلا لمآرب لها، فقد وقفت لمكرها على أسرار الكونتس، وكانت تعرف مصطلحات فن التنجيم فكانت تتذرع بها إلى بلوغ غاياتها.
فلما دخلت إلى الكونتس وقالت لها: إن الكونت يعتقد أيضا أنك أنت سارقة الصندوق.
ساد السكون هنيهة بينهما، ثم قالت لها الكونتس: لقد تقدم لك أنك ألمت لي مثل هذا القول، فكيف تبرهنين عليه؟
فقالت لها النورية: على ماذا تريدين البرهان؟ أعلى اعتقاد الكونت أنك السارقة؟
قالت: نعم.
فجلست تنوان النورية قربها وقالت لها: إذن فاعلمي أن والد أورور نفسه قال لي هذا القول. - متى؟ وكيف كان ذلك؟ - إني ذهبت برسالة إلى مدموازيل أورور فلم تكن ساعتئذ في القصر لانشغالها بالصيد، فلقيني أبوها واستقبلني استقبالا حافلا وأجلسني بجانبه، ثم جعل يسألني الأسئلة العديدة، فكان مما قاله لي: أتعلمين يا تنوان أن سيدتك تعيش عيش اقتصاد لا ينطبق على ثروتها الطائلة؟
فقلت له: ولكن ثروة سيدتي لا تزيد عن ثروتك، فقد اتصلت إليكما من مصدر واحد واقتسمتماها على السواء.
فهز كتفيه وقال: والصندوق؟ ولكن لا بأس فابنتي ستجده إذا أنكرت الكونتس وجوده.
فقاطعتها الكونتس وقالت: أهو قال هذا القول؟ - نعم. - أكانت لهجته صادقة؟ - إني تبينت صدقه في اعتقاده من لهجته ومن عينيه. - إذا كان كذلك، فلا أبالي بعد الآن بما حدث من المقاطعة بين لوسيان وأورور، فإنه يجد كثيرا من الفتيات الغنيات يتزاحمن عليه. - وفوق ذلك يا سيدتي، فإن أخلاق أورور مناقضة لأخلاق لوسيان أتم التناقض فلا يجدان في زواجهما ساعة هناء.
غير أن الكونتس لم تكن تفتكر بولدها أورور، بل كانت منصرفة باهتمامها إلى الصندوق، فقالت للنورية: إذا كان والد أورور لم يسرق هذا الصندوق، فمن سرقه؟ وأين هو؟
فاتقدت عينا نورية لهذا السؤال الصريح وقالت: إني واثقة يا سيدتي من أنك تصغين لي إلى النهاية.
قالت: تكلمي. - إخالني واثقة من معرفة السارق. - من هو؟ - هو الكونت دي مازير نفسه، بكر هذه العائلة وتارك الإرث. - ما هذا الجنون يا تنوان؟ إن الكونت قد التهمته النار مع امرأته وابنته.
فابتسمت النورية وقالت: أأنت واثقة يا سيدتي أن الابنة قد احترقت أيضا في القصر؟
فارتعشت الكونتس وقالت: إذا لم تكن قد احترقت فأين هي؟ وماذا جرى لها؟ - إنهم وجدوا جثتي الكونت والكونتس ولكنهم لم يجدوا جثة الفتاة. - من أنقذها؟ - لا أعلم الآن . - أتظنين أن لاحتجاب الفتاة علاقة بالصندوق؟ - دون شك، فإن ما يحتويه هذا الصندوق من المال الجزيل إنما جعل مهرا لهذه الفتاة.
فاضطربت الكونتس وقالت: أحق ما تقولين؟ - هذا ما بدا لي، وفوق ذلك فإن صناعة التنجيم لا تدع خفيا إلا أظهرته. - أتظنين أن الكونت قد أحرق نفسه بالنار؟
بل أعتقد اعتقادا راسخا. - إذن من أنقذ الفتاة؟ ولكنها لم تكد تقول حتى احمر وجهها ومرت في خاطرها ذكرى بعيدة فقالت: هو هو دون شك.
وقد عرفت النورية هذا الرجل الذي عنته الكونتس دون أن تلفظ اسمه، فقالت لها: لعلك تعنين يا سيدتي راوول دي مورليير؟ - نعم. - ألم يقولوا لك يا سيدتي إنه قتل في البلاد الأميركية؟ - هو ذاك. - إنك صدقت أقوالهم يا سيدتي، أما أنا فلم أصدقها. - فاضطربت الكونتس وقالت لها: لا تذكري أمامي اسم هذا الرجل، فإنه مجلبة للشر وشؤم علي.
فضحكت النورية وقالت: لا يجلب الشر يا سيدتي غير الخوف وتقريع الضمير، وإذا كنا قد قتلنا الأم فقد يتفق أن الذي كان يزال يذكرها أنقذ ابنتها.
ولم يكن موقف المرأتين في تلك الساعة موقف خادمة ومخدومة، بل موقف آثمتين اشتركتا في جريمة هائلة، فكانت الكونتس ترتعش وتضطرب والنورية تنظر إليها وتبتسم، ثم رجعت الكونتس إلى سكينتها فقالت: أظن يا تنوان أن خوفنا لا محل له، فإن راوول قد مات، وفوق ذلك فإنه لم يكن في هذه البلاد حين شبت النار في القصر.
قالت: إنك مخطئة يا سيدتي. - كيف ذلك؟ - أتذكرين يا سيدتي جاك؟ ذلك الجزار الشيخ الذي كان يقول إن الكونت قد وضع النار بيده في القصر. - نعم، وهو قد مات. - ولكنه أخبرني قبل موته أنه رأى فارسا في ليلة الحريق جاء إلى دكانه فربط جواده في إحدى أشجار الغابة وتعشى عند الجزار، فلما اربد الظلام برح دكان الجزار بعد أن سأل عن الطريق المؤدية إلى قصر بوبيير. - على ماذا يدل ذلك؟ - في اليوم الثاني رأى الجزار هذا الفارس يخترق الغابة وأمامه فوق جواده ولد صغير.
فاضطربت الكونتس اضطرابا شديدا وقالت: رباه! لعل يوم عقاب الله قد دنا؟
فأجابتها تلك النورية الهائلة: إني لا أثق بالله، ومن عرف أن يخفي جريمته ويتقي العقاب لا يعاقب.
فارتعدت الكونتس وقالت: اذهبي عني، فما أنت إلا شيطان رجيم، وإني بت أخافك.
غير أن النورية بقيت في مكانها وقالت: أرى أنه يجدر بسيدتي أن تسمع بقية حديثي وتعلم كل ما أعلمه بدلا من أن تخافني. - تكلمي. - إنك أخطأت بما أخبرت به ابنك عن عمه الكونت دي مازيير والد أورور. - إن لوسيان لم يعد راغبا في زواج أورور، فلا بأس بما قلته. - إنك مخطئة يا سيدتي، فليس والد أورور الذي حال دون هذا الزواج، وهو لو كان من الأبرار الصالحين لما رضي لوسيان بهذا الزواج. - لماذا؟ - لأن الصياد يستطيع أن يطارد أرنبين، ولكن الرجل لا يستطيع أن يهوى امرأتين، فإن ابنك يا سيدتي بات من العشاق.
فدهشت الكونتس وذكرت أن ابنها قد تغيرت أخلاقه منذ شهرين، فبات منقبضا مفكرا مهموما بعد زهو، ثم قالت لها: بمن هو مفتون؟ - إني لا أستطيع أن أذكر لك اسم التي يهواها؛ فإني لا أبرح القصر كما تعلمين ولا أعلم ما أسمعه، غير أني أقول لك إن لوسيان يعود إلى القصر متأخرا ساعتين وثلاثا عن رجال الصيد. - ماذا تستنتجين من ذلك؟ - أستنتج أولا أن لابنك عشيقة يزورها بعد الانتهاء من الصيد، ثم أرى أن الشفالييه يعلم من أمره أكثر مما أعلم. - كيف عرفت ذلك؟ - سمعت هذا الشفالييه يقول لابنك وهما خارجان إلى الصيد: اعتمد علي يا لوسيان تجد أن الأمور تجري على ما تريد، ولا أظنه يسأله الاعتماد عليه إلا في هذا الغرام.
فقالت لها الكونتس: اذهبي عني الآن يا تنوان، واحذري أن تروي كلمة من حديثنا لأحد. فابتسمت النورية وانصرفت دون أن تجيب.
وفي اليوم التالي لم يذهب لوسيان إلى الصيد فاجتمعت به أمه وقالت له: إذا كنت غير راغب في الزواج يا بني بابنة عمك، فليكن ما تشاء وثق أني لا أحدثك عنها بعد الآن.
فعانقها لوسيان فرحا مسرورا وقال لها: لا شك عندي أنك خير الأمهات.
وعند ذلك دخل الشفالييه، فخفق قلب الكونتس وقالت في نفسها: لا بد لهذا الشفالييه أن يبوح بكل شيء.
14
كان هذا الشفالييه عائدا من قصر بوربيير، فلما دخل على لوسيان وأمه نظر إلى لوسيان نظرة معنوية باغتتها الكونتس، فقالت في نفسها: لا شك أن بينهما سرا لا بد لي من الوقوف عليه.
وجلسوا جميعهم حول مائدة العشاء، فكان لوسيان باش الوجه منبسط النفس لما رآه من موافقة أمه على عدم زواجه بابنة عمه، فلما فرغوا من العشاء دعت الكونتس الشفالييه إلى ملاعبتها بالشطرنج.
وكانت تقصد بذلك الاختلاء معه، فإنها كانت تعلم أن ابنها يكره الشطرنج كرها شديدا بحيث لا يجلس في مجالس لاعبيه.
وقد اتفق لها ما أرادت، فإنه بعد أن أحضر الخادم لهما الشطرنج أقام لوسيان معهما هنيهة ونزل إلى الحديقة.
وعند ذلك خلت الكونتس بالشفالييه فقالت له: إنك صديق ولدي الحميم، أليس كذلك يا شفالييه؟ - أتشكين بذلك يا سيدتي؟ - ليس لي أقل ريب، ولهذا أردت أن أكلمك بشأنه على انفراد، فإن ولدي يخبرك بسرائه وضرائه، وأنت واقف على جميع أسرار قلقه دون شك. - هو ذاك يا سيدتي، فإني أعلم أن العلائق فاترة بينه وبين ابنة عمه. - إنهما مختصمان. - ولكنه خصام لا خطورة فيه. - وفوق ذلك فقد علمت أنه يعشق سواها، وأريد أن أعرف منك تلك التي يعشقها.
فنظر إليها الشفالييه متكلفا الانذهال دون أن يجيب، فقالت له: إني لست من الأمهات الظالمات، فإذا كان لوسيان يأبى الزواج بابنة عمه فلا أعترضه فيما يريد وليتزوج من يشاء، غير أني أريد أن أعرف تلك التي يهواها.
فسر الشفالييه لما رآه من عدم إصرار الكونتس على زواج ابنها بابنة عمه؛ فإن ذلك يمهد له سبيل الزواج بها، وقال للكونتس بعد أن تظاهر بالتردد: إنك تسألينني يا سيدتي أن أبوح لك بسر قد تكون الإباحة به خيانة. - إني لم أفهم ما تقول. - افترضي يا سيدتي أنني بدلا من أن أحدث أما ذكية الفؤاد مثلك أكلم أما ملأ قلبها الحنو.
فقاطعته وقالت له بخيلاء: لقد كنت من نساء البلاط يا سيدي الشفالييه.
فانحنى الشفالييه وقال: لولا يقيني يا سيدتي من ذكائك لكنت آثرت الكتمان على خيانة لوسيان؛ ولذلك أعترف لك بما أعلمه من أمره وأبدأ بالقول إنه حقيقة عاشق مفتون، ولكني أرجو ألا يكون من وراء ذلك ضرر. - ولكن من هي التي يهواها؟ - هي فتاة في منزل حداد يلقبونها بربيبة الدير.
فضحكت الكونتس ضحكا عاليا وقالت: من هو هذا الحداد؟ - إنه يدعى داغوبير. - والفتاة؟ - إنها تدعى حنة، وهي في السادسة عشرة من عمرها، ولها أدب جم وجمال عظيم. - أشكرك يا سيدي الشفالييه، فقد طمأنتني بعد أن كنت شديدة الاضطراب. - هذا ما أوده يا سيدتي غير أن هذه الفتاة قد سلبت عقل لوسيان.
فضحكت الكونتس وقالت: إن هذا الغرام يكلفه بعض المال، وهذا كل ما فيه من الخطر، فقص علي حوادثه فإني أجد بها تسلية عظيمة، ولنبدأ بالحداد فقل لي أين يقيم هذا الرجل؟ - عند باب الدير. - لقد عرفته، فهل هذه الفتاة بنته؟ - كلا، بل هي قريبته. - وكيف لقبت بربيبة الدير؟ - أظن أنها لقبت بهذا اللقب لأن الرهبان يتولون حمايتها.
فضحكت وقالت: إذن لا يروق في عيونهم هذا الغرام. - لا تضحكي يا سيدتي، فإن الأمر أشد خطورة مما تظنين، لا سيما وأن نسب هذه الفتاة مجهول لا يعلمه أحد. - ألم تقل إنها قريبة داغوبير؟ - نعم، وإنما رويت إشاعة من الإشاعات المتناقلة عنها، ومن هذه الإشاعات أن داغوبير كان يريد الزواج منذ ستة أو سبعة أعوام ويبحث مع مريديه عن عروسة له، ولكنه رجع فجأة عن هذا القصد لانتقال هذه الفتاة إلى منزله دون أن يعلم أحد كيف أتت حق العلم، ولكن الشائع أنها بنت الأب جيروم. - من هو الأب جيروم هذا؟ - هو رئيس الدير، وحياة هذا الراهب مكتنفة بالأسرار، وقد كثرت الإشاعات فيه. - تقول إن الفتاة جيء بها إلى داغوبير؟ - نعم. - أهي التي ولع بها ابني؟ - إن ولوعه بها شديد يا سيدتي، حتى إنه يريد أن يتزوجها.
فضحكت الكونتس ضحكا عاليا استاء له الشفالييه، فحادثها عن سبيل الانتقام بجميع ما جرى لابنها مع داغوبير وأنه طلب مقابلة رئيس الدير فأبى أن يقابله.
غير أن الكونتس لم يسؤها شيء مما جرى لولدها، وقالت للشفالييه: إذن هذه الفتاة حسناء؟ - إنها خلقت كما اشتهت. - ولا يعلمون أصلها؟ - إن في أصلها ثلاثة أقوال؛ الأول: إنها قريبة داغوبير، والثاني: إنها بنت الأب جيروم ولدت سفاحا في أيام غروره قبل أن يأتي إلى الدير، والثالث: قول آخر تفرد بروايته جزار القرية.
فارتعشت الكونتس وقالت: ماذا يقول هذا الجزار؟ - يقول إن فارسا جاء في صباح يوم إلى داغوبير، فأودع عنده تلك الفتاة التي يهواها ابنك لوسيان. - وماذا جرى للفارس؟ - إنه سافر ولم يعد يعلم أحد ما جرى له بعد ذلك.
فأطرقت الكونتس مفكرة ثم قالت: كل ما قلته لي مفكه ما خلا مسألة الزواج، فإن لوسيان لا فرق عنده بين العامة والنبلاء. - ولكننا بالقرب منه، نراقبه فنقيه هذا الخطر. - كيف نقيه؟ - بإبعاد داغوبير عند الاقتضاء وبمغافلة الأب جيروم واختطاف الفتاة. - إن ذلك سهل بالقول لا بالعمل، وفوق ذلك فإنك على طول عشرتك لولدي لم تختبره حق الاختبار، فإنك إذا اختطفتها تزوجها.
فابتسم الشفالييه وقال: إذا لم أكن قد أحسنت اختباره يا سيدتي فقد أحسنت صداقته، فلا يعقد هذا الزواج وأنا ساهر عليه.
قالت: بورك فيك يا شفالييه، وأنا سأكون لك عونا في انتزاع هذه الوساوس من صدره فينجو من هذا الخطر المحدق به بإذن الله. - وعسى أن يحقق الله رجاءنا ويرجع لوسيان إلى هداه. - إني واثقة من صداقتك وأنك ستلزمه لزوم الظل، والآن فإنك ذكرت لي أن حياة الأب جيروم تكتنفها الأسرار، فهل لك أن تذكر لي ما تعلمه من الإشاعات عنه؟ - حبا وكرامة يا سيدتي.
فاتكأت الكونتس على كرسيها وجعلت تسمع بملء الإصغاء حكاية الأب جيروم.
15
وقد قص لها جميع ما عرفه القراء من الإشاعات عن الأب جيروم، وزاد على ذلك هذه الحكاية وهي أن الأب جيروم قبل دخوله إلى الدير قدم مع خادم له، فأقام في فندق يومه، وفي المساء ذهب إلى الدير، فعاد الخادم إلى ذلك الفندق وحده في اليوم التالي وهو يبكي بكاء شديدا، فلم يعلم أحد منه شيئا عن مولاه سوى أنه لم يدخل إلى الدير إلا لنكبة غرام.
فقاطعته الكونتس وقالت: ألم تعرف اسمه الحقيقي؟ - لم يعرف منه سوى أن صاحبة الفندق روت أنها سمعت خادمه يناديه بعض الأحيان باسم أموري.
فدهشت الكونتس دهشا عظيما وقالت: أموري؟ - نعم يا سيدتي، لعلك تعرفين هذا الاسم؟
فثابت الكونتس من دهشتها وابتسمت قائلة: إن بيت أموري بيت قديم، وأذكر أني عرفت رجلا من هذه الأسرة كان حارسا في بلاط الملك السابق. - ألا يمكن أن يكون الأب جيروم؟ - كلا، فإن ذلك الحارس لم يكن على شيء من مبادئ الزهد والنسك، وقد سررتني أيها الشفالييه بما رويته لي من هذه الأقاصيص لا سيما في ما تعلق بغرام ولدي لوسيان، ولكني أعترف لك أنك لو لم تعهد لي بمراقبة لوسيان لكان خوفي عليه عظيما، فإنه كثير الإقدام لا يحفل بالتقاليد ولا يكترث بالأنساب، فهو في ذلك على مذهب فلاسفة اليوم. - كوني مطمئنة يا سيدتي فلا خوف عليه من مغبة هذا العار وأنا ساهر عليه. - أتتعهد لي بمراقبته الليل والنهار؟ - بل أقسم لك. - وإني أريد منك عهدا آخر وهو ألا تخبر لوسيان بما جرى بيني وبينك، وأرى أنه يجب أن توافيه إلى البستان أو الحديقة؛ إذ لا بد أنه يتنزه الآن فيهما ويناجي نفسه بأماني الغرام، فلا تولد في نفسه الشك. - لقد أصبت يا سيدتي وها أنا ذاهب إليه.
ثم قبل يدها وانصرف للاجتماع بلوسيان، فلم يخرج من الغرفة حتى نادت الكونتس وصيفتها النورية فقالت لها: أظن أنك غير مخطئة يا تنوان. - بماذا؟ - باعتقادك أن ابنة الكونت دي مازير لم تمت. - إني واثقة كل الوثوق. - ولكن أتعلمين أين هي؟ - كلا. - إذن فاعلمي أنها تقيم على مسافة مرحلتين من هنا في محل رجل حداد عند باب الدير، وهي الفتاة نفسها التي يعشقها لوسيان، ثم أتعلمين من هو رئيس الدير؟ - هو الأب جيروم. - هو ذاك، ولكنه كان يدعى قبل الدخول إلى الدير أموري. - إني لا أعرف هذا الرجل. - لقد نسيت أن أخبرك بهذه الحوادث القديمة، ولكن إذا كان هو نفس أموري الذي عرفته من قبل فهو صديق راوول الحميم، وقد أحبها. - أحب من؟ - أحبها هي.
فقطبت النورية حاجبيها، ورجعت الكونتس إلى الحديث فقالت: ولكن إذا كانت ربيبة الدير ابنة الكونت دي مازير كما تبين لي، فلا شك أن الأب جيروم هو نفس أموري الذي عرفته. - وماذا تستنتجين من ذلك؟ - أستنتج أن صندوق الأوراق المالية موجود لدى الأب جيروم. - هذا لا ريب فيه.
فاتقدت عين الكونتس وأجابت: لا بد لي من الاستيلاء على هذا المال.
فابتسمت النورية ابتسام الأبالسة وسألت: من أخبرك يا سيدتي بجميع هذه الأمور؟ - الشفالييه دي فولون. - أيعلم أن ابنة الكونت لم تمت؟ - إنه لا يعلم شيئا من هذه الأسرار ما خلا أن داغوبير الحداد عهد إليه منذ ستة أعوام بتربية هذه الفتاة التي يعشقها ولدي لوسيان.
فأطرقت النورية هنيهة مفكرة، ثم قالت: ألا يمكن لسيدتي أن تستغني عن خدمتي يومين؟ - ماذا تفعلين في خلالهما؟ - أعلم إذا كانت الفتاة هي حقيقة ابنة الكونت دي مازير. - أتذهبين إلى الدير؟ - بل إلى دكان الحداد. - بأية حجة؟ - إن الحجج كثيرة. - ولكن بماذا تستعينين على كشف هذه الخبآت؟ - بتضلعي في فن التنجيم. - ولكنها فنون خرافة، إذا صدقت الظواهر فيها مرة كذبت ألفا.
فابتسمت النورية وقالت: أكذبت فيك مرة يا سيدتي؟ - هو ذاك، وقد يكون صدق ما تنبأت لي عنه من قبيل الاتفاق، وما كنت أحسبك ممن يعتقدون بهذه الترهات. - كيف لا أعتقد بها وقد تركت بما دلتني عليه ولدي.
فدهشت الكونتس وقالت: أنت لك ولد وأنا لا أعلم؟ - نعم، وإنما كتمت عنك أمره؛ إذ لم أجد مجالا لرواية خبره، لا سيما وأني عولت على الابتعاد عنه دهرا طويلا. - لقد أدهشتني بهذا الخبر، فأين ولدته؟ وأين تركته؟ وكيف عولت على الابتعاد عنه؟ - إني ولدته سفاحا فوق قمة في قرية يوجيفال، وعهدت بتربيته إلى امرأة صاحبة حانة تدعى مدام فيبار، أما السبب في ابتعادي عنه فهو اتصالي بك والتصاقي بخدمتك، وهذا التنجيم الذي تعلمته في بلادي منذ الحداثة. - وما كشف لك التنجيم؟ - إني نظرت في يد ولدي بعد ولادته فذعرت لتلك الظواهر، وأيقنت أنه سيكون له في هذا الوجود أعظم شأن، وسيجري فيما يمر به من أدوار الحياة شوطين؛ شوطا يكون فيه رسول جهنم على الأرض، وشوطا يكون فيه من ملائكة الله ولذلك سميته روكامبول. - ما معنى هذا الاسم الغريب؟ - إنه في لغتنا النورية يراد به الملكان، وهما ملاك الخير وملاك الشر، وقد جمع هذان النقيضان بولدي فإنه في بدء أمره ستكون راؤه رعبا، وواوه وزرا، وكافه كفرا، وألفه إثما، وميمه معرة، وباؤه بلية، ولامه لؤما، ثم ينقلب بعد تفاقم شره فتصبح الراء رحمة، والواو ورعا، والكاف كمالا، والألف إحسانا، والميم مبرة، والباء بركة، واللام لواذا، فبينما هو حليف الأبالسة إذا هو من رسل الله؛ ولذلك أردت الابتعاد عنه حذرا من بطشه إلى أن يفرغ من شوطه الأول ويعيش عيش الأبرار فأنضم إليه إذا فسح في الأجل. - أهو الآن في شوطه الأول؟ - إنه يتمرن عليه.
فابتسمت الكونتس وقالت لها: لا جرم أن الحية لا تلد إلا الحية يا تنوان.
فأجابتها أم روكامبول بمثل ابتسامتها وقالت: والطير لا يقع إلا على شكله يا كونتس.
فلم تظهر الكونتس استياء من هذا التلميح لما كان يصل بين المرأتين من الأسرار، وعادت إلى حديثها الأول فقالت: إذن ستذهبين غدا إلى دكان هذا الحداد. - بل أذهب الليلة، فلا أبقي إلى الغد ما أقدر أن أفعله الآن. - ولكن ألا تخافين أن تجتازي الغابة في ظلام الليل؟
فضحكت تنوان ضحك الأبالسة وقالت: إن من لا يخاف الله، فلا يخاف الإنسان. - ولكن المسافة لا تزيد عن ساعتين، فإذا ذهبت الآن فأين تبيتين بقية الليل؟ - ولكني سأذهب بعد ساعتين فأصل عند الفجر. - إذن مري السائق يعد لك المركبة. - بل إني أعدها بنفسي، وسأركب المركبة المعدة لنقل الخضر وأسوقها أنا، فلا أحب أن يعلم أحد أين أسير. - افعلي ما بدا لك، فقد عودتني ألا أعترضك فيما تريدين. - وأنا أرجو ألا تندمي لثقتك بي؛ لأني كما أخلصت لنفسي أخلصت لك.
ثم تركتها وانصرفت إلى الإصطبل، فأعدت العلف للجواد وعادت إلى غرفتها وتأهبت للرحيل.
16
بينما كان الجواد يأكل علفه كانت الكونتس في غرفة نومها نائمة في سريرها، وأم روكامبول تتأهب للرحيل وقد تزينت بملابس النور.
وكانت غرفتها ملاصقة لغرفة الكونتس يفصل بينهما باب داخلي يفتح من الغرفتين.
وبينما كانت النورية تنظر إلى نفسها في المرآة وقد فرغت من اللبس، سمعت الكونتس تصيح صياحا مزعجا ففتحت الباب وأسرعت إليها، فلما رأتها الكونتس صاحت صيحة أخرى وقالت لها: آه لو عرفت ماذا جرى!
وكانت علائم الذعر بادية في وجه الكونتس، وقد امتقع لونها وغارت عيناها وقالت لها بصوت مختنق: إني رأيتها ... وأنا لم أكد أغفو، وقد صحوت لصوت سمعته، ففتحت عيني ورأيت نورا أبيض هنا عند الباب.
فضحكت تنوان وقالت: لقد أوشكت هيئتك أن تخيفني، فما هذا الجنون؟
واصطكت أسنانها من الخوف وقالت: قلت لك إني رأيتها. - من هي التي رأيتها؟
فأجابتها وهي لا تكاد تفسر اللفظ من الرعب: «هي ... هي»، وقد رأيتها مصفرة الوجه، ثم نظرت إلي بعينين تتقدان نارا، وقالت لي: احذري أن تمدي يدك بسوء إلى ابنتي، أو تموتي أفظع موت.
فحاولت تتوان أن تتكلم، ولكن الكونتس قاطعتها وقالت لها: حين قالت لي هذا القول كانت كتلة من نور أبيض، ثم تحولت إلى شعلة من نار بعد أن أتمت وعيدها وتوارت عن الأنظار، فشعرت عندئذ أنهم قبضوا علي وربطوا يدي ورجلي، ثم ألقوني في مركبة وساروا بي، فكان الناس يسيرون أفواجا في جانبي المركبة وهم ذاهبون بي إلى ساحة الموت الرهيب، ولكني لم أعلم كيف يكون موتي، وعندها صحت صيحة منكرة فاختفى كل شيء.
فضحكت تتوان وقالت: تريدين أنك صحوت من الرقاد. - إني لم أكن نائمة. - بل كنت نائمة وأنت لا تعلمين فأصابك الكابوس. - ليس ما رأيته حلما، بل قد رأيتها حقيقة وسمعت صوتها. - إن الأموات لا يرجعون. - بل روحها التي تمثلت لي، ولا سبيل معك إلى الجدال فإنك لا تعتقدين بشيء. - إني لا أعتقد إلا بحقائق العلم وبذلك القدر المرسوم في خطوط الأيدي. - إذن أعيدي النظر في يدي، وأخبريني إذا كان قد تغير ما كتب لي في لوح المقدور، فأنت نفسك تعترفين أن خطوط اليد تتغير.
ثم بسطت يدها للنورية وقد خف ما خامرها من الرعب، فتأملت تنوان مليا في خطوط تلك اليد وقالت: إن خطك لا يزال على ما كان عليه، فستكونين من أغنى الناس. - متى؟ - في وقت قريب. - أأجد الصندوق؟ - نعم. - وهذه الفتاة التي نحسبها ابنتها؟ - سأخبرك بذلك غدا.
ثم غيرت الحديث فجأة كأنما خطر لها خاطر فقالت: انظري إلي جيدا يا سيدتي، ألا أشبه بملابسي النوريات؟ - هو ذاك. - ألا يحسبني الناظر إلي من اللواتي يقرأن الطوالع ويكشفن غوامض المستقبل؟ - إنك منهن وهذه المهنة مهنتك. - إني ذاهبة، ورجائي ألا تسترسلي إلى الأوهام وأن تنامي نوما هادئا. - إني واثقة بقريحتك الجهنمية، فاذهبي واعلمي أني أنتظر عودتك بفارغ الصبر.
ثم ودعتها وانصرفت وركبت المركبة، ودفعت جوادها فسار بها وحدها في ظلام الليل إلى الغابة. •••
بينما كانت تنوان تجتاز الغابة غير هيابة، وقد أوشكت أن تبلغ نهايتها كان جرس الدير بدأ يدق داعيا إلى صلاة الفجر.
وكان داغوبير قد صحا من نومه، فنزل من منزله إلى دكانه وكان يمشي بحذر خوفا من أن تصحو حنة.
وقد كان منزل داغوبير يتألف من غرفة واحدة كبيرة، فلما جاءته حنة شطر الغرفة شطرين وجعلها غرفتين، وأقام كل منهما في غرفة.
وكان داغوبير قبل أن تجيء حنة إلى منزله يبدأ عمله قبل الفجر غير مكترث للرهبان، وبات بعد مجيئها يشفق على راحتها إشفاقا شديدا، فلا تسمع لمطرقته صوتا قبل أن تطلع الشمس، فكان يشتغل قبل شروقها أشغالا لا دوي لها.
وفي ذاك اليوم نزل داغوبير في الساعة الخامسة من صباحه وأوقد النار، ولكنه لم يعمل عملا، بل كان مفكرا مهموما، وقد كان هذا دأبه منذ ثلاثة أيام فلم يلف إلا على هذه الحالة.
وفيما هو على ذلك، سمع دوي مركبة، ثم سمع أن المركبة وقفت عند باب دكانه، وأن هذا الباب قد قرع، ففتحه ووجد أمامه تنوان.
فدخلت تنوان إلى الدكان وقالت له: إن نعل الجواد قد سقط، وقد أتيتك لتصنع لي سواه.
ثم اقتربت من النار تتدفأ ونظرت إلى داغوبير نظرات كهربته وقالت له: أراك قد استأت لحضوري، بل أراك مترددا في صنع النعل، فهل ذاك لأني فقيرة أكسب رزقي من استطلاع البخت. - لست ممن يحتقرون الفقراء؛ لأني منهم، ولكنني منذهل لملابسك، هل أنت من النور؟ - إن ملابسي قد دلتك خير دلالة على أصلي. - أتتجولين وحدك في هذه المركبة؟ - لقد كان لي زوج قضي عليه فبت وحيدة كما تراني. - إلى أين أنت ذاهبة؟ - إلى بيبتهافر. - لعلك مضطرة إلى الإسراع بالوصول إليها؟ - لماذا تسألني هذا السؤال؟ - لأني لا أستطيع أن أصنع النعل قبل شروق الشمس. - لا بأس فسأنتظر.
وقد علمت أنه لا يريد أن يوقظ الفتاة، ولبثت أمام النار تصطلي وداغوبير ينظر إليها معجبا بأمرها، إلى أن بدأ الحديث معها وقال: أتحترفين مهنة استكشاف الطوالع؟ - هو ذاك. - كيف ذلك؟ أبالورق؟ - بالورق وبالنظر إلى الأيدي.
فمرت غمامة بمخيلة داغوبير وظهرت عليه علائم التردد.
أما النورية، فإنها جعلت تنظر إليه نظرات ممغطسة جذبت بها حواسه.
17
وكان داغوبير واقفا يحدثها وينظر إليها، ثم غض بصره ولم يستطع مقاومة تلك النظرات التي اخترقت نفسه، وشعر أن لهذه المرأة سلطانا عليه.
وكانت قد قالت له إنها تكشف مخبآت المستقبل، فشعر بميل عظيم إلى معرفة ما خبأته له الأيام، لا سيما وأنه كان حزين القلب منقبض الصدر منذ ثلاثة أيام.
أما سبب انقباضه فهو أنه باغت حنة في غرفتها ورآها تبكي وعلم لفوره السبب في بكائها؛ وهو أنها تحب ذلك الفتى النبيل الذي طرده من دكانه أقبح طردة وهو لوسيان، امتثالا لواجب مقدس لم تعرفه الفتاة ولم يعرفه داغوبير نفسه؛ فإنه آلة بيد الأب جيروم.
وكان داغوبير يفكر في جميع هذه الأمور بينما كانت النورية تسلب إرادته بتلك النظرات وهو واقف موقف الخائف المتحير.
وإنما كان خوفه وحيرته لأن الدين يحرم استكشاف الطوالع؛ لأن المستقبل بيد الله.
غير أنه ظهرت عليه فجأة علائم العزم الأكيد، فنظر إلى النورية وقال لها: لعل استكشاف الطالع كثير النفقة؟ - إني أقبض ريالا من النبلاء. - ومن كان فقيرا مثلي لا أقبض منه شيئا.
فاستفزته الأنفة وقال: إن ذلك لا يكون؛ لأني لا أقبل شيئا مجانا على فقري، وإذا شئت أنعلت جوادك فكان ثمن النعل مقابل الأجرة. - رضيت، هات يدك.
وبسط لها كفه وجعلت تتأمل في باطنه بإمعان.
ويذكر القراء أن داغوبير كان قد وضع في إصبعه ذلك الخاتم الذي ائتمنه عليه الأب جيروم، وأنه قد سوده بالدخان كي يذهب لونه الذهبي ولا يستلفت الأنظار إليه.
غير أن النورية رأت الخاتم وتمعنت فيه خلسة، وعلمت لفورها أنه ليس من الحديد، كما أنها رأت آثار الشعار فيه فاتقدت عيناها ببارق الرجاء وقالت في نفسها: لا شك أن هذا الخاتم يتضمن سرا لا بد لي من الوقوف عليه.
وكانت من الدواهي الماكرات، فلم تظهر اكتراثا لهذا الخاتم وانصرفت إلى خطوط يد داغوبير وقالت له: إني أبدأ بوصف أخلاقك، فإنك حاد المزاج. - هو ذاك. - ولكنك طاهر القلب سليم النية.
وكانت تقول هذا القول بلهجة الثقة، غير أن داغوبير جعل يضحك لكلامها وقال لها: أبنعل جواد تهبينني هذه الهبات؟ إنك لا ريب كثيرة الكرم.
ثم قال: إني أفتخر بهذه الصفات. - وأنت ثابت الإرادة إذا عزمت على أمر لا تنثني عنه. - لقد صدقت. - ثم إنك ألوف حسن الوفاء لمن تحب، ولكن مزاجك يتغلب عليك أحيانا فتحزن من تحبه دون أن تريد.
وهنا ارتعش وذكر حنة وبكاءها فعاوده الانقباض. - هذه هي أخلاقك، أما مستقبلك فهو أنك ستغدو سعيدا ولكنك تلقى كثيرا من العثرات. - أنا أكون سعيدا؟ وكيف تأتيني هذه السعادة؟
وكانت النورية لا تزال تنظر في يده، ثم اضطربت فجأة وقالت له: ماذا أرى؟ - ماذا؟ - إن هذا محال. - ولكن ماذا رأيت؟
وظهرت على النورية علائم الاضطراب، ورأى أن اضطرابها أخذ بالتزايد فقال لها: قولي ماذا رأيت؟ - أرى أنك ستغدو من الأغنياء وتكون من النبلاء. - ما هذا المزاح؟ - لست أمزح، بل أقول الحقيقة، فإنك سوف تتقلد سيفا وتلبس الثياب المذهبة.
وهنا ذهب كل تأثيرها عليه دفعة واحدة؛ إذ لا يخطر له في بال أن يغدو في حين واحد غنيا نبيلا من رجال السيف.
غير أن النورية لم تكترث لعدم تصديقه نبوتها، فقد كانت منشغلة البال بهذا الخاتم الذي في إصبعه، حتى أوشكت أن تنسى المهمة التي جاءت من أجلها.
وكان الفجر قد انبثق، وبدأ ثغر السماء يبتسم استبشارا لطلوع الشمس، وانقطعت أصوات الأجراس في الدير إشارة إلى انتهاء الرهبان من الصلاة.
ثم أخذ الرهبان يخرجون أفواجا من الدير، فيذهب بعضهم إلى الحقول للاشتغال بالزراعة، وبعضهم إلى معامل الصنائع فيشتغل كلهم فيها بما تعلمه من المهن.
فنظر عند ذلك داغوبير إلى النورية، وكانت تائهة الفكر فقال لها: سأنعل جوادك الآن إن النهار قد تعالى.
ثم مشى يريد الخروج إلى الجواد فاستوقفته وقالت له: أرى أنك لم تثق بما قلته لك.
أجابها ضاحكا: كلا، ولكني سأنعل جوادك على كل حال. - ولكني واثقة كل الثقة، وما زلت تنعل الفرس دون أجرة فأرني يدك الثانية.
وبسط لها يده اليسرى فارتعشت بعد أن تمعنت فيها وقالت: إنها تشبه اليد اليمنى والخطوط الدالة على السعادة واحدة.
ثم أظهرت دهشة، فقال لها داغوبير: ما هذه الدهشة؟ لعلك رأيت شيئا جديدا؟ - نعم، إنك ستسافر.
فاصفر وجهه عند ذلك؛ لأن الأب جيروم قال له منذ ثلاثة أيام إنه سيسافر إلى باريس.
ثم قطب حاجبيه وقال لها: إنك قلت الحقيقة هذه المرة لأني سأسافر، ولكن متى؟ - إنك مسافر اليوم.
وعاد ابتسام الشك إلى شفتيه وقال لها: لا أظن.
وإنما قال ذلك لوثوقه من أن الأب جيروم لا يزال مريضا، وهو لا يسافر إلا بعد شفائه.
وعند ذلك تركها وخرج إلى الجواد فلم توقفه النورية.
وفيما هو آخذ بصنع النعل، جاءه أحد الرهبان وقال له: تعال حالا يا داغوبير. - إلى أين؟ - إلى الدير. - لعلك محتاج إلي؟ - كلا، بل الأب جيروم يريد أن يراك. - ولكني مشتغل الآن بصنع نعل لجواد هذه المرأة. - إنها تنتظر.
فقالت النورية: لا بأس، إني غير مستعجلة.
فوقف داغوبير موقف الحائر، فإن حنة كانت في غرفتها وخشي أن تجتمع مدة غيابه بهذه النورية.
غير أن الراهب كان يلح عليه، فلم يجد بدا من الذهاب معه وبقيت النورية وحدها في الدكان، فوضعت رأسها بين يديها واسترسلت إلى التفكير.
وكانت تنوان تعتقد كما قدمناه بخطوط الأيدي، فجعلت تقول في نفسها: ما هذا الاتفاق الغريب؟ وكيف يغدو هذا البيطري الفقير الحقير غنيا نبيلا؟ ذلك مكتوب في كفه لا ريب فيه.
وفيما هي تفكر في أمره سمعت صوتا فوق رأسها، فالتفتت ورأت حنة نازلة على السلم الخشبي الموصل بين الغرفة والدكان، وهي تنزل ببطء.
ولما تبينت النورية وجهها جمد الدم في عروقها وقالت: ماذا أرى؟ إني لو كنت أعتقد بعودة الأرواح لقلت إن هذه الفتاة «هي».
ذلك أن حنة كانت تشبه امرأة عرفتها النورية شبها غريبا، ورجعت إلى مخيلتها ذكرى تلك المرأة.
18
كان داغوبير قد ذهب إلى الدير وهو يعتقد أن حنة لا تزال نائمة، غير أن الفتاة لم تكن تعرف النوم منذ ثلاثة أيام، فإنها كانت تظهر في النهار منقبضة النفس وتحتجب في الليل فتسترسل إلى البكاء.
ولم تستطع أن تقول كلمة لداغوبير حين طرد لوسيان ذلك الطرد القبيح، فإنها حين همت بسؤاله فقاطعها فقال لها: إني مخلص لك، أسفك دمي في سبيلك، ولكن لا تسأليني لماذا طردت هذا الفتى.
فسكتت الفتاة ولم تعد تسأله شيئا، ولكن انقباضها كان يخترق نفسه ويقع في قلبه وقع السهام.
فلما ذهب داغوبير إلى الدير لم تكن نائمة كما يتوهم، وقد سمعت قرع باب محله حين جاءت النورية، فحسبت أن الطارق هو الأحدب فوجف قلبها؛ إذ كانت تعلم أنه رسول لوسيان، فقد رأته حين أوفده لمقابلة داغوبير.
ولذلك نهضت من سريرها ووضعت أذنها على ثقب الباب المؤدي إلى الدكان، فسمعت كل ما جرى من الحديث بين داغوبير وبين النورية.
فلما علمت أن داغوبير ذهب إلى الدير وأن النورية باقية وحدها في الدكان، نزلت إليها ووقفت في أسفل السلم تنظر إليها نظرات الانذهال لزيها الغريب.
أما النورية فإنها وقفت لها احتراما وحيتها بلقب مدموازيل.
فقالت لها حنة: لست من السيدات ... بل أنا فتاة فقيرة من طبقة العمال.
فابتسمت النورية وقالت: إن الفلاحات لا يكون لهن هذه الأيدي الناعمة المترفة. - لعلك تستطلعين البخت؟ - هو ذاك يا سيدتي، فإذا أذنت لي أن أنظر في يدك أنبأتك بأمور كثيرة يهمك أن تقفي عليها.
فاحمر وجه حنة وقالت: ولكن، إذا رجع داغوبير ورآني معك تكدر. - لماذا يا ابنتي؟ - لا أعلم. - ولكني أنبأته بمستقبله، ولو كان ذلك منكرا لما رضي به لنفسه.
فاطمأنت الفتاة بعض الاطمئنان وغلبها شوق الوقوف على أسرار المستقبل، فبسطت لها يدها كما فعل داغوبير من قبل.
ونظرت النورية إلى باب الدير، فلما وثقت أنه مقفل أخذت يد الصبية وجعلت تنظر فيها فقالت: ماذا أرى؟
فاضطربت حنة وقالت لها بصوت يرتجف: ماذا ترين؟ - أرى أنك معشوقة، وأن الذي يهواك فتى جميل نبيل يريد أن يتزوج بك ويجعلك من النبيلات فإنه كونت.
فصاحت الفتاة صيحة ذهول لما رأته من صدق هذه المنجمة.
ورجعت النورية إلى الكلام وقالت: إنك ستكونين كثيرة الغنى يا سيدتي.
فابتسمت حنة وقالت: أتهزئين بي؟ - كلا يا ابنتي، بل أقول الحقيقة.
ولم تكن حنة تكترث بالغنى، فانصرفت إلى أميال قلبها وقالت لها: لقد قلت لي إني محبوبة. - هو ذاك، والذي أحبك قد تدله بهواك.
فارتجفت حنة وقالت: ولكن ألا يعترض هذا الحب صعاب؟ - نعم، ولكن هذا الفتى النبيل الذي يحبك سيتغلب على جميع الصعاب، ثم إن هذه الصعاب لا تكون من جهة أهله. - إذن ممن؟ - من أهلك، أو من الذين يقولون إنهم يحبونك.
فافتكرت حنة عند ذلك بداغوبير، وقالت لها تنوان: لا تستائي لذلك يا سيدتي؛ لأني أقرأ مستقبلك في يدك كما تقرئين أنت في الكتاب، فأعلم ما سطر لك في لوح المقدر، والذي أراه أن من يهواك سيفوز على جميع الصعاب.
وعند ذلك سمعتا أن باب الدير قد فتح، ورأت حنة أن داغوبير قد خرج منه فأفلتت إفلات الظبي وقالت للنورية: أرجوك لا تقولي لداغوبير إنك رأيتني.
ثم تركتها وصعدت إلى غرفتها، فبقيت تنوان وحدها.
وبعد هنيهة وصل داغوبير فقال للنورية: إنك إذا كنت قد تنبأت لي بأمور لا أستطيع تصديقها، فقد قلت لي أيضا أمورا أكيدة. - كيف ذلك؟ - لقد قلت لي إني مقبل على سفر، وقد صدقت نبوءتك لأن الأب جيروم رئيس الدير أمرني بالسفر اليوم. - لعله يرسلك إلى محل بعيد؟ - إلى أورليان. - إذا كنت قد صدقت في بعض نبوءتي، فلماذا لا أكون صادقة في جميعها؟ - أتعنين أني سأكون غنيا نبيلا؟ - هو ذاك، فقد قرأت ذلك في يدك كما قرأت نبأ سفرك.
فضحك داغوبير لها دون أن يجيب، وأخذ يصنع لها نعل الفرس حتى إذا أتمه قال لها: إنك تستطيعين أن تسافري الآن. - أشكرك يا سيدي، وسوف ترى أن نبوءتي كانت صادقة فلا تذكرني إلا بالخير.
فضحك وقال لها: وأنت سوف ترين أن نعل فرسك متينا، فلا تذكريني إلا بالثناء، وواحدة بواحدة جزاء.
وسارت تنوان في مركبتها وهي توهمه أنها سائرة في طريق بيتهافر حتى إذا توارت عن أنظاره، عطفت إلى الغابة وسارت فيها حتى وصلت إلى قصر بوربيير في الساعة الثامنة من الصباح.
وكانت الكونتس لا تزال نائمة، ولكن تنوان كانت تدخل إليها حين تشاء دون استئذان.
ففتحت الباب الموصل من حجرتها إلى حجرة الكونتس، ووجدتها مضطجعة في سريرها دون نوم واحمرار عينيها يدل على أنها لم تنم تلك الليلة، فلما رأتها داخلة إليها فرحت لقدومها وقالت لها: ما وراءك من الأخبار؟
فأخذت تنوان كرسيا ووضعته قرب سريرها وجلست عليه، ثم قالت لها: لقد صدق ما كنت أتوقعه. - أهي بنت المركيز؟ - هي بعينها، ومن يراها يحسب أنه يرى أمها لشدة الشبه بينهما، ولا بد أن يكون عارفا بسر مولدها ويجب ألا نتغاضى. - ماذا تقصدين؟
فاتقدت عينا النورية وقالت: هذا الرجل عثرة في سبيلنا يجب إزالتها أو تزوج بالفتاة وكان له المال. - إنك مجنونة يا تنوان؟ - كلا، بل إني واثقة مما أقول بعد أن رأيت ما رأيت. - ماذا رأيت؟ - إني قرأت في عينيه سور الغرام والإقدام، وعلمت من خطوط يده أنه سيصبح من الأغنياء، وهذه الفتاة مقيمة عنده منذ حداثتها في منزل واحد، وهو هائم بها لا شك، وإذا لم نحل بينه وبين تزوجها وأصبح له الصندوق وما فيه. - أأنت واثقة أنها الفتاة التي نبحث عنها؟ - لم يبق بعد اجتماعي بها سبيل للريب. - إذن أوافقك على وجوب إبعاد داغوبير وإزالته من طريقنا. - هذا ما اقترحته عليك؛ إذ لا بد منه، ولكن كيف الطريقة؟ - إني أعهد إليك بهذه المهمة، والشفالييه سيكون لك خير معين.
فابتسمت النورية ابتسام الأبالسة وقالت: لقد أحسنت باختيارك الشفالييه، فإنه لا يقف عند خطر، ويستسهل كل صعب في سبيل أغراضه ولا سيما في هذه المهمة فله منها فائدة.
وعند ذلك خلت المرأتان، وكانت الكونتس قد خف ما عندها من الاضطراب الذي لقيته في ذلك الحلم الرهيب، فطلبت إلى النورية أن تحدثها بجميع ما اتفق لها في رحلتها.
فحكت لها كيف اجتمعت بداغوبير، وكيف عرفت من خطوط يديه أنه سيغدو غنيا من النبلاء.
فقالت لها الكونتس: أتعتقدين حقيقة بما تقولين؟ - بلا شك، فلا بد أن يغدو هذا الرجل ثريا نبيلا. - ذاك محال ولا أصدقه. - ولماذا لا تصدقين يا سيدتي؟ إني حين اتصلت بك كنت نورية أطوف في الشوارع لقراءة البخت، فتنبأت لك عن مستقبلك وكشفت لك أحداث ماضيك.
وكان ذاك سبب اتصالي بك، أكذبت في شيء مما قلته لك؟ ألم يحدث كل ما تنبأت به؟ - هو ذاك. - إن مستقبل كل شخص مكتوب في يده، ولكن لا يعرف أن يقرأه غير القلائل من الراسخين في هذا الفن. - إذا كان ذلك، فلا بد لداغوبير أن يغدو غنيا نبيلا ويتزوج حنة وينال الصندوق، فلا نستطيع أن نحول دون سعادته. - لقد أخطأت يا سيدتي، فإنك تجهلين أصول هذه المهنة ولا تعرفين سوى ما يبدو لك من ظواهرها، فإن خطوط الكف تدل على المستقبل دلالة لا ريب فيها، غير أنه بين هذه الخطوط أخاديد تضيق وتنفرج فتغير تلك الدلائل، فالمرء قد تكون خطوط كفه تدل على السعادة؛ لأن بها أخاديد منفرجة بين الخطوط، فإذا ضاقت يصبح لهذه الخطوط دلائل أخرى قد تكون دلائل بؤس وشقاء، أريد أن مستقبل الإنسان قد يتغير بقتل ذاك الإنسان أو إنقاذه.
فاقتنعت الكونتس بتعليلها وقالت: أتمي حديثك.
فأخبرتها النورية عند ذلك بأمر الخاتم الذي وجدته في إصبع داغوبير، وكيف رأت أنه قد سوده بالدخان إخفاء للونه الذهبي، وشعاره الدال على أسرة صاحبه.
فارتعشت الكونتس وقالت: ألهذا الخاتم شعار؟ - نعم. - أتذكرين رسم هذا الخاتم وحجمه بالتدقيق؟
فلم تجبها النورية، ولكن أخذت ورقة وقلما ورسمت على الورقة الخاتم أصدق رسم وعرضته على الكونتس.
فلم تكن الكونتس تراه حتى صاحت صيحة دهش وقالت: إن هذا خاتم الكونت دي مازير، عرفته من رسمه الغريب. - أي كونت؟ - الكونت الذي احترق بهذا القصر. - إذن، لقد أحسنت بذهابي إلى هذا البيطري؛ إذ لولا هذه الزيارة لما علمنا بأمر الخاتم. - ولا بد لنا من الحصول على الخاتم مهما كلفنا ذلك من الجهد والمشاق؛ إذ لا بد أن يكون في جوفه ورقة مكتوبة. - وما تظنين أنه يوجد في هذه الورقة؟ - لا شك أنها تتضمن الإرشاد إلى موضع الصندوق الذي نبحث عنه فلا نجده، وقد اتهمت والد أورور واتهمني بسرقته. - إنك ذكرت لي الشفالييه دي فولون منذ هنيهة، وهو رجل ثابت العزم جدير بالإقدام على كل أمر في سبيل غايته. - أترين أن له غاية؟ - نعم، فهو مفتون بمدموازيل أورور. - أواثقة مما تقولين؟ - كل الثقة. - إذن لقد اتضح لي الأمر، فإن اختصام ولدي مع ابنة عمه كان بمكائد الشفالييه، ولكن كل ذلك يفيد يا تنوان إذا كانت ربيبة الدير هي حقيقة ابنة الكونت دي مازير.
لقد قلت لك إن من يراها لا يفرق بينها وبين أمها كريتشن.
فاضطربت الكونتس وقالت: لا تذكري أمامي هذا الاسم. - ليكن ما تريدين، ولكن ثقي أنها ابنتها. - إذا كانت هي ابنتها وكان الخاتم هو الذي أعرفه، وكان الأب جيروم هو الذي كان يدعى أموري من قبل، فأنا أخبرك بما ينبغي أن يكون قد حدث. - إني مصغية إليك. - لقد عرفت أن اثنين كانا يحبان والدة الفتاة؛ أحدهما أموري وهو رئيس الدير، والثاني رجل يدعى راوول لم تعرفيه، ولا بد أن يكون راوول نفس الرجل الذي جاء بالفتاة إلى الأب جيروم فأودعها عند داغوبير، أما الخاتم فإنه يتضمن دون شك سر الصندوق، فمن ناله نال ذلك المال، ولكن يجب أن نحذر ونتوقع عودة راوول. - ماذا ترين أن نصنع؟ - إن ولدي يحب حنة وحنة تحبه، أليس كذلك؟ - حبا ليس بعده حب. - إذن يجب أن يتزوجا. - وهذا الذي أراه. - وإن الشفالييه سيكون لنا خير معين في هذه المهمة، ولا يجب أن يعلم شيئا من سرنا، ولكني لا أعلم كيف نستطيع استخدامه في أغراضنا دون أن يعلمها.
فابتسمت النورية وقالت: اطمئني يا سيدتي ودعيني أكون الفكر المرشد وتكوني اليد العاملة.
وعند ذلك نقر باب الغرفة نقرا خفيفا، ودخل لوسيان وهو مصفر الوجه وكل ما به يدل على الاضطراب، فذعرت أمه لما رأته وقالت له: ماذا حدث؟
قال: أحب أن أكلمك في خلوة يا أماه.
فأشارت الكونتس إلى تنوان إشارة، فانصرفت وقالت لابنها: اجلس بجانبي وأخبرني بماذا حدث. - إن نافذة غرفتي تشرف على البستان كما تعلمين، وقد رأيت في صباح اليوم من تلك النافذة تنوان داخلة إليه بمركبة، ورأيت على عجلات المركبة وحلا أصفر لا يوجد منه إلا في الغابة، فأحببت أن أعلم أين كانت، فنزلت إلى البستان وسمعت البستاني يقول لها: إن نعل الجواد جديد، فأين صنعته؟ فقالت له: عند البيطري المقيم عند باب الدير. - أهذا الذي تضطرب من أجله يا بني؟ - نعم، فإني أحب أن أعلم ما دعا تنوان إلى الذهاب إلى تلك الجهة.
فأخذت الكونتس يد ولدها بين يديها، وقالت له بلهجة حنو: أصغ إلي يا لوسيان، إنك لا تحب ابنة عمك وتهوى فتاة فقيرة تريد أن تتزوجها، أليس كذلك؟
فذعر لوسيان وقال لها: من أخبرك بذلك؟
فابتسمت الكونتس وقالت له: لقد أنبأني به قلبي، وأنت لا تعرف يا لوسيان قلوب الأمهات، إنك ولدي الوحيد وليس لي سواك في هذا الوجود، فكيف أعترض سعادتك! تزوجها يا بني إذا كان في ذلك نعيمك فلا هناء لي إلا بهنائك.
فصاح لوسيان صيحة فرح، وأكب على صدر أمه يعانقها ودموع السرور تذرف من عينيه.
بعد ذلك ببضع ساعات؛ أي بعد أن حسب لوسيان أن أبواب النعيم قد فتحت له، كانت أمه الكونتس مختلية مع الشفالييه دي فولون.
وكانت تقول له: إنك لا تعرف من لوسيان ما أعرفه، فإنه خلق قبل عصره، وهو يحب فتاة الدير حبا يقينا، فلو أردت إقناعه أن زواجه بها محال لما بينهما من تباين المقام، لما فهم هذا القول؛ إذ هو يحسب جميع الناس سواء، ولذلك أذنت له بزواجها.
فدهش الشفالييه وقال: أنت يا سيدتي تأذنين لابنك وهو الكونت دي مازير أن يتزوج فلاحة لا يعرف أصلها؟
فابتسمت الكونتس وقالت: إننا نجد ألف سبب لتأخير هذا الزواج، وفي خلال ذلك يثوب إلى رشده وتبرد لوعة غرامه، أما الآن فيجب أن نصنع كل ما يريد. - لقد فهمت مرادك يا سيدتي، فليكن ما تريدين. - ألم تقل لي إن رئيس الدير والبيطري يحرسانها؟ - نعم. - أيوجد طريقة لمغافلتهما واختطاف الفتاة؟ - إني أتعهد بذلك يا سيدتي. - بورك فيك، فهذا الذي كنت أتوقعه منك، وما زال الأمر كذلك فلنسرع بالعمل ولنتداول فيه. - شأنك وما تريدين.
فنادت الكونتس عند ذلك تنوان، فلما جاءت قالت لها: اجلسي بيننا يا تنوان فإننا في حاجة إلى آرائك السديدة. وأقام أولئك الثلاثة يتآمرون على لوسيان بينما كان هذا الفتى الطاهر القلب السليم النية يصطاد العصافير في البستان.
19
وبعد أن فض مجلسهم، ذهب الشفالييه إلى لوسيان وقال له: ألا تروق لك المحادثة أيها الصديق؟
فأجابه لوسيان بملء السذاجة: في أي أمر تريد الحديث؟ - وأي حديث يشغلنا الآن غير حديث غرامك، فقل لي ألا تزال تحبها ومصرا على زواجها؟ - لا أنثني عن هذا العزم ما حييت. - وإذا سألتك أن تطلق يدي في أمرك، أتمنحني هذه السلطة؟ - بلا ريب. - إني أسألك أن تطيعني طاعة لا حد لها. - سأطيعك في كل ما أردت. - إذن فاسمع، إن أمك توافق على زواجك بها، أليس كذلك؟ - لقد رضيت بهذا الزواج صباح اليوم. - ولكن يوجد اثنان لا يرضيان به، وهما الأب جيروم وداغوبير. - لماذا؟ - لا أعلم، فلا بد أن يكون هناك سبب عظيم، ولكن ما زال هذا دأبهما فلا بد لنا من الاستغناء عن موافقتهما. - ماذا نصنع؟ - إن أبواب الدير تقفل في الساعة التاسعة من المساء، فلا يخرج الرهبان منه إلا في صباح اليوم التالي بحيث لا يبقى من حارس على الفتاة غير داغوبير. - وكفى به حارسا، فإنه يدافع عنها دفاع اللبؤة عن أشبالها. - لنفترض أن داغوبير غاب عن منزله، وأنك ذهبت إلى هذا المنزل عند منتصف الليل، فقرعت بابه وفتحت لك حنة. - وبعد ذلك؟ - يصبح الأمر منوطا بك، فإن حنة تحبك كما أظن. - إن الحب متبادل بيننا على السواء. - إذن تبسط لها عند الاجتماع حقيقة موقفها وتظهر لها أنها أسيرة في أيدي الظالمين، وأنك تريد أن تجعلها كونتس، فإذا أحسنت التعبير عن عواطفك وعرفت أن تتكلم بلغة أهل الغرام فإن حنة توافق على أن تتبعك، فتردفها وراءك فوق الجواد فلا يستفيق الرهبان من رقادهم حتى تكون اجتزت الدير بمراحل. - ولكن إلى أين أسير بها؟ - إلى هنا؛ أي إلى منزل أمك فإنها قد وافقت على زواجك، وليس في ذلك معرة ما زلت تأتي بها إلى أمك؛ إذ يتضح نبل غايتك متى اشتهر الأمر.
فسر لوسيان سرورا لا يوصف، ثم انقبض فجأة وقال: ولكنك لم تفطن لأمر، وهو أن داغوبير لا يفارق منزله ودكانه لحظة. - إني أضمن غيابه عن المنزل. - أنت تتعهد بإبعاده؟
فابتسم الشفالييه وقال: نعم أنا أتعهد فاطمئن، والآن قل لي أترى بنوات الأحدب غالبا. - إني أراه كل يوم ولا بد أن يكون الآن في المطبخ، فقد جاء يسأل إذا كنا عازمين على الصيد غدا. - إذن ادعه الآن ومره أن يطيعني كما يطيعك. - ولكن ...
فقاطعه الشفالييه وقال له: لقد وعدت أن تطيعني وتثق بي، فحافظ على وعدك وافعل ما قلته لك. - سأفعل. ثم نادى أحد الخدم وأمره أن يدعو له الأحدب، فلما جاء قال له: أريد منك يا بنوات أن تصحب الشفالييه، وأن تطيعه كما تطيعني.
فنظر الأحدب إليه نظرة إنكار كأنه يقول له: إني أؤثر أن تأمرني بالذهاب إلى الموت على أن تأمرني بطاعة هذا الرجل.
فأدرك لوسيان قصده؛ إذ كان يعلم كرهه للشفالييه وقال له بلهجة السيادة: إني أريد أن تطيعه.
وعند ذلك قال الشفالييه: اذهب الآن وأعد لي الجواد. - لعلك تريد الذهاب إلى الغابة؟ - ربما.
فمشى الأحدب وهو يتمتم قائلا: إن الكونت بات يثق بهذا الشفالييه، ولكن اعتقادي راسخ أنه من رجال الشر.
وبعد ساعة كان الاثنان يسيران في الغابة، وقد امتطى الشفالييه جواده وتبعه الأحدب ماشيا.
حتى إذا توسطا في الغابة ووصلا إلى طريق ضيق فيها وقف الشفالييه وقال في نفسه: إنه إذا صدقت تنوان، فإن داغوبير قد سافر إلى أورليان ماشيا، ولا يوجد غير هذا الطريق بلا بد له من العودة الليلة؛ إذ لا يدع الفتاة تبيت وحدها في المنزل.
ثم التفت إلى بنوات وقال له: أتعرف يا بنوات طريقة نصب الفخاخ للثعالب والأيل؟
قال: لا يوجد خدعة يا سيدي من خدع الصيد لا أعرفها. - إني لم أر إلى الآن هذا النوع من الصيد، وأحب أن أراه الليلة، وقد أحضرت معي الفخ. - كما تريد، ولكن هذا المكان لا يصلح لنصب الفخاخ؛ إذ هو طريق عام والأيل لا يمر به. - ولكني أريد أن تنصبه هنا. - أهنا في وسط الطريق؟ - نعم.
فنظر إليه الأحدب نظرة إنكار وقال: أرى أن سيدي الشفالييه يريد أن يصطاد إنسانا لا أيلا. - ربما. - إذا كان ذلك، فإني لا أشترك معك يا سيدي؛ فإني لا أحب صيد الناس.
فغضب الشفالييه وقال له: لعلك نسيت أيها الوقح أن الكونت أمرك بطاعتي؟ - هو ذاك، ولكن الكونت قد لا يكون عارفا بقصدك. - بل هو عارف.
فذعر الأحدب وتراجع إلى الوراء، فأخرج الشفالييه غدارة وصوبها إلى الأحدب وقال له: إذا حاولت الفرار فاعلم أني أقتلك دون إشفاق.
فرأى الأحدب أن الموقف حرج، وحاول أن يطيل الوقت بالجدال فقال له: ما زال الكونت لوسيان عارفا بقصدك كما تقول فلا أجد بدا من طاعتك ولكن ... - ولكن ماذا؟ لعلك تريد أن تعرف الرجل الذي أريد إيقاعه في الشرك؟ - نعم. - هو رجل أساء إلي وإلى الكونت. - إذن ليكن ما تريد، ولكنك تعلم يا سيدي أن الرجل لا يؤخذ بالشرك كما يؤخذ الأيل. - تريد أن الأيل يسير منخفض الرأس فيعلق الشرك بعنقه ويخنقه، خلافا للرجل فإنه يسير مستوي القامة فيعلق الشرك بساقيه ولا يقتله. - هو ذاك، وأرى يا سيدي أنك تعرف طريقة نصب الفخاخ كما أعرفها، فانصب الفخ أنت. - لا بأس فسأنصبه أنا، فأمسك جوادي.
ثم ترجل عن جواده ووضع غدارته في جيبه وأخذ من حقيبة كانت على الجواد ذلك الفخ؛ لينصبه بشكل لا يستطيع المار بذلك الطريق الضيق أن يسلم منه.
وكان القمر يتألق في السماء ويضيء ضوء النهار، فلم يكد يتم نصب الفخ حتى سمع الأحدب يصيح صيحة دهش، فأسرع إليه وقال له: ماذا جرى؟
وكان الأحدب جالسا القرفصاء على الأرض وهو ينظر في آثار قدم عليها، فقال له: لقد عرفت صاحب هذه القدم. - من هو؟ - هو داغوبير البيطري عند باب الدير. - أحقا ما تقول؟ - إنه هو الذي مر بهذا الطريق، وإنك قد نصبت الفخ له دون شك. - ربما. - ولكني لا أريد أن يؤخذ داغوبير كما تؤخذ الثعالب. - لماذا لا تريد؟ - لأنه صديقي.
فشاغله الشفالييه بالحديث، ثم هجم عليه فجأة فقبض على عنقه وألقاه إلى الأرض وهو يقول: إنك إذا صحت أقل صياح خنقتك دون رحمة. ثم حمله بين يديه فوضعه فوق جواده ووثب إلى ظهر الجواد، فأطلق له العنان وسار الجواد ينهب الأرض إلى قصر بوربيير والأحدب عليه أمام الشفالييه وهو ضاغط عليه فلا يستطيع حراكا.
20
ولنعد الآن إلى الدير حين ذهب إليه داغوبير بدعوة رئيسه، فإن الأب جيروم كان قد شفي فجأة من هذا المرض الخفي الذي أصابه، فلما جاءه داغوبير قال له: إن الوقت قد أزف يا بني، فإني أجد من نفسي قوة تعينني على هذا السفر الذي أخبرتك عنه. - إني مستعد يا سيدي للذهاب معك إلى حيث تريد. - ولكني لا أستطيع مبارحة ديري، إلا بإذن خاص من الرئيس العام المقيم في أورليان؛ ولذلك سأرسلك يا بني بهذا الكتاب إلى الرئيس.
ثم أعطاه كتابا ضخما مختوما بالشمع بختم الدير، فأخذه داغوبير وقال: أيجب أن أذهب الآن؟ - كلا، بل نسافر بعد الظهر، وفي خلال ذلك تخبر حنة بعزمنا على السفر كي تتأهب له.
فأخذ داغوبير الكتاب وعاد إلى دكانه، فوجد تنوان النورية وحدها فإن حنة كانت قد أسرعت بالعودة إلى غرفتها كما تقدم.
وبعد أن ذهبت تنوان وبقي داغوبير وحده يشتغل، نزلت إليه حنة فحيته وقبل جبينها كما عودها منذ الحداثة، ثم جلست بجانبه فقال لها: إني مسافر اليوم إلى أورليان بأمر الأب جيروم. - أهي بعيدة من هنا؟ - سبع مراحل. - متى تسافر؟ - عند غروب الشمس. - متى تعود؟ - بعد انتصاف الليل، ولكني سأقفل باب الدكان حين انصرافي، فإذا طرقه طارق فاحذري أن تفتحي إلا إذا كان الطارق أنا، أتعدينني بذلك؟ - بلا ريب. - بقي أمر يجب إخبارك به وهو أننا مسافرون كلنا غدا.
فارتعشت حنة وقالت: من كلنا؟ - أنا وأنت والأب جيروم.
فاصفر وجهها وقالت: إلى أين نسافر؟ - إلى باريس. - ما عسانا نصنع في باريس؟ - نذهب إليها للبحث عن ثروتك. - أنا لي ثروة! - نعم فإنك ثرية، وربما وجدنا عائلتك أيضا.
فقالت بلهجة الأسف: ألم تقل لي مرات إن أهلي قد ماتوا؟ - هو ذاك، ولكن ألا تذكرين اليوم الأول الذي أتيت به إلى هنا؟ - نعم أذكر ذلك فقد كنت صغيرة، وجاء بي إلى هنا عمي راوول، ولكنك قلت لي أيضا إنه مات. - إني كنت أحسبه ميتا، غير أن الأب جيروم يقول إنه حي.
فظهرت عليها علائم السرور وقالت: أهذا أكيد؟ - هذا ما يقوله الأب جيروم، وربما وجدنا عمك في باريس.
فعادت الفتاة إلى الانقباض، ثم تنهدت وقالت: إن عمي قد يخطر له أن يبقيني عنده. - ذلك ممكن.
فاضطرب صوتها وقالت: إذن لا أعود إلى هنا؟
فقال لها بلهجة تشف عن الحزن العميق: ألم أقل لك إنك من النبلاء، وإنه لا يمكن أن تعيشي كل العمر في منزل حداد فقير مثلي.
فاغرورقت عيناها بالدموع وقالت: إني سعيدة هنا. ثم عانقت داغوبير وجعلت تقول وهي تبكي: إني أحبك ولا أحب أن أفارقك. - إذن، إذا رأيت عمك ألتمس منه أن يأذن لي بالبقاء معك في خدمتك.
وكان من حق هذا الجواب أن يخفف دموعها، ولكنها بقيت تسيل وصعدت إلى غرفتها فجعلت تشغل نفسها بإعداد الطعام.
وعند الظهر جلست مع داغوبير على المائدة، فلم تكن تبكي ولكنها كانت حزينة منقبضة تأكل بدون شهية.
وبعد ذهاب البيطري عادت فاسترسلت إلى البكاء.
أما البيطري فإنه خرج من المنزل واليأس ملء قلبه، فكان يقول في نفسه: إني أعلم يقينا السبب في بكائها، فإنها لا تبكي إشفاقا على فراقي بل على فراق هذا الكونت. وتوغل في الغابة فجعل يبكي بدوره بكاء أشد من بكائها.
وما زال يسير وهو على هذه الحالة من القنوط حتى وصل إلى أورليان، فدفع إلى الرئيس العام رسالة الأب جيروم وأخذ جوابه، ثم رجع لفوره وهو يوسع الخطى.
وكان القمر على وشك الزوال وقد حجب نوره تكاثف أشجار الغابة، فما زال يسير وهو مشتت البال، حتى وصل إلى موضع الفخ في ذلك الطريق الضيق، فشعر فجأة أنه التطم به ثم شعر أن ساقيه قد تقيدا، وعلم لفوره أنه سقط في فخ الثعالب.
21
ولنعد الآن إلى الشفالييه دي فولون، فإن القراء يذكرون أنه وضع بنوات الأحدب أمامه فوق الجواد وانطلق في تلك الغابة إلى قصره.
وقد حاول الأحدب أن يصيح ويستغيث، ولكنه لقي من وعيد الشفالييه وغدارته ما حمله على الخوف والسكوت.
وما زال سائرا به على هذا الشكل حتى وصل إلى قصره، فنادى الخدم ودفع الأحدب إليهم فقال لهم: خذوا هذا الفتى فاربطوا يديه ورجليه وضعوا كمامة في فمه، ثم ألقوه على هذه الحالة في القبو إلى أن أفرغ من مهمتي فإنه يثقل علي.
فقال له الأحدب: لو علم الكونت أنك مسيء إلي هذه الإساءة لما رضي أن تكون بينك وبينه معرفة وولاء.
فقال له الشفالييه: إن الذنب ذنبك، فقد أمرك الكونت أن تطيعني فأبيت الامتثال. - إن لوسيان طاهر القلب نبيل الأخلاق، فلو علم ما أردت عمله في الغابة لما أمرني أن أطيعك. - قلت لك إنه يعلم. - وأنا أقول لك إنه لا يعلم، فإنه يترفع عن الإساءة إلى الناس.
فغضب الشفالييه لهذا التكذيب والتقريع وأخذ سوطه فجلده به جلدا مؤلما، ثم قال للخدم: احملوا هذا الوقح إلى حيث أمرتكم، وعودوا إلي في الحال فإني محتاج إليكم في هذه الليلة.
فقيدوا الأحدب وكمموه وألقوه في قبو المطبخ وعادوا إلى سيدهم، فأمر اثنين منهم ليتبعوه، فتبعاه وعاد بهما إلى حيث وضع الفخ في الغابة فدلهما عليه وقال لهما: إني نصبت هذا الفخ لرجل سيمر بهذا الطريق بلا ريب ويعلق به، فاكمنوا بين أشجار الغابة حتى إذا رأيتماه علق في الفخ قيدا رجليه ويديه قبل أن تطلقاه من الشرك، فإنه شديد وله قوة الثيران.
فقال له أحدهما: لعلنا نعرف هذا الرجل يا سيدي؟ - نعم، فهو داغوبير البيطري. - لقد عرفناه يا سيدي، فماذا نصنع به بعد ذلك؟ - تنتظراني حتى أعود.
ثم تركهما وانصرف واضطجع الرجلان على العشب بين الأشجار.
وبعد ذلك بساعة سمع أحد الخادمين وقع أقدام، فنبه رفيقه وقال له: أعد الحبل فهذا رجلنا قد وصل. - إنه في يدي.
ثم اقترب القادم، فحبس الخادمان أنفاسهما.
كان القادم داغوبير، فلما وصل إلى الفخ وسقط به أسرع الشقيان وانقضا عليه، فلم يثب من دهشته حتى رأى أنه بات مقيد اليدين والرجلين بقيد وثيق.
وكان شديد القوى فبذل جهدا عنيفا كي يقطع قيده فلم يتمكن، فجعل يصيح ولكن الرجلين كمماه فانقلب صياحه إلى أنين. •••
أما الشفالييه فإنه ذهب إلى قصر بوربيير، فوجد لوسيان وأمه وتنوان لا يزالون ينتظرونه، فلما وصل وجدهم مجتمعين في غرفة الكونتس.
وكانت الكونتس قد اتفقت مع ولدها حين غياب الشفالييه اتفاقا تاما، فقد قالت له: إنك تحب يا بني هذه الفتاة، ومعاذ الله أن أعترضك في سبيل سعادتك، غير أن البيطري لا يغفل عنها طرفة عين.
فهاجه الغضب؛ إذ ذكر إهانة البيطري وصبه الماء على رأسه فقال: إني سأؤدب هذا الشقي فأجعله عبرة لسواه. - ولكنك إذا أدبت البيطري يبقى أولئك الرهبان، وهم يحرصون على الفتاة أشد مما يحرص البيطري عليها، واعلم يا بني أني ما كنت لأوافق على هذا الزواج الذي يشيننا لو لم أكن قد رأيت أن هذه الفتاة غير وضيعة كما يدل ظاهرها. - ولكن أية فائدة للرهبان من الحرص عليها؟ - إنا يا بني في زمن ضاعت فيه حقائق الدين، وبات رجال الله أشد تمسكا منا في متاع الدنيا، فإن هؤلاء الرهبان والقسس على ما يبدو من ظواهر نبلهم وزهدهم في الدنيا واشتغالهم للآخرة في خدمة الله أشد منا حرصا على المال وسعيا لاكتسابه، حتى إن بعضهم قد يدفع بهم الطمع والشراهة على اكتسابه من غير الوجوه المحللة المشروعة. - ماذا تريدين بذاك يا أماه؟ - أريد أن الفتاة التي تحبها قد لا تكون قريبة داغوبير كما يقولون، بل قد تكون من أسرة نبيلة وأن الرهبان قد ضبطوا ثروتها. - أيمكن ذاك؟ - هذا الذي أعتقده. - ولكن إذا كان كما تقولين كانوا القيمين عليها، فماذا أصنع؟
فابتسمت الكونتس وقالت: أتكتم عني أسرارك يا بني، ألا تدري أني واقفة على جميع أمرك؟ فإن الشفالييه أخبرني بكل شيء.
فاحمر وجهه وقال: أحقا ما تقولين؟ - إن داغوبير سيغيب اليوم عن منزله بحيث تبقى الفتاة وحدها في المنزل.
فأخذ لوسيان يد أمه فقبلها وقال لها: إنك لا شك من خير الأمهات، وعلى ذاك فإنك تأذنين باختطاف حنة؟ - نعم، على أن تأتي بها إلى هنا فتبقى تحت حمايتي إلى يوم الزواج.
فكاد لوسيان يجن من فرحه، وجعل يعانق أمه إظهارا لامتثاله.
وعند ذاك دخل الشفالييه، فقالت له الكونتس ولوسيان بصوت واحد: ماذا حدث؟ - لقد جرى كل شيء وفق ما أردناه، فهلم أيها الصديق واركب جوادك فقد آن الأوان. - والبيطري؟ - إنه سقط في الفخ. - كيف كان ذاك؟ - إن الوقت لا يتسع الآن لإخبارك بهذه التفاصيل.
فقالت الكونتس: ائذن لي بكلمة أيها الشفالييه، وهي هل بات البيطري في قبضتك؟ - سيكون في قبضتي بعد ساعة.
ثم التفت إلى لوسيان وقال: هلم بنا.
فامتثل، وخرج الاثنان حتى إذا ركبا جواديهما قال الشفالييه: إني لا أقتصر على نيلك مرادك ممن تحب، بل إني أريد الانتقام لك ممن أساء إليك دلالة على إخلاصي في صداقتك، فإنك لا تزال تذكر الماء البارد الذي صبه البيطري عليك، أما انتقامي منه فإني اصطدته كما يصطادون الثعالب بالفخاخ.
وهنا قص عليه كيف نصب الفخ للبيطري، فارتعد لوسيان وقال: لا أنكر استيائي من هذا الرجل، على أني لا أريد أن يبلغ انتقامي منه هذا الحد، فإني أريد تأديبه لا قتله وهذا الفخ يخنقه دون شك. - كلا، فقد نصبته بشكل إذا سقط فيه تقيدت رجلاه دون أن يصاب بأذى، فاطمئن بالا فما زلت من المشفقين.
وسار الاثنان حتى قربا من موضع الفخ، فصفر الشفالييه ولم يكد يدوي صفيره في تلك الغابة حتى أجيب بمثله، وهي إشارة اتفق عليها مع خادميه فأيقن أن داغوبير بات في قبضتيهما، وأطلق لفرسه العنان وهو يقول للوسيان: اتبعني فقد سقط في الفخ.
فتبعه حتى وصلا إلى حيث كان الخادمان، فوجدا أنهما قيدا داغوبير وكمماه وألقياه إلى الأرض.
وكان يضرب الأرض برأسه ويئن أنينا مزعجا كأنه يحاول الانتحار ليأسه فلا يجد إلى الموت سبيلا.
فدنا منه الشفالييه وقال له بلهجة الساخر: أرأيت نتيجة الاعتداء على النبلاء أيها الوقح؟
فنظر داغوبير إلى محدثه ورأى على نور القمر وجه لوسيان، فهاج ثائره وتحرك حركة عنيفة فكاد يقطع قيده، ثم أدرك عجزه فنظر إلى لوسيان نظرات تتقد بنار الغضب وعاد يضرب برأسه الأرض.
فدنا لوسيان من الشفالييه وهمس بأذنه قائلا: أول ما أشترطه أيها الصديق ألا يساء إلى هذا المنكود بشيء فقد كفاه ما يلقاه. - لا فائدة لنا من الإساءة إليه، وإنما نريد إقصاءه، وسأحبسه في القبو مع الأحدب.
فاضطرب لوسيان وقال: أحبست بنوات؟ - نعم؛ لأنه يخدعك ويخونك. - إن هذا محال. - بل هي الحقيقة أرويها لك في غير هذا الموضع، فهلم بنا الآن إلى منزل داغوبير فإن الوقت غير فسيح.
وقد سمع داغوبير هذه الكلمات الأخيرة، فأن أنينا هائلا خرج من صدره كزئير الأسود.
فارتعش لوسيان وتوجع لمصابه، فقال للشفالييه: هلم بنا، فإني لا أستطيع النظر إلى شقاء هذا التعس.
فأمر الشفالييه خادميه أن يذهبا بداغوبير إلى حيث سجنوا الأحدب، فقطع الخادمان غصنين ضخمين ووضعاه عليهما وحملاه فوق الغصنين على كتفيهما وسارا به إلى منزل الشفالييه.
وكان جميع الخدم قد عادوا إلى النوم، فلم يشعروا بقدوم الخادمين بالأسير.
أما الخادمان فإنهما أدخلا داغوبير إلى المطبخ وفتح أحدهما باب القبو والمصباح بيده، فلم يكد ينزل درجتين في سلمه حتى صاح صيحة قنوط؛ إذ لم يجد الأحدب في القبو.
22
وعند ذلك ترك الخادمان داغوبير ملقى على الأرض وبحثا عن الأحدب في القبو وجميع أنحاء القصر فلم يقفا له على أثر.
وذهلا إذ لم يدع أقل أثر لفراره، لا سيما وأنه كان موثقا بحبل لا سبيل إلى قطعه.
ولنعد الآن إلى الأحدب فنبسط كيفية فراره من سجنه بعد وثوق الشفالييه وخدمه من استحالة الفرار.
فقد كان هذا الفتى ذكي الفؤاد شديد الصبر على المكاره، فلما رأى أن القوة في جانب الشفالييه عمد إلى الحيلة فتظاهر بالتسليم والرضوخ لما قدر له؛ لأنه كان يعلم يقينا أن الشفالييه يقتله إذا كابر.
وقد كانوا قيدوا يديه وجعلوهما وراء ظهره بحيث بات نحو نصف ساعة لا يستطيع حركة لمتانة القيد.
وكان ملقى على ظهره، فبينما هو على هذه الحال سمع أصواتا غريبة فوق رأسه.
ثم شعر كأن أنفاسا تهب على وجهه، ثم صاح صيحة منكرة إذ أحس بالجرذان والفيران تصوصي من حوله، فذعر ذعرا عظيما حتى إن الرعب ضاعف قوته فتمكن من الجثو على ركبتيه.
غير أن الجرذان بقيت تطوف حوله وهو يئن أنينا مزعجا؛ إذ لم يكن يستطيع الدفاع.
على أن الجرذان أجفلت لأنينه فهربت بحيث تمكن الأحدب أن يبلغ زحفا إلى الجدار ويستند عليه فيقي ظهره عضها.
ولكن الجرذان لم تلبث أن عادت إليه، وكأنها أيقنت ووثقت من عجزه فلم تعد تحفل به.
وعضه أحدها عضة مؤلمة هاجت أعصابه، وزادت قوته فتمكن من قطع قيد ساقيه فوقف وجعل يركض في هذا القبو المظلم وقد ملء قلبه رعبا، فكان يدوس برجليه تلك الجرذان وهي تبلغ المئات.
وظل العراك بينه وبين الجرذان نحو ربع ساعة وهو يركض كالمجانين، فيبلغ برجليه من رءوسها ما تبلغ أنيابها من لحمه، فقد صعد بعضها على جسمه حتى بلغ وجهه.
فكان إذا شعر بدبيبها على خده ألقى نفسه إلى الأرض ومرغ وجهه فيها فتقلب عليها تقلب الملسوع، ثم رجع إلى الوقوف فكان إذا سحق بقدمه جرذا صاح صيحة ألم، فأجابه الأحدب بمثلها لأن رفاق الجرذ القتيل كانت تنتقم للفور.
ولبث على ذلك حتى أعياه التعب وأوشك أن يسقط، فرجع واستند على الجدار كي يستريح هنيهة ثم يرجع إلى الصراع.
غير أنه سمع فجأة أن جموع الجرذ أخذت تهرب منذعرة، كأن السماء أرسلت نصيرا لهذا التعس.
وفيما هو منذهل يفكر في أسباب رحيلها رأى نقطتين تتقدان كأنهما نجمان يتألقان في سماء مظلمة.
فأيقن أنهما عينا هر وجد منفذا إلى القبو، فكان السبب في خلاصه من أفظع موت.
وكان الهر واقفا فوق سلم، فخيل للأحدب أن هذا الهر معلق في القبة؛ إذ لم يكن يرى السلم لشدة الظلام، ولكنه حين أمن شر الجرذان عاد إليه رشده، فأيقن أن الهر فوق سلم.
وخطر له خاطر سريع ولده في نفسه موقفه الحرج، فمشى إلى جهة الهر حتى عثر بالسلم، فصعد درجاته وهو مكتوف اليدين فلم يعد يرى عيني الهر لأنه خاف من الأحدب كما خافت الجرذان منه فهرب.
أما الأحدب فإنه حين بلغ آخر السلم شعر أن رأسه قد التطم بخشب تحرك إثر الالتطام.
فعلم أنه باب يفتح من أرض المطبخ وينزل منه إلى القبو، فرفعه برأسه فارتفع وصعد درجة وهو يفتح الباب برأسه حتى وصل إلى آخر درجة من السلم فوثب منه إلى أرض المطبخ.
وكان المطبخ مظلما كالقبو غير أن أشعة القمر كانت تنفذ إليه من إحدى نوافذه فكان يرى ما حواليه.
وقد رأى في ما رآه المستوقد، فقال في نفسه: لا بد أن يكون فيه بقية نار خلال الرماد.
وقد خطر له عند ذلك خاطر غريب، فإن المستوقد كان منخفضا فنبش رماده برجله فانكشف عن بقية نار، ورأى قرب المستوقد أعشابا جافة تستخدم للوقيد فاستعان بفمه على وضع هذه الأعشاب فوق النار، ثم جعل ينفخ فيها فالتهبت وتعالى لهيبها.
فأدار ظهره عند ذلك ووضع يديه المكتوفتين فوق ذلك اللهيب بشكل عرض فيه الحبل للنار.
فاحترقت قميصه، ثم احترقت يداه، ولكن الحبل احترق معهما وانقطع.
فألقى نفسه في الحال إلى الأرض فتمرغ فوقها بحيث انطفأ لهيب القميص، ثم أسرع إلى موضع الماء البارد ووضع يديه فيه فخف ما كان يجده من الألم.
وجعل يبحث في المطبخ حتى عثر بزجاجة زيت فصبها فوق يديه المحترقتين فساعد الزيت على تخفيف آلامه.
ولما انتهى من ذلك وبات مطلق اليدين لم يعد يخطر له سوى الفرار، فخرج من المطبخ إلى البستان، فاعترضته الكلاب وهمت أن تنبح، ولكنها كانت تعرف صوته لاشتراكه في جميع حفلات الصيد.
وجعل يناديها بأسمائها ويبتعد حتى وصل إلى سور البستان، فتسلق الجدار ووثب منه إلى الخارج.
وانطلق يعدو في الغابة حتى وصل إلى الموضع الذي نصب فيه الفخ فلم يجد له أثرا، وقال في نفسه: إما أن يكون داغوبير قد سقط في الفخ، وإما أن يكون الشفالييه قد يئس منه لعدم مروره في ذلك الطريق، فرفع الفخ.
ولذلك رأى أن يذهب في البدء إلى دكان داغوبير، ويقف على الحقيقة.
23
ولنعد الآن إلى لوسيان وصديقه الشفالييه، فإنهما بعد أن أمر الشفالييه خادميه بالذهاب بداغوبير إلى القبو سار الفارسان في طريق الدير، فقال لوسيان لرفيقه: قل لي الآن ماذا فعل بنوات؟ - أراد خيانتنا. - هذا محال، فقد عرفت الفتى حق المعرفة.
وأخبره الشفالييه بجميع ما اتفق إلى أن قال له: إن الأحدب عرف من آثار الأقدام في الطريق الذي نصب فيه الفخ أنها آثار البيطري، وأن الفخ قد نصب له فأبى الرضوخ لأن البيطري صديقه.
فلما علم لوسيان أن الأحدب صديق داغوبير وهو كان يرسله بمهمات إليه بات يكره الاثنين، وقال لصديقه: لقد أحسنت كل الإحسان؛ لأن عوام الشعب باتوا متفقين علينا يتآمرون على التنكيل بنا كل يوم، وهذا ما جرته علينا أفكار الفلاسفة التي تساهلت الحكومة في أمر نشرها، فكانت وبالا علينا نحن النبلاء، وأخذت تنتشر بين هذا الشعب.
إلا أن لوسيان لم يكن يرتئي رأي رفيقه فلم يناقشه في هذا الموضوع، وسأله عما فعل بالأحدب فأخبره.
وسأله: وماذا تصنع بداغوبير؟ - كما صنعت بالأحدب. - لعلك تطيل سجنه؟ - إلى أن يتم عقد زواجك بحنة، فإنه إذا خرج من السجن قبل الزواج ذهب إلى رئيس الدير وأخبره بما اتفق، فأفسد عليك الأمر؛ لأن الأب جيروم إذا وقف على الحقيقة قبل فوات الأوان، ذهب إلى رئيس الدير العام فأقام الدنيا وأقعدها واسترجع منك الفتاة.
وعلى ذلك يجب أن نحتاط كل الاحتياط، وإني واثق من رجالي ولا خوف من إفلات البيطري والأحدب، فإذا أحسنت السلوك كانت حنة طوع إرادتك بعد ساعة وتذهب بها إلى أمك، وفي اليوم التالي تسافر بها إلى باريس. - إذن ستحتفظ بداغوبير والأحدب؟ - نعم. - ولكنك لا تسيء إليهما؟ - أعدك وعد صادق. - إذن أنا ذاهب إلى حنة.
فنظر الشفالييه في ساعته وقال: كلا، لم يحن الوقت بعد؛ إذ يجب أن ننتظر حتى يبدأ الرهبان بصلاة الفجر.
فتنهد لوسيان وتاه في فيافي التصورات، وكان يحسب كل ما هو فيه حلما؛ لأنه سيختطف حنة وقد أسر البيطري ووافقت أمه على زواجه، وكل ذلك لم يكن يخطر له في بال.
ثم إنه مضى به ثمانية أيام لم يقف في خلالها على شيء من أخبار ابنة عمه أورور.
وكان يفكر في جميع هذه الأمور وهو ساهي الطرف، والشفالييه ناظر إليه يقرأ أفكاره ولا يكلمه إلى أن نظر لوسيان إليه فجأة، وقال له: إني خائف أيها الصديق. - مما الخوف؟ - أخشى ألا توافقني حنة على الفرار؛ لأنها تحترم داغوبير أشد الاحترام. - ولكنها تحبك أشد حب. - هو ذاك، ولكنها ربيت تربية دينية، وهي تعتبر داغوبير قيما عليها، فأخاف أن يغلب دينها حبها فيمنعها عن ارتكاب هذه الهفوة. - إذن قل لها الحقيقة، وهي أنها ضحية الرهبان وأن داغوبير آلة في أيديهم. - وإذا أصرت على الإباء؟ - عندها ترجع إلي ونختطفها بالقوة، ومتى وصلت إلى منزلك ورأت أمك يخف ما عندها؛ إذ توقن عندئذ من نبالة قصدك. - سأذهب على بركة الله وليفعل الله ما يشاء.
وعندها أوقف الشفالييه جواده فجأة، وقال للوسيان بصوت منخفض: اصمت وأصغ.
وأصغى لوسيان هنيهة، ثم قال لرفيقه: ماذا سمعت فإني لم أسمع شيئا؟ - لقد خيل لي أني سمعت وقع أقدام بين الأدغال. - ربما كان ذلك صوت مسير حيوان. - ربما، ولكني قلق البال. - ما يحملك على القلق؟ - إني لو لم أكن واثقا أن بنوات الأحدب سجين، لقلت أن هذا الصوت صوت وثبه. - إنك واهم أيها الصديق، فربما كان الذي سمعته صوت حفيف الأوراق. - ربما، فلنواصل السير.
وسار الفارسان ولم يبتعدا قليلا حتى رجع الشفالييه إلى الوقوف، وقال: إني لست مخطئا هذه المرة، وقد سمعت الصوت نفسه ولا بد لي أن أتحقق.
ثم دفع جواده إلى جهة مصدر الصوت، فطاف هنيهة باحثا وعاد وقال: أظن أني مصاب بدوي في أذني لأني لم أر أحدا. - قد يكون ذلك صوت سير حيوان كما قلت لك، ولنواصل السير فقد اقتربنا من الدير. - بل أرى الأفضل أن أنتظرك هنا. - لماذا؟ - لأنك إذا كنت وحدك قد تفتح لك حنة الباب، وأما إذا رأتني فلا يمكن أن تفتحه. - لقد أصبت أيها الصديق. - إذن سر، فإذا أصرت على الرفض ورأيت أنك محتاج إلي، فصفر لي أحضر إليك في الحال.
فتركه لوسيان وانصرف وبقي الشفالييه وحده ينتظره، فما مضت هنيهة حتى ارتعش؛ إذ سمع ذلك الصوت السري للمرة الثالثة.
ولكن الصوت كان قريبا جدا منه، فقال في نفسه: لم يبق لدي ريب أن الصوت صوت أقدام لص.
وعند ذلك أخذ مسدسه من جيبه، ودفع جواده إلى الغابة.
ولم يكد ينتقل به من مكانه حتى أصيب برصاصة بندقية، فصاح صيحة ألم وانقلب يهوي عن جواده إلى الأرض متضرجا بالدماء.
24
ولا بد لنا لمعرفة هذا القاتل من اتباع الأحدب حين خروجه من القبو، وقد تركناه متوجها إلى منزل داغوبير ليعلم إذا كان قد سقط في الفخ، أو سلم منه فينذره إذا وجده في منزله بأن لوسيان يريد اختطاف حنة.
وكان يعرف جميع طرق الغابة، وقد وثق أن لوسيان يبغي اختطاف الفتاة بدليل اتفاقه مع الشفالييه على أسر داغوبير.
وجعل يسير بسرعة الغزلان في أقصر الطرق المؤدية إلى الدير، وهو يرجو أن يبلغ إليه قبل وصول الكونت والشفالييه، فإما يجد البيطري ويخبره أو لا يجده ويحول دون بغية الكونت في الحالين.
وفيما هو يعدو في تلك الغابة وقد احتجب القمر بالغيوم، سمع فجأة صوت رجل يقول له: من أنت؟
فذعر وقال: أنا بنوات. - لقد أخفتني يا بنوات.
وعرفه الأحدب من صوته وقال له: أهذا أنت يا جاك؟
وكان هذا الرجل الفلاح الذي أساءت إليه الكونتس أورور في بدء هذه الرواية لقتله الأيل التي كانت تطارده.
ودنا الأحدب منه وقال له: لقد بكرت بالصيد يا جاك. - كلا، إن الفجر سوف ينبثق، وقد حسبتك أحد حراس الغابة فخفت منك.
وكان الأحدب قد رأى عن بعد فارسا قبل أن يرى جاك يسير في طريق الدير، فحسبه داغوبير وجعل يثب بغية إدراكه، حتى التقى بجاك فحال دون قصده، فقال لجاك: إني أراك قادما من جهة الدير، أرأيت داغوبير؟ - كلا. - ولكن من هو الفارس الذي يسير في طريق الدير؟ - ليس هو فارسا بل فارسين لم أعرفهما لأني لم أتبينهما. - وا أسفاه! إني أخشى أن يكون أصيب داغوبير بمكروه.
ثم أخبره بجميع ما عرفه عن المكيدة.
فغضب الفلاح وقال : يجب أن نضع حدا لعسف هؤلاء الذين يدعون أنفسهم نبلاء، وما هم إلا من أسافل الرعاع. - إذا كان الذين رأيتهما فارسين لا بد أنهما الكونت والشفالييه، هلم نتبعهما فإنهما ليسا بعيدين عنا.
وعند ذلك جعل الاثنان يعدوان إلا أن الأحدب رأى رفيقه لا يستطيع مجاراته في العدو.
ورجع إليه وقال له: إنك لا تستطيع إدراكهما معي أيها الصديق، فأعطني بندقيتك. - أتريد أن تقتل بها لوسيان؟ - كلا، بل الشفالييه الذي دفعه إلى ارتكاب هذا المنكر. - خذ، إني أود قتل كل نبيل يتذرع بنبله إلى الشر.
ولم يكن بنوات هذا قد أساء إلى أحد في حياته، فقد فطر على الصلاح، إلا أن الانتقام هاج بصدره وسهل له ارتكاب الجريمة، لا سيما وأنه كان لا يزال يشعر بألم شديد في يديه من الحرق.
وأخذ البندقية وجعل يثب بين الأدغال في أثر الفارسين، وبجنب الطريق العام حتى أدركهما على قيد عشرين خطوة.
ورأى أن لوسيان قد انفصل عن الشفالييه فوضع البندقية على كتفه وصوبها على الشفالييه، ثم أطلقها عليه مرتين وأصابه إصابتين إحداهما في كتفه والأخرى في صدره فسقط صريعا وانتقم الأحدب منه.
وكان لوسيان قد بعد نحو ثلاثمائة متر عن الشفالييه وسمع دوي البندقية ولكنه لم يسمع صيحة الشفالييه فحدثه قلبه بمصاب، إلا أنه كان قد اقترب من منزل داغوبير ورأى عن بعد نورا يضيء فيه، فارتجف قلبه وقال في نفسه: إن حنة قد تكون في انتظاري.
ولم يعد يفتكر بذلك الدوي، وقال: قد يكون ذلك من أحد الصيادين.
ودفع جواده إلى منزل داغوبير، وهو يكاد يسقط عنه لفرط اضطرابه.
فلما اقترب من المنزل أوقف جواده، وترجل عنه وربطه في إحدى أشجار الغابة، ومشى إلى المنزل، ورأى أن النور ينبعث من الدكان لا من المنزل.
ووجف قلبه واقترب من الدكان ووضع عينه على ثقب الباب، فلم يكد ينظر إلى الداخل حتى تراجع، وقد اصفر وجهه، وجمد الدم في عروقه.
ذلك أنه رأى حنة جالسة في وسط الدكان ولكنها لم تكن وحدها، بل كان معها امرأة أخذت يدها بين يديها دون كلفة، وهي تحدثها وتبتسم لها ألطف ابتسام.
أما تلك الفتاة فقد كانت خطيبته السابقة، مدموازيل أورور ابنة عمه.
25
ولا بد لنا لإيضاح السبب في وجود الكونتس أورور عند ربيبة الدير في هذه الساعة المتأخرة من الليل، أن نعود بالقارئ إلى منزل هذه الكونتس.
لقد تركناها وقد فتحت ذلك الصندوق الذي أعطاها إياه الخادم الشيخ بنيامين، وإنها أخرجت منه مدالية فيها تمثال امرأة وصاحت صيحة دهش حين رأت تلك الصورة؛ لأنها كانت تشبه ربيبة الدير شبها عجيبا، ونادت عند ذلك بنيامين، ولكنه كان قد انصرف حين دفع لها الصندوق.
ولبثت أورور حائرة مترددة لا تعلم أتنادي بنيامين أيضا، أم تتم فحص ما حواه الصندوق إلى أن أقرت على الرأي الأخير.
ووجدت في ذلك الصندوق كتابين، كتب على أحدهما: «إلى ابنتي تفتحه حين تبلغ الخامسة عشرة من عمرها»، وعلى الثاني: «إلى ابنتي تفتحه بعد الكتاب الأول بعامين.»
فقالت أورور في نفسها: إني قد بلغت الآن الثامنة عشرة من عمري فصار يحق لي فتح الكتابين.
وعند ذلك ذهبت إلى باب حجرتها وأقفلته من الداخل، وعادت إلى الكتابين ففضت الأول منهما وقرأت ما يأتي:
إلى ابنتي الحبيبة
أكتب إليك هذا الكتاب من ميونخ، وأنا في شر حال وقد اجتمع الأطباء حول سريري يتشاورون في أمري.
إن هؤلاء الأطباء الذين أنارهم العلم لم يتفقوا على مرضي، ولكنهم اتفقوا على موتي فرأى بعضهم أني أعيش أيضا ثلاثة أشهر، وارتأى آخرون أني أموت بعد أسبوعين.
إني كنت مطبقة عيني حين قضوا علي هذا القضاء المبرم فحسبوني مغميا علي، ولكني كنت أسمع ما كانوا يقولون فذعرت يا ابنتي ذعرا شديدا حين سمعت بأذني القضاء علي بالموت، إلا أني لم أخش الموت حبا بالحياة فقد طالما ناديت رسوله، ولكني خشيته لأنه سيكون السبب في التفريق بيني وبينك.
إنك لا تزالين طفلة حين أكتب هذا الكتاب يا أورور، فإن قدر لك أن تفتحيه بعد موتي؛ أي بعد أن تفصل بيننا هوة الأبد.
إني لا أعلم ما يكون مصيرك بعدي، فإما أن تكوني ابنة قلبي وأحشائي أو تكوني ابنة الأحشاء فإني أكون بعيدة عنك، ولكن عيني بنيامين الوفي المخلص الأمين ستنظران إليك، وهو الذي يعلم حقيقة مصيرك.
إن أباك يا ابنتي الحبيبة مذنب عظيم، بل أجسر على القول إنه من أهل الجرائم، فهل تكونين ابنتي أو ابنته؟ وهل تمزج طباعه وأخلاقه الفاسدة في دمائك أم ترثين من أخلاقي؟ هذا هو الشك الهائل الذي لا يروعني سواه وأنا أنزل درجات القبر.
إنك حين تفتحين هذا الكتاب تكونين قد بلغت مبلغا من الصبا يعينك على درس أخلاق والدك، فإذا قدر لك أن تفتحيه فارثي لحال أمك واعلمي أنها ماتت موت الشهداء.
إن بيني وبين والدك الشفالييه دي مازير سرا هائلا يا ابنتي لا يخلق أن تعلميه وأنت لا تزالين في مقتبل الشباب، فإذا بلغت الثامنة عشرة من عمرك يدفع إليك بنيامين كتابي الثاني فتقفين على هذا السر وتعلمين ما يجب أن تصنعيه، ويعلم بنيامين أي الخلقين ورثت من والدك وأمك.
الوداع يا ابنتي، بل إلى اللقاء، فإني أحب أن أموت متزودة بهذا الأمل المعزي وهو أن نفوس الصالحين تلتقي في العالم الأخير.
أمك
كريتشن
فلما قرأت أورور هذا الكتاب أصيبت بذهول شديد، ثم جعلت تناجي أمها باكية فتقول: عفوك يا أماه، فإن أخلاق أبي قد أفسدت نفسي ولكن روحك الطاهرة ستصلح ما فسد.
وأخذت ذلك الكتاب وجعلت تقبله، ثم اهتزت فجأة وقد ذكرت ما كتبته لها عن ذلك السر، فتاقت إلى الاطلاع عليه وفضت الكتاب الثاني وقرأت ما يأتي:
إنك إذا قرأت يا ابنتي هذا الكتاب تكونين قد اقتبست حقيقة من أخلاق أمك.
ولذلك أستطيع أن أخبرك بكل شيء ... إنك تجدين في الصندوق الذي يعطيك إياه بنيامين دفترا، وهذا الدفتر يتضمن تاريخ حياتي، فقد قلت لك في كتابي الأول إني أموت موت الشهداء، ذلك أني مت مسمومة يا ابنتي في منزل والدك.
إنهم دسوا لي في الطعام سما هائلا منذ عامين يقتلني تباعا، كي لا تظهر جريمتهم للعيون.
افتحي الدفتر واقرئي ما فيه تعلمي كيف ماتت أمك التعيسة وتعرفي أسماء قاتليها.
وإني أخبرك يا ابنتي قبل أن أودعك الوداع الأخير، أنه يوجد فتاة تزيدك سنا تتصل بك بأشد أواصر القربى، وأنت لا تعلمين أن هذه الفتاة أختك وتحسبين أنك وحيدة.
فلما وصلت أورور إلى هذه الجملة صاحت صيحة دهش وسقط الكتاب من يدها.
ولما ثابت من دهشتها قامت إلى جرس دقته دقا عنيفا وفتحت الباب للحال ودخل بنيامين، فقد كان واقفا قرب الباب لوثوقه أنها ستدعوه إليها لتسأله، فوجد الدمع يجول في عيني أورور فقال لها: هو ذا أتيت يا سيدتي، فبماذا تأمرين؟ - أريد أن تخبرني كل شيء. - ماذا تأمرين يا سيدتي أن تعرفي؟ - أريد أن أعرف لماذا لم يقل لي أبي؟ ولماذا لم تقل لي أنت إن لي أختا؟ - هي الحقيقة، فلك أخت. - ولكن أين هي؟ وماذا جرى لها؟ لعلها ماتت؟ - لا أعلم.
فقالت بصوت يضطرب: إني قرأت الكتابين يا بنيامين وأريد أن أعرف كل شيء. - لعلك قرأت الكتاب الثاني إلى نهايته؟
فارتعشت وقالت: كلا. - إذن أتمي قراءته.
فأخذت الكتاب من الأرض وأتمت قراءته، فقرأت ما يأتي:
إن لك أختا، وقد حاولوا قتلها كما قتلوني، إلا أن رجلا مخلصا لنا أنقذها، وأنا لا أعلم إذا كان يستطيع إخفاءها عن أعين أولئك القتلة الآثمين، ولكني أسأل الله أن يقيها من هذه الوحوش الضارية.
إني لا أعلم يا أورور أين تكون أختك حين تقرئين هذا الكتاب، ولكنك إذا كنت قادرة باسلة، فاجعلي همتك البحث عنها وحمايتها من كيد المعتدين.
الوداع، بل إلى اللقاء فإني أنتظرك في السماء؛ حيث نجتمع لدى الديان نصير المظلومين.
أمك
كريتشن
فنظرت أورور إلى بنيامين وقالت له: إذن لي أخت، ولكن لماذا لم يخبرني أبي بها؟ - لأنه يحسبها ميتة. - أهي ميتة؟
فأجابها بنيامين بصوت منخفض: لا أعلم، ولكن موتها أفضل من حياتها.
فاضطربت أورور وتوقعت الإباحة بأمر خطير لم تجسر على السؤال عنه، فأخذت الدفتر وجعلت تقلبه بين يديها وهو الدفتر المتضمن تاريخ حياة أمها وبيان أسماء قاتليها.
وكان الدفتر مختوما بالشمع الأسود، فكانت تدني يدها من ذلك الختم فتقشعر منه كأنه نار يحرقها ولا تجسر على مسه.
وفيما هي على ذلك، أصاب نظرها تلك المدالية المرسومة فيها صورة المرأة، فاختلجت وقالت لبنيامين: من يمثل هذا الرسم؟
فأجابها بصوت يتهدج: إنه رسم أمك يا سيدتي.
فصاحت الكونتس صيحة دهش وقالت: إذن لقد بت واثقة أن أختي لا تزال في قيد الحياة.
وعندها خرج بنيامين وقرأت أورور ما يأتي ...
26
إن أسرة ولدتر كارلوتنبورج هي أقرب أقرباء الأسرة المالكة في بافاريا، ولم يكن باقيا من هذه الأسرة النبيلة إلا فتاة وهي الأميرة هيلانة.
إن هيلانة دي كارلوتنبورج كانت بين الثامنة والعشرين والثلاثين من العمر، وهي بارعة الجمال كثيرة الدلال والإدلال، فكانت سمر النوادي العالية في حلقات المتحدثين.
وقد كان رغب في زواجها كثير من الأمراء غير أنها أبت إجابة أحد من خطابها احتفاظا باستقلالها.
إلا أنهم كانوا يتحدثون همسا في الآذان أنها متزوجة زواجا سريا منذ بضعة أعوام برجل نبيل يدعى الكونت دي مازير.
وكان هذا الكونت في الثلاثين من عمره، تدل ظواهره على الغنى وهو فقير، ولكنه نال منصبا كبيرا بفضل المساعدة الخفية فأرسله ملك فرنسا سفيرا لمملكته إلى بلاط ميونخ.
فبعد أن تولى هذا المنصب بعامين استدعي فجأة إلى باريس لسبب موت أحد أخويه.
وكان أخوه قد مات عن أرملة وطفل صغير يبلغ بضعة أشهر، وهو فقير أيضا مثل أخيه الكونت السفير.
ففي اليوم التالي لسفره لوحظ أن البرنسيس هيلانة لم تكن في البلاط، وعلموا بعد يومين أنها سافرت إلى باريس، فلم يبق شك لدى جميع نبلاء ميونخ أنها متزوجة حقيقة بالكونت دي مازير.
وكانت هذه الأميرة كثيرة الغنى يحبها الملك حبا شديدا أبويا ولا يصبر على فراقها، فكانت كثيرة الإدلال عليه تنال بنفوذها عليه كل ما تريد.
وهي شديدة الكبرياء، ومن أخلاقها الغيرة وحب الانتقام، ولم يكن لديها من المخلصات لها إلا فتاة فرنسية ولدت في ألمانيا، فكانت لهذه الأميرة صديقة ووصيفة ، وقد وهبتها الطبيعة جمالا باهرا فكان هذا علة شقائها.
إن هذه الفتاة كانت تدعى كريتشن، وأما اسم عائلتها فقد كانت تجهله.
إلا أن الأميرة كانت تعلم اسم عائلة كريتشن ولكنها لم تكن تخبرها به لسبب خفي لم تستطع إدراكه على شدة اتصالها بها.
وكل ما كانت تعرفه كريتشن عن عائلتها أن أباها قدم إلى ميونخ مضطهدا فقيرا، فتزوج نبيلة من نساء تلك العاصمة، وأن أباها مات بعد شهر من موت أمها وهي لم تبلغ العام من العمر، ولم يعلم أحد كيف كان موتهما ما خلا رجلا كان خادما في منزلهما يدعى فريتز.
فلما بلغت كريتشن الخامسة عشرة من عمرها ورد إلى فريتز كتاب من فرنسا، فسافر إلى فرنسا على إثر ورود الكتاب تاركا كريتشن لعناية امرأته.
وقد طال غياب فريتز فمرضت امرأته وماتت بعد ستة أشهر لسفره، فباتت كريتشن فريدة وحيدة في هذا الوجود.
إلا أن عين العناية كانت ترمقها، فإنه لم يمر بها على انفرادها ثلاثة أيام حتى وقفت مركبة تجرها أربعة جياد وعليها شعار النبلاء وخرجت منها سيدة وهي البرنسيس هيلانة دي كارلوتنبورج، فإن الأميرة كانت مرت منذ بضعة أشهر بهذا البيت ورأت كريتشن فأثر بها جمالها وأرادت أن تجعلها في حاشيتها.
فلم تجد كريتشن بدا من القبول؛ إذ باتت وحيدة في الوجود.
على أن فريتز لم يكن قد مات كما توهمت كريتشن، فلما عاد من فرنسا إلى ميونخ وعلم بأن كريتشن عند الأميرة تجهم وجهه، وذهب إلى قصر الأميرة فالتمس مقابلتها، فوجد أن كريتشن باتت في أرقى منزلة لدى البرنسيس، فلم يجسر على أن يسألها الفرار معه، ولكن البرنسيس أذنت بمقابلته، فخلا بها مليا، ولم تعلم كريتشن ما دار بينهما من الحديث في ذلك الاجتماع إلا بعد زمن طويل.
غير أن فريتز أقام منذ ذلك اليوم في قصر الأميرة خصيصا لخدمة كريتشن، فكان يلازمها ملازمة ظلها كأنها مهددة بخطر سري هائل.
ومر عامان، وفي ذلك العهد سافرت الأميرة إلى باريس وصحبت معها كريتشن وفريتز.
وكانت كريتشن قد تربت أفضل تربية في قصر الأميرة وتعلمت خير تعليم، وقد ترعرعت وباتت فتنة الناظرين بجمالها حتى إن الكونت دي مازير الذي كان لا يكاد ينظر إليها في بدء دخولها في خدمة الأميرة بات الآن مدلها مفتونا بها.
وكانت الأميرة قد تزوجت حقيقة بالكونت دي مازير، وإنما بقي هذا الزواج مكتوما لأن ملك بافاريا أبى الموافقة عليه.
أما الكونت فقد كان في مقتبل الشباب، وهو جميل الوجه حلو الحديث كثير التفنن خلافا لكريتشن، فقد كانت على أتم السلامة، فلم يستطع قلبها الصغير مقاومة عيني هذا الكونت فعلقت في شركه، وكانت الأميرة لا تعلم شيئا مما جرى بينهما، على أن الكونت كان قد أقسم لكريتشن أنه عشيق الأميرة وليس زوجها كما يشيعون، وأنه سيتزوج كريتشن، فصدقته الفتاة لسلامة نيتها وسقطت في حبال غرامه.
وكانت مدة إقامة الأميرة في باريس قصيرة لا تتجاوز شهرين، غير أن كريتشن كانت تصحب الأميرة إلى الأوبرا فكانت تدهش الناس بجمالها، وقد اتفق يوما أنها كانت في صحبة البرنسيس، فلقيهما اثنان من حراس الملك وأظهرا لها ودادا عظيما.
وكان أحدهما يدعى الكونت دي بوفوازين، والآخر راوول دي مورليير.
ففي اليوم التالي ورد إلى كريتشن كتابان من هذين الحارسين، فعثر فريتز اتفاقا على أحد هذين الكتابين وهو كما يأتي:
سيدتي
إني رأيتك ساعة واحدة فأحببتك، ولي صديق وفي رآك كما رأيتك وأحبك كما أحببتك، وكلانا يضع نفوذه وثروته رهن خدمتك، وأقسم كلانا أن يبقى على وفاء صاحبه إذا قدر لأحدنا أن ينال حظ رضاك عنه دون الآخر.
وكان هذا الكتاب موقعا عليه باسم الكونت دي بوفوازين ولم يصل إلى كريتشن.
أما كتاب راوول فقد وصلها، ولكنها كانت وا أسفاه تحب الكونت دي مازير، ولم تكن لتقابل راوول لو لم يكن قد ورد إليها منه كتاب آخر في منتهى الخطورة.
وهنا توقفت أورور هنيهة عن القراءة، وقالت: رباه! إن كريتشن هذه كانت أمي.
ثم عادت بعد استرسالها إلى التفكير إلى تلاوة كتاب راوول الثاني، فقرأت ما يلي:
إلى مدموازيل كريتشن دي فلارس
لقد عرفنا يا سيدتي باتفاق غريب اسمك ورسم عائلتك، فأنت من بقايا أسرة أقسمت مع رفيقي على أن نسفك في سبيل الإخلاص لها دماءنا.
وإن كلينا يا سيدتي يحبك أصدق حب، وكلانا يرجو تحقيق رجائه بزواجك، ولكننا لا نخدمك من أجل الحب وحده، بل إن الذي يدفعنا إلى هذه الخدمة واجب مقدس يجب علينا قضاؤه.
إنك يا سيدتي على جمالك وطهارة قلبك وكونك من ملائكة الله، يحيط بك أعداء أشداء لا بد لنا أن ننقذك من قبضتهم.
وكلانا شريف وفي، فاعتمدي على وفائنا وشرفنا، واعلمي أنه يجب أن نراك في هذه الليلة نفسها كي تعلمي ما يحدق بك من الأخطار.
وإن مقابلتك في قصر الأميرة محال، ولكن يوجد منزل مقابل لذاك القصر يدخل إليه من رواق ضيق، فإذا كنت لا تشكين بولائنا فاحضري إليه في الساعة الثامنة من مساء اليوم تجديني في انتظارك مع صديقي الكونت دي بوفوازين فإننا نقيم سواء في هذا المنزل.
المخلص الوفي
راوول دي مورليير
غير أنه حال دون قصدها عزم الأميرة على الرجوع إلى ميونخ في اليوم نفسه.
وكان الفارسان قد رشوا أحد خدم القصر فأوصل إلى كريتشن هذه الرسالة، واضطرت كريتشن أن تبقى مع الأميرة كل ذاك اليوم لإعداد معدات السفر فلم تفارقها لحظة.
حتى إذا خرجت الأميرة مع حاشيتها إلى المركبات دنا الخادم من كريتشن وأعطاها ذاك الكتاب.
وقد ركبت الأميرة والكونت دي مازير في المركبة الأولى، وركبت كريتشن وسيدة لابسة ملابس الحداد ومعها طفل صغير في المركبة الثانية.
أما السيدة التي كانت لابسة ملابس الحداد فقد كانت أرملة أخي الكونت دي مازير الذي مات حديثا، وقد رضيت بالسفر إلى ألمانيا والعيش مع أخي زوجها في منزل الأميرة.
وأما كريتشن فإنها لم تستطع فتح الكتاب إلا في المحطة الأولى.
ولما أقبل المساء وصلوا إلى سانوتياري فنزلوا في أحد فنادقها، وهناك أطلعت كريتشن فريتز على كتاب راوول، فقرأه فريتز واصفر وجهه وقال لها: لم يعد لي بد يا سيدتي من أن أقول لك الحقيقة، فإن الاسم الذي ذكر في الكتاب هو اسمك الحقيقي. - ولكن كاتب الكتاب يقول إن لي أعداء أشداء، فكيف يكون لي أعداء؟
فاضطرب فريتز وقال: إن أعداءك يا سيدتي هم أعداء أبيك وجميع أسرتك. - لعلك عرفت أبي؟ - إنه مات بين يدي.
وعندها أخذ فريتز يقص عليها تاريخ أسرتها فقال لها: إن أسرتك فرنسية وقد كانت شهيرة في القرن الماضي، وقد أسر جدك في حصار مجدبورج وسقط في قبضة البارون ولدتر وهو جد البرنسيس هيلانة.
وكان لهذا البارون امرأة صبية حسناء في حين أنه كان شيخا قبيحا شريرا، وكان جدك المركيز دي فلارس جميلا وهو في الخامسة والعشرين من عمره فأحبته البارونة، ولما عقد الصلح بانتهاء الحصار جاء جدك المركيز إلى فرنسا وقد انثنى عن حب البارونة وحسب أن سر غرامهما لم يعلم به أحد، غير أنه كان منخدعا في ظنونه.
وبعد أن عاد إلى فرنسا تزوج، فلم يمر بزواجه ثلاثة أشهر حتى ماتت امرأته بعد أن لقيت آلاما لا تطاق ولم يدر أحد من الأطباء حقيقة مرضها.
وبعدها بشهرين هاجم المركيز جدك عصابة متنكرة فأثخنوه جراحا وتركوه صريعا وهم يعتقدون أنه لقي حتفه.
ولكنه لم يمت، بل شفي من جراحه وتزوج ثانية بعد هذه الحادثة بعام، فولدت له امرأته ثلاثة بنين.
ومضى على زواجه عشرون عاما، فبينما هو نائم ذات ليلة في المنزل دخل بعض الأشرار إلى غرفة رقاده وقتلوه بالخناجر، فأفرغت الحكومة مجهودها في البحث عن القاتل فلم تقف له على أثر.
وكان أبناء المركيز قد شبوا، فمات اثنان منهم بذاك المرض الخفي الذي ماتت به امرأة جدك الأولى، أما الولد الثالث فقد وردت إليه رسالة خالية من التوقيع هذا نصها:
احذر لنفسك فإن أباك المركيز قد أغوى امرأة البارون ولدتر كارلوتنبورج، وهذا هو السبب في ما تلقاه عائلتك من النكبات المتتابعة.
أما الولد الثالث فهو أبوك يا سيدتي، وقد كان له صديقان أصغر منه سنا وهما ذانك الحارسان اللذان كتبا لك.
وكان يوجد في باريس في تلك الأيام ابن البارون ولدتر الأكبر، وهو شقيق البرنسيس، فخاصمه أبوك وقتله في مبارزة، وكان شاهده في المبارزة صديقاه دي بوفوازين وراوول.
فلما قتل البرنس، وكان الملك قد جعله برنسا قبيل مقتله حسب أبوك أن جذوة الأحقاد العائلية قد خمدت، ولم يكن له من العمر غير ثلاثين عاما، فأراد الزواج استبقاء لاسم عائلته؛ إذ لم يبق منها سواه.
ولكنه أخطأ في حسابه فإنه في اليوم التالي لزواجه وجد امرأته مخنوقة في سريرها، فملأ الرعب قلبه وبرح باريس متنكرا وقد غير اسمه، فأقام في ميونخ متنكرا باسم شارل ريتربرج، وهناك تزوج أمك وبعد عامين ولدتك، وذاك منذ ستة عشر عاما، لكنها ماتت بعد ولادتك موتا فجائيا، وبعد بضعة أيام مات أبوك، ولكنه تمكن قبل مفارقة الروح من أن يقص علي هذا التاريخ العائلي المحزن.
فلما فرغ فريتز من حكايته قالت له كريتشن: إذن إن هذه الأميرة التي أعيش في ظلها هي ابنة قاتلي أسرتي؟ - نعم. - إذا كنت تعرف ذاك، فكيف تركتني أقيم في منزلها؟ - إن الأقدار أرادت أن تكوني في منزلها يا سيدتي، فإن أباك حين برح فرنسا باع جميع موجوداته فيها، وقد أمرني وهو على فراش الموت أن أنتظر إلى أن تبلغي الرابعة عشرة من عمرك فأذهب إلى باريس لاسترجاع ثروتك.
فلما بلغت هذا العمر سافرت إلى باريس امتثالا لأمر أبيك، فبحثت بحثا مستفيضا عن تلك الثروة فلم أظفر بها؛ لأن جدتك كانت قد أدركتها الوفاة، ولم يكن يعرف مكان هذه الثروة إلا صديقي أبيك وهما دي بوفوارين وراوول، ولكني لم أعرفهما في ذاك الحين.
فلما عدت بالخيبة إلى ميونخ وعلمت أنك في قصر الأميرة جمد الدم في عروقي من الإشفاق عليك، وأسرعت إلى قصر الأميرة فالتمست مقابلتها وكنت عازما على قتلها إذا لم تأذن لك بالخروج معي من قصرها.
إلا أني لقيت منها ما أثناني عن هذا العزم، فإنها أظهرت لي حنوها عليك وحبها إياك والدموع تذرف من عينيها، ودلائل الصدق بادية في لهجتها، ثم قالت لي: إني لست سفاكة ولا أنا من أهل الانتقام، وإني أصلح ما أفسده آبائي بذلك الحقد القديم ويكون ذاك الإصلاح بإحساني إلى هذه الصبية.
ثم تنهدت وقالت: والآن خذها إذا شئت، ولكني أقسم لك بالله العلي أني لا أنتقم منها قياسا على ما جرت عليه أسرتي مع أسرتها، بل إني أحبها كما تحب الأخت أختها.
وهنا عادت إلى البكاء فلم يبق لدي شك بصدق نيتها وسلامة طويتها.
هذا ما أعلمه من سر عائلتك وأنت تعرفين البقية، فانظري الآن في أمرك، فإذا كنت خائفة فارجعي إلى باريس وأقيمي فيها بحماية ذينك الحارسين، وإذا كنت واثقة من ولاء الأميرة فابقي في قصرها.
فخطر لكريتشن في تلك الساعة الكونت دي مازير وقالت لفريتز: بل أبقى مع الأميرة فإن ثقتي بها شديدة.
وإنما أرادت البقاء مع الأميرة لهيامها بالكونت دي مازير. - إذن عولت على الرجوع إلى ألمانيا؟ - نعم. - ليحرسك الله ويقيك شر الأعداء.
وفي اليوم التالي سافرت الأميرة مع كريتشن إلى ألمانيا فوصلت إلى ميونخ بعد ثمانية أيام، وكان الكونت قد زاد هياما بها وهي بلغت في هواه حد الجنون.
فلما وصلت أورور في قراءة هذا الدفتر إلى هذا الحد، وضعت رأسها بين يديها وقالت بصوت منخفض تكلم نفسها: ترى من هو فريتز هذا الوارد ذكره في هذا الدفتر؟ لعله بنيامين؟
فأجابها بنيامين ذاك الخادم العجوز الأمين وهو واقف وراء كرسيها: نعم يا سيدتي، أنا هو فريتز، وسأخبرك ببقية الحكاية المؤثرة.
فوضعت أورور الدفتر على الطاولة وأصغت إلى حديث بنيامين.
27
كان بنيامين شيخا قوي البنية طويل القامة، وقد ابيض شعره واتقدت عيناه، فكان له عمر الشيوخ وهمة الفتيان.
فلما جلست أورور تصغي إلى حديثه وجلس أمامها قال: نعم إني مخبرك بسر عائلتك؛ فقد آن لك أن تقفي على كل مكنون من أمورها. ثم قص عليها ما يأتي فقال: إني كنت واثقا ثقة تامة من إخلاص الأميرة هيلانة لأمك كريتشن ولحنوها عليها بحيث لم أعد أراقبها مراقبتي الأولى لاعتمادي في ذلك على الأميرة.
ثم إني كنت لم أبلغ بعد حد الكهولة فما عركني الدهر وما خبرت قلوب البشر؛ ولذلك لم أدقق في البحث عما طرأ على أمك من التغيير، فإنها استحالت من حال إلى حال، فبعد أن كانت باسمة الثغر طلقة المحيا أصبحت مفكرة مهمومة تبدو عليها آثار الكآبة في كل حين، فكنت أقول في نفسي إن هذا الانقباض قد تولاها بعد أن وقفت على مصائب عائلتها، ولا بد أن يمحو مرور الأيام هذه الذكرى من مخيلتها فتعود إلى فطرتها.
غير أني كنت مخطئا في تعليل انقباضها، فإن السبب فيه كان حبها للكونت وعبث الكونت بها.
وقد ساعد الكونت وأمك على هذا الحب حالة البرنسيس في ميونخ؛ فإنها كانت متزوجة الكونت حقيقة، غير أن الكونت لم يكن يحبها، وإنما كان يستخدم حبها لأغراضه، فكان يحضر إلى قصرها في كل يوم، ولكنه كان يقيم في دار السفارة بحيث وثقت أمك لسلامة نيتها أنهما غير زوجين وأن الكونت سيتزوجها كما وعدها بعد ذلك العبث.
ولم تكن الأميرة عارفة بشيء من أسرار هذا الغرام، غير أن امرأة أوقفتها على كل خفي، وكانت هذه المرأة تلك الأرملة التي جاء بها الكونت دي مازير إلى ميونخ، وأقامها في قصر الأميرة؛ أي امرأة أخيه الذي مات في باريس عنها وعن طفل صغير ...
فقاطعته أورور وقالت: ألم يكن هذا الطفل ابن عمي لوسيان؟
قال: بلى يا سيدتي، فإن الكونت دي مازير كان يحب عائلته، وكان ملك بافاريا راضيا عنه يريد له الخير، فاغتنم هذا الرضى الملكي فجاء بامرأة أخيه وابنها، فأقامهما في قصر الأميرة هيلانة، وجاء بأخيه الثالث فجعله من رجال التشريفات في بلاط الملك. - من هو أخوه الثالث؟ أليس أبي؟ - بلى هو أبوك الشفالييه دي مازير، وقد رأى أمك كريتشن فأحبها، وهو يعلم أن أخاه المحسن إليه يحبها حبا لا يوصف، ولكنه لم يبال بأخيه.
وأما امرأة عمك؛ أي والدة لوسيان، فإنها حين رأت أمك المرة الأولى نفرت منها وكرهتها كرها شديدا لحسد منها.
غير أن الكونت دي مازير لم يكن يحب حبا أكيدا من جميع من كان حوله غير كريتشن.
وجعلت الأيام تتوالى وأمك تبالغ في إخفاء غلطتها، حتى دنت الأيام التي لا يمكن بها للنساء أن يسترن هذه الزلات، وقد كانت في كل حين تتوسل إلى الكونت أن يرحمها ويفي بوعده بزواجها، فكان يعللها بالرجاء ولا يفي بما وعده.
إلى أن دنا موعد ولادتها، ولم يعد للكونت حيلة في التسويف، فكتب إلى باريس وطلب أن يستدعوه، فأجابه وزير الخارجية إلى ما طلب.
فلما ورده الإذن بالسفر وعلمت الأميرة بسفره أرادت أن تسافر معه، غير أن ملك بافاريا حال دون بغيتها ومنعها عن السفر، فسافر الكونت وحده وقد وعدها أنه لن يغيب غير بضعة أسابيع.
ولم يكن أحد في القصر قد وقف على زلة أمك غير امرأة عمك والدة لوسيان، وهي امرأة شريرة كثيرة المطامع لا تقف في سبيل أغراضها عند حد من الجرائم، في حين أن الناظر إليها يحسبها من ملائكة الله لجمالها.
أما مطامع والدة لوسيان فهي أنها رأت أن الأميرة كثيرة الضعف، وأن الأطباء قد رأوا أنها في الدرجة الأولى من السل، وأن هذا الداء الوبيل لم يبلغ منها مبلغه بعد لكثرة العناية بها، فقالت في نفسها: إنها إذا أصيبت بتأثير شديد قتلها التأثير، ولم تفدها عناية.
وقد كانت تعلم أنها تزوجت الكونت، وأنها لم ترزق منه بنين، فإذا ماتت فإن الكونت يرث مالا كثيرا من ثروتها الطائلة.
وكانت والدة لوسيان لا تزال في ريعان الشباب والجمال، فكان رجاؤها أن تتزوج الكونت بعد موت زوجته الأميرة.
وما زالت تعلل نفسها بهذا الرجاء حتى وقفت على غرامه بكريتشن، فكان غرام الكونت بأمك ضربة قاضية على آمالها، فوضعت عند ذلك خطة هائلة ولدتها لها قريحتها الجهنمية، ووصيفة نورية هي شيطان رجيم بصورة إنسان، فجعلت منذ ذلك الحين تتودد إلى كريتشن حتى باتت صديقتها الحميمة، وباتت أمك لسلامة طويتها لا تكتم عنها شيئا من أسرار قلبها لاعتقادها بصدق إخلاصها.
فلما أوشكت كريتشن أن تصبح أما باحت بسرها لوالدة لوسيان فقالت لها: لا تخافي، فأنا أنقذك من هذا الخطر.
فوثقت كريتشن بها واختلقت والدة لوسيان أسبابا تدعوها إلى السفر، ثم احتالت على الأميرة حتى أذنت لكريتشن بمرافقتها فسافرتا.
وكان الكونت دي مازير لا يزال في باريس، وقد كان ينكر أمام جميع الناس ما أشيع عن زواجه بالأميرة، فذهبت والدة لوسيان إليه فتظاهرت أنها تجهل أمر زواجه، وقالت له: إني جئت ألتمس منك إصلاح غلط ارتكبته إشفاقا على اسم عائلتك النبيل.
فارتعش الكونت وقال لها: ماذا تقصدين بذلك؟ - إنك أغويت كريتشن ويجب أن تتزوجها.
وكان لوالدة لوسيان نفوذ على الكونت، بل كان يحترمها احتراما شديدا لأنها كانت طامعة بزواجه، فكانت تظهر أمامه بخير المظاهر مما يدعو إلى الاحترام، فاعترف لها الكونت عند ذلك بجميع أمره، وأخبرها أنه متزوج زواجا شرعيا بالأميرة.
فقالت له: إذا كان ذلك كما تقول، فإن زواجك كريتشن محال، ولكن يجب أن تنقذ هذه المنكودة مما هي فيه، فإن اليأس سوف يقتلها.
ثم أخبرته أنها جاءت بكريتشن إلى باريس، وأنها مقيمة معها في منزل للأميرة في شارع أباي، وأنها باتت قريبة من الولادة، فهي في حاجة قصوى إلى العناية الشديدة.
فكاد الكونت يذوب حنوا على كريتشن؛ لأنه كان يحبها حبا أكيدا، وسار مع امرأة أخيه إلى ذلك المنزل الذي كانت تقيم فيه.
وهناك أقسم لها الكونت أنه يحبها حبا أكيدا، وأنه لا بد له من الزواج بها، ولكنه أقسم للأميرة هيلانة أنه لا يتزوج إلا بعد أن تبلغ الأربعين من عمرها، وهي قد بلغت الآن السادسة والثلاثين من العمر فلا بد إذن من الصبر أربعة أعوام.
ثم جعل يعرب لها عن عواطف قلبه، ويظهر لها مكنونات غرامه بلغة وجدت سبيلا إلى قلبها الضعيف، فصدقت وعوده وغفرت له.
أما الكونت فإنه لم يكن كاذبا في هذا الوعد، فإنه كان يرى أن حياة الأميرة قصيرة، فإن أخاه الشفالييه كان يرسل إليه التقارير عن صحتها في كل يوم، وقد أثر بها فراق الكونت تأثيرا عظيما، فزاد صحتها اعتلالا.
وكان ملك بافاريا لا يزال مصرا على عدم الإذن لها بالسفر، فكانت تكتب كل يوم إلى الكونت تسأله الإسراع بالعودة، فيعللها الكونت بقرب رجوعه ويقول إنه لا يستطيع تعيين موعد الرجوع؛ لأنه مضطر إلى البقاء في باريس لأشغال خطيرة جدا، فكانت والدة لوسيان تكيد المكائد في خلال ذلك دون أن يدري أحد بمقاصدها، وذلك أن امرأة نورية تدعى تنوان كانت متصلة بها فكانت لها شر معين، وقد جاءت في ذلك اليوم من بافاريا ...
فقاطعته أورور وقالت: أهي تلك المرأة نفسها التي لا تزال في قصر امرأة عمي؟ - هي نفسها.
فقالت له بصوت يضطرب: أتم حديثك يا بنيامين فإني أراه عجيبا. - إن تنوان هذه كانت تستكشف الطوالع، وكانت الأميرة هيلانة من أهل التطير والاعتقاد بالأوهام الباطلة، فكانت تنوان تستكشف طالع الأميرة وتخبرها بما يوافق أغراضها بالاتفاق مع والدة لوسيان، ثم تكتب إليها كل يوم عما تحدثه مكائدها في نفس تلك الأميرة.
وما زالت بها حتى غرست في نفسها بذور الغيرة، فأيقنت أن الكونت لا يحبها، وأن قلبه منشغل في باريس، فكادت تجن لغيرتها، وكل ذلك بحسن دهاء هذه النورية.
ولم تكن تستطيع السفر إلى باريس لأن الملك لم يأذن لها، فأفضت بها الغيرة إلى إرسال تنوان إلى باريس للاستطلاع وموافاتها بالخبر اليقين.
وقد وصلت النورية تلك الليلة إلى القصر المقيمة فيه كريتشن ووالدة لوسيان، وكان وصولها إليه حين خروج الكونت دي مازير منه.
ولا شك أن والدة لوسيان كانت تنتظر قدومها، فإنها نزلت لاستقبالها إلى آخر السلم، وعانقتها معانقة الأخوات ثم قالت لها: إلى أين وصلت بنا الحوادث؟ - إلى حيث أردنا، فإن الأميرة تكاد تجن من الغيرة. - وكيف صحتها؟ - على ما يشتهيه أعداؤها. - والشفالييه دي مازير؟ - إنه مدله بغرام كريتشن، فإنه يأتي كل يوم إلى قصر الأميرة يسأل عن زمن عودتها. - أتظنين أنه لا يعرف شيئا من أمرها؟ - بل أؤكد.
فاتقدت عينا والدة لوسيان ببارق من الرجاء وقالت: لقد دنت الساعة.
ثم ذهبت بالنورية إلى حجرة معتزلة في القصر كي لا تعلم كريتشن بقدومها إلى باريس.
28
ولم يدر أحد ما جرى بين تلك النورية الداهية وبين والدة لوسيان الطامعة، غير أنه في الليلة التالية دعيت إلى القصر ولادة مشهورة في باريس ففحصت كريتشن وقررت أنها ستلد بعد ثمانية أيام أو أقل.
فلما انصرفت الداية اختلت تنوان بوالدة لوسيان خلوة طويلة، وفي فجر اليوم التالي سافرت النورية عائدة إلى الأميرة.
وقد استأجرت مركبة بريد خاصة، وكانت تنثر الذهب وتقتل الجياد جريا، فسارت بها المركبة سيرا متصلا أربعة أيام وثلاث ليال، وفي الليلة الرابعة وصلت إلى قصر كارلوتنبورج، فوجدت الأميرة قد زادت اعتلالا، وقد تمكنت منها الحمى.
فلما رأتها الأميرة برقت عيناها وقالت لها: ماذا فعلت؟ أرأيت الكونت؟
فتكلفت تنوان هيئة الكآبة، وقالت: إنه يا سيدتي من الخائنين.
فتطاير الشرر من عينيها وقالت: أهو خانني؟ ومن هي التي أحبها؟
قالت: سيدتي، إني أقسمت يمينا مغلظة ألا أبوح لك باسم تلك الفتاة السافلة التي اغتصبت منك قلب الكونت.
فهاج غضب الأميرة وقالت: ولكني أريد أن أعلم؟ - إني أقسمت يا سيدتي ألا أبوح باسمها، ولكني لم أقسم بأني لا أذهب بك إلى باريس وأثبت لك هذه الخيانة بالبرهان. - أهي في باريس؟ - نعم، وإن الخائنة ستغدو أما بعد أربعة أيام، فتعالي معي إلى باريس تحضري ولادتها وتمتعي النفس بسرور الكونت بهذا المولود.
فانقض عليها هذا الكلام انقضاض الصواعق، وبلغت منها الغيرة حد الجنون، فلم تعد تكترث لأوامر الملك، وأمرت بإعداد المركبة وسافرت خفية مع تنوان.
فكانت الحمى وتأثير هذا الخبر قد أثرا بها تأثيرا بليغا، فلم يمر بها اليوم الأول من السفر حتى انتهكت قواها، ولكنها أبت الوقوف والراحة، واستمرت على السير، فكانت تصاب في الطريق بإغماء شديد كان يطول عدة ساعات، فإذا عادت إلى رشدها أخذت تنوان تشجعها، تهيج مكامن غيرتها فتأمر بمواصلة السير.
وسارت المركبة حتى وقفت عند فندق النسر الأسود لاستبدال الجياد، وكانت الأميرة مغميا عليها في ذلك الحين.
أما تنوان فإنها أطلت من المركبة فرأت فارسا وقف أيضا عند باب الفندق وثيابه ملوثة بالوحول وجواده يلهث تعبا، فرأى النورية وأشار إليها إشارة، فالتفتت النورية إلى الأميرة فرأت أنها لا تزال مغميا عليها، فأشارت مثل إشارته فدنا منها وأعطاها رسالة.
ففتحت تنوان الرسالة وقرأت ما يأتي:
تقول الداية إنها لا يبدأ مخاضها إلا بين الساعة الثامنة والتاسعة من المساء، فاجتهدي أن تؤخري قدومك كي تصلي حين الأوان.
فقالت تنوان للفارس: حسنا، قل لها سيكون ما تريدين. فودعها الفارس وانطلق بجواده.
أما تنوان فإنها أمرت السائق ألا يستبدل الجياد؛ لأن الأميرة مضطرة إلى الراحة، ثم أمرت بنقل الأميرة وهي لا تزال مغمى عليها إلى الفندق.
ثم إنها لم تبذل شيئا من الوسائل في سبيل إيقاظها من إغمائها، بل تركتها على حالها حتى تعالى النهار واستفاقت من نفسها فوجدت أنها مضطجعة في سرير، وأن تنوان جالسة في كرسي عند سريرها، فذهلت وقالت لها: ما هذا الذي أنا فيه؟ وأين نحن الآن؟
قالت: إننا يا سيدتي في شاتو ياري، وإنما اضطررت إلى إراحتك في هذا الفندق لما رأيت عليك من دلائل التعب، فما جسرت على مواصلة السفر قبل أن تستفيقي.
وكان التعب قد أنهك قوى الأميرة، غير أن الغيرة شددت أعصابها فقالت لها: كلا، لا أريد الراحة بل أريد مواصلة السير في الحال.
فأمرت تنوان عند ذلك بإعداد المركبة، وبعد نصف ساعة عادت بهما إلى السير في طريق باريس، والأميرة مضطجعة في المركبة وهي مطبقة العينين كأنها تحاول الرقاد، وأين لها النوم وهي كأنها نائمة فوق جمر.
حتى إذا اقتربت من باريس فتحت عينيها فجأة وقد اتقدتا بشهاب من نار، فشدت على يد تنوان وقالت لها: لقد علمت. - ماذا علمتي يا سيدتي؟ - اسم مزاحمتي في الكونت.
فأجابتها بلهجة المتهكم: أحقا ما تقولين؟ - إنها كريتشن، وقد كان يجب أن أفطن لغرامها قبل الآن.
فقالت لها النورية: لك يا سيدتي أن تظني ما تشائين، أما أنا فإني لا أنكر ولا أثبت ما تقولين.
فارتعدت الأميرة وقالت: نعم، نعم ... هي بعينها، ولكني سأعذبها أشد العذاب، وأنكل بها أفظع تنكيل، ويح لهذا الإنسان ما أكفره بالنعمة!
إني أحسنت إلى هذه الفتاة وعفوت عنها في حين أن أباها قتل أبي، وحنوت عليها حنو الأمهات، فكان جزائي منها أنها سلبتني قلب من أحب وعاملتني بالجحود والكفران ... نعم، لقد صدق القائل حين قال: اتق شر من أحسنت إليه، إلا أن خيانتها إذا كانت شديدة فسيكون انتقامي أشد.
فقالت لها تنوان: إنك يا سيدتي سيدة عظيمة، وما أنا إلا نورية حقيرة، ولكن أهل بلادي يعرفون أساليب الانتقام أكثر مما يعرفها جميع الناس. - كيف ينتقمون في بلادك؟ - إني لو كنت يا سيدتي في مكانك لما انتقمت من خصيمتي بالقتل، فإن عذاب القتل لحظة، بل انتقمت بما هو أشد من القتل فقتلتها كل يوم مرارا. - ماذا كنت تصنعين؟ - إني أبدأ فأسلبها ولدها الذي ستلده.
فبرقت عينا الأميرة وقالت: وبعد ذاك؟ - أكرهها على الزواج برجل لا تحبه، ويكون هذا الرجل من أهل الشر والفساد فأجعله آلة بيدي لتعذيبها.
فقالت لها الأميرة: لقد أصبت يا تنوان، فإن حقدي عليها لا يموت بموتها ولا يبرد غليلي إلا الانتقام منها في كل يوم. - أتجرين إذن على طريقتي؟ - دون شك. - ولكن الانتقام يا سيدتي على ما أعرفه أنا مادة لطيفة منحصرة في زجاجة رقيقة، بحيث إن أقل ارتجاج يصيبها يكسرها ويسيل تلك المادة التي هي فيها. - ماذا تقصدين؟ - أعني إذا استحسنت خطتي وجب أن تجري عليها إلى النهاية. - سأفعل، فما هي خطتك؟ - هي أن تبتسمي لخصيمتك وتتظاهري بالصفح عنها، فتخفي ما في قلبك من الحقد.
فابتسمت الأميرة، ثم استحالت هيئتها للفور من اليأس إلى الزهو وقالت لها: إني وريثة البارون ولدتر، ذاك الذي أباد عائلة بأسرها، ومثلي يعرف أن يخفي غضبه تحت ظواهر الرضا والابتسام.
ففرحت تنوان فرحا شديدا وقالت لها: إذن لم يبق لدي شك أنك ستنهجين النهج الذي أضعه لك وتدركين به ما تتمنين.
وعند ذاك رسمت لها تنوان خطتها الهائلة، وظلت المركبة سائرة حتى بلغت القصر قرب انتصاف الليل، فنزلت الأميرة منها وهي نشيطة بعد أن كانت تشبه الأموات كأنما محادثة تنوان قد أعادت إليها القوى .
وكانت ظواهر هذا القصر تدل على اضطراب ساكنيه، فلما صعدت إلى الدور الأول سمعت صراخا شديدا، فقالت لها تنوان: إنها تتألم آلام الولادة فهل تسمعين؟ - نعم، ولكن أين هو الكونت؟ - لا بد أن يكون عندها؛ إذ لا يفارقها في مثل هذه الساعة. - إني سأعاقبه أيضا شر عقاب.
فقالت النورية بصوت منخفض: اذكري يا سيدتي ما أوصيتك به. - لقد أصبت، فإذا خانني الجلد لأول وهلة فلا يخونني بعد الآن.
إذن هلمي معي فسأوصلك إلى غرفتها؛ أي إلى غرفتك يا سيدتي، فإن الكونت أقام خليلته في غرفتك في نفس قصرك.
فذكرت الأميرة عند ذاك والدة لوسيان وقالت: وهذه أيضا ستنال حظها من عقابي. - إنك إذن تكونين مخطئة مسيئة إليها، فإنها هي التي أخبرتني بخيانة الكونت، وهي مخلصة لك منتهى الإخلاص.
وكانت الأميرة تسير متوكئة على كتف النورية، وكلما مشت خطوة زاد ارتفاع الصراخ حتى بلغت إلى الغرفة التي كان يخرج منها الصوت، فدفعت بابها ففتح ورأت كريتشن تعض يديها من الألم، ورأت الكونت دي مازير قربها يبكي لتوجعها بكاء الأطفال.
29
على أنه كان لكريتشن ثلاثة يحمونها، وهم فريتز والكونت دي بوفوازين وراوول.
ويذكر القراء أن راوول كتب إلى كريتشن يوم سفرها مع الأميرة إلى ميونخ فلم تتمكن من فتح كتابه إلا بعد السفر، مما دعا إلى الإباحة لها بجميع ما بسطناه عن نكبات عائلتها.
غير أن فريتز كان واثقا من إخلاص الأميرة، فلما وصلوا إلى ميونخ حمل كريتشن على أن تكتب كتاب الشكر لراوول، وأن تخبره أنها آمنة من كل خطر.
فلما عادت كريتشن مع والدة لوسيان إلى باريس كي تستر زلتها كان فريتز مسافرا.
فلما وافاها إلى باريس لم يعلم شيئا في البدء مما جرى، ولكنه عرف الحقيقة بعد بضعة أيام فقال في نفسه: إن ابنة سيدي قد أهينت، ولا بد للكونت أن يغسل عارها بالزواج.
ذلك أنه لم يكن عالما أن الكونت دي مازير متزوج زواجا شرعيا بالأميرة هيلانة.
ولما وقف على حقيقة حالة كريتشن خطر في باله أن يستعين بالكونت دي برفوازين وراوول، فذهب إليهما وأخبرهما بجميع ما اتفق، فأقسم له الحارسان أن ينتقما لشرف الفتاة.
وكان كلاهما يعشقها ويتألم دون أن يبوح بهواه، وهما يودان سفك دمائهما من أجلها، فاتفقا على قتل الكونت إذا أبى أن يتزوجها.
وفي اليوم التالي لقدوم الأميرة إلى باريس، أسرع فريتز إلى الحارسين وهو يكاد يجن من يأسه، وأخبرهما أن كريتشن قد وضعت بنتا بحضور الأميرة، وأن كريتشن قد رعبت لقدومها فأغمي عليها وأصيبت بعد الإغماء بحمى شديدة، وأنهم يخشون الآن على صوابها.
فقال راوول: بل إننا نخشى أيضا على حياتها؛ لأن الأميرة لا بد أن تنتقم منها لاغتصابها قلب من تهواه.
فأخبرهما فريتز أن الأميرة احتقرت الكونت وأهانته، غير أنها صفحت عن كريتشن وتجاوزت عن ذنبها.
فهز راوول رأسه شأن المشكك وقال: إن بيت هذه الأميرة لا يعرف التجاوز عن الزلات، فإنهم كتموا أحقادهم ثلاثة أجيال كان الأعقاب في خلالها يتوارثون الانتقام.
وعند ذلك اتفق الحارسان على أن يذهب أحدهما، وهو الكونت دي بوفوازين إلى حيث تقيم كريتشن فيحملها من الأميرة، وأن يذهب راوول إلى دي مازير فإما أن يكرهه على الزواج بكريتشن أو يقتله.
أما الأميرة فإنها جرت على الخطة التي رسمتها لها تلك النورية الجهنمية، فتظاهرت بالعفو عن كريتشن والإشفاق عليها، وتوددت لها توددا عظيما أنساها ما هي فيه.
أما الكونت فإنه حين رأى الأميرة دخلت إلى غرفة كريتشن أسرع بالفرار من وجهها اتقاء لبوادر غضبها وهاجر إلى باريس، فذهب إلى قرية في الضواحي تدعى ماريس.
وهناك لقيه راوول وبادره بالحديث قائلا: إن سبب زيارتي يا سيدي الكونت لا يخطر لك في بال، ولكني أقول لك إني كنت صديق المركيز دي فلارس.
ولم يكن الكونت يعرف شيئا من تاريخ كريتشن فقال: إني لا أعرف هذا المركيز. - إن المركيز يا سيدي والد كريتشن، تلك الفتاة المنكودة التي أغويتها.
فاصفر وجه الكونت وقال: كريتشن! - نعم، ولا بد لك الآن أن تكون علمت سبب زيارتي. - ولكن يا سيدي ...
فقاطعه راوول وقال: لا سبيل إلى الاعتراض فيما لا يفيد؛ إذ يجب عليك أن تتزوج هذه الصبية وترد لها شرفها. - يسوءني جدا يا سيدي أن أرفض هذا الطلب؛ لأنه مستحيل، ولكني ...
غير أن راوول لم يدعه يتم حديثه، بل صفعه على وجهه فانقطع سيل المحادثة والمخابرة، ولم يعد بد من المبارزة بعد الصفعة.
وكان المنزل الذي اختبأ فيه الكونت من غضب الأميرة محاطا بحديقة متسعة.
وقام الاثنان إليها وكلاهما يتقلد سيفه، وجرت بينهما مبارزة عنيفة، فتقارعا بالسيفين مدة طويلة دون أن يفوها بكلمة، إلى أن وجد سيف راوول سبيلا إلى صدر الكونت فاخترقه، وسقط الكونت مجندلا والدم يتدفق من فمه.
غير أن الكونت لم يمت، فحمله راوول إلى سريره، ولما ذهب الخادم لإحضار الطبيب أشار الكونت إلى راوول كي يدنو منه، وقال له بصوت متقطع: أرجوك يا سيدي أن تصفح عني، فقد أبيت الزواج بكريتشن لأني متزوج.
فصاح راوول صيحة دهش وقال: أنت متزوج! - نعم، وامرأتي البرنسيس هيلانة دي ولدتر، إلا أني أحببت كريتشن حبا صادقا، وإني الآن على فراش الموت، فغاية ما ألتمسه منك يا سيدي في هذه الساعة أن تتولى حماية كريتشن لأن الأميرة من أهل الحقد والانتقام.
ثم أغمي على الجريح.
وفي الوقت نفسه الذي جرت فيه هذه المبارزة، كان الكونت دي بوفوازين مختليا مع الأميرة هيلانة في المنزل الذي وضعت فيه كريتشن مولودها، فأقسمت أنها لا تقتصر فقط على الصفح عن كريتشن، بل إنها ستتولى حمايتها، وتحافظ على حبها وحب ابنتها، فوثق الكونت بصدق كلام الأميرة.
وهنا توقف بنيامين عن مواصلة الحديث للاستراحة، بعد أن قال: وا أسفاه! فلو أنقذنا أمك في ذاك اليوم من مخالب هذه الأميرة لبقيت عائشة إلى الآن.
فذرفت الدموع من عيني أورور، وقالت له: أتم حديثك يا بنيامين.
30
وعاد بنيامين إلى تتمة الحديث فقال: إن الكونت دي بوفوازين خدع بأقوال البرنسيس كما خدعت أنا.
أما هؤلاء النسوة الثلاث؛ أي الأميرة ووالدة لوسيان وتنوان النورية فقد اتفقن حتى بتن شخصا واحدا لا يعمل إلا للانتقام.
وكانت النورية تدير أعمالهن، وقد بدأت بتنفيذ خطتها الجهنمية في اليوم التالي لولادة كريتشن.
وأما الأميرة فقد مرضت على أثر ما أصابها من الاضطراب، ورأت والدة لوسيان أن حياة هذه الأميرة باتت قصيرة، فرأت أن الزمن قد حان لتنفيذ مأربها بواسطة تنوان.
وقد كان لهذه النورية نفوذ شديد على الأميرة، لا سيما بعد صدقها باكتشاف خيانة الكونت، فلم تكن الأميرة تخالفها في أمر.
وكذلك والدة لوسيان، فقد رأت أن لهذه النورية فضلا عظيما عليها بما بلغت إليه من المنزلة لدى الأميرة، وبما كانت تعد لها من أسباب الوصول إلى غايتها، فكانت تمتثل لها في كل ما تريد.
وباتت تلك النورية الآمرة الناهية في الحقيقة، وهي في الظاهر من الوصيفات.
وأما الكونت دي مازير فقد لبث شهرين وهو بين الموت والحياة، غير أن شبابه وقوة بنيته تغلبا على الموت، فشفي من مرضه وزال عنه الخطر.
وكانت الأميرة قد غفرت له ذنبه بالظاهر، وذهبت إلى منزله فأقامت مدة إلى أن زال الخطر فأخبرته بعزمها على الرجوع إلى ألمانيا.
وكان ملك بافاريا العجوز قد توفي في خلال هذين الشهرين، وخلفه أحد أعضاء العائلة، وأذن للأميرة بإعلان زواجها السري بالكونت دي مازير.
ومع ذلك فإن الأميرة طلبت إلى زوجها الكونت ألا يعود إلى ميونخ، وأن يتم معالجته في باريس.
وكان ذلك بإيعاز من النورية لأغراض لها تظهر فيما بعد.
أما راوول فإنه بعد أن جرح الكونت جعل يزوره في كل يوم، حتى تمكنت الألفة بينهما، وباح له الكونت بأسرار قلبه.
فأخبره أنه يحب كريتشن حبا صادقا، وأن امرأته مصابة بمرض قاتل، فهو لا بد له من الزواج بكريتشن متى قضي على زوجته وبات مطلق السراح.
وكانت والدة لوسيان قد أدركت هذا القصد بفضل هذه النورية، فرأت أنه لم يبق بد من وضع حاجز شديد بين كريتشن وبين الكونت؛ فإنها كانت تطمع بزواجه بعد موت الأميرة، والتمتع بما يرثه من أموالها الطائلة.
أما هذا الحاجز بينهما فقد كان الشفالييه دي مازير شقيق الكونت وهو من حجاب ملك بافاريا.
فإن هذا الشفالييه - وهو أبوك يا أورور - كان يشبه والدة لوسيان في الدهاء والمكر ونكران الجميل، فإن أخاه الكونت جاء به من باريس وعينه في منصب رفيع في بلاط الملك ودر عليه الأرزاق بفضل الأميرة، فكان جزاؤه منه أنه كان يكرهه ويضمر له السوء، في حين أن أخاه لم يكن يريد له إلا الخير.
فاعتمدت والدة لوسيان على هذا البغض، وجعلت الشفالييه حليفها على تنفيذ أغراضها.
أما كريتشن فإنها عادت بعد شهرين مع الأميرة إلى ألمانيا، فكفلت الأميرة ابنتها وتعهدت بتربيتها.
فسرت كريتشن بهذه العناية الظاهرة، وباتت تحتقر الكونت بعد أن تبين لها كذبه وعلمت أنه زوج الأميرة.
فانصرفت بجميع آمال قلبها إلى ابنتها، ولو لم تعد تكترث بشيء في الوجود ولولا هذه الطفلة لاسترسلت إلى اليأس وانتحرت بعدما ثبت لها خيانة الكونت.
إلا أن هؤلاء النسوة الثلاث اللواتي تعاهدن على الانتقام من هذه المنكودة، كان الفوز مضمونا لهن بفضل الشفالييه أخي الكونت.
فقد تقدم لنا القول أن الشفالييه كان يهوى كريتشن، فلما ذاع خبر ولادتها وعلم أن أخاه قد أغواها زاد حقده عليه بقدر ما اشتد حقده على كريتشن، وهذا أقصى ما كانت تتمناه والدة لوسيان.
وقد أدركت النورية منه ذلك الحقد والحنق، فخلت به يوما وقالت له: أرى أنك بت تكره كريتشن، أليس كذلك؟ - إني بت أكرهها بقدر ما كنت أهواها. - وأخوك الكونت؟ - إني أكرهه أيضا، فقد خدع الفتاة التي أحببتها وأغواها وهو من المتزوجين. - إذا كنت تريد الانتقام فقد أعددت لك وسائله، فإن أخاك الكونت لا يزال يعشق كريتشن، وهو يتوقع موت زوجته الأميرة ليتزوج بها.
فاتقدت عينا الشفالييه ببارق من الأمل وقال: لا أحب إلي الآن من الانتقام. - أتريد أن تعذب كريتشن وتلقي اليأس في قلب أخيك؟ - ماذا يجب أن أصنع؟ - إنك على علو منصبك في بلاط الملك لا تزال محتاجا إلى المال لفقرك، وأنت تعرف مقدار ثروة الأميرة، فهي عازمة على أن تمنح كريتشن مهرا يبلغ مقدار دخله مائة ألف فرنك في العام. - أتشترط في ذلك أن أتزوجها؟ - هو ذاك، وحسنا تفعل يا سيدي، فإنك إذا تزوجتها على هذا الشرط تمتعت بمالها وانتقمت من أخيك الكونت الذي يسلبك من تحب، ومن كريتشن التي تحتقرك وتجدك غير أهل لها، فمتى ملكت زمامها انتقمت منها كما تشاء. - إني راض بهذا الاقتراح على ما فيه من الحيف؛ لأن الانتقام مسرة الآلهة.
ثم افترقا، فذهب الشفالييه وهو موطد العزم على الاقتران بكريتشن، وعادت النورية إلى الأميرة ووالدة لوسيان وأخبرتهما بما كان.
وفي المساء جاء الشفالييه إلى قصر الأميرة، فاجتمع بكريتشن وقال لها: إن الإخوان متكافلون متضامنون، وقد أساء إليك أخي إساءة لا يستطيع إصلاحها، فأنا أتولى إصلاحها عنه؛ كي لا ينال شرف بيت دي مازير بسوء، إنك يا سيدتي لا نصير لك ولا معين لابنتك ولا اسم لها، فهل تريدين أن أكون لك زوجا ولابنتك أبا ونصيرا؟
وقد تلبس بلباس الخداع، واندفع يظهر من المروءة ضروبا خدعت بها كريتشن، وحسبته صادقا في ما يظهره من المروءة والإخلاص، فنظرت إليه وهي تبكي وأجابته بمثل إخلاصه فقالت: هيهات يا سيدي أن تجد في قلبي غراما، فقد مات غرامه، ولم يبق متسع فيه لغير الهم والحسرات.
قال: إنك مسترسلة إلى اليأس أيتها الحبيبة وأنت لا تزالين في نضارة الحياة، ومثلك لا تيأس وقد أحبها مثلي، فسأجلك إجلال العبادة وأكون لابنتك خير والد، فلا تجدين في عشرتي غير الهناء الدائم، وأنا لا أسألك غير أن ترضي بي زوجا؛ كي أقيك وأقي ابنتك غدر الزمن.
فخدعت كريتشن بظواهر إخلاصه وأخذت يده بين يديها فقالت: إنك شريف يا سيدي طيب السريرة، فإني إذا كنت لا أستطيع أن أحبك فإني أحترمك وأجعلك من أسعد الأزواج.
وقد رضيت تلك المنكودة به بعلا، وبدأت خطة النورية الهائلة تنفذ منذ ذلك الحين.
وتزوجت كريتشن به، فلما أعلن هذا الزواج وباتت كريتشن في منزل الشفالييه جاهرت الأميرة بأنها لا تريد التخلي عن الطفلة، وطلبت إلى الزوجين أن يقيما في قصر فرضي الاثنان وانتقلا إلى القصر.
وفي ذلك اليوم خرج من ميونخ فارسان وسافرا إلى باريس، وكان هذان الفارسان راوول ودي بوفوازين، فإنهما كانا مختبئين في ميونخ للمحافظة على كريتشن، حتى إذا علما بزواجها بالشفالييه قالا: إنها باتت زوجة لرجل نبيل فهو يتولى حمايتها عنا، ولم يبق لنا شأن في هذه العاصمة.
وكان الكونت دي بوفوازين يحب كريتشن حبا عظيما، فلم يره أحد بعد ذلك في باريس.
وقد تكاثرت الإشاعات عنه في ذلك العهد واختلفت الروايات، غير أن الأكثرين كانوا مجمعين على أنه قنط لغرامه من الحياة، فالتجأ إلى أحد الأديرة وانقطع لخدمة الله، وهي الرواية الصادقة، فإن دي بوفوازين هو الآن رئيس الدير الذي يدعى الأب جيروم ولا يدري بسره أحد.
أما الكونت دي مازير فإنه شفي في هذه المدة من جرحه، فعاد إلى ميونخ وعلم هناك أن كريتشن صارت زوجة لأخيه فاسترسل في البدء إلى اليأس، ولكنه لم يمر به عهد قريب حتى تناسى غرامه القديم.
وقد كان مثلنا جميعا واثقا بصدق الأميرة وعفوها عن كريتشن، كما أنه كان واثقا مثلنا أيضا أن أخاه الشفالييه يحبها ويجعلها من النساء السعيدات.
وأما الأميرة فكانت لا تزال تقاوم ذلك الداء الذي كاد يودي بها، فأشار عليها الأطباء بالسفر إلى إيطاليا فسافرت إليها مع زوجها الكونت، وبقيت كريتشن في القصر مع زوجها الشفالييه فولدت منه بنتا ... وهي أنت يا أورور.
وهنا توقف بنيامين هنيهة فمسح دمعة قطرت فوق خده، وعاد إلى الحديث فقال: إن الأميرة قد سافرت وتركت انتقامها في القصر.
ولم تكد تسافر حتى بدأ الشفالييه عذابها، وبدأت النورية تسميمها، ورفعت والدة لوسيان نقاب الرياء والتدليس فجاهرت بعدائها.
أما أنا فلم أكن أستطيع إنقاذها من أولئك الظالمين، وقد ذعرت ذعرا قويا حين شاهدت أمك قد أخذ منها الضعف والوهن، فإن تلك النورية الهائلة قد سقتها سما هائلا يقتل بعد نزع طويل.
وكانت قد ولدتك في ذلك الحين، فإذا ابتسمت لك نسيت آلامها وعذابها، وإذا افتكرت بأختك انقبضت نفسها، فإن الأميرة أخذتها معها إلى إيطاليا مبالغة في الانتقام.
مضى على ذلك عامان كانت أمك تزيد في خلالها اصفرارا ونحولا ويأسا، فإن السم كان يفسد دمها والشفالييه يعذبها ويؤلمها كل يوم بذكر زلتها مع أخيه، ووالدة لوسيان لا تنفك عن نكايتها، إلى أن استفحل يأسها فدعتني إليها وقالت لي: إني يا فريتز مشرفة على الموت.
فصحت صيحة ذعر لما شاهدت من دلائل ضعفها وإشرافها حقيقة على الموت وقلت: ما أصابك يا سيدتي؟ - إنهم دسوا لي السم يا فريتز وصارت أيامي معدودة، فأقسم لي أنك تسهر على ابنتي من بعدي ...
فقاطعته أورور وقالت: إذن أنت واثق أن أمي ماتت مسمومة؟ - كل الثقة يا سيدتي، فإن نزعها دام خمسة أعوام، ثم أراحها الله من عذابها، فأطفئت كما ينطفئ المصباح إذا فرغ الزيت منه. - ومن الذي دس لها السم؟ - تنوان النورية. - أكان ذلك بموافقة الأميرة؟ - بل بأمر والدة لوسيان امرأة عمك. - وأبي؟ - إنه كان يعلم بهذه المؤامرة، وقد وافق على التسميم.
فصاحت أورور عند ذلك صيحة هائلة واتقدت عيناها نارا وقالت: إنك مت يا أمي ميتة الشهداء ولكن ابنتك ستنتقم لك أفظع انتقام.
31
وساد السكوت هنيهة بين بنيامين وأورور فبدت علائم الرعب والاشمئزاز على وجه الفتاة.
وكانت عيناها في البدء قد اتقدت ببارق الانتقام، فأنذرت وتوعدت بالانتقام لأمها.
غير أن البارق انطفأ فجأة واصفر وجهها حتى باتت كالموتى، ثم أحنت رأسها وأطرقت بعينيها إلى الأرض وقالت كأنها تخاطب نفسها: «ولكنه أبي.»
فقال لها بنيامين: يجب علي الآن يا سيدتي أن أقص عليك هذه الفاجعة المؤلمة.
فقالت له بلهجة اليأس: قل فإني مصغية إليك. - إن أمك يا سيدتي أدركتها الوفاة والكونت دي مازير لا يزال في إيطاليا مع زوجته الأميرة.
ولما حضرت ساعة وفاة أمك وكنت وحدي عند سريرها، أعطتني هذين الكتابين مع الصندوق وأقسمت لها أن أراقبك الليل والنهار وأن أحميك من كيد المعتدين.
أما الأرملة امرأة عمك التي تسكن الآن في قصر بوربيير مع ولدها لوسيان، فكان لا يأتيها كتاب من إيطاليا حتى تختلج بعد تلاوته وتنقبض نفسها.
ذلك أنها كانت تتوقع في كل يوم أن ترد إليها أخبار السوء عن الأميرة؛ لطمعها بزواج الكونت، فإن تلك الأميرة قد سافرت وهي في حالة من الاعتلال تدعو إلى القنوط.
غير أن الله أبى أن تنفذ مآرب أهل الشر، فقضى على مطامع تلك الأرملة وذهبت آمالها السافلة أدراج الرياح، فإن الأميرة بدلا من أن يفتك بها الداء كما تتوقع لها امرأة عمك، أفادها هواء البلاد وسماؤها الصافية فردت إليها الحياة وباتت كأنها في أتم صحة وعافية.
وبعد ثلاثة أعوام من سفرها عادت إلى بلاط ميونخ فدهش أهل البلاط حين رأوا تلك الأميرة المكلولة عادت إليها نضارة الشباب فزادتها جمالا.
وكان الكونت قد علم بموت كريتشن فبكاها بالسر؛ إذ كان لا يزال في قلبه بقية من ذاك الحب القديم الذي هاجه الموت.
وقد أعادت الأميرة معها ابنة كريتشن الأولى؛ أي أختك.
وكان الكونت غير عالم بحقيقة السبب في موت أمك فلم يخطر له في بال أنها ماتت مسمومة، وأن أخاه الشفالييه وامرأة أخيه الميت والأميرة والنورية قد اتفقوا جميعهم على قتل هذه المنكودة؛ إذ لم يكن عارفا بهذا السر غير رجل، وقد باح له به. - من هو هذا الرجل يا بنيامين؟ - هو أنا. - وماذا فعل الكونت بعد ذلك؟ - إن الجناية حفرت هوة عميقة بينه وبين امرأة أخيه فلم تعد تكترث لصحة الأميرة؛ إذ لقيت أن الكونت لا يتزوج بها بعد أن غمست يدها في ذلك الدم الطاهر المسفوك.
ولم يكن يستطيع أن يعاقب أحدا أو ينتقم من أحد، فإن الجميع كانوا بحماية الأميرة شريكتهم بالجريمة.
ولم أعد أعلم شيئا مما جرى لهذه العصابة عصابة اللؤم والفساد سوى أن الأميرة باعت كثيرا من أملاكها ووهبت جانبا مما بقي لأسرتها وسافرت مع الكونت إلى باريس تصحبها ابنة كريتشن الأولى؛ أي أختك ابنة الكونت دي مازير.
وقد أقامت مع زوجها عاما كاملا في باريس، إلى أن بنى الكونت قصر بوربيير الذي يقيم فيه الآن الكونت لوسيان وأمه فأقامت فيه مع زوجها والفتاة.
ولم أعلم بعد إقامتها فيه غير ما يعلمه سكان هذه النواحي. - أتعني بذلك احتراق القصر بساكنيه. - نعم، أعلم أني أخالف الناس فيما يزعمون من احتراق الفتاة أيضا وأسباب هذا الحرق. - ما هي أسبابه؟ - لقد ارتأى كثيرون أن النار قد شبت في القصر قضاء وقدرا، وعندي أنه لم يكن للقدر يد في هذا الشأن، بل إن الكونت قد أحرق القصر عمدا بعد أن سجن نفسه مع الأميرة في غرفة بابها من الحديد كي لا يستطيعا كسره والهرب من النار. - إذن فقد مات منتحرا؟ - ومنتقما أيضا، فإن الأميرة لم تنس إساءته إليها حين عشق كريتشن وهو لم ينس فظاعة انتقامها من كريتشن لسلبها ابنتها وقتلها بالسم، فكانت تحاول الانتقام منه بكل ما تفننه الحياة لأمثالها من نساء الشر، حتى يئس منها ومن الحياة وهاجت في نفسه كوامن الانتقام للشر فأحرقها وأحرق نفسه بالنار. - والفتاة؟ - أنقذها راوول. - أتظن ذلك أكيدا؟ - بل أؤكده، فإن راوول قد زار الكونت في القصر قبل احتراقه، والآن فاعلمي يا سيدتي أن أباك الشفالييه ووالدة لوسيان امرأة عمك كانا لا يزالان في ميونخ حين مات الكونت، فلم يجدا بعد البحث والتنقيب شيئا من المال النقد ولم يقتسما غير القصر والأرض.
على أنه أشيع أنه يوجد صندوق يحتوي على ثروة عظيمة من الأوراق المالية، فبحثا عنه بحثا مدققا فلم يعثرا به.
وعند ذلك وقع الخلاف واشتد النفار بين أبيك وامرأة عمك، فكان أبوك يتهم امرأة عمك أنها سرقت الصندوق كي تبقى الثروة كلها لابنها لوسيان، وهي تقسم الأيمان المغلظة أن أباك السارق، والحقيقة ضائعة بين الاثنين، فإن كليهما بريء من السرقة. - ولكنك تقول إن الصندوق موجود؟ - نعم، وقد جعل ما فيه من المال مهرا لأختك، ولكني لا أعلم أين هو الصندوق وأين هي أختك. - ولكني أعلم أين هي أختي.
فدهش بنيامين وقال لها بصوت يضطرب حنوا: أواثقة يا سيدتي أن أختك لا تزال في قيد الحياة؟ - كل الثقة فقد رأيتها. - ولكن أين؟ - على بعد مرحلتين من هنا ... في دكان البيطري المقيم عند باب الدير.
فارتعش بنيامين وذكر ما كان يتحدث به الناس في شأن الفتاة المقيمة عند البيطري، وشدة تباين الأقوال فيها، ولكنه لم يكن رآها؛ فإنه لم يكن يخرج من المنزل إلا للتنزه في الحديقة، ولا يعرف أحدا من سكان الضواحي.
أما أورور فقد باتت واثقة أن حنة أختها، فقالت لبنيامين: يجب أن تتخذ اليوم حجة تمهد لك مبارحة القصر. - سأجد هذه الحجة. - فتذهب توا إلى الدير وتدخل إلى دكان البيطري. - وبعد ذلك؟ - ترى تلك الفتاة التي يربيها داغوبير، فترى أنها أمي بعينها لا تختلف عنها في شيء. - كيف تعرفين ذلك وأنت لا تعرفين أمك؟ - إنها تشبه هذه الصورة المرسومة في هذه المدالية، أما هي صورة أمي؟ - دون شك، ولكن هل أنت واثقة من وجود هذا الشبه؟ - لا سبيل إلى الريب؛ فإني قد رأيت الفتاة ولا تزال صورتها مطبوعة في ضميري. - متى رأيتها؟ - أمس مساء، فلما فتحت هذا الصندوق الذي أعطيتني إياه ورأيت هذه الصورة في المدالية دهشت للشبه بينهما حتى حسبت في البدء أن هذا الرسم رسم ربيبة الدير. - رباه! أيمكن ذلك أن يكون؟
فنهضت عند ذاك أورور وذهبت إلى النافذة تستنشق الهواء العليل، فإن النجوم كانت قد اصفرت في الأفق لأشعة الفجر المتألقة.
وكانت السكينة سائدة فانصرفت أورور إلى التأمل وتاهت في مهامه التفكير وبنيامين واقف وراءها يحترم تأملها ولا يكلمها بحرف.
وبعد هنيهة عادت من النافذة فجأة إلى بنيامين، فأخذت يده بين يديها وسألته: إن الطبيعة ساكنة والسكوت سائد، ولكن قلبي تثور فيه العواصف، إن الابنة لا تنتقم من أبيها يا بنيامين ولو كان قاتل أمها، ولكنها تنتقم من الذين اشتركوا في هذه الجريمة الهائلة. - ماذا تقصدين يا سيدتي؟ - ألم يكن لأبي شركاء في هذه الجريمة؟ - هو ذاك، بل قد كان ذنبه أخف من ذنبهم، فإن الذي كاد هذا الكيد والدة لوسيان. - ستنال حظها من العقاب. - والتي دبرتها تنوان النورية؟ - وهذه سأسحقها سحق الزجاج، ولكن يجب قبل كل شيء أن أنقذ أختي. - لعلها في خطر؟ - في خطر عظيم، فإن ابن عمي لوسيان يحبها وأخاف أن يفضي هذا الحب إلى ما لا تحمد عقباه.
فارتعد بنيامين وقال: كلا، كلا، إن هذا لا يكون، إن ابن قاتلة الأم لا يمكن أن يهوى ابنتها. - هو ذاك، فسأتولى أختي بحمايتي فلا يمسها طامع بأذى ولا تنالها يد الأشرار.
وعلى ذاك فقد أصبح للوسيان أربعة أعداء يحولون دون زواجه بحنة، وهم الأب جيروم وداغوبير وبنيامين وأورور.
وعند ذلك قال لها بنيامين: أواثقة أنت من الشبه بين ربيبة الدير وبين أمك؟ - إنك ستراها بعينك وترى ما رأيت.
وهنا قطع حديثهما صوت جرس خرج من غرفة الشفالييه أو والد أورور، وكان الدق عنيفا، فأسرع بنيامين ليرى ما جرى له، وأخذت أورور صورة أمها حين كانت في العشرين من عمرها فجعلت تقبلها وتذرف الدموع.
التوبة الكاذبة
التوبة الكاذبة
التوبة الكاذبة
التوبة الكاذبة
روكامبول (الجزء الثاني)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
التوبة الكاذبة
1
في يوم صفت سماؤه واعتل هواؤه، كانت مركبة تسير سيرا حثيثا عائدة إلى باريس من الضواحي، وهي جميلة الرونق، تدل ظواهرها على أنها مركبة رجل من النبلاء، وقد جلس في مؤخرها خادمان مرتديان أجمل الملابس التي يرتدي بها خدمة الأغنياء، وكان في هذه المركبة رجل يناهز الأربعين من العمر، وامرأة لا تزال في عهد الشباب ونضارة الصبى، وبينهما طفل صغير تقف عند رؤيته الأبصار معجبة بجماله البديع.
وكان الأب والأم يعبثان بشعر هذا الطفل الجميل، وهما ينظران إليه نظرات حنو لا يفهم سره غير الأباء والأمهات.
وكان هذا الرجل الكونت أرمان دي كركاز والمرأة قرينته، والطفل طفلهما ولد على إثر زواجهما الذي عرفه القراء في القسم الأول من هذه الرواية، وكانت المركبة تسير بهما في طريق ضيق، وهما يتجاذبان أطراف الحديث، ودلائل البشر والسعادة تلوح بين ثنايا وجهيهما فتعرب عما يختلج بنفسيهما من الحب والحنان.
وكان أرمان ينظر إلى ولده، ثم ينظر إلى امرأته ويقول: ما أهنأ الحب! وما أجمل ثمرة الزواج! لقد جعلتني سعيدا في الأرض حتى بت غير طامع بسعادة السماء!
وكانت حنة تسمع قوله ويغلبها الحنو، ولا تجيبه بغير الدموع.
ثم جعل الزوجان يذكران ما لقياه من الهناء في إيطاليا، وكانت حنة تحن إلى هذه البلاد وتذكرها بالشوق والارتياح، وقال لها أرمان: ألعلك تؤثرينها على باريس؟ - إني أفضل كل بلد مهما صغرت في عيون الناس على تلك العاصمة السوداء؛ لقد لقينا بها من الأحداث السيئة ما يدفعني عند ذكرها إلى الحزن والاكتئاب.
فاضطرب أرمان وقال: لقد شغلت فؤادي أيتها الحبيبة، وما إخالك إلا تعسة في سكنى باريس، لقد سمعتك مرة تذكرينها بخوف، وتذكرين معها أخي أندريا؛ ألعلك تخافينه إلى الآن؟ - إني لا أكتمك أيها الحبيب، لقد كنت أخافه خوفا شديدا لما عرفت به من الميل إلى الانتقام وقدرته على الشر، أما الآن فقد زالت هذه الأوهام بتقادم الأيام عليها، وأنا لا أخاف باريس، ولكني أفضل البعد عن الناس؛ لأن العالم بأسره قد جمع فيك، ومتى كنت وإياك فردين أكون مع العالم أجمع.
فابتسم أرمان وهو يعلم أن امرأته قد أرادت أن تتنصل بهذا الكلام العذب من مخاوفها، فقال لها: ليطمئن قلبك أيتها الحبيبة؛ فإن أخي فارقنا فراقا لا لقاء بعده. ثم سكت هنيهة سكوت المتأمل وقال: إنني في اليوم الثاني من زواجنا أرسلت مع ليون رولاند مائتي فرنك هبة إلى هذا الأخ الجبار، وتعهد لي في مقابل ذلك تعهدا كتابيا أن يبرح فرنسا إلى أميركا، حيث يجد مجالا متسعا للذنوب أو للنسيان أو للندم، ولا أعلم ما من أمره بعد ذاك، غير أني وثقت أنه سافر إلى أميركا، كما علمت من تقارير البوليس السري الذي لا تخفاه خافية.
وقبل أن يتم أرمان حديثه سمع سائق المركبة يصيح منذعرا ويقول: احذر. ثم أوقف المركبة مضطرا بعد أن كرر الإنذار مرارا.
فاضطرب الزوجان وسأل أرمان السائق عما أصابه، فأجابه وقد سكن روعه لزوال الخطر: لقيت رجلا منطرحا على الطريق، فما استطعت اجتنابه لضيق الطريق، ولم يسمع صوت تحذيري ويجتنب الخطر. - إنه سكران ولا ريب. ثم نادى واحدا من الخادمين اللذين كانا في مؤخر المركبة، وقال له: اذهب وانظر في شأن هذا الرجل.
ثم لم يتمالك أن ذهب في إثره وخرج من المركبة، وتبعته امرأته حتى أشرفا على الرجل الممدد على الطريق، وإذا به رجل حافي القدمين ممزق الملابس، وعلائم الشقاء بادية على وجهه الضئيل، وهو في حالة تقرب من الإغماء.
فأشفقت حنة عليه وقالت: يا له من بائس مسكين! لقد قتله الجوع.
ونادى أرمان أحد خدمه قائلا: أسرع بزجاجة الشراب.
ثم أخذها من الخادم، وجعل يسقي بيده من شرابها المنعش ذاك الرجل المسكين، غير أنه لم يلبث أن حدق به حتى اضطرب قائلا: ما هذا الشبه الغريب؟! إنه لا يفرق عن أخي بشيء! ودنت منه حنة أيضا، ورجعت إلى الوراء منذعرة وقالت: هو بعينه ولا مجال للريب.
وأقام أرمان هنيهة وهو مكب عليه ينشقه الروائح المنعشة حتى استفاق من إغمائه، فجعل يقول بصوت متقطع كصوت الحالم: لقد عضني الجوع. أين أنا؟ كيف سقطت في الأرض؟
ثم جعل يقلب طرفه بين الحاضرين حتى استقر على أرمان، فحدق به تحديق المنذهل، ثم ظهرت عليه دلائل الخوف والذعر حين تبينه، فأجفل وحاول التخلص من يديه، ولكن رجليه لم تقويا على حمله، فسقط ثانية على الأرض.
ولما رآه أرمان على هذه الحال جال الدمع في عينيه من الحنو، وصاح به: أأنت أندريا؟
فأجابه الشحاذ بصوت مختنق: من هو أندريا ... إنه مات ولا أعرفه، وأنا أدعى جيروم الشحاذ. وقد نطق بهذه الكلمات بصوت يتلجلج، وحاول الإفلات ثانية من أيدي الخادم، فخانته قواه وسقط أرضا مغميا عليه، وقد صبغت هيئته باصفرار الموت.
فنسي أرمان جميع ما ارتكبه أخوه من الذنوب، ولم يذكر غير شيء واحد، وهو أن هذا الرجل البائس أخوه، وسرت هذه العاطفة الشريفة نفسها إلى قلب امرأته؛ فأمرت وأمر الخادمين أن يحملاه إلى المركبة، فلما نقلاه إليها أمر السائق أن يذهب مسرعا إلى باريس.
ولم يفق أندريا من إغمائه الطويل إلا وهو مسجى فوق سرير في غرفة أخيه، وحوله الطبيب وجميع من في المنزل، فدنا أرمان منه وقال له: طب نفسا ، إنك الآن عندي، أي في بيتك وبيت أخيك. فنظر إليه أندريا نظرة المنذعر، ثم قال له: كلا لست بأخيك، بل أنا رجل متشرد لا مأوى له ولا زاد، بل أنا رجل شقي ينتقم مني الله بعدل لفرط ما أسأت إلى الله وإلى الناس، بل أنا ذلك المذنب الأثيم التائه في بوادي الندامة يلتمس الغفران، ويقتله تقريع ضميره مرارا كل يوم.
وصاح أرمان صيحة فرح وقال: وا فرحتاه! إنك رجعت عن غرورك، وثبت إلى رشدك؛ فأسرع إلى أحضان أخيك، واعلم أن أمنا واحدة، وقد حملتنا في بطن واحد.
فقال أندريا بصوت أجش: أنسيت الذي قتل هذه الأم؟! ثم تنهد تنهد القانط وسأله: ألا تعدني يا أخي بإطلاق سراحي حين أثوب إلى العافية فأسير في طريقي. إن قطعة من الخبز وكأسا من الماء يكفيان، ولا يحتاج جيروم الشحاذ إلى أكثر من هذا.
وأشفق أرمان عليه، وقال: ما أصابك؟ وما هذا الشقاء الذي بلغت إليه؟ - إنه شقاء اختيار لا شقاء اضطرار، لقد مثلت لي ذنوبي بشكل رائع هائل فندمت ولم أجد بدا من التكفير عن تلك الذنوب، وذلك أنك أعطيتني حين مبارحتي باريس مائتي ألف فرنك، فما أنفقت منها فلسا، ولا تزال وديعة في مصارف نيويورك ليوزع رباها بأمري على المستشفيات؛ لأني لست في حاجة إلى شيء، وقد حتمت على نفسي أن أطوف الأرض، وأمر بالناس متذللا مستجديا؛ فلا آكل غير فضلات خبز المحسنين، ولا أبيت إلا على الطرق، فأفترش الأرض وألتحف السماء، وعسى أن يغفر الله لي بعد هذا التكفير، إنه لغفور رحيم.
فبرقت أسرة أرمان من الفرح باهتداء أخيه، وقال له: لقد كفى ما كفرت به، وأنا أضمن لك عفو الله، وأغفر لك جميع ما أسأت به إلي. ثم طوقه بذراعيه وقال له: كلا، إنك تعيش في منزلي كما يعيش الأخوان، ابق أيها الأخ الحبيب بيننا، إنك ستكون سعيدا مع أخيك وامرأة أخيك وابن أخيك.
2
مضى على ذلك شهران تعافى في خلالها أندريا، وكان لا يزال مقيما في منزل أخيه، ولكنه كان يتقشف تقشف الزاهدين أمام أخيه، ويجلد نفسه بالسياط، لا يطالع غير الكتب المقدسة، ويشتغل النهار كله في محل تجاري، فيعطي جميع ما يكسبه لامرأة أخيه كي توزعه على الفقراء، ولا ينام في الليالي الباردة إلا على الأرض، وهو يجري جميع ذلك دون أن يدع أحدا في المنزل يقف على ما يصنع بنفسه لشدة مبالغته بالتكتم في الظاهر، غير أن أخاه أرمان كان يراقبه مراقبة شديدة فيقف على جميع ما يصنعه، ويخبر امرأته بما يراه، فكانت تعجب بندامته إعجابا شديدا، حتى باتت تحسبه من الأبرار الصالحين وتشفق عليه إشفاق أخيه، وطالما طلبت إلى زوجها أن يلح عليه ويكرهه على تغيير خطته والإشفاق على نفسه، فكان يظهر لها عجزه عن إرجاعه، حتى وثق الزوجان أن حياته لا تطول.
وفيما هما يتباحثان ليلة في شأنه، قال أرمان لامرأته: لقد خطر لي رأي أرجو أن أتمكن به من إنقاذ حياة هذا الأخ التائب. - وما عسى أن يكون هذا الرأي؟ - تعلمين أني حين سفري وإياك إلى إيطاليا عهدت إلى أصدقائنا فرناند روشي، وليون رولاند والأخت لويزا أن ينوبوا عني بإغاثة البائسين، ودفع نكبات الفقر عن أولئك العمال والعاملات الذين تصدهم المروءة عن الالتماس وارتكاب المحرمات، ولا يجدون من رواتبهم القليلة ما يردون مكائد الدهر ويدفعون به غدر الزمان، أولئك هم الفقراء والفقيرات، وليس الفقير ابن السبيل الملتمس ما بأيدي الناس. - أعلم جميع هذا. - ولقد وفى أولئك الأصدقاء بجميع ما عهدت به إليهم، فوقوا كثيرات من البنات غوائل السقوط، وأنقذوا كثيرا من الفتيان من مخالب اليأس، فجرى ذلك مشروع الخير في مجراه، ولكن مشروع العدالة لم ينفذ بعد. - ماذا تريد بهذا القول؟ - أصغي إلي، لقد التقى منذ عشرة أعوام رجلان في مرتفع يشرف على باريس، فأشار أحد الرجلين بأصبعه إلى تلك العاصمة وجعل يقول: «يا مدينة باريس العظمى، ويا ملكة العواصم، بك اجتمع النعيم والهناء، وبساحتك استقر البؤس والشقاء، يا بابل القديمة إن الذنوب فيك تحثك بالفضائل، وأصوات الضحك تقترن بأنات البكاء، وأغاني الحب تمتزج بدموع اليأس، والقاتل السفاك يمشي على الأرض التي يمشي عليها الورع الزاهد، وقد عجزت شريعتك عن معاقبة المجرمين، وعجز أولو البر فيك عن إغاثة البائسين، فما عوقب مسيء، ولا كوفئ محسن، ومن لك برجل موسر شريف يغل يد الظالم، ويجتر قلب البائس، ويرثي لدمع الأرملة، ويحن لشقاء اليتيم.»
ثم أشار الآخر بأصبعه إلى العاصمة قائلا: «يا ساحة الملذات، ونعيم الدنيا وقطب الأماني، لقد وصفت بجمال نسائك، واشتهرت بالبدائع، فمن لي بالذهب الكثير أستغوي بها الفتيات الطاهرات، وأشتري به النفوس الشريفة فأصرفها إلى الغواية، وأستخدمها فيما أريده من التمتع بملاذ الشباب.»
إن هذا الرجل، بل هذا الداهية الذي كان يتفوه بهذا الكلام كان أخي أندريا الذي بات اليوم من المساكين، وكان ذلك الرجل المشفق الذي كان يتمنى الثروة لإنفاقها في سبيل إغاثة الملهوف زوجك أرمان، وقد ظفر كلانا بما كان يرجوه ويتمناه. أما وقد تاب أخي توبة لا رجوع بعدها إلى المعاصي، فقد رأيت أن أستخدمه لردع شرور الفاسقين؛ فإنه إذا كان قد رجع عن الغي والضلال والمنكرات فإنه أعلم بأصحاب الآثام، وأبصر بطرق منع الشرور، ومثل هذا الرجل الحاذق الذي يعد من النوابغ إذا جرد قريحته لمقاومة الشر يدفع كثيرا من البلاء عن أخيه الإنسان.
ثم إنك تعلمين أني معين بوليسا سريا لهذا الغرض، فإذا عينت أخي رئيسا لهذا البوليس السري يبلغ بحسن إدارته أقصى درجات الكمال.
فاستصوبت حنة هذا الرأي وقالت: لا أظن أن أخاك يأبى قبول هذه المهمة، فأنه إذا كان يزهد للاستغفار، فإن دفاعه عن الأبرياء ومقاومته للشر تدنيه أكثر من التقشف.
وفيما هما يتباحثان إذ دخل خادم الكونت وأعطاه غلافا ضخما يتضمن كتابا مسهبا، ففضه أرمان وجعل يقرأ ما فيه كما يأتي:
إن بوليس سيدي الكونت السري أخذ الآن بالبحث عن جمعية سرية عقدت حديثا في باريس، وقد ظهر أن هذه الشركة متشعبة في جميع العاصمة، ولم نقف بعد على شيء من طرقها في الإجراء، ولا عرفنا رئيسها وأعضاءها. غير أنه تبين لنا أن الغرض من هذه الشركة أن يتحصل أعضاؤها على جميع الوسائل السرية المشوشة لنظام العائلات؛ فيستخدمونها للإنذار والتوصل لما يريدونه من الأغراض، وقد بذلنا الجهد للوقوف على أسرارها فلم نظفر بعد بشيء، ولكنا لا تفتر لنا همة عن اقتفاء أثرها.
ولم فرغ أرمان من تلاوة هذا الكتاب أخبر امرأته بمضمونه وقال: إن الله أرسل لنا أندريا لمقاومة هؤلاء اللصوص.
ثم دعا خادمه وأمره أن يذهب ويدعو له أخاه أندريا.
إن من عرف الفيكونت أندريا، أي السير فيليام، أي أخا أرمان دي كركاز، أي ابن الكونت دي فيليبون، على ما مثل في رواية الإرث الخفي السابقة ينكره متى رآه الآن، وقد امتقع لونه وهزل جسمه، وهو بملابس تدل على الزهد، فإذا مشى أرخى نظره إلى الأرض، وإذا تكلم نطق بصوت ضعيف، وإذا نظر إلى محدثه نظر إليه نظرة الضعيف للقوي، وقد ذهب رواؤه القديم، وخمدت جذوة نظراته الجهنمية.
وكان لا يجسر أن يطيل النظر إلى امرأة أخيه، كأن مرور أربعة أعوام لم يمح آثار ذنوبه وإساءته إليها، فلما قدم إلى أخيه وقف أمامه وأمام امرأته وقفة الذليل وقال: ها قد أتيت فماذا تحتاج مني؟ - إني دعوتك لأني محتاج إليك.
فبرقت عين أندريا بأشعة الفرح وأضاف: حبذا الموت في خدمتك. - إني لا أطلب إليك أن تموت بل أن تحيا.
وقالت امرأة أخيه: أي أن تعيش كما يعيش الناس.
ثم أخذت يده بين يديها وضغطت عليها بحنو وإشفاق، فاحمر وجه أندريا وحاول أن يجذب يده وهو يخاطبها: لست أهلا يا سيدتي لحنوك، فما أنا غير أثيم شريد.
فتنهدت حنة ورفعت عينيها إلى السماء وهي تضيف: لا شك إنه من الأبرار.
وأضاف أرمان: إنك تعلم أيها الأخ العزيز أني موقف نفسي ومالي لعمل الخير، وأنا أرجو مساعدتك لي في هذه المهمات.
فارتعش أندريا وأجاب: أيبقى الخير خيرا إذا تدنس بيدي الأثيمة؟
فرد أرمان: إني لا أطلب إليك أن تعمل الخير، بل أن تساعدني على مقاومة الشر.
ثم دفع إليه التقرير الذي ورده من البوليس السري.
وبعد أن قرأه أندريا وهو يظهر العجب والدهشة، أضاف أرمان: إنك قد شقيت في توبتك وندمك شقاء عظيما كان شفيعا لك إلى عفو الله، والآن فعد إلى ما كنت عليه من النشاط والذكاء والجرأة النادرة كي تستطيع أن تقاوم أولئك اللصوص.
وأطرق أندريا هنيهة ثم أجاب: سأكون ذلك الرجل.
فسر الكونت غاية السرور وقال: الآن قد وثقت من كشف الستر عن هذه الجمعية الهائلة.
وفيما هم على ذلك فتح الباب، ودخلت منه امرأة لابسة ملابس سوداء كما تلبس الراهبات، ولم تكن هذه المرأة بل تلك الفتاة غير التى عرفها قراء روايتنا السابقة باسم باكارا، وقد مات كل شيء من تلك الفتاة التي كانت من أشد بنات الهوى غدرا، ولم يبق فيها حيا غير جمالها النادر الذي لا يقيدها بشيء، وقد استبدلت اسمها القديم باسم الأخت لويزا، على أننا نستسمح القراء ونبقي لها اسمها، فتبدو لهم بذلك الحال الغريب الذي كانت تسعى أن تخفيه بالملابس الضخمة، ولكن الوردة لا يستر جمالها ما يحيط بها من الشوك، غير أن هذه الفتاة التي عرفت أسرار الهوى، ثم تابت بعد أن حبسها أندريا في مستشفى المجانين لم تبق من مظاهر التجمل غير ذلك الشعر المنسدل على كتفيها كالأراقم السوداء.
ولما دخلت باكارا هشت إليها مدام دي كركاز ومدت لها يدها للسلام، فظهرت على وجهها علائم الخجل، كما بدت هذه العلائم على وجه أندريا. فقام أرمان وأمسك بيدي باكارا وأخيه وخاطبهما قائلا: لقد كنتما شيطانين على الأرض تتعاونان على الشر، فأصبحتما بعد توبتكما ملاكين، فتعاونا الآن على الخير.
ثم وضع يد باكارا بيد أخيه، فنظرت باكارا إلى أندريا وهي تقول في نفسها: لقد خدع أرمان وخدعت امرأة أرمان؛ فإن مثل هذا القلب لا تصل إليه التوبة.
3
بينما هذه الحوادث تجري في بيت أرمان كانت حادثة أخرى تجري بعد ساعة في شارع آخر.
وكان الليل حالك الأديم، والضباب كثيفا، حتى إن المار بذلك الشارع لم يكن يستطيع أن يهتدي لسبيله على كثرة أنوار الغاز؛ لشدة عصف الهواء الذي كان يهب على تلك الأنوار فيقبض ألسنتها من حين إلى آخر. وكان في عطفة من ذلك الشارع بيت كبير حسن الظاهر، فلما انتصف الليل كثر طرق باب هذا البيت ودخل إليه خمسة رجال الواحد بعد الآخر، فكان الداخل منهم يدخل من الباب العام فيسير عدة خطوات في دهليز طويل حتى يبلغ إلى باب سري في حائط الدهليز، فيطرقه ثلاث مرات متوازنة، فيجيبه صوت من الداخل قائلا: أين تذهب، ألعلك أتيت لتسرق خمري؟
فيجيبه الطارق من الخارج: كلا، فإن الحب صالح (وهي جملة مصطلح عليها بينهم).
فيفتح الباب عند ذلك، ويدخل الزائر ويجد بصيصا من النور ينبعث من مصباح ضعيف، ويرى أمامه سلما طويلة، ولكنها غير ذاهبة صعدا كالسلالم المألوفة، بل إنها كانت تخترق جوف الأرض، فينزل منها الزائر حتى يصل إلى غرفة متسعة رصفت بها براميل الخمر بعضها فوق بعض، وفي صدر هذه الغرفة منضدة حولها خمسة كراسي مصفوفة، ويرى جالسا على المنضدة شابا جميل الطلعة، لا يتجاوز عمره الثامنة عشرة، وأشعة الذكاء تتوقد من عينيه، فيحيي هذا الغلام تحية المرءوس، ثم يجلس في مكانه من القاعة.
وكان عدد الحضور خمسة ما عدا الرئيس، فكان أحدهم حسن الملابس، وفي عروة ثوبه إشارة تدل على أنه من أصحاب الوسامات، والثاني يناهز الثلاثين، والثالث شيخ عجوز تبدو عليه مظاهر القوة، والرابع غلام يبلغ سن الرئيس، والخامس شاب تدل هيئته على أنه من خدم البيوت الكبيرة.
ولما تكامل عدد المدعوين نظر إليهم الرئيس وحدثهم قائلا: إن جمعيتنا أيها السادة يطلق عليها عنوان الجمعية السرية، وأعضاؤها أربعة وعشرون عضوا، ليس بينهم من يعرف الآخر، على أن لكل منهم الحق بالوقوف على نظام هذه الجمعية، وأخص بنوده أن يطيع الأعضاء طاعة عمياء لا حد لها رئيسنا الذي لا يعرفه أحد سواي؛ لأني الوسيط بينه وبينكم.
فانحنى الأعضاء عند ذكر الرئيس إشارة الاحترام.
وأضاف: وقد صدر أمر الرئيس أن تجتمعوا أنتم الذين دعوتكم دون سواكم كي يعرف بعضكم بعضا؛ لأنكم ستشتركون بعمل واحد، نؤمل أن يعود علينا بالخير العميم، ولا أعلم شيئا من ذلك؛ فإن مهمتي بينكم أن أنقل إليكم أوامر الرئيس السري، كما أتلقاها منه.
ثم التفت إلى أحد الأعضاء فناداه بلقب ماجور، وقال: إنك تزور كثيرا من الأسرات النبيلة.
فأجاب المأجور: أجل.
فجعل الرئيس يقلب أوراق كتاب كتب عليها رموز اصطلاحية، إلى أن عثر بما يبحث عنه فسأله: ألك معرفة بالمركيزة فان هوب؟ وهل أنت مدعو إلى الحفلة الراقصة التي ستحييها ليلة الأربعاء القادمة؟ - أجل. - أليست هذه المركيزة إسبانية أميركية تزوجت بهولاندي وعمرها الآن 30 عاما؟ - أجل. - أهي غنية كما يقولون؟ - إنهم يقدرون دخلها السنوي بمليون فرنك. - أصحيح ما يروى عنها أنها تحب الفنون الجملية، وأنها كانت تتعلم صناعة النقش منذ عهد قريب؟
فنهض أحد الحاضرين وقال: ذلك لا ريب فيه، فإني كنت أستاذها.
وأضاف الرئيس: أصحيح أن زوجها يغار عليها غيرة شديدة، وأنه لا يتجاوز الأربعين من العمر؟ - إنه بات بغيرته مضرب المثل، ولكنها غيرة في غير موضعها؛ لأن المركيزة معروفة بالطهارة والعفاف.
فأومأ الرئيس بيده إلى أحد أعضاء الجمعية، وأضاف: إنك ستصحب معك ليلة الرقص المسيو شاروبيم وتعرفه بالمركيز.
وكان شاروبيم هذا في مقتبل الشباب، وله جمال عجيب لقب من أجله بأسماء الملائكة، ثم عرف به الماجور، وبعد ذلك قال له: أليس للمركيزة علاقة مودة مع امرأة تبلغ الخامسة والثلاثين؟ - أجل، وهي أرملة تدعى مدام ملاسيس، لقيتها مرارا كثيرة عند المركيزة. - ألم تكن متهمة بواجباتها الزوجية في حياة زوجها؟ - هي تهمة يدري بها الأكثرون. - ولكن المركيزة لا تعلم شيئا من حياتها السابقة، وتحسبها من أفضل النساء، وكذلك الدوق مايلي الشيخ فإنه يهواها ويحاول أن يتزوجها فيحرم حفيده الكونت مايلي من إرثه العظيم، وقد أوشك أن يسقط هذا الكونت في مهاوي الإفلاس. - بل سقط ولم يبق له من ماله غير الندم على ما فات.
فالتفت الرئيس إلى أحد أعضاء الشركة وقال له: إن هذه الأرملة التي نذكرها محتاجة إلى رجل يدير منزلها ويكون لها وكيلا في أعمالها، فاذهب إليها واعرض عليها خدمتك.
فأحنى الرجل رأسه إشارة الامتثال، فقال له الرئيس: إنك كنت بالأمس مستخدما في قصر الدوق مايلي الشيخ وطردت منه؟ - بل إني دعوته إلى طردي امتثالا لأوامركم. - هو ذاك ولكنك نسيت أن ترد الدوق مفتاحا كان ائتمنك عليه، وهو مفتاح حديقة بيت الأرملة، ولا بد أن تكون قد عرفت عوائد الدوق، وكيف ينفق وقته في مدة خدمتك له. - أجل، لقد خبرته خبرة تامة، شأني في معرفة جميع من أخدمهم.
فأبدى الرئيس علامة الرضى وقال له: إنك تذهب في الغد إلى صانع أقفال فتصنع مفتاحا آخر مثل المفتاح القديم وترده إلى الدوق، وتبقي المفتاح الآخر معك فتدفعه إلى هذا.
وأشار بيده إلى أحد أعضاء الجمعية.
ولما فرغ من ذلك قال للحضور: إنكم الآن قد عرفتم بعضكم بعضا، فانصرفوا إلى شئونكم وستردكم التعليمات إلى منازلكم.
ثم فض الجلسة وتفرق الحاضرون، فلم يبق في الغرفة إلا الرئيس الصغير، وعند ذلك سمع طرقا على باب سري؛ فدنا من الباب وأجاب: ادخل أيها السيد فقد انصرف الجميع.
ففتح الباب وظهر منه أندريا وهو يقول بلهجة الساخر: لقد أعجبني منك يا روكامبول أنك ترأس الجلسات كما يرأسها القضاة.
أما روكامبول الذي يظهر الآن بمظاهر السيادة فما هو إلا روكامبول الذي عرفه القراء في آخر رواية الإرث الخفي، أي ابن الأرملة فيبار الذي أطلع أرمان على دسيسة أندريا حينما كان يريد اغتصاب عروسه، وقد سافر بعد هذه الحوادث مع أندريا إلى نيويورك، فتبناه أندريا وأحسن إليه لما توسم فيه من الذكاء، ثم جعل يدربه ويعلمه أسرار مهنته إلى أن نبغ فيها، ولما رجع من نيويورك إلى باريس صحبه معه وجعل يشاركه في كل إثم وزور، حتى ألف أخيرا هذه العصابة التي تقدم ذكرها، فعينه رئيسا بالظاهر عليها وبقي هو الرئيس الحقيقي.
فلما دخل أندريا عليه حاول أن يخبره بما كان من أمر العصابة، فقاطعه: لا حاجة لي بذلك فقد سمعت كل شيء، بل إني في حاجة إلى الطعام فأعد لي أفخره؛ لأني لم أبتلع شيئا منذ الصباح. - إذن، لندخل إلى البيت حيث تجد فيه جميع ما نشتهيه.
ثم دخل الاثنان يتأبط كل منهم ذراع الآخر، وأندريا يقول: سترى أيها الأخ العزيز كيف يكون الانتقام.
4
ولما بلغا إلى داخل البيت الذي كانا يجوزان إليه من أبواب سرية دخلا إلى غرفة الطعام، وجلسا حول المائدة يأكلان ويتحدثان، وقد افتتح الحديث أندريا فسأله: كيف حال الصندوق؟
فأجابه روكامبول: أي صندوق تعني؟ أصندوق الشركة أم صندوقي الخاص؟ - بل صندوقك؛ فإني أعلم ميزانية الشركة. - لقد ذهب معظم مالي بما أخسره في المقامرة، فقد خسرت أمس مائة جنيه، وأنت الذي أمرتني أن أخسر. - هو ذاك؛ فإنه يجب على المرء أن يزرع كي يجني، ومن يحسن الزرع يحسن الحصاد. - وإني أنفق كثيرا على هذه الخليلة التي لا أعلم كيف أرضيها، وهي كالحوت لا يرويه شيء يلتهمه. - إنك ستطلق سبيلها في القريب العاجل، فلم يعد لي بها حاجة وقد أدركت منها ما أريد.
فأجابه روكامبول: وقد جمعت نفقاتها ونفقات المنزل وخسائر القمار فبلغت 40 ألف فرنك في هذا الشهر، ولا يمضي على ذلك زمن يسير حتى تفرغ جيوبي. - لا بأس فسأملؤها إذا كنت تحسن الطاعة والسلوك.
فنفر روكامبول وقال: لعل مولاي يشكو مني قصورا في طاعتي وامتثالي؟ - كلا، ولكننا مقدمون على أمر خطير يجب فيه الطاعة العمياء. - أيطلعني سيدي على حقيقة ما ينويه؟ - نعم، فإن لي بك ملء الثقة، وما أتيت إليك في هذه الليلة المدلهمة إلا لهذا الغرض، ولا بد لي قبل إطلاعك على ما أريد من مقدمة صغيرة، وهي أن الطاعة والحب والإخلاص ومعرفة الواجبات كلها كلمات لا معنى لها في قاموسنا، ومن كان مثلنا لا يدفعه إلى الإخلاص غير الفائدة والصالح، وهذا هو خير تعريف لما يدعوه الناس بالصداقة، ودليل ذلك أنك لو عثرت على رجل أشد مني في مواقف الذكاء، وأفادك مما أفيدك لتخليت عني ونقضت عهدك، أو تكون من زمرة الجهال، ولكنك لا تجد الآن؛ فأنا أطلعك على شيء من مقاصدي دون أن أخشى منك نقض عهد.
فأعجب روكامبول بكلامه وأجاب: إني طوع لإرادتك ، فمر بما تشاء. - لنبدأ من الأمور بأهمها. فقل كيف رأيت روايتي المضحكة في دخولي إلى بيت أخي؟ - هي خير ما رأيته على مسارح التمثيل، فقد أتقنت تمثيلك والإغماء على قارعة الطريق، حتى لقد خدعت به أنا على ما أعرفه من حقيقته، ولو لم أكن أنا ذلك السائق الذي كان في مركبة أخيك لداستك المركبة، ثم إن توبتك وندمك وجميع ما تبديه من مظاهر الصلاح لا يقوى على بعضه أشهر الممثلين، ولكني لا أظنك تستطيع أن تعيش طويلا على هذا التقشف والزهد. - إني أعيش دهرا عيشة الأذلاء كي أروي غلي من الانتقام، وإن الانتقام أعرج بطيء السير، ولكنه يصل.
ثم أخذ أندريا يتأمل هنيهة، وهو يعد أصابعه فقال: نبدأ بالكونت أرمان لأنه أعظم أعدائي. - وأنا أبدأ بخنجري فإنه أفضل سلاحي. - كلا لم يحن الوقت بعد. ثم أتليه بامرأته حنة؛ فإنها لم تحبني بعد ولكنها ستحبني، ثم أتليها بباكارا، فإنها ستبكي بكاء شديدا حين أقبض عليها وتندم الندم العظيم لإفلاتها من مستشفى المجانين.
فقاطعه روكامبول: ولكنها في جمالها وذكائها، وخير لك أن تكون صديقتك. - لدي أفضل منها، وهي ستكون لك بدلا من خليلتك، إذا أحسنت السلوك.
ثم عاد إلى حسابه وأضاف: وبعد باكارا يأتي فرناند روشي؛ فقد اتهمناه بالسرقة فلم نفلح، ولا نفوز الآن أيضا بمثل هذه التهم، فإنه من كبار الأغنياء. ولكننا سنمثله للقضاء قاتلا سفاكا، والثروة لا تعصم الأغنياء من جريمة القتل. - وما عساك تصنع بامرأته هرمين؟
فأجابه أندريا ببرود: إن هذه المرأة قد تنازلت إلى حبها، فرفضت حبي؛ ولذلك سأسحق كبرياءها بقدمي وأرمي فؤادها بهوى يحط مقامها ويصم حياتها الحاضرة والمستقبلة بوصمة عار لا تمحى، فأجعل عرضها مضغة الأفواه وأزج بها إلى الحضيض. ثم أضاف: وبعد ذلك يأتي دور ليون رولاند؛ فلقد قتل هذا الأبله كولار رئيس عصابتي السابق، ودم رجالي لا يذهب هدرا. - وماذا تصنع بامرأته سريز؟ - الحق أني لا أريد بهذه المرأة شرا، ولكن والد هرمين لا يزال مفتونا بها، حتى لقد جن في هواها، وقد وعدته وعودا أحب أن أنقضها. - أهذا كل ما تبغيه من الانتقام؟ - أجل. - وحنة امرأة أخيك؟ - إني لا أكرهها بل أحبها.
وكأن هذه الكلمة التي خرجت من فم هذا الرجل الهائل كانت قضاء مبرما على أرمان دي كركاز، وحكما بموته لا يدفع.
فسأله روكامبول: لقد أخبرتني بأسماء الذين تريد الانتقام منهم، ولكنك لم تقل لي شيئا عن طريقة الانتقام.
فابتسم أندريا ابتسام الأبالسة وقال: إن من يريد الانتقام لا يكشف طرق الانتقام، بل يبقيها مكتومة في صدره.
فغير روكامبول مجرى الحديث وقال: إذن فقد عولت على أن تستمر على زهدك الحاضر. - أجل. - أفي مثل هذا الشتاء القارص تنام بغرفة لا نار فيها؟ - إن في قلبي من نار الانتقام ما يكفيني للاصطلاء. - أتشتغل جميع ساعات النهار في ضبط الحسابات ومسك الدفاتر في مخزن حقير؟ - كلا، فإن أخي العزيز قد كفاني مئونة هذا العمل الشاق، فجعلني رئيسا لبوليسه السري.
ثم أخبره بجميع ما كان بينه وبين أرمان، وكيف أنه سيضل هذا البوليس فلا يدعه يقف على شيء من أسرار جمعيتهم السرية. ولما انتهى من حديثه سأله روكامبول: لقد كتمت عني طريقة انتقامك، أفتكتم عني أيضا هذا السر الذي ألفنا من أجله هذه الجمعية؟ - نعم، أخبرك بما يجب أن تعلمه، أي بالمقدمات التي لا بد من إيقافك عليها، فاسمع: إن هذا المركيز الذي يدعى فان هوب والذي يقدرون ثروته بالملايين، لو لم يتزوج لكانت ثروته تقدر بأضعاف ما هي عليه الآن، وذلك أنه كان لهذا المركيز عم فقير، فبرح وطنه الهولندي في صباه وسافر إلى الهند، فدرت له أخلاف الثروة وتزوج بامرأة هندية، فولدت له بنتا ترك لها مهرا يبلغ عشرين مليونا، وقد ذهب المركيز فان هوب منذ عشرة أعوام لزيارة عمه في الهند، فأقام عنده زمنا طويلا وأحبته ابنة عمه حبا شديدا، وقد جاهرت به لأبيها وأخبرته أنها لا تتزوج سوى ابن أخيه. فرضي الأب بهذا الزواج وتوافق عليه العاشقان.
وكان المركيز قبل الخطبة عازما على الطواف حول الأرض، فأجل الزواج إلى انتهاء الطواف وودع الخطيبة ورحل.
وقد بدأت رحلته من جزائر الأتيل، حتى إذا بلغ إلى هافانا رأى فيها فتاة شغفت لبه وملكت قياده، فنسي ابنة عمه وحنث بوعوده واقترن بتلك الفتاة.
فقال روكامبول: يا له من أبله! أيترك عشرين مليونا كي يمتثل لصوت فؤاده الضعيف؟ - ولكن امرأته غنية أيضا، وهو يحبها حبا بلغ به حد العبادة، غير أن هذا المركيز لم يفطن لتلك الجذوة التي أشعلها في قلب ابنة عمه، فقد كانت تحبه حبا لا يحيط به وصف ولا تزال، وقد مضى على زواجه ثمانية أعوام، وهي تحبه ذلك الحب الشديد ولكنه حب مقرون بالانتقام. - إذن تكرهه؟ - كلا، بل إنها تعبده، ولكنها تريد الانتقام من خصيمتها فيه، ومن كان له عشرون مليونا فلا يصعب عليه مثل هذا الانتقام. - هذا ميسور، وأنا أتعهد لها بقتل امرأة المركيز إن أعطتني مائة ألف فرنك.
فقال أندريا ببرود: إنها ستعطيني خمسة ملايين.
فدهش روكامبول وقال: متى وعدتك؟ - منذ عام. - أتعدك بهذه الثروة الطائلة منذ عام، وتصبر عليها إلى الآن؟
فضحك أندريا ضحك الساخر وقال: إنك لا تزال على سابق عهدي فيك، فإنك تستطيع أن تكون يدا عاملة منفذة، ولكنك لا تقدر أن تكون الرأس المدبر. - كيف ذلك؟ - لأن الهندية لا تريد الاقتصار على قتل المركيزة، بل إنها تريد أيضا الزواج بالمركيز، وإذا كان هذا المركيز يحب امرأته هذا الحب، فهو لا يتزوج سواها إذا فجع بها بعد عهد قريب، بل قد يقتل نفسه بعد قتلها، فنخسر الملايين؛ ولذلك يجب أن يكره المركيز امرأته قبل أن تموت أو تقتل، ولا يجب أن يحب غير ابنة عمه الهندية، ولا نقبض الملايين الخمسة إلا بهذا الشرط.
فقال روكامبول: لقد بدأت أن أفهم، ولكنه عمل شاق يحتاج إلى الدهاء الكثير. - وليس الجزاء بيسير. - وأين رأيت هذه الهندية؟ - رأيتها في نيويورك. فاسمع حكايتها فإنها لا تخلو من الفكاهة.
5
قبل أن نرجع من نيويورك، وذلك منذ بضعة أشهر، بينما كنت راجعا إلى المنزل في المساء، رأيت مركبة يسوقها أربعة جياد تسير سير الهوينا، وفي صدرها صبية تدل هيئتها على أنها بين الخامسة والعشرين، أو الثلاثين من العمر، فاستوقف نظري ما رأيته بهذه الصبية من عينين متوقدتين كأنهما تخرج منهما شهب النار ووجه متجهم بالسويداء، وملامح تدل بجملتها على الاسترسال بالملاذ. غير أن تجهمها على صباها وظواهر غناها كان يشير على أن في حياتها سرا من الأسرار، فوقفت أنظر إليها نظرة الفاحص، وأنا أبعد عنها عدة أمتار، ونظرت إلي وحدقت بي، ثم برقت أسرة وجهها كأنها تقول: هذا هو الرجل الذي أبحث عنه. ثم أمرت السائق بالوقوف فوقف، أما أنا فإني دنوت من المركبة وجعلت أنظر إليها نظرات تخترق النفس، ثم قلت لها: ماذا تبتغين؟ قالت بصوت أجش، تبدو من نبراته علائم الظمأ إلى الانتقام: أريد رجلا قويا. - إنك نكبت نكبة غرام؛ فغدوت كاللبوة فقدت أشبالها. - هو ذاك؛ فإني أحب وأكره لحد الموت. - إن الانتقام يقتضي له المال الكثير.
فقالت ببرود: أيكفي 20 مليونا؟
فلم أنبس بعد ذلك بحرف، وصعدت إلى المركبة فجلست بالقرب منها، فسارت بنا المركبة سيرا حثيثا حتى بلغنا إلى قصرها، فنزلت وأخذت يدها ودخلنا إلى إحدى قاعات المنزل، فأقفلت الباب وأجلستني أمامها، ثم قالت: إني لم أرك غير الآن، ولا أعلم من أنت ولا من أي بلاد أتيت، ولكني قرأت في عينيك ما دلني على أنك ذلك الرجل الذي أبحث عنه من دهر طويل يكون عوني فيما أبغيه من الانتقام. - لقد صدق نظرك، فأنا هو ذلك الرجل. - إني أهوى ابن عمي وأريد أن أتزوج به. - إذن فلا بد من قتل امرأته. - أصبت وليس أسهل من قتلها، فإن لدي كثيرا من الخدم إذا أمرت أحدهم بقتلها لا يعود إلا مخضبا بدمائها، ولكنها إذا ماتت مثل هذه الميتة زاد شفقة بها، ولا أنال منه شيئا. - إذن كم تعطي الرجل الذي يزيل جميع هذه الموانع ويجعل ابن عمك يهيم بك. - أعطيه كل ما يريد، فاطلب ما تشاء. - أطلب خمسة ملايين. - أتموت امرأته موتا فظيعا وينساها زوجها؟ - أجل. - ومن يقتلها؟ - زوجها.
فصاحت صيحة فرح وقالت: لك ما طلبت من الملايين. - إذن اطمئني فسيقتلها بيده ويلعنها بعد قتلها، ويعود إليك بعد شهرين من ترمله فيجثو مستغفرا على قدميك.
فنهضت إلى منضدة عليها أدوات الكتابة، وأخذت ورقة فكتبت عليها حوالة على أحد مصارف باريس بخمسمائة ألف فرنك، فدفعته إلي وهي تقول: خذ هذا المبلغ لنفقاتك الأولية.
ثم كتبت لي تعهدا بالملايين الخمسة أقبضها حين انتهاء العمل، فأخذت الحوالة والتعهد وقلت: إني مسافر غدا إلى باريس، فاصبري وكوني على ثقة مني، فإذا ورد إليك كتاب من بوجيفال قرب باريس دون توقيع أدعوك فيه للحضور؛ فاحضري في الحال.
ثم تركتها ومضيت وبعد يومين سافرت إلى باريس.
فقال له روكامبول: ألم ترها بعد ذلك؟ - نعم، فقد رأيتها أمس، وهي تنتظر في باريس منذ يومين.
ثم تبسم ابتساما علم روكامبول من خلاله أن المركيزة فان هوب حكم عليها بالموت، وبيعت حياتها بخمسة ملايين فرنك.
وبعد ذلك قال له روكامبول: بقي أن أسألك سؤالا آخر، وهو ما شأن الأرملة مالاسيس معنا؟ - إنها عماد روايتنا، فإنها بالظاهر لا علاقة لها مع المركيزة فان هوب، ولكنها في الحقيقة يدها العاملة؛ وذلك أن زوج المركيزة صديق للدوق دي مايلي، عشيق الأرملة، وسيتزوجها إذا ترك وشأنه، ويحرم حفيده من إرثه. - أيهمك هذا الحفيد؟ - ولكنه يدفع على الأقل خمسمائة ألف فرنك إذا مات الدوق قبل أن يحرمه من الإرث. - ولكن ملايين الهندية أعظم من آلافه وخير لنا لو تجردنا لها. - هو ما تقول، ولكن لدينا أسبابا كثيرة تقضي علينا بالتجرد للأمرين؛ وذلك لأن المركيز وامرأته لا يعرفان حقيقة علائق الدوق الشيخ مع الأرملة، ولكنهما يعلمان فقط أنه هائم بها، وأن المركيزة تحب الأرملة حب الإخاء، وتحسب أنها من أعف النساء، فهي تتمنى أن تراها زوجة الدوق، غير أن هناك أمرا آخر، وهو أن المركيز شديد الغيرة على زوجته، وقد اتفق مرة أن حفيد الدوق الشيخ طمع بحب المركيزة ولم يفز بشيء، فبات المركيز يكرهه أشد الكره؛ ولذلك فإنه يتمنى أيضا أن يتزوج الدوق بالأرملة كي ينتقم بحرمان حفيده من الإرث.
وبهت روكامبول: أهذا كل ما تريد أن تقوله، فإني لم أفهم شيئا من هذه الألغاز، ولم أر شيئا من التحام المسألتين. - ستنجلي لك هذه الألغاز في المستقبل القريب، ولكنها منحصرة بكلمتين وهما: إن سقوط امرأتين متفقين أهون من سقوط امرأة واحدة، وذلك إذا أصيبت هذه الأرملة بسهام الغرام وهي تكاد تبلغ سن الكهولة، حيث يبلغ الغرام فيه إلى أقصى الحدود؛ فإنها تعترف بهذا الحب لصديقتها المركيزة، ومتى أحبت المركيزة شاروبيم الجميل، وهو من أعضاء جمعيتنا تقتدي بالأرملة وتبوح لها بهواها. - إن هذا لا ريب فيه، ولكن ...
فقطب أندريا حاجبيه قائلا: كفى ... لا أزيد حرفا على ما قلت.
ثم قام يريد الذهاب، فسأله روكامبول: بقيت مسألة مالية أرجو أن توضح لي أمرها. - قل. - إننا اتفقنا أن نقتسم ما نكسبه بجمعيتنا السرية، فيكون النصف لك والربع لي والربع الباقي لبقية الأعضاء، فهل تكون قسمة ملايين الهندية على هذه القاعدة؟ - بالتقريب، فإني سأعطيك مليونا، والأعضاء مليونا، وأبقي لنفسي ثلاثة ملايين!
فأحنى روكامبول رأسه دون أن يجيب، فأدرك أندريا استياءه وقال بلهجة المؤنب: أنسيت أني سأتزوج بامرأة أخي، وأن هذا الزواج يقتضي له كثير من النفقات؟
فابتسم روكامبول وقال له وقد رآه يهم بالذهاب: متى أراك؟ - بعد ثلاثة أيام! - ومتى أستبدل الخليلة القديمة بالجديدة؟ - متى عرفت أن تصبر!
ثم ودعه وخرج، فركب مركبة وسارت تقطع به شوارع باريس في تلك الليلة المدلهمة، حتى وصلت إلى عطفة شارع مونتمارتر فاستوقفها ونزل، ثم أطلق سراحها ومشى قليلا إلى أن وصل إلى بيت مرتفع، ونظر إلى نافذة الدور الأخير فرأى نورا ضعيفا ينبعث منها فقال: إنها لا تزال تنتظرني.
ثم تقدم إلى الباب وصعد إلى الدور الأول حتى بلغ إلى آخر بيت فيه، ولما طرقه سمع صوت فتاة من الداخل تقول: من الطارق؟ - هو الذي تنتظرينه. ففتحت له الباب ودخل.
6
وكانت الغرفة التي دخل إليها حقيرة الأثاث، تدل على أن صاحبتها حديثة العهد في مهنة الغواية، فسرح أندريا نظره فيها، ثم نظر مبتسما إلى تلك الفتاة التي كانت تنتظره فيها، وهي فتاة في مقتبل الشباب تناهز العشرين من العمر، وتجول بين عينيها ملامح الذكاء على جمال بارع وعينين تعرفان مصارع القلوب.
وحكاية هذه الفتاة أنها خرجت من المدرسة وهي في الخامسة عشرة من سنيها، فزوجها أهلها على الكره منها بشيخ عجوز، وأقامت معه على أحر من نار الغضى ثلاثة أعوام، ثم أفلتت من قيده كما يفلت العصفور من القفص، وانطلقت في سبيل الغي والضلال حتى أدركت أسرار هذه المهنة الشائنة.
وقد التقى بها أندريا وهو يبحث عن امرأة يستخدمها في سبيل مكائده، وهي تبحث عن رجل يحقق أطماعها الواسعة، فتعارفا وتواعدا على أن يزورها في منتصف الليل، دون أن يطلعها على شيء من مقاصده، ولما حان الموعد أقبل إليها كما قدمناه، وجلس أمامها قرب نار خفيفة، وجعل يفحص سماتها فحص المدقق الخبير، وهو معجب بجمالها النادر، وبما كان يتوسم فيها من مخائل الذكاء. وبعد وقت قصير قال: لقد آن لي أن أطلعك على مقاصدي، اعلمي قبل كل شيء أني واقف على أسرار حياتك، عالم بجميع ما تعانيه من الشقاء، فهل تريدين الخروج من هذا الشقاء واستبدال هذه الغرفة الحقيرة بقصر جميل في أشهر شوارع باريس؟
فبرقت أسرة عينيها وحسبت أنه فتن بجمالها، وقالت: ومن يأبي سكنى القصور؟ - هو قصر بديع في شارع مونسي تكتنفه حديقة غناء كان من قبل لفتاة مومس كان يلقبها عشاقها باسم باكارا، باتت تدعى الآن الأخت لويزا.
فضحكت ضحك الساخر وقالت: لقد عرفت من صواحبي شيئا من تاريخ هذه التائبة البلهاء، وما فعلت بقصرها، ألعلها تريد بيعه الآن؟ - كلا! فإنه لي بل لك إذا كنت ترغبين، وقد اشتريته بما فيه من الأثاث منذ ثلاثة أشهر بمائة ألف فرنك، وعينت فيه الخدم والخادمات، وأرسلت إليه الخيل والمركبات ...
فقاطعته تقول بصوت الوجل المضطرب: أتهديني كل هذا كما تقول؟ - هو لك إذا كنت توافقينني فيما أريد.
وضربت الأرض برجلها وقد نفد صبرها، ثم قالت بلهجة المتهكم: ماذا تبتغي مني؟ ألعلك عاشق لي !
فابتسم أندريا قائلا: لو أردت هذا الغرام لما حالت دونه مظاهري. - إنك تجاوزت عهد الشباب وبلغت الخمسين. - كلا، إني لم أبلغ الثلاثين، ولو أردت الغرام كما قلت لعرفت طريق قلبك بالرغم من هذه المظاهر. - ولكنك تجعل طريقك من هذا القصر. - بل بغير هذا القصر. - ربما، قد تكون منزلتك فوق منزلة البشر. - لنعد الآن إلى حديثنا، فقد قلت لك أني سأعطيك القصر وأعين لك الخدم والخادمات، وأهبك الخيل والمركبات، وأزيدك ألف فرنك أدفعها لك في كل شهر لنفقاتك الخاصة، ولكني سأعتمد عليك مقابل ذلك في كثير من الأمور الخطيرة. - إذن أنت تريد المضاربة بجمالي. - هو ذاك، فإني أطلب إليك غواية شاب تبلغ ثروته اثني عشر مليونا، غير أن غوايته ليست بالأمر اليسير؛ لأنه متزوج ويحب امرأته حب العشاق.
فقالت بلهجة الواثق: كن مطمئنا، سأنزع هذا الحب من قلبه. - إذن أمهلك ثلاثة أشهر. اسلبي أمواله وانهبي فؤاده كما تشائين على أن ترديه إلي خاملا مخبولا، وهذا كل ما أبتغيه. - والملايين؟ - هذا أمر خاص بي، وسنتفق عليها في غير هذا المقام لأني لا أكترث بها الآن! - ألا تخبرني عن اسم هذا الرجل؟ - نعم، فهو فرناند روشي.
ثم نهض فودعها قائلا: إلى الغد.
فشيعته إلى الباب وهي منذهلة لا تصدق ما سمعته، وقبل أن يخرج سألها عن اسمها فقالت: حنة. - إنه اسم مبتذل لا يخلق بمن ستمثل مثل دورك فغيريه. - أي اسم تختاره لي؟
فنظر إلى عينيها الزرقاوين نظر المبهت من جمالها وقال: إني أستبدل اسمك بلقب ينطبق على صفاء عينيك، فأدعوك الفيروزة.
فضحكت وقالت: ليكن ما تريد.
ثم تركها أندريا وذهب مسرعا إلى بيت أخيه، فرأى النور مضيئا في غرفة الكونت، وقرع الباب ودخل، فانذهل الكونت لما رآه وقال: أين كنت!
فأجاب أندريا: كنت في باريس، ألم تجعلني رئيسا لبوليسك السري؟ - وماذا علمت؟ - لقد وقفت على أسرار الجمعية السرية، ولكني لا أطلعك على شيء الآن، فنم مطمئنا واعلم أن أعضاءها لا يزالون ضعفاء، وسأبدد شملهم قبل أن يشتدوا.
ثم ودعه وخرج إلى غرفته ، فأوصد بابها من الداخل وأخذ من خزانته كتابا خطيا ضخما مكتوب عليه من الخارج بحروف كبيرة هذا العنوان: «تاريخ حياتي الثانية»، وكان يكتب فيه كل يوم بضعة أسطر، ففتحه وهو يقول: إنه رأي مبتدع سيكون له شأن خطير في تحقيق ما أبتغيه، ولقد أحسنت بما كتبته في صدره من الإشارة إلى أنه كتاب خاص لا يحق لأحد أن يطالع فيه. ثم كتب في إحدى صفحاته ما يأتي:
3 ديسمبر
لله ما أشد شقائي وما أعظم ما قاسيت في هذا المساء! لقد تمثلت لي حنة، امرأة أخي بشكل آلهة الجمال تلك التي أحبها حبا ليس بعده حب ... رباه عفوك وتب علي، لقد تقطع قلبي اليوم حين رأيت زوجها يقبلها أمامي، واسبل علي ستر رحمتك فإني أحبها منذ اختطفتها وجعلت بيني وبينها هوة عظيمة بهذا العمل الفظيع.
ثم أطبق الكتاب وابتسم ابتسام الأبالسة وهو يقول: إنها متى وقفت على هذه السطور، وعلمت حبي الصحيح، فلا تمانع عن الزواج بي بعد قتل زوجها.
7
عرف القراء مما قدمناه عن باكارا كيف استحالت هذه الفتاة إثر توبتها، لقد كانت تبالغ بالزهد حتى باتت تشبه النساك الزاهدين، واقفة حياتها على خدمة البائسين، وإلقاء البذور الصالحة في نفوس الفتيات، ومساعدة أرمان دي كركاز فيما كان ينفقه في سبيل الخير، فاشتهرت بهذه المعيشة الصالحة وأصبحت ملجأ المعوز اليتيم، وكان الفقراء يتوافدون إلى منزلها أفواجا، والرجال الأغنياء يأتونها من كل فج يلتمسون منها توزيع حسناتهم على الفقراء البائسين.
على أنها مع شدة زهدها وانقلابها، كانت لا تزال حريصة على بعض من آثار خلاعتها السابقة، فقد كان لها في منزلها الرحيب غرفة خاصة لا يدخلها أحد من الخدم، ولا يلجها سواها، وفي هذه الغرفة جميع ما كان لديها من أدوات التبرج والتزين، ولعلها أبقتها كي تذكر برؤيتها أويقاتها الهائلة، فتكون خير دافع لها إلى الاسترسال في التوبة.
وكان في صدر الغرفة صورة كبيرة تمثل فرناند روشي وهو نائم على سرير، إشارة إلى الليلة التي حمل فيها إلى منزلها كما عرف القراء في القسم الأول من هذه الرواية، وفي جدار آخر صورتها وهي مجردة حنجرا تريد قتل خادمتها فاني إشارة إلى خادمتها السابقة في مستشفى المجانين. وكانت في كل ليلة تدخل إلى هذه الغرفة وتنظر إلى صورتها، فتبدو عليها علائم الاشمئزاز والنفور، وتنظر إلى صورة فرناند حبيبها القديم فتنطبع على محياها الجميل دلائل الخشوع، وتنطلق عيناها بالدموع، فتركع أمام الرسم وتصلي.
ثم تخرج من الغرفة فتنفي هذه الذكرى من مخيلتها، ولا تفتكر إلا بمشاريع الإحسان والترقي إلى الله بما تصنعه من الخير، ولا يزال هذا دأبها منذ بدأت توبتها إلى هذا العهد من سياق الحديث.
ولقد تقدم لنا القول إن نساء الخير كن يأتينها ليعهدن إليها توزيع حسناتهن السرية، فاتفق أنه بعد يومين مضيا على اجتماع أندريا بالفتاة التي نعنيها بالفيروزة، قدمت المركيزة فان هوب إلى منزل باكارا وطلبت أن تراها، فأجفلت باكارا حين علمت بقدوم المركيزة، وكأنها خجلت من نفسها أن ترى أعظم نبيلة بين عقائل باريس تنسى حياتها السابقة وتزورها في منزلها، فقابلتها مطرقة باستحياء.
أما زيارة المركيزة فلم تكن إلا لأنها ورت إليها رسالة من عائلة فقيرة تلتمس منها الإحسان، وجاءت إلى منزل تلك العابدة كي تعهد إليها إيصال إحسانها إلى تلك العائلة.
ويسمح لنا القارى أن نسدل الحجاب على تلك المقابلة الأولى بين هاتين المرأتين اللتين سيؤلف بينهما الشقاء فيما سيجيئ من فصول هذه الرواية، غير أننا نقول إن هذه الليلة كانت موعد الليلة الراقصة التي تحييها المركيزة في قصرها، وهي الحفلة التي سيقدم فيها شاروبيم الجميل أحد أعضاء اللجنة السرية للمركيزة، كما تقدم في فصل سابق.
8
بعد ساعتين من زيارة المركيزة، كان رجلان يسيران إلى منزلها لحضور الليلة الراقصة وهما شاروبيم والماجور العضوان العاملان في الجمعية السرية، وكان شاروبيم يقول لرفيقه الذي كان يريد تقديمه للمركيزة: إني لم أعلم المراد من تقديمي لهذه المركيزة، فهل تعلم أنت شيئا من ذلك؟ ألا تعرف رئيسنا؟ - لا، فإني أتلقى أوامره بواسطة روكامبول. - ألا ترى أننا نركب متن الطيش والغرور حين نقبل أن نقاد كالعميان؟
فقال له الماجور: وأي ضرر علينا من ذلك لا سيما أنت؛ فإن غاية ما يطلب إليك أن تحمل المركيزة على حبك، وما أنت بصديق لزوجها فترتكب خيانة، وغاية ما تلقاه من الخطر في تمثيل دورك هذا أنك تضطر إلى مبارزة المركيز؛ فهل تخاف هذه المبارزة؟ - إذا كان هذا كل الخطر، فإني أسير كما تريد، بل كما يريد رئيسنا.
وانطلق الاثنان حتى بلغا إلى بيت المركيزة فدخلا إليه.
ولم يكن قد تكامل عدد المدعوين، وكان المركيز وصديقه الدوق مايلي والشيخ يتخطران في قاعة الاستقبال ذهابا وإيابا، ولما دخل الماجور وشاروبيم قدمه بيده للمركيز، فسلم عليه المركيز، ولكنه ما لبث أن رأى جماله النادر حتى هلع قلبه، فانحنى أمامه الاثنان ثم انصرف إلى المركيزة، وكانت جالسة في زاوية من القاعة العمومية، وأمامها حفيد الدوق مايلي والأرملة مالاسيس صديقتها، وهي تروي لها أحاديث مضحكة كان يعاونها فيها حفيد الدوق، فقدم الماجور رفيقه شاروبيم إلى المركيزة كما قدمه للمركيز.
وبينما كانت المركيزة معجبة بشاروبيم تحادثه بارتياح وتنظر إليه نظرة الاستحسان، إذ دنا رجل عليه ملامح الإنكليز، فوضع يده على كتف الكونت مايلي حفيد الدوق وأشار إليه أن يتبعه، فتبعه الكونت منذهلا لأنه لم يكن يعرفه من قبل.
أما الإنكليزي فلم يكن إلا أندريا، وقد تلبس بملابس الإنكليز وقلد لهجتهم وسائر حركاتهم بحيث لم يعد يفرق عنهم في شيء، وقد دعا نفسه السير أرثير وتعرف على المركيز بواسطة أحد أصحابه، فدعاه إلى ليلته الراقصة.
وسار أندريا والكونت حتى بلغا إلى قاعة مشرفة على القاعة العمومية، فجلسا إلى منضدة وافتتح أندريا الحديث فقال: أسألك المعذرة أيها الكونت، فإني ما دعوتك إلا لمباحثتك بأمر هام. - قل ما تشاء، فإني مصغ إليك.
فأشار أندريا إلى الأرملة وقال: ما رأيك بهذه المرأة؟
فالتفت الكونت ورأى الأرملة، فأجفل مضطربا وقال: لا رأي لي فيها!
فابتسم أندريا ابتساما معنويا وقال: إنها حسناء.
فقال الكونت: إنها تبلغ الأربعين. - كلا، إنها لا تتجاوز الخامسة والثلاثين، ولكنها لم تبلغ بعد العشرين في عين جدك الدوق.
واصفر وجه الكونت وجعل ينظر إلى أندريا نظر المستطلع، فاستطرد أندريا الحديث قائلا: إن هذه الأرملة التي كانت زوجة عطار ستغدو زوجة دوق وتحمل اسم أسرتك بعد شهر، وأنا أعلم أنك تتوقع ذلك منذ عهد بعيد، غير أني أرجوك أن لا تنظر إلي هذه النظرات، وأن تصغي إلى النهاية لأني لك من المخلصين.
واستبشر الكونت خيرا بحديثه وقال: قل إني مصغ إليك. - إنك وريث الدوق الوحيد وهو ذو ثروة واسعة، فإذا تزوج هذه الأرملة انتهت الثروة إليها، غير أني أعرف رجلا يستطيع منع هذا الزواج وإبقاء الثروة لوريثها الشرعي.
فاصفر وجه الكونت وقال: من هذا الرجل؟ - هو أنا يا سيدي.
وعند ذلك دخل أحد الخدم وصاح معلنا قدوم فرناند وامرأته حسب عادة الإفرنج في الحفلات الكبيرة.
9
واختلج فؤاد أندريا عندما نظر فرناند وهرمين، غير أنه ما لبث أن عاد إلى رشده دون أن ينتبه إليه الكونت، أما الكونت فإنه اندهش لما قاله له أندريا وقال له: أنت تستطيع إبقاء إرثي؟ - نعم، إذا وافقتني فيما أريد. - لا بد أن يكون لك شروط، فاقترح ما تشاء.
وابتسم أندريا وقال له: أخبرك قبل كل شيء أني لا أريد منك درهما من مالك، على أنك لو طلب إليك أن تدفع مليونا مقابل حصولك على إرث الدوق، أما كنت تدفع المليون؟ - أدفعه بملء الرضى. - إذن، اطمئن فإني لا أسألك مالا كما قلت، واعلم أن هذا الدوق الذي سترثه رجل شيخ، وقد تمكن الغرام من قلبه الضعيف حتى أصبح كل حياته، وإذا فقد تلك الأرملة التي كوته بهواها، فهو مائت لا محالة، ولكن هذه الأرملة على ما كانت عليه من الخفة والطيش كانت شديدة الحرص على كتمان غوايتها السابقة، حتى إنه لم يبق أثر من آثارها يستند عليه في سبيل إرجاع الدوق عنها، ثم إن العاشق قد أعياه حبها، فهو لا يحفل بمثل هذه البراهين؛ ولذلك فإنه يجب أن يعلم بالبرهان ما طالما علمه بالخبر، وليس لدي شيء من هذه البراهين الحسية.
فاضطرب الكونت وقال: على ما عولت إذن؟ - على أن أوجد هذا البرهان. - إنك لا تريد مالا جزاء عن هذا الصنيع، فلا بد أن يكون لك مطلب آخر. - هو ذاك، فليس في هذا العالم شيء مجاني، وليس لي مطلب غير الانتقام من امرأة أساءت إلي. - عجبا أتصنع جميع ما أنت عازم على صنعه من أجل الانتقام من امرأة؟ - إني إنكليزي.
وجم الكونت كأن هذا الجواب قد أفحمه، ثم قال له: كيف تريد أن تنتقم، فإني سأكون يدك في هذا الانتقام كما أرى. - هو ما رأيت، والذي أطلبه إليك هو أن تحتال على تلك المرأة حتى تحبك. - لا أحب إلي من ذلك، ولكن هذه المرأة قد تكون فاضلة طاهرة بحيث لا يمكن جذب فؤادها بالزمن القصير. - إني أمهلك قدر ما تشاء. - وإذا تزوج الدوق قبل إنتهاء المهلة ألا يفسد كل شرط؟
فحدق به أندريا تحديق المستطلع ثم قال له: إن بين جنبيك قلبا شريفا، فإذا أقسمت بشرفك أن تفي بعهودي كما أفي بعهودك، أنلتك مأربك قبل أن تنيلني مأربي. - أقسم لك بما تشاء، غير أن هناك أمرا قد يحول بين قلبها وقلبي، وهو أنها قد لا تحبني مهما بذلت في مرضاتها من الجهد. - عدني أنك تبذل جهدك هذا وتخضع لما أرشدك به، فإذا فعلت جميع ذلك دون أن تنجح فإني لا أطالبك بشيء.
فأقسم له الكونت على الوفاء، وقال له: بقي أن تذكر لي اسم هذه المرأة.
فقال أندريا بصوت منخفض: لم يحن الوقت بعد، غير أنه قد يحدث في هذه الليلة براز بين رجلين يكون أحدهما زوج المرأة، وتكون أنت أحد الشاهدين، ومتى عرفت المرأة وربما تعرفها في هذه الليلة تبتدئ معها بتمثيل دورك، والآن فإني أستودعك الله إلى أن نلتقي، فكن حريصا على كتمان هذا السر أشد الكتمان؛ لأن أقل هفوة تبدر منك قد تهدم جميع ما تبنيه.
ثم حياه وانصرف، فاختلط بين اللاعبين في قاعة اللعب ودخل الكونت إلى قاعة الرقص.
ودارت المخاصرة على أنغام الموسيقى إلى أن وهت قوى الراقصين، فذهبت النساء إلى المقصف مع بعض الرجال، ودخل بعض الرجال إلى قاعة اللعب حتى غصت بهم، وكان بعضهم يلعبون لعبة الباكاراه على منضدة كبيرة كان حواليها كثير من الناس بينهم أندريا متنكر باسم إنكليزي، وروكامبول متنكر باسم كونت، فدخل فرناند روشي والورق بيد روكامبول فقامره فرناند فخسر، ثم الثانية والثالثة والرابعة وروكامبول يربح منه دائما، ثم أظهر روكامبول كأنه قد طمع بالربح، فعرض جميع ما لديه من النقود للمراهنة، فأجفل الحاضرون لجسامة المبلغ ولبثوا هنيهة يترددون إلى أن دفعت الجسارة فرناند روشي، فأخرج من جيبه جميع ما كان معه من الأوراق المالية وقال لروكامبول: أنا أراهنك، وهذا المال.
فنظر إليه روكامبول، ثم أعطى الذي بيده إلى جاره وقال له ببرود: إني تنازلت عن حقي بالورق.
فاحمر وجه فرناند من الغضب وقال لروكامبول: ماذا تريد بذلك يا سيدي؟ - لا أريد شيئا سوى أني تنازلت عن الورق، وذلك من حقوقي بنظام اللعب. - ولكنك قد بسطت أموالك على المنضدة، وجعلت تطلب منذ حين من يراهنك عليها، فكيف تمتنع حين تقدمت لمراهنتك؟ - ذلك لأني وجدت الانسحاب أفضل.
ثم ترك المنضدة وانصرف؛ فساد السكون بين الحضور لهذه الإهانة الظاهرة، وبات كلاهما يخشى عقباها، أما أندريا فإنه نظر إلى الكونت مايلي الذي كان جالسا بالقرب منه، نظرة خفية فهم منها أن فرناند هو زوج المرأة التي طلب إليه إغواؤها، فهمس في أذن أندريا وسأله قائلا: من هو هذا الشاب الذي ترك الورق؟ - الفيكونت دي كمبول. - والآخر؟ - فرناند روشي زوج المرأة التي أخبرتك عنها والتي رقصت وإياها منذ حين، أفهمت الآن؟
فأجاب الكونت وهو يضطرب: نعم، لقد فهمت كل شيء.
10
أما فرناند فإنه غادر غرفة اللعب وذهب يبحث عن روكامبول، فلقيه في إحدى الغرف وهو بمعزل عن الناس، فبدأ معه بطلب الاعتذار عن إهانته، فأبى روكامبول، وما زالا يتدرجان من العتب إلى الملامة إلى الاحتجاج حتى انتهى بهما الأمر إلى المبارزة، فرفع إليه فرناند رقعة الزيارة المكتوب فيها اسمه وعنوانه وقال له: إلى الغد .
فأبى روكامبول أن يؤجل المبارزة إلى اليوم التالي، مدعيا أنه سيسافر إلى إيطاليا في الصباح وقال له: نتبارز الآن!
ووافقه فرناند وانطلق إلى القاعة العمومية يبحث فيها عن شاهد له، وكانت هذه أول مرة يزور فيها قصر المركيز فان هوب، ولم يلق بين المدعوين أحدا من أصدقائه المخلصين، وفيما هو يبحث إذ لقي الماجور، وهو أحد أعضاء الجمعية السرية كما تقدم، فاستأنس بلباسه العسكري، والتمس منه أن يكون شاهدا له في مبارزته بعد أن قص عليه حكاية الخصام، فقبل الماجور راضيا، وجعل الاثنان ينتظران عودة روكامبول الذي كان يبحث أيضا عن شاهد له بين جمهور المدعوين.
أما روكامبول فإنه كان يبحث عن أندريا المتنكر في تلك الحفلة باسم السير أرثير، وقد لقيه في إحدى الغرف المعتزلة وهو جالس يحادث بيرابو والد هرمين وعاشق سريز باهتمام، ونظر إليه روكامبول نظرة معنوية أجابه أندريا بمثلها، فوقف معتزلا عنهما يتوقع تتمة الحديث.
وقد عرف القراء من القسم الأول من هذه الرواية حكاية بيرابو والد هرمين، وكيف أنه يهوى سريز، وقد كاد يفتك بها بمساعي أندريا لو لم ينقذها أرمان ورولاند، غير أن حب الشيوخ لا يزول من نفوسهم مهما تعاقبت عليه الأيام وحالت في سبيله العقبات.
وحكاية هذا الرجل أنه بعد أن فشل في اغتصاب سريز خرج مع أندريا ثم انقطعت أخباره، ولم يعلم منها شيء. وبعد أن مضى على اختفائه سنة كاملة ورد إلى صهره فرناند روشي كتاب من أحد مستشفيات المجاذيب، أخبر فيه أن حماه يقيم في هذا المستشفى خارج باريس منذ عهد طويل لإصابته بالجنون، وأن الداء قد خفت وطأته في هذه الأيام فتمكنوا من معرفة اسمه، وأرسل فرناند في الحال من أتى به إلى باريس وأقام في منزله مع ابنته، فزالت عنه أعراض الجنون، ولم تكن تعود إليه إلا حين تذكر أمامه كلمة سريز، ولكن جنونه كان لطيفا هادئا يميل به إلى الهزل المقبول والنكات المضحكة، بحيث لم يكن يمنعه عن زيارة الأسرات.
وقد لقيه أندريا في تلك الليلة فعرفه بنفسه؛ لأنه لم يستطع أن يعرفه لتخفيه، وعاد معه إلى حديث سريز ومشروع انتقاله الجديد، وزخرف له القول حتى أقنعه أن سريز باتت في قبضته، فطار فؤاد بيرابو من الفرح، وقبض على أندريا بيد من حديد، وبات طوعا له في كل ما يريد، وكان آخر ما ختم به الحديث معه أنه سيعرفه بالكونت مايلي، وطلب إليه أن يعرفه بابنته هرمين، فرضي بذلك هذا الشيخ شاكرا وهو مستعد لتضحية كل عزيز في سبيل تحقيق أمنيته بسريز، وعند ذلك أخذه أندريا وسار به إلى الكونت مايلي حفيد الدوق، وعرف كل منهما بالآخر وأخبر الكونت سرا أن بيرابو قدمه إلى ابنته هرمين، ثم غادرهما وعاد إلى روكامبول وأخبره بجميع ما صنع، وأنه ترك فرناند يبحث عن شاهد قال: أنا شاهدك، فامض بنا واحذر أن تنسى ما علمتك إياه، ولا تصبه إلا في المكان الذي أخبرتك عنه دون أن تقتله، فإني أريد أن أبلغ منه الآن ما هو أشد من القتل. - سيكون ما تريد. وذهب الاثنان لمقابلة فرناند ولقياه في انتظارهما! وقد كان فرناند بعد أن لقي شاهده أخبر امرأته أنه ذاهب لمشروع خيري لا سبيل إلى تأجيله، وطلب إليها أن تعود مع أبيها عند انتهاء الحفلة، ولما عاد روكامبول بشاهده خرج الجميع من القصر دون أن ينتبه لهم أحد.
أما الكونت مايلي فإنه تعرف على هرمين ورقص معها تلك الليلة، وفيما هو ينتقل من مكان آخر في تلك الغرفة الواسعة، لقي الأرملة مالاسيس وهي تتأهب للخروج مع الدوق، فابتسمت له مكرهة وقالت: لقد رأيتك مع الشيخ بيرابو، فهل راقت لك عشرته؟ وهل هو مجنون كما يقولون؟ - كلا، بل إنه قد يكون أوفر منك عقلا. - أصحيح ما تقول؟ - نعم، وفوق ذلك فإنه يقص حكايات غريبة. - قل لي شيئا منها. - إنها حكايات طويلة ما شاقني منها غير حكاية واحدة، وهي قصة شيخ شريف يحاول أن يتزوج بامرأة خادعة وأن يحرم أسرته من إرثه، ثم انحنى أمامها وابتسم لها ابتسام الهازئ وانصرف.
فاصفر وجه الأرملة من الغضب والحقد، ثم التفتت فرأت الدوق قادما إليها، فنظرت إلى حفيده الكونت وضحكت ضحك الواثقة من الفوز وهي تقول: الأيام بيننا يا كونت، وسنرى لمن يكون الإرث.
11
ثم خرجت شامخة الأنف وقد تأبطت ذراع عاشقها الدوق حتى بلغت إلى موقف مركبتها، فصعدت إليها وقالت للدوق بلهجة حنان شغفت لبه: ألا تصعد معي!
فتلجلج لسانه من الفرح قائلا: وأية ساعة أبرك عندي من ساعة أكون فيها بقربك؟!
ثم صعد فجلس بجانبها وأمر السائق أن يسير إلى منزلها، فقالت: إني أرى المنزل قريبا في هذه الليلة، فلنذهب إلى الشانزليزه.
فأخذ الدوق يدها وقبلها قائلا: إن إشارتك أمر لا مرد منه.
وسارت المركبة الهوينا والعاشقان واجمان إلى أن افتتحت الأرملة الحديث فقالت: إني أغتنم فرصة هذه الخلوة كي أخبرك بأمر قد تدهش له لعدم توقعك إياه، ذلك لأني سأسافر سفرا قد يطول إلى عدة أعوام.
فأجفل الدوق وجمد الدم في عروقه فلم ينبس ببنت شفة، فعادت الأرملة إلى تتمة حديثها فقالت: وسأسافر صباح غد.
وعند ذلك حلت عقدة لسان الدوق، فسألها بلهجة المأخوذ: أحقيقة ما تقولين، ولماذا تسافرين؟ وإلى أين؟ - إني أسافر لأسباب أعلمها، ولا أستطيع التصريح بها. - إذن تريدين قتلي!
وقد تبينت الأرملة لهجة الصدق من قوله؛ فأيقنت أنه قد جن في هواها فقالت: كيف أريد قتلك، ألعلك جننت؟ - إذا لم أكن قد جننت، فإني على وشك الجنون، فبالله أيتها الحبيبة قولي لي الحقيقة وكفاك مزاحا. - لم أكذبك يا سيدي الدوق؛ فإني مسافرة في صباح الغد.
فأجاب بلهجة القانط: ولماذا تسافرين؟ - كي ينساني الناس في باريس. - كيف ذلك وممن تطلبين أن ينساك؟
فأجابته ببرود: إني أطلب ذلك منك قبل كل الناس.
فزاد ذهول الشيخ الدوق ولم يرد جوابا، أما الأرملة فإنها عادت إلى حديثها، وما زالت تستطرد من حديث إلى آخر، حتى ذكرته بما وعده إياها بالزواج، وكيف أنها باتت من أتعس النساء لاعتمادها على هذه الوعود.
فقال لها: إني لن أحنث بوعدي، ولا أزال طوعا لك فيما تريدين. - لقد فات الأوان؛ فلقد علمت اليوم حقيقة مقامي حين كنا في قصر المركيزة، وعلمت حقيقة موقفي من حفيدك الوقح. - وما شأن حفيدي؟
فتظاهرت بالبكاء وهي تقول: إنه قال لي الليلة كلمات مرة شائنة لا أجسر على إعادة قولها، فلم أجد بعد ذلك بدا من الرحيل.
وكانت تمثل دورها تمثيلا غريبا حتى طار فؤاد هذا الشيخ المسكين، وقال لها وقد جحظت عيناه من القنوط: سأري هذا الوقح كيف يجب عليه أن يحترم الدوقة مايلي.
فلما سمعته الأرملة يدعوها بامرأته تظاهرت بالتأثر الشديد، فصاحت صيحة شديدة وسقطت مغميا عليها فوق صدر الدوق.
أما الدوق فإنه أمر السائق أن يسير في الحال إلى قصره، وكان قريبا من الطريق التي كانت تسير المركبة فيها، فسارت تقطع الأرض نهبا حتى وصلت إلى القصر، فأخرج الأرملة من المركبة وأمر الخدم فحملوها إلى غرفته ووضعوها فوق سريره، وهي لا تزال متظاهرة بالإغماء. فجعل الدوق يعالجها بالمنعشات وهي تنظر إلى ملامحه من خلال أهدابها الطويلة، إلى أن خطر لها أن تستفيق بعد أن قطعت فؤاد عاشقها، فأجالت نظرها في ما حولها وعلمت أنها في غير منزلها فقالت له: بربك أين أنا؟ وكيف أتيت بي إلى هذا المنزل؟ - اطمئني؛ فأنت في منزلي.
فسترت وجهها بيديها وقالت: رباه! وماذا عسى أن يقول الناس؟ - إنك في منزلي أي في منزلك؛ إذ لا يمر ثلاثة أسابيع حتى تصبحي زوجتي، أي الدوقة مايلي.
فصاحت الأرملة صيحة إنكار دون أن يغمى عليها؛ لأنها رأت أن الإغماء لم يعد يفيدها، وقالت: لقد هتكت شرفي بما فعلت، وإنك لن تدخلني إلى منزلك كعروسة بعد أن حملتني كخليلة على مرأى من الخدم.
ثم وثبت إلى الأرض غضبى، وقالت بلهجة المتهكم: لقد أصاب حفيدك حين قال إنك تسرق إرثه لتهبه إلى خليلتك.
ثم أخذت قبعتها دون أن تلبسها وخرجت وهي تقول: الوداع أيها الدوق وداعا أبديا، واعلم أنك هتكت شرفي، ولكني أعفو عنك، وليسامحك الله.
ثم خرجت مسرعة دون أن تدع له وقتا لإمساكها، وانصرفت عائدة إلى منزلها والفرح ملء قلبها، لوثوقها من أن الدوق لا بد أن يسرع إليها ويدركها قبل أن تسافر؛ لأنه كان لديه مفتاح خاص لحديقة منزلها، يجيء كل ليلة من هذه الحديقة، فيدخل إلى غرفتها دون أن يعلم به أحد من الخدم.
فلما وصلت إلى المنزل أمرت خادمتها أن تعد لها أمتعة السفر، حتى إذا أقبل الدوق علم صدق عزمها. فلما أتمت المعدات أطلقت سراح الخادمة وجلست في سريرها تضرب أخماسا لأسداس، وتتوقع من دقيقة إلى أخرى قدوم الدوق، ولبثت على ذلك إلى أن أشرق الفجر، فسمعت وقع أقدام على السلم المؤدية إلى غرفتها، فاختلج فؤادها وأسرعت إلى صندوق السفر ترتب الثياب فيه، ثم سمعت صرير المفتاح في القفل، ثم فتح الباب فأجفلت إجفال الظباء ورجعت منذعرة إلى الوراء؛ ذلك لأن هذا الرجل الذي دخل غرفة نومها في الساعة الرابعة بعد منتصف الليل، وفتح الباب بمفتاح خاص لم يكن الدوق، بل كان بعلا ما عرفته من قبل.
12
ولنعد الآن إلى فرناند وخصمه، فإنه بعد أن لقي فرناند شاهده وهو الماجور، ولقي روكامبول شاهده وهو أندريا، خرج الأربعة خلسة من قصر المركيز دون أن يشعر بهم أحد، حتى إذا بلغوا إلى قارعة الطريق قال روكامبول لفرناند: إن مخازن الأسلحة مقفلة الآن، غير أن منزلي قريب، فإذا شئت مررنا به فأخذنا سيفين، وإلا فإننا نوقظ أحد أصحاب هذه المخازن.
فقال فرناند: لا حاجة إلى ذلك، فإن سيفيك يغنيانا عن إيقاظ الناس في هذه الساعة المتأخرة من الليل.
فشكره روكامبول وسار الأربعة إلى منزله، فأخذوا منه سيفين متساويين في الطول، ثم انطلقوا إلى محل قريب مقفر، ولما أيقنوا بخلائه أخذ الشاهدان السيفين وفحصاهما فحصا مدققا، ثم أعطيا سيفا لكل من الخصمين وأوقفاهما في موقف القتال.
وكان أندريا تمكن في خلال مسيرهما أن يخلو بروكامبول فقال له: أعلمت أيها الحبيب أن تصيبه كما علمتك. - أجل، حفظت كل شيء. - إذن، فاحذر أن تقتله فإني لا أريد أن يموت الآن، وألا تدع حسامك يدخل في كتفه إلا بقدر ما علمتك. - كن مطمئنا؛ فلا يكون إلا ما تريد.
وأمر الشاهدان الخصمين أن يقتتلا، فانقض كل منهما على الآخر انقضاض الصاعقة، ولبثا مدة طويلة بين هجوم ودفاع إلى أن فاجأ روكامبول خصمه فرناند بضربة وقعت في كتفه، فاختلج لها فرناند وانصب الدم من كتفه بغزارة، ثم اصفر وجهه ووهت رجلاه، فسقط على الأرض لا يعي لفرط ما نزف من دمائه، وعند ذلك أسرع الشاهدان إليه فأوقفا المبارزة وانصرفا إلى العناية بالجريح، وعند ذلك دنا أندريا من روكامبول وقال له همسا: لقد أحسنت، ولكن احذر من أن تكون قد قتلته.
13
وقد رأى الماجور أن فرناند قد سقط على الأرض، ولم يكن واقفا على شيء من أسرار أندريا بشأنه، فأسرع لمساعدته كما تقضيه الواجبات، غير أن روكامبول حال بينه وبين فرناند، فانحني عليه وقال له: إن مهمتك قد انتهت أيها الماجور، فارجع إلى منزل المركيز أو إلى منزلك كما تشاء، ودعني أعتني بهذا الجريح.
فأيقن الماجور أن فرناند قضي عليه بحكم صادر من الجمعية السرية، وأخذ سيكارة من جيبه فأشعلها من مصباح المركبة، وانطلق مطرق الرأس يفكر في أمر هذه الجمعية، وما يحيط بها من الأسرار.
وعند ذلك انحنى أندريا على فرناند وكشف عن جرحه فوجده بالغا، غير أنه ليس بخطير؛ فأمر روكامبول أن يحضر له ضمادة من المركبة، فامتثل وضمد له جرحه، ثم حملاه برفق إلى المركبة، فجلس أندريا بقربه وأمر روكامبول أن يسوق المركبة إلى منزل الفيروزة، أي منزل باكارا القديم.
فسارت المركبة الهوينا رفقا بالجريح، إلى أن بلغت ذلك المنزل ففتحا بابه وحملا فرناند، وهو لم يستفق بعد من إغمائه لفرط ما نزف من دمائه. فاستقبلتهم الفيروزة وقد باتت في قصرها الجديد شبيهة بالملكات، فتبسم لها أندريا معجبا بجمالها وقال: هو ذا الطير، فهل أعددت القفص؟ - كن مطمئن البال، فلا يفلت منه إلا متى أردت له إطلاق السراح. - أعلمت ما يطلب منك؟ - طب نفسا، فسأمثل دوري خير تمثيل. - وأين الطبيب؟ - ها هو بالباب، وقد أمرت جميع الخدم بالنوم طوعا لأمرك. - أحسنت. والآن فلننظر في هذا الجريح.
فأقبل الطبيب يفحص جرحه، وهو من صنائع أندريا، فقال له: أيطول زمن شفائه؟ - سبعة أو ثمانية أيام، إلا إذا أردت أن يطول. - كلا، فاعتن به خير عناية، وامتثل لأوامر صاحبة المنزل.
ثم قال لروكامبول: نذهب الآن إلى قصر المركيز، فلم يعد لنا عمل هنا.
وقبل أن يذهب همس في أذن الفيروزة يقول: إني أنتظر منك رسالتين كل يوم.
ثم ودعها وانصرف مع روكامبول.
وكانت الساعة الرابعة بعد منتصف الليل، فذهب إلى قصر المركيز فان هوب وانخرطا في سلك الراقصين دون أن يشعر بهما أحد، ثم اختليا في زاوية القاعة، وجعلا يراقبان الراقصين فوجدا الكونت مايلي حفيد الدوق يراقص هرمين زوجة فرناند، ورأيا شاروبيم أحد أعضاء جمعيتهما السرية يراقص المركيزة فان هوب، وهي تبتسم له بلطف ودلال.
فقال أندريا: ألست ترى المركيزة كيف تبتسم معجبة بجمال شاروبيم؟ - أجل. - فقد ذكرتني ابتسامتها تبسم أولاد شارل الأول للمعان فأس الجلاد، وهم لا يعلمون أنه سيقطع رأس أبيهم بعد حين، وهكذا المركيزة غير أنها تبتسم للخنجر وليس للفأس. - ومن عسى أن يكون الخنجر، ألعله شاروبيم؟ - كلا، ولكنه سيضع هذا الخنجر بيد المركيز المفتون بزوجته.
ثم تبسم تبسما تضطرب له الجريمة نفسها وترتعش لرؤيته الشياطين.
14
ولنعد الآن إلى فرناند روشي، فلقد غادرناه مغميا عليه في منزل تلك الفتاة التي استخدمها أندريا لغوايته، فلما أفاق من إغمائه نظر إلى ما حوله نظرة المنذهل؛ إذ رأى نفسه في مكان لم يعرفه، وفي غرفة مزدانة بأفخر الرياش، غير أنه لم ير بين أثاثها شيئا كان يعهده من قبل، فعلم أنه في غير منزله، ولم يذكر ما هو فيه إلى أن تحرك في فراشه فشعر بألم شديد أعاد إليه رشده، وذكره أمر المبارزة، وكيف أن خصمه أصابه بكتفه، فعلم أنه أغمي عليه لما نزف من دمائه، وأن شاهده أو خصمه حمله إلى هذا المكان القريب.
وفيما هو يفكر مهموما حائرا فتح باب الغرفة التي هو فيها، وولج منها رجل بملابس سوداء، فمشى إلى سرير الجريح مشيا خفيفا حتى وصل إليه، فأخذ يده دون أن ينبس بكلمة وجس نبضه وهو يقول: إني أراك محموما يا سيدي، وهو دليل حسن.
ثم حل ضماد جرحه وطهره، فعلم فرناند أنه طبيب وقال له: أترى جرحي بالغا خطرا؟ - إنه بالغ، ولكني أرجو أن لا يكون خطر فيه، وفي كل حال فإنك لا تستطيع الخروج قبل أسبوع.
فلم يحفل فرناند بهذا القول لانشغاله بمعرفة المكان الذي هو فيه، فقال للطبيب: أين أنا؟ أفي المستشفى؟ - كلا يا سيدي. - إذن إني في منزل شاهدي أو خصمي؟
فتكلف الطبيب هيأة البساطة وقال: لا أعلم شيئا من هذا يا سيدي، وجل ما أعرفه أني دعيت لمعالجتك منذ ساعتين، فلم أر في هذا المنزل غير فتاة. - صفها لي لعلها امرأتي. - فتاة تناهز العشرين جميلة شقراء ربعة القوام، وقد رأيتها منحنية فوق سريرك تستعين بخادمتها على تنظيف جرحك. - ألم تر رجالا في البيت؟ - كلا.
فاضطرب فرناند وقال: إذن أين أنا وما هذا السر؟ فإن الفتاة التي وصفتها لي ليست امرأتي.
وطال الحديث بينهما دون أن يتمكن فرناند من الوقوف على شيء، وبقي مسجى فوق سريره وهو غائص في بحار التأملات.
وفيما هو سارح في عالم الخيال، فتح الباب ودخلت منه امرأة تتهادى في مشيتها، وقد برزت في حلة من الجمال تدهش لها العيون، إلى أن استقرت أمام سرير فرناند فنظرت إليه نظرة المشفق وقالت له بصوت رخيم: كيف أنت؟
فتلجلج فرناند وقد دهش بجمالها ولم يدر كيف يجيب، ثم حاول أن يتكلم فوضعت بنانها المترف الناعم فوق فمها الصغير وهي تقول: اسكت فإن الكلام يؤذيك.
وعند ذلك اقترب منها الطبيب وقال لها بلهجة الاحترام: سيدتي، إن حالته الصحية متحسنة، ولم يعد لبقائي حاجة، على أني سأرجع بعد ساعتين.
فأطلقت الفتاة سراحه وخرجت معه، غير أنها لم تصل إلى الباب حتى سمعت فرناند يناديها، فرجعت إليه وهي تبتسم له ألطف ابتسام، فقال فرناند: إنك أمرتني بالسكوت، ولكني أستحلفك بالله أن تجيبي على سؤال واحد.
فقالت له مبتسمة: سل ما تشاء. - إن لي امرأة أحبها وتحبني، وهي لابد أن تكون في أسوأ حال لغيابي. - طب نفسا، فلقد علمت امرأتك أنك ستغيب عنها بضعة أيام لأشغال خطيرة.
ثم نظرت إليه نظرة دلال تسبي فؤاد العابد وقالت: وأنا أسألك سؤالا واحدا أرجو أن تجيبني عليه. - مري يا سيدتي بما تشائين. - هو أن تعلم أنك بمنزل امرأة أنقذت حياتك من الخطر، وهي لا تسألك مقابل ذلك غير السكوت.
ثم غادرته مبتسمة وانصرفت.
فعاد فرناند إلى هواجسه، ثم اشتدت عليه الحمى وعقبها الهذيان، فأصبح يخلط بين زوجته والفيروزة وخصمه في المبارزة، إلى أن نام فتمثلت له هذه الفتاة في منامه بأجمل مثال، ولما أفاق من رقاده وجدها واقفة أمام سريره وعيناها شاخصتان إليه يجول فيهما الدمع الكاذب، كأنها كانت شفقة لما كانت تسمعه من هذيانه. فلما رأته صحا مدت يدها إلى يده تجسها، فأخذ فرناند يدها وقد أثر به حنوها وأدناها من فمه، فقبلها قبلة حارة تدل على امتنانه، ثم لم يلبث أن عادت إليه الحمى وجعل يذكر زوجته، فاغتنمت الفيروزة فرصة عودة الحمى إليه وقالت له: لقد خدعتك حين قلت لك إني أخبرت زوجتك خشية عليك من التأثير، أما وقد زال ما كنت أتوقعه من الخطر، فإنك تستطيع الآن أن تكتب ما تشاء إلى السيدة هرمين، مدام روشي.
فدهش فرناند وقال: أتعلمين اسمي؟ - لو لم أكن أعرفك لما كنت الآن عندي. - لقد أصبت.
ثم عاد إلى ذكر زوجته فقال: إني لا أستطيع الكتابة. - لا بأس، فإني أكتب عنك، وفي كل حال فإنك تستطيع التوقيع.
ثم تركته وقامت إلى المنضدة وكتبت كتابا إلى هرمين قالت فيه بلسان زوجها أنه تبارز مع شاب من أجل فتاة، فأصيب بجرح غير خطير، وأنه مقيم في منزل تلك الفتاة، وأن الطبيب أمره أن لا يخرج قبل ثمانية أيام، وقد كلف تلك الفتاة أن تكتب إليها بيدها البيضاء يطمئنها عنه، إلى غير ذلك من هذه الجمل التي تثير الغيرة في قلوب الزوجات. وجعلت كلما كتبت سطرا تنظر إلى فرناند وتكلمه، حتى علمت أن الحمى قد تمكنت منه، وأن لم يعد يستطيع القراءة، فأتت إليه وقرأت أمامه هذا الكتاب الذي كتبته، ولكنها كانت تقرأ غير ما كتبت، ثم أعطته القلم كي يوقع عليه اسمه تحت هذا الكتاب، وخبأته في درج في غرفة أخرى. وعادت إلى الجريح فاستمرت جالسة إلى أن فارقته الحمى وثاب إلى رشده، فرأى الفتاة أمامه وهي تنظر إليه نظرة الملائكة، فأخذ يدها وقبلها قبلة اشتياق وهو يقول في نفسه: أيمكن للرجل أن يحب امرأتين؟
أما هي فإنها أفلتت منه إفلات الظبي، وقد عبق وجهها بالاحمرار، ثم عادت إليه وحدثته كما تحدث الأخت أخاها قائلة: أرجوك أن تنام وتستريح، وأن لا تتحرك حركة عنيفة، وسيعودك الطبيب بعد قليل، أما أنا فسأعود إليك بعد حين.
وبعد ذلك خرجت إلى غرفتها، فتزيت بزي بسيط كما تلبس البنات العاملات، وخرجت من منزلها وركبت مركبة وقالت للسائق: سر بي إلى شارع سانت أنطوان، وقف بي في أول عطفة شارع.
15
ولا بد لنا هنا من إيضاح خطة أندريا الهائلة، فإنه كان يقسمها بين الفائدة والانتقام، أما الفائدة فهي ما كان يرجو أن يكسبه من الهندية وهو خمسة ملايين، بعد أن يدع المركيز فان هوب يثق من بغي زوجته ويقتلها بيده، ثم يتزوج بعد ذلك بابنة عمه الهندية، فكان يستخدم شاروبيم الجميل لإغواء المركيزة، ويستخدم الأرملة صديقة المركيزة لهذه الغواية، ثم إنه كان يطمع بفائدة أخرى ينالها من أموال فرناند روشي الذي سلط عليه الفيروزة وعلمها طرق إغوائه وابتزاز أمواله.
أما انتقامه فإنه كان يحاول أن ينتقم من جميع أعدائه القدماء، مبتدئا بأخيه الكونت أرمان، فإنه قد تلبس أمامه بلباس التوبة الكاذبة، وظهر أمام زوجته بمظاهر الأبرار. وكان يكتب كل يوم بضعة سطور في مذكرته اليومية تشير إلى ما يقاسيه من حبه لامرأة أخيه، وما يكابده من العناء في سبيل قمع نفسه عن هذا الجور، ذاكرا ذنوبه السابقة بالندم الشديد، ثم يضع هذه المذكرات بحيث تقف عليها امرأة أخيه، حتى إذا قرأتها في غرفته أشفقت عليه، وبين الشفقة والحب مسافة قصيرة.
وكان يريد بذلك أنه متى تمكن من خدعة أخيه وحمله على الوثوق به، دفع روكامبول إلى قتله بمبارزة، فيغدو أندريا بعد قتل أخيه قيما على ولده وزوجا لامرأته، فيجري على ما جرى عليه أبوه قبله.
ثم إنه كان يحاول الانتقام من باكارا لأنه علم أنها غير منخدعة بتوبته، وخشي أن تتصدى له في سبيل انتقامه، وتحول بينه وبين أغراضه؛ فقرر قتلها. أما فرناند فإنه كان يريد أن ينتقم منه بتجريده من أمواله، وبقتله بيد صديقه ليون رولاند، وذلك أنه جعل الفيروزة تسطو على الاثنين وترمي في شرك غرامها الفؤادين، فتظهر أمام فرناند بالمظهر الذي عرفناه، وتتمثل أمام ليون بزي عاملة فقيرة تلتمس العمل في معمله لإنقاذ أبيها من الشقاء، ولهذا فإنها عندما خرجت من لدن فرناند غيرت ملابسها ولبست ملابس العاملات، وانطلقت إلى غرفة حقيرة أقامت فيها رجلا أعمى كانت تقول لليون أنه أبوها، وكان يريد أندريا بهذا الحب المزدوج أن يلقي التحاسد بين العاشقين دون أن يعرف أحدهما الآخر، ثم يحمل ليون على قتل فرناند في ظلام ليل دامس كما سيجيء بيانه بالتفصيل.
وكان آخر ما في كنانته الجهنمية من السهام أنه كان يريد أن ينتقم من هرمين زوجة فرناند، فيهتك عرضها ويجعلها مضغة بالأفواه، ولهذا فقط سلط عليها الكونت مايلي حفيد الدوق، ووعده بمنع زواج الدوق بالأرملة، وإبقاء أمواله العظيمة له إذا تمكن من إغوائها وتمثيلها للعيون على ما يريد مما يخالف الشرف وواجبات الزواج. هذه هي مقاصد هذا الرجل الهائل التي يدور عليها محور هذه القصة. •••
ولنعد الآن إلى الفيروزة، فإنها خرجت بلباس العاملات إلى الغرفة التي أقامت فيها أباها الكاذب كما قدمناه، فأتى ليون إلى تلك الغرفة كي يساعد ذلك الأعمى المنكود، فتلبست أمامه بلباس الفتيات الطاهرات، وأثارت في فؤاده مكامن غرام جديد.
ثم فارقها على أن يعود إلى أبيها في اليوم التالي كي ينظر إلى أمره، وفي نفسه الضعيفة من غرامها القوي أشياء. فلم يكد يخرج من تلك الغرفة حتى خرجت في إثره، فركبت مركبة وأسرعت بالرجوع إلى منزلها الذي تركت فيه فرناند، وهي تقول في نفسها: لقد وقع ليون، فلننظر في ملايين فرناند.
فلما بلغت إلى المنزل غيرت ملابسها، ودخلت إلى غرفة فرناند، فألقته جازعا لفراقها، وقد ظهر الحب بين ثنايا وجهه، فابتسمت له وقالت: كيف أنت؟ - بخير لولا ما كنت أشكوه من الوحدة. - هو حق ما تقول؛ فإن المريض أشبه بالمسجون.
فحاول أن يجيبها، ولكنها وضعت أصبعها فوق شفتيها القرمزيتين وقالت وهي تبتسم له: دعني أتمم حديثي.
ثم أضافت: إن السجين ينتظر كل يوم بذاهب الصبر أن يأتي إليه حارسه بالزاد، وكذلك المريض فإنه يتوقع كل ساعة، متى كان منفردا، أن يأتي إليه ممرضه، فينتهي الأمر بالسجين أن يحب الحارس، وبالمريض أن يحب الممرض.
فقاطعها فرناند وقال: يا سيدتي، إن ضجري من وحدتي لم يكن لذلك السبب. - لا ريب عندي فيما تقول؛ فإنك تنتظر أنباء زوجتك.
فاختلج فرناند واضطرب وجعل يفتكر بهرمين، غير أن الفيروزة نظرت إليه نظرات ملؤها الحب والحنو خلبت لبه ونسي هرمين.
ودام بهما الحال على ذلك ثمانية أيام، وهي في كل يوم تجذب قطعة من فؤاده، وتسترق بقية عقله، حتى أصبح لا عقل له ولا قلب.
فلما كان اليوم الثامن، وقد شفي جرحه وأصبح قادرا على الذهاب، دخلت إلى غرفته وجلست بقربه وقالت: إنك تعلم بأني لا أستطيع أن أخبرك باسمي ولا اسم الشارع الذي أنا فيه، وقد آن زمن رجوعك إلى منزلك لتعافيك، ولكني لا أطلق سراحك قبل أن تقسم لي أنك تمتثل لما أريد. - إني أقسم لك بما تشائين. - إنك لا تخرج من هنا إلا بعد أن أعصب عينيك، فتخرج بك مركبة إلى أن تبلغ إلى مكان معين، وعند ذلك تزيح العصابة عن عينيك وتقرأ هذا الكتاب الذي أعطيك أياه الآن، فتعلم ما أريد منك.
فحار فرناند بين هذه الألغاز، وقال: ليكن ما تريدين، فمتى أذهب؟ - الآن.
ثم أخذت منديلا فعصبت به عينيه، وقادته بيدها حتى وصلت به إلى الباب الخارجي، وكانت مركبتها تنتظر قرب الباب، فأصعدته إليها وودعته وهي تقول: كن وفيا بالقسم.
وسارت المركبة تقطع به الأرض نهبا، فاجتازت جميع شوارع باريس حتى انتهت إلى شارع غير مطروق، فأوقفها السائق وقال لفرناند: هنا أمرتني سيدتي أن أقف.
فنزع فرناند العصابة عن عينيه، ونزل من المركبة وانطلق مسرعا إلى زاوية مقفرة بالشارع، ثم فض غلاف الكتاب، وقد سأم صبرا وقرأ ما يأتي:
أيها الصديق
إنك أوشكت أن تشفى أتم الشفاء، بحيث أصبحت قادرا على الرجوع إلى زوجتك التي تحبك وتنتظر عودتك بذاهب الصبر، فأودعك وداعا لا لقاء بعده. وأسألك أن لا تعود بعد ذلك إلى مبارزة أحد، فإذا جال يوما ذكري في خاطرك فقل أن الحياة تكتنفها الأسرار، ولا تبحث عني لأنك لا تراني وذلك لأني مقيدة، وبحثك عني يعرضك لأخطار شديدة، ثم لأنك مقترن بامرأة تهواها وتهواك. الوداع، ولا تفتكر بي إلا كما تفتكر في حادثة جرت لك في حلم، واعلم أن الأحلام خير أوقات الحياة.
فاضطرب فرناند عند الفراغ من تلاوة الكتاب وقال: إني سأجدها ولو ذهبت إلى أقصى مكان في الأرض.
16
في اليوم التالي لحمل فرناند إلى منزل الفيروزة، كان أندريا عند منتصف الليل في منزل روكامبول، وقد جلس هذان الاثنان حول منضدة، فكان أندريا يتعشى ويأكل أفخر المآكل نافضا عنه غبار الزهد في منزل أخيه، وكان روكامبول يتلو عليه تقارير أعضاء الجمعية السرية، مبتدئا بتقرير شاروبيم.
وكانت خلاصة تقرير شاروبيم أنه راقص المركيزة فان هوب، فظهرت عليها ملامح الاضطراب، وأنه بسط مقدمة غرامه فتكلفت عدم المبالاة، وأنه لقيها في اليوم الثاني في أحد المنتزهات، فاحمر وجهها حين سلم عليها وبرحت المنتزه دون سائر المتنزهين، كأنها تحاول الفرار منه، إلى غير ذلك من هذه المقدمات.
فقال أندريا: إنه لم يصنع بعد شيئا يذكر، ولكن اضطرابها واحمرار وجهها حين لقياه، خير دليل على أنها خطت الخطوة الأولى في سبيل غرامه.
ثم قال: ما لديك غير هذا التقرير؟
ففتح روكامبول محفظة كبيرة وأخرج منها ملفا مكتوبا عليه «الأرملة ملاسيس»، ففتحه وقرأ فيه ما معناه أن هذه الأرملة عادت إلى منزلها عند منتصف الليل، وبينما هي مقيمة في غرفتها سمعت وقع أقدام، فحسبت أن القادم هو الدوق إذ لا يزورها أحد في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، غير أن القادم لم يكن الدوق بل كان أرثير كامبي أحد أعضاء جمعيتنا، فأجفلت حين مرآه وحاولت أن تصيح، غير أنه أقفل الباب بهدوء وجلس بقربها، فلم يعلم ما دار بينهما، ولكنه لم يخرج من منزلها إلا عند بزوغ الفجر.
وكان هذا التقرير أن هذه الأرملة تخرج كل يوم في الساعة الثانية بعد الظهر فلا تعود إلا في الساعة الرابعة، وأن الدوق زارها في صباح اليوم التالي للحفلة فوجدها منشغلة بإعداد معدات السفر، ودار بينهما حديث طويل، فكان الدوق يلتمس منها وهو راكع أمامها أن ترجع عن السفر، وما زال بها حتى أقنعها على البقاء على شرط أن يتزوج بها قريبا، وأن يسافرا على إثر الزواج إلى إيطاليا، وأن لا يزورها ولا يحاول أن يراها قبل أن توزع رقاع الدعوة لحضور حفلة الزواج.
فقال أندريا: إن مسألة هذه الأرملة تسير سيرا خلافا لمسألة المركيزة والكونت مايلي، ولكن النصر مضمون لمن يتمكن أن يصبر. ثم قال له: ألم يردك شيء عن الفيروزة؟ - أجل.
وأخرج ملفا مكتوبا عليه ليون رولاند، فكان خلاصة ما فيه أن الفيروزة تأتي كل يوم بملابس العاملات في الساعة الثانية بعد الظهر إلى الغرفة التي يقيم فيها الأعمى الكاذب، وأن ليون يأتي كل يوم متعللا بعيادة هذا الأب ويحادث الفتاة مليا، فإذا ذهب إلى معمله ذهبت هي في إثره إلى منزلها. وقد بدأ ليون يفتن بها، فإنه حين يأتي يسأل خادمة البيت إذا كان والد الفتاة فيه، فإذا أجابت بالإيجاب اضطرب واصفر وجهه.
فتبسم أندريا وقال: وقع الطير في القفص.
ثم أخذ من جيبه كتابا من الفيروزة وقرأ ما يأتي:
أظن أن زمن عذاب سريز قد دنا، فإن زوجها الأبله سقط في الفخ، وهو في كل ساعة يراني يحاول أن يجثو أمامي ويكاشفني بحبه، فيمنعه حضور أبي، ولكني أقرأ صورة الهيام بين عينيه، وعندي أن دور هذا الأب قد انتهى، ويجدر إرساله بالظاهر إلى إحدى المستشفيات كي يخلو الجو لليون ويكاشفني بما يريد. إني أنتظرك في الموعد المعين كي أتلقى أوامرك الجديدة وأعلم ما ينبغي أن أعمل.
فأعاد أندريا الرسالة ثم أدناها من الشمعة وأشعلها، ونظر إلى روكامبول فقال: لننظر الآن في أمر هذه الملايين، فإن هذه المركيزة فاضلة محقة لزوجها، ولكنها بدأت أن تحب شاروبيم بالسر، فينبغي علينا أن نساعده كي نحملها على الإباحة بهذا الحب. - أتظن ذلك سهلا ميسورا؟ - ليس هو بالشيء السهل، غير أن كل شيء ممكن في الوجود، فاعلم الآن أنهم سيمثلون رواية بعد غد في الأوبرا، وستحضرها المركيزة دون ريب فتقيم في لوج خاص بها. - أجل. - فاذهب غدا إلى شاروبيم وأخبره بأنك ستبارزه وتجرحه جرحا بسيطا في يده لا ينال منه أدنى مشقة، ولكنه يؤثر تأثير إشفاق على المركيزة.
فدهش روكامبول وقال: وكيف ذلك؟ - ذلك أنك تستأجر في الأوبرا اللوج الملاصق للوج المركيزة وتقيم شاروبيم فيه، ثم تزوره في لوجه وتخاصمه بصوت مرتفع يبلغ إلى مسامع المركيزة، لتلاصق اللوجين، خصاما يدعو إلى المبارزة بينكما، وتعين موعد المبارزة، وتذكر نمرة منزل شاروبيم، واسم الشارع المقيم فيه، بحيث لا يفوت المركيزة حرف من جميع هذه التفاصيل.
قال روكامبول: فهمت كل شيء. - بقي أمر واحد، وهو أنك تدع شاروبيم يستأجر غدا المنزل الكائن تحت منزل الأرملة ملاسيس صديقة المركيزة، وهو معد للإيجار وكائن ببينار نمرة 40، فإن نوافذ منزل الأرملة تطل على هذا المنزل، والمركيزة تزور صديقتها في أكثر الأيام. - كفى، قد فهمت كل شيء.
وعند ذلك تركه أندريا وانصرف إلى منزل الفيروزة، فلقيها تنتظره فقال لها: اذهبي غدا إلى غرفة أبيك وخذيه إلى مستشفى ديبوا وانتظري تعليماتي الجديدة.
فبرقت أسرة الفيروزة وقالت: وفرناند؟ - صبرا، فإن ملايينه تستحق شيئا من الصبر.
17
بينما كانت المركيزة في اليوم التالي تتأهب للذهاب إلى الأوبرا وزوجها واقف أمامها ينظر إليها نظرة العاشق المفتون، إذ دخل أحد الخدم وأخبرهما بقدوم الماجور غاردن (وهو أحد أعضاء الجمعية السرية وصديق المركيز)، فأمره المركيز بإدخاله وقد سر لحضوره؛ لأنه كان مولعا بلعب الشطرنج، وهو يبحث منذ حين في ضميره عن صديق ينوب عنه بمرافقة امرأته إلى الأوبرا؛ لأنه كان يؤثر الشطرنج على حضور الملاعب، ولما دخل الماجور طلب إليه أن يصحب امرأته إلى الأوبرا بدلا منه، على ما عرف به من الغيرة عليها، وذلك لأن هذا الماجور قد تجاوز عهد الشباب بمراحل، وهو صديق البيت منذ عهد بعيد، فقبل شاكرا وهو لم يأت إلا لهذا الغرض مدفوعا من روكامبول، أما المركيز فإنه ودعهما واعدا امرأته أن يوافيها إلى الملعب عند تمثيل الفصل الأخير من الرواية ومضى، فذهب الماجور والمركيزة في إثره إلى الأوبرا، ودخلا إلى اللوج الخاص بالمركيزة ووجدا القاعة غاصة بالناس.
وفيما هما يجيلان النظر بالحضور إذ دخل شاب إلى لوج مقابل للوجهما، وجعل ينظر إلى الناس بنظارته وهو يبسم تارة ويتجهم أخرى، حتى وقع نظره على لوج المركيزة فانحنى أمامه مسلما، فنبهها الماجور إليه وقال: أتعرفين هذا الشاب؟ - نعم، لقد قدموه إلي في الليلة الراقصة، وهو أسوجي كما قيل لي. - نعم، غير أنه مولود في فرنسا وهو من أسرة نبيلة، عاقل وافر الذكاء، غير أنه على فرط ذكائه حاد المزاج شديد النزوع إلى الخصام كثير المبارزات، ممرس بإطلاق الرصاص ولا يخطئ مرماه، وندر أن سلم مبارزه من الموت.
فأجفلت تنظر إلى اللوجات القريبة منها، فرأت شاروبيم باللوج الملاصق، ثم رأت روكامبول ينظر إليه نظرات الحقد، فوجف قلبها وخشيت أن يكون بين الاثنين ما يدعو إلى المبارزة.
ولما انتهى الفصل الأول من الرواية، سمعت طرقا على باب لوج شاروبيم، ففتح وسمعت الحديث الآتي:
قال الداخل وهو روكامبول: هل أنا بحضرة الكونت أومسكار دي فرني (وهو اسم شاروبيم).
وقال شاروبيم: هو أنا. - أتأذن لي بخلوة معك لشأن خطير؟ - ليكن ما تريد. - إني أدعى الفيكونت دي كامبل. - قد تشرفت بمعرفتك في منزل المركيزة فان هوب منذ ثمانية أيام.
واختلج فؤاد المركيزة وأسندت رأسها إلى جدار اللوج وهو من الخشب الرفيع؛ كي لا تفوتها كلمة من هذا الحديث.
فقال روكامبول: إني أقمت ثمانية أيام أبحث عن اسمك ومنزلك ولم أعلمهما إلا الآن حين أخبرني باسمك أحد الأصدقاء. - إني مستعد لإرضائك يا سيدى في كل ما تريد فقد عرفت اسمي، وأما منزلي فهو في شارع ببينار نمرة أربعين، غير أني أعجب لما أراه من انشغالك بي والبحث عني. - ذلك لأني لقيتك في منزل المركيزة، فأحببت أن أعرف اسمك. - ألعلك مكلف بقضاء مهمة سرية؟ - كلا يا سيدي، فإني لا أهتم إلا بأشغالي الخاصة، وإذا أذنت لي أوضحت لك ما أريد. - قل ما تشاء، فإني مصغ إليك. - تذكر إننا كنا نقامر في منزل المركيزة في تلك الليلة الراقصة، وكنا على طاولة واحدة. - أذكر ذلك ولا أنساه. - وكنت من الرابحين في تلك الليلة، وكان الورق بيدي فدفعته إلى سواي وقمت، فخاصمني أحد اللاعبين، وبالاختصار فإني تركت الحفلة لمبارزة خصمي فبارزته بسرعة زائدة وتغلبت عليه، ثم عدت حالا إلى الحفلة كي أرصد حسابي مع بقية اللاعبين الذين سمعت منهم حين ذهابي كلمات مرة اضطررت إلى الصبر عليها لانشغالي بمبارزة ذلك الخصم، وكنت أنت من الذين قالوا عني إني قد اتخذت المقامرة مهنة لي، ولكني عندما رجعت لم أجدك بين الراقصين واللاعبين، أما وقد رأيتك الآن فقد جئت أسألك أن تعتذر إلي عما قلت. - يسوءني أن لا أعتذر إليك، فقد تعودت أن لا أندم عما أفعل، ولا أرجع في شيء مما أقول. - إذن، أفلا تسحب كلامك؟ - كلا! - لم يبق لي إلا أن أسألك عن المكان الذي تريد فيه أن أرسل إليك شهودي. - لقد قلت لك إني أقيم في منزل في شارع ببينار نمرة 40. - بقي أن ألتمس منك أمرا واحدا، وهو أن تكون المبارزة هذه الليلة لأني مضطر إلى السفر في الصباح. - ليكن ما تريد لأني أجد الأمر سهلا. - كيف ذلك؟ - ذلك أني رأيت في هذا اللوج المجاور لنا، وهو الذي تقيم فيه المركيزة فان هوب، الماجور غاردن وهو من أصدقائي وسأسأله أن يكون شاهدي، فانتظرنا عند منتصف شارع ريشليو مع شهودك.
ثم ودعه روكامبول وخرج وقد اضطرب فؤاد المركيزة؛ إذ لم يفتها سماع حرف من هذا الحديث، وجعلت تمعن الفكرة في إيجاد وسيلة لمنع هذه المبارزة، فأغلق في وجهها كل باب إلا إذا تداخلت بين المتبارزين، وفي ذلك أعظم مساس بشرفها؛ إذ لا وصلة قربى بينها وبين المتبارزين تشفع بالوساطة، وبينما هي تفكر مهمومة والماجور متشاغل عنها بالنظر إلى الحضور إذ سمعت صوت شاروبيم يخاطب صديقا له، فعادت وسمعته يقول لصديقه ما يأتي: إني أعترف لك بأمر لم يدعني إلى إفشائه غير ما أنا فيه من الخطر، وذلك أني سأبارز رجلا شديدا، وخير ما أرجوه أن يكون الظافر فأبلغ من الموت ما طالما تمنيته. - أراك مللت من الحياة وأنت لم تتجاوز بعد عهد الشباب.
فتنهد شاروبيم وقال: بئس الشباب إذا كان رائده الخيبة وكانت حلاوته مرارا وعذابا، واعلم أيها الصديق أني أحب امرأة حبا مبرحا، ولكنها لا تعلم شيئا من حبي لها، ولا أحب أن تعلم سر غرامي إلا بعد أن أموت وأزج في ظلمات الأبد. - ويحك ما هذا القنوط ألعلك جننت؟ - لم أجن إلا بهواها، وخلاصة أمري أني سئمت الحياة لأني أحب حبا لا رجاء فيه ولا أمل لي بمكاشفتها به في الحياة، فأنا أرجو أن تعلمه بعد موتي وأن تكون رسولي بهذا البلاغ. - كيف ذلك؟ - ذلك أني سأدفع إليك رسالة مختومة أكتب فوق غلافها عنوان من أحب، وأضع هذا الغلاف ضمن غلاف آخر لا كتابة عليه، فإذا قتلت في المبارزة تمزق الغلاف الأبيض وتضع الرسالة في صندوق البريد، وإذا سلمت من الموت وهو ما لا أرجوه، تعيد إلي الرسالة كي أدفن سرها بصدري إلى أن ييسر الله لي موتا آخر.
فبهت صديق شاروبيم ثم قال: أهذا كل ما تريد؟ - نعم، وقد بقي علي أن أستحلفك بإنفاذ هذه المهمة. فأقسم له صديقه على تنفيذها وغادره وانصرف.
أما المركيزة فقد هلع قلبها من الخوف، وأيقنت أن هذا الرجل قد خلب قلبه حبها، وأنه سيبحث عن الموت بحث الراغب فيه لما تولاه من القنوط، فحارت في أمرها، غير أنها فطنت لأمر أملت أن يكون فيه نجاة شاروبيم، وهو أنها سمعته يقول أنه سينتدب الماجور ليكون أحد شاهديه، فقالت في نفسها: إنه لا بد أن يأتي الآن لإخبار الماجور أمامي، فإذا سمعت الحديث تداخلت في الأمر ولا تلحقني وصمة هذه المداخلة لأني ما سعيت إليها.
غير أن فأل المركيزة قد ساء؛ فإن شاروبيم لم يتزحزح من لوجه، بل نزع ورقة من دفتر جيبه وكتب عليها للماجور يرجوه أن يكون شاهده في المبارزة المتقدم ذكرها، وأرسلها إليه مع إحدى خادمات المرسح، فأعطته إياها أمام المركيزة وهي تقول إنها من شاروبيم، فعلمت المركيزة مضمونها وحاولت أن تدع الماجور يطلعها على كنهها فلم تنجح لشدة مبالغته بالكتمان، وما زالت تستنبط الحيل لحمله على الإقرار وهو يصرفها عن مرادها، إلى أن قدم زوجها المركيز فاستأذن الماجور وانصرف ذاهبا للقاء شاروبيم، أما المركيزة فإنها عادت مع زوجها بعد انتهاء الرواية إلى القصر، وباتت من إشفاقها وخوفها بليلة العين.
ولم تستيقظ من رقادها إلا في الساعة الحادية عشرة من الصباح، وهي مختلة مشردة الفكر لا تعلم ما تعمل لتطمئن على شاروبيم، وفيما هي والهة حائرة إذ دخلت عليها وصيفتها تحمل إليها كتابا من صديقتها الأرملة تدعوها فيه إلى زيارتها لشأن خطير، وكانت تعلم أنها تقيم في منزل مجاور لشاروبيم، فطار فؤادها سرورا وأسرعت فركبت مركبتها وانطلقت إلى منزل تلك الأرملة.
ولما خلت بها أخبرتها الأرملة على سبيل الاتفاق أن شابا منزله تحت منزلها أتي به أمس محمولا على الأكف، لإصابته بجرح بالغ على إثر مبارزة.
فصاحت المركيزة صيحة رعب وسقطت مغميا عليها، فأسرعت الأرملة بقرع الجرس، وعند ذلك دخل الخادم وهو من صنائع أندريا، فلما رأى المركيزة مغميا عليها، نظر إلى الأرملة متبسما وقال: وقع الطير في الشرك. - أوشك أن يقع، فإنه بدأ يلتقط الحب.
وكانت هذه الأرملة في عداد الذين وقعوا في فخاخ أندريا، فباتت يده العاملة في غواية المركيزة لطمعها بزواج الدوق الشيخ، وكان خادمها يحمل إليها أوامر أندريا فتصنع بها مكرهة مضطرة؛ لأنه كان لديه أدلة تثبت حبها لأحد أعضاء الجمعية السرية، ورسائل إليه بخطها إذا وقعت بأيدي الدوق نفر منها وقذف بها إلى الحضيض. فلما صحت المركيزة من إغمائها هشت لها الأرملة وأظهرت لها أنها واقفة على سر غرامها وقالت: خففي عنك أيتها الحبيبة، فإن جرحه لا خطر فيه، وهو سيبرأ في زمن قريب.
فظهرت علائم السرور بين ثنايا وجهها، ثم تجهم جبينها وعبق خداها بحمرة الخجل حين علمت أنها باحت بشيء من سرها، وأرخت عينيها إلى الأرض كالمذنب النادم وهي تقول: رباه ماذا صنعت؟
فأخذت الأرملة يدها وقالت: لقد كنت لي صديقة، أفلا تريدين أن أكون لك أختا؟
ثم جعلت تهون عليها الخطوب، وتستدرجها إلى الإباحة بغرامها حتى بلغت منها ما تريد، وبعد حين خرجت المركيزة عائدة إلى قصرها، وقد فتحت لها الأرملة هوة الشقاء.
18
بينما كان ليون رولاند يسهر الليل مفكرا حائرا بأمر تلك الفتاة التي خلبت لبه، والكونت دي مايلي يحاول أن يجذب قلب هرمين وقد بات مستودع سرها، إذ كان يتزلف إليها بلباس الإخاء وهي تثق بوداده الكاذب وتخبره بما اقترفه زوجها، فيعدها خيرا، ويذكر لها من أحوال الفيروزة ما يضرم نار الحقد في قلبها، وقد اتفق وإياها على أن لا تخبر زوجها حين يعود إليها بشيء مما تعلمه عن هذه البغي إلى أن يجد وسيلة لإبعادها.
فوثقت بوعوده وجعلت تتغذى بقرب ولدها عن بعد هذا الزوج، وبينما كانت الأرملة تفتح هوة الضلال كي تزج بها صديقتها، وبينما كان أندريا يراقب جميع هذه الحوادث ويعمل على إغواء امرأة أخيه المحسن إليه، وبينما كانت جميع هذه الدسائس التي استنبطتها قريحة السير فيليام تسير على ما يريد، كان فرناند روشي ينزل من مركبته بعد أن أزاح العصابة عن عينيه ووقف في عطفة الشارع يتلو كتاب الفيروزة.
فلما أتم تلاوة الكتاب اصفر وجهه وقال: لا بد لي أن أراها ولو سافرت إلى أقصى المعمورة.
ثم مشى مشية المفكر المهموم إلى أن وصل إلى منزله ودخل إليه دون أن يدري أين هو، حتى انتبه وهو في الحديقة إلى صوت ولده يناديه من النافذة بصوت الجذل المندهش، فوجف فؤاده وسرت إلى نفسه عواطف الحنو، فأسرع إلى لقاء هذا الولد، فبلغ إليه وهو في حجر أمه واندفع يعانق الاثنين ويقبلهما قبلات صادقة، أنسته حب الفيروزة الكاذب إلى حين.
وكان بينه وبين امرأته حديث طويل، فأخبرهما بحديث مبارزته واعتقاله كما شاء، وتظاهرت بتصديقه كي لا يعود إلى الجفاء، وبات تلك الليلة في منزله وهو على أحر من الجمر، وكان إذا تمثلت له الفيروزة تشاغل عنها بمداعبة طفله إخفاء لبوادر غرامه الشديد.
ولما كان الصباح ركب فرسا عربيا أصيلا، وخرج إلى النزهة في الغابات كما تعود فاطمأنت هرمين لما رأته من ظواهر حبه القديم، ولم تعد تخطر لها خيانته في بال، فلما حان وقت الغذاء لم يرجع، فانتظرته إلى العشاء فلم يعد، وانتصف الليل فلم يحضر؛ فعادت إليها هواجسها وأقامت في نافذة غرفتها منتظرة دون أن يكتحل جفنها بالرقاد حتى طلع النهار، فرأت باب الحديقة قد فتح ودخل منه ذلك الفرس الذي كان يمتطيه فرناند دون فارسه، وكان يقوده أحد الخدم، فهلع قلبها ونادت الخادم وسألته عن زوجها، فقال: إنه دفع إلي الفرس كي أرجعه إلى المنزل، وكان ذلك مساء أمس خارج باريس.
قالت: كيف أعطاك الحصان ولماذا؟ - إنه كان يطارد مركبة فيها فتاة حسناء عليها ملابس السفر، فلما أدرك المركبة استوقفها فوقفت، وتباحث مع الفتاة بحثا طويلا تبينت من إشارته أنه يدعوها إلى الرجوع إلى باريس، وكأنه قد أقنعها فنظر إلى الشارع فرآني واقفا أنظر إليهما، فكتب نمرتي في دفتره ثم قال: خذ هذا الجواد وانتظرني في غابة بولونيا إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، إذا لم أعد إليك أرجعه في الصباح إلى منزلي. ثم دلني على المنزل ودفع لي أجرتي وعاد إلى المركبة فركب بجانب الفتاة وعاد كلاهما إلى باريس.
دقت هرمين يدا بيد وقد أيقنت أن زوجها قد علق بتلك البغي، وللحال خرجت من المنزل فركبت مركبة وأمرت السائق أن يسير بها إلى منزل الكونت دي مايلي كي تستشيره في أمرها، فقد باتت تثق به وثوق الأخ بأخيها.
وحكاية فرناند أنه خرج للتنزه صباحا في غابات بولونيا كما تقدم، وفيما هو يسير الهوينا إذ أبصر مركبة تسير على مسافة بعيدة عنه مسير المستعجل المسافر لأمر خطير، تجرها أربعة جياد، دفعه الفضول إلى تعقب هذه المركبة لا سيما بعد أن رأى فيها فتاة وأمتعة سفر، وما زال يتعقبها حتى أوشك أن يدنو منها، فعلم أن تلك الفتاة لم تكن إلا الفيروزة، وذكر ما كتبته إليه عن عزمها على مغادرة باريس.
وكان في مؤخر المركبة خادمة غرفة الفيروزة، فتظاهرت أنها تلتفت إلى ورائها اتفاقا، حتى إذا رأت فرناند يسير بإثر المركبة أظهرت الانذهال وقالت لمولاتها كلمة لم يسمعها فرناند لبعده عنها، ولكنه علم أنها أخبرتها بأمره؛ وذلك لأن الفيروزة أمرت السائق بالإسراع، فضرب الجياد بسوطه الطويل فاندفعت تنهب الأرض وتسبق الرياح.
وحسب فرناند أنها تريد الفرار منه، فلكز بطن جواده وأطلقه في إثرها، وما زال يطاردها حتى أدركها بعد أن خرجت من أبواب باريس وسار جواده بجانب مركبتها.
نظرت إليه وصاحت صيحة انذهال، ثم قالت: كيف أنت هنا وما أتيت تعمل؟
فتلعثم لسانه ولم يدر ماذا يجيب، ولكنها أجابتها عيناه بلغة تفصح أكثر من أبلغ الكلام عن مراد القلوب، فابتسمت له وقالت: إلى أين أنت ذاهب؟ - لا أعلم. - ومن أين أتيت؟ - من باريس. وقد سكن اضطراب فرناند وقال: وأنت إلى أين تذهبين؟ - إني مغادرة باريس كما ترى. - أيطول غيابك عنها؟
فأرخت عينيها وقالت بصوت يتهدج: سأغيب عاما على الأقل.
فاضطرب فرناند وقال: كلا، إن هذا محال. - كيف تراه محالا وأنت تراني مسافرة على الطريق! ثم أشارت إليه مسلمة بيدها وهي تقول: إني ذاهبة إلى فلورنسا لأقضي فيها بقية الشتاء، فأستودعك الله واذكر كتابي.
غير أن فرناند قد عزم عزما أكيدا ، فاستوقف السائق وقال لها: سيدتي قلت لك أن سفرك محال لأنك لا تستطيعين السفر الآن.
فقطبت حاجبيها وقالت: من يمنعني عن السفر؟ - أنا، وذلك لأني أقفو أثرك حين خروجك من باريس لأني أود محادثتك في شأن خطير، فإن أبيت علي ذلك، فإني ألقي نفسي بين دواليب مركبتك.
قالت وهي تبتسم تبسم الرضى: إني لا أريد لك الموت، ماذا تريد؟
ثم أوقفت المركبة ونزلت منها ونزل فرناند عن جواده، فتأبط ذراعها وسار وإياها إلى فندق قريب وهو يقول: إننا سنتغدى في هذا الفندق ونتباحث فيه، فإما تعودين إلى باريس أو تسافرين بعد الغداء.
وذهب بها إلى الفندق، فدار بينهما حديث طويل أسفر عن رضى تلك الفتاة بالرجوع مع فرناند إلى باريس بعد أن تعاقدا على الحب واستوثقت منه بأشد المواثيق، وفي المساء عادا إلى باريس فذهبا إلى منزلها، وكان جواد فرناند لا يزال يرافق المركبة، فأمرت خادمها عند الصباح بإرجاعه إلى منزله بعد أن علمته ما يقول كما علمناه حين سألته هرمين.
19
ولنعد الآن إلى باكارا التي ستمثل أعظم دور في هذه الرواية العجيبة، فنقول إنها بعد أن تابت إلى الله توبة صادقة إثر غرامها بفرناند، جعلت قصاراها إغاثة المعوزين ودفع نكبات الدهر عن البائسين بالإنفاق عليهم من مالها الخاص، ومستعينة بأموال الكونت دي كركاز، وكانت صارفة معظم اهتمامها إلى إنقاذ البنات الفقيرات من وهدة البغي الذي يدفعهن إلى هاوية الجوع، وما يلقينه من المسكنة والمذلة.
وقد اتفق لها في تلك الليلة التي وقع فيها فرناند بشرك الفيروزة أنها أنقذت ثلاث أخوات إسرائيليات من السقوط في هذه الهاوية، فجعلت الكبرى وصيفة لإحدى ربات القصور، وأدخلت الثانية في أحد معامل الخياطة، وعادت بالصغرى إلى منزلها وهي تؤمل متى طالت صحبتها لها أن تجعلها تعتنق الديانة المسيحية لفرط تعصبها بدينها بعد أن تابت تلك التوبة الصادقة.
وكانت الفتاة الإسرائيلية بارعة الجمال، وقد بالغت باكارا بملاطفتها حتى استأنست بها وتعلق بها فؤادها، فلما عادت بها إلى المنزل خصصت لها غرفة فيه، وأوصت بها الخدم خير وصاية، وفيما هي تلقي عليها الإرشاد وتبث فيها روح الفضيلة كي تستأصل من نفسها ما خلفته دواعي الشقاء من مبادئ البغي والفساد، إذ دخلت عليها الخادمة تخبرها بقدوم أختها سريز، وكانت لا تزورها إلا في النادر لانصرافها عن الزيارات.
وفرحت بقدومها فرحا شديدا، غير أنها ما أوشكت أن تراها حتى تراجعت منذهلة لما رأته من شحوبها ونحولها، ثم أكبت على عنقها تقبلها باكية وهي تقول: أختاه ماذا أصابك؟
ولم يكن نحول سريز إلا لما لقيته من انشغال زوجها بحب سواها وهيامه بالفيروزة، وهو يحسبها إحدى العاملات، فشكت لأختها جميع ما تلقاه من انحراف ليون عنها، وقالت إنه لولا ولده لما قدم إلى البيت، وإنه لا يأتي من محل عمله إلا حين الحاجة الشديدة لافتتانه بمن يهواها، وإنه لا يعاملها إلا بالنفور، وإذا عاتبته ابتدرها بالقول الغليظ والسخط والحدة إلى غير ذلك مما يفسد عيش الزوجين، وآخر ما قالته أنها باتت تخشى عليه أن يصاب بالجنون؛ فإنه حين يبيت في المنزل يلبث طول ليله سهران يجول في ردحة البيت لا يكلم أحدا ولا يريد أن يكلمه أحد.
فسمعت باكارا جميع قول أختها وهي آسفة متوجعة، ثم سألتها أتعرفين هذه الفتاة التي يهواها؟ - كلا! - أتتهمين أحدا بإغرائه على هذه الخيانة؟ - كلا.
وجعلت تبكي وهي متكأة على صدر أختها بكاء الأطفال، وفيما هي تعزيها وتعدها الوعود الجميلة إذ دخلت الخادمة تقول: سيدتي، إن الفيكونت أندريا يطلب مقابلتك.
فأجفلت سريز عند سماع اسمه، ونظرت إلى أختها نظرة الخائف الوجل، ثم قالت: قلبي يحدثني بأنه لم يسلبني قلب زوجي سوى هذا التائب.
فاضطربت باكارا وقالت: وأنا أرى ما ترينه، فإن توبته كاذبة وستفضحها الأيام؛ فاذهبي الآن كي أرى ما يريد، واطمئني فإن نفور زوجك لا يطول.
وذهبت سريز فدخل في إثر ذهابها أندريا، فسلم على باكارا ووقف وعيناه مطرقتان إلى الأرض، إلى أن أمرته بالجلوس فجلس بإزائها وجعل كل منهما ينظر إلى الآخر نظر من يفحص خصمه قبل القتال كي يعلم مبلغ قوته وإذا كان كفؤا له.
وساد السكوت بينهما إلى أن افتتحت باكارا الحديث فقالت: هل اكتشفت شيئا من أمور الجمعية السرية؟
فأجابها: نعم، وأخص ما علمته أن معظم أعضائها من النساء، وأنها ترتكب من المنكرات الفظيعة ما لا يخطر في بال، وأن رئيستها امرأة.
فدهشت باكارا وقالت: من هي هذه المرأة؟
فقال أندريا: أصغي إلي ودعيني الآن أخبرك بما أتيت من أجله، فإن رجلا ينبغي علي وعليك أن نحبه بقدر ما أسأنا إليه، في خطر شديد.
فاختلج فؤاد باكارا وقالت: من عسى أن يكون هذا الرجل، ألعله فرناند؟
فأطرق إطراق الأسف والحزن وقال: هو يا سيدتي بعينه.
فجزعت باكارا وصاحت: رباه! ماذا أصابه أهو مريض؟ قل أي خطر تعني؟ - كلا ما هو بمرض، ولكنه وقع في شرك تلك الجمعية الهائلة، فسلطت عليه امرأة أحبها حبا مبرحا.
وكأن الصاعقة قد انقضت على باكارا؛ فقد تأججت في فؤادها براكين الغيرة، وهاجت مكامن حبها القديم حتى أوشكت أن يغمى عليها، وذلك أنها كانت لا تزال تهوى فرناند، ولكنها شغلت عن هواه بعد زواجه بتوبتها الصادقة، فلما رأته قد نقض عهد الزوجية ثار حبها القديم، حتى أوشكت أن تنقض عهد التوبة.
وكأن أندريا قد علم ما يجول في خاطرها، فعاد إلى ذكر عشيقها فقال بلهجة الآسف: إنه يحب فتاة بغيا يلقبها الشبان بالفيروزة لصفاء عينيها، وهي تقيم في منزلك القديم في شارع مونسي.
فصاحت باكارا صيحة منكرة، وقد جحظت مقلتاها واصفر وجهها، فتكلف أندريا هيئة الحزن وجعل يقص عليها حوادث عشق فرناند كما أراد مبتدئا بجرحه على إثر المبارزة، وحمله إلى منزل تلك العشيقة، ثم أظهر لها كتابين بخط الفيروزة أحدهما إلى هرمين والآخر إلى رئيسة العصابة، فلما قابلت باكارا بين الخطين ورأت أنهما واحد أيقنت بصدق اكتشافه، ولكن قلبها كان يحدثها أنه خائن، وأن توبته ومظاهر نسكه خداع وتضليل، وأن يده هي التي ضربت هرمين وأختها سريز بغية الانتقام، ولكنها لم تظهر شيئا من ذلك بل تظاهرت بتصديقه لما يقول، وجعلت تراقب بعينيها النقادتين جميع سكناته وحركاته.
وبعد أن انتهيا من حديث العصابة قال لها: إن أخي الكونت أرمان يدعوك في الساعة العاشرة من هذه الليلة لنجتمع في منزله للمباحثة في هذا الشأن الخطير. فوعدته بالذهاب، ونهض أندريا يحاول الانصراف، وفيما هو يسلم عليها دخلت الفتاة اليهودية التي تقدم ذكرها ووقفت بإزاء باكارا، فنظر إليها أندريا نظرة فضحت سره لفرط إعجابه بجمالها، ولم يدر في خاطره أن باكارا تراقبه، فقبل يدها وانصرف وفي نفسه من تلك الفتاة اليهودية أشياء.
أما باكارا فرجعت بعد أن شيعته إلى الخارج وهي تقول: لقد كنت مشككة بك، أما الآن فقد أصبح الظن حقيقة لا ريب فيها، وقد ثبت لي أنك من الخائنين.
وسمعتها الفتاة تقول هذا القول فقالت: لقد صدقت يا أماه، فإنه نظر إلي نظرة جف لها قلبي وأذكرتني نظرات ذلك الشيخ الذي كان يزور أمي في تلك الليلة، فلم تنتبه باكارا لكلامها ودخلت إلى مخدعها، فكتبت إلى أرمان دي كركاز تسأله أن يقابلها في الساعة الثامنة بدلا من العاشرة، والتمست منه أن تكون هذه المقابلة سرية لا يعلم بها أحد، ثم ختمت الكتاب وأرسلته مع خادمها إلى الكونت، فذهب به وعاد بعد حين يحمل جواب الكونت بالإيجاب.
فلما حان الموعد أرخت على وجهها نقابا كثيفا وذهبت إلى الكونت، فألفته ينتظرها في قاعة منزله في الحديقة، ودار بينهما حديث طويل عن أندريا، فأظهرت له جميع ما يخامرها من الريبة بأخيه، إلا أن الكونت كان يناقضها في جميع ما تقول لأنه كان يرى بعينيه كل ليلة ما يعانيه أخوه من العذاب، وكان يراقبه في بعض الليالي من قفل الباب، فيراه يجلد نفسه حتى تنتهك قواه، ويقرأ أسفار الشهداء حتى تغمض عيناه فينام على الأرض دون غطاء بعد أن يغير نظام الفراش كي يظن الخدم أنه نام عليه، ولا يفطنون إلى أنه نام على الأرض.
فلما يئست باكارا من إقناعه قالت: لا بأس من أن تبقى على اعتقادك فيه، ولكني سأراقبه في الليل والنهار وأصرف كيده عنك بإذن الله، ولا ألتمس منك غير أمر واحد. - ما هو؟ - هو أن تكتم ريبتي هذه عنه، وعن زوجتك، وعن جميع أعوانك. - سأفعل ما تريدين. - أتقسم لي على الكتمان؟ - أقسم لك وأبر باليمين.
فودعته باكارا وانصرفت وهي تقول في نفسها: لقد انتصرت على هذا الشيطان المريد وأنا بغي مومس، وسأنتصر عليه الآن وأنا نائبة مؤمنة ليس لي نصير عليه غير الله، وكفى بالله نصيرا.
20
بينما كانت باكارا عائدة إلى منزلها، وهي تدعو الله في ضميرها كي ينصرها على أندريا، كان أندريا جالسا قرب منضدة في منزل روكامبول، وهو يتداول مع تلميذه بشأن العصابة، وقد أخبره بجميع ما فعل وبزيارته لباكارا وإطلاعها على حب فرناند؛ فأجفل روكامبول ثم سكن روعه ووقف أمام رئيسه وقفة الاحترام وقال: أتأذن لي أن أسألك عما أشكل علي فهمه من أعمالك؟
فابتسم له أندريا وقال: قل ما تشاء. - إنك استكتبت الفيروزة رسالتين، واتفقت مع الكونت مايلي والأرملة مالاسيس، فكأنك قد أخبرتهم بأسرار جمعيتنا وأخبرتهم بحقيقة فرناند، فأي قصد تريد من إظهار هذه الحقيقة التي يجب أن تبالغ في كتمانها، أليس في ما فعلت خطر علينا؟
فقال أندريا ببرود: أي خطر تعني؟ - أولا أنك قلت الحقيقة بتمامها ومهدت لأخيك الكونت السبيل الذي نسعى إليه. - وبعد ذلك؟ - ثم إنك أوقفت الفيروزة على بعض سرنا، وهي إنما ينبغي أن تكون آلة صماء في أيدينا.
فقاطعه أندريا وقال: كفى! إنك لا تزال جاهلا لدقائق أسرار الصناعة؛ فأصغ إلي الآن لتعلم حقيقة هذه الخطة التي أشكلت عليك؛ فإن هذه الجمعية السرية مؤلفة من رئيس وهو أنا، ونائب وهو أنت، وأعضاء يعدون بمثابة الآلات العاملة كالفيروزة والأرملة والماجور والكونت وغيرهم، ولكل جمعية سرية في الأرض من الماسونية إلى جمعيتنا سر دقيق يكون خاصا بالرئيس المدبر، وقد يطلع هذا الرئيس نائبه على نصف هذا السر، ويوقف الأعضاء على ربعه، ولكن السر بجملته يبقى مكتوما في صدره. أما الفيروزة والأرملة والكونت دي مايلي فإنهم لا يعلمون شيئا من أسرارنا، فإن هذا الكونت يعتقد بخداعه لهرمين وإغوائها أنه ينتقم لرجل شريف، وهو لم يخابر بذلك غير السير أرثير الإنكليزي، وأين له أن يعلم أنني والإنكليزي واحد. وفوق ذلك فإنه رجل نبيل وقد أقسم بشرفه أن لا يبوح باسم السير أرثير، وأما الأرملة فإنها لا تعرف أحدا منا غير خادمها فانتير، وبيدنا من رسائلها ما يجعلها أطوع لنا من ظلها، لا سيما وهي لا تزال طامعة بزواج الدوق، ولا تجهل أن رسالة واحدة من هذه الرسائل يقف عليها الدوق تحبط جميع أمانيها، وفوق ذلك فهي لا تعلم شيئا من أسرارنا، ولو علمتها وأرادت أن تبوح بها فإنها لا تستطيع أن تتهم أحدا غير ذلك الخادم، ولا خطر علينا من اتهامه. وأما الفيروزة فإنها لا تعلم من أسرارنا سوى أننا نريد استخدامها في سلب أموال فرناند، وهي التي ستتولى سلبه بإرشادنا، فهي شريكة لنا ومثل هذه البغي الفقيرة لا تخوننا وهي تطمع بتلك الملايين. - بقي علي أن أجيبك على اعتراضك الثاني، وهو كيف أني أطلعت أرمان وباكارا على الحقيقة، وذلك لأنه سيعتمد علي بعد هذا، لا سيما إذ حقق ما أخبرته به ووجده صحيحا لا ريب فيه، فنأمن بوليسه السري، لأني أديره كيف أشاء، وأنا لم أخبره بعد إلا بحب فرناند لتلك الفتاة، وهو أمر لا بد من أن يظهر. وأما باكارا فلأنها ستخدمنا بعد ذلك أجل خدمة دون أن تريد.
فبهت روكامبول وقال: كيف ذلك؟ - ذلك أن باكارا سيكون أول ما تجريه أنها تقابل الفيروزة، وتحاول إرجاعها عن فرناند، وقد علمتها ما تقول. ثم تذهب إلى فرناند وتحذره من تلك الفتاة مظهرة له أنها لا تريد غير الاحتيال على سلب أمواله، فيزيد فرناند حبا بخليلته؛ لأنه يرى أنها لم تقبل منه هدية إلى الآن، وأنها غير طامعة بشيء من ماله، فيعلم أن باكارا قد غارت منها وأنها تتهم تلك الفتاة.
فلما أتم أندريا كلامه قال لروكامبول: أفهمت الآن؟ - نعم، قد فهمت كل شيء. - إذن فأصغ إلي الآن لتعلم ما يجب أن تعمله في الغد، ذلك أنه يجب أن تمتطي حصانا وتذهب عليه إلى الشانزليزه في الساعة الثانية بعد الظهر، فتجول حول المنتزه. وبينما أنت سائر الهوينا تمر بك مركبة فيها رجل وامرأة هما الفيروزة وفرناند، فتدنو بجوادك من المركبة فتنظر إلى المرأة نظرة احتقار وتحيي فرناند تحية احترام، ثم تقول له: أعرفتني يا سيدي؟ فيجيبك هو لا ريب بالإيجاب؛ لأنه لم ينس مبارزتك بعد، وعند ذلك تقول له: إنني عندما بارزتك يا سيدي، وجرحت بعد منتصف الليل أغمي عليك فارتأيت بالاتفاق مع الشهود عدم حملك إلى منزلك كي لا تصاب زوجتك بسوء عندما تراك على تلك الحال، ورأينا أن نحملك إلى منزل تلك الفتاة المجاور لمحل الحادثة.
أما هذه الفتاة التي حملتك إلى منزلها، وهنا تشير إليها باحتقار، فقد كانت عشيقة لي وقد خدعت بها وارتكبت خطأ حبها، فاشتريت لها ذلك المنزل الذي تقيم فيه وفرشته لها بأحسن الرياش كما رأيت حين كنت فيه، وجعلت لها المركبات والخيول المطهمة إلى غير ذلك مما يفعله كل شاب يغتر مثلي بجمال هذه الحظايا وزخارف أقوالهن الكاذبة، وقد سافرت على إثر مبارزتي وحملتك إلى منزلها. فلما عدت اليوم من سفري علمت أنك خلفتني في قلبها وفي منزلها، وأن لك وحدك الحق في الركوب معها في هذه المركبة التي اشترتها بأموالي.
فأجفل روكامبول وقال: ألعلك تريد بذلك أن فرناند يتحمس فيدفع لي ثمن المنزل والفرش والمركبات والمجوهرات، وجميع ما تقتنيه تلك الفتاة؟
فأجابه أندريا بلهجة الساخر: لقد علمت بعض الشيء، فإن الفيروزة ستغادر هذا القصر بعد هذه الحادثة كما علمتها، فتستأجر غرفة حقيرة تقيم فيها وهو ما يرضاه فرناند، ولكنه يثق بعد ذلك من حبها ويكرهها على قبول جميع ما تحتاج إليه من قصر جديد ومجوهرات ومركبات جديدة، إلى غير ذلك مما سيكلفه نصف مليون على الأقل. - وهذا المال؟ - نعطي الفيروزة 50 ألف فرنك منه، ويدخل الباقي لصندوق الشركة تحت الحساب ... ولنعد الآن إلى فرناند، فإن حديثك معه على ما تقدم لا بد أن يدعو إلى مبارزة بينكم، ولكن الفيروزة تصلح بينكما لأنه سيكون لها أطوع من بنانها.
فأظهر روكامبول إشارة الامتثال وقال: أهذا كل ما تريد مني؟ - كلا، بل بقي لي حاجتان: إحداهما أن توصل كتابي هذا (وأعطاه رسالة ضخمة) إلى أدايي ناتها الهندية وتحمل إلي جوابها. والثانية أن تذهب غدا إلى معلم السلاح المعروف في شارع رشوات نمرة 41، وتطلب إليه أن يعلمك ضربة السيف المعروفة باسم «مائة ريال»، فإنها سميت بهذا الاسم لأن أجرة تعليمها مائة ريال. - وما الفائدة من تعليمها؟ - إنك متى أتقنتها تستطيع أن تطعن خصمك طعنة تقتله قتلا بطيئا بحيث يستطيع أن يكتب وصيته قبل أن يفاجئه الموت.
فذعر روكامبول وقال: أقضي علي أن أقتل أحدا؟ - أجل. - متى؟ - ربما كان ذلك بعد خمسة عشر يوما. - من هو هذا الرجل المنكود؟ - هو الذي سأتزوج أرملته.
فأحنى روكامبول رأسه وهو يقول: مسكين أرمان دي كركاز.
أما أندريا فلم يحفل بكلامه، ولكنه قام فودعه على أن يراه بعد يومين، وذهب ليجتمع مع أخيه وباكارا في الساعة العاشرة، غير أنه بينما كان ذاهبا إلى منزل أرمان وهو يعد له وسائل الموت، كانت باكارا عائدة من ذلك المنزل وهي تعد لصاحبه وسائل الحياة.
21
لم نبسط في ما تقدم من فصول هذا القسم غير مقدمات تلك المكائد الهائلة التي أسس أركانها أندريا، ونحن آخذون الآن ببسط نتائج تلك المقدمات وسرد حوادثها العجيبة فنقول: في اليوم الثاني لاجتماع أندريا بروكامبول، كان فرناند روشي في منزل الفيروزة وقد جلس إليها يعرب عن غرام فؤاده، وهي تظهر له حبا أكيدا خالصا من شوائب الغايات، فتلفق له من حوادث ماضيها قصصا تلبسها حلة الازدراء، مبينة له فضائل الحب الصحيح، وكيف أنه إذا دخل إلى القلوب الأثيمة طهرها من الآثام، إلى غير ذلك مما كانت تجعله مقدمة لما ستنصبه له من حبائل دهائها، وكانت تقف معه موقف المشفق الحنون فتذكر له واجباته الزوجية، وتلتمس منه أن يسلوها ويعود إلى زوجته، فكان يصغي إليها إصغاء المفتون بجمالها، وقد شغل فؤاده هواها فأعماه عن دهائها بحيث بات يحمل نصحها على محامل الإخلاص الصحيح ، فتبدو لعينيه بمثال الفضيلة والكمال، ويقاطعها كلما ألحت عليه بالقبل الحارة.
فما زالا على ذلك إلى الساعة الثانية، وهو الموعد الذي عينه أندريا لروكامبول، فاقترحت عليه أن يخرجا للنزهة، فركبا مركبة وانطلقت بهما حسب أمرها إلى الشانزليزه.
وبينما كانت المركبة تسير بهما الهوينا وهما يتناجيان مناجاة الأطيار، إذ بصر بها فرآها قد امتقع وجهها وجعلت تضطرب كالريشة تقاذفها الهواء؛ فأجفل فرناند لمنظرها وقال: ماذا أصابك؟
فلم تجبه ولكنها نظرت نظرة إلى الطريق ثم غطت وجهها بيدها، فنظر فرناند إلى حيث تطلعت فرأى روكامبول ممتطيا جواده وهو يسير بإزاء المركبة ويبتسم للفتاة ابتسام الاحتقار، ولكنه حين رأى فرناند ينظر إليه رفع قبعته وحياه باحترام، ثم هنأه بسلامته من الجرح واندفع في محادثته على ما علمه أندريا وذكرناه في الفصل المتقدم.
وكان يتكلم والفيروزة مطرقة الرأس تتنهد، وفرناند مصغ إليه أتم الإصغاء، فلما فرغ من حديثه قال فرناند ببرود: طب نفسا أيها الصديق، فسترجع إليك جميع أموالك.
فقال له روكامبول بازدراء: لا حاجة لذلك، فإني أهب هذه الفتاة تلك الأموال.
فأجابه بعظمة: كلا، فإنها لا تقبل شيئا دون إذني.
فنظرت عند ذلك الفيروزة نظرة احتقار إلى روكامبول، وقالت: كلا، لا أقبل شيئا.
فانحنى روكامبول أمام فرناند وقال: ولكني أؤمل أن نلتقي بعد أن اغتصبت مني تلك الفتاة؛ فإن لدينا حسابا آخر نرصده، وهو ليس حساب المال. - هو ذاك، فنوفيك غدا حساب المال، ونرى حسابك الآخر بعد الغد. - حبذا ذاك يا سيدي لو لم أكن مضطرا إلى السفر بعد الغد، فلنرجئ هذا الحساب الأخير إلى الأسبوع القادم. - ليكن ما تريد، وسأرسل لك شهودي بعد ثمانية أيام.
ثم أمر السائق بالعودة إلى المنزل، فعادت بهما وفرناند يتميز من الغيظ، حتى إذا بلغا إليه أخذت الفيروزة بالبكاء، ثم تظاهرت بالغشيان، فلما أفاقت من الغشيان وقفت أمامه موقف التائب النادم، وقالت: دعني وشأني أيها الحبيب وعد إلى زوجتك، فقد بدأت أكون شؤما عليك.
22
وطال حديث العاشقين، فكانت تسأله وتلح عليه أن يسلوها وهو لا يزداد بها إلا تعلقا وهياما ويدفع البرهان، إلى أن تظاهرت بأن حبه قد تغلب عليها، فقالت: إني أرضى أن أعيش وإياك، إذا قبلت شروطي.
فطار فؤاده فرحا وقال: سلي ما تشائين فإني أقبل كل شرط.
فتنهدت طويلا وقالت: إصغ إلي يا فرناند، إني قد شغفت بحبك وأحببتك حبا أكيدا صالحا، فصغرت في عين نفسي وتمثل ماضي أيامي الأثيمة بشكل رائع مخيف سئمت لأجله الحياة، ولكني قبل أن ألقي تلك النفس إلى هاوية الغواية، كنت فتاة طاهرة شريفة. فإن أهلي زوجوني بالرغم عني بشيخ عجوز حملني لسوء طباعه على الفرار منه، وأنفق جميع مهري على السكر والمجون، بحيث لم يبق لي من ذلك المهر سوى عشرة آلاف فرنك، ولا تزال هذه الأموال لدي أحترس عليها؛ لأنها وصلت إلي من أشرف مورد، وقد زادت من رباها إلى الآن ألفي فرنك.
فقال فرناند وهو لم يدرك قصدها: ما تريدين من هذا القول؟
قالت: أريد أن أعيش من ربا هذا المال، ومن شغل يدي كما تشتغل العاملات.
فأجفل فرناند وقال: أنت تعيشين هذه العيشة التعيسة وأنا أغنى الأغنياء؟ - نعم، ولا أكون منكودة بل أكون من أسعد النساء. ويكفيني من نعيم الحياة أن فرناند يحبني وأنا أحبه.
فحاول فرناند الاعتراض، ولكنها أسكتته بما اتخذته من مظاهر الحب، وقالت: هذا هو شرطي الذي وعدت أن تقبله مني كيف كان؛ فاعلم الآن أنك مخير بين الرفض والقبول، وأني لا أرجع عن هذا الغرام.
فأطرق فرناند إطراق المتأمل، وجعل ينكث الأرض بعصاه فقالت: على ماذا عولت؟ - لا يسعني إلا الامتثال لما تريدين. - أتخضع لي في كل ما أريد؟ - أجل. - إذن قم الآن واذهب إلى زوجتك، فإنك لم ترها منذ يومين، ولا تعد إلي إلا في صباح الغد.
فحاول فرناند أن يعترض، ولكنها ضربت بيديها مغضبة على منضدة، وقالت: لقد وعدتني ألا تخالفني فيما أريد.
فامتثل فرناند وخرج مطأطئ الرأس، والحب ملء فؤاده، فوقفت ترمقه من النافذة حتى إذا رأته يسير في الشارع سير المخبول قهقهت ضاحكة، وقالت: لقد بلغت من قلبه ما رجوت، وسأبلغ من ماله ما أريد، فما أجهل الرجال!
ثم غيرت ملابسها فتزيت بزي العاملات وانصرفت إلى غرفتها الحقيرة لتمثل دورها الثاني مع ليون رولاند.
وكان ليون قد فتن بها حتى لم يعد يطيق صبرا على فراقها، وقد أرسل أباها إلى المستشفى كي يخلو له الجو معها، وهو يعتقد أنها عاملة وأن ذلك الأعمى أبوها، وكانت الفيروزة قد مدت له حبل هواها، حتى حسب أنها باتت رهن حبه وطوع إشارته، فلما رأى أندريا أن خدعته قد نجحت وأن الهوى قد برح بذلك العامل المسكين، أمر الفيروزة أن تقاطعه وتهرب منه على ما علمها. فذهبت إلى غرفتها وكتبت إليه كتابا تخبره فيها أنها لم تعد تحتمل الإقامة معه لأن شكوى زوجته قد بلغت إلى قلبها، فهي تودعه وداعا أبديا، وتبرح تلك الغرفة إلى غيرها في شارع لا تسميه، حذرا من أن يتبعها.
فلما انتهت من الكتاب نادت البوابة، وكانت مدام فيبار التي عرفها القراء في القسم الأول من هذه الرواية، فأعطتها الكتاب وقالت لها أن تعطيه لليون حين حضوره، ثم أخبرتها أن تقول له إنها رأتها في مركبة بديعة مع شاب عليه مظاهر النعمة، وانصرفت عائدة إلى منزلها كي تهتم بأمر فرناند تاركة أمر النظر في إتمام مسألة ليون لرئيسها السير فيليام.
23
بينما كانت الفيروزة تبرح غرفتها الصغيرة وهي بملابس العاملات إلى منزلها في شارع مونسي، كانت باكارا تطرق باب ذلك المنزل، أي منزلها القديم، ففتح لها الخادم وسألها: ماذا تريدين؟ - أريد أن أرى سيدتك. - إنها لم تعد بعد.
فدخلت باكارا بعظمة وهي تقول: لا بأس، فاذهب بي إلى قاعة الاستقبال لأني أريد أن أنتظرها فيها.
فامتثل الخادم وذهب بها إلى القاعة، فلما وصلت إليها صرفته في شأنه وجلست تنتظر، ولم يطل جلوسها حتى عادت الفيروزة إلى منزلها، ثم دخلت إلى القاعة لترى الزائرة وهي تعلم أنها باكارا.
وكانت الفيروزة لا تزال بملابس العاملات وعلى رأسها قبعة بيضاء، فحسبت باكارا أنها إحدى خادمات القصر، وقالت: ألم تحضر سيدتك بعد ؟ - نعم يا سيدتي، قد حضرت. - إذن فأخبريها أني أنتظرها.
فذهبت الفيروزة وأغلقت الباب ثم قالت: عفوك يا سيدتي، فإني لبست هذه الملابس لبعض الأغراض، وأنا هي السيدة التى تريدين أن تريها والتي يلقبونها بالفيروزة.
فنظرت إليها باكارا عند ذلك نظرة الفاحص الخبير وقالت: أحقيقة أنت هي؟ - نعم يا سيدتي، إني مستعدة لخدمتك، وإن أكن لم أتشرف قبل الآن بمعرفتك. - إن لي اسما آخر غير الذي قرأته على رقعة زيارتي، ولا بد أن تكوني قد سمعت بهذا الاسم، فإنه باكارا.
فأظهرت الفيروزة عند ذلك حركة عجبية جمعت بين الإعجاب والانذهال والاحترام، فقالت: أنت هي باكارا؟ - كلا، ولكني كنت أدعى بهذا الاسم حين كنت تائهة في بوادي الغي والضلال، أما اليوم فقد تبت توبة صادقة عما اقترفته من الآثام، وصرت أدعى مدام شارمت كما ترينه على رقعة زيارتي.
فأحنت الفيروزة رأسها وقالت: نعم، لقد علمت بتوبتك أيضا، ولكني كنت أذكرك كل يوم بما أجده في هذا المنزل الذي كنت تقيمين فيه قبلي، وكل ما فيه يدل على سلامة الذوق وحسن الاختيار. - كيف علمت أني كنت أقيم في هذا المنزل؟ - علمته من سائق مركبتك الذي كان في خدمتي. - ألم يخبرك عني سوى هذا؟
فتلبست الفيروزة بملابس السذاجة وقالت: إنه كان يخبرني بكل ما يعلمه من أمرك ومعاملتك لعشاقك، فكنت أجعلك مثالا لي لخداع أولئك الأغرار، حتى إني كنت أقلدك في كل شأن، لما بلغت من الشهرة، بل إني أبقيت جميع ما في هذا المنزل على حالته القديمة كي لا أخرج عن تقليدك في شيء.
فابتسمت لها باكارا وقالت: ألم يخبرك هذا السائق أيضا كيف أني خرجت من منزلي هذا؟ - نعم، فلقد قال لي إنك أنت التي كان يترامى الأمراء على أقدامك ويموتون لكلمة تخرج من فمك، بل كنت تفتخرين بأن قلبك لا يعرف الهوى، ولكن نفذت أشعة الغرام إلى هذا القلب وأحببت ذلك الحب الذي كنت تجهلينه، فتخليت عن كل هوى واعتزلت الناس وجميع ما كان يحيط بك من السعادة من أجل هذا الحبيب، أليس ذلك أكيدا؟ - إنه إذا لم يصدق كله فقد صدق بعضه، والآن أتمي حديثك ألم يخبرك هذا السائق شيئا عن الذي كنت أحبه؟ - نعم، ولكني أسألك الصفح يا سيدتي، فإني أخاف إذا قلت أن يكون هذا السائق كاذبا فيما أقول، أو أكون قد فتحت منك جرحا قديما قد اندمل بتقادم الأيام. - لا بأس قولي ما تعلمين. - أخبرني هذا السائق أن ذلك الحبيب الذي خرجت لأجله من نعيمك كما خرجت حواء من الفردوس، لم يكن غير لص.
فلم تضطرب باكارا بل قالت لها: أصدقتيه فيما يقول؟ - بل قال لي أيضا أن الجنود قبضوا عليه في منزلك، وأخرجوه منه وأنت مغمى عليك، فلما عاد إليك رشادك وعلمت بما كان، خرجت من ذلك المنزل تائهة والهة لا تلوين على أحد، فلم يعلم ما كان من أمرك. - أهذا كل ما علمته؟ - نعم، ولكني قلت في نفسي إنك لا بد أن تكوني قد أفرغت جهدك في سبيل إنقاذه. - لقد أصبت في ما ظننته، ولكن أنقذته براءته لأنه لم يكن سارقا.
فتظاهرت الفيروزة بالسرور وقالت: إذن أنت سعيدة وإياه؟ - كلا، لأنه كان يحب سواي.
فانذهلت الفيروزة وقالت: أتراه تخلى عنك؟ - بل أنا تخليت عنه، فقولي لي ألم تعلمي اسمه من ذاك السائق؟ - كلا، لقد أخبرني عن صفاته ولم يذكر لي اسمه، لأنه كان يجهله.
فحدقت بها باكارا وقالت: أصحيح ما تقولين؟
فتنهدت الفيروزة وقالت: هي الحقيقة بعينها، ومن ولج الحب الصحيح في قلبه بعد الكذب عن لسانه. - ألعلك أحببت هذا الحب؟
فوضعت يدها على قلبها وقالت: إصغي لي يا سيدتي، لقد كنت منذ أسبوعين أنظر إليك بعين الخيال، وأعجب بك أشد الإعجاب. أما وقد رأيتك حقيقة ورأيت علائم الصلاح بادية بين ثنايا وجهك، فقد تبدل ذلك الإعجاب بالاحترام، وأحببت أن أطلعك على حقيقة ما أعانيه كي يكون لي من كلامك الصالح بعض العزاء.
واعلمي يا سيدتي أني لا أزال أجهل القصد من زيارتك، ولكن مهما يكن هذا القصد فهو نبيل لا يمنعني عن أن أبوح لك بسري، فقد تسدين إلي نصيحة تخرجني من هذا الموقف الحرج الذي أنا فيه.
فتظاهرت باكارا بالإشفاق عليها وقالت: قولي ما تشائين، فلعلي أفيدك في ما تؤملين. - إن هذا المنزل الذي ترينني فيه هو لرجل كان يحبني فاشتراه لي ووهبني أثاثه، واتفق منذ أسبوعين أن كان عازما على السفر إلى لندرا، فخرج في الليلة التي كان عازما في صباحها على السفر وجلست أنتظره على هذا الكرسي إلى أن دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فسمعت طرقا شديدا على الباب الخارجي، ثم سمعت أن باب الحديقة قد فتح، فأسرعت كي أرى من القادم، فرأيت عشيقي ومعه رجلان يحملان رجلا سالت دماؤه وهو مغمى عليه، فعلمت أنه تبارز مع عشيقي فجرحه وحمله إلى منزلي كي يتعالج فيه.
ثم سكتت كأنها تخاف أن تتم حديثها، ولكن باكارا شجعتها على إتمامه، فاندفعت في حديثها، وذكرت لها كيف أن فرناند أقام عندها ثمانية أيام، وكيف أنها أحبته وأشفقت عليه لأنه متزوج، فأخرجته من منزلها معصوب العينين كي لا يهتدي إذا أراد الرجوع إليه، ثم أخبرتها عن سفرها في اليوم التالي، وكيف أن فرناند لقيها خارج باريس وحملها على الرجوع، إلى غير ذلك مما علمه القراء. فلما أتمت حديثها قالت لها باكارا: والآن على ماذا عولت؟ - عزمت على أن أرجع عن هذا العيش الذميم، فأهجر هذا القصر واستأجر غرفة حقيرة فأعيش من عمل يدي شأن العاملات الشريفات.
فقالت لها باكارا وهي منذهلة مما تسمع: أتفعلين ذلك؟ - أجل، أفعله ما زال يحبني، ولا أريد منه سوى حبه فلا يقال إني أحببته لابتزاز أمواله.
فما كادت باكارا تسمع هذا القول حتى وقفت مغضبة، وقد اتقدت عيناها بشرر الغيظ، ثم دنت من الفيروزة فهزت كتفيها هزا عنيفا وقالت: إنك داهية شديدة الذكاء، إلا أنك تكلمين باكارا، وإني طالما مثلت قبلك مثل هذه الأدوار على هذه المراسح.
وكان قد تمكن الحقد من باكارا بحيث لم يكن يعوزها سوى الخنجر لقتل مزاحمتها على فرناند، أما الفيروزة فإنها لبثت في مكانها دون أن تظهر شيئا من ملامح الخوف، ولكنها نظرت إلى باكارا نظرة المنذهل، وقالت: لقد رابني انقلابك ياسيدتي، فإما تكوني قد جننت أو أنك تهوين الذي يهواني وأهواه. - نعم، فلقد صدقت في قولك الأخير.
ثم عادت فجلست على كرسيها متكلفة هيئة الوداعة والسكون، وقالت: إصغي إلي الآن كما أصغيت إليك، واعلمي أن هذا الرجل الذي تزعمين أنك تحبينه، أحببته أنا منذ أربعة أعوام، ولم أغير طريقة حياتي إلا من أجل هذا الغرام، ولا أنكر أنك قد تكونين أحببته حبا أكيدا، فإذا كان ذلك فبرهني على هذا الحب الأكيد كما برهنت عليه أنا من قبل.
فأظهرت الفيروزة الانذهال وقالت: ألا تكفي ملابسي هذه للدلالة على صدق هذا الحب؟ - كلا، ليس هذا ببرهان.
فأسرعت الفيروزة إلى خزانة في الغرفة المجاورة، ثم عادت تحمل غلافا كبيرا، ففتحته وجعلت تنثر ما فيه من الأوراق.
فقالت باكارا: ما هذا؟ - انظري!
ثم التقطت ورقة من الأرض وقالت: هذا عقد بيع تام الشروط للمنزل الذي أنا فيه، وهو الذي وهبني إياه عشيقي الفيكونت دي كامبل.
ثم أخذت ورقة ثانية وقالت: هذه أسهم مالية قيمتها 160 ألف فرنك أعطاني إياها الفيكونت؟ وهذه أوراق أخرى تبلغ فائدتها ستة آلاف فرنك في العام. - ماذا تقصدين؟ - اقرأي هذا الغلاف، أليس مكتوبا عليه اسم الفيكونت؟ - أجل. - إذن فاقرأي هذا الكتاب الذي كتبته إليه، ووضعت في طيه هذه الأوراق.
فأخذت باكارا الكتاب وقرأت ما يأتي:
سيدي الفيكونت
أرجو عفوك؛ فلقد خدعتك حين تظاهرت بحبك، ولم أكن أحب سوى أموالك، ولقد كرهت هذه الأموال بعد مقابلتنا بالأمس، فأنا أرجعها إليك الآن مع حجة المنزل الذي يعود إليك، فاحضر لاستلامه متى شئت.
الفيروزة
فلما أتمت باكارا تلاوة الكتاب قالت الفيروزة: ألديك شك بعد ذلك بصدق حبي لفرناند؟ - نعم، ولو كان فرناند فقيرا كما كان عندما أحببته أنا، لعددت ردك الأموال إلى الفيكونت خير برهان، إلا أن فرناند واسع الثروة، وهو قد يعوض عليك أضعاف ما بذلته. - إن هذا قد يكون، ولكني لا أحبه لماله وهو ذا برهان آخر.
ثم دفعت إليها كتابا كانت مزمعة أن ترسله إلى فرناند، كتبت فيه ما يأتي:
صديقي المحبوب
إذا كنت قد رضيت بشروطي التي عرضتها عليك اليوم، ورضيت أن تحبني فقيرة معدمة لا مال لي سوى الغرام الصادق؛ فلا تزورني في منزلي بل في شارع بلانش نمرة 17.
الفيروزة
فما كادت باكارا تتم تلاوة الكتاب حتى نظرت إليها نظرة ملؤها الوعيد، ثم انقضت عليها انقضاض الصاعقة، وقبضت بيديها على عنقها وضغطت عليها ضغطا شديدا حتى أوشكت أن تخنقها؛ فصاحت الفيروزة صياح المختنق، أما باكارا فإنها خففت ضغطها وقالت لها: إن حياتك بين يدي، فاصدقي القول وإلا فإنك مائتة لا محالة.
فقالت الفيروزة وقد اعترت وجهها صفرة الموت: ماذا تريدين؟ - قولي الحقيقة، أتحبين فرناند؟ - لا أحبه حبا، بل أعبده عبادة. - إذن، فإني أمهلك دقيقة واحدة لتختاري فيها بين رجوعك عن حبه وبين الموت!
فقالت الفيروزة بعظمة دهشت لها باكارا: لا حاجة إلى المهلة فقد اخترت الموت، فإذا شئت فاقتليني، ولكن لتعلمي أنه يحبني فوق ما أحبه وأنه ينتقم لي.
فوقع هذا الكلام وقعا شديدا على باكارا؛ فأنت أنين المتوجع وأفلتت فريستها، لأنه خطر لها أن فرناند يموت بعدها إذا قتلتها لفرط حبه لها، ولكنها أرادت أن تجرب معها تجربة أخرى فقالت: لا تخافي الآن، فإني لا أقتلك لأنك تحبين فرناند، ولكني أقتلك دون إشفاق إذا لم تطيعيني مدة ساعة. - ماذا تريدين أن أصنع؟ - اقرعي الجرس ومري السائق أن يهيئ المركبة.
فامتثلت الفيروزة طائعة وهي تجهل ما تريد. أما باكارا فإنها أخذت الأوراق التي نثرتها الفيروزة من الغلاف، وفيها حجة المنزل والكتابان اللذان قرأتهما وألقتهما جميعا في النار، ثم نادت الخادمة وأمرتها أن تحضر لمولاتها قبعة ورداء، ولما عادت بهما ذهبت بالفيروزة إلى خارج المنزل وركبت وإياها المركبة التي أمرت بإعدادها، وأوعزت إلى السائق أن يسير إلى شارع بيسي، أي إلى المنزل الذي تقيم فيه باكارا، ولما وصلتا إليه دخلتا فذهبت باكارا إلى خزانتها؛ فأخرجت منها أوراقا مالية تبلغ قيمتها 160 ألف فرنك، وفيما هي تقفل الخزانة أقبلت إليها الفتاة اليهودية فقبلتها ونادت الخادمة وقالت لها: إني سأغيب يومين عن المنزل، فاحرصي على هذه الفتاة كل الحرص ولا تحرميها شيئا مما تطلبه. ثم ذهبت مع الفيروزة وأمرت سائق المركبة أن يسير بها إلى المسجل؛ فأجفلت الفيروزة وقالت: ما حاجتنا بالذهاب إلى المسجل؟ - إننا نذهب إليه لنسجل عنده عقد بيع منزلك. - ولكنه للفيكونت وليس لي.
فقالت باكارا: لا بأس، ولا فرق لدى الفيكونت بين أن يسترجع أمواله ذهبا أو عقارا. - ومن يشتري هذا المنزل؟ - أنا التي سأشتريه، فإني ما تبت إلى الله ورجعت عن حياتي السابقة إلا لحبي لفرناند ولاعتقادي أنه يحب امرأته الشرعية، فضحيت ما ضحيت في سبيل حبه غير نادمة على شيء. أما الآن وقد نسي حبه لزوجته، فلم أجد بدا من نسيان توبتي؛ لأنه إذا كان يريد أن يحب فتاة مثلك، فأنا أولى بهذا الحب.
فبهتت الفيروزة وقالت: إذن عزمت على أن تعودي إلى حياتك السابقة؟ - هو ذاك، فإن كل فتاة تزج بنفسها إلى هاوية الغواية فقد قدر عليها أن لا تخرج منها إلا إلى حين، كما يخرج الغواص رأسه من الماء ليتنفس الهواء. وأنت فإنك قد تصبحين شريفة طاهرة ما زال فرناند يحبك وما دمت تهوينه، غير أن هذا الحب لا يلبث أن يزول حتى تعودي إلى حياتك السابقة، ولقبك القديم وهو الفيروزة كما عدت أنا إلى لقبي وهو باكارا.
ولما وصلت إلى هذا الحد من الحديث، وقفت المركبة عند باب المسجل، فدخلتا إليه وبعد أن كتب لهما عقد البيع عادتا إلى المنزل، فأمرت باكارا الفيروزة أن تكتب للفيكونت أنها مرسلة إليه أمواله وثمن المنزل، ففعلت، وأخذت باكارا كتابها ووضعته ضمن غلاف ووضعت في طيه ثمن البيت أوراقا مالية، ثم ختمته وأمرت الخادم أن يحمله في الحال إلى الفيكونت، وبعد ذلك نظرت إلى الفيروزة وقالت لها: هو ذا المنزل قد عاد إلي بجميع أثاثه، فهل لك حاجة فيه بعد؟ - أريد أن أكتب لفرناند. - كلا، إني أريد أن يأتي إلى هذا المنزل فيراني فيه بدلا منك. - إني أقبل بذلك بشرط أن تخبريه أين أقيم. - أقسم لك أني أخبره، اطمئني.
وعند ذلك دخل الخادم وهو يقول: هو ذا الحمال الذي أمرتني بإحضاره. - ليدخل.
دخل الحمال وأمرته الفيروزة أن يحمل صندوق أمتعتها، ثم ودعت باكارا وداع الفائز المنتصر وانصرفت، فاستوقفتها باكارا وهي خارجة وقالت: أصغي إلي واسمعي مني هذه الكلمة الأخيرة، وهي أنك إذا عبثت بفرناند وسلبته درهما واحدا، فإني لا أعفو عنك بل إني أبحث عن خنجر خبأته وأغمده في صدرك.
فخرجت الفيروزة دون أن تجيب بحرف على هذا الإنذار، ولحقت بالحمال، فلما أدركته خارج الباب قال لها: الحق إنها قوية فقد كادت تخنقك بيديها. - كيف علمت هذا؟ - ذلك لأني حضرت المعركة، وكنت مختبئا في الغرفة المجاورة سمعت ورأيت كل شيء، وأنا الذي لبست ثياب السائق وذهبت بك إلى منزلها ثم إلى المسجل.
فعلمت الفيروزة من صوته أنه أندريا وانذهلت لإقدامه الغريب، فقال لها: إن هذه المرأة شؤم علي، وفي وسعها أن تلقي بي إلى الحضيض إذا علمت بأني أنا الذي أدبر هذه المكيدة، وهي قالت لك أنها تغمد خنجرها في صدرك إذا سلبت فرناند، أما أنا فأقول لك أني أشويك على النار الحامية إذا خطرت لك خيانتي.
وبينما هما يذهبان كانت باكارا جاثية تصلي، وقد أنهت صلاتها بقولها: رباه عفوك، إني لم أعد إلى حياتي السابقة إلا لكي أنقذ فرناند، بل أنقذهم جميعا.
24
ولنعد الآن إلى روكامبول، فإنه بعد أن ترك فرناند والفيروزة على ما تقدم برح الشانزاليزه وذهب إلى معلم السيف ليدرس عليه الأمثولة التي أمره أندريا بتعلمها، وبعد ذلك ذهب إلى منزل الهندية يحمل إليها كتاب أندريا، فلما قابلها دفع الكتاب إليها، نظرت إلى عنوانه أنه من السير فيليام، اتقدت عيناها وفضت الغلاف فقرأت الكتاب مسرعة كأنها تريد أن تلتهم سطوره.
ولم يعلم ماذا دار بين هذه النمرة الهندية وبين هذا الأسد الباريسي من الحديث، غير أنهما بعد أن تباحثا مباحثة طويلة غادرها، فركب مركبة وذهب إلى قصر المركيز فان هوب ، فدخل وسأل عن المركيز فقيل له إنه لم يعد، ولكنه علم أن المركيزة في المنزل، فأمر الخادم أن يخبرها بقدومه وتبعه إلى قاعة الاستقبال، فقام ينتظر فيها، وبعد حين أقبلت المركيزة فحيته مبتسمة، ولكنها لم تتمالك من إظهار انقباضها؛ لأنها ذكرت حين رأته أنه عدو شاروبيم، ولكنها لم تجد بدا من مجاملته ومحادثته، وما زالت وإياه يتباحثان في الأحاديث المألوفة حتى أتى المركيز، فذهب بروكامبول إلى غرفة أشغاله كي يخبره بالسبب الذي أتى من أجله.
ولما اختليا ولم يكن روكامبول قد زار المركيز غير مرة واحدة، فعرفه بنفسه وقال له: عفوك يا سيدي، فإني ما أتيت إلا لشأن خطير قد يثقل عليك، ولكني لا أجد بدا من إخبارك به، ثم أني لا أجد بدا لإطلاعك على ما أتيت لأجله من أن أخبرك بشيء من تاريخ حياتي لشدة علاقته بهذا الشأن.
فأظهر المركيز الانذهال وقال: قل ما تشاء، فإني مصغ إليك.
فقال روكامبول: كنت يا سيدي منذ عام في مدينة نيويورك، وليس لي من العمر غير أربعة وعشرين عاما، فكان لي من الجرأة والإقدام والمطامع ما ينطبق على هذه السن، وقد لقيت في هذه المدينة العظمى فتاة غريبة العادات والأخلاق بارعة الجمال، وهي تسمى باسم أسرتك لأنها تدعى مسز دابي ناتها فان هوب.
فدهش المركيز وقال: إنها ابنة عمي، وقد مات أبوها في الهند، فكيف هي في نيويورك؟ - لقد كانت فيها، أما الآن فهي هنا في باريس. - ألعلك قادم من قبلها؟ - نعم، هي التي أرسلتني إليك، ولكنك وعدتني يا سيدي أن تسمع حديثي. - نعم، وها أنا مصغ إليك.
فقال روكامبول: إني عندما لقيتها في نيويورك بذلت جهدي مع كثيرين غيري من أعيان تلك العاصمة للتعرف بهذه الهندية، فكنت الفائز دون سواي، وبلغ من جسارتي أني كاشفتها بغرامي، فكانت تصغي إلي وتبتسم ابتساما حزينا لا يظهر إلا على شفتي من لقي عناء شديدا في جهاد الحياة، وقالت لي: إن القلب الكريم لا يحب غير مرة واحدة، وقد أحببت هذا الحب. فاضطرب المركيز عند سماع هذا القول، غير أن روكامبول تظاهر أنه لم ينتبه إليه واندفع في حديثه فقال: ولكني لم أقتنع بجوابها، وترددت عليها كثيرا وكل يوم أكاشفها بهذا الغرام، فلم تكن تحتفل بي إلى أن مدت لي يدها يوما وهي تقول: أتريد أن تكون صديقا لي؟ فقبلت تلك اليد وقلت لها: سأكون ما تشائين فدعيني أرجو على الأقل. فهزت رأسها وقالت: لعلك ترجو رجاء باطلا، فلقد مات الحب في قلبي.
ثم نظر روكامبول إلى المركيز وقال له: أسألك العفو يا سيدي، فإني لم أذكر لك جميع هذه التفاصيل إلا لغرض واحد، وهو أن أظهر لك أن ابنة عمك كانت تحب حبا قديما برح بها وألقى في قلبها اليأس.
وكانت تدعوني دائما إلى زيارتها، فما زلت اختلف إليها ستة أشهر حتى شعرت بأني أصبحت عاشقا مفتونا بها، ولكنها لم تشأ أن تقف معي إلا موقف الصديق، ثم طرأ علي من الشئون ما دعاني إلى الرجوع إلى باريس، فعدت إليها منذ عام، وكأن ملاذ هذه العاصمة وزخارف الحياة فيها شفتني من ذلك الغرام، فنسيت كل ما مضى، إلا أني أصبحت اليوم وإذا بكتاب ورد إلي من ابنة عمك تقول فيه هذا القول المتقطع. ثم أطلعه على كتاب بخط الهندية يتضمن ما يأتي:
أنا في باريس. أسرع إلي، فلم يبق لي من الحياة إلا ساعات معدودة، وإني أعتمد على صداقتك.
فقرأه المركيز وعرف أنه خط ابنة عمه، وصاح منذعرا: بربك قل لي ماذا أصابها، أهي ميتة أم لا تزال في قيد الحياة؟ - كلا، فإنها لم تمت بعد، فأصغ إلي، إني عندما قرأت هذا الكتاب أصابني من الاضطراب ما أصابك، فأسرعت إليها فوجدتها جالسة على مقعد شرقي، وهي تبتسم حسب عادتها وليس بين ثنايا وجهها ما يدل على ما جاء في كتابها، فدهشت وحسبت أنها أرادت المزاح.
وكأنها علمت ما كان يجول في نفسي، فمدت إلي يدها وقالت: إنك تراني في أتم عافية، إلا أنه لا يمر بي ثمانية أيام حتى أفارق هذه الحياة.
فذعرت وقلت: كيف ذلك؟
فأجلستني بقربها وقالت: أتعلم أيها الصديق السبب الذي رفضت من أجله هواك وقنعت بصداقتك؟ ذلك أنه ليس لي الآن من العمر إلا ثلاثين عاما، ولكنني أحببت وأنا في الخامسة عشرة من عمري حبا بلغت به حد القنوط، ولم أكن أنظر وأنا في الهند إلا لهذه العاصمة الفرنسية التي دفنت بها قلبي.
فدهشت لقولها وقلت: ألعل هذا الرجل الباريسي قد جن فتعامى عن هواك. - كلا، ولكنه أحب سواي. ثم تبسمت وقالت: أتعلم أيضا لماذا أتيت إلى باريس؛ إني أتيتها ورجائي أن أراه مطلق القياد، أو أراه مطلق القلب، ولكني علمت - وا أسفاه - أنه لا يزال يهواها، وعلمت أني لم يعد لي رجاء في الحياة.
فما تمالكت أن أخذت يدها وجعلت أغسلها بدموعي وأقول:
أتموتين هكذا في صباك
حلوة يفتن الجماد هواك
بالله سيدتي إلا ما رجعت عن هذا القصد السيئ، واشغلي نفسك عن ذلك الحب القديم. - لقد فات الأوان وقضي الأمر. ثم أخذت زجاجة صغيرة فارغة كانت على منضدة أمامها قائلة: لقد شربت عند الصباح ما كان في هذه الزجاجة، وهو سم زعاف.
فوقف المركيز وهو لا يملك نفسه من الاضطراب، فأجلسه روكامبول وقال له: أصغ يا سيدي لتتمة الحديث؛ فلقد قالت لي إن هذا السم بطيء التأثير، لا يحدث آلاما ولكنه يقتل بعد ثمانية أيام، وليس لهذا السم إلا دواء واحد، ولكنه لا يوجد في القارة الأوروبية لعدم وجود هذا السم فيها، فهو لا يوجد إلا في الهند، وعلى ذلك فقد أصبح موتي محتما لأنه لا يمكن إحضار الدواء من الهند في هذا الزمن الوجيز. وقد دعوتك إلي كي أودعك وداعا أبديا، ثم لأعهد إليك بقضاء مهمة أرجو أن لا يثقل قضاؤها عليك.
فقلت وأنا أجهش للبكاء: مري سيدتي بما تشائين. قالت: أريد أن أبعث بك إلى الرجل الذي أحببته وأنا أموت من أجله؛ كي تلتمس منه أن يحضر إلي، فإني أحب أن أتزود منه بنظرة قبل الموت.
فاصفر المركيز اصفرار الأموات، وقال له: وبعد ذلك؟ - لا حاجة إلى أن أقول لك شيئا بعد ذلك، فإن الرجل الذي أحبته وأقدمت على الموت من أجله هو أنت.
فوقف المركيز عند سماع كلمة روكامبول الأخيرة، ولكن رجليه وهنا حتى أوشك أن يسقط، فأسند يده على الكرسي كي لا يقع.
25
وكان بين الرجلين سكوت طويل خشي روكامبول على إثره أن يصاب المركيز بموت فجائي، فتخسر الجمعية السرية أملها الوحيد، وهو الملايين الخمسة التي وعدت الهندية بدفعها لأندريا، ولكنه لم يلبث هنيهة حتى تبدل خوفه بالانذهال، فإنه رأى المركيز زال عنه التجهم وعاد إلى السكينة، فقال لروكامبول: ألم تخبرك ابنة عمي باسم السم الذي شربته؟ - نعم، ولكني لا أذكر بالتدقيق لغرابته، فقد قالت أنه خلاصة عصير ورق شجر يدعى «مانسانيليه» ينبت في جزائر الأنتيل، وأنه ممزوج بورق شجر يدعى «ليلياس».
فافتكر المركيز هنيهة ثم قال ببرود: لقد صدقت ابنة عمي، فلا يوجد لهذا السم إلا دواء واحد، ولا يوجد هذا الدواء إلا في الهند. ثم جعل يقص على روكامبول تأثير هذا السم إلى أن قال عن دوائه، حجر أزرق نادر الوجود لا يوجد إلا في أحشاء الأفاعي التي لها ثلاثة رءوس، تبدو منها بشكل قسم مثلث الزوايا، وهي سوداء الظهر وبطنها ذو لون أصفر براق كلون الذهب، فلا يوجد إلا في نواحي لاهور وفيرايور، على أن هذا الحجر الغريب لا يوجد في أحشاء جميع هذه الأفاعي، بل إنه شديد الندور فيها، حتى إنه لا يكاد يوجد غير حجر واحد بين أحشاء عشر حيات؛ ولهذا فقد غلا ثمن هذا الحجر حتى إنه يبلغ في بلاده ألفي جنيه، ولا يوجد منه إلا لدى بعض الأفراد، فإذا شرب أحد الناس مثل هذا السم الذي شربته ابنة عمي فإنه لا علاج له إلا هذا الحجر، وذلك أنه يوضع في قدح ماء فتنحل أجزاؤه في الماء ويصبح أزرق بلون الحجر المذاب فيه، فإذا شرب المسموم المزيج شفي للحال، ولكن لشفائه شرطا وهو أن هذا الدواء لا يؤثر إلا بعد أن يمر بالمسموم سبعة أيام، وإلا فلا يكون له شيء من التأثير.
فقاطعه روكامبول وقد اضطرب لما رآه من بروده، وقال له: تسمح لي يا سيدي أن أظهر انذهالي مما أراه منك؟ - لماذا؟ - لأني أخبرك أن ابنة عمك قد تجرعت السم وأنها أرادت الموت من أجلك، وإن كنت بريئا من انتحارها، وأنك تعلم أنه لا يوجد للسم الذي شربته إلا دواء واحد، وأن هذا الدواء لا يوجد منه في هذه البلاد، وأنك تعلم جميع هذا يا سيدي، وبدلا أن تيأس لنكد هذه الفتاة ويضيع رشدك لمصابها، أراك تحدثني بتاريخ هذا السم وترياقه دون أن يبدو منك شيء من الاكتراث.
فابتسم المركيز وقال: إن كلمة واحدة تبطل عجبك، وهي أن المركيزة مخطئة بزعمها أن الحجر لا يوجد منه في باريس، ثم مد يده اليسرى وقال لمحادثه، انظر إلى هذا الخاتم الثخين الذي ألبسه في خنصري، وإلى هذا الحجر فيه الذي يشبه الفيروز.
فنظر إليه روكامبول وقال: ما هذا الحجر الأزرق؟ - هو ترياق ذلك السم، وقد اشتريته حين كنت في الهند، وذلك منذ اثني عشر عاما، ولم يخطر لي في بال أنني سأشفي بمذوبه ابنة عمي.
ثم نهض فنهض معه روكامبول وخرج الاثنان إلى منزل الهندية، وفيما هما على الطريق قال له المركيز: إني لا أجد بدا من إخبارك ببعض أمري كي تعلم أني لست بخائن، ولكني شقي تعس؛ ذلك أني سافرت منذ ثلاثة عشر عاما أريد الطواف حول الأرض، فبدأت طوافي بالذهاب إلى هافانا الإسبانية، وتعرفت فيها بعائلة أقمت معها ستة شهور، وهي عائلة امرأتي المركيزة، ثم برحت هافانا إلى الهند بعد أن أحببت التي غدت اليوم امرأتي وعاهدتها على الزواج، فلما وصلت إلى الهند نزلت في منزل عمي والد دابي ذاتها، فأحبتني هذه الفتاة حبا غريبا ورضيت بي زوجا لها، إلا أني كنت منشغل القلب مرتبط العهد، فرجعت إلى هافانا وتزوجت التي كنت أحبها وصحبتها إلى أوروبا، وعشت معها للآن بأحسن عيش وأنا أحسب أني قد برحت من بال ابنة عمي إلى أن أخبرتني اليوم بأمرها، وأنا لم أسمع بذكرها منذ ذلك العهد، أفلا تحسبني شقيا بعد هذا؟
فتلبس روكامبول بلباس الكآبة وقال: الحق إنك جدير بالإشفاق، فإنك السبب في موت الفتاة ولكنك بريء من انتحارها.
فقال المركيز: إنها لا تموت ما زلت أحمل الدواء بيدي. - بل إنها ستموت يا سيدي؛ لأنك سترى أنها لا تريد هذا الدواء. - ولكني أكرهها على شربه. - إنك لا تستطيع إنقاذها إلا إذا أحببتها.
فتنهد المركيز وقال: أيمكن للقلب أن يعلق باثنين، وأنا لا أزال أحب امرأتي كما كنت أحبها يوم الزفاف، ولكني سأنقذ ابنة عمي لأني سأحبها كما يحب الأخ أخته.
وعند ذلك وصلت المركبة إلى منزل الهندية، فدخل الاثنان وجعلا ينتظران قدوم صاحبة المنزل في قاعة الاستقبال، فما طال انتظارهما حتى أقبلت تتهادى وقد استبدلت ملابسها الهندية بملابس باريسية، وتأنقت بالتجمل على جمالها، فباتت فتنة العيون بحيث ذهل المركيز حين رآها وهو يحسب أنه سيرى فتاة همجية من فتيات الهند، أما هي فإنها سلمت على زائريها، ثم قالت لابن عمها باللغة الإنكليزية لجهلها الفرنسوية: إني ألتمس منك خلوة أطلعك فيها على بعض الشئون السرية. ثم اعتذرت من روكامبول وتأبطت ذراع المركيز فدخلت وإياه إلى قاعة أخرى، وبعد أن أوصدت بابها جلست على مقعد شرقي وأجلسته بقربها وقالت: إني أشكرك يا ابن عمي العزيز لإسراعك بتلبية دعوتي، وأرجو أن لا تقاطعني فيما أقول، وأن تصغي إلي أتم الإصغاء فاسمع. إنك حين جئت إلى الهند ونزلت في منزل أبي منذ اثني عشر عاما، كنت عند ذلك في حداثة عمري لا أدرك شيئا من أسرار القلوب وأمور الحياة، وكنت أنت جميل الوجه غض الصبى، وقد طالما سمعت أبي يقول لي «إنك ستتزوجين ابن عمك»، حتى أفضى بي الأمر إلى حبك.
وقد أحببتك وأنا لا أعلم أنك كنت مقيد القلب واللسان، فلما سافرت من عندنا جعلت أتوقع عودتك كل يوم وأعد الساعات والأيام، إلى أن جعلت أعد الأعوام دون أن تعود، ثم علمت السبب في جفائك الطويل، وعلمت أنك تزوجت سواي، ولو لم يحل البحر خصما بيني وبين تلك المرأة في ذلك اليوم الذي علمت فيه هذا المصاب، لهجمت عليها هجوم العقبان الكاسرة وأغمدت خنجرا في صدرها.
اضطرب المركيز وقد رأى الانتقام يتقد في عينيها، ولكنها لم تقل هذا القول حتى عادت إلى الابتسام، وقالت: لا تخشى على امرأتك، فقد أصبحت اليوم غير ما كنت فيه أمس، وصرت متمدنة بعد طول اختلاطي بالمتمدنين، أما الدم الهندي الذي يثور في عروقي ثورة البراكين، وذلك الانتقام الذي كنت أستحل معه قتل النفوس، فقد صرفته لنفسي فلا يتناول شره إلاي، غير أني أحببت أن أتزود بنظرة أخيرة قبل الموت، كي أقول لك إنك ممثل في فؤادي منذ نظرتك النظرة الأولى، ولم تبرح منه إلى الآن، وإني أحببتك اثني عشر عاما كنت تنام ملء جفنيك، ولم أكن أبيت ليلة من حبك إلا بليلة الملسوع.
ولم يكن مثل حبي لك إلا مثل تلك الأمراض الوبيلة التي لا ينجح فيها دواء، ولا سبيل في شفائها إلى حيلة طبيب، وقد أتى ذلك اليوم الذي طفح فيه كأس قنوطي، فرزحت تحت حملي الثقيل وكرهت الحياة، ولم يكن هذا اليوم غير يوم أمس. ثم أخرجت من صدرها زجاجة صغيرة فيها بقية من سائل أحمر، وقالت له: لقد شربت السم النقيع وسأموت بعد ثمانية أيام.
فاصفر وجه المركيز حين نظر إلى الزجاجة، وعلم أنه ذات السم الذي وصفه له روكامبول، فقال لابنة عمه بلهجة حنان صادقة: كلا أيتها الحبيبة، إنك لا تموتين وأنا أحمل هذا الحجر، وهو دواء السم الذي شربتيه، ثم أخذ يدها بين يديه وقال لها: اذكري أن أبوينا كانا أخوين متحابين، فلما لا نقتدي بهما بهذا الحب؟
فصاحت صيحة فرح، ولكن المركيز لم يمهلها أن تتكلم حتى أتم جملته، فقال: ألسنا أبناء هذين الأخوين؟ ألا يجب علي أن أحبك كما أحب أختي؟
فاصفر وجه الهندية، وانطفأ ذلك النور الذي اتقد في عينيها، وقالت: إنك قد جننت دون شك! أتعرض حب الإخاء على فتاة تنتحر ليأسها من الغرام؟ ألق بهذا الخاتم حيث شئت فإنه لا ينقذني من الموت لأني غير طامعة بالحياة.
فركع المركيز أمامها وقال لها: بربك ارجعي عن هذا القصد السيئ، واذكري ما بيننا من صلة النسب. - إني ذكرت هذا النسب وجعلتك وريثي الوحيد، بحيث تزيد ثروتك 30 مليونا بعد ثمانية أيام. - بالله لا تعيدي هذا القول، فإني لا أريد ملايينك بل حياتك.
ووقفت الهندية عند ذلك قائلة: انظر إلي، ألا تجدني حسناء؟ - بل إنك بارعة الجمال. - ألست أجمل من امرأتك؟
فأطرق برأسه إلى الأرض وقال: نعم. - أكنت تحبني لو لم تكن موجودة؟ - محب شغف!
فأنت أنين المتوجع قائلة: وإذا ماتت؟
فقال المركيز بصوت يتهدج: إن المرء قد يحب الأموات، وقد ألبث على حب امرأتي حتى بعد الموت.
فاصفر وجه الهندية من الغيرة، ثم خطر لها خاطر ظهر من بريق عينيها، فقالت: إذا طلبت إليك حلف يمين غليظة قد أوافق على الحياة بعدها، أتقسم لي هذه اليمين أنا التي أموت من أجلك؟ - أقسم لك بما تريدين كي تبقي في قيد الحياة. - إني سأطلعك على أمر هائل يضطرب له قلبك وعقلك، أتقسم لي أن تطيعني طاعة عمياء إلى أن أظهر لك البرهان الجلي عما سأخبرك به؟ - إني أقسم بتربة أبي أن أطيعك فيما تريدين. - إذن فإني أسألك الآن سؤالا. - سلي. - ألم تقل إنه إذا لم تكن امرأتك موجودة فإنك تحبني؟ - نعم، ولا أزال أعيد ما أقول. - وإذا كانت تلك المرأة خائنة لعهدك؟
فصاح المركيز صيحة غضب وقال: احذري من أن تشتميها. - ولكني أقول الحقيقة، وهي أنك ستحبني متى عرفت هذه الحقيقة.
فلم يجب المركيز بحرف، ولكنه قام إلى منضدة لقي عليها خنجرا، فأخذ الخنجر وهو يقول: إنك أخطأت بشرب السم، لأنك لا تموتين بالسم بل بهذا الخنجر.
26
كل من عرف هذا المركيز وخبر أخلاقه وعلم ما فطر عليه من الدعة والسكون ورقة الطبع ينكره أشد الإنكار، وقد رآه يزبد إزباد الجمال، وقد اصفر وجهه ورجفت شفتاه وبرقت عيناه بريق الخنجر المطرب في يده.
وقد أشهر هذا الخنجر وحاول أن يغمده في صدر تلك الفتاة التي جسرت على تدنيس سمعة امرأته، واتهامه بأقبح العيوب، ولكنه رأى ابنة عمه واقفة أمامه تستقبل الموت بابتسام وهي تقول: إذا أبيت أن تنتظر البرهان فاغمد هذا الخنجر في صدري.
وكأن المركيز قد ذكر اليمين التي حلفها، أو هاله ابتسام ابنة عمه للموت وذكرها للبرهان، فرمى الخنجر إلى الأرض وقال وهو يوشك أن يتميز من الغيظ: إذن هاتي برهانك، واعلمي أنه إذا كان كلامك حقا فلست أنت التي تموتين بل هي، وليست هي التي تكون امرأتي بل أنت. - أحق ما تقول؟ - نعم، فأسرعي بالبرهان. - إذن فأصغ إلي، إنك تعلم أن حياتي بيدك الآن، وأني لم يبق لي في هذه الحياة غير سبعة أيام، فإذا لم تجد منذ اليوم إلى اليوم السابع رجلا جاثيا أمام امرأتك يغازلها في منزل غير منزلك، فأبق هذا الخاتم في يدك ودعني أموت. - أتبرهنين لي أيضا على أنها خائنة؟ - نعم، على شرط أن تطيعني كما أقسمت. - إني لا أرجع بقسمي. - إذن فاذكر أنك رجل، وأنه ينبغي على الرجل العاقل عند المصيبة أن يدفن حزنه في أعماق قلبه، وأن يكتم ما يجول في ضميره ولا يظهر سره بين ثنايا وجهه حتى يعثر على البرهان الذي يخرجه من موقفه؛ كي لا يفسح لعدوه مجال الحذر ويصبح مضغة في الأفواه، فإذا عرفت هذا فاذهب الآن إلى منزلك وكن مع امرأتك على ما عودتها، دون أن تبدر منك بادرة تدل على الريبة إلى أن أسلمك هذين المذنبين.
فوقع هذا الكلام وقع الصاعقة على رأس المركيز؛ لأن ابنة عمه كانت تتكلم بلهجة الواثقة المطمئنة وقال: ألا تذكرين لي اسم هذا الرجل؟ - كلا، لم يحن الوقت بعد، ولكني أرد إليك هذا الخنجر الذي كنت تحاول قتلي به، كي تغمده في صدر من خانتك لا في صدري.
ثم أخذت الخنجر عن الأرض وأعطته إياه وهي تقول: اذهب بسلام، وكن حكيما واعمل بما أوصيتك.
فأخذ الخنجر من يدها وقال: سأطيعك فيما تريدين، ولكن اعلمي أن هذا الخنجر لا بد له أن يدفن في قلب واحدة منكما، فإما أن يغمد في صدر النمامة الكاذبة، أو يخترق قلب الخادعة الخائنة.
ثم انصرف يمشي لاضطرابه مشية السكران، فشيعته ابنة عمه إلى الباب وبقيت تودعه بالنظر إلى أن غاب عن عينيها، فعادت إلى روكامبول الذي كان ينتظر في القاعة على أحر من جمر الغضا، فقال لها: أمضى؟ - نعم، لقد ذهب واليأس ملء فؤاده، وهو واثق من خيانة امرأته، ولكنه يطلب البرهان.
فأجابها روكامبول ببرود: إنه سيرى خيانة امرأته بالعين. - أواثق أنت مما تقول؟ لأن بهذا البرهان تتعلق حياتي. - إني واثق ملء الثقة، فإن ثروتنا متوقفة أيضا عليه. - ولكنك تجهل أمرا، وهو إذا وجد امرأته برئية فإني مائتة لا محالة. - كيف ذلك؟ - أولا إنه يقتلني. - وإذا منعناه عن قتلك، فكيف تموتين وأنت لم تشربي السم به؟ - ذلك لأني سأشربه. - وأية فائدة من شربه؟ - إن الحجر الأزرق الذي يشفي شارب السم يقتل مذوبه من لم يشربه، فإذا أراد أن يشفيني بعد سبعة أيام وسقاني محلول الحجر الذي في يده، ولم أكن قد شربت السم فإني أموت، وإذا كنت قد شربته فإني أشفى، وفي كل حال لقد عولت متى يئست من الزواج به على الموت. - اطمئني، فإنك ستتزوجين به.
فأخرجت الهندية عند ذلك زجاجة السم من صدرها وشربت ما فيها دفعة واحدة، ثم وضعتها بسكينة على المنضدة وقالت: لا يحييني الآن إلا حجره الأزرق.
فقال روكامبول وقد كان يثق ثقة عمياء بقريحة أستاذه: قلت لك اطمئني، فستكوني زوجة المركيز.
27
ولنعد الآن إلى باكارا، فإنها بعد أن اشترت من الفيروزة منزلها القديم وأطلقت سراحها، بقيت وحدها في المنزل، كان أول ما فعلته أنها طردت جميع من كان فيه من الخدم، ولكنها أبقت خادمة غرفة الفيروزة، وهى تؤمل أن تعلم منها شيئا من أسرار سيدتها، إلا أن أندريا كان يتوقع حدوث جميع ما مر من الحوادث، فأحضر للفيروزة خادمة جديدة، فلما سألتها باكارا عن سيدتها القديمة أخبرتها جميع ما حدث بالأمس بينها وبين فرناند، وكيف أنها لبست بعد ذهابه لباس العاملات ، وعزمت على مبارحة القصر والإقامة في غرفة صغيرة تعيش فيها من كسب أيديها، فلم تستفد منها باكارا شيئا، ولكنها أبقتها في عملها وقالت لها: سيحضر غدا فرناند، فمتى حضر أدخليه إلى قاعة الاستقبال، ولا تذكري له شيئا من أمري.
فامتثلت الخادمة، وأقامت باكارا طول ليلها ساهرة وهي تعمل الفكرة في طريقة تنقذ بها فرناند، وترد قلبه إلى زوجته وولده.
ولما كانت الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، أقبل فرناند حسب اتفاقه مع الفيروزة، وفيما هو منتظر إذ فتح الباب ودخلت منه باكارا وهي بالملابس التي كانت تلبسها في عهد غوايتها السابقة، فما صدق نظره حين رآها إلى أن أقبلت إليه تبتسم ومدت له يدها للسلام، فتلعثم لسان فرناند وقال: من أرى هنا، ألست مدام شارمت؟
لقد خدعتك عيناك، فإني كنت بالأمس مدام شارمت، أما اليوم فإني باكارا. ثم قدمت كرسيا لفرناند وقالت له: أشكرك لأنك أول قادم يهنئني بالعودة إلى حياتي السابقة، وقد تفاءلت خيرا بقدومك.
فبهت فرناند وقال: ماذا أسمع، ألعلك جننت؟
فابتسمت باكارا وقالت: ألمثل هذا أتيتني في هذه الساعة المتقدمة من الصباح؟
فزاد انذهال فرناند ولم يعلم كيف يجيب، فقالت: ما هذا السكوت؟ ألعلك لم تكن تتوقع أن تراني هنا وأنت آت لترى الفيروزة؟
فاضطرب فرناند وقال: ربما ... - لقد ساء فألك؛ فإن الفيروزة قد باعتني هذا المنزل وبرحته منذ أمس. ألا تذكر هذا المنزل حين كان لي من قبل وكنت فيه؟
قال فرناند: كفى مزاحا، وأوضحي لي هذه الألغاز. - إني لا أمزح. ولا ألغاز، فإن المنزل قد اشتريته والفيروزة برحته.
فزاد انذهال فرناند وقال: أنت التي كنت مثال الفضيلة والطهارة أربعة أعوام، لا يذكرك الناس إلا بالخير والثناء، أتستطعين العودة إلى حياتك السابقة؟
فقهقهت باكارا ضاحكة: لا تكثر المواعظ والنصح؛ فقد تجد أولى مني بهما، بل أصغ لهذا الحديث الذي أقصه عليك، فقد كان في سالف الزمن امرأة مكروهة ينظر إليها الناس نظرات الاحتقار لاسترسالها للغي والضلال، واتفق يوما أنها رأت في السماء الزرقاء نجمة تضيء، وكانت هذه النجمة نجمة الحب، وكان الرجل الذي أحبته موظفا فقيرا ولكنه كان يحب فتاة طاهرة نقية، ويرجو الاقتران بها ...
فقاطعها فرناند وقال: كفى، لقد علمت من تعنين. - إذا كنت عرفته فسأقص الغرض من سرد الحكاية. فاعلم أن هذه المرأة ارتكبت جريمة من أجل من تحب، ثم ندمت على ما فعلت فأنقذت من تحبه وسهلت له طرق الاقتران بالفتاة التي كان يحبها، ولما رأته سعيدا بالقرب منها تابت إلى الله عن حياتها السابقة توبة صادقة، وخلعت عنها اسم باكارا فاستبدلته باسم مدام شارمت.
فقال لها فرناند: أرأيت كيف أنك تمزحين، فإنك ما تزالين مدام شارمت. - لقد خدعت أيها الحبيب؛ فإن الحب قد ردني عن حياتي السابقة، وهذا الحب قد أعادني إليها، ولا تعجب لما أقول؛ فإني لما رأيت من قبل خصيمتي فيك كانت فتاة طاهرة رجعت القهقرى، ولبست حلة الفضيلة ولم تكن في الحقيقة غير حلة لليأس، أما وقد باتت تلك الخصيمة من بنات الهوى، وهي لا توازيني في شيء بل هي فتاة ساقطة لا أدب لها ولا شرف ...
فصرخ بها فرناند يقول: كفى، فإنك تهينين التي أحبها.
أما باكارا فإنها لما سمعت إقراره وجف فؤادها، فوضعت يدها على جبهتها ولبثت صامتة وهي أشبه بالأموات، إلا أن فرناند لم يكترث لما حل بها فقال: إذا كان هذا المنزل منزلك كما تقولين، فهل لك أن تخبريني أين ذهبت صاحبته القديمة؟
فقالت باكارا بعظمة: معاذ الله أن أكتم عنك محلها، فإنها تقيم في شارع بلانتين نمرة 17. ثم صرفته بإشارة من يدها، فانحنى مسلما ومضى.
فلما أصبحت وحدها، وجعلت الدموع تسيل من عينيها وهي تقول: رباه، إني أردت إقناعه بالحجة والبرهان، فتغلبت عواطف قلبي على عقلي.
28
بعد ذلك بساعتين وقفت مركبة باكارا أمام منزل أختها سريز، فخرجت منها ودخلت إلى المنزل، فوجدت أختها على أسوأ حال وقد قرح البكاء جفنيها، وبعد حديث طويل علمت منها أن زوجها ليون وقع في شرك إحدى العاملات، وأنها كتبت إليه بالأمس كتابا قاطعته فيه، فتمكن منه القنوط حتى عول على الانتحار، ثم أخبرتها أنه أراد أن يلقي بنفسه من النافذة وهو يحسبها نائمة، فوثبت إليه ولم تتمكن من إرجاعه عن قصده إلا بعد أن ذكرت له ولده الصغير، فحن فؤاده وذهب إلى الطفل النائم وجعل يقبله وهو يبكي بكاء الأطفال، ثم خرج من المنزل بعد أن عاهدها على أن لا يقدم على الانتحار.
فعجبت باكارا وأشفقت على أختها ثم سألتها: كيف علمت بهذا الكتاب الذي ورد إليه؟ - رأيته في جيبه.
فسألتها إحضاره، وكان هذا الكتاب الرسالة التي كتبتها الفيروزة في غرفتها عند مدام فيبار، ولما وقفت عليها باكارا وتأملت بخطه، صاحت صيحة منكرة وقالت: الخط واحد والمرأتان واحدة، فما هذا السر؟
ثم افتكرت هنيهة وعادت إلى أختها فقبلتها وهي تقول: اطمئني أيتها الأخت العزيزة، فإن ليون سيعود إلى حبك ويرجع عن هذه الداهية في أقرب حين.
وحاولت سريز أن تعلم من أختها شيئا عما ذكرته من اتفاق الخطين والمرأتين، ولكن باكارا لم تجبها بشيء، بل اقتصرت على تطمينها وخرجت فركبت مركبتها وذهبت إلى منزلها الذي كانت تقيم فيه باسم مدام شارمت، فسألت الخادمة إذا كان قد زارها أحد في مدة غيابها، فأجابت: لقد أتى الفيكونت أندريا أمس مرتين، وقد أتى اليوم أيضا منذ ساعة وترك لك هذه الرسالة. ففضتها باكارا وقرأت ما يأتي:
سيدتي
لدي كثير من الشئون الخطيرة الخاصة بالجمعية السرية يجب إطلاعك عليها، وأن أراك في القريب العاجل.
الإمضاء
أخوك بالتوبة: أندريا
فمزقت الرسالة وألقتها في النار وقالت للخادمة: إذا جاء يسأل عني فقولي له أني لست بالمنزل. ثم دعت جميع الخدم وقالت لهم: إني قد أبيع هذا المنزل وقد أبقيه، وأغيب عنه عدة أيام، فإذا أبقيته فإنكم تبقون في خدمتي، وإذا بعته أطلقت سبيلكم وكافأتكم خير مكافأة.
فأسرعت الفتاة اليهودية إليها بعد خروج الخدم وقالت لها: وأنا ماذا تصنعين بي؟ - إنك ستكونين معي حيث أكون.
فأظهرت لها فرحا عظيما وجعلت تبكي، فسألتها باكارا عن السبب في بكائها، فقالت لها: ذلك لأني خفت خوفا شديدا من الرجل الذي زارك أمس واليوم، وترك لك الرسالة. - لماذا خفت منه؟ - لأنه كان ينظر إلي نظرات ذلك الرجل الذي كان ينومني تنويما مغنطيسيا كل ليلة بالرغم عني.
فعجبت باكارا لأمرها وسألتها: من هو هذا الرجل؟
فحكت لها اليهودية حكايتها، وخلاصتها أن أحد المشتغلين بصناعة التنويم كان يعطي أمها كل يوم عشرة فرنكات كي تأذن له بتنويم ابنتها.
فزاد عجب باكارا وسألتها: أكنت تنامين؟ - لم أكن أريد النوم، ولكنه كان يحدق بي تحديقا شديدا، فأنام مكرهة وحين أصحو من الرقاد الكاذب كانت أمي تقبلني ضاحكة وهي تقول: إنك قابلة للتنويم، وستكفينا شر الفقر.
وكانت باكارا مصغية لحديث الفتاة أتم الإصغاء، ثم غاصت في تأملاتها وذكرت أنها كانت تستخدم هذا النوم في أيامها السابقة لتعلم حقيقة أميال عشاقها، ثم ذكرت أن الذين كانوا ينامون هذا النوم كانوا يخطئون في معرفة خفايا القلوب مرات، ولكنهم كانوا مصيبون في بعض الأحيان، وعند ذلك برقت أسرتها بأشعة الأمل وقالت في نفسها سوف أرى؛ فقد أقف على أسرار أندريا بتنويم هذه الفتاة.
29
ثم عادت إلى الفتاة الإسرائيلية، وبعد سكوت قليل دار بينهما الحديث الآتي، فقالت باكارا: إذن فإن هذا الرجل كان ينومك؟ - نعم يا سيدتي. - أكنت تخافين؟ - خوفا شديدا. - ولو خطر لي أن أنومك، ألا تخافين أيضا؟ - كلا، بل أنام بملء السرور؛ لأني أحبك ولا أخافك. - إذن فاجلسي أمامي.
فامتثلت الفتاة وذهبت باكارا وأوصدت الباب والنوافذ، ثم عادت وجلست أمام الفتاة وحدقت بها تحديقا طويلا، وهي تقول لها: نامي. فكانت الفتاة تنظر إليها وهي لا تستطيع أن تقاوم نظراتها، وما زالت تحدق بها وهي تأمرها بالنوم حتى تثاقلت عيناها، ثم أطبقت جفنيها وسقط رأسها على جانب الكرسي، فشعرت باكارا بسرور عظيم وقالت للفتاة النائمة: أنائمة أنت؟ فأجابتها وهي مغمضة العينين قائلة: نعم.
ودار بينهما ذلك الحديث التالي، فسألتها باكارا: أي نوم تنامين؟ - النوم الذي أمرتني أن أنامه. - انظري إلي، وقولي لي ماذا ترين، وبأي شيء أفتكر؟ - إنك تفتكرين به. - بمن؟ - بذلك الرجل الذي أتى، وكان ينظر إلي. - أترين هذا الرجل؟ - نعم، نعم، إني أراه! - أين هو؟ - لا أعلم، إني لا أراه جيدا. اصبري ... إنه يسير في شارع كبير عريض. ثم مدت يدها مشيرة إلى الغرب. - أترين كنيسة في هذا الشارع؟ - نعم. - أين يذهب هذا الرجل؟ - إنه يمشي مسرعا، إنه يسرع جدا. هي ذي مركبة. - أصعد إلى المركبة؟ - كلا، بل إنه صادفها.
ثم كأن هذه الفتاة النائمة قد انصرفت أفكارها إلى المركبة ومن كان بها، فأخذت تقول: ما أجمل هذه المرأة! - أية امرأة تعنين؟ - إنها امرأة جميلة لم أرها من قبل. - إذن، فلماذا انصرف فكرك إليها؟ - لأنها آتية إلى هنا. - إلى هنا! إلى منزلي؟ - نعم، وهي جميلة جدا ولكنها شديدة الحزن. - ولماذا هي حزينة؟
فوضعت الإسرائيلية يدها على قلبها وقالت: لأنها تشكو. - ألم تعرفيها؟ - كلا، ولكنها قد أتت من قبل إلى منزلك. - أكانت تزورني دائما؟ - كلا، فإنها لم تزرك غير مرة واحدة. - وهي آتية إلى منزلي كما تقولين؟ - نعم، فإني أراها قادمة، وهذه مركبتها الجميلة قد مرت فوق الجسر، إنها تجاوزته، مرت بالشارع الجديد الموصل إلى منزلك، إنها دنت من المنزل وأنه أراها الآن جليا. ما أسرع هذه الجياد! وما أجمل هذه المركبة! ها هي قد قربت من الباب. وقفت أمام باب منزلك.
فدهشت باكارا دهشة عظيمة لأنها سمعت صوت مركبة وقفت على باب منزلها، وبعد هنيهة دخلت الخادمة تحمل بيدها بطاقة المركيزة فان هوب، فقالت لها: اذهبي بها إلى قاعة الاستقبال وقولي لها أني قادمة في الحال.
ثم عادت إلى الفتاة فسألتها: من يوجد عندي في قاعة الاستقبال؟ - هي هي التي رأيتها في المركبة. - ماذا ترين بها؟ - انقباضا شديدا. - أتعلمين أسباب حزنها؟ - نعم، فإنها تحب. - انظري إليها وانبئيني عن أحوالها.
فلم تجب الفتاة في البدء، ولكنها ما لبثت أن تراجعت منذعرة إلى الوراء وقالت: هذا هو؟ - من هو؟ - الرجل الذي يزورك وينظر إلي نظرات تخيفني.
فعلمت باكارا أنها تقصد أندريا فقالت لها: أين ترينه؟ - إنه يصعد سلم منزل في الشارع مع رجل في مقتبل الشباب. - بماذا يتحدثان؟ - بها، بتلك المرأة الحزينة التي أتت إليك.
فعلمت باكارا أن أفكار الفتاة لم تنصرف إلى أندريا إلا لعلاقته بالمركيزة، فقالت لها: ماذا يقولان عنها؟ - لا أعلم، لا أفهم شيئا، ولكنهما يريدان قتلها.
فاضطربت باكارا وقالت: لماذا؟ انظري جيدا في نفسيهما. - لا أعلم، إني لم أعد أرى شيئا. ثم سقط رأسها على كتفيها واستغرقت في سبات نوم عميق، وكانت باكارا تعلم أن التنويم المغناطيسي لا يصلح أن يسمى علما صحيحا يبسط أسرار المستقبل، ويكشف خفايا القلوب، ولكنه قد يدل بعض الدلالة على تلك الأسرار ويصدق في بعض الأمور، كما اتفق صدق الفتاة حين أشارت إلى قدوم المركيزة، فانقطعت عن سؤال الفتاة، وتركتها نائمة في الغرفة، ثم ذهبت لاستقبال زائرتها فوجدتها حزينة منقبضة الصدر كما قالت لها اليهودية.
وكانت المركيزة قد زارت باكارا كي تسألها عن تلك الفتاة التي كلفتها بإرسال إحسانها إليها والسؤال عنها، وأخبرتها باكارا أنها أتمت المهمة التي انتدبتها لها، وذكرت لها عن أخلاق الفتاة ما رغبها باستخدامها في منزلها، وطلبت أن تراها فلم يسع باكارا إلا الامتثال، وذهبت معها إلى حيث تقيم تلك الفتاة البائسة لتختبرها بنفسها.
وبينما كانتا ذاهبتين بالمركبة، مر بهما فارس كان يمتطي جوادا كريما، ولما رأى المركيزة رفع قبعته وحياها بمنتهى الاحترام، فردت المركيزة تحيته وقد عبق وجهها، ثم اصفرت وبرقت عينها بريقا يدل على كره الفارس، فلم يغب عن باكارا شيء من اضطرابها، وخطر في بالها ما قالته لها الفتاة الإسرائيلية عن حزن المركيزة وحبها، فحسبت أنها مولعة بهذا الفارس الذي حياها، فطبع رسمه في ذاكرتها.
وبعد ذلك بساعة عادت باكارا بعد أن قضت مهمة المركيزة، وفيما هي عائدة رأت ذلك الفارس نفسه يسير بجواده الهوينا، فخطر لها أن تعرف اسمه، وللحال نادت السائق وأمرته أن يقفو أثره على مسافة بعيدة، فامتثل وما زال يسير متعقبا الفارس حتى بلغ إلى منزله، وأسرع أحد الخدم فأخذ الجواد ودخل سيده إلى المنزل.
أما باكارا فإنها نادت حمالا كان واقفا على قارعة الطريق، فسألته: أتعرف هذا الرجل الذي كان يمتطي جوادا، ودخل إلى المنزل؟
فقال لها: نعم، إني أعرفه فهو الكونت دي كامبول، وقد أخبرني خادمه أنه تبارز منذ ثلاثة أيام مع رجل فجرحه.
وعادت باكارا وقد كادت تشرف على هذا الخطر الذي كان ينذر المركيزة، بحيث تكفيها كلمة واحدة لإماطة الحجاب عن هذا السر الخطير.
30
وفي اليوم التالي أظهرت باكارا لجميع عارفيها أنها عادت إلى حياتها السابقة وعادت عن توبتها، وذلك أنها خرجت مع صديقة قديمة لها من بنات الهوى الشهيرات، وتزيت بزيها وانطلقت تجول في المنتزهات المألوفة، ولم تغرب شمس ذلك اليوم حتى عرف جميع أهل المجون بهذا الانقلاب الغريب، أما باكارا فإنها عادت إلى منزلها واليأس ملء قلبها؛ لأنها خشيت أن لا تفوز بما تسعى إليه من الخير فتخسر سمعتها الصالحة، وتسقط إلى الحضيض، ولما دخلت إلى غرفتها أخبرتها الخادمة أن الفيكونت أندريا ينتظرها في القاعة. فاضطرب فؤادها عند ذكره وقالت لها: دعيه ينتظر. ثم أحضرت الفتاة الإسرائيلية فنومتها حتى إذا نامت دار بينهما الحديث الآتي، فسألتها باكارا: أتستطيعين أن تنظري ما وراء هذا الجدار؟
فقالت الفتاة النائمة: نعم. - إذن فانظري إلى قاعة الاستقبال وأخبريني من تجدين فيها.
فأجفلت الفتاة وهي مغمضة العينين وقالت: هو ... هو! - من هو؟ - الرجل الذي ينظر إلي ويخيفني. - أتقدرين أن تنظري إلى نفس هذا الرجل وتعلمي ما يجول فيها. - لا أجد غير الظلام، ولكنه يفتكر بأمور سافلة. - أيكرهني؟ - كما يكره الموت. - أيكره سواي أيضا؟ - نعم، نعم، أجد رجلا عالي القامة أسمر اللون، يكرهه أكثر مما يكرهك.
فعلمت باكارا أن هذا الرجل هو أخوه الكونت دي كركاز، فسألتها: أيفتكر بي الآن؟ - كلا. - ألعله يفتكر بالرجل الأسمر؟ - كلا. - إذن بمن يفتكر؟
فاضطربت الفتاة اضطرابا شديدا وقالت: إنه يفتكر بي أنا.
31
وكان أندريا قد هاله انقلاب باكارا الفجائي، وأمعن الفكرة في هذا الانقلاب؛ فلم يهتد إلى سبب، ولم يعلم مرادها منه، وقد بقي طول ليلته مفكرا مهموما تتردد في مخيلته ثلاث مسائل: أصدقت باكارا توبته؟ وهل توبتها صادقة وقد رجعت عنها بالظاهر كي تنقذ فرناند من مخالب الفيروزة، أم أنها عادت حقيقة إلى حياتها السابقة لما رأته من خيانة فرناند لامرأته؟
وقد كان يرجح هذا الفكر الأخير لاعتقاده أن الغيرة حملتها على نقض توبتها، ولكنه بقي مشككا في أمرها، وقال في نفسه: إنني سأزورها؛ فإذا كانت تريد حقيقة إنقاذ فرناند فلا بد لها أن تطلعني على قصدها كي أشاركها في إنقاذه، فإني أنا الذي أخبرها بهذا السر، وإذا كتمت عني ما تبذله من المساعي لا يبقى لدي ريب باحتراسها مني وعدم وثوقها من توبتي.
ولكنه لم يطمئن له خاطر لأنه كان يخشاها لما عرفه من شدة دهائها، وبقي يمعن الفكرة إلى الصباح، فلم يغمض له جفن حتى استقر على رأي وهو الحكم بالموت على باكارا؛ وذلك لاعتقاده أنها إذا عرفت بمقاصده فلا بد من موتها، وإذا كانت تعتقد بصدق توبته فلا بد من موتها أيضا كي لا تزاحمه بغيرتها.
وقد تركناه في منزل باكارا الجديد، وإنما قدم إليها لسببين: أحدهما بغية الوقوف على أسرارها، والآخر رجاؤه أن يرى تلك الفتاة اليهودية التي عزم على اختطافها لما لقي من حبها، فإن هذا الرجل الذي جردته أمياله الشريرة من عواطف الإنسانية لم يلبث أن رأى تلك الفتاة حتى شغف بها شغفا لم يكن يخطر له في بال، وكان إذا رآها يضطرب وتبدو علائم غرامه الفاسد بين ثنايا وجهه، وبمثل هذا الاضراب تمكنت باكارا من الشك والريبة بإخلاصه في توبته.
وأما باكارا فإنها لما علمت من اليهودية حين نومتها ما أرادت أن تعلمه، تركتها وأقبلت إلى قاعة الاستقبال التي كان ينتظرها أندريا فيها، فتظاهرت بالاندهاش حين رؤياه، ثم اعتذرت إليه لتأخرها عن الحضور.
وذهل أندريا لما رآه من مظاهر انقلابها ولباسها الجديد، أما هي فإنها دنت منه وقالت له: إنك يا سيدي الفيكونت كنت في مقدمة المذنبين، ثم أصبحت على أتم الصلاح، فلا بد لك من أن تشفق على خاطئة مثلي إذا كان قد دعاها الحب إلى التوبة، فقد حملها هذا المحب نفسه على نقضها؛ وذلك أني حين علمت أن فرناند مولع ببغي مثلي، خلعت ثوب التوبة وعدت إلى البغي، أي إني كنت مدام شارمت فأصبحت باكارا، والآن وقد بات يفصل بيني وبينك هوة عميقة، وإنك ستشفق علي دون ريب لصلاحك، ولكنك لا تراني بعد الآن، أليس كذلك؟
ثم تراجعت عنه والتفتت إلى صديقة لها كانت أتت لزيارتها، فقالت لها: أتذهبين معي إلى الغرفة؟
فلبس أندريا قبعته وخرج مطرق الرأس، وهو يقول بصوت مرتفع كي تسمعه: ليأخذ الله بيدك ويرشدك إلى محجة الصواب. ثم خرج من المنزل، وذهب إلى الفيروزة وهو مقتنع بأن باكارا واثقة من توبته أشد الوثوق.
وبعد حين خرجت باكارا مع صديقتها القديمة، فركبت مركبة ذهبت بهما إلى غابة بولينا، وكان من يعرفها من المتنزهين ينظر إليها، وهو منذهل مما يراه من رجوعها إلى سبل الفساد بعد أن اشتهرت بتوبتها منذ أربعة أعوام.
وكان بين المتنزهين رجل يقال له البارون دي مينيرف، يصحب في مركبته شابا روسيا يدعى الكونت أرتوف، فلما رأى باكارا مع إحدى بنات الهوى لم يتمالك عن إظهار دهشته ولفظ اسمها، فقال له الروسي: من هي باكارا؟ ولماذا انذهلت حين رأيتها؟ - عجبا! ألم تسمع بهذه الفتاة؟ - كلا، فإني ما برحت بطرسبرج إلا منذ بضعة أسابيع. - ألم تسمع بها في تلك العاصمة؛ فإن اسمها قد اشتهر في جميع العواصم. ثم سأله وقد تنبه إلى حداثة سنه: كم عمرك؟ - عشرون عاما. - لقد كنت صبيا في عهد هذه الفاتنة، فإنها أشد أمثالها خطرا، وهي زكية اللسان رشيقة التعابير، حتى إن رجال المراسح يختلفون إليها كي يسرقوا من ألفاظها ما يدمجونه في سلك رواياتهم، ولقد فتن بها كثير من الأمراء وأعاظم الرجال، فإن أحد كبار الموسيقيين بلغ به هواها إلى الجنون ولا يزال مجنونا إلى الآن، والبارون ... باع ما لديه لإرضائها ثم انتحر بعد إفلاسه، والبرنس لي ... قتل نفسه في سبيلها.
فارتعد الكونت وقال: ما هذه المرأة؟ ألعلها دون قلب؟ - هو ذاك أيها الصبي، فإذا أحببت أن أعرفك بها فأسرع بجوادك كي ندركها.
فامتثل الروسي وسار الاثنان يعدو بهما الجوادان حتى وقفت المركبة في ظل شجرة باسقة، فدنا البارون مع رفيقه من المركبة وقال: إنها باكارا ولم أخطئ.
فالتفتت باكارا، ولما رأت البارون قالت: هي بعينها وقد انبعثت، ولكن بعثها سر من الأسرار. - ولكنك ستبوحين لي بهذا السر في غير هذا المكان. ثم أشار إلى رفيقه وقال لها: إني أقدم لك صديقي الكونت أرتوف، وهو شاب روسي لا يعلم عدد ما لديه من القرى، وقد أنفق عمره وهو يحصي عدد الفلاحين في أراضيه، ولم يبلغ إلى المجموع بعد.
فأحنت باكارا رأسها وحيته باحترام، فقال لها البارون: هو ذا رجل لا يتيسر لك أن تلقيه في مهاوي الإفلاس.
فقالت له ضاحكة: إذن سيكون شاذا عن القاعدة، وفي كل حال فسنرى فإني سأحتفل بتدشين منزلي القديم وعيشي الجديد بعد يوم، وأنا أبدأ بدعوتكما كي تكونا في مقدمة المدعوين.
فحياها البارون والكونت، وانصرفا إلى النادي الذي يجتمعان مع أصحابهما فيه.
32
وكان في ذلك النادي كثيرون من أصدقائهم، وبينهم روكامبول باسم الكونت كامبول، وشاروبيم باسم البارون دي فرني وغيرهما، فلما دخلا إلى النادي وجدا أعضاءه، وكلهم في مقتبل الشباب، يتحدثون بشأن باكارا ورجوعها عن توبتها، وهم بين مصدق ومشكك. فكان أحدهم يقول: إني رأيتها اليوم في غابات بولونيا مع إحدى بنات الهوى. فيناقضه آخر ويقول: أنى ذلك! وقد شبهت لك. ثم يقول آخر: قد تكون صحبت تلك المرأة لغرض من الأغراض.
وما زالوا بين مصدق ومكذب إلى أن دخل البارون دي مينرف والكونت أرتوف الروسي، فلما سمعهم البارون يتجادلون، وكان روكامبول من فريق المنكرين، قال له: إنك مخطئ في اعتقادك، فقد رأيت باكارا بعيني وكلمتها.
فظن روكامبول أن لأندريا يدا في رجوعها إلى حياتها السابقة، وسكت عن الاعتراض، فقال معظم الحاضرين: ولكن كيف رجعت عن توبتها؟ وهل هي غنية؟ - لا أعلم، ولكنها إذا لم تكن غنية فسيكون لها من أموال صديقي الكونت ما تشاء.
وأشار إلى الكونت الروسي، فقال الكونت: قد تنال مني ما تريد ، ولكني لم أقرر شيئا بعد بشأنها.
فقال له شاروبيم: حسنا فعلت. - لماذا؟ - لا بد لي قبل ذلك أن أخبرك بشيء من أحوالي وماضي حياتي ومهنتي. فاعلم أني إسباني الأصل، أميركي المولد، باريسي الموطن، غير أن نسبي يتصل بالدون جيان، ومهنتي غواية النساء كما كان يصنع جدي الذي أنتسب إليه.
فضحك الحاضرون لمزاحه، أما شاروبيم فإنه عاد إلى حديثه فقال: ولقد خدعت كثيرا من النساء، ولكني لا أزال طامحا إلى غواية اثنتين، إحداهما كليوباترا ملكة مصر.
فضحك الجميع ضحكا شديدا، ثم طلبوا إليه أن يخبرهم باسم الثانية، فقال: هي باكارا المعروفة بأنها دون قلب، إلا أنه كان يفصلني عن كليوباترا ما بيني وبينها من الأدهار، وكان يفصلني عن باكارا عيشتها الطاهرة وتوبتها التي لم يكن يشك أحد بصدقها، أما وقد عادت إلى العيش، فلا يفصلني عنها شيء بعد الآن.
فقال له البارون صديق الروسي: إنك ستضيع وقتك عبثا، فإن باكارا لا تحب سوى الذهب، ومهما بلغ من جمالك فإنك لا تبلغ شيئا من قلبها، ولو تلبست بلباس جدك الدون جيان؛ لأنها دون قلب، ومن كان مفلسا فإن الملوك أنفسهم لا تستطيع نيل حق منه. - ولكني سأعرف أين أجد منها حقوقي.
فانبرى له عند ذلك الكونت الروسي وقال له: أتأذن لي بكلمة؟ - بل بعشرين. - إنك تدعي أنك قادر على غواية باكارا. - لا أدعي ذلك ادعاء، بل أعتقده اعتقادا. - ألعلك واسع الثروة؟ - كلا، فإن إيرادي لا يتجاوز ثلاثين ألف فرنك في العام. - أما أنا، فإن إيرادي يبلغ عشرين مليونا، وربما تجاوز هذا القدر، وقد عزمت على أن تكون لي. - إذن فستفعل فعلي. - نعم، فهل لك أن تعقد رهانا بسيطا؟ - أجل، بملء الرضى. - إني أمهلك خمسة عشر يوما، فإذا ظفرت بفؤادها وحملتها على حبك، فإني أدفع لك خمسمائة ألف فرنك في هذا المكان الذي نحن فيه. - أقبل.
فصاح الجميع قائلين: وإذا خسر الرهان؟
فأجاب الروسي ببرود: إنه ليس بغني أراهنه على المال، ولكنه إذا لم يفز بحمل باكارا على حبه بعد هذا الأجل المعين ، فإني أقتله.
فأجفل الحاضرون، وقد رأوا من ملامح الكونت الروسي أن وجهه يتجهم من الغضب، وأنه لم يمزح فيما يقول، وقالوا لشاروبيم: ماذا تقول في هذا الاقتراح؟ - إنه شرط صعب يقتضي له الإمعان والتفكير.
وقال البارون دي مينرف: بل إن تنفيذه محال.
فقال الروسي: لماذا؟ - لأننا في فرنسا، وهي بلاد لا تأذن شرائعها لأحد ببيع النفوس وشرائها، فإذا قبل شاروبيم أن تقتله، فإن الشريعة الفرنسية لا تقبل. - إني درست شرائع بلادكم، وأنا أعلم منها ما تعلمون. إلا أني أجد لهذه العقدة حلا بسيطا يتيسر فيه بيع النفوس، وذلك أنه إذا خسر خصمي الرهان تبارزت وإياه بالمسدسات، إلا أن مسدسه يكون خاليا من الرصاص ومسدسي محشوا، فيموت في عين الحكومة موت المبارز، وفي عين الحقيقة موت الخاسر في وجميعكم من أهل النبل والشرف، فإذا قتلته على هذا الشكل، فإنكم تكتمون دون ريب حقيقة السبب في قتله.
وصاح الجميع: كلا إن هذا محال! - إذن فليرجع عن قصده.
فقال شاروبيم: كلا، إني لا أرجع عنه. - إذن إنك تقبل شرطي، إلا إذا كنت تخشى الفشل بالرهان. - أقبل بشرطك.
وأقبل الجميع على شاروبيم يسألونه التروي والإمعان، ولكنه بقي مصرا على ما قال، إلى أن رأى روكامبول أنه قد استفحل، وأن هزله قد انقلب إلى جد، فتقدم من الكونت الروسي وقال له: إن المسيو شاروبيم نسي حين راهنك يا سيدي على حياته، أنه مقيد بتعهد لا يستطيع الإفلات منه، ورجائي أن لا تعتبر هذا الرهان جديا إلا بعد أن أخلو هنيهة معه، وأخابره بشأن خاص. - ليكن ما تريد.
فأخذ روكامبول شاروبيم ودخل به إلى إحدى غرف النادي وقال له: ويحك ماذا فعلت؟ أتخاطر بحياتك من أجل مبلغ من المال ستربح ضعفه دون عناء؟ وبعد فكيف تخاطر بحياتك وهي ليست لك!
فدهش شاروبيم وقال: إذا لم تكن حياتي لي، فلمن تكون؟ - إنها لنا، أي للجمعية، فإذا لم يأذن لك الرئيس بعقد هذا الرهان فلا حق لك بعقده. - ولو رفض هذا الريئس وأبيت الامتثال، فماذا يكون؟ - يكون أنك لا تنال الموت من مسدس روسي بل من خنجر فرنسي، ولا أعلم من يقتلك، ولكنك إذا أبيت الامتثال فإنك مائت لا محالة. - ومتى يصدر أمر الرئيس؟ - في الغد. - إذن أنتظر للغد.
وعاد به روكامبول إلى القاعة وقال للروسي: لقد قضي الأمر يا سيدي. - كيف؟ أبالرفض أم بالقبول؟ - لا هذا وذاك، ولكنه سيتمعن في هذا الشأن إلى الغد. - إني أمهله إلى الغد، بشرط أن يحق لي زيارة باكارا في المساء. - يحق لك ذلك.
فأخذ الروسي يد صديقه البارون ثم حيا الحاضرين وانصرف.
وبعد ذلك خرج روكامبول وشاروبيم، ثم افترقا على أن يحمل إليه روكامبول جواب الرئيس في الغد، فذهب روكامبول إلى منزله فوجد أندريا ينتظره فيه، فسر روكامبول لرؤياه وقال: لدي أمور خيرة يجب إطلاعك عليها. - ما هي؟ - أولا، إن باكارا خلعت ثوب التوبة وعادت إلى حياتها القديمة. - عرفت ذلك فما لديك أيضا؟ - شاروبيم يريد أن يراهن على حياته، وقد أوقفت هذا الرهان إلى أن أستشيرك.
ثم أخبره بجميع ما حدث، فقطب أندريا جبينه ثم خاض في تأملات عميقة إلى أن استقر على رأي، فقال: ليعقد هذا الرهان، فلا ضرر فيه علينا.
فدهش روكامبول وقال: كيف ذلك؟ - ذلك أنه قبل أن تحضر كنت أفكر في طريقة لقتل باكارا، فلما أخبرتني بهذا الرهان وجدت الطريقة.
ثم أمره أن يخبر شاروبيم أن الرئيس يأذن له بقبول الرهان، وانصرف تاركا روكامبول في أشد الانذهال لما يحيط به من الأسرار.
33
كانت باكارا جالسة في غرفة منزلها الجديد، وبينما هي مستغرقة في خلواتها تسأل الله الغفران عن هذه الحياة الجديدة، التي لم تكن تريد بها سوى إنقاذ فرناند وجميع أشخاص هذه الرواية من مخالب أندريا، إذ سمعت صوت جسم ثقيل قد سقط في الحديقة، فأسرعت إلى النافذة وأطلت منها، فرأت رجلا قد تسلق الجدران وألقى بنفسه منه إلى الحديقة، ثم جعل يمشي إلى المنزل فصعد السلم، وهي تراه دون أن يراها، إلى أن بلغ الغرفة التي هي فيها وقرع بابها بلطف، ففتحت باكارا الباب دون أن تتهيب، ودخل منه هذا الرجل ورفع قبعته مسلما عليها باحترام عظيم.
فاندهشت باكارا حينما رأته، ولكنها قابلته بابتسام ورحبت به ترحيبا لطيفا حل عقدة لسانه، وجعل يعتذر إليها عن قدومه وتسلقه جدار منزلها بأعذار تظاهرت بقبولها.
وكان هذا الرجل الكونت الروسي، وقد أتى ليغزو قلب باكارا متسلحا بملايينه، فلما استقر به المقام جلست باكارا بقربه وخاطبته: كفاك اعتذارا وأصغ لي فإني أعلم بشيء من مقاصدك، وأحب أن أوقفك على شيء من أمري فاسمع.
إنك لقيتني اليوم وهي أول مرة رأيتني فيها فرقت في عينيك، ودفعتك ثروتك وشهرتي السابقة إلى غزو فؤاد لم يتمكن أحد من الاستيلاء عليه، كما أخبرك صديقك البارون دون ريب، وهو لا بد أن يكون أخبرك بكثير من الأمور الشائعة عني.
فأراد الكونت أن يجيب، ولكنها منعته عن الكلام بإشارة، واستطردت حديثها قائلة: إنك لا تزال أيها الكونت في مقتبل الشباب فتيا لا يتجاوز عمرك العشرين، وهو العمر الذي لا يقف بصاحبه عن حد، أما أنا فقد بلغت السابعة والعشرين، ولكني جريت شوطا بعيدا في مضمار اللهو والغرور، حتى كأني قد بلغت ضعف عمري، وقلبت جميع صفحات الحياة في حين أنك لم تقرأ بعد الصفحة الأولى من كتابها؛ ولهذا فقد حق لي أن أكلمك بلهجة السيادة إذا أذنت. - تكلمي يا سيدتي كيف تشائين؛ فإنك السيدة الآمرة كيف كنت. - إني بالأمس كنت أجهل كل شيء عنك حتى اسمك، أما اليوم فإني أعرف ما يجول في خاطرك، فأصغ إلي ولا تشك بما أقول ولا تبتسم هذا الابتسام الدال على الريبة، فلقد دلوك علي أمس، وقالوا لك هي ذي امرأة حسناء لا رحمة عندها ولا قلب لها، وما أحبت في حياتها سوى المال، فقلت لهم إني في شرخ الشباب وثروتي لا عد لها، وسأجد بين جنبي هذه الحسناء قلبا يحب، أليس كذلك يا سيدي؟
فانحنى باسما وقال: هو ما تقولين. - إلا أني أقسم لك بأنك خدعت لانخداعهم، فإني لا أستطيع أن أحبك ولا طمع لي بمالك، وإذا أردت أن تتبين الصدق في قولي؛ فانظر إلي، فإني لا أنظر إليك نظرات الأمس، بل أقف في موقف طبيعي تبدو فيه حقائق النفس بما ينبعث من خفاياها من العيون، فتعلم أني على غير ما يظنه بي أولئك الأغرار.
ونظر إليها الكونت فرأى علائم الحزن الشديد بادية بين ثناياها، وعلم أن لها سرا تخفيه، ولكنه لم يتمالك عن أن يظهر حبه؛ فابتسمت له ابتسام الأم لطفلها، وقالت له: إنك لا تزال فتى، ومن كان له سنك فإن قلبه يكون طاهرا لم تدنسه عوادي الأيام بعد، فينطبع عليه كل قول شريف، ويصادف القول الصالح خير هوى في ذلك الفؤاد. انظر إلي تجد امرأة مسكينة تمثل دورا فوق طاقتها، بل تجد امرأة صالحة تجل نفسها التائبة عن الانغماس في حمأة الآثام، وهي تسألك الغوث بإخلاص دفعها إليه ما رأته يتقد بعينيك من أشعة الصدق، وما يجول بين ثناياك من علائم النبل والطهارة والشرف.
وكان الكونت ينظر إليها وهو منذهل مما رأى وسمع، فتبين الصدق من لهجتها، ورأى دمعة قد سقطت على وجنتها، فعلم أن الناس قد خدعوا بها، وأنها ليست دون قلب كما يشيعون عنها، بل علم أنها أرفع مما مثلها له رفاقه، وأن لديها حزنا عظيما تكتمه عن جميع الناس، وتستره بمظاهر الخلاعة والمجون، ثم حسب أنه أساء إليها بتجرئه على زيارتها؛ فقال لها: لقد أصبت يا سيدتي حين دعوتني فتى، فإني لولا حداثتي وطيش صباي لما تجاسرت على الإساءة إليك، ولكني أعتذر تائبا عن هذا الذنب.
فقاطعته باكارا قائلة: قل، أتريد أن تقسم يمينا؟ - أقسم لك بما تشائين. - أتقسم لي بشرفك وبشرف الأمة الروسية التي تنتسب إليها أنك لا تذكر حرفا أمام أحد من الناس عما دار بيني وبينك من الحديث؟ - أحلف حلفة وفي صادق.
فنظرت إليه باكارا بإمعان نظرة الفاحص المتردد في أمره، ثم قالت له: إني أفضلك على سواك وأجعلك مستودع سري، مع أني لم أعرفك قبل الآن، وذلك لما توسمته فيك من دلائل الخير والشرف ولحاجتي إلى معين، فاعلم الآن أن لي سرا من الأسرار الخطيرة لا يمكن الإباحة به لأحد من الناس، إلا أن قلبي يحدثني أنك ستكون لي خير صديق. - إني الآن ذلك الصديق. - سوف نرى، سأسألك قضاء أمر دون أن أكلفك شيئا من المال، فلقد كنت من قبل كما قيل لك لا أعبد سوى المال، أما المرأة التي تراها أمامك الآن، فإنها لم يعد لها مطمع في مال أو جمال، وإذا قدر لها أن تحب فإنها تعيش من كسب أيديها كي تكفر عن هذا الحب.
فقاطعها الكونت وقال: كفى يا سيدتي ولا تذكري المال، فإنه من سفاسف الأمور لدي، وأخبريني بهذه المهمة. - إنك أتيت طامعا بحبي، وقد قلت لك إني لا أستطيع أن أحبك ولا أن أدعك تحبني لسبب قد تعلمه في مستقبل الأيام، وغاية ما أسألك إياه أن تكون لي صديقا مخلصا، وأن تطيعني طاعة الإخلاص إذا اقتضت الحال. - سأكون لك أطوع من البنان. - إذن فستكون أمام أصحابك وفي عيون العالم أجمع عشيقي، وأتظاهر أنا بحبك بحيث تكون السيد المطلق في هذا المنزل.
فدهش الكونت وقال: ما هذه الألغاز؟ - هو سر خفي لا أستطيع أن أبوح به لأحد، واعلم أيها الصديق أني لا أستطيع أن أحب أحدا، وأن قلبي لا يسعه إلا أن يتجرد لحب الله، وأني سأمضي الآن خاشية باكية مصلية، إلى أن أنفق النهار متظاهرة بالخلاغة والمجون والاسترسال ظاهرا في الغي والضلال، فلا تسألني أن أبوح بسري، ولكني إذا بحت به يوما فلا يعلمه سواك.
وأنا أعلم أن أمري يشكل عليك، فإن المرأة إما أن تكون شريفة طاهرة، وإما أن تكون على عكس ذلك، غير أنه لا بد لي من الجمع بين الطهارة الباطنة والغواية الظاهرة لهذا السر الغريب، الذي لا بد لك أن تعلمه، كما يحدثني قلبي، فإذا شئت أن تكون صديقي وعضدي، جعلت اعتمادي بعد الله عليك.
فتأثر الكونت من كلامها وقال: إني أوقف لك يا سيدتي قلبا لا ينبض فيه سوى الإخلاص، وقد أحسنت في اعتمادك علي، فإني إذا كنت لا أزال فتيا فإني سأكون رجلا عند الاقتضاء يحق الاعتماد عليه عند المهمات، وسأكون لك خير صديق لا يطلب إليك سوى الصداقة.
ثم ركع أمامها وقبل يدها باحترام، فقبلت باكارا جبينه وأنهضته وهي تقول: إنك شريف ونبيل، ويكفيني عزاء أنك عرفتني دون سواك. - إني منذ الآن عبد لك تدفعين بي إلى حيث تشائين، وبإشارة منك ألقي بنفسي إلى غمرات الموت.
ثم استأذنته هنيهة وخرجت إلى إحدى الغرف، وعادت تحمل أوراقا مالية قيمتها مائة ألف فرنك، فدفعتها إليه، فدهش الكونت وقال: لم هذا المال؟ - هو المال الذي ستنفقه علي. ألم نتفق على أن تكون عشيقي في عيون الناس؟ وإذا كنت عشيقي فلا بد لك من أن تشتري لي أمامهم كل يوم ما يروق في عينك من النفائس. - ذلك لا ريب فيه، ولكن ألعلك نسيت أني أثرى الأثرياء، وأن إيرادي يعد بالملايين. - كلا، بل أنت نسيت أني صديقتك في الحقيقة لا عشيقتك، فكيف أستطيع قبول شيء منك؟ وأنا قد رضيت أن يحتقرني الناس مكتفية بأن تحترمني أنت.
فوجم الكونت، وأخذ المال ثم خطر في باله الرهان الذي عقده مع شاروبيم، ولم يجد بدا بعدما عرف من فضائل باكارا ما عرف من أن يطلعها على كل شيء، فقص عليها بلهجة النادم جميع ما دار بينه وبين شاروبيم في النادي، فأصغت إليه باكارا بانتباه شديد.
ولما فرغ من حكايته نظر إلى وجهها، فرآه قد امتقع فقال لها: ألعلك تعرفين هذا الرجل؟ - كلا، إني لم أره في حياتي. - إذن، لماذا اصفر وجهك؟
أجابته باكارا بصوت منخفض: ذلك لأني بدأت أظن أن الله قد أرسلك إلي، فاقبل الرهان.
فاندهش الكونت وقال: كيف يسعني قبوله بعد أن علمت أن هذا الشاب لا يمكن له أن يستغويك، وبالتالي أكون كأني قد حكمت عليه بالقتل وهو بريء.
فقالت له باكارا بصوت أجش: وكيف علمت أن هذا الرجل لا يستحق الموت؟
وقد قالت هذا القول بلهجة الواثقة من وجوب موته، كالقاضي يحكم على الجاني وهو مطمئن الضمير بعد ثبوت الجناية. فطأطأ الكونت رأسه، وقد علم أنها تكتم سرا هائلا.
ودقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فقالت له باكارا لقد دنا موعد الفراق أيها الصديق، فعد لي في ظهر الغد للغداء، واحضر بمركبتك وخدمك كي يقفوا بها على الباب، فيعلم الناس أنك في منزلي.
ثم مدت له يدها فقبلها وخرج وهو يقول: ما هذا السر العجيب في القلوب، إني دخلت إلى منزلها وأنا أعتبرها اعتبار بنات الهوى، فما خرجت من عندها إلا وأنا أحترمها احتراما لا مزيد فيه، حتى لقد ألقي بنفسي إلى الموت من أجلها، فما هذا التأثير؟ ألعلي أحبها؟
أما باكارا فإنها دخلت بعد ذهابه إلى الغرفة التي كانت تنام فيها الفتاة اليهودية، فألفتها لا تزال مستيقظة، وكانت باكارا قد بدأت تعتقد بصدق أقوالها في نومها، ولكنها لم تكن قد علمت منها إلى الآن سوى أن أندريا يكرهها ويكره أخاه وفرناند وليون، وأنه يحاول قتل المركيزة فان هوب بواسطة حبها لرجل جميل هو شاروبيم، وقد بقي عليها أن تعلم كيف يدبر أندريا هذه المكيدة الهائلة، ومن هم أعوانه فيها، فأجلست الفتاة بإزائها، وجعلت تطيل التحديق بعينيها وهي تقول لها: إني آمرك أن تنامي. حتى نامت نومها المغناطيسي.
34
ولنعد الآن إلى شاروبيم، فإنه بعد أن غادر روكامبول جعل يفكر وهو سائر إلى منزله تفكير النادم لدخوله في هذه الجمعية السرية، وما وراءها من الأخطار والقيود إلى أن بلغ منزله، فدخل غرفته وحاول أن ينام، ولكنه أطل من النافذة فرأى مصباحا قد وضع خاصة في نافذة الأرملة ملاسيس، وهي علامة متفق عليها بينها وبينه؛ فعلم أنها تنتظره، وللحال خرج من منزله وصعد إليها، فجعلت تؤنبه تأنيبا شديدا لخروجه من منزله، وقد قالت له إن المركيزة كانت مشفقة عليه أشد الإشفاق، فكانت تزورها كل يوم كي تطمئن عليه، ولكنها حين علمت أنه لم يقم في الفراش غير أسبوع، وأنه خرج من المنزل أمس انقطعت عن زيارتها لاطمئنانها.
فعض شاروبيم شفته من الغيظ وقال: متى تزورك؟ - إنها لا تزورني إلا بعد ثمانية أيام كما أخبرتني، وذلك إما لاطمئنانها عليك أو لأنها تريد أن تنساك، وعلى كل حال فإنك قد ارتكبت خطأ عظيما بخروجك من المنزل، فقد كان يجب أن تبقى متمارضا فيه كي يزيد حنوها عليك ويكثر تردادها علي، والآن فماذا تريد أن أعمل؟
فوجم شاروبيم هنيهة ثم افتكر بروكامبول فقال: غدا سأخبرك. - بل اكتب لي لأني أخشى أن يزورني الدوق فجأة ويجدك عندي، وهو شيخ غيور، فتفسد علي أمري.
فوعدها بالكتابة إليها وانصرف إلى منزله، وهو لا يعلم أيفتكر بالمركيزة أم بباكارا، ولكنه جعل يفتكر فلا يجد غير المصاعب والأخطار.
وفي اليوم التالي وردته رسالة روكامبول وهي تتضمن إذن رئيس الجمعية له بالمراهنة على باكارا، فذهب إلى النادي الذي جرى فيه حديث الرهان، وأخبر جميع أصحابه أنه عزم على قبول الرهان، وفيما هو يفتخر سلفا بالفوز سمع البارون دي مينزف يقول لأحد أصحابه: انصحه كي لا يقبل الرهان.
فالتفت شاروبيم وقال: لماذا؟
فقال له البارون: ذلك لأن الكونت أرتوف قد سبقك إلى باكارا، وهذا كتاب منه يدعوني إلى الغداء معه عندها.
ثم أعطاه الكتاب، فقرأه إلى آخره ورده إليه وهو يبتسم ابتسام الهازئ، فقال له البارون: ألا تزال على عزمك؟ - بل زدت إصرارا، وسوف ترى لمن يكون النصر.
ثم برح النادي وذهب للقاء روكامبول حسب الاتفاق، فأخبره بما دار بينه وبين الأرملة، وكيف أن المركيزة انقطعت عن زيارة الأرملة بحيث لم يعد أمل بإغوائها إلا إذا تمكن من الاختلاء بها، فقال له روكامبول: ونحن لم يعد لنا من الوقت سوى سبعة أيام، فإذا لم نفز بعدها خسرنا كل شيء. أما هذه الخلوة فسنعدها لك. - متى؟ - في هذه الليلة عند الأرملة ملاسيس. - أيجب أن أكتب إليها؟ - لا حاجة إلى ذلك؛ فإنا أعددنا كل شيء، إلا أنه يجب أن تكون في منزلك في الساعة الثامنة.
وقبل أن يفترقا أخبره شاروبيم بما جرى له في النادي بشأن الرهان، وكيف أنه أخبر أصحابه بقبول هذا الرهان، فقال روكامبول في نفسه: إن أندريا يرى هذا الرهان مفيدا ولكني أراه ضربا من الجنون. ثم قال لشاروبيم: لقد أحسنت في قبولك؛ إذ لا بد لك من الفوز.
وفيما هما يتكلمان مرت بهما مركبة الكونت الروسي وباكارا، فقال له روكامبول: هذه فرصة مناسبة لإخبار الكونت بقبولك، فاذهب إليه لأن مركبته قد وقفت.
وكانت باكارا قد اتفقت مع الكونت على أن تطمع شاروبيم بها لأغراض لها ستظهر في سياق الكلام، فلما قابلها شاروبيم هشت له وأكرمته، فأخبر الكونت أنه قبل برهانه، أما باكارا فإنها لم تظهر شيئا من الاستياء، بل إنها قالت لشاروبيم حين انصرافه: إنكما الآن بمثابة الخصمين إذا تبارزا وجب أن يكونا متكافئين بالسلاح، ولهذا فإني أأذن لك كما أذنت للكونت أن تجيء إلى منزلي متى أردت كي لا يمتاز عنك في شيء.
فشكرها شاروبيم، ثم قبل يدها وانصرف.
أما باكارا فإنها أتمت نزهتها مع الكونت، وعند عودتها طلبت إليه أن يذهب بها إلى منزله، فامتثل دون أن يعرف ما تريد، حتى إذا بلغا إليه جعلت تفحص غرفه ثم صعدت معه إلى السطح، فجعلت تنظر إلى المنازل المجاورة إلى أن وقع نظرها على منزل تحيط به حديقة كبيرة، فسألته: لمن هذا المنزل؟ - إنه لخصمي شاروبيم.
فأطرقت باكارا هنيهة إطراق المتأمل ثم نظرت إلى الكونت وقالت: إني أسألك أن تتخلى لي عن منزلك هذه الليلة دون أن تسألني عن السبب.
فامتثل الكونت وهو لا يفقه شيئا من هذه الأسرار.
ولما نزلا عن السطح دخلت إلى غرفة الكتابة وكتبت إلى خادمتها ما يأتي:
ألبسي الفتاة اليهودية ملابسها في الساعة الثامنة من هذا المساء، واحضري بها إلى منزل الكونت أرتوف في شارع بوبينار حيث أنتظرها فيه.
باكارا
35
يذكر القراء أن روكامبول وعد شاروبيم أن يعد له خلوة مع المركيزة، ففي مساء ذلك اليوم ورد إلى المركيزة كتاب من وكيل منزل صديقتها الأرملة، يخبرها فيه أن سيدته أصيبت بمرض فجائي باتت بعده في خطر الموت السريع، وأنه قد تجاسر على أن يكتب إليها لأن سيدته قد فقدت رشدها، ولم تعد تعي على شيء، فأسرعت المركيزة لزيارة صديقتها فرأتها على ما وصفها الخادم بحالة تقرب من الاحتضار، ولقيت الطبيب بقربها ينظر إليها نظر القانط.
وكان الطيبب ووكيل المنزل والأرملة وخادمتها من صنائع أندريا، وكل واحد يمثل الدور الذي أمر بتمثيله، غير أن الأرملة أتقنت تمثيل الاحتضار حتى كانت دموع المركيزة تسيل إشفاقا عليها.
ولفق لها الطبيب ما شاء عن هذا المرض الفجائي، إلى أن أخبرها بيأسه من شفائها، ولكنه بقي له أمل وحيد بتغيير قد يحدث لها في الليل، فإذا لم يحدث لها شيء من ذلك فلا رجاء بحياتها، غير أنه يجب السهر عليها، فهاجت المروءة بصدر المركيزة وقالت: أنا أسهر على هذه الصديقة، فعسى أن ينقذها الله مما هي فيه. ثم دعت فانتر وهو وكيل المنزل فأعطته رسالة إلى زوجها المركيز أخبرته فيها بمصاب صديقتها، وأنها اضطرت إلى البقاء عندها هذه الليلة وطلبت إليه أن يحضر إليها في الصباح كي يعود بها، فأخذ الرسالة وانصرف ثم خرج في إثره الطبيب، بعد أن وصف لها دواء تستعمله متى عاد إليها رشادها.
وجلست المركيزة بإزاء سرير هذه الصديقة الكاذبة تنتابها الهواجس والأفكار، وكانت نوافذ الغرفة مقفلة بأمر الطبيب، فبينما المركيزة تجيل نظرها، رأت نور مصباح يضيء في إحدى غرف المنزل المجاور، فعلمت أن النور في منزل شاروبيم وأنه لا بد أن يكون فيه، فجعل فؤادها يضطرب اضطراب ذلك النور. ثم انطفأ النور وساد السكوت.
وبعد هنيهة سمعت وقع أقدام ووجف فؤادها، وحدثها قلبها أن القادم هو شاروبيم، فما طال انتظارها حتى صدق ظنها، ورأت شاروبيم داخلا وقبعته بيده، فأظهر الانذهال حين رآها، ثم دنا منها فحياها باحترام وقال: إني عدت الآن إلى منزلي يا سيدتي فأخبروني أن مدام ملاسيس في خطر شديد، فلم يسعني إلا الإسراع للاطمئنان عنها، وكنت أرجو أن أرى خادمتها غير أني رأيت الأبواب مفتوحة، ولم أر أحدا فتقدمت حتى بلغت غرفتها وأنا لا أعلم شيئا حتى الآن، فاصفر وجه المركيزة، وأوشك لسانها أن ينعقد مما تولاها من الاضطراب، غير أنها تغلبت على عواطفها وقالت : أشكرك يا سيدي لاهتمامك بأمر صديقتي، وهي الآن نائمة كما ترى، وأرجو أن يكون نومها دليل خير.
فانحنى شاروبيم شاكرا ثم قال: إذا كان الأمر كذلك، فأذني لي يا سيدتي بالانصراف.
وقد قال هذا القول وهو يؤمل أن تستوقفه، غير أن المركيزة لم تحقق أمانيه، بل إنها ردت له التحية بأحسن منها، فمشى شاروبيم مشية القلق المضطرب، حتى إذا وصل إلى الباب خطر له أن يعود، فأقفل الباب وعاد إلى المركيزة وهي تكاد تسقط من الاضطراب، وقال لها: عفوك يا سيدتي، فإني لا أستطيع الذهاب قبل أن أبوح لك بخطأ ارتكبته.
فأجفلت المركيزة وسألته: أي خطأ؟
فقال شاروبيم بصوت تكلف فيه لهجة الاضطراب: خطأ كذبي عليك الآن، نعم يا سيدتي فلقد كذبت عليك. ثم سكت وجعل ينظر إليها كي يعلم ما يكون من تأثيرها، فرآها قد سقطت على كرسيها كأن رجليها لم تقويا على حملها، غير أنها ما لبثت أن استقرت على الكرسي حتى هبت لها قوة من لدن السماء، فتمكنت من إخفاء اضطرابها وأجابته بسكينة: لا أعلم يا سيدي أي كذب تعني، فتفضل بالجلوس وقل ما تشاء؛ فإني مصغية إليك.
فلبث شاروبيم واقفا وقد تلبس بلباس الحزن والسويداء، وقال: إني عدت إلى منزلي وعرفت بمرض جارتي الآن كما قلت لك، غير أني ما أتيت لمنزلها بغية السؤال عنها، بل لدافع أشد وهو أني علمت يا سيدتي من بواب المنزل أن مدام ملاسيس مريضة وأنك عندها.
فحاولت المركيزة أن تعترضه وتوقفه عند حده، فقال لها شاروبيم بصوت الملتمس: بالله يا سيدتي ألا ما أصغيت لي إلى النهاية، فإني اختلائي بك بعد الآن محال، وإذا لم أخبرك بأحزاني، وأبوح لك بما أقدمت عليه من الجرأة، فلا أستطيعه بعد؛ لأني سأودع باريس بل أوروبا بأسرها وداعا أبديا بعد ثمانية أيام.
فوجف فؤاد المركيزة وقالت: أتسافر؟ - نعم، ولا أحمل في قلبي غير حب واحد قد تزول حياتي ولا يزول، وإن تلك السيدة التي أحببتها لا يفصل بيني وبينها غير تلك الهوة العميقة، وهي طهارتها وفضيلتها لأنها غير مطلقة القياد.
ثم دنا خطوة منها فركع أمامها وقال: سيدتي، إني لن أراك بعد الآن، وقد ينقضي العمر ولا يذكر اسمي أمامك، غير أنك إذا خطر لك في ساعات خلوتك خاطر حزن، فاذكري بين هذه الأحزان ذلك الرجل التعس الجاثي أمامك، لا يسألك غير أن تأذني له بلثم أطراف ثوبك.
وكان شاروبيم يرجو أن تنهضه بعد هذا الاعتراف، غير أنها سمعت حديثه إلى النهاية دون أن تخونها عواطفها، وهي تجد منه أشد الوجد، غير أن الله الذي يصون الطاهرات أرسل إليها روحه الأمين، فصانها من مواقف الزلل، فنهض شاروبيم وانحنى مسلما، ثم خرج يمشي بطيئا إلى أن توارى عنها؛ فتنهد تنهد من سلم من خطر شديد، وسرت لتصاممها عن صوت قلبها وانصرافها إلى سماع صوت الواجب الشريف، ولبثت جديرة بأن تحمل اسم زوجها. أما الأرملة فإنها لم يفتها حرف من ذلك الحديث، ولكنها كانت متظاهرة بالنوم.
ولنعد الآن إلى باكارا؛ فإنها بينما كان شاروبيم يحاول إغواء المركيزة، كانت باكارا في منزل صديقها الكونت الروسي، وقد أرسلت إليه خادمتها الفتاة اليهودية، فلما وصلت استأذنت من الكونت وخلت مع الفتاة فأنامتها النوم المغنطيسي، ثم أدارت وجهها إلى جهة منزل شاروبيم وقالت للنائمة: أريد أن أعرف ما يفعل هذا الرجل الآن.
ثم خرجت بها بعد أن أيقظتها إلى حيث كان ينتظرها الكونت، فقالت له: إني عائدة الآن إلى المنزل لأن شاروبيم سيزورني، فعد إلي في الغد.
فانذهل الكونت وقال: كيف عرفت أنه يزورك؟ - سيزورني بعد ساعة. ثم قالت له باسمة: لقد عرفت ذلك؛ لأني أشتغل بالكهانة والسحر.
36
ولما وصلت باكارا إلى منزلها وجدت به رسالة من شاروبيم يخبرها فيها أنه سيزورها بعد ساعة ويذكرها بالرهان، فلما اطلعت عليها زادت ثقتها بالتنويم المغنطيسي، وعلمت أن اليهودية تصدق حين تنويمها بأكثر ما تقول، فنومتها أيضا وعلمت منها ما تريد أن تعلمه بشأن زيارة شاروبيم، ثم خرجت إلى قاعة الاستقبال تنتظره فيها إلى أن حضر في الوقت المعين، فمدت له يدها وقالت باسمة: أهلا بالرجل الهائل.
وكان شاروبيم قد سر بهذا الاستقبال، فقال لها: إني قد أستحق أن ألقب بهذا اللقب غير أني ...
فقاطعته باكارا وقالت: دعني أباحثك بأمر خاص قبل أن تخوض في أبحاثك، وأعلم أني قد أفرغت جهدي كي أقنع الكونت أرتوف بالرجوع عن الرهان فلم أنجح.
فقال لها شاروبيم منكرا عليها هذا الجهد: لماذا أردت أن تقنعيه؟ - لأنه قد حمله على محمل الجد. - وإذا حمله هذا المحمل؟ - إنك لا تعرف هذا الروسي، فإنه إذا كان مجدا لا تكون عاقبته محمودة. - إن ذلك سيان عندي. - لا تقل سيان فلقد كنت جميلة ولا أزال، وقد اشتهرت بعدم الاكتراث؛ فأنت الآن تخاطر لإغواء امرأة بحبك، وهي امرأة لا قلب لها كما يقولون، فإذا كنت حقيقة كما يقولون فلا بد لك أن تخسر الرهان، وبالتالي فلا بد للكونت من قتلك. - إنه يقتلني ولا حرج عليه، فإن ذلك لا ريب فيه، إنه حقه. - ولكن إذا كنت الفائز؟ ثم حدقت به تحديق الساخر، فلم يسعه إلا الإطراق بنظره استحياء إلى الأرض، فأتمت حديثها وهي تقول: ألست يا سيدي قد أردت أن تراهن على حبي بالمال؟
وكأن هذا الكلام قد انقض على شاروبيم انقضاض الصاعقة، فأجفل منه إجفالا شديدا وعلم أنه ارتكب بهذا الرهان ما لا يرتكبه الأشراف.
فعادت باكارا إلى هزئها السابق، ثم قالت: إنك قد جريت في هذا الرهان شوطا بعيدا، وسلكت مسلكا لا يسلكه العقال؛ ألم يقل لك الناس أني فتاة دون قلب؟ - نعم، ولكن من كان مثلي لا يصدق هذه الأقوال. - ربما تكون قد أصبت، غير أنه كان يجب عليك في كل حال أن تستشيرني قبل أن تعقد هذا الرهان الشائن، غير أنك قلت في نفسك إني قد اشتهرت بجمالي وعرفت طرق القلوب من النساء فلا بد لي من الفوز، ثم جعلت تفتخر برهانك في النوادي، وأنت لو أجريت فيه على مناهج العقل لأمكن لك أن تعرف طريق قلبي. إنك ... ثم توقفت عن الكلام تنظر إليه. - إذن أنت تعتبرين أنني سأكون الخاسر في هذا الرهان؟ - هذا ما أراه إلا إذا ... ثم قطعت كلامها أيضا لتسمع ما يقول. - أرى أنك تقترحين شروطا، اقترحي ما تشائين؟ - أريد أن أقتنع بها قبل كل شيء أنك لا تحبني وتريد إغوائي من أجل كسب المال فقط. - ألعلك تشكين بهذا؟ وما حاجتي بالمال وأنت أعظم جواهر الأرض؟ - إذا كان ذلك فارجع إذن عن هذا الرهان إذا أردت أن أحبك. - إني لا أريد غير هذا الحب. ثم عض شفته من الغيظ وهو يخشى أن تكون قد علمت ما يجول بنفسه. - إذن أصغ لي وبعد ذلك أنت مخير بين أن تزورني أم تنقطع عن زيارتي، أما الذي أقترحه عليك فهو أن تكتب الآن إلى الكونت تخبره برجوعك عن الرهان. - وإذا كتبت هذا الكتاب؟ - إني أغفر لك.
فأطرق شاروبيم هنيهة إطراق المفكر المهموم، ثم استقر رأيه على الخضوع فقال: ليكن ما تشائين. - إذن، قم إلى هذه المنضدة واكتب ما أمليه عليك.
فقام شاروبيم وهو يضطرب وأخذ القلم بيده، فأملت عليه ما يلي:
سيدي الكونت
أرجو أن تتناسى ما أخطأت به إليك، وأن تعتبر رهاننا لغوا غير معمول به.
فتوقف شاروبيم عن إتمام الكتابة وقال: إن هذا اعتذار محض لا أكتبه لأني لم أخطئ. - بل تكتب كل ما أمليه عليك متى علمت أن خضوعك يرضيني، وأنه لا يكون وراءه غير الحب. فامتثل شاروبيم مكرها مضطرا، وأتم الرسالة على مثال ما تقدم، حتى إذا فرغ منها أخذتها منه وهي تقول باسمة: بقي عليك أن تقبل يدي وتأخذ قبعتك وتنصرف بسلام.
فأجفل شاروبيم وقال: إلى أين أذهب؟ - إن الليل قد انتصف، فإذا أردت أن تحب فابدأ بالخضوع. - متى أعود؟ - بعد غد.
فقبل يدها وانصرف وهو يفكر بالكتاب الذي كتبه إلى الكونت، وخسارة ما يرجو أن يكسبه من المال، غير أنه خطر له خاطر أخرجه من هذا الموقف، فانطلق مسرعا إلى النادي حيث رأى الكونت فيه، فخلا به وقال له: خرجت الآن من عند باكارا، فأكرهتني بدلالها على أن أكتب إليك كتابا أنقض فيه الرهان لأنها لا تحب أن يراهن عليها. - لقد أصابت. - فكتبت إليك الكتاب مكرها، ولكني أسرعت إليك كي أنقض بكلامي ذلك الكتاب، فيبقى الرهان معقودا بيننا. - ليكن ما تريد. - إذن أرجوك أن تحسب الكتاب لغوا متى وصل إليك على شرط واحد، وهو أن تقسم لي بشرفك أن لا تخبر باكارا بحرف مما دار بيننا، كي لا تعلم أمر عودنا إلى الرهان. فأقسم له الكونت على الكتمان ثم افترقا.
وفي اليوم التالي ذهب الكونت الروسي إلى باكارا فاستقبلته وقالت له: إني سأخبرك بأمر تظن أنه لا يعلمه سواك.
فقال لها الكونت: أي أمر تعنين؟ - ما قاله شاروبيم لك أمس عند منتصف الليل.
فذهل الكونت وقال: كيف عرفت ذلك؟ - بل عرفت ما دار بيكما من الحديث، ألم يقل لك أنه لا يرجع عن رهان وينقض بالقول ما كتبه بالقلم؟
فذكر الكونت اليمين التي حلفها وقال: كلا، إنه لم يقل لي شيئا من هذا.
فأجابته باكارا بلهجة الحنو: إنك شريف وكل شريف يبر بيمينه، غير أني قلت لك أني ساحرة أخرق حجب الغيب، وقد علمت جميع ما قاله لك شاروبيم، ولكن هذا الرجل لا يعلم أنه حكم على نفسه بالموت، ثم سكنت هنيهة وقالت: إن هذا الرجل لو لم يكن غير نذل خسيس يفتخر بإغواء النساء لكنت أكتفي بطرده من هذا المنزل، غير أن شره لا يقتصر عند هذا الحد، فهو رجل مجرم سفاك، رضي أن يكون آلة صماء بيد رجل داهية لا يعرف اسمه، وهو يشاركه بجريمة هائلة يضيع عندها كل رحمة وإشفاق.
فحاول الكونت أن يسألها، غير أنها قاطعته وقالت: لا تسلني شيئا؛ فإن ما أقوله لك سر خفي لا يسعني إظهاره الآن، ولكني أريد أن ألقي عليك هذا السؤال، وهو أني إذا كشفت لك يوما بالبرهان الجلي مكائد هذا القاتل السفاك، ثم دفعته إليك وقلت لك أنه قد خسر الرهان فحق لك قتله، أتقتله؟ - أقسم لك أني أقتله دون شك؛ فإنه يستحق الموت مرتين.
37
تركنا الفيروزة تعبث بفرناند وليون كما يشاء فيليام ، وهي قد غادرت زوج سريز هائما مفتونا لا يستقر على حال من يأسه، ويبحث عنها في كل مكان ولا يجدها، وتركت فرناند متولها بحبها، وهو يحسبها هائمة وأنها من فضليات النساء لإيثارها الفقر على الغنى، ورفضها ما كان لها من النعمة، غير أن فرناند لم يكن يطيق أن يراها تقيم في غرفة حقيرة، فما زال بها حتى أقنعها على سكنى القصور، فاشترى لها قصرا بديعا وفرشه بأجمل الأثاث، وأحضر لها المركبات وأصائل الجياد بحيث تكلف عليها نصف مليون أول دفعة من ثمن هذا الحب الشائن.
غير أن أندريا لم يكن غرضه الاقتصار على كسب مال فرناند، بل إنه كان يريد سلب ماله وشرفه وحياته، وقد بدأ بسلب المال والشرف، فبقي عليه سلب الحياة. وكان قد هاج مكامن الغرام في صدر ليون وفرناند وجعلهما يحبان امرأة واحدة ابتغاء إثارة الغيرة في قلب ليون، وحمله على قتل مزاحمه، ولهذا دفع الفيروزة إلى مقاطعة ليون والاحتجاب عنه، حتى أوشك أن يجن من يأسه، وجعل يبحث عنها كل يوم في جميع أنحاء باريس وهو لا يهتدي إليها لفرط مبالغتها في الاحتجاب، فلما رأى أندريا أن وقت الانتقام قد دنا، أمرها أن تمر بمعمل هذا الرجل كي يراها، ثم علمها ماذا تصنع حين اجتماعه بها. فلبست أفخر ما لديها من الثياب، وركبت خير المركبات التي اشتراها لها فرناند، وأمرت السائق أن يسير الهوينا في الشارع الذي يوجد فيه معمل ليون، فامتثل السائق، ولما مرت المركبة بباب المعمل نظرت ليون جالسا على كرسي، مطرقا بنظره إلى الأرض، فمرت دون أن ينتبه إليها فاستمرت في مسيرها، ثم عادت فألقته واقفا على الباب ينظر إلى المارين نظرات القلق المضطرب.
وقد استلفت نظره صوت المركبة، فنظر إليها وهي لا تزال بعيدة عنه عدة أمتار، فاستوقف بصره حسن رونقها، ولباس سائقها وجمال جيادها، فأطال النظر بها حتى مرت به، ورأى الفيروزة تنظر إليه دون اكتراث كأنها ما عرفته من قبل، ثم ذكر أنها كانت عاملة فقيرة ورأى ظواهر نعمتها فجن من الغيرة، وعلم أنها لم تصده إلا لانشغالها بسواه من الأغنياء، فأسرع يعدو وراء مركبتها، حتى عثر بمركبة معدة للأجرة، فركب فيها ووعد السائق بجزاء حسن إذا أدرك مركبة الفيروزة.
فاندفعت المركبة في إثرها حتى أدركتها حين دخلت إلى حديقة القصر، فاستوقفها ليون وأطلق سراحها، ثم ذهب إلى القصر الذي أقفل بابه بعد دخول الفيروزة، فطرقه بكلتا يديه وهو يود لو تمكن من كسره، فخرج إليه البواب وقال له: ماذا تريد؟ - أريد أن أرى سيدتك في الحال. - لا بأس في ذلك، غير أن سيدتي لا تستقبل إلا من تعرفه.
فذكر له ليون اسمه، فاستوقفه البواب وذهب إلى الفيروزة يخبرها بأمره، ثم عاد إليه فقال: إن سيدتي لا تعرفك، ولكنها تستقبلك لتعلم ما تريد.
وطاش رأس ليون وقال في نفسه: إما أن أكون منخدعا وإما أن تكون قد أنكرتني. ولكنه تبع الخادم حتى أوصله إلى غرفة الاستقبال وتركه فيها وانصرف، فجلس ليون يفكر تفكير المهموم، ثم نظر إلى ما يحيط به من مظاهر الثروة، وذكر أن الفتاة قالت حين عرض عليها اسمه إنها لا تعرفه، فخشي أن يكون منخدعا وأن تكون تلك الفتاة قد تمثلت له بالتي يحبها، وحاول أن يخرج من القاعة ويفر، إلا أنه ما لبث أن نهض عن كرسيه حتى فتح الباب ودخلت الفيروزة، فصاح صيحة الفرح المستبشر قائلا: هي ... هي بعينها. ثم أسرع إليها.
ولكنها تراجعت عنه ونظرت إليه نظرة إنكار وهي تقول: أأنت ليون رولاند الذي طلب أن يراني؟
فانقض هذا الكلام عليه انقضاض الصاعقة، وسقط على كرسي وقد عقد لسانه عن الكلام.
وقالت له: يظهر أنك قد غلطت بي يا سيدي! - كلا، يستحيل أن يخلق الله فتاتين تتشابها إلى هذا الحد، وأنت أوجيني ابنة غارين التي طالما أظهرت لي حبها وأظهرت لها حبي.
فأظهرت الفيروزة عدم الاكتراث ثم قالت: أعيد عليك القول يا سيدي، إنك مخطئ فإني لا أدعى الآنسة أوجيني، بل أدعى مدام دولار.
فجثا ليون على ركبتيه وقال لها: بالله كفي، فإني أبحث عنك منذ ثمانية أيام، ولا تخدعيني إلى هذا الحد. إني لا أعلم ما أصبحت عليه الآن، ولكني أعلم أنك ابنة غارين التي كان أبوها عاملا عندي، وأني أحببتك ولا أزال مفتونا بك بعد احتجابك، وجعلت أعدو في إثر مركبته كالمجانين حتى عرفت منزلك ووصلت إليك، فلا تقطعي قلبي بهذا الإنكار.
وكانت الفيروزة تصغي إليه صامتة، حتى إذا فرغ من حديثه قالت له بإشفاق: انظر إلي جيدا تعلم أنك مخطئ. - كلا، إن الله لا يخلق مثلك؛ لأنك تكفيه لفتنة عباده.
فهزت الفيروزة رأسها وقالت: قل لي شيئا عن تلك الفتاة التي تحبها. - إنها ابنة أحد عمالي، وهي فتاة عاملة. - إذا كان ذلك فانظر بما يحيط بك من النعمة، أيمكن أن يكون للعاملات مثل هذا الرياش؟
فأطرق ليون برأسه لأن البرهان قد غلبه، فلم يعلم ماذا يقول، وأن أنين المتوجع، فقالت له: خفض عليك، وأصغ إلي فإني سأزيل هذا الاعتقاد الراسخ في ذهنك، ولنفرض الآن أني أنا هي تلك الفتاة العاملة التي تحبها والتي احتجبت عنك كما تقول.
فصاح ليون: نعم، أنت هي.
فأجابته باسمة: لنفرض أني أنا تلك الفتاة وأني كنت عاملة فقيرة حين كنت تحبني، فلا بد لي إذن أن أكون من بنات الجن، وإلا فكيف تتبدل حالي من الفقر المدقع إلى أقصى درجات الغنى في مدة ثمانية أيام. وإذا كنت لا تزال بعد هذا على اعتقادك فلندخل في باب الافتراض، فإنه باب واسع، ولنفرض أولا أن والدي غارين كما تقول كان له أخ، وأن هذا الأخ قد سافر إلى البلاد الأمريكية ثم عاد في هذه الأيام وهو من أصحاب الملايين، فأقام ابنة أخيه في هذا القصر.
فهز ليون رأسه وقال: هذا مستحيل. - إذن لنفرض افتراضا ثانيا، وهو أن هذه الفتاة العاملة حين احتجبت عنك لقيت غنيا هنديا أو أميرا روسيا، فأحبها وخرجت منك إليه.
فعضت الغيرة قلب هذا المسكين، ووثب عن كرسيه يصيح: هو ذاك، أرأيت الآن كيف أني لم أخطئ؟ - لا تنس يا سيدي أني أفترض افتراضا، ثم إنه إذا كانت ثروتي قد تغيرت بثمانية أيام، فإن آثار العمل لا تزول من يدي في هذا الزمان الوجيز، انظر إلى يدي أترى عليها آثار الاشتغال بالصناعة؟
وأطرق بنظره إلى الأرض دون أن يجيب، فقالت الفيروزة: لنفترض أيضا فرضا ثالثا، وهو أن ابنة غارين لم تكن ابنة غارين، ولم تكن عاملة حين عرفتها، بل كانت على ما أنا عليه الآن. - كلا، إن هذا محال. - إذن، اختر ما تشاء بين أن أكون ابنة غارين العاملة، أو مدام دلاكور التي تراها الآن.
فغطى ليون عينيه بيديه وقال: رباه! أحقيقة ما أراه أو حلم من الأحلام؟ - اسمع بقية الافتراض، إن هذه الفتاة كانت من أشد بنات الهوى دلالا، ولكنها كانت تحب الحوادث والأسرار والغرائب، وقد اتفق أنها رأتك يوما فشغفت بك؛ وذلك لأن الحب كثير العجائب، فقد يحب المرء بنظرة واحدة، فتزيت بزي عاملة فقيرة حتى يحبها هذا العامل الفقير؛ لأنها لو بدت له بمظاهر ترفها لأحجم عنها، ثم لما عاشرته علمت أنه رجل محتهد شريف وأن له امرأة تحبه وطفلا صغيرا.
فصرخ ليون بسرور كاد يقتله: إذن أنت هي، ولا سبيل بعد للإنكار.
فابتسمت الفيروزة وأجابته: ربما.
فحاول ليون أن يركع أيضا أمامها، ولكنها نظرت إليه نظرة اضطراب لها، ولبث في مكانه فأتمت حديثها تقول: إن ما تريده المرأة يريده الله، وهو مثل صادق، ولهذا فإن تلك الفتاة تزيت بزي العاملة كي تحملك على حبها، ففازت بك وبلغت منك ما تريد، إلا أنه لنكد الناس أن لكل شيء نهاية، وعلى هذا فإن الحب مهما اشتد فإنه يزول عند حدوث طارىء، وقد كان هذا الطارئ أن تلك الفتاة ذكرت أنها تسيء إلى رجل شريف، وأنها من بنات الهوى الشهيرات، وأنها تلقب بالفيروزة، ولكنها كانت تحب هذا العامل حبا شديدا، فآثرت أن تعيش تعسة منكودة بالبعد عنه، وقاطعته كي لا تسيء إليه بحمله على الافتتان بها، لأنها تحبه حبا أكيدا، ولكنه متزوج وله طفل صغير أولى بحبه منها، فإذا جفته فقد ينساها بتقادم الأيام ، دون أن تغادر في فؤاده أثرا من الاحتقار.
وكانت تقول هذا القول وهي تتظاهر بالتأثر الشديد، حتى إن ليون نظر إليها فرأى دمعة قد سقطت على وجهها، ولم يستطع أن يضبط نفسه بل أكب عليها يقبلها، وهو يقول باكيا: أنت هي ... لا تنكري بالله وكفاني ما صبرت.
فجعلت تبكي لبكائه وتقول: أنا، أجل أنا هي ... أنا التي أحبتك وخدعتك، ولا تريد أن تراك ... اذهب عني فقد عرفت الآن من أنا، وعرفت أنك لا تستطيع أن تحبني. - كيف أستطيع فراقك؟ - كيف تحبني وأنا امرأة ساقطة، أؤثر أن يقتلني الغرام على أن تحتقرني، فانساني ولا تفتكر بغير امرأتك وولدك، فإني مسافرة إلى البلاد الأمريكية. - إني أسافر معك، ولو ذهبت إلى أقصى المعمورة. - كلا، بل أسافر وحدي لأنك مقيد بحب سواي.
فركع ليون أمامها وقال: إني لا أحبك حبا بل أعبدك عبادة، وسأكون لك أتبع من ظلك وأطوع من بنانك. - لا ريب عندي في حبك، ولكني أخشى أن تحتقرني لأني من بنات الهوى. - أقسم لك بكل عزيز في الأرض ومقدس في السماء أني أنسى الماضي وأحترمك أجل احترام. - إذن فلنهرب ولندع هذه العاصمة السوداء التي لا يلقي فيها المرء سوى الخجل والذنوب، إلى بلاد نجني فيها ثمرات الحب دون رقيب.
فجن هذا المنكود من فرحه وقال: لنسافر حيث تشائين.
ولكنه ما لبث أن تفوه بهذا القول حتى مرت بخاطره امرأته سريز، وتمثلت له حاملة على ذراعها طفله الصغير وهو يبتسم له ابتسام الملائكة الأطهار، فتنبهت منه عواطف الأب وأجفل وهو يقول: ولدي!
فتراجعت الفيروزة إلى الوراء وقد اصفر وجهها وقالت: أرأيت كيف أنه يجب أن نفترق فراقا أبديا لأن لك امرأة وولدا؟
ثم تركته مسرعة، فبرحت القاعة وأقفلت بابها، فبقي المسكين وحده وهو لا يعلم ما يعمل. ولكنه لم يطل انتظاره حتى فتح الباب ودخل خادم يحمل إليه رسالة، ففتحها وتلا فيها ما يأتي:
وإن لك امرأة وولدا، سوى أنك إذا كنت تحبني كما أحبك، فلا ينبغي أن تحب امرأتك، بل خذ ولدك ولنهرب به، فإني سأحبه كما تحبه أمه، وسأكون له خير أم. فاختر بين أن تدعني أسافر وحدي، فلا تراني إلى الأبد، وبين أن تسافر معي، فإذا شئت السفر، احضر بولدك غدا، بل هذه الليلة إذا أردت، ولا تكتب لي لأني لا أرجع عن هذا العزم.
فلما أتم ليون قراءة الرسالة وضعها في جيبه، وخرج من هذا المنزل الجهنمي بحالة تحمل على الإشفاق.
38
وكانت الرسالة من إملاء أندريا، وذلك أنه كان مقيما في غرفة مجاورة للقاعة يسمع جميع الحديث، ولما غادرت الفيروزة ليون وحده دخلت إلى الغرفة المقيم فيها أندريا، فأمرها أن تكتب الرسالة المتقدمة. ولما ذهب ليون أملى عليها رسالة لفرناند تخبره فيها أنها ستغيب عنه يومين بشأن خاص، ثم قال لها: إنك تجدين في صباح الغد مركبة على باب المنزل، وسائقها من أعواني فاعتمدي عليه، وإذا حضر ليون مع ولده ولا بد له أن يحضر، اركبي معه هذه المركبة ودعي السائق يسير حيث يشاء، وإذا سألك ليون أين تذهبين فقولي سوف تعرف متى بلغنا المحطة الأولى، وهناك يخبرك السائق بما يجب أن تفعليه. - سأمتثل لجميع ما تريد دون أن أعلم شيئا من هذه الأسرار التي تحيط بي، فإني أغوي فرناند لابتزاز أمواله، وأغوي هذا العامل المسكين لأنك تريد أن أغويه، ولكن ما عسى أن يكون بعد فراره من امرأته؟ وما عساي أصنع بهذا الطفل؟ - أما المرأة فإنها تدبر نفسها كما تشاء، وأما الطفل فإني سأضعه في أحد ملاجئ اللقطاء.
ووجمت الفيروزة، وهي لا تعلم ما الذي يدعوه إلى هذا الانتقام، أما أندريا فإنه ذهب من عندها إلى الكونت مايلي حفيد الدوق الذي عاهده على إغواء هرمين زوجة فرناند، فوجده نادما على ما فعل، وقد سرت إليه روح شريفة أرجعته عما كان عازما عليه من الإغواء السافل. ورجع أندريا من عنده وهو موجس شرا من نقض الكونت لعهده وإفلات هرمين من انتقامه، وقد تشاءم بهذا النقض وعده دليلا على بدء حبوط أمانيه.
أما ليون رولاند فإنه أخذ الرسالة وانطلق بها إلى معمله، وأخذ يقرؤها ويعيد قراءتها مرات كثيرة فتتنازعه العوامل المتناقضة، وبينما هو يميل إلى اختطاف ابنه واللحاق بالفيروزة، تتمثل له امرأته سريز صائحة نادبة فراق زوجها وولدها، فيجفل قلبه من الفيروزة ويذكر واجباته الزوجية، ثم يذكر الفيروزة ويتمثل له جمالها النادر وألفاظها الرخيمة، ويجن غراما بها وغيرة عليها، وينسى كل واجب لدى هذا الغرام. واستمر على هذه الهواجس ساعات طويلة يمشي في معمله ذهابا وإيابا وهو ضائع الرشد مبلبل الحواس، حتى تغلبت عليه عواطف الأبوة والمروءة، فدعك الرسالة بيديه وألقاها مغضبا في أرض المعمل، ثم برحه دون أن يقفل بابه وصعد منه إلى منزله.
وكانت الساعة قد بلغت الثانية بعد منتصف الليل، وجميع من في المنزل نيام، ولما خلا بغرفته هاله ما يحيط به من السكوت، وعادت إليه هواجسه السابقة، وذكر الفيروزة وكيف أنها ستسافر ولا يعود يراها، فهجات به مكامن ذلك الغرام الفاسد، وعزم عزما أكيدا على اختطاف ابنه غير مكترث بتلك الوالدة المسكينة، وقام إلى غرفتها يمشي على رءوس أصابعه، ودنا من سرير الطفل الذي كان بجانب سريرها، وأخذه من السرير واحتمله بين يديه، ثم حاول الخروج به.
وكأن الله أبى أن يلقي عليه تبعة هذه الجريمة، فإنه عثر وهو يمشي بكرسي فسقط الكرسي، واستيقظت سريز لصوته ورأت ولدها بين يديه وهو يحاول الخروج به، فصاحت صيحة أم توجس خطرا على ولدها.
أما ليون فإنه أرجع الطفل إلى مهده وخرج من المنزل دون أن يصغي لنداء امرأته قائلا: احتقريني ما شاء الاحتقار، فما أنا إلا نذل أثيم.
ثم برح المنزل هائما على وجهه لا يعرف أين يستقر حتى قاده يأسه إلى نهر السين، وذكر ولده ثم ذكر الفيروزة، وعزم أن يلقي بنفسه في مياه النهر، ولكنه شعر بيد قوية قبضت عليه وأرجعته إلى الوراء، والتفت فرأى رجلا شديدا عرف أنه خادم الفيروزة وانتهره وقال له: ما تريد مني؟ - أريد أن أمنعك عن الانتحار. - لماذا؟ - لأن سيدتي تموت لموتك وهي تنتظرك الآن، ولا يمنعها عن السفر إلا حضورك ، فاذهب معي.
وكأن ذكرى الفيروزة هاجت فيه حب الحياة وردت إليه بعض صوابه، وذكر ما سيلقاه بقربها من النعيم، وانطلق يجري مع الخادم مطرق الرأس لا يفتكر إلا بما سيلقاه.
أما سريز فإنها لما سمعت من زوجها ما سمعت، وأنه قد خرج من المنزل خروج المجانين، خرجت في إثره راجية أن تدركه على باب الطريق، ونزلت إلى السلم وعندما بلغت إلى منتصفه رأت باب المعمل مفتوحا، وقد كان نسي ليون أن يقفله لذهوله، فحسبت أنه فيه ودخلت إليه تبحث عنه، ولم تجده ولكنها لم تكن تشكك أنه فيه، وأوقدت شمعة وجعلت تطوف في الغرفة مفتشة حتى بلغت إلى غرفته الخصوصية ولم تجد أحدا. وبينما هي تجيل نظرها إذ رأت ورقة مدعوكة وملقاة على الأرض، وهي الرسالة التي أرسلتها الفيروزة إلى ليون تغريه بها على اختطاف ابنه والفرار معها. وأخذت سريز الرسالة وما لبثت أن قرأتها وعرفت ما فيها حتى عرفت قصد زوجها من حمل الطفل، وصاحت صيحة منكرة وسقطت مغميا عليها.
وعند الصباح أقبل العمال يشتغلون ورأوا امرأة سيدهم لا تزال مغميا عليها، وعالجوها حتى صحت من إغمائها وحملوها إلى المنزل. وقد اتفق أن باكارا جاءت لزيارتها في تلك الساعة لانشغال بالها عليها، ولما علمت ما كان من أمر زوجها وقرأت رسالة الفيروزة وعلمت أن ليون قد رحل، هاجت هياج اللبوة فقدت أشبالها، وقالت: إن الفيروزة لا تموت إلا من يدي.
39
ولنعد الآن إلى السير فيليام أو السير أرثير أو أندريا، فإن هذا الرجل الهائل عندما برح منزل الكونت مايلي كما قدمناه، ذهب توا إلى روكامبول الذي كان ينتظره في منزله لتلقي أوامره، وأخبره روكامبول بجميع ما كان بين شاروبيم والمركيزة، وأظهر له ريبه من الفوز لما لقيه من عدم اكتراث المركيزة. فهزأ به أندريا وقال: إنها إذا كانت غير مكترثة به كما توهمت، لما سمعت جميع حديثه ولأوقفته عند أول كلمة قالها، ولكنك لا تزال غرا جاهلا حديث العهد بهذه المهنة. - كيف نرجو الفوز ولم يعد لنا من الوقت سوى ستة أيام؛ لأن الهندية شربت السم أمس وإذا ماتت قبل فوزنا بإغواء المركيزة فكيف تظفر بالملايين، وإذا كانت لم تظهر إشارة حب لشاروبيم إلى الآن، فكيف نرجو أن نغويها، وفوق ذلك أن شاروبيم أخبرها أنه راحل عن هذه الديار، فكيف يتيسر له لقاؤها بعد هذا القول؟ - أما إغواء المركيزة فلا نريد به سوى الظاهر، وسيان تهتكت بحبه أم اقتصرت على ما هي عليه الآن من الرضى عنه والرأفة به، وإن الغرض الذي نسعى إليه وهو أن يباغت المركيز شاروبيم والمركيزة في غرفة واحدة، وأما اجتماع شاروبيم بها فهو أمر ميسور لدي. - أين يجتمعان؟ - في منزل الأرملة وقد أوقفت المركيز على ما ينبغي، بحيث يكفيه أن يرى امرأته مع شاروبيم لإثبات خيانتها. فاطمئن واستعد للسفر.
ثم أخبره بجميع ما كان من أمر ليون، وأمره أن يتزيا بزي سائق مركبة كي يسوق المركبة التي تسافر بليون والفيروزة، وأخبره بجميع ما ينبغي عليه أن يفعله.
وبعد ساعتين كانت المركبة واقفة على باب منزل الفيروزة وروكامبول ينتظر فيها بزي سائق، ثم أقبل مع الخادم كما تقدم، ولما رأته الفيروزة أسرعت إليه وتأبطت ذراعه وسارت به إلى المركبة واندفع معها يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وكأنها خشيت منه عاقبة هذا التردد فجعلت تغازله وتكشف له كوامن حبها ما أنساه امرأته وولده، فصعد معها إلى المركبة وسارت بهما تنهب الأرض حتى خرجت من باريس واجتازت مسافة مسير ساعة في طريق نورمانديا.
إلا أن ليون ما لبث أن عادت إليه هواجسه، وذكر امرأته وولده، وعلم أنه يأتي أمرا جنونيا لا يقدم عليه العاقلون، ثم تمثل له ولده وهو يناديه ويتبسم له ابتسام الملائكة فاتحا ذراعيه لضمه، فثارت في فؤاده عواطف الأب وأفلت يده من يد الفيروزة وصاح بغتة بالسائق يقول: قف فلا طاقة لي بارتكاب هذه الخيانة.
فخطر للفيروزة خاطر سريع، وقالت له: ليكن ما تشاء، أتريد العودة إلى باريس؟ - أجل. - إذن، نفترق إلى الأبد.
واختلج ليون وجعل الواجب الشريف والحب الفاسد يتجاذبان فؤاده الضعيف، ولكن الواجب قد انتصر، فصاح أيضا بالسائق وقال: قف، فإني لا أريد أن أفارق ولدي.
فنادت الفيروزة السائق وأمرته أن يقف ثم قالت لليون: يعز علي أن أفارقك، إلا أني لا أستطيع أن أدعك في هذه البراري المقفرة، فإننا نبعد خمس مراحل عن باريس. - لا بأس، إني أعود ماشيا على الأقدام. - كلا، بل ترجع بك المركبة.
ثم أمرت السائق أن يرجع بهما إلى باريس.
وكان روكامبول قد سمع جميع الحديث فقال لها: إن الخيل قد تعبت يا سيدتي، ولا طاقة لها بالرجوع وقد دنونا من محطة قريبة، فإذا شئت وصلنا إليها واستبدلنا الجياد ثم نعود. - إذن، فأسرع إلى هذه المحطة.
فدفع روكامبول الجياد وليون مطرق بعينيه إلى الأرض لا يجسر أن ينظر بهما إلى الفيروزة، حتى وقفت المركبة أمام فندق منفرد، فنادى روكامبول أصحابه وللحال فتح الباب وخرج منه فانتير وهو الخادم الذي وضعه أندريا في منزل الأرملة مالاسيس، وقد تزيا بزي أصحاب الفنادق، فقال له روكامبول: أسرع وأعد لي جوادين قويين أعود بهما إلى باريس.
ثم أومأ إليه بخفة، فعلم فانتير المراد، وقال: لا سبيل للحصول عليهما قبل ساعتين.
وكان ليون والفيروزة يسمعان الحديث، فتظاهرت الفيروزة بالسرور وطوقت ليون بذراعيها وهي تقول: إني سأتزود منك ساعتين.
فأطرق ليون، وقد أخذت تلك العواطف الفاسدة تتغلب على فؤاده، فمسكت الفيروزة بيده وصعدت به إلى الدور الأول يتقدمهما صاحب الفندق وهو خادم الأرملة، وأعد لهما غرفة خاصة وأمرته الفيروزة أن يحضر لهما ما يأكلان ويشربان، فخرج مسرعا وعاد يحمل طعاما باردا وزجاجة مختومة من الخمر، فوضع الطعام على مائدة وأخذ يفض ختم الزجاجة، وهو يشير بطرف خفي إلى الفيروزة، فعلمت أن في الزجاجة مخدرا أخبرها عنه روكامبول.
وهذا المخدر الغريب في بابه، أحضره معه أندريا حين كان في البلاد الأميركية، وهو مسحوق نبات يمزج بالشراب فلا يغير طعمه ولونه ورائحته، فإذا شربه المرء تخدرت حواسه جميعها ما عدا حاسة السمع، بحيث يسمع جميع ما يقال أمامه دون أن يرى أو يستطيع حراكا مدة يوم كامل.
فلما أتم الخادم فتح الزجاجة، وضعها على المائدة وخرج، فأخذتها الفيروزة وصبت منها في كأسين وجعلت تنادم ليون وتشاغله عن امرأته وولده بأطيب الحديث، وتذكر له ما ستلقاه من لواعج الوجد بعد فراقه، ثم سقته ما بالكأس فشربه جرعة واحدة، وأدنت كأسها من فمها ثم أرجعته نافرة منه ورمته مدعية أنها وجدت فيه ذبابة، واستدعت صاحب الفندق فأمرته أن يحضر لهما زجاجة غيرها، فلما أحضرها جعلت تشاركه بشربها لخلوها من المخدرات.
وما مضى على ذلك هنيهة حتى أحس ليون بفتور في جميع أعضائه، ثم تثاقلت عيناه فجعل يتثاءب تثاؤبا شديدا، وهي تتظاهر بالانذهال من نعاسه حتى أطبق جفنيه وسقط لا يعي، فأسرعت إلى نداء صاحب الفندق وأحد خدامه، وقالت لهما وهي تعلم تأثير المخدر وأنه يسمع جميع ما تقول: احملا الزوج العزيز إلى سرير، واحذرا من أن تزعجاه فإنه منذ يومين لم ينم.
فحملاه ووضعاه على السرير، فأخذت كرسيا وجلست بإزائه وجعلت تناغيه بألطف الأصوات وتودعه بأرق العبارات، كأنها تحاول أن تسافر وتتركه نائما كي تهرب، فكان يسمع كل ما تقول لكنه لا يستطيع أن يبدي حركة لتأثير هذا المخدر القوي.
وفيما هما على ذلك إذ سمع من خارج الغرفة صوت رجل شديد يسأل صاحب الفندق بلهجة السيادة، فيقول: ألم تمر بك مركبات في هذه الليلة؟ - نعم، لقد مرت بنا مركبتان إحداهما لرجل إنكليزي، وقد استراح هنيهة وسافر، والثانية لرجل وسيدة وهما بائتان عندنا في هذه الليلة.
فصاح هذا الرجل صيحة فرح، ثم استتلاها بالشتائم والسباب وقال: إن جهنم قد بعثت بي إلى هذا المكان لأعاقب الخائنين.
أما الفيروزة فإنها أجفلت حين سماعها هذا الصوت وقالت: يا ويلتاه! إنه يطاردني فما عساه به وبي يصنع؟
وكان ليون رولاند سامعا فخاف خوف الفتاة وأفظع؛ إذ لا يطيق الدفاع وهو كما علمت لا صاحيا ولا يهجع.
أما صاحب الصوت فإنه استدل من صاحب الفندق على الغرفة التي يقيم الرجل والمرأة، فركض إليها مسرعا ورفس بابها برجله فانكسر الباب، وخرج منه دوي شديد، ودخل الرجل حتى إذا رأى الفيروزة هجم عليها وقبض على شعرها وهو يقول: أين المفر الآن وأنت في يدي؟
فركعت الفيروزة وقالت: رحماك! أشفق علي. - لا رحمة ولا إشفاق، فلا بد من قتلك وقتل هذا الرجل الذي تخونيني من أجله. - رحماك، وإذا لم ترد الإبقاء علي، فأبق عليه. - كلا، بل تموتين وإياه.
ثم هجم كأنه يريد قتل ليون، وهو يقول: سيسيل دمه على يديك، ثم تموتين بعده شر موت.
غير أن الفيروزة حالت بينه وبين ليون كأنها تريد الدفاع عنه أو الموت قبله، وجعلت تستعطفه وتتملقه، فلا يزيد إلا عتوا. كل ذلك وليون سامع جميع الحديث، ولا يستطيع أن يبدي حراكا كالنائم يصاب بالكابوس، ولكنه كان ينتظر الموت في كل لحظة.
وكان هذا الرجل قد لان فؤاده لاستعطاف الفيروزة، لا سيما حين قالت له: إني أتبعك حيث تشاء، وأحبك حبا أكيدا إذا أبقيت على هذا الرجل إذ لا ذنب له. - أتقسمين على ذلك؟ - أقسم لك بإله السماء والأرض أني أكون لك أتبع من ظلك وأطوع من بنانك، بشرط أن لا تتعرض له بأذى. - إذن هيا بنا نعود إلى منزلك في باريس، والويل لك إذا خطرت لك الخيانة في بال أو حنثت باليمين.
ثم أخذها بيدها، وخرجا من تلك الغرفة إلى قاعة الفندق في الدور الأول.
40
ولم يكن هذا الرجل سوى روكامبول، وقد اتفق مع الفيروزة على تمثيل هذه الرواية التي وضعها أندريا، فلما باتا وحدهما في القاعة، قال لها روكامبول: الحق أنك لو كنت ممثلة على المسارح، لكنت الآن من أشهر الممثلات.
فسرت الفيروزة من هذا الثناء وقالت: الآن ألا تخبرني بحقيقة هذا الدور الذي مثلناه، فإني لا أفهم منه شيئا، بل كنت فيه شبيها بالآلة الصماء. - ولكني لا أستطيع أن أخبرك شيئا، لأني أنا نفسي مثلك يديرنا رئيسنا الحاضر. - وما لديك من الأوامر الآن؟ - ينبغي أن تذهبي في الحال إلى باريس وتقيمين في منزلك بانتظار الرئيس. - ألا تعود معي؟ - لا، فإن مهمتي لم تنته بعد.
وعند ذلك خرج فأعد المركبة وعاد فأخذها إليها، وسارت بها تنهب الأرض عائدة إلى باريس، فلما بلغت إلى منزلها علمت أن فرناند قد زارها مبكرا وأنه خرج من منزلها منذ ربع ساعة فقط، ثم أعطاها أحد الخدم رسالة من أندريا يأمرها فيها أن لا تخرج من المنزل، وأن تنام إلى أن يأتي عند الغروب فيوقظها ويباحثها بشئون خطيرة، فنامت وقد أنهكها التعب إلى أن حان الأجل المضروب، ففتحت عينيها ورأت أمامها أندريا وهو يقول: كفاك نوما وهيا بنا نتحادث.
فجلست في سريرها ودار بينهما الحديث الآتي، فقال أندريا: أيعجبك هذا القصر الذي أنت فيه؟ - كل العجب. - وثلاثمائة ألف فرنك تضاف إليه. - إن هذا لقليل، فإن فرناند يعطيني أكثر من هذا. - إنك منخدعة، ولو كانت ذاكرتك جيدة لعلمت أن فرناند لم يكن له اتصال بك لولاي. - هذا لا ريب فيه، ولكن ... - بل إن هذا يدل على أن فرناند لا يستطيع أن يفيدك بشيء إلا إذا أردت. - كيف ذلك، أليس له الحق أن يصنع ما يريد؟ - كلا. - إذن تريد أن تقول أنك الوصي عليه، ولكن هذا ليس أكيدا، ولو شئت أن أنهب جميع أموال فرناند لقدرت.
فقال لها أندريا بصوت الهازئ المستخف: لقد كنت أحسب أن لك عقلا راجحا، وأنك تعلمين بأني أشتغل لنفسي لا لسواي.
فعضت على شفتها من الغيظ وقالت: لقد نسيت أنك تريد سمسرة. - نعم، وإن سمسرتي تبلغ ميلونين.
فوثبت الفيروزة من مكانها قائلة: لا شك أنك مجنون، فإن من يطمع بالكثير فاته القليل، وما دام فرناند يحبني فهو يصنع دون شك ما أريد.
فقال أندريا دون أن يبدو عليه شيء من علامات التأثر: إنك منخدعة، فإن كلمة واحدة تصدر مني إلى فرناند تكفي لهجرانه لك إلى الأبد، فإن لدي إحدى رسائلك إلى ليون رولاند.
فاصفر وجه الفتاة من الغيظ، ثم قالت: ولكني أقر له بكل شيء، وهو يحبني ولا بد له من الصفح عني.
فأخرج أندريا خنجرا وقال لها بأتم السكينة: بقي هذا الخنجر، فإنه يفعل دون شك أشد مما تفعله الرسالة.
فمدت الفيروزة يدها إلى الحائط تحاول أن تضغط على زر كان فيه قصد مناداة الخدم، ولكن أندريا عرف قصدها، فقهقه ضاحكا وقال: فاتك أيتها الحسناء أن جميع من في القصر من أعواني، وأني إذا أردت قتلك فهم يساعدونني على إخفاء آثارك.
فسقطت يد الفيروزة عن الزر وتنهدت تنهدا عميقا، فقال لها أندريا: أصغي إلي وخففي من مطامعك وانظري إلى ماضيك منذ عهد قريب تجدي أنك كنت في أشد حالة من الفقر، ثم انظري إلى حاضرك تجدي أنني قد وهبتك قصرا يبلغ ثمنه مع رياشه نحو المليونين، وفوق ذلك فإني سأهبك أيضا ثلاثمائة ألف فرنك، أفلا يكفيك جميع هذا، أم أنت تؤثرين العودة إلى حالتك السابقة؟
فأطرقت الفيروزة إطراق الواجم المقنع، ثم قالت: أمل علي شروطك، فإني راضية بما تريد.
فجلس أندريا بإزائها وقال: إذن فقد رضيت.
فأنت قائلة: ولكن هذين المليونين سيطول العهد بالحصول عليهما. - كلا، بل إنا سنقبضهما غدا إذا أحسنت الطاعة. - أراك شديد القناعة، فإن فرناند وافر الثروة، فكيف تقنع منه بالمليونين؟ - إنك منخدعة بثروته كسائر الناس، فإنه عندما تزوج بهرمين كان فقيرا لا يملك شروى نقير، وكان مهرها اثني عشر مليونا، إلا أنها حين عقد الزواج لم تخصه إلا بثلاثة ملايين، وقد أنفق منها على القصر ورياشه نحو مليون، ولم يبق له إلا مليونين. - بقي أن أعلم كيف نحصل على هذين المليونين. - إن ذلك سهل ميسور، وهو أني سأعطيك خمس حوالات قيمتها 50 ألف فرنك تسأليه أن يوقع عليها بالقبول، وهو سيقبلها دون ريب لأنها مبلغ زهيد. - وأين المليونان إذن؟
فأخرج أندريا الحوالات مكتوبة من جيبه وقال: انظري إلى هذا الحبر، فإنه إذا مسح عن الورق زالت جميع آثاره، وإذا وقع فرناند على الحوالات بالحبر العادي مسحت عنها الكتابة السابقة ويبقى الإمضاء أكتب فوقه ما أريد.
فبهتت الفيروزة لكلامه ثم أخذت الحوالات، وجعلت تقلب نظرها فيها، فرأت أنها بعيدة الآجال فقالت: إن فرناند لا يلبث أن تعرض عليه الحوالة الأولى حتى يفطن للتزوير ويبعث بي وبك إلى أعماق السجون. - لقد أصبت، ولكن ليس فرناند الذي سيدفع هذه الحوالات بل امرأته ستدفعها بعد موته حرصا على اسمه.
فأجفلت الفيروزة وقالت: ألعلك عزمت على قتله؟ - نعم! - كلا ... إني أوافقك على كل شيء وأشاركك في كل جريمة، أما جريمة القتل فإن يدي لا تنغمس فيها.
وأخرج أندريا الخنجر من جيبه ثانية ووضعه على منضدة أمامه، وهو يقول: لا شك أنك بلهاء، فإنك تدافعين عن حياة الآخرين وأنت أولى بالدفاع عن حياتك.
وهالها بريق الخنجر وانقادت صاغرة إليه، ودار بينهما حديث طويل لا ندري خلاصته إلا أن نتائجه ستظهر قريبا.
ولما فرغا من هذا الحديث أمرها أن تكتب رسالة إلى فرناند تدعوه بها إلى العشاء معها، ففعلت وخرج أندريا على أن يعود حين يجيء فرناند فيختبئ في إحدى الغرف.
أما الفيروزة فإنها أوقدت المصابيح بجميع المنزل، كأنما هي تعد ليلة راقصة، ثم جعلت تنتظر قدوم فرناند، وفي الساعة التاسعة أقبل هذا المفتون فاختلقت له حديثا ملفقا عن السبب الذي دعاها إلى الغياب، وجلست وإياه على المائدة تسقيه من خمرها ومن عينيها كئوسا أضاعت رشاده، وجعلته آلة في يديها حتى سألها عن السبب في هذا الانقلاب الشديد، فأخبرته بأن لها عما مدينا وأنها تشفق عليه وعلى شرفه وسوى ذلك، إلى أن سألها عن مبلغ دينه. - خمسون ألف فرنك.
وضحك فرناند ضحك الهازئ وقال: أتحزنين لهذا المبلغ الزهيد، وأنا صاحب الملايين؟
ثم هزته أريحية الحب ونشوة المدام، وقام إلى منضدة يريد أن يكتب حوالة على صرافه بالقيمة، فمنعته الفيروزة وقالت: ليس هذا الذي أريد، بل إني أسلك التوقيع على خمس حوالات يبلغ مجموعها هذه القيمة.
ولم يخطر الشر لفرناند في بال، وقال: هات الحوالات.
ودخلت الفيروزة إلى الغرفة المجاورة حيث كان مختفيا أندريا، وقالت له: لقد وقع الطير في الشرك فهات الأرواق. فأخرج أندريا من محفظته الحوالات التي تقدم ذكرها، وأعطاها إياها، فذهبت بها إلى فرناند حيث وقع عليها جميعها كما تريد وهو لا يعي من شدة سكره ما يفعله، فحملتها وذهبت بها إلى أندريا فأخذها والفرح ملء فؤاده وأعادها إلى المحفظة، وهو يقول: عودي إلى فرناند وتأهبي، فإن رجل الخنجر سيأتي قريبا.
وكانت الفيروزة قد ذكرت موقفها الهائل وتمثلت لها تلك المعركة العظيمة التي ستجري بين العاشقين فقالت: رباه! ماذا أفعل وما يكون من أمرى في هذه المعركة؟
فقال لها أندريا: إنك تختبئين بعد أن تطفئي المصباح. - ولكنه يقتلني بعد ذلك. - لا تخشي، فإننا سنجيء لإنقاذك. - وما يكون من نتائج هذا القتل؟ - إن البوليس يقبض عليك، ويسألك عما جرى في المنزل، فتقولين إن لي عاشقين دفعت بأحدهما الغيرة إلى قتل مزاحمه، فيطلقون سراحك وتعودين آمنة إلى ما كنت عليه، فخرجت الفيروزة مطرقة الرأس، وهي خائفة أشد الخوف وعادت إلى فرناند. أما أندريا فإنه ما لبث بعد أن خرجت الفيروزة وساد السكون في تلك الغرفة المختبئ بها، حتى سمع تنفس إنسان من ورائه، فالتفت منذعرا فرأى على نور النار الضعيفة في المستوقد خيال إنسان ورأى في إحدى يدي ذلك الخيال سلاحا يلمع، فوجف فؤاده، وقال في نفسه: ألعله قدم أحد لنصرة فرناند؟
41
ولنعد الآن إلى روكامبول، فلقد تركناه في الفندق بعد رجوع الفيروزة ينتظر أن يصحو ليون من رقاده، أما المنكود فإنه كان على ما وصفناه صاحيا في زي نائم من تأثير المخدر الذي شربه، وقد لقي أهوالا شديدة في رقاده، فإنه كان يسمع ما دار بين الفيروزة وعشيقها وينتظر الموت في كل لحظة، فلما ذهب بها ما لبث أن اطمئن على نفسه لسلامته من الموت حتى عادت إلى فؤاده لواعج الغيرة تعضه بأنيابها المسنونة، وهو لا يستطيع أن يبدي حراكا، ثم شعر من نفسه أن نومه قد طال، وفيما هو كذلك إذ فتح صاحب الفندق غرفته وقال: إنه لا يزال نائما، ألعله سينام نوما إلى الأبد؟ فسمعه ليون وخشي إذا طال نومه أن يدفنوه حيا، ثم جعل يذكر جميع الحوادث التي كان يقرؤها في الجرائد عن دفن الأحياء لحسبانهم في عداد الأموات، فينخلع قلبه من الخوف.
وما زال على هذه المخاوف المقلقة إلى أن أذنت الشمس بالمغيب، ففتح عينيه وجعل ينظر نظرات الرعب إلى ما حوله، ثم جعل يحرك يديه ورجليه كأنه غير مصدق بصحوه وعوده إلى الرشاد، واستوى جالسا في سريره فجعل يستعرض في سره ما مر به من الحوادث، وهو يحسب أنه كان بالكابوس الذي يعرض لبعض النائمين المزعجين في النوم.
ثم إنه أراد أن يتحقق جميع ذلك، فنادى صاحب الفندق حتى إذا صعد إليه كان أول سؤال ألقاه عليه قوله: أين هي؟ - من هي؟ - السيدة التي كانت معي.
فأجابه بصوت المتهكم: إنها يا سيدي أتت معك، ولكنها عادت مع سواك إلى باريس.
فصاح ليون صيحة منكرة؛ إذ ثبت لديه أنه لم يكن حالما، وأن جميع ما مر به كان حقيقة ثابتة لا ريب فيها، فوثب من سريره إلى الأرض، وخرج من الغرفة خروج المجانين، حتى إذا بلغ إلى باب الفندق العمومي سمع صوت رجل يناديه، فالتفت فرأى روكامبول بزي سائق وهو جالس إلى مائدة عليها أكل وشراب، فقال: ماذا تريد؟ - إني عائد إلى باريس، فإذا شئت صحبتك معي إليها. - إذن أسرع بإعداد المركبة. - ألا تشرب كأسا؟ - ويحك كيف يخطر لي الشراب وأنا على هذه الحال. - رويدك يا سيدي، واجلس معي قليلا إلى أن أفرغ من الطعام، وإذا شاركتني بهذه الزجاجة قصصت عليك أمر الفتاة التي أتيت بها ثم ذهبت مع سواك، وأطلعك على سرها. - أنت تعرف سرها؟ - نعم، ولكني لا أطلعك عليه إلا على شرط الشرب معي. - رضيت، فقل ما تعلم.
فصب له روكامبول كأسا، فشربه جرعة واحدة وهو يذوب تلهفا للاطلاع على هذا السر، وصب له روكامبول كأسا فشربه جرعة ثانية، وقال: أبدأ فأقول لك إني كنت في خدمة هذه الفتاة التي تعشقها، وهي فتاة مخلصة النية لطيفة الشعور، إلا أن عشيقها الذي استردها منك اليوم لا رحمة في فؤاده ولا إشفاق عنده؛ فإنه يعاملها شر معاملة ويضربها الضرب المبرح حتى أنها باتت تؤثر الموت على صحبته.
فسخط وأخذ مدية كانت على المائدة، فقبض عليها وضرب بها المائدة كأنه يضرب ذلك الرجل وهو يقول: لا بد من قتله.
وصب له روكامبول كأسا ثالثة وجعل يفضح أعمال هذا العشيق، ويذكر له عيوبا لا تحتملها النفوس، ثم يذكر في مقابل ذلك ما تقاسيه الفيروزة من العناء والمتاعب، وأنها لا يتسنى لها الراحة مما هي فيه إلا إذا مات هذا الجاني، وكان كلما ذكر له نادرة سقاه كأسا فزاده تحمسا، إلى أن اشتد سكر ليون وعاهده روكامبول على أن يوصله إلى مزاحمه، وعاهد نفسه على أن يقتله شر قتلة.
ولما رأى روكامبول أن المدامة قد نهبت من عقل هذا الصانع المنكود بقدر ما يريد، قام عن المائدة وأعد المركبة ودعاه للسفر، فأسرع ليون إليها وهو يتهادى في مشيته من الشرب، وقد جحظت عيناه من الغضب، وسارت بهما إلى منزل الفيروزة حتى بلغت إليه والفيروزة عند ذلك مع فرناند، بعد أن أخذت منه الحوالات المزورة على ما تقدم.
أما ليون فإنه صعد مشهرا بيده الخنجر وهو هائج هياج المجانين، وكان روكامبول يتقدمه كي يرشده إلى الغرفة التي يقيم فيها فرناند، ولما قرب أن يدنو منها أشار له عنها بيده وخرج مهرولا وهو يقول في نفسه: لقد فعلت ما وجب علي، ولتفعل الفيروزة ما يجب.
وأسرع ليون إلى الباب يريد اقتحامه إذ لم يكن مفتوحا، فتصدى له أحد الخدم وحاول منعه عن التقدم، فضربه ليون بيده ضربة سقط في إثرها على الأرض، وأسرع إلى الباب فوجده مقفلا ولكنه رأى النور من ثقبه، فطرقه فلم يفتح له، بل سمع أنه أقفل مرة ثانية، وجعل يطرق الباب مغضبا وهو يقول: افتحي إني لا أريد بك شرا، بل أريد قتل الظالم. افتحي أو أقتحم الباب.
أما فرناند فإنه دهش لهذا الحادث الذي لم يكن يخطر له في بال، ثم رأى من إنذار هذا الطارق واصفرار الفيروزة واضطرابها ما زاد في هواجسه، فسألها من هذا وماذا يريد؟ - ألا تسمع أنه يريد قتلك؟ ثم تظاهرت بمظاهر الإقدام وقالت: إنه عشيق قديم لي نسيت أن أخبرك عن أمره، فاهرب بالله إنه شديد الغيرة.
وكان فرناند قد شرب حتى سكر، فهاجت غيرته أيضا وأخذ سكينا عن المائدة وهو يقول: ليدخل ولنرى من يقتل الآخر.
فما أوشكت الفيروزة أن تستعطفه حتى كسر الباب ودخل منه ليون، وأسرعت الفيروزة إلى الشمعة التي كانت تنير الغرفة فألقتها على الأرض بحيث انطفئت، وساد الظلام قبل أن يرى أحدهما الآخر، ثم هربت إلى غرفة ثانية ولكنها لم تكد تخرج وتسود الظلمة في تلك الغرفة حتى فتح باب آخر وظهر منه نور عظيم شق حجاب الظلام، وأظهر للعاشقين موقفهما الهائل الشديد.
42
تقدم لنا القول إنه حين أعطت الفيروزة الحوالات لأندريا وخرجت من الغرفة التي كان فيها للاجتماع مع فرناند، رأى أندريا على نور النار المشبوبة في المستوقد شبح إنسان، ولما رأه جعل يحدق به ويتراجع على بسالته منذعرا إلى الوراء، حتى لم يعد يطيق الرجوع لبلوغه إلى الحائط، وعند ذلك تقدم منه الخيال حتى بلغ إليه، وشعر أندريا بأنفاسه تهب على وجهه، فانذعر وقال: من أنت؟ وماذا تريد؟
أما الخيال فإنه لم يجبه بحرف، بل إنه قبض على عنقه بإحدى يديه، ووضع على جبهته باليد الثانية معدنا باردا علم أندريا في الحال أنه حديد مسدس، ثم سمع صوتا نسائيا يقول: يجب أن تعطيني الحوالات وإلا فأنت مائت لا محالة.
فاضطرب أندريا لأنه علم أن هذا الصوت صوت باكارا، وأنه إذا لم يرجع إليها الحوالات قتلته دون شك، فمد يده إلى جيبه وأخرج الحوالات دون تردد، إلا أن باكارا لم تمسها بيدها بل بقيت قابضة على عنقه وقالت له: ألق هذه الحوالات في النار، ولم يسعه إلا الامتثال وألقاها وهو يكاد يذوب إشفاقا على زوال مطامعه.
وكانت باكارا متشحة برداء طويل لا يخفي منظرها عمن يعرفها، إلا أن أندريا كان متنكرا تنكرا عظيما، بحيث يستحيل على باكارا أن تعرفه، ولكن باكارا أرادت أن تتبين وجهه فقالت ببرود: إذا أحببت الحياة فينبغي عليك أن تطيعني.
فقال بلهجة الإنكليز: إني أطيعك في جميع ما تريدين. - خذ هذه الشمعة وأشعلها من نار المستوقد.
فامتثل أندريا، وقالت له: أشعل الثانية فإن أمثالنا يجب أن يعرف بعضهم بعضا.
وامتثل أيضا وأنار الشمعة الآخرى، وصوبت إليه مسدسها وقالت: إن من كان لصا أثيما مثلك يسرق مليونين وثلاثمائة ألف فرنك بأقبح الحيل، لا بد له أن يحمل خنجرا في جيبه، فأسرع يا حضرة الميلورد وألقي خنجرك إلى الأرض، وأنا قلت لك ميلورد لأنك قد تقمصت فصرت إنكليزيا.
ولما رأت أنه يتردد صوبت إليه المسدس أيضا، وقالت: إذا تأخرت دقيقة واحدة فإنك مائت. وقد صوبته إلى الرأس، فعلم أندريا أن لا حيلة معها، ففك أزرار ثوبه وأخذ الخنجر وقدمه لها وهو يؤمل أنها متى مدت يدها لاستلامه انقض عليها وجردها من سلاحها فكان له الفوز، غير أنه ساء فأله، فإن باكارا كانت أشد منه دهاء، وكأنها قد أدركت قصده فقالت: كلا، بل ألقه إلى الأرض.
فألقاه مكرها وهو يرجو أيضا أن تنحني لأخذه، غير أنها وضعت رجلها عليه وجعلت تتفرس به وهي تقول بنفسها: أظن أن هذا الرجل هو أندريا بعينه، ولكنه قد غير هيئته تغيرا شديدا بحيث لا أستطيع الحكم عليه إلا من عينيه، فإنهما هما هما لم تتغيرا.
ولما فرغت من تمعنها تراجعت إلى الوراء وهي لا تزال مصوبة المسدس، وقرعت على باب الغرفة مرتين ففتح الباب ودخل منه رجلا حسبه أندريا في بادئ الأمر أحد خدام الفيروزة، ولكنه لم يكن إلا الكونت أرتوف الروسي صديق باكارا، وقد دخل مسلحا بمسدس أيضا، فأومأت بيدها إلى أندريا، وقال للكونت: إني أعهد إليك مراقبة هذا الرجل، وحذار من أن يفر. - كوني مطمئنة، فإن قبضتي شديدة ومسدسي لا يخطئ.
ثم أخذت شمعدانا فيه كثير من الشموع وأشعلتها جميعا، ودخلت بها إلى الغرفة التي كان فيها فرناند وليون يوشكان أن يقتتلا، على ما عرفه القراء، فلما دخلت وهي تحمل هذه الأنوار ورأتها الفيروزة فعلمت أنها باكارا، صاحت صيحة رعب ووقفت في مكانها لا تعلم من الذعر كيف تفر.
وكان المنظر هائلا يستوقف الأبصار، فإن ليون كان يحمل بيده الخنجر وهو كالهائم على وجهه لا يعرف أين يغمده ويبحث بين الظلمات عن صدر فرناند، وهو لا يعرفه، وفرناند أصفر الوجه لا يزال يتمايل من السكر واقفا في مكانه ينتظر أن يقتله هذا العدو اللدود، وهو لا يعرف من هو، ولما تبدد الظلام بنور باكارا ورأى كل منهما الآخر صاحا صيحة إنكار، ورمى ليون الخنجر من يده إلى الأرض، ثم ما لبث أن رأى باكارا حتى أطرق بنظره إطراق الخجل النادم، وكذلك فرناند فإن باكارا حلت فيهما حلول القضاء، ولم تكن إلا رسول السلام.
وبعد أن صبرت عليهما هنيهة وهي تبتسم لهما ابتسام المؤنب الظافر، وضعت مصابيحها على المائدة ثم التقطت خنجر ليون ودنت من الفيروزة وهي توشك أن تسقط على الأرض من الرعب، وقبضت عليها بيد من حديد وقالت لها وهي مصوبة الخنجر إلى صدرها: اختاري الآن بين أن تموتي أو أن تبوحي بكل شيء.
وجعل ليون وفرناند ينظر كل منهما إلى الآخر نظر الوجل والانذهال، وهما لا يدركان شيئا من هذه الأسرار، وضغطت باكارا على الفيروزة وسألتها: أيتها الأفعى اعترفي لليون بأنك تريدين وضع ابنه بين اللقطاء، وأن كل ما جرى أمس لم يكن إلا رواية تمثيلية، وأنك كنت السلاح القاتل بل أنت التي كنت تدفعينه إلى قتل فرناند، اعترفي أو تموتي.
ثم أدنت الخنجر من عنقها ووخزتها به وخزا خفيفا، ولما شعرت بالألم ورأت أنها لا نجاة لها إلا بالصدق قالت: رحماك، إني أعترف بكل شيء، وإن كل ما قلتيه حق لا ريب فيه.
فصاح ليون صيحة منكرة وكاد يمزقها بيديه، أما باكارا فإنها أدنت الخنجر أيضا من عنق الفيروزة، وقالت لها: اعترفي الآن أيضا أمام فرناند أنك دعوتيه إلى التوقيع على حوالات تبلغ قيمتها مليوني فرنك لا خمسين ألفا كما أوهمتيه، ثم إنك لم تقتصري على ذلك بل إنك أردت قتله، وبعت حياته بثلاثمائة ألف فرنك ... اعترفي في الحال أو استعدي للموت.
ولم تعد الفيروزة تملك نفسها من الرعب، وقالت: نعم، كل ما تقولينه حق . - والآن قولي للاثنين أنك سحقت قلبيهما وعبثت بشرفهما، وأنك لولاي لكنت قتلت الاثنين، قولي لهما إذا كنت تؤثرين الحياة عن ذلك الشيطان المريد الذي كان يدفعك إلى هذه الآثام، فإنك لم تكوني إلا آلة بين يديه.
ثم ضغطت عليها ضغطة أضاعت صوابها، ووخزتها بالخنجر تريد حملها على الإقرار، فتراءى للفيروزة أن ما بنته من صروح الآمال قد تهدم بلحظة واحدة، وأنها سقطت إلى الحضيض وستعود إلى حالتها الأولى من الفقر المدقع، ثم هالها هذا الموقف الشديد من ذلك الخنجر البراق الذي كان يخز عنقها من حين إلى آخر، فقضي على عقلها وأجابت باكارا بضحك عصبي شديد تبين منه أنها قد جنت لهول ما لقيت، فرفستها باكارا برجلها وقالت: لم يعد لنا بك مآرب بعد أن ضاع صوابك.
ثم التفتت إلى فرناند وليون وقالت لهما: اتبعاني إلى هذه الغرفة المجاورة كي أريكما ذلك الرجل الجهنمي الذي يطاردكما منذ أمد بعيد، ويحاول سلب شرفكما وحياتكما وأقوالكما. اتبعاني فإنه في هذه الغرفة.
ثم مشت أمامهما حتى بلغت إلى باب الغرفة التي يقيم فيها أندريا والكونت الروسي، وفتحت بابها بعنف، ولكنها لم تكد تفتح الباب حتى خرج دوي مسدس شديد اضطربت له جوانب المنزل، وتبعه صوت سقوط جسم على الأرض، فارتجفت باكارا منذعرة وقالت: هو ذا العدل قد نفذ، فإن الكونت قد قتل أندريا رسول إبليس على الأرض.
43
إلا أن باكارا أخطأت بحسن ظنها بالعدالة، فإن هذا الرجل الأثيم لم يقتل بل إنه فر من القضاء قبل أن يضربه الضربة القاضية. وإليك تفصيل الحديث: إن أندريا والكونت أرتوف لم يفتهما شيء مما جرى داخل الغرفة التي كانت فيها باكارا، وقد سمعا كل شيء فكان أندريا ينظر تارة إلى باب الغرفة التى يحميها الكونت أرتوف، وينظر طورا إلى نافذة مفتوحة تشرف على الحديقة، فخطر له أن يلقي بنفسه من هذه النافذة، ولكنه لم يكن يستطع إلى ذلك سبيلا لفرط عناية الكونت بمراقبته، وما زال على هذه الحال إلى أن فتحت باكارا الباب بذلك العنف الذي قدمناه، فالتفت الكونت منشغلا بما سمع عن أندريا، فهب أندريا إلى النافذة بأسرع من لمح البصر وألقي بنفسه منها إلى أرض الحديقة، فجن الكونت أرتوف من يأسه وأطلق عليه نار مسدسه دون أن يعلم إذا كان أصابه أو أخطأه.
وسمع سقوط جسمه على الأرض، ثم تلاه سكوت حسب بعده أن الرصاصة قد أصابته وأنه قد سقط قتيلا.
أما باكارا فإنها ذعرت ذعرا شديدا، وصاحت صيحة القانط: ألعله نجا؟
فقال لها الكونت: إذا كان قد نجا من الرصاص، فهو قد قتل إثر سقوطه؛ لأني لا أسمع له حسا.
وعند ذلك أقبل الجميع على النافذة علهم يرون شيئا من آثاره، فسمعوا صوت مشي أقدامه وعلموا أنه فر، فتراجعوا جميعهم إلى القاعة، فأخرجت باكارا من صدرها رسائل الفيروزة إلى ليون وأطلعت عليها فرناند وهي تقول: أتعرف هذا الخط؟
فتبينه فرناند وقرأ جميع تلك الرسائل، وعلم أنه كان آلة بيد تلك الفتاة، وأنه مدين بشرفه وحياته وأمواله لباكارا، وكذلك ليون فإنهما لم يعد يعوزهما برهان على الجريمة. فجعلت عند ذلك باكارا تؤنبهما تأنيبا لطيفا، وتذكر كلا منهما بواجباته الزوجية إلى غير ذلك من ضروب النصح، وهما يكادان يذوبان من الخجل والامتنان، فصرفتهما إلى منزلهما وهي تقول لهما عودا إلى ما كنتما فيه من الرغد والهناء، وكونا مطمئنين مع نسائكما وبنيكما، فإن الذي سيسهر على هنائكما ليس له بنون، وليس في قلبه حب، ولا يخطو خطوة إلا في سبيل خيركما.
فذهب الزوجان إلى منزليهما وقد نسيا ذلك الحب الشائن القديم، وحملت الفيروزة إلى مستشفى المجانين، وعادت باكارا مع الكونت أرتوف إلى منزلها وهي مشتتة البال، قانطة الفؤاد، لإفلات أندريا من قبضتها.
أما أندريا فإنه عندما ألقى بنفسه من النافذة سقط على أرض كثيرة العشب، فلم يصب بأذى، ونهض فهرول مسرعا إلى باب الحديقة فألقاه مقفلا، فالتفت إلى نوافذ المنزل ليرى من حركة أنواره إذا كانوا يطاردونه، فرأى أن الأنوار لا تزال في قاعة الاستقبال، وعلم أنهم تيقنوا من فراره، وقنطوا من لحاقه، فتسلق جدار الحديقة وسقط منه إلى الشارع، ثم مشى قليلا حتى لقي مركبة فركب فيها وذهب إلى روكامبول.
وكانت علائم القنوط بادية في وجهه، فلما رآه روكامبول ذعر وقال له: ماذا دهاك؟ - لقد فشلت وأنا قادم فارا من الموت، ولم يكن بيني وبينه إلا لحظة.
ثم أخبره بجميع ما كان من خسارته للمليونين بعد أن وصلا إلى يده، وكيف أن فرناند قد نجا من الموت، وليون سلم من تبعة القتل، إلى غير ذلك مما عرفه القراء، فأجفل روكامبول وقال له: ألعل باكارا قد عرفت من أنت؟ - لا أعلم، فإن هذه المرأة أصبحت لدي سرا من الأسرار، والذي أراه أن جميع مساعينا ستخفق بسببها إذا لم تسرع إلى إهلاكها، فإنها تتصدى لنا في كل سبيل، وما راعني غير إنقاذها لفرناند.
فهز روكامبول رأسه وقال: أراك تأسف لنجاة فرناند فوق أسفك لفقد ملايينه. - هو الحق ما تقول، إني أكرهه كرها شديدا لا أحفل بعده بالملايين. - إنك رئيس جمعيتنا، فلا حق لي أن أعترضك في أمر، ولكني لا أجد بدا من القول إنك قد تماديت في الرغبة بالانتقام، حتى إنك بت تؤثره على مصلحتنا، ولا أنكر أن الانتقام مسرة الآلهة، غير أن الآلهة من أهل الخلود ولديهم فسحة من الأجل يستطيعون معها بلوغ الانتقام وغيره من أغراض النفوس، خلافا للإنسان، فإن مجال العمر لديه أقصر من أن يصرفه لغرض واحد، ولقد خلقت كونتا وربيت في أكناف النعمة، فلم تعد تكثرت للمال، أما أنا فلا أكتمك أن اسمي ولقبي عارية، وأني لا أخدمك وأعرض نفسي للأخطار إلا كي أظفر بمغنم أعيش بعده آمنا شر الفقر ونكد الأيام. ولكننا لا نكاد نظفر بغنيمة حتى يعرض لنا انتقامك فنخيب فيها، مثال ذلك ما جرى مع فرناند، فإنك لو لم تدخل ليون في روايته وتشركه في حب الفيروزة لما تنبهت لنا باكارا.
وكان أندريا يصغي إليه حتى أتم حديثه فقال له ببرود: لقد طالما قلت لك إنك لا تزال صبيا لا تدرك شيئا من خفايا الصناعة، ولا تصلح إلا أن تكون آلة صماء.
فكبر هذا القول على روكامبول وقال: كيف ذلك؟ - إنك لو تدبرت الأمر لعلمت أن جميع ما دبرته من المكائد لم يكن الغرض منه إلا المال أولا، ثم الانتقام ثانيا. أضرب لك مثالا على ذلك نفس حادثة فرناند، فإننا لا نستطيع سلبه المليونين إلا بتزوير الحوالات المزورة التي لا يمكن قبضها وهو في قيد الحياة لئلا يفتضح أمرها، وإذا كنت أنا وأنت لا نجرؤ على قتله، فلم أجد بدا من إغواء مزاحم له في غرامه على هذا القتل، أفأكون مخطئا إذا وضعت الخنجر بيد ليون وجمعت بين المال والانتقام؟ ثم إنك لو تمعنت قليلا لوجدت أننا نمثل الآن ثلاثة أدوار يبدو لك من بعضها ظواهر الانتقام المحض، أما الغرض منها في الحقيقة فهو المال؛ أما الأول فهو دور فرناند، وقد مضى البرهان عليه، وأما الثاني فهو دور الفتاة الهندية وهو مالي بحت، وأما الثالث فهو دور أخي أرمان، فإني لا أريد قتله والزواج بأرملته لمجرد الانتقام والشغف بامرأته، بل لأستأثر بملايينه من بعده. والآن فإني أرجو أن تكتفي بما ذكرته لك من الأدلة، ولنعد إلى حديث الأشغال.
فأطرق روكامبول واجما وقال: ليكن ما تريد. - لنبدأ بباكارا، فإني أصبحت أخافها، وأرى أنه لم يعد بد من قتلها. - لنقتلها، ولكن كيف تريد أن يكون هذا القتل بالخنجر أم بالخنق؟ - لا هذا ولا ذاك، إذ لا سبيل لنا إليها، فإن جميع خدمها مخلصون لها، وفوق ذلك فإن قتلها وقتل المركيزة ينبه أنظار الشرع إلينا، بل إننا نقتلها بالسم الذي أحضرناه من البلاد الأميركية، وهو سم غريب لا نعلم من خواصه سوى أنه يميت كسواه من السموم، ولكنه يقتل بالشم وباللمس وبالذوق، ومن غرائب أمره أنه إذا شربه المرء أو شمه أو لمسه تحدث له على الفور نشأة كنشأة السكر، وينطلق لسانه بمكنونات فؤاده، فلا يكتم سرا من أسراره، ثم يفاجئه الموت العاجل دون أن تبدو عليه آثار التسمم. - إنه فكر حسن، ولكن كيف السبيل إلى تسميم باكارا به، وليس لنا اتصال بها؟ - بواسطة شاروبيم، ألم تقل لي أنه يذهب إليها في كل ليلة؟ - هو ذاك، إن شاروبيم لا يروق له قتلها؛ لأنه يخسر الرهان بموتها وما يطمع به من كسب الرهان. - لكننا نضع في يده هذا السم دون أن يعلم ما يحمل، وذلك أنك تلبس في يديك قفازين من الجلد الثخين، وتضع على وجهك حجابا من زجاج كي لا تلمس السم ولا تشمه، ثم تأخذ قطرة من هذا السم وتضعها في زجاجة من العطر الفاخر، وبعد أن تختمها تدفعها إلى شاروبيم وتقول له: خذ هذه الزجاجة وأهدها إلى باكارا، فإنها إذا تنشقت رائحتها المنعشة هاجت فيها عواطف الحنان وبلغت من حبها لك ما تريد، فإن لهذا العطر خاصة في إثارة العواطف النفسانية يدفعها إلى الحنو.
فأظهر روكامبول سروره وقال: إنها خير طريقة للانتقام من باكارا والاطلاع على أسرارها. - سأرسل لك السم بعد ساعة، والآن فأصغ إلي كي أخبرك بما يجب صنعه بشأن الهندية.
وخلا به فاختط له خطة هائلة سنقف على تفاصيلها فيما سيجيء.
44
وفي اليوم التالي بينما كان شاروبيم مقيما في منزله، وردت عليه رسالة مكتوبة بخط نسائي فما شكك أنها من باكارا، وفتحها فإذا هي تدعوه إلى الحضور إلى منزلها عند منتصف الليل، غير أنها لم توقع على الرسالة، فلم يكترث لذلك وجعل يبني صروح الآمال ويعلل نفسه بكسب الرهان وقبض النصف مليون، وفيما هو على ذلك إذ دخل عليه روكامبول وقال: أبشر فسنظفر بالخمسة ملايين وتأخذ النصيب الأوفر. - كيف ذلك؟ - اجلس على مائدة الكتابة، واكتب ما أمليه عليك إلى المركيزة.
فلم يسع شاروبيم إلا الامتثال، فأخذ القلم بيده، وأملى عليه روكامبول ما يأتي:
سيدتي
أعلم أني لا أخطر لك في بال، ولكني أجسر على الكتابة إليك لأن ما ألتمسه منك يتعلق عليه نعيمي وحياتي، فلا إخالك ترفضين طلبي وقد جبلت على اللطف ومكارم الأخلاق، وأشبهت الملائكة في كل شيء، على أني أكتب إليك هذه السطور بيد ترتجف، لأني تجرأت على الكتابة إليك، كما تجرأت على أن أرفع عيني إلى وجهك المشرق بنور الفضيلة والشرف.
ولقد قلت إن هذا الكتاب تتعلق عليه حياتي ونعيمي، على أني لا أريد بها نعيمي وحياتي خاصة، فقد سئمت الحياة ويئست من كل نعيم بعد أن عولت على أن أهيم على وجهي، ولكني أريد بهما حياة ونعيم من لا نصير لهما في هذا العالم إلاي.
وأنا مسافر غدا إلى الهند سفرة لا أوبة بعدها، ورجائي أن تمني علي بمقابلة أخبرك فيها بشأن هذه الأم المنكودة، وعسى ألا أخيب.
ولما فرغ شاروبيم من الكتابة قال: أتظن أن هذا الكتاب يقنعها ويحملها على مقابلتي؟ - ذلك لا ريب فيه. - وماذا تريد أن أحدثها عن أمي، وأنا لا أم لي؟ - لا يجب أن تحدثها عنها بشيء، فإن هذه المقابلة ستكون في منزل الأرملة مالاسيس، وهي تكون غائبة عن المنزل، فمتى قدمت المركيزة تجثو أمامها وتكلمها بلهجة محب سعيد في غرامها منذ عهد بعيد، وقد بلغ في حبها أقصى ما يرجو، إلى غير ذلك من الأقوال الدالة على تمكن الحب بينكما.
فاعترض عليه شاروبيم وقال: كيف أستطيع أن أذكر أمامها مثل هذه الأقوال، فإنها توقفني بنظرة عند حدي؟ - إنها لا تجد وقتا فسيحا، فإنك عند أول جملة تقولها تخرج رصاصة من مسدس المركيز فتخرق صدرها.
فأجفل شاروبيم وقال: ألعلك تطمئني بذلك؟ - لا تخش فإن رصاصة المركيز لا تخطئ، وهو من مشاهير الرماة. - ولكنه إذا قتلها، فلا بد له من قتلي بعدها. - كلا، فلقد أقسم أن لا يقتل سوى امرأته، وأن لا يعترض بسوء لسواها؛ إذ إنه يرى أن الذنب في تلك الجرائم لا يجب أن تلقى تبعته إلا على المرأة، فإنها لو أرادت صيانة نفسها لما تجرأ الرجل عليها.
فطاب خاطر شاروبيم واطمأن، ثم جعلا يتنقلان بالحديث إلى أن دفعه روكامبول إلى الحديث عن باكارا، فأخبره عن الرسالة التي وردت إليه وأطلعه عليها، فقال له روكامبول: لا شك أنها منها، وإن تكن خالية من توقيعها وهو ما يدل على أنها تحبك حبا أكيدا. - لم يعد لدي ريب بحبها بعد أن أكرهتني على الرجوع عن الرهان، فإنها أرادت بذلك أن تستبقيني لحبها لي، وأن تستبقي الكونت الروسي لطمعها بأمواله، وهي لا تعلم أني جددت الرهان بالسر، إلا أن الذي يسوءني منها أنها لا تزال واقفة معي في مواقف المتردد. - أأنت واثق من أنها تهواك؟ - لا ريب عندي، ولكني أخشى أن يطول ترددها فينقضي الأجل المفروض بيني وبين الكونت وأخسر الرهان، وليس بعد خسارته كما تعلم سوى الموت.
فأخرج روكامبول زجاجة العطر المسموم من جيبه وقال: إني سأخدمك أجل خدمة، فانظر إلى هذه الزجاجة العطرية، فإن من يفض ختمها ويشم رائحة عطرها تهيج منه مكامن الغرام، ويندفع في القول إلى أن يبوح بجميع ما في فؤاده من الأسرار. فخذها إليها فإنها من العطور الشهيرة وستقبلها منك راضية شاكرة، وقبل أن تدفعها إليها أخبر الكونت أنك واثق من كسب الرهان، فاتفق معه على أن يسمع حديثكما في غرفة مجاورة، حتى إذا خلوت بها وهو مختبئ بجواركما أعطيتها الزجاجة، فتفضها وتشمها وعند ذلك تبوح لك بغرامها وسائر مكنونات صدرها، فتبلغ منها ومن الكونت ما تريد. إنما يجب عليك أن تحذر من أن تشم ذلك العطر لئلا تحدث لك نشأته، فتبوح بأسرارنا.
فسر شاروبيم سرورا عظيما لهذه الهدية النفيسة، وأخذ الزجاجة من روكامبول شاكرا ثم خرج الاثنان يتنزهان في غابات بولونيا.
45
ولما كان المساء، ذهب شاروبيم إلى النادي الذي يقيم فيه الكونت الروسي، فخلا به وقال له: أتذكر يا سيدي الكونت الرهان المعقود بيننا؟ - أذكره ولا أنساه. - إنما أردت تذكيرك به لاعتقادي أني كسبته.
فقال له الكونت بسكينة: إني أهنئك بفوزك، ولكني لا أقنع إلا بالبرهان. - إذا كنت تعرف خط باكارا فاقرأ هذا الكتاب.
ثم أعطاه الرسالة التي وردت إليه في الصباح، فأخذها الكونت وتلاها ثم ردها إليه وهو يقول: إنك مخطئ فليس الخط خطها. - ربما كنت مخطئا، ولكن الرسالة إذا لم تكن من خطها فهي من إملائها، وفي كل حال فقد كسبت الرهان.
فقال الكونت: إن هذا البرهان غير كاف، ولا يسعني الاقتناع إلا حين أسمعها تقول لك: أحبك.
فذكر شاروبيم ما أوصاه به روكامبول، وقال له: إن هذا سهل ميسور، وذلك أنك تزورها في هذه الليلة ثم توهمها أنك انصرفت، وتعود فتختبئ في الغرفة المجاورة للقاعة أو المجاورة للغرفة التي تكون فيها، وليس ذلك عليك بعزيز، فإنك قادر على شراء الخدم بالمال، فإذا قبلت بهذا الشرط فاحضر الليلة. - رضيت وموعدنا هذه الليلة. - لا تنس أن تصحب معك المال.
فأجابه باسما: وسأصحب المسدس أيضا.
فانحنى شاروبيم مسلما وقال: لقد أصبت، فلا نعلم لمن يكون النصر.
ثم افترقا، فدخل شاروبيم إلى قاعة اللعب، وذهب الكونت إلى باكارا، ثم اجتمع شاروبيم بروكامبول، وأخبره بما جرى بينه وبين الكونت الروسي، وعند منتصف الليل، وقد دنا موعد اجتماعه بباكارا برح النادي وذهب إليها.
وكانت باكارا قبل ذلك بساعة مختلية مع الكونت أرتوف، فكانت تقول له: إني لم أكن أثق بالتنويم المغناطيسي فبات لي الآن به ثقة شديدة، وذلك لأني قد وقفت به على أسرار غريبة بفضل تلك الفتاة اليهودية التي ألقتها الصدفة بين يدي، فإني علمت منها منذ خمسة أيام أن شاروبيم قد ذهب إليك وفاوضك بأمر تجديد الرهان، ولولاها ما تمكنت من إنقاذ ليون وفرناند الذي طالما أحببته، ولا بد أن تكون قد علمت الآن لماذا حكمت على شاروبيم منذ أول يوم لقيته فيه بأنه رجل خائن لا يستأهل الإشفاق. والآن فإني غير مستائة من هذا الرجل لأنه قد راهن علي، فإن ماضي حياتي يستوجب مثل هذه الإهانة، إلا أنني علمت من هذا التنويم أنه يطارد امرأة شريفة، وأنه لا بد له من إعدامها إذا لم أتداركه، إلا أني لا أعلم شيئا من قصده، وهو ما أذوب تلهفا لمعرفته، ولا بد من معرفته مهما كلفني الأمر. - اطمئني فسنقف على حقيقة هذا السر. - إن ذلك لا يتيسر لنا إلا إذا حملناه على شراء حياته. - هو الحق ما تقولين، وسنرى في شأنه، لكني ألتمس منك إجابتي إلى سؤال، وهو أن تخبريني عن الرجل الذي نجا من قبضتنا أمس .
فتنهدت باكارا وقالت: إنه رسول جهنم على الأرض، وعندي أنه هو الذي يدير جميع هذه الفتن والدسائس، ولكني لم أجد سبيلا إلى إظهاره، فإنه يبالغ في الخفاء والتنكر إلى حد يستحيل معه على الأبالسة نفسها أن تعرفه. وإنما كتمت أمره لأني لو بحت بسره لما صدقني أخوه ولا أحد من الناس، فقد اشتهر بتوبته الكاذبة، وبالغ بالمظاهرة في التزهد والتقشف، حتى بات يحسبه الجميع أنه مثال التقوى والصلاح، وما هو بالحقيقة غير شيطان بزي إنسان.
ثم جعلت تقص عليه جميع ما مر بنا من أحاديث أندريا في روايتنا الأولى، إلى أن أتت على ذكر جميع مكائده، فذعر الكونت وقال: أأنت واثقة من أن أسيرنا بالأمس كان هو بعينه؟ - كل الثقة، فإنه يتنكر على جميع الناس دوني؛ لأني أعرفه من عينيه، ولو بقي في قبضتنا أمس لذهبت به مكبلا إلى أخيه، وجعلته يعترف أمامه بتوبته الكاذبة. - لا تيأسي من الظفر به، فإن الأيام بيننا ولا بد لنا من القبض عليه متلبسا بجناية من الجنايات، فنحمله على الاعتراف بجرائمه كرها، ونريح أخاه من مكره.
وفيما هما على ذلك إذ دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، وكان الكونت قد أخبرها بما دار بينه وبين شاروبيم، فدفعته إلى الغرفة المجاورة وقد سمعت وقع أقدام شاروبيم على السلم وقالت: هو ذا قد أتى، فاختبئ إلى أن نرى ما يكون؟
وبعد لحظة طرق الباب ودخل شاروبيم، فتظاهرت باكارا بالانذهال لرؤياه وقالت باسمة: كيف تزورني دون إذني؟
فاختلج فؤاد شاروبيم وخطر في باله ذلك الكتاب، وقد خشي أن يكون الكونت قد زوره ليبعث به ويظفر بالرهان دونه، ولكنه تجلد ودنا باسما من باكارا، فقبل يدها وهو يقول: ألعلي عصيت أوامرك؟ - نعم، ألم أقل لك أول أمس أني لا أريد أن تزورني قبل ثلاثة أيام، فكيف زرتني قبل انقضاء هذا الأجل؟
فجلس شاروبيم أمامها وقال: ما أجملك بهذا التصنع والتكلف؟ - أأنا أتكلف؟ - نعم، أليس هذا الكتاب منك؟
فأخذت باكارا الرسالة وقالت له بمنتهى السذاجة: ومن كتب إليك هذا الكتاب ؟ - أنت. - كلا، فإني لم أخط حرفا منه. - ولكنك أمليته.
فلم ترد وابتسمت، فكان ابتسامها نصف إقرار، فتنهد شاروبيم تنهد الفرح ووثق في الحال من كسب الرهان، وعند ذلك خطرت في باله زجاجة العطر التي أعطاه إياها روكامبول، فأخرجها من جيبه وقال أسألك أن تأذني لي بتقديم هذه الهدية العطرية، فإنها من خير العطور النادرة.
فأخذتها باكارا وجعلت تقلبها بين يديها على نور المصباح ثم قالت له: ما عسى أن يكون هذا العطر؟ - هو عطر هندي ذو رائحة عجيبة يندر وجود مثلها في هذه البلاد.
فداخل الريب باكارا في أمر هذا العطر، وخشيت أن يكون منوما، بل إنها تمادت في ظنونها وحسبته سما زعافا؛ لأن خيال أندريا قد تمثل لها في تلك الساعة، ولكنها كتمت ما أوجسته، ثم نهضت كأنها تحاول فتحها وجعلت تبحث عن آلة تفتحها بها، فلم تجد فقالت: ائذن لي هنيهة ريثما أفتحها وأعود إليك.
ثم خرجت بها إلى حيث يختبئ الكونت، فأومأت إليه بيدها أن يتبعها وذهبت به إلى الغرفة التي كانت فيها الفتاة اليهودية، فأجلستها أمامها ونومتها التنويم المغناطيسي ثم قالت لها: إني آمرك أن تري من يوجد عندي في القاعة.
فقالت الفتاة لفورها: يوجد فيها رجل ينتظرك. - من هو هذا الرجل؟ - هو الذي يقيم في المنزل المجاور لمنزل الأرملة.
فعلمت باكارا أنها تريد به شاروبيم، وعرضت عليها زجاجة العطر وقالت لها: من أعطاني هذه الزجاجة؟ - هو. - ما يوجد فيها؟
فضغطت الفتاة على الزجاجة بيدها، ثم أدنتها من جبهتها ولبثت هنيهة تتأمل، ثم ردتها منذعرة وهي تقول: إن فيها سما قاتلا. - أيقتل في الحال؟ - كلا، بل إن من يشربه أو يشمه يصيبه ما يصيب السكارى، فيبتدئ بإباحة جميع أسراره ثم يجعل يهذو هذيانا شديدا، ثم يموت شر ميتة بعد عذاب شديد.
فاكتفت باكارا بما سمعته، ثم أيقظتها وقالت لها: اذهبي فنامي نومك الطبيعي.
وخرجت مع الكونت إلى الغرفة التي كان مختبئا فيها وقالت له: ابق فيها على حذر، وأنا داخلة إلى هذا القاتل.
ودخلت إلى شاروبيم ولكنها خبأت الزجاجة في صدرها وجلست أمامه على كرسي وقالت له: إذن فقد خدعت وسقطت في الفخ.
وكانت تقول له هذا القول بلهجة المتهكم، وقد هرب الابتسام من شفتيها، فاختلج فؤاد شاروبيم وسألها: أي فخ تعنين؟ - أريد به الرسالة التي قادتك إلى هنا، إلا إذا كانت من مخترعاتك. - ألست أنت إذن التي كتبتها؟
فقهقهت ضاحكة وقالت: لقد بلغت البلاهة منكم معشر الرجال أنكم تحسبون أن نظرة واحدة منكم تكفي لافتتان النساء بكم. - ولكنك ألم تأذني لي بزيارتك؟ - أتريد أن أكلمك بحرية وجلاء؟ - لا أحب لدي من هذا. - إذن فاسمع ... أتعلم لماذا قبلتك في منزلي بدلا من أن أطردك كما تستحق لتجرؤك ومراهنتك علي كما يتراهنون على الجياد؟ ذلك لأني كنت أعرف عنادك وثقتك من نفسك، فعلمت أنك مائت لا محالة، فإذا أصررت على الرهان وأردت إنقاذك من الموت ... انظر إلي أترى بين ملامحي ما يدل على الشر والتلذذ بقتل الناس؟ إن باكارا لا تطيق أن يقتتل رجلان من أجلها؛ ولهذا فقد أذنت لك أن تزورني وبالغت في ملاطفتك كي أحملك على الرجوع عن هذا الرهان الشائن الخطر، فإن الكونت أرتوف يقتلك دون إشفاق لو تم عقد هذا الرهان وكان الفائز فيه، بل كان ينوب في قتلك عن العدالة، فإنك تجرأت على إهانة امرأة ليس لها أخ ولا أب ولا زوج يحميها.
فطاش رأس شاروبيم مما سمع وقال: إذن فأنت لا تحبينني؟
فضحكت ضحك الهازئ وقالت: لا شك أنك مجنون.
ثم دفعت يده التي كان يقدمها لها بأشد احتقار، وعند ذلك فتح باب الغرفة المجاورة وطلع منه الكونت أرتوف طلوع القضاة، فكان كالصاعقة انقضت على رأس شاروبيم، فصاح صيحة القانط وجعل يتراجع منذعرا لمرآه حتى استند إلى الجدار.
وكان بيد الكونت مسدس، فمشى به إلى شاروبيم وقال له: إني يا سيدي قد أحضرت معي المال كما طلبت، وأحضرت معه هذا المسدس فاستعد للموت حسب الاتفاق، فإنك لم تفز بقلب باكارا.
46
قبل هذه الحادثة بساعة كان روكامبول في منزل دايي ناتها الهندية ، فلما رأته أقبل فرحت وقالت: لقد طال غيابكم حتى حسبت أنكم تخليتم عني وغادرتموني أموت بالسم الذي تجرعته، فإنك تعلم أنه لا يشفيني منه غير خاتم المركيز. - اطمئني فسيكون هذا الخاتم لك غدا، فإننا إذا لم نشفق على صباك أشفقنا على الملايين التي سنقبضها منك.
فاطمأن قلبها وقالت: كيف يكون قتل المركيزة؟ - ستعلمين ذلك متى تم القتل وأصبحت زوجة لابن عمك، والآن تفضلي بالجلوس إلى هذه المنضدة كي أملي عليك رسالة إلى ابن عمك المركيز. وامتثلت له وأملى عليها ما يأتي:
احضر إلي أيها الصديق في الساعة السابعة من المساء لأخبرك بالأسف الشديد كيف أني وفيت بوعدي، ولأطلعك على الحقيقة التي تعلم منها صدق أقوالي السابقة بالبرهان، وتعلم أين تجد الخائنين.
ثم وقعت على الرسالة ودفعتها إلى روكامبول، فقبل يدها وطمنها وانصرف وذهب توا إلى منزل الأرملة ملاسيس، واستقبله الخادم فانتير وهو من أعضاء العصابة وأدخله إلى الأرملة.
ولم تكن الأرملة تعرفه من قبل، ولكنها رأته مرة عند المركيزة في حفلة راقصة، فأشارت إليه بالجلوس وهي تظهر استغرابها من هذه الزيارة، فأدرك روكامبول ذلك منها وقال لها: لا تعجبي لزيارتي في هذه الساعة المتأخر، بل اعلمي أن خادمك فانتير من رجالي، وفي هذه الإشارة كفاية. - نعم، لقد خطر لي هذا الخاطر حين رأيتك. - إذن فاعلمي أني أتيت الآن أسألك قضاء مهمة سيكون جزاؤك عن قضائها زواجك بالدوق.
فاختلجت الأرملة وعلمت أن المهمة خطيرة تعادل الجزاء، ثم قالت: إني مصغية إليك يا سيدي، فقل ما تريد. - أريد أن أملي عليك رسالة للمركيزة فان هوب.
واستعدت الأرملة للكتابة، وأملى عليها روكامبول ما يأتي:
صديقتي العزيزة
إن شاروبيم يلح بأن يراك في المساء، فاحضري إلى منزلي في الساعة الثامنة لتعزية هذا العاشق الغيور الذي لا يتكلم منذ حين إلا بأحاديث السيوف والمسدسات، ولا يزال مصرا على قتل زوجك.
فوقفت الأرملة عن الكتابة وقالت: ما هذا الذي تمليه علي؟ - اكتبي وستعلمين كل شيء.
فامتثلت وعادت إلى الكتابة، فأملى عليها روكامبول ما يأتي:
في الساعة السابعة أبرح المنزل، وأطلق سراح فانتير كي يخلو لكما الجو، فاحضري في الساعة الثامنة حسب العادة حيث تستقبلك خادمتي فاني، وهي تخبر بقدومك الأميركي الجميل.
فلما انتهت الأرملة من كتابة هذه الرسالة قال لها روكامبول: وقعي عليها.
فكتبت اسمها في ذيلها وهي لا تفهم شيئا من هذه الألغاز، فأخذها روكامبول ووضعها في جيبه ثم قال لها: لقد كان يسعك أن ترفضي مطالبنا الآن؛ لأن رفضك لها لم يكن يكلفني غير إبطال زواجك بالدوق، أما الآن وقد أصبحت لنا فلا بد لك من طاعتنا في جميع ما نريد، فإن عصياننا لا يتوقف عليه إبطال زواجك فقط بل حياتك.
وأجفلت منذعرة قائلة: حياتي؟ - نعم، فإن المرء لا يعلم متى تأتي ساعته، فقد تكونين خارجة في مركبتك فتنكسر وتدوسك دواليبها، وقد تكونين مارة على الطريق فيدهسك أحد الفرسان، وسوى ذلك من أسباب الموت التي لا تخطر للمرء في بال، ولكنها قد يتفق حدوثها لكل إنسان.
وجعل العرق البارد يتصبب من جبهة الأرملة دون أن تجيب بحرف، إلى أن قال لها روكامبول: لقد انقضى كل شيء وأظن أنك تخلصين في طاعتنا. - نعم، سأطيعكم فيما تريدون.
وعند ذلك دار بينهما الحديث الآتي، وقال روكامبول: أتحبين المركيزة حبا شديدا؟ - نعم، لقد كانت من خير صديقاتي قبل اليوم، وقد جعلتموها من أعدائي. - حسنا فعلنا، وذلك لخيرك.
فانذهلت وقالت: كيف ذلك؟ - ذلك لأنك إذا فقدتيها يكون حزنك عليها ضعيفا. - كيف أفقدها؟ ألعلها مسافرة؟ - نعم، ولكن سفرها في طريق الموت.
وأجفلت الأرملة وقالت: رباه ماذا أسمع؟ - لا بأس عليك، واجلسي الآن لنتحدث فقد يزول عنك الرعب ...
ولا نعلم ما دار بينهما إلا أنها عندما فارقها روكامبول شيعته بمظاهر الرضى وهي تقول: إلى اللقاء غدا في الساعة السادسة، ثم دخلت إلى غرفتها ولبست ثيابها وركبت مركبة وذهبت مسرعة إلى منزل المركيزة.
وكانت المركيزة وحدها في المنزل، وذهلت لزيارة الأرملة ولا سيما حين رأت آثار الاضطراب بادية في وجهها، إلا أن الأرملة أدركت منها ذلك الاستغراب وقالت: إني ما أتيت في هذه الساعة المتأخرة إلا لفرط تأثري مما شاهدت، فإني لا أطيق النظر إلى الدموع. - ومن الذي بكى أمامك؟ ألعله الدوق؟ - إنه عاشق لا ريب فيه، ولكنه لا يبكي فإن الشيوخ تنضب الدموع من عيونهم ولا يبكي إلا الشبان. - إذن فمن هذا الشاب؟ - أصغي إلي أيتها الصديقة، فإني أتيت لألتمس منك إجراء عمل خيري. - قولي ما تشائين لقد شغلت بالي. - إن هذا الشاب الذي تكلمت عنه سيبرح فرنسا غدا ويفارقها فراقا أبديا، بل فراق رجل قنط من الحياة وأراد أن ينسى أحزانه وأشجانه في البلاد النائية، فأتى وانطرح على أقدامي.
واختلج فؤاد المركيزة وعلمت أنها تريد شاروبيم، ولكنها لبثت صامتة فقالت الأرملة: إنك قد علمت لا شك من هو الشاب الجسور والجبان في وقت واحد، وهو رجل يحبك حبا شديدا منذ عهد بعيد، ولكنه ما زال يكتم هذا الحب في صدره حتى كاد يفتك به، وقد تجرأ أخيرا فباح لك بشيء من هذا الحب، فانذهلت المركيزة وقالت لها: أتعرفين هذا؟ - نعم فلقد باح لي بكل شيء.
فأطرقت المركيزة برأسها إلى الأرض وعادت الأرملة فقالت: إن هذا الرجل التعس بل هذا الرجل القانط قد بعثني إليك وغادرته يبكي بكاء الأطفال.
نظرت إليها المركيزة نظرة المستغرب وقالت: لا شك أن دموعه قد أثرت عليك تأثيرا شديدا، حتى إنك أتيت إلي بمثل هذه المهمة، فلقد نسيت كما يظهر أن لي زوجا وأن كل نظرة أو كلمة من رجل آخر تكون إهانة لهذا الزوج.
فاستدركت الأرملة وقالت: لقد أسأت بي ظنك أيتها الصديقة، فإني ما أتيت إليك من أجله بل من أجل أمه. ثم أخرجت من جيبها الكتاب الذي أملاه روكامبول على شاروبيم كما يذكر القراء وقالت لها اقرأي.
قرأته المركيزة وكانت تظهر ملامح التأثر بين وجهها حين تلاوته، فلما أتمت قراءته قالت: ليكن ما تريدين وسأذهب غدا إلى لقائه في منزلك. فقبلتها الأرملة شاكرة وأقامت عندها هنيهة ثم انصرفت، فلقيها روكامبول وأخبرته أن المركيزة ستحضر في الأجل المضروب.
وفي اليوم الثاني وردت رسالة الهندية إلى المركيز، وهي الرسالة التي أملاها عليها روكامبول ومآلها أنها تدعو المركيز إليها لإطلاعه على البرهان، فعادت إليه الهواجس وحاول مرارا أن يدخل إلى امرأته فيحملها بالكره على الإقرار، غير أنه ذكر اليمين التي أقسمها لابنة عمه، وهي أن لا يبوح لامرأته بشيء، فرجع عن غيه وكانت الغيرة تنهشه وتعض فؤاداه بأنبابها، حتى لم يعد يطيق صبرا على احتمال حالته الشديدة.
وقد خطر له أنه إذا ثبتت الجريمة على امرأته وقتلها يقتل نفسه أيضا، ثم تذكر أنه أقسم لابنة عمه أنه يتزوجها بعد قتل امرأته، ولكنه قال في نفسه: إن الموت يحل من كل عهد. فعزم على الانتحار الأكيد ودخل إلى غرفته فكتب وصيته، موصيا بجميع أمواله للفقراء، ثم ختمها ووضعها في درج ونادى أقدم الخدم عنده وقال له: يوجد في هذا الدرج أوراق مالية قيمتها 50 ألف فرنك وكتاب مختوم، فإذا غبت عن باريس أو إذا مت فإنك تأخذ المال لك، وتأخذ الكتاب إلى المسجل، ولكني أسألك أن تكتم السر فإننا لا نعلم ما يكون.
ثم أعطاه مفتاح الدرج وانصرف ذاهبا إلى ابنة عمه الهندية كي يسمع منها ذلك البرهان.
وكان روكامبول وفانتير خادم الأرملة عند الهندية حين قدوم المركيز، فلما علمت الهندية بقدومه قالت لروكامبول: هو ذا المركيز قد قدم، فهل نحن متأهبون لكل شيء؟ - نعم، استقبلي المركيز وأنا ذاهب فلا أعود إليك إلا في الساعة العاشرة، وسيبقى خادم الأرملة عندك كي يدل المركيز على المنزل. ثم تركها وانصرف، فأمرت الهندية خادم الأرملة أن يدخل المركيز إلى قاعة الاستقبال فامتثل.
ولما دخل المركيز ذهل لمرآى ابنة عمه ولشحوب وجهها، وكأنها علمت سبب انذهاله فقالت باسمة: إن ما تراه من الشحوب في وجهي هو من آثار السم. فمد المركيز يده وأراها الخاتم في أصبعه وقال: إذا كنت قد قلت الحقيقة فإن شفاءك بهذا الخاتم. - إني أؤيد قولي بالبرهان.
فاقترب المركيز وقال: هاتي برهانك إن كنت صادقة! - أتعرف ذلك الشاب الجميل الذي يلقب بشاروبيم لفرط جماله؟
فأجفل المركيز وتذكر أنه رآه مرة يلاطف امرأته في قصره وقال: نعم أعرفه. - إنه هو الذي أعنيه، وإن امرأتك لم تخنك إلا من أجل هواه.
واشتد غضب المركيز وقال: البرهان، البرهان. - إنه يقيم في منزل مجاور لمنزل الأرملة ملاسيس صديقة امرأتك الحميمة، وقد جرح مرة في مبارزة وكانت امرأتك تزوره في كل يوم.
وأعاد المركيز قوله بصوت يتهدج من الغضب: البرهان، البرهان. - اصبر ستعلم كل شيء، فإن هذه الأرملة واقفة على سر العاشقين، وإن المركيزة تحسب أنها في مأمن من انتشار هذا السر، واصبر أيضا فسأعطيك برهانا آخر. ثم قرعت بجرس كان على الطاولة، فدخل فانتير في الحال.
وقالت الهندية للمركيز حين دخوله: هو ذا خادم الأرملة.
ونظر المركيز إليه نظرة احتقار وقال لابنة عمه: ما حاجتي بهذا الرجل؟ - إنه الرجل الذي يخبرك بأنه رأى امرأتك عند الأرملة، وأنها كانت تجتمع في منزلها بشاروبيم ...
فزاد احتقار المركيز وقال: ليس هذا بالبرهان، ولا أتدانى لسماع شهادة خادم يتهم امرأتي.
وابتسمت عند ذلك الهندية ابتساما هائلا، وأخرجت من صدرها رسالة، وهي الرسالة التي أملاها روكامبول على الأرملة وخلاصتها أن الأرملة تدعو المركيزة إلى الإسراع للقاء شاروبيم الذي تهواه، قبل أن تحمله الغيرة على الفتك بزوجها.
ولما قرأها المركيز قالت له الهندية: أتشك بعد ذلك فيما أقول؟ - نعم، لا أقتنع إلا إذا رأيت الاثنين مجتمعين. - إذن اتبع هذا الرجل إلى منزل الأرملة الآن تجد شاروبيم جاثيا أمام امرأتك، وقد خلا المنزل ولم يبق فيه سواهما. - إذن لقد دنا زمن العقاب والانتقام.
وصاحت الهندية عند ذلك متألمة من تأثير السم وقالت: أسرع أيها الحبيب إني سأموت.
فقام المركيز وأخرج الخاتم من أصبعه ودفعه إليها وهو يقول: إنك إذا كنت صادقة فهذا الخاتم ينقذك من الموت، وإذا كنت كاذبة فإني أعود إليك حيث تموتين بالخنجر لا بالسم. ثم أمر الخادم أن يسير أمامه وقال: استغفر ربك على الطريق، فإنك إذا كنت كاذبا قتلتك على الأثر.
وخرج الاثنان وركبا مركبة وسارت بهما حتى بلغت منزل الأرملة، وقاده الخادم إلى غرفة الأرملة وخبأه فيها، ولما خرج فانتير من الغرفة لقيته الخادمة فاني على بابها، وقالت له على مسمع من المركيز وهي تتجاهل أنه موجود في الغرفة: ابق هنا إلى أن أعود، فإني ذاهبة لإخبار شاروبيم بأن المركيزة آتية.
فاضطرب وزالت كل ريبة لديه من كذب ابنة عمه، وعزم على قتل امرأته وعشيقها.
أما فانتير فإنه خرج مسرعا وهو يقول في نفسه: لقد قمت بواجباتي فليقتلها كما يشاء، وبينما هو خارج لقي مركبة قد وقفت على الباب كأنها تنتظر أن تعود بصاحبتها ميتة خارجة من عالم الأحياء.
47
ولنعد الآن إلى شاروبيم، لقد تركناه في موقف تهلع له قلوب الجبابرة من الخوف، وقد صوب الكونت مسدسه على رأسه وقال له: لقد خسرت الرهان ولا بد لك من الموت، فجعل شاروبيم يرتجف من الخوف وينظر إليه نظرة المتوسل، فقال الكونت: إني أمهلك ثلاث دقائق كي تستغفر الله وتستعد للموت.
وكان شاروبيم قد عاد إليه صوابه في هذه المهلة فقال: لا أنكر أني خسرت الرهان، ولكن لا بد لي من ملاحظة أبديها، وهي أنه بدلا من أن تقتلني وتعرض نفسك لمعاقبة القوانين الفرنسية، اقتلني تحت ظاهرة المبارزة وأمام شاهدين كما اتفقنا من قبل، فتبلغ غرضك من قتلي دون أن يعاقبك الشرع، وذلك أننا نتبارز بغدارتين أحدهما محشوة وتكون لك، والآخرى فارغة وتكون لي. - أية فائدة لك من ذلك إذا كنت مقتولا في الحالتين؟ أما أنا فإني أرضى أن أكون مسئولا لدى الشرع. - إن فائدتي أني أريد أن أموت موت الأشراف في ساحة مبارزة، لا مقتولا قتل المجرمين.
ولم يجبه، لكن باكارا ضحكت ضحكا عاليا ثم قالت: أتتكلم عن الأشراف وأنت لا صلة بينك وبين الشرف.
فنظر إليها نظرة منكرة وقد علم أنها هي التي قضت عليه بالموت وليس الكونت، أما باكارا فلم تحفل به وقالت: إن الشريف لا يبارز سوى الشريف، وقد راهنك الكونت حين كان منخدعا بك منذ أيام، أما الآن يعلم أنك عضو عامل في عصابة لصوص. ثم التفتت إلى الكونت قائلة: أيها الصديق ، اقتل هذا الأثيم، فإن قتله قد يسر المركيزة فان هوب.
ولما سمع شاروبيم اسم المركيزة علم أن باكارا واقفة على كل الدسيسة، وصاح قائلا: رحماك إنني ألتمس العفو.
أما الكونت فإنه أخرج مسدسه من جيبه وقال: لقد انتهى زمن المهلة، اركع واستعد للموت.
فركع شاروبيم أمام قدمي الكونت وقال وقد اصطكت أسنانه من الخوف: رحماك يا سيدي الكونت، واعف عني، فما أنا إلا خائن أثيم، وإنني أستحق أن تحتقرني وتدوسني بقدميك، فاحتقرني كما تشاء واصفح عن دمي، فإنني أفارق هذه البلاد فراق الأبد. ثم جعل يبكي وينظر نظر المستعطف المتوسل إلى الكونت وإلى باكارا، فدنت باكارا عند ذلك منه وقالت: قل، أتريد أن تعيش؟ - إنني أصنع لك جميع ما تريدين إذا أبقيت على حياتي. - إذن فإنك تستطيع أن تشتري حياتك بشرطين؛ أحدهما أن تقول لنا أية علاقة لك بالمركيزة فان هوب.
فقال شاروبيم بفرح: نعم، نعم إني أقول كل شيء على شرط أن تحميني منهم، فإنهم يقتلونني دون ريب. - من هم الذين يقتلونك؟ - أعضاء الجمعية السرية.
فقالت باكارا: اعلم قبل كل شيء أني واقفة على جميع أسراركم، فلا تكتم شيئا، وإذا أردت أن تعيش أحميك من هذه العصابة. - نعم يا سيدتي إني أقول كل شيء. ثم اندفع في القول فباح بجميع ما عرفناه من علائق هذه الجمعية، ومحل اجتماع أعضائها، وأسماء أولئك الأعضاء، وشدة خضوعهم لرئيس مجهول لا يعلم اسمه سوى روكامبول، ثم باح لها بجميع ما عهد إليه أن يصنعه مع المركيزة فان هوب، والفخ الذي نصب لها، وحديث ملايين الهندية، إلى غير ذلك مع جميع ما كان يعرفه.
ولما فرغ من كلامه قالت له باكارا: إني أعرف جميع ما ذكرت، ولم يبق علي سوى معرفة اسم الرئيس، ولا يمكن العفو عنك إلا إذا بحت بهذا الاسم.
فاستخرط شاروبيم بالبكاء وقال: إني أقسم بالله العظيم إني لا أعرف اسم الرئيس، وإن الفيكونت دي روكامبول هو الذي يعرف كل شيء. - حسنا، سنرى إذا كنت كاذبا.
ونهض شاروبيم وهو يحسب أنه قد نجا، فقالت له باكارا: إنك لم تنج بعد، فإنك لم تنفذ إلا الشرط الأول، وقد بقي الشرط الثاني. - إني مستعد لتنفيذ جميع ما تريدين.
فأخرجت باكارا زجاجة العطر من صدرها وقالت له: ماذا يوجد في هذه الزجاجة؟
وكان شاروبيم يعلم من أمرها غير ما لقنه إياه روكامبول، فقال لها: إنها تتضمن عطرا هنديا يهيج الأعصاب. - أليس فيها سم؟ - كلا. - إذن أجربها بك.
فقبل شاروبيم وهو لا يخطر له في بال أن أندريا قد ملأها من السم النقيع بغية قتل باكارا.
وأعطته باكارا الزجاجة وقالت: فض ختمها وتنشق منها إذا كنت صادقا، فإن هياج الأعصاب لا يضر.
وامتثل شاروبيم وفتح الزجاجة ثم جعل يتنشق رائحتها وهو لا يعلم أنه يتنشق الموت، ولما فرغ من ذلك قالت له باكارا: اجلس الآن هنا تحت حراسة الكونت إلى أن أصدر لك أمرا جديدا، فإني لا أستطيع إطلاق سراحك لأني أخشى بعد أن بحت بأسرار العصابة بأن تخبرها بما أكرهت على فعله.
ثم خرجت وهي تقول للكونت: احرص عليه أشد الحرص. وبرحت منزلها وركبت مركبة وقالت للسائق: اذهب بي إلى قصر المركيزة فان هوب.
وكان الليل قد انتصف، فلما بلغت إلى القصر طلبت مقابلة المركيزة.
فقال لها أحد الخدم: إنها نائمة يا سيدتي. - لا بأس أيقظوها، فإني قدمت إليها لأمر خطير.
ولم يجد بدا من الامتثال، وبعد هنيهة أمرت المركيزة بإدخالها إليها.
ودار بينهما حديث طويل أطلعتها باكارا على جميع الدسيسة، وعلى جميع ما صنعت لإنقاذها إلى آخر ما تعلمه من أسرار هذه المكيدة الهائلة.
واضطربت المركيزة وقالت: لا بد أن يكون المركيز بأشد حالات القنوط. - لا بأس لأنه سيفرح غدا، فإني قد ملكت جميع أعضاء هذه العصابة، ولم يبق سوى واحد.
ثم مررت يدها على جبهتها كأنها ذكرت أمرا وقالت لها: يجب عليك طاعتي في كل شيء إذا أردت السلامة لك ولزوجك ومعاقبة أولئك الأشرار، وأول ما أبدأ به هو أني أسألك أن تعطيني ذلك الخاتم الذي يلبسه زوجك كل يوم، وهو الخاتم ذو الفص الأزرق. - لماذا؟ - إنه سر لا أستطيع أن أبوح به الآن. - إنه يخلعه عادة كل ليلة قبل النوم، ولكني إذا أخذته فلا بد له من طلبه في الصباح. - أليس له بين الخواتم الكثيرة خاتم يشبه هذا الخاتم. - نعم، اصبري إلى أن أبحث.
ثم تركتها وذهبت تبحث في صندوق المجواهرات إلى أن عثرت بخاتم يشبهه أتم الشبه، فدخلت إلى غرفة ملابس المركيز دون أن يشعر بها، وأخذت ذلك الخاتم ووضعت مكانه الخاتم الذي يشبهه، ثم عادت به إلى باكارا فأعطتها إياه.
فقالت لها باكارا: بقي أمر واحد يا سيدتي، وهو أنه لا بد لك الآن من مغادرة هذا المنزل والذهاب معي إلى منزلي إلى أن أكشف تلك الأسرار في الغد.
ودهشت المركيزة وقالت: كيف أبرح منزلي في منتصف الليل؟ وماذا عسى أن يقول المركيز؟ - ليقل ما شاء، فإن حياتك في خطر، وذلك أن الهندية لا بد أن تقول للمركيز بأنك ستقابلين شاروبيم في الساعة الثامنة من مساء الغد. - ولكني لا أذهب إلى هذا اللقاء المشئوم. - لقد أصبت، ولكنك لم تعرفي بعد أخلاق الرجال، فقد تهيج الغيرة في صدر زوجك فيقتلك قبل أن يقف على البرهان، ثم يقتل نفسه كي يستريح.
وارتعدت المركيزة وقالت: إذن إني أذهب معك حيث تشائين.
ثم خرجتا وذهبتا إلى منزل باكارا دون أن يشعر بهما أحد غير وصيفة المركيزة، غير أن المركيزة كانت تثق بهذه الوصيفة، فأمرتها أن لا تذكر أمام المركيز شيئا من زيارة باكارا، وأمرت الخادم مثل هذا الأمر قبل انصرافها.
وبينما كانت باكارا عند المركيزة، كان السم قد أثر بشاروبيم فجعل يبوح للكونت أرتوف بجميع أسرار حياته وهو يضحك ويتعب شأن السكارى، ودام على ذلك مدة ساعة إلى أن باح بجميع مكنونات فؤاده، ثم استحال هذا الزهو والسرور إلى انقباض شديد عقبه نزاع أليم وصراخ شديد، فما طال به الأمر حتى سقط صريعا على الأرض، فعلم الكونت أن الفتاة اليهودية قد صدقت بجميع ما قالت، وأن الزجاجة لم يكن عطرها غير سم هائل .
فلما عادت باكارا والمركيزة وعلمتا من الكونت أن شاروبيم قد مات من السم، قالت باكارا للمركيزة: إننا قد صفحنا عن حياته، ولكن الله أراد أن يرميه بالفخ الذي كان يريد لي الموت فيه، فلنستغفر الله.
ثم ركعتا بالقرب منه وجعلتا تصليان عن نفس هذا الأثيم المنكود.
48
تركنا المركيز فان هوب في الغرفة التي خبأه فيها فانتير خادم الأرملة، فأقام فيها متربصا وبيده المسدس لقتل امرأته التي كان هائما بحبها منذ اثني عشر عاما، فكان يحس بالعرق البارد ينصب من جبينه حين يسمع أقل حركة بالقرب منه.
وقد خطر له لفرط ما أصابه من العذاب أن يقتل نفسه، ولكنه تراجع عن هذا القصد لاعتقاده أنه يخدم امرأته وعشيقها أجل خدمة بانتحاره، إذ تتزوج به بعد موته. فهاجت بصدره الغيرة حتى عول قتل الاثنين.
ودقت الساعة الثامنة، وهو الأجل المضروب، ولم تحضر حتى فرغ صبره، وعزم على الخروج من مخبأه، فسمع أن الباب قد فتح، ونظر من ثقب باب الغرفة التي هو فيها، فرأى امرأة علم من ملابسها أنها خادمة المنزل.
وكانت هذه الخادمة فاني، وقد أدخلها أندريا في خدمة الأرملة لأنها كانت منخرطة في سلك العاصبة، فجلست تلك الخادمة على كرسي بالقرب من باب الغرفة المختبئ فيها المركيز وجعلت تناجي نفسها بصوت يسمعه المركيز، وبلهجة المتأففة المغضبة، فتقول: أف لهذه الخدمة ما أتعبها وما أكثر مشاقها! فإنه إذا كانت هذه الأرملة تمتهن شر المهن فإني أمتهن أيضا أشدها تعبا، وذلك لأني أضطر أن أنتظر على الباب ساعة كل ليلة، وماذا علي الآن إذا ذهبت، فإن هذه المركيزة قد تعرف أن تدخل وحدها، فقد كاد يقتلني البرد.
فأجفل المركيز وعض شفتيه من الغيظ، لأنه علم أن سر امرأته بات مضغة في فم خادم وخادمة، فذهب من فؤاده كل حنو لامرأته وعزم على قتلها بفظاعة منكرة، وفيما هو على ذلك فتح الباب ودخلت امرأة فقالت: هي ذي المركيزة.
ولكنها ما لبثت أن رأتها حتى تراجعت منذعرة إلى الوراء، وكادت تسقط من الخوف.
ونظر المركيز من ثقب الباب وهو يحسب أن الداخلة كانت المركيزة، فرأى أنها امرأة حسناء ولكنها غير امرأته، أما تلك المرأة فإنها كانت باكارا، فلما دخلت إلى الغرفة خلعت ردائها الذي كانت متشحة به، وتقدمت من فاني وهي خادمتها القديمة التي خدعتها في المستشفى كما يذكر القراء في الرواية السابقة، فقبضت على خناقها وضغطت حتى كادت تخنقها، فصاحت صيحة شديدة من الألم، فأفلتتها باكارا وقالت لها: إذا أردت النجاة من الموت فاجلسي أمامي نتحدث.
فجلست فاني وهي تضطرب من الخوف وقالت لها: ماذا تريدين؟ - أريد أن أحادثك، فقولي ماذا تعملين هنا؟ - إني أنتظر سيدتي. - كذبت فإن سيدتك قد خرجت من المنزل، وهي لا تعود إليه إلا في مننتصف الليل.
فعلمت فاني أنها واقفة على شيء من السر، فقالت: بل إني أنتظر صديقة لسيدتي.
وقد دار بينهما الحديث الآتي، فقالت باكارا: ومن هي هذه الصديقة؟
فترددت فاني عن الجواب، فأخذت باكارا خنجرا من صدرها وجردته من غمده، ثم أدنته من الشمعة الموقدة حتى ظهر بريقه وقالت لها: أتعرفين هذا الخنجر؟
وحاولت فاني أن تهرب ولكن باكارا قبضت عليها بيد من حديد وأجلستها في مكانها مكرهة، ثم قالت: قولي من هي هذه الصديقة؟ - المركيزة فان هوب. - انتبهي جيدا إلى ما ستجيبينني إليه، فإني سأسألك كما يسأل القاضي المجرمين، وحذار أن تكذبي بحرف.
فعلمت فاني أنها تقتلها دون شك، فقالت: سليني ما تشائين فإني أجيب. - لقد قلت أن المركيزة فان هوب هي صديقة لسيدتك. - نعم. - وهي ستجيء في هذا المساء؟ - نعم، وقد كان حقها أن تحضر الآن. - ماذا تأتي لتعمل في هذا المنزل إذا كانت سيدته غائبة عنه؟ - إنها تأتي إليه لتجتمع فيه بشاب. - من هو هذا الشاب؟ - هو شاروبيم. - لماذا تريد الاجتماع به؟ - لأن المركيزة قد وصل إليها كتاب منه، وقد أوصلت الأرملة مالاسيس هذا الكتاب إليها أمس. - ماذا يتضمن هذا الكتاب؟ - لا أعلم حقيقة فحواه، غير أن الذي علمته أن شاروبيم يريد أن يهاجر فرنسا بحيث لا يعود إليها، وهو يلتمس من المركيزة أن تقابله بحضور الأرملة.
فهزت باكارا الخنجر بيدها وقالت: أتحب المركيزة شاروبيم؟
فأيقنت فاني من دلائل إنذارها أنها واقفة على كل شيء، وأنها إذا كذبت أقل كذبة تقتلها دون شك، فأجابتها: كلا، إنها لا تحبه. - إذن فما الغرض من قدومها إلى هذا المنزل؟ ثم قالت لها: احذري من الكذب، فليس في هذا المنزل من يشاهدني، بحيث إنك إذا كذبت أقتلك دون إشفاق. - إذن فاعلمي الحقيقة، وهي أن سيدتي الأرملة تخدع المركيزة لخدمة شاروبيم، ولشاروبيم فائدة من إغواء المركيزة، غير أنه لما كانت المركيزة امرأة شريفة فقد حسبوا ... - من هم الذين حسبوا؟ - مدام ملاسيس وخادمها فانتير وآخرون. - قلت لك لا تكتمي أمرا، فلا وقت لنا للتردد.
ثم هزتها بيدها وأشهرت عليها الخنجر، فارتاعت فاني وباحت لباكارا بجميع أسرار الدسيسة، إلى أن انتهت من كلامها، فأشارت بيدها إلى الغرفة المختبئ فيها المركيز، وقالت لها: إن زوجها مختبئ الآن في هذه الغرفة.
وعند ذلك فتح باب الغرفة وبرز منه المركيز وهو أصفر الوجه والدموع تجول في عينيه، فتقدمت منه باكارا وقالت له: إن الله يا سيدي أبى أن يعين أهل الشر والفساد، ولقد سمعت كل شيء كما ظهر لي، فما أنت في حاجة بعد إلى برهان على طهارة امرأتك وعفافها، على أنك إذا أردت أيضا برهانا آخر اتبعني إلى حيث أنا ذاهبة.
49
بينما كانت هذه الرواية تمثل في منزل الأرملة، كانت رواية أخرى أبلغ منها في التأثر تمثل في منزل الهندية، وذلك أنه عندما برح المركيز وفانتير منزلها شعرت الهندية بألم السم، فأخذت الخاتم الذي أعطاها إياه المركيز ووضعته في كأس من الماء، حتى إذا انحل الفص الذي فيه، شربت مزيج الماء وشفيت من أعراض السم.
وقد وضعت الخاتم في الكأس وتشاغلت عنه عشر دقائق إلى أن يتم انحلاله، ثم عادت ونظرت إلى الكأس فرأت أن ماءها لم يتغير، وأن فص الخاتم لا يزال على حاله، فخافت وخشيت أن يكون الحجر قد فقد تأثيره لانتقاله من بلاده إلى بلاد غريبة، أو لتقادم عهده، ولكنها لبثت تنتظره وهي محدقة بماء الكأس حتى مرت بها ساعة وهي في هذا الموقف الشديد دون أن يتغير الماء، فأدركت أنها مائتة لا محالة، ونسيت المركيز وغرامها القديم لتعلقها بأهداب الحياة، ومثل الموت لديها بأقبح الصور، فصاحت صيحة شديدة وسقطت على مقعد بالقرب منها وقد وهت رجلاها لفرط ما أصابها من اليأس.
وعند ذلك فتح باب الغرفة التي كانت فيها ودخل منه رجل تصحبه امرأة مقنعة بقناع كثيف.
وكان هذا الرجل الكونت أرتوف والتى تصحبه المركيزة، فدهشت الهندية لمرآها، أما الكونت فإنه مشى إلى المنضدة التي كان عليها الكأس ونظر إلى الخاتم فيها، ثم التفت إلى الهندية وقال لها: أليس هذا الخاتم الذي وضعته في الكأس هو الذي تركه لك المركيز؟ - نعم. - أليس محلول حجره يشفي من السم الذي شربته؟ - نعم. - لقد أخطئت يا سيدتي، فإن حجر هذا الخاتم لا تذيبه المياه ولا يشفى السموم، فإنه جوهرة من الجواهر العادية، أعطاك إياها المركيز وهو يحسبه أنه ذلك الخاتم الذي أحضره من الهند، غير أنه أبدل بشبيهه، وإذا أردت زيادة في البيان والتفصيل، فسلي هذه السيدة تخبرك بكل شيء.
فرفعت المركيزة عند ذلك البرقع عن وجهها، وكانت الهندية قد رأتها مرة حين قدومها إلى باريس، فطبعت صورتها في مخيلتها.
ولا يسع الكاتب وصف ما لقيته هذه الهندية من التأثير حين رأت عدوتها اللدودة، فإنها نسيت موقفها الهائل، وأنه لم يعد لها نجاة من الموت لاستبدال الخاتم بسواه، ولم تذكر غير أمر واحد وهو أن هذه المركيزة التي كانت تحسبها في عداد الأموات لا تزال حية، وأنها أتت إليها كي ترى نزعها الأخير، وأن الدسيسة لم تفلح، وأنها وقعت هي في الشرك الذي نصبته لسواها، فاتقدت عيناها، وخرج منها شرر الانتقام، فقالت لعدوتها: إذن لا تزالي حية؟
فأجابتها المركيزة بلطف: إن الله قد أنقذني، وقد أتيت إليك كي أغفر لك يا سيدتي وأصفح عما أسأت به إلي.
فاضطربت الهندية وقالت: أنت تغفرين لي؟ إني أؤثر كل الموت على هذا الغفران ، ولا شك أن زوجك قد غفر لك جريمتك، أما أنا فإني أموت ولا أصفح عنك.
ثم نظرت إلى ما حولها تلتمس خنجرا أو آلة قاتلة، فلم تجد فأطبقت يدها منذعرة وهجمت عليها تريد تمزيقها بأسنانها، ولكنها لم تستطع أن تبلغ إليها وهوت من تأثير السم، وخرج الزبد من شدقيها.
فدنت منها المركيزة وقالت لها بلهجة حنو: إنك في حالة نزاع، أتموتين هكذا دون أن تستغفري الله؟
فاشتد هياج الهندية وقالت: إني لا أعتقد إلا بسيفا إله جهنم، ولا ألتمس منه إلا أن يرسل ناره على رأسك ويحيط بك بأبالسته.
فلم تغضب المركيزة لكلامها وقالت لها: إنك يا سيدتي في حالة شديدة، ولا تؤاخذين فيما تقولين، ولكنك إذا كنت تحبين الحياة فقولي كلمة واحدة، قولي إنك رجعت عن بغضي والحقد علي فتحيي.
فأجابتها بالشتائم والسباب وقال: قبحت حياة تكون من عندك.
إلا أن المركيزة لبثت على سكونها ووداعتها، فأخرجت من جيبها خاتم المركيز الأصلي المحتوي على ترياق السم، وقالت: هو ذا شفاؤك في يدي، وقد أتيت لأنقذك من الموت.
وكأن هذه الكلمات قد جذبت إليها آمال الحياة، فحدقت بالمركيزة تحديقا طويلا ثم ضحكت ضحكا عاليا مؤثرا، وقالت: إذن فإن الترياق معك وحياتي بين يديك. - نعم، وأنا ما أتيت إلا لإنقاذك. - لقد ذهبت مساعيك عبثا فانصرفي في شأنك، أني أؤثر الموت على حياة تدب إلي منك؛ لأني أكرهك وأنفر منك نفور الظلمة من النور.
ثم أنت أنين الموجع، فخرج أنينها من صدرها كزئير السباع.
وعند ذلك فتح الباب ودخلت منه باكارا والمركيز، فلما رأت الهندية ابن عمها قالت له: ألعلك خفت واضطربت يدك، فرجعت عن قتل هذه الأثيمة؟
فصاح بها المركيز: اسكتي أيتها الخائنة، فإنها من الملائكة الأطهار، وما أنت إلا رسول جهنم على الأرض.
ثم رجع إلى امرأته، فركع أمامها وقال: إن هذه المرأة قد نمت بك، ووشت عليك أقبح وشاية، فاغفري لي إساءة ظني واغفري لها فإنها ستموت.
فأكبت المركيزة عليه تعانقه باكية وهي تقول: لقد ظهرت براءتي وعلمت الآن أني جديرة بحمل اسمك الشريف، وقد صفحت عن هذه المسيئة إلي وإليك، فاصفح عنها أنت أيضا وأنقذها من الموت.
فنهض المركيز وقال: ليكن ما تريدين.
ثم أخذ منها الخاتم وألقاه في كأس ماء وقال لابنة عمه: هو ذا الترياق في الماء، فإذا أردت الحياة فالتمسي العفو من تلك المرأة الشريفة التي أردت تدنيسها بوشاياتك. - كلا، لا أطلب عفوا ولا أريد مرحمة، فالموت خير من الحياة.
ثم جعلت تتقلب على مقعدها وتئن من آلامها أنينا موجعا، والجميع ينظرون إليها مشفقين معجبين من هذا الحقد الدفين، إلى أن زادت آلامها عن حد احتمالها وجعلت تصيح صياحا منكرا وتتلوي تلوي الأفعوان، فعاد إليها رشدها وتمثلت لها لذة الحياة، وضاق صبرها عن احتمال آلامها فقالت: هات الكأس ... اسقني الترياق.
فأسرع المركيز إليها بالكأس وقال: هو ذا الكأس، بقي أن تسأليها العفو.
فامتثلت صاغرة والتمست منها العفو، ثم مدت يدها تريد أخذ الكأس، فأسرعت باكارا واختطفته من يده وقالت: إذا كانت هذه الفتاة تريد الحياة، فلتقل لنا أسماء شركائها بالجريمة الذين أرادت أن تدفع لهم الملايين الخمسة.
فقالت الهندية بصوت خافت من النزع: إنهما اثنان.
فقالت باكارا: اذكري اسميهما. - إن أحدهما يدعى الكونت روكامبول.
فاضطرب المركيز وذكر روكامبول، وقال: إن هذا سيموت من يدي.
فقالت باكارا: اذكري اسم الآخر، اسم الزعيم.
فقالت الهندية، وقد أطبقت عينيها وخفت صوتها: عرفته ... في نيويورك. - اذكري اسمه.
وكانت ترجو أن تذكر أمام جميع الحاضرين اسم السير فيليام، فيفتضح أمره أمام الشهود وتبلغ منه في إقناع أخيه ما تريد.
ففتحت الهندية فمها لتنطق باسمه، غير أن صوتها اختنق، فمدت يدها إلى الكأس دون أن تستطيع الكلام، فعادت باكارا إلى الإلحاح بذكر اسمه ومنعت عنها الكأس، فحاولت الهندية أن تذكر الاسم غير أن قواها خانتها، فصرخت صرخة منكرة وانقلبت مائتة دون أن تتمكن من الإباحة باسم أندريا، كأن إله الشر لا يزال باسطا حمايته عليه.
50
وبينما كانت الهندية يقطع السم أحشاءها، وقد عقدت آمالا خائبة على خاتم المركيز، كان أندريا ملتفا بردائه وواقفا في زاوية بالقرب من منزل الأرملة متربصا، فخرج الخادم فانتير ومر بالقرب منه دون أن يراه، فعلم أندريا أن المركيز مختبئ بالغرفة، وجعل ينظر متوقعا من حين إلى حين أن يسمع دوي مسدس هذا الزوج الغيور.
فمرت الساعة الثامنة والنصف دون أن يسمع هذا الصوت الذي يكسبه خمسة ملايين، فخطر السوء في باله، وأول ما تبادر إلى ذهنه باكارا، فصبر عدة دقائق أيضا ثم عول على الدخول إلى المنزل، وذلك بعد أن خرجت منه باكارا والمركيز بزمن وجيز، فدخل ولم يجد أحدا، فجعل يجتاز من غرفة إلى غرفة حتى بلغ الغرفة التي فيها فاني، فوجد تلك الخادمة القديمة في خدمته جالسة على كرسي وهي قد وضعت رأسها بين يديها وأطرقت إطراق من أصيب بخطب جليل، ثم رأى خنجرا على مائدة بقربها، فوجف فؤاده وأيقن أنه من آثار باكارا، فأخذه ودنا من الخادمة، فلما رأته فاني حسبت أنه آت لقتلها فانطرحت على قدميه تستجير منه به، أما أندريا فإنه قبض على شعرها ووضع الخنجر على عنقها وقال: قولي أين شاروبيم؟ - إنه لم يحضر. - وباكارا؟ - إنها ذهبت مع المركيز. - إلى أين؟ - إلى منزل الهندية.
فعلم أندريا أنه فقد كل رجاء، وأن هذه الخادمة قد خانته فطعنها بخنجره طعنة إلى قلبها، ثم غادرها مخضبة بدمها وانطلق وهو يقول: إذا نجوا جميعهم من قبضتي، فإن أرمان لا ينجو.
ومشى مشي المفكر المهموم، ولكنه بدلا من أن يفر من أعدائه ذهب للقائهم، فتزيا بزي توبته، وانطلق إلى منزل الهندية.
ويذكر القراء أن روكامبول برح منزل الهندية على أن يرجع إليها بعد ساعة، فذهب إلى النادي وأقام فيه ساعة وهو يحلم بالملايين إلى أن حان الموعد المعين، فخرج مسرعا عائدا إلى منزل الهندية وهو يغني في طريقه غير مكترث بشيء، حتى بلغ إلى المنزل فدخل دخول الآمن المطمئن، ومشى إلى الغرفة المقيمة فيها الهندية، فدخل وهو لا يخطر له في بال أنه يجد فيها هذا الخليط من أعدائه، فلما تجاوز عتبة الباب ورأى الهندية ميتة والمركيز وامرأته والكونت وباكارا يحيطون بها، علم أن نجمه قد هوى، فصاح صيحة المندهش وقالت باكارا: هو ذا واحد منهما قد سقط في الشرك.
أما المركيز فإنه دنا منه وقال: إني لا يصدني شيء عن قتلك الآن، ولكني لا أريد قتلك إلا بمبارزة، فانزل معي إلى الحديقة.
غير أنه قبل أن يثوب روكامبول إلى رشاده من هول ما رآه، وقبل أن يتمكن من إجابة المركيز، فتح مصراعا الباب بشدة وانقض رجل منهما انقضاض الصاعقة على روكامبول، فطعنه بخنجره في صدره طعنة قوية ألقته على الأرض يتخبط بدمائه وقال: أيها اللص إني أطاردك منذ شهر، وكلما عثرت بك تنجو مني، أما الآن فقد قضي عليك وقضي على هذه الجمعية السرية الهائلة من بعدك إذ لم يعد لها رئيس.
وكان هذا الرجل القاتل المتلبس بالتوبة والصلاح أندريا، ذلك الرجل الزاهد الناسك رئيس بوليس أخيه أرمان، فلم يبق ريب لدى الحاضرين بصلاحه، وصعقت باكارا لخذلانها ولما رأته من جرأة هذا الرجل الذي يعرف أن يبلغ النصر من طرق الفشل والخذلان، وقالت في نفسها: لقد انتصر الشر على الخير أيضا. غير أن باكارا كانت تثق بالله وكان الله معها.
51
ندخل الآن في القسم الأخير من هذه الرواية الهائلة، ولا بد لنا أن ندع بعض أشخاصها للاهتمام بأرمان دي كركاز، فنقول: بعد ثلاثة أشهر مضت على الحوادث المتقدمة، كان رجل طريح الفراش في منزل صغير وأمامه امرأة عجوز تنظر إليه بحنو، فنظر إليها العليل وقال لها: بأي يوم نحن يا أماه؟ - في الرابع عشر منه. - أتعلمين أني طريح هذا الفراش منذ ثلاثة أشهر؟ - نعم، فإن نجاتك من الموت كانت من العجائب الخارقة. - إن الأبالسة قد أخذت بيدي، فإن ساعتي لم تحن بعد ولكني لا أجد بدا من الخروج للتنزه، فقد سئمت العيش في هذا الفراش. - إن النزهة تفيدك يا بني، ولكنك لا تستطيع الخروج قبل أن يحضر الرئيس. - تبا له من رئيس، فلقد كاد يبعث بي إلى الدنيا الآخرة، ولكنه رجل نابغة، وأنا أجد لذة في الامتثال له.
وكان هذا الشاب روكامبول بعينه، وتلك العجوز التي يناديها بأمه لم تكن إلا مدام فيبار. وحكايته أنه بعد أن طعنه أندريا تلك الطعنة الهائلة سقط على الأرض مغشيا عليه أمام الهندية المائتة، ثم انصرف جميع من كان في غرفتها، وهم الكونت الروسي وباكارا والمركيز والمركيزة وأندريا، كل في شأنه وخلا المكان للخدم، فسرقوا كل ما عثروا عليه من أمتعة الهندية وحليها، حتى إنهم جردوا روكامبول من ملابسه فسلبوها أيضا وفروا بها.
وفي اليوم التالي اتصل الخبر برجال الحكومة، فأقبلوا إلى المنزل ورأوا الهندية مائتة والمنزل مسروقا، وروكامبول طريحا بالقرب من الهندية وفيه بقية رمق، ففتشوا جيوبه علهم يجدون بها ما يدل على اسمه، فلم يجدوا شيئا، فحملوه إلى المستشفى وهم يؤملون أن يعلموا حقيقة الأمر بعد أن يعود إلى رشده.
غير أن الحقيقة بقيت مكتومة عنهم؛ فإن روكامبول حين عاد إلى رشده اتصل به هذيان الحمى، فكان كلما أتاه رجال التحقيق يجدونه في هذيانه فلا يعلمون منه أمرا، ولم يكن هذيان روكامبول طبيعيا بل إنه كان يتكلفه تكلفا كي يتنصل من رجال البوليس؛ وذلك لأنه عندما صحا من غشيانه جعل يتذكر ما مضى، فذكر أنه رأى الهندية مائتة وأن أعداءه كانوا محيطين بهما، وأن رجلا هجم عليه وطعنه بخنجر، ولكنه لا يعرف من هو هذا الرجل، ولم يعلم شيئا سوى ذلك من سر هذه الحكاية، وما كان من تقول الناس عنه بها، إلى أن سمع ممرضتين في المستشفى يتباحثان بشأنه وهما تحسبان أنه نائم، فكانت إحداهما تقول للأخرى: لا إخال رجال التحقيق يقفون على شيء من أمر هذا الجريح، فإنه أصبح دائم الهذيان.
فأدرك روكامبول أن البوليس يترقب أن يصحو كي يستنطقه ويقف على الحقيقة منه، فجعل عند ذلك يتكلف الهذيان تكلفا؛ حذرا من البوليس وهو يتوقع أن يأتيه الفرج من باب يجهله.
وطال به العهد حتى يئس الأطباء من شفائه وقنط رجال البوليس من استنطاقه، إلى أن أتت يوما امرأة عجوز إلى المستشفى، وادعت أن الجريح ولدها فأدخلوها إليه، وكانت هذه العجوز مدام فيبار، فلما دخلت إليه وضغطت على يده وقالت له وهي تعانقه باللغة المتعارفة بينهما: احذر من أن تخالفني فيما أقول.
ففطن روكامبول للأمر وجعل يكلمها بلهجة الولد وتكلمه بلهجة الأم.
وأتصل الأمر بالبوليس، فأقبل يسأل تلك الأم عن هذا الولد، فلفقت لهم حديثا طويلا مآله أن ولدها كان خادما في أحد القصور في الهند، ثم اتصل بفتاة هندية فشغفت به شغفا شديدا، وكانت تغار عليه غيرة عجيبة وتتهمه تهمات باطلة، وتخاصمه في كل يوم ثم يصطلحان، فما كان يسعه إلا الامتثال لها لفرط ثروتها، إلى أن قالت: وكان آخر عهدي به أنه كان مع هذه الهندية في باريس، وقد قرأت في إحدى الجرائد أن فتاة هندية وجدت ميتة في منزلها، ووجد شاب جريح أمامها، فما زلت أبحث عنه حتى علمت أنه في هذا المستشفى فأتيت إليه.
فصدقها رجال البوليس لما رأوه من انطباق قصتها على قضية الفتاة، ثم حملته من المستشفى إلى منزلها وأقامته فيه.
وقد عرف القراء من حديث روكامبول مع مدام فيبار أنها كانت تنتظر قدوم أندريا، فلم تزل بانتظاره حتى قدم أندريا إلى منزلها، وكانت المرة الأولى التى رآه بها روكامبول، فدار بينهما عتاب طويل تنصل منه أندريا، وكانت حجته في طعنته النجلاء أنه رآه محاطا بأعدائه، وأنهم لا بد لهم من قتله، فسبقهم إليه وهو يرجو بذلك أمرين؛ أحدهما أن لا تكون الطعنة قاضية عليه، وثانيهما أنه إذا لم يكن له بد من الموت، فخير لأندريا أن تموت من يده كي تنفي عنه تهمة الاشتراك بالجريمة، وكي يفيد الشركة في مماته كما كان يفيدها في حياته، أما إذا قتله أعداؤه فإنه لا يفيد ولا يستفيد.
فاقتنع روكامبول أو تظاهر بالاقتناع، فأطلق أندريا سراح مدام فيبار وأقام مع تلميذه يضع له خطة جديدة شرا من الأولى للفتك بأخيه الكونت أرمان دي كركاز، فبدأ روكامبول يشكو من حرارة البيت المقيم فيه، فقال له أندريا: يجب عليك الشكر، فإن هذا البيت الحقير أخفاك عن عيون باكارا.
وكان اسم هذه المرأة قد أثار العواصف في فؤاده، فلمعت عينه بشعاع من الحقد وقال: إنها قد انتصرت علي، ولكننا لا نزال في بدء المعترك، وحقيقة الغلبة لا تكون إلا لمن يفوز الفوز الأخير. - لا شك عندي بفوزك، إنما لا بد لك من الاعتراف بأننا فقدنا سبعة ملايين، أي ملايين الهندية وفرناند. - نعم ولكننا سنغنم ضعفها. - إن هذا محال، وليس كسب الملايين بالأمر السهل الميسور.
فلم يتدان أندريا لجوابه، بل قال: إنك كنت كونتا أسوجيا ففقدته، أتحب الآن أن تعود إلى مثل هذه الألقاب؟
فابتسم روكامبول وقال: الحق أني تعودت على ألقاب الشرف، فلم يعد لي لذة إلا بها. - إذن فإني أمنحك لقب مركيز برازيلي، وهو أفضل من لقبك القديم؛ إذ لا بد لك من الترقي لإخلاصك، فأنت تدعى منذ اليوم دون إينيجو والمركيز دي لوس مونتس، وإنك من أسرة عريقة في النسب مقيمة في البرازيل منذ مائة عام، ثم إنك إسباني الأصل وقد خسر أجدادك ثروتهم في إسبانيا، ونال أبوك ثروة نادرة في البرازيل بتجارة المواشي، وأنت آت الآن إلى باريس لتنفق فيها شيئا مما جمعه أبوك من الملايين. - لقد رضيت، ولكنك إذا منحتني اللقب فكيف لك أن تمنحني المال، ونحن قد أنفقنا النصف مليون الذي قبضناه من الهندية. - كن آمنا، إذا نفذت ثروتنا فإن ثروة أخي الكونت لم تنضب بعد. - كيف ذلك؟ أتطلب إليه أن يمدك بالمال؟ - كلا، ولكنه أعطاني أمس مائة ألف فرنك كي أنفق منها في سبيل مقاومة الشرور ومساعدة البائسين.
فضحك روكامبول وقال: من هم أولئك البائسون؟ - نحن، وهذا المال يكفينا ثلاثة أشهر إذ إننا ننفقه باقتصاد فلا نشتري المنازل والأثاث حسب عادتنا، بل نستأجرها وبدلا من أن نقيم في قصر خاص فإنك تقيم في فندق عظيم شأن كبار النزلاء، وسأجد لك خادما أسود يكون من أتباعك، أي إني سأصبغ فانتير، فقد أخرجته من خدمة الأرملة ملاسيس، ثم إني سأحصل على كتاب توصية بك لأخي العزيز الكونت أرمان كي تستطيع الدخول إلى منزله متى شئت بما ينبغي لمقامك من الإكرام؛ لأن جميع أعمالنا ستكون في منزله وسنخص عنايتنا به دون سواه.
وسر روكامبول بهذا المشروع الجديد، وقال: لقد أحسنت غاية الإحسان بهذا التخصص. - أتعلمت ضربة السيف التي أمرتك أن تتمرن عليها؟ - أتم التمرين. - اذهب وتأهب للسفر في الساعة العاشرة إلى الهافر، وأقم فيها إلى أن تصل إليك أوامري.
ثم أعطاه ما يلزمه من المال لهذا السفر، فقبضه روكامبول وقال له: بقي أن تقول لي مقدار حصتي من الغنيمة متى قتلت أخاك الكونت ووصلت إليك أمواله؟ - إني أمنحك إيرادا سنويا قدره 40 ألف فرنك، وجواز سفر للبلاد الأميركية. - كيف ذلك؟ أتفارقني متى استغنيت عني؟ - نعم، لقد عولت متى ورثت أخي أن أرث منه كل ما لديه من المال وامرأة وولد، حتى عزمت على أن أرث أيضا طباعه فأصبح من رجال الخير، ومتى أصبحت صالحا فأية حاجة لي بلص مثلك؟
فضحك الاثنان ثم افترقا، فذهب أندريا إلى منزل أخيه وتزيا روكامبول بزي فقراء العمال وسار إلى الهافر كما أمره أندريا.
52
بعد ثمانية أيام مرت على سفر روكامبول، عاد إلى باريس راكبا مركبة بديعة وقد غير ملامحه فأصبح لون وجهه كلون النحاس، وكان جالسا وراء مركبته عبد أسود لم يكن إلا فانتير، فوقفت المركبة على باب أحسن فندق في باريس، وأسرع فانتير ونادى الخدم باللغة الإسبانية، وأمرهم أن يحملوا أمتعة سيده إلى خير مكان من الفندق.
أما روكامبول فكان أول ما اهتم له أنه نادى وكيل الفندق وطلب إليه أن يرسل رسالة أعطاه إياها إلى الكونت أرمان دي كركاز، وهذا نص الرسالة:
سيدي الكونت
أسألك المعذرة للخطة التي سأسلكها بإزائك، لأني لا أعلم إذا كانت تنطبق على المصطلحات الفرنسية، لقد أتيت من البرازيل إلى باريس كي أقيم فيها بضعة أشهر، وأعطاني صرافي في ريو دي جانيرو حوالات على عميله في الهافر، وهو المسيو أربان مورتونت، فأخبرت هذا العميل أني لم أعرف أحدا في فرنسا، فأعطاني كتاب توصية إليك.
وقد وصلت يا سيدي الكونت إلى باريس منذ ساعة، فتجرأت على الكتابة إليك ملتمسا أن تؤذن لي بزيارتك كي أسلمك هذا الكتاب.
المركيز دون إينيجو دي لوس مونتس
فذهب الرجل بكتاب روكامبول إلى أرمان، وبعد ساعة أقبل أندريا موفدا من قبل أخيه للسلام على هذا المركيز والإتيان به إليه، ثم أخذه وسار به إلى قصر أرمان.
ولما كانا على الطريق جعل أندريا يتأمل تلميذه ويعجب بحسن إتقانه التقليد، فقال له: كأنك قد خلقت أميرا، فإنك لا تفرق في ملامحك عن الأمراء.
فأجابه روكامبول: ذلك لأني تخرجت في مدرستك. - ومما يسرني منك أنك أتقنت تقليد أهل البرازيل، بحيث تجوز الحيلة على أرمان؛ إذ لا يوجد أقل شبه بينك الآن وبينك حين كنت تدعى الكونت كامبول. - نعم، إلا أني أخشى أن تعرفني باكارا إذا رأتني. - لا خوف علينا منها بعد الآن، وقد باتت تعد في مصاف القديسين. - أواثق أنت من ذلك، ثم إذا كنت واثقا فهل غفرت لها؟
فضحك أندريا ضحك الساخر، وقال: كيف أغفر لمن خسرت بسببها سبعة ملايين، واثني عشر مليونا أخرى. - إذن، فما أعددت لها من العقاب؟ - أعددت لها عقابا لا يخطر في بال إنسان، وسأخبرك عن جميع ذلك متى حان وقت الانتقام، أما الآن فلا أستطيع التفكير إلا بأرمان، فهل أنت واثق من نفسك أنك أتقنت ضربة اليسف التي أمرتك بتعلمها؟ - كل الثقة، ولكني معجب لأمر، وهو أنك تعرفني بأخيك وتصادقني معه ثم تأمرني بقتله، فلماذا هذه الصداقة إذا كان لا بد بعدها من القتل؟
ولم يتدان أندريا إلى مجاوبته على ما سأل بل قال: اعلم يا حضرة المركيز أنك شاب جميل، ويجول في عروقك الدم الإسباني، أي إنك كثير الشهوات، ثم إن امرأة أرمان دي كركاز شقراء جميلة، ولا بد إذن للمركيز دي إنجو من أن يحب الكونتس دي كركاز، ثم يجب على هذا المركيز أن يكون نذلا خسيسا جسورا مقداما، لا يحفل بفضائل النساء ولا يكترث لشرف الأرواح، ويتحتم عليه أن يظهر غرامه لتلك الحسناء.
فأجفل روكامبول وقال: ماذا أسمع؟ وكيف تغريني على حب الكونتس امرأة أخيك وأنت مشغوف بها كما تقول؟
فتنهد أندريا وقال: إنك لا تزال غرا أبله، أفلا تعلم أن القصد من ذلك أن أتداخل في الأمور، وأبارزك فأكون قد دافعت عن شرف امرأة أخي بدمي، فيجمل صنعي لدى أخي ولدي امرأته وأبلغ منهما بعض ما أريد؟
فقال روكامبول: وكيف إذن تريد أن أقتل أخاك؟ - إنه لا يعلم بأني بارزتك من أجل امرأته إلا بعد حين، وعندما يعلم ذلك فهو لا يقابلك إلا بالحسام.
وأطرق روكامبول رأسه إلى الأرض وقال: لقد أصبت، فإني قصير النظر في الأمور، والحق أنك من النوابغ.
وعند ذلك وصلا إلى قصر أرمان، فنزلا من المركبة ودخلا إليه.
53
ولنعد الآن إلى باكارا والكونت أرتوف، فنقول إنه بعد حادثة الهندية خلت باكارا بالكونت في منزلها وقالت له: إنك تعلم الآن حقيقة ما كنت أسعى إليه، فلقد أخبرتك كل شيء، ولذلك بقيت وحدك غير واثق من توبة أندريا دون الجميع. - ذلك لأنهم لم يروا ما رأيت، ولم يعلموا ما علمت من أمره. - نعم، فإن جرأة هذا الرجل لا تقف عند حد، وبعد أن قبضت على رفيقه وأوشكت أن أظفر به وأحمله على الإقرار باسم رئيسه الأثيم، خرج إليه فقتله كي يأمن إقراره ويظهر للحاضرين بمظاهر الصلاح. أما سمعته حين أقبل يعاتبني بعد تلك الطعنة لأني أردت مطاردة الجمعية السرية وحدي دون أن أعتمد عليه؟
فقال الكونت: إننا أخطأنا منذ البدء، فقد كان يجب علي أن أقتله حين ظفرنا به المرة الأولى. - نعم، كنا منعناه عن ارتكاب آثام جديدة. - أتحسبين أنه يعود إلى الشر بعد ما لقيه من أخطاره؟ - إنه فطر عليه، وإن مر يوم لا يرتكب فيه إثما لا يعده من أيامه، ثم إن هذا الرجل لا يكترث للمال، ولكنه ظمآن للانتقام من أخيه. - أتحسبين أنه يقتله؟ - يطمع بأكثر من حياته، فإنه يريد ثروته وامرأته وولده كما فعل أبوه من قبل بأبيه، وفوق هذا فإنه لا يطيب له خاطر إلا بقتلي؛ فقد كشفت دسائسه وحبطت مساعيه مرات كثيرة، فهو لا يغفر لي. - إذن، يجب أن يموت.
فابتسمت باكارا وقالت: إنك رجل شريف، غير أنه لا سبيل لنا إلى قتله الآن، وأخص ما يجب أن أسعى إليه أن أدعه يثق بي ويحسبني واثقة من إخلاصه في توبته، وهو ما سأظفر به بعد ساعة. - كيف ذلك؟ - ذلك أنه سيزوني الآن كما أخبرني في رسالة بعثها إلي، ولا أعلم القصد من هذه الزيارة سوى أني أظن أنه يريد سبر غوري للوقوف على حقيقة ظني به، وسيلقى كفؤا له في السياسة، فإني سأدعه يخرج مقتنعا بوثوقي من توبته، وهو سيحضر قريبا فاختبئ في هذه الغرفة المجاورة حيث تسمع كل ما يدور بيننا من الحديث.
ولم تكد تتم كلامها حتى دخلت الخادمة تخبرها بقدوم أندريا، فأمرتها بإدخاله وأسرع الكونت إلى الاختباء.
ودخل أندريا وكان بملابس التوبة، فجلس بالقرب من باكارا ودار بينهما الحديث الآتي، فقال أندريا: إني أتيت يا سيدتي لأباحثك في أمور خطيرة. - قل ما تشاء يا سيدي، فإني مصغية إليك. - لا بد لي قبل أن أذكر شيئا من سابق أحوالي وأحوالك، فلقد كنت من بنات الهوى ثم ارتجعت عن هذا العيش الذميم وعشت عيشة صلاح، ولقد كنت أشر منك فإني كنت لصا قاتلا سفاكا، إلا أني عدت أيضا بإلهام من الله مثلك إلى التوبة، ولكني رأيت بين الناس من لم يثق بتوبتي ومنهم أنت، وذلك أنه بينما عهد إلي أخي أرمان مطاردة تلك الجمعية السرية الهائلة رأيت من ملامح وجهك ما استدللت منه أنك غير واثقة بصدق توبتي.
فأطرقت باكارا بعينها إلى الأرض إطراق النادم وقالت: إنني أعترف بصحة ما تقول. - ولقد أثرت بي شكوكك، إلا أنني حسبتها عقابا لي من الله، وعلمت أنه جل جلاله لم يغفر لي بعد، ومن يعلم فلقد يكون جال في ظنك أنني واحد من رجال تلك العصابة الشريرة. - هو ما تقول يا سيدي الفيكونت، فلقد ظننت هذا الظن. - ولهذا فلقد طاردت رجال العصابة كما كنت أطاردهم دون أن تشركيني بشيء، والغريب أننا وصلنا إلى غاية واحدة دون أن أعرف الطريق التي سلكت فيها. - أتريد يا سيدي أن أعترف لك بكل شيء؟ - تكلمي. - إنك قتلت أمس بخنجرك ذلك الرجل في منزل الهندية، فكان خير برهان للحاضرين على صدق توبتك، إلا أنني لا أزال على ريب منك وألتمس منك أن تزيل مني هذا الريب ببرهان دامغ، فإنه يثقل علي. - إن ظنونك هي يد الله التي تعاقبني على آثامي السابقة، فأنا لا أحاول إقناعك، بل أنحني صاغرا أمام هذه اليد المنتقمة، ولا أهرب من عقاب الله.
فتظاهرت باكارا بالتأثر الشديد وقالت: رباه! ماذا أسمع؟ فإنك إذا كنت صادقا فيما تقول فإن الندم على سوء ظني بك سيقتلني لا محالة.
ففرح أندريا فرحا شديدا دون أن يظهر عليه شيء من آثاره، وقال لها: إذا حلفتك يمينا أتبرين باليمين؟ - إني أبر بيميني ولو حلفتها للص أثيم. - إذن، فأقسمي لي إنك لا تبوحين بالسر الذي سآتمنك عليه. - أقسم لك أني لا أبوح بسرك. - إذن فابحثي في أعماق قلبك الذي نفذت إليه مدة أشعة الغرام الصحيح، تعلمين حقيقة السبب في توبتي. - ماذا أسمع؟ ألعلك أصبحت من العاشقين؟ - نعم، فإني بعد أن فقدت جميع آمالي السابقة شعرت أن قلبي الحجري يحب، وأني أحب تلك المرأة التي أردت تدنيسها حب احترام لا حد له.
ثم أطرق برأسه وقال: هذه المرأة هي امرأة أخي أرمان.
فصاحت باكارا صيحة الندم، وقالت: أسألك العفو، فلقد زالت الآن ظنوني.
ثم ركعت أمامه تستغفر عما أساءت إليه من قبل، ونظر إليها أندريا فرأى دمعة تسيل على خدها، فلم يشكك بحسن اعتقادها، فتكلف هيئة المنقبض الحزين وقال: لقد علمت الآن متاعب هذا الوحش الضاري الذي كاد يفترس الفتاة الوحيدة التي أحبها، ومقدار ندامته بعد التوبة؟
فتنهدت باكارا ومدت يدها إليه، وهي تقول: نعم، لقد عرفت كل شيء، وبقي أن أظهر لك برهاني أيضا عن ثقتي بتوبتك.
ثم أخرجت مسدسا من جيبها، وقالت: إنك عندما أرسلت لي كتابك في هذا الصباح تخبرني فيه أنك تريد زيارتي، كنت لا أزال مشككة بك، وحسبت أنك تريد قتلي، فتسلحت بهذا السلاح للدفاع عن نفسي، والآن فإني أدفعه إليك دلالة على ثقتي بتوبتك وحسن ظني بك.
فركع أندريا بدوره أمامها وشكرها شكرا بالغا، ثم بكى أمامها وأسال من عينيه نفس الدمع الكاذب الذي أسالته باكارا من قبل.
ولم يكن حائرا بين الداهيتين غير الكونت أرتوف، فإنه لم يكن يعلم أيهما أشد في هذه الحرب الشديدة التي كان سلاحها السياسة، ولم يعلم أيهما أقنع الآخر، أما باكارا فإنها أنهضت أندريا، وقالت له: لنبحث الآن بالأمور الجدية فقد وثق كلانا بالآخر، ولنعد إلى ذكر الحادثة، فإنك طعنت الرجل الذي كان يدعى الكونت كامبول بخنجرك، ولكنه لم يمت بل نقل إلى المستشفى. - إني أعرف ذلك، ولكن حياته وعقله في خطر. - هو ذاك، ولكنه في عنفوان الشباب فقد يتغلب صباه ويشفى مما هو فيه، وعندي أن لهذا الأثيم شريكا بل شركاء في آثامه، وأنه يجب أن نحمله على الإقرار بأسماء شركائه. - إني أرى رأيك ولا بد من مطاردته أين ذهب، فإن بوليسي رابض على أبواب المستشفى، وجواسيسي في داخله يقيدون عليه كل كلمة يقولها، فلا تخفى خافية من أمره. - وأنا سأفعل فعلك.
ثم اتفق الاثنان على ذلك وافترقا، فخرج أندريا وهو يعتقد أنه خدع باكارا أو أنه بات في مأمن منها لوثوقها من توبته.
ولما اجتمع الكونت ببكارا قال: لقد عجبت بجميع ما فعلته، إنما أشكل علي أمر لم أعلم قصدك منه. - ما هو؟ - كيف خابرته بشأن الجريح، وكيف عهدت إليه مراقبته ونحن نسعى للقبض عليه وإبعاده عنه لأنه شريكه؟ - إني خابرته بشأنه كي تزيد ثقته بي، وعهدت إليه مراقبته كي يعودا إلى الاجتماع وكيد المكائد، فيتيسر القبض عليهما متلبسين بالخيانة، لا سيما وهو قد بات لا يخشاني الآن، ويحسب أن الجو قد خلا له، ثم أشركته في البحث عنه كي يتردد علي دائما، وهو لا بد فاعل لأنه قد توله بحب الفتاة اليهودية التي هي عندي، وهي التي تجره إلى افتضاح أمره، ولا أستطيع أن أزيدك الآن شيئا على ما قلت، على أني أقول لك أن هذا الأثيم لا يفلت هذه المرة من قبضتي.
فأطرق الكونت مسلما بما تقوله دون أن يجيب.
54
وكان الكونت أرمان مقيما في منزله الصيفي خارج باريس، وهو منزل جميل تكتنفه الأشجار واقع في قرية صغيرة بمعزل عن المنازل، فكان يزوره روكامبول في مصيفه ثلاث مرات في الأسبوع، ولقد أعجب الكونت بذكائه وما كان يتكلفه من البساطة في أقواله غاية الإعجاب، خلافا لامرأته فإنها كانت تنفر من هذا المركيز الجديد، وتوجس منه شرا، ولكنها كانت تكتم مخاوفها عن زوجها.
وكان لأندريا غرفة خاصة في هذا المنزل، ولكنه كان يبيت أكثر لياليه في باريس، واتفق أن أرمان اضطر ليلة إلى المبيت بباريس لدعوة وردت إليه من أحد المحتاجين إليه، ولم تكن هذه الدعوة إلا من ابتكار أندريا، فكلف الكونت أخاه التائب أن يبيت في المصيف كي لا تبقى امرأته وحدها، فامتثل وكان عندها في المساء.
وتعشيا سوية ثم سهرا إلى الساعة العاشرة، ودخل كل إلى غرفته، فأخذت زوجة أرمان كتابا وجعلت تقرأ فيه، وانسل أندريا من غرفته فخرج من المنزل وجعل يمشي على تلك الرمال حتى أبصر عن بعد شبحا نائما، فقال في نفسه: لا شك أنه روكامبول، وإنه مقيم في المكان الذي عينته له، فلما وصل إليه رآه إنه هو بعينه، فسر به وقال له: يعجبني أنك حريص على الأوقات. - نعم، فهل أنت مستعد؟ - أتم الاستعداد، فهل حفظت ما علمتك إياه؟ - طب نفسا فسأقول لها جميع ما علمتني أن أقوله. - إذن، اتبعني.
ورجع الاثنان إلى منزل الكونت أرمان، فسر أندريا حين رأى النور لا يزال في غرفة امرأة أخيه، وأن باب مشرف الغرفة المطل على الحديقة لا يزال مفتوحا لاشتداد الحر في تلك الليلة.
وكان في تلك الحديقة شجرة باسقة تتصل أغصانها بذلك المشرف، فدله أندريا عليها وقال له: إن طريقك من هذه الشجرة، والآن فاصبر هنيهة إلى أن أعود إلى غرفتي، وبعد ذلك اصنع كما علمتك.
وتركه أندريا ودخل إلى المنزل، فصعد إلى غرفته دون أن يشعر به أحد، أما روكامبول فإنه صبر خمس دقائق، ثم تسلق هذه الشجرة حتى دنا من مشرف الغرفة ودخل منه إلى الغرفة التي تقيم فيها حنة.
وكانت حنة جالسة على كرسي طويل وبيدها كتاب تطالع فيه، وهي تنقطع عن القراءة من حين إلى حين مفتكرة بزوجها أرمان، ولما رأت هذا الرجل قد هبط عليها من الشجرة جمد الدم في عروقها من الرعب، ثم تبينت أنه هو المركيز إينجو، فحاولت أن تستغيث ولكن الخوف عقد لسانها فلم تنبس بحرف، ولبثت جامدة في مكانها دون حراك.
أما هذا اللص فلم يتأثر لهذا الموقف، بل إنه انحنى أمامها مسلما وقال لها: إني ألتمس عفوك يا سيدتي وأعتذر عن دخولي إليك كما دخلت، ثم أسألك أن تأذني لي بإظهار السبب في هذه الخطة الغريبة التي سلكتها.
فحسبت أنه صادق في اعتذاره، وأنه لا بد من سبب خطير دفعه إلى فعل ما فعل، إلا أنها لم تطمئن لكلامه ولبثت في مكانها لا تستطيع أن تفر ولا أن تستغيث، ووضع روكامبول يده إلى صدره وقال: سيدتي، إني رجل نبيل أعلم بما يجب على مثلي من الاحترام لمثلك، فلا تحكمي علي قبل أن تسمعي ما أقول، واعلمي أني لم أدخل إلى منزلك في منتصف الليل دخول اللصوص إلا لسبب خطير ودافع عظيم لا يغلب، وأنا أجثو أمامك وأستحلفك بأقدس الأسماء وأحبها إليك أن تتمهلي في أمري، فلا تطرديني من حضرتك ولا تنادي أحدا من أتباعك قبل أن تسمعي كلامي.
وكان يتكلم بلهجة المستعطف المتوسل، وبلهجة احترام شديد آنست منه حنة شيئا من الاطمئنان، فحلت عقدة لسانها وقالت له: تكلم.
فقال روكامبول: إن الذي سأقوله لك يا سيدتي هو سر دقيق لا يمكن لأحد أن يطلع عليه الآن، وقد تعذر علي الحضور مع زوجك الكونت، وخشيت إذا لم أطرق باب منزلك في هذه الساعة المتأخرة أن يسوء ظن من في المنزل، لا سيما أن زوجك غائب عنه. ثم وضع يده على قلبه وقال: إن هذا السر في هذا القلب، وقد أوشك أن ينفجر منه؛ إذ لم يعد له طاقة على احتماله.
وكأن حنة قد علمت ما يريد أن يقول، فارتجفت أعضاؤها وقالت له بعظمة وكبرياء: ماذا تريد بهذا القول؟
ولم يكترث لها روكامبول بل ركع أمامها وقال: سيدتي، أصغي إلي.
أما هي فلم تجد قوة للاستغاثة لما داخلها من الرعب، ووقفت جامدة دون حراك كالواقف في ساحة قضاء ينتظر تلاوة الحكم عليه بالإعدام.
فقال روكامبول دون أن يغير شيئا في لهجة احترامه: إني خلقت يا سيدتي في بلاد حارة المناخ، ونشأت بين قوم كنت كالملك عليهم وكانوا كالعبيد لي، فنشأ بي حب الأثرة وعدم المبالاة بالصعاب، لأني لم ألق في حياتي من يعترضني فيما أريد، وقد أتيت حديثا إلى باريس كي أبحث عن شريكة لي تشركني في هذا الملك الذي لا حد لسلطانه، وهذه الشهرة التي لا حد لاتساعها.
وحسبت حنة أن هذا الشاب يحاول الزواج حقيقة، وأنه يتلمس مساعدتها في طلب تلك الزوجة التي اختارها، فقال روكامبول: ولقد وجدت الآن هذه المرأة، وأنا أعبدها كما يعبد المؤمن ربه، غير أن مصطلحات الناس قد وضعت بيني وبينها هوة عميقة بحيث يتعذر اجتيازها، ولكني يا سيدتي في مقتبل الشباب وقد تعودت أن لا أحتفل بالمصائب، فلا عبرة عندي بالمستحيل، ثم إن هذه المرأة التي تحول بيني وبينها الشرائع والعادات قد أقسمت على أن تكون لي، وعلى أن أذهب بها فأعيش تحت سماء بلادي الصافية الزرقاء، وأن أضع لها صولجان الملك على عبيدي وأعيش مدى العمر عبدا لها.
ولم يبق ريب لدى حنة في قحته وجرأته عليها، فأوقفته عن تتمة حديثه بإشارة وقالت: ألمثل هذه الأقوال الفاسدة قد أتيت إلي؟ - قد تكون فاسدة يا سيدتي، ولكنها صادقة صادرة عن قلب تنبض فيه عروق الإخلاص والحب الصحيح. - ولكنك قد نسيت من أنا، وغفلت عن أن زوجي الكونت أرمان دي كركاز قد فتح لك أبواب منزله. - كلا، وا أسفاه! فإني لم أنس شيئا من ذلك.
ثم ركع أمامها وقال: والآن يا سيدتي، فلا بد أن تكوني عرفت تلك السيدة التي أبذل الحياة في سبيل رضاها وأعبدها عبادة الالهة. إن تلك السيدة التي أقسمت على أن أفوز بحبها وأحكمها في قلبي هي أنت.
ونهض بعد هذا القول ومشى خطوة إليها يريد تقبيل يدها، فارتجفت حنة منذعرة وصاحت بصوت خنقه الخوف: إلي إلي ...
ولم تكد تتم استغاثتها حتى فتح الباب بعنف، وأسرع رجل منه إلى روكامبول فصفعه صفعة شديدة على خده وهو يقول: تبا لك من نذل أثيم!
55
وكان هذا الرجل الذي أرسلته العناية لإغاثة حنة، بل الذي أرسل نفسه لنصرتها هو أندريا، وقد احمرت حدقتاه من الغضب، ونفض غبار الزهد والمسكنة عن وجهه، فظهر بمظاهر الأبطال الأشداء، حتى حسبت حنة أنها ترى زوجها أرمان، فاطمأن فؤادها وقالت: ألف شكر لأنك أنقذتني.
أما أندريا فلم يكترث لهذا الشكر وقال لها: قبل كل شيء يجب أن يبقى سر هذه الإهانة مكتوما بيننا.
ثم التفت إلى المركيز، أي إلى روكامبول وقال: إنك نذل أثيم.
فلم يجب روكامبول بشيء ولكنه تظاهر بالخوف الشديد، فأخرج أندريا مسدسه من جيبه وقال له ببرود: اختر الآن بين أن تموت موت اللصوص، أو بين أن تصغي إلي.
فخضع روكامبول للقوة وقال: بل إني أصغي، فقل ما تشاء. - إن هذه السيدة التي تجاسرت على إهانتها هي امرأة أخي، أريد بذلك أنه لم يعد بد لأحدنا من الموت.
فانحنى روكامبول إشارة إلى الامتثال، ثم تابع أندريا: بقي أن مبارزتنا لا يجب أن يعلم سببها أحد، وإن حياتك الآن بين يدي، فأنا لا أبقي عليك إلا إذا أقسمت لي بشرفك أن لا تبوح بسر سبب المبارزة لأحد من الناس. - أقسم لك بشرفي على الكتمان. - ثم إن المبارزة لا يجب أن تكون إلا بعد غد، كي لا يسيء أخي ظنه بك، فإنه يعلم أني أبيت الليلة هنا، وأخشى إذا تبارزنا غدا أن يعلم شيئا من السر. - ليكن ما تريد. - والآن، فاخرج كما دخلت، وانزل من هذه الشجرة دون أن يشعر بك أحد.
فامتثل روكامبول وخرج دون أن ينظر إلى حنة. ولما خلت حنة بأندريا شكرته شكرا جزيلا، فقال لها: لا سبيل إلى الشكر، فقد دافعت عن شرفي بدفاعي عن شرفك، والآن فنامي مطمئنة إذ لا خوف عليك وأنا في جوارك. - إني داخلة، ولكني ألتمس منك كما تلتمس الأخت من أخيها، أن لا تبارز هذا الرجل. - حبذا ذلك إرضاء لك، ولكن المبارزة لا بد منها. - كلا، فإني لا أطيق أن تخاطر بحياتك، فإذا أصررت على هذه المبارزة فإني أخبر أرمان بحقيقة أسبابها؛ لأني لم أتقيد بيمين على الكتمان. - إذن فإنك تعرضين زوجك لأخطارها، لأنه إذا علم بجسارة المركيز فلا يقعد ساعة عن مبارزته، واعلمي الآن أني لا أحب إهراق الدماء، ولا أميل إلى المبارزات التي تحرمها الأديان، غير أنه قد يعترض المرء من الحوادث ما يكرهه على الخضوع لتلك الشريعة السامية التي يسمونها الشرف. ولو أخلاق الرجال كما عرفتها لما سألتني الرجوع عن المبارزة، فإن هذا المركيز إذا لم يعاقب على جرأته، فإنه يجعل اسمك مضغة في الأفواه، ويتحدث بما جرى في جميع النوادي.
فذعرت حنة وقالت: يا للخيانة!
فضغط أندريا على يدها وقال لها: أتريدين أن يبارزه أرمان، ذلك الرجل الشريف الذي إن أصيب بمكروه - ولا سمح الله - يقع هذا المكروه بكثير من العائلات التي تعيش من بره، أما أنا فأية فائدة من حياتي بعد أن تدنست بالآثام وأصبحت فردا لا عائلة لي؟
فقالت له حنة: ما هذا القول؟ أليس لك في هذا المنزل أخ وأخت يحبانك؟
فوضع أندريا يده على جبينه ثم قال: إنك نبيلة وإنه نبيل، ولكني كيف أستطيع أن أنسى ذنوبي الماضية، وإذا بارزت هذا الرجل، فإما أن أقتله فأعاقبه على جرأته، أو يقتلني فأموت من أجلك، ويكون قتلي خير كفارة عن ذنوبي.
وقبل أن تجيب قال لها: أصغي ألا تسمعين صوت مركبة؟ - نعم. - إنها مركبة أرمان دون شك، فأسرعي إلى غرفتك إذ لا يجب أن يرانا سوية، ولكني أسألك قبل الافتراق إن تتعهدي بكتمان ما جرى في هذه الليلة. - سأكتم كل شيء. - وأن تأذني بالمبارزة. - إن الأمر شديد. - ولكنه واجب. - آذن، فاذهب وسأدعو لك الله وعسى ألا أخيب.
وافترق الاثنان فذهب كل إلى غرفته، إلا أن المركبة لم تكن مركبة أرمان كما وهم أندريا، لأن أرمان لم يعد إلا في الساعة الخامسة من الصباح.
ونام أندريا نوم المطمئن الواثق من فوزه في الدسيسة، لا سيما بعد ما رآه من إشفاق حنة عليه. وفي اليوم التالي برح القرية إلى باريس، فكان أول ما أجراه أنه غير هيئته وذهب إلى الفندق الذي يقيم فيه روكامبول، فلقيه في انتظاره ولكنه كان مقطب الجبين عابس الوجه، فضحك أندريا وقال: ألعلك غاضب لصفعة أمس؟ - وإذا دققت في حسابي، فإني أضيف إليها ضربة الخنجر.
وقد قال بلهجة جد خشي أندريا عواقبها، فقال له: ألعلك تمزح؟ - كلا، فلقد دنا الزمن الذي ينبغي أن أقر فيه معك على حال. - ماذا تريد بذلك؟ ألعلك تنوه عن حصتك من الغنيمة؟ - هو ذاك، فإني أريد أن يكون بيدي ما أستند عليه بعد الفوز في الحصول على الإيراد الذي وعدتني به، وهو الخمسون ألف فرنك. - إن طلبك حق وعدل، غير أنه كيف يمكن أن أدفع لك قبل أن أقبض؟ - لقد فكرت بذلك، فرأيت حل المشكلة سهلا ميسورا، وذلك أن تكتب لي صكا عليك بقيمة مليون فرنك، وتوقع عليه باسمك الحقيقي وهو أندريا، وصي ابن المرحوم الكونت أرمان دي كركاز، ثم تجعل التاريخ عن السنة القادمة. - لقد أصبت فإن الأمر سهل. - إذن أتكتب لي هذا الصك؟ - نعم، ومتى أردت. - إني أريده الآن.
فأجابه أندريا: كلا، بل أكتبه لك بعد غد؛ لأن من ينتظر قبض مليون فلا بد أن يكون حكيما، وأنا في حاجة الآن إلى حكمتك.
فامتثل روكامبول وقال: ليكن ما تريد، فسأنتظر إلى بعد غد.
56
ورجع أندريا إلى الكونت فأخبره باضطراره إلى مبارزة المركيز لسبب خطير، وأن المركيز قد أهانه إهانة لا سبيل بعد إلى المسالمة، ولا تغتسل إلا بالدماء، ثم طلب إليه أن يكون شاهده، وأن يجد له الشاهد الآخر. فبذل الكونت جهده كي يقف منه على السبب، غير أن أندريا كان مصرا على الكتمان، فعلم الكونت أن هذا الزاهد الورع لم يقدم على المبارزة وقتل الأرواح ومخالفة الشرائع الدينية إلا لأمر خطير، وأن هذا المركيز قد أهانه إهانة لا تغتفر، فرضي أن يكون شاهده وذهب إلى صديقه فرناند روشي يلتمس منه أن يكون الشاهد الثاني، فوجده في منزله ووجد عنده باكارا.
وكانت هرمين زوجة فرناند قد أحبت باكارا حبا شديدا، بعدما علمت أنها أنقذت زوجها من القتل والخراب، فأصبحت تثق بها ثقة غريبة، وتعهد إليها بتوزيع حسناتها على السائسين. وقد دعتها إليها في ذلك اليوم لمثل هذه الأغراض، فلما دخل أرمان طلب إلى فرناند أن يختلي به لشأن هام، ودخل وإياه إلى غرفة مجاورة للقاعة التي كانوا فيها، فأوجست باكارا خيفة من هذه الخلوة وأظهرت مخاوفها لهرمين، ثم استأذنت منها أن تقف على باب الغرفة فتسمع ما يقوله أرمان، ووقفت مصغية على الباب فعلمت أن أندريا يريد مبارزة المركيز، وأن أرمان وفرناند سيكونا شاهديه، فدهشت لما سمعت وأخبرت هرمين بما سمعته بعد أن طلبت إليها أن تكتم ذلك. ثم ودعتها وذهبت إلى الكونت الروسي فأخذته وذهبت به إلى منزلها، فدعت الفتاة اليهودية ونومتها وسألتها عن المبارزة وعن أندريا والمركيز، فكانت تجيب بكلام متقطع محصله أن هذا المركيز أشقر اللون، وليس هو أسمر كما يبدو من وجهه، ولكنه متنكر لأنه لا يريد قتل أندريا بل قتل أرمان.
فأجفلت باكارا وقالت للكونت: لا شك أن هذا المركيز هو روكامبول، فإننا فقدنا أثره منذ خمسة عشر يوما، ولكنه إذا كان كما أظن فما الذي يحمله على المبارزة مع أندريا إلا إذا صدقت الفتاة وكان يريد قتل أرمان.
فقال لها الروسي: إن هذا محال، فإن الشهود يقفون في معزل عن المتبارزين، فإذا أصاب أحدهم رصاص المبارز فلا يحمل على محامل الخطأ بل على سوء القصد، وفوق ذلك فإنه إذا كان أندريا يريد قتل أخيه فلا يقتله على هذا الشكل العامي المبتذل بعد صبره الطويل، ولا بد أن يكيد له مكيدة لا دخل له فيها بالظاهر. - ربما كنت مصيبا؛ فإن كلام الفتاة كان مبهما غير جلي، وفي كل حال فإني أحب أن أحضر وإياك هذه المبارزة. - ذلك مستحيل؛ إذ لا يحضرها غير الشهود. - نعم، ويحضرها خدامهم. - ماذا تريدين بذلك؟ - عرفنا شاهدي أندريا، فهل تعرف شاهدي المركيز. - علمت اليوم أن أحدهما صديقي البارون دي مينرف، وهو الذي عرفني بك إذا كنت تذكرين.
فصفقت باكارا بيديها من السرور وقالت: لقد بلغنا المراد؛ إذ إن هذا الصديق لا يخالفك في مراد، فاتفق معه على أن تكون أنت سائق المركبة وأنا خادمها، ومتى تنكرنا فلا يعرفنا أحد. - سأفعل ما تريدين وسأذهب إليه الآن.
وفي اليوم التالي اجتمع الخصمان والشهود في إحدى غابات باريس، فصعد الكونت الروسي مع باكارا إلى شجرة عالية كي لا يفوتهما شيء من المبارزة، فلما نظرت باكارا إلى روكامبول عرفته من عينيه.
وأخذ الشهود غدارتين فحشوهما، وفيما هم يشتغلون بحشوها انفرد أندريا بأخيه وقال له: إني قد أكون في عداد الأموات بعد عشر دقائق، فهل لك أن تجيبني إلى طلبي الأخير؟
وكان أرمان يحبه حبا شديدا، فأوشك أن يضمه إلى صدره من الحنو والجزع عليه، ولكنه تجلد وقال: ألعلك تشك بإجابتي؟ - أتقسم لي على تنفيذ إرادتي؟ - أقسم بأقدس أيمان. - إن إرادتي الأخيرة أيها الأخ العزيز هي أن تذهب بامرأتك وولدك بعد قتلي إلى قصرك في كارلوفان فتقيم فيه شهرين لا تعود في خلالهما إلى باريس، ولا أستطيع الآن أن أظهر لك مرادي بهذا الطلب، ولكني كتبته وهو في طي هذا الغلاف، فإذا قتلت فلا يحق لك فتحه إلا في كارلوفان، وإذا لم أقتل أرجعته لي دون أن تعلم ما فيه.
ثم أخرج غلافا ضخما من جيبه وأعطاه إياه وعاد إلى ساحة المبارزة.
وعند ذلك أعطى الشهود كلا من الخصمين غدارة وأوقفوهما في موقفهما بعد أن خططا المسافة بينهما، ثم صفق فرناند بيديه ثلاثا إشارة إلى بدء المبارزة، فاندفع الاثنان وجعل كل منهما يزحف إلى الآخر زحفا بطيئا، إلى أن بدأ روكامبول فأطلق الرصاصة الأولى على خصمه فأخطأه، ثم أطلق الثانية فالثالثة فوقعتا على الأرض دون أن تصيب واحدة منهما أندريا.
ولم يكن لكل واحد منهما حق بأن يطلق أكثر من ثلاث طلقات، فأيقن الحاضرون أن أجل المركيز قد دنا، وباتوا يتوقعون له الموت في كل لحظة. أما أندريا فإنه مشى إلى خصمه أي شريكه مشيا بطيئا، حتى بلغ إليه فوضع غدارته في صدره وقال: إن حياتك الآن بين يدي وأنا أهبك إياها على شرط.
فقال له روكامبول مغضبا: إنه يحق لك قتلي، فاقتلني لأني لا أعتذر ولا ألتمس الغفران. - إني لا أسألك الاعتذار، ولكني أشترط عليك شرطا تستطيع قبوله. - ما هو؟ - هو أن تقسم بشرفك على أن لا تذكر السبب في مبارزتنا مدى الحياة، وأن لا تعود إلى مثل هذا السبب. - قد رضيت، وأنا أقسم لك بشرفي على ذلك.
فأطلق أندريا غدارته في الفضاء ثم قال: لقد انقضى كل خلاف بيننا، وأنا أعتبر الآن حضرة المركيز من الأشراف.
فسر الجميع لما أظهره أندريا من مكارم الأخلاق.
وخلا أرمان بأخيه قائلا: كيف عفوت عنه بعد المقدرة؟ - ليغفر عني الله.
أما باكارا فإنها عادت مع الكونت إلى منزلها وهي تعلم أن المبارزة خدعة، وأن هذين اللصين متفقان على أمر خطير، ولكنها لم تستطع أن تدرك شيئا من هذه الألغاز، فقررت أن تنصب فخا تقتنص به روكامبول كي تحمله على الإقرار.
وكان في باريس امرأة شهيرة بالجمال وهي من بنات الهوى، وكانت من خير صديقات باكارا أيام غوايتها، فدعتها إليها واتفقت معها أمام الكونت الروسي على أن تعطيها مائة ألف فرنك على أن تساعدها في ما تريده من هذا المركيز، وقبلت الفتاة واتفقت معها باكارا على أن تحيي ليلة راقصة، يكون فيها المركيز دي روكامبول من جملة المدعوين إليها بواسطة أحد أصدقائه، ثم أخبرتها أن هذا الرجل متنكر، ولكن يمكن معرفته من أثر جرح كبير في صدره، فإذا تمكنت من الكشف عن صدره وتحقيق هذا الأثر ، نقدتها مائة ألف فرنك، فرضيت الفتاة شاكرة وخرجت تسعى في إعداد الحفلة، وخرج الكونت في إثرها إلى صديقه البارون مينرف وقد كان شاهد روكامبول في المبارزة والتمس منه أن يدعو المركيز إلى تلك الحفلة الراقصة. •••
ولنعد الآن إلى أندريا، فإنه ركب مركبة أخيه وعادا إلى المصيف فبرحا باريس، وفيما هما على الطريق طلب إليه أندريا أن يرجع إليه الغلاف.
فقال له أرمان: إذن، فلا سبيل للاطلاع على ما فيه؟ - كلا يا أخي، وستقف على جميع ذلك في مستقبل قريب، والآن فإني أسألك أن تفي بوعدك لي وتسافر مع امرأتك وولدك، وأنا معكم إلى كارلوفان. - سأفي بوعدي ونسافر صباح الغد.
ولما وصلا إلى المنزل سرت حنة بسلامة أندريا سرورا عظيما كاد يفضح سرها، وأخبرها أرمان بما اقترحه عليه من السفر في الغد، فعلمت أنه يريد إبعادها عن المركيز، ووافقت راضية على هذا السفر.
وبعد الغد رجع أندريا إلى باريس وهو واثق من نجاح مقاصده، فتنكر بزي الإنكليز وذهب إلى الفندق الذي يقيم فيه روكامبول، فوجده ينتظره فيه ودار بينهما الحديث الآتي، فقال أندريا: ألعلك خفت في الصباح؟ - الحق أني خفت بعض الخوف. أصغ إلي، لقد خطر لي أني لما كنت واقفا وحدي على جميع أسرارك، فقد أردت أن تتخلص مني لأنك قد خطر لك خاطر الاستقلال. - وأنا أقول الحق أيضا إنه خطر لي هذا الخاطر، وما أرجعني عنه سوى حبي لك. - بل حاجتك إلي، فإنك لا تستطيع الاستغناء عني ولا سيما في هذه الأيام، وإذا أردت فأنا أعترف لك أيضا بأنه قد خطر لي أن أقتلك. - كيف خطر لك هذا الخاطر؟ - لأني لا أزال أشعر بألم خنجرك في صدري، وأنت تعلم أني أحسن الرماية، فلو أردت قتلك لما أخطأت المرمى. - ولكن كيف تعيش دوني أيها التعيس؟ - هو السبب الوحيد الذي أرجعني عن قتلك. - إذن فنحن أكفاء، كلانا لا يستغني عن الآخر، فلنبحث الآن بأمورنا الخطيرة، فإني مسافر غدا إلى كارلوفان لأتفقد ذاك القصر؛ لأني أريد أن أقيم فيه بعد زواجي بالكونتس حنة دي كركاز. - وأنا ما ينبغي أن أفعل؟ - تقيم في باريس ثلاثة أيام، ثم تسافر منها إلى سانت مالو حيث تنتظر فيها تعليماتي. - وماذا أفعل في هذه الأيام الثلاثة؟ - تتمرن على ضربة السيف التي أمرتك أن تتعلمها، ثم تهتم بأمر باكارا. - ألعلك دبرت المكيدة؟ - مكيدة هائلة فاسمع، إنك تبدأ قبل كل شيء باختطاف الفتاة اليهودية التي عندها. - وأين أضعها متى اختطفتها؟ - أصغ إلي، إني لقيت في الهافر حديثا رجلا من لندرا كان منخرطا في سلك عصابتي حين كنت فيها، وقد نجح بأعماله بعدما فارقته حتى أصبح الآن صاحب سفينة تجارية وهو ربانها، وقد خطر لي أن أرسل باكارا على سفينته هذه إلى جزائر المركيز، وهناك يلقيها الربان بين تلك القبائل المتوحشة التي تتباهي بأكل لحوم البشر، فيجعلها زعيم تلك القبيلة وليمة في أحد الأعياد. - إنه انتقام جميل، ولكن كيف السبيل إلى تنفيذه؟ - ينفذه جون إيرد ربان السفينة، فإنه سيشحن بضاعة من الهافر إلى أستراليا، وهو خاضع لي مع بحارته، وإنه الآن في باريس فقد قدم إليها أول أمس، وقد لقيته أمس واتفقت معه على أن يحمل باكارا إلى تلك الجزائر فقبل، وهو إما أن يلقيها في إحدى صحارى تلك البلاد أو يبيعها بيع السلع إلى زعيم تلك القبيلة. - كل ذلك حسن معقول، ولكن كيف السبيل إلى تسليم باكارا إلى ربان السفينة؟ - إن ذلك سيكون عملك في مدة هذه الثلاثة أيام، فتبدأ أولا باختطاف اليهودية وتودعها عند مدام فيبار بعد أن توصيها بالاحتفاظ عليها والعناية بها، وعندما تصبح في قبضتها ترسل رسالة دون توقيع إلى باكارا تخبرها فيها أن أحد العبيد قد اختطف الفتاة، وأنه ذهب بها إلى الهافر، ثم تكتب في الرسالة أن هذا العبد سافر على سفينة إنكليزية اسمها فولر وهي ذاهبة إلى أوسيانيكا، فلما تقف باكارا على هذه الرسالة تسرع بالسفر إلى الهافر، فتعلم هناك أن هذه السفينة قد برحت ميناء الهافر إلى سانت مالو، فتذهب إليها وتجد السفينة فيها، وعندئذ فلا بد من النزول إلى السفينة لترى فتاتها فيفعل الربان الباقي. - كن واثقا من الفوز، وسافر فسأصنع جميع ما تريد، ولكن بقي سؤال أحب أن أسألك إياه، وهو لماذا أردت أن ترسل باكارا إلى سانت مالو وأنت قادر على إنزالها إلى السفينة من الهافر؟ - ذلك لأن سانت مالو لا تبعد غير غلوة عن قصر أخي الذي سأكون فيه بعد غد، ومتى وصلت السفينة إليها أكون فيها، إذ لا بد لباكارا أن تعرف من هو المنتقم. - لله درك، ما أشدك في الانتقام! - نعم فإن الانتقام مسرة الآلهة، والآن فاسمع، إنك ستختطف الفتاة من منزل باكارا وتودعها عند مدام فيبار، وبعد ثلاثة أيام تحضر إلى سانت مالو مع ربان السفينة وفانتير، وهناك أهيئ لك أسباب مقابلة ثانية مع امرأة أخي حيث يباغتكما أرمان. - كفى، فقد عرفت كل شيء. - بقي دور واحد، وهو أنه يجب أن تعرف جون إيرد ربان السفينة، وبعد ذلك اذهب إليه غدا عند الصباح واذكر له اسم فيليام علامة للتعارف، ثم دله على الفندق النازل فيه.
وفيما هو يتأهب للذهاب إذ وردت على روكامبول دعوة البارون دي مينرف إلى الليلة الراقصة التي أعدتها باكارا لاقتناص روكامبول، عرضها على أندريا مستأذنا إياه بالذهاب إليها. - لا بأس من ذهابك، بل يجب أن يعرفك كبار القوم كي لا يبقى لأحد مظنة فيك، وانصرف في شأنك.
بينما كان أندريا وروكامبول في اختلائهما، كانت مدام ألفونس وهي تلك الفتاة الحسناء التي استحضرتها باكارا لإعداد الليلة الراقصة في منزلها، قد قدمت إلى باكارا، وقالت لها: إن الحفلة أعدت ووزعت أوراق الدعوة، وقد أتيت الآن كي تخبريني بما ينبغي أن أفعل.
فلفقت لها باكارا حديثا طويلا خلاصته أن هذا المركيز متنكر، وأنه حين كان في شكله القديم كان من ألد أعداء الكونت الروسي، وأنه لص سفاك، وأنه لم يتنكر إلا بغية قتل الكونت وقتلي. - وماذا تريدين أن أصنع به؟ - إننا لا نزال في ريبة من أمره ولا نستطيع معرفته إلا إذا تمكنا من الكشف على صدره، فإذا كان صدره سليما لا أثر فيه للجراح كنا مخطئين بسوء ظننا به، وإذا كان في صدره أثر جرح حديث كان هو ذاك اللص السفاك، فبتنا منه على حذر وقبضت المائة ألف فرنك التي وعدك بها الكونت في كل حال. - سأفعل ما ترين، وغدا يرد إليك مني كتاب. ثم ودعتها وذهبت فلبثت باكارا في منزلها وهي واثقة من الظفر وحمل هذا الشقي على الإقرار.
57
وفي اليوم التالي أرسلت مدام ألفونس إلى باكارا تقول فيها أن المركيز، أي روكامبول، تمادى في السكر تلك الليلة وهو لا يزال نائما عندها، وأنها كشفت عن صدره فرأت أثر جرح كبير في الجهة اليمنى من صدره، وأن هذا الجرح حديث، ثم اغتنمت فرصة سكره فوضعت على منديلها مادة روحية دلكت به يده، فظهر أن لون بشرته ناصع البياض، وأن لونه الأسمر لم يكن غير دهان، ثم ختمت كتابها بسؤالها عما يجب أن تصنعه.
ولما وقفت باكارا على هذه الرسالة فرحت فرحا لا يوصف لصدق ظنونها، وخرجت مسرعة إلى الكونت أرتوف، فأطلعته على الرسالة وقالت له: يجب الإسراع قبل فوات الأوان. - ماذا تريدين أن أفعل؟ - نبدأ وندعو إلينا مدام ألفونس.
فوافقها الكونت ودعوها، فلما أتت قصت عليهما جميع ما كتبته بالتفصيل.
فقالت لها باكارا: والآن ألا يزال في منزلك؟ - قد ذهبت منه منذ ساعة، ولكنه عاهدني على الرجوع في هذه الليلة. - هل بعت منزلك خارج باريس؟ - كلا، فهو لا يزال لي. - إذن، اكتبي لهذا المركيز كي يوافيك إليه في هذه الليلة، وأخبريه أنك ما فعلت ذلك إلا لخوفك من عشيقك لشدة غيرته عليك.
وامتثلت مدام ألفونس وكتبت الرسالة بشكل لا يوجس منه روكامبول أقل ريب، ثم ختمتها وأرسلتها إليه، فقالت لها باكارا: اذهبي الآن إلى منزلك خارج باريس وسأوافيك إليه بعد ساعة مع الكونت، فأتنكر أنا بصفة الخادمات ويتنكر الكونت بزي سائقي المركبات، ومتى اجتمعنا أخبرك بما يجب أن نصنع. •••
ولنعد الآن إلى روكامبول، فإنه بعدما افترق عنه أندريا ذهب لمقابلة الربان، فقيل له إنه لم يعد فأقام ينتظره مدة طويلة حتى عاد ، فتعارفا وجعل الربان يعتذر عن تأخره عن الموعد المعين، وافتتح اعتذاره بقوله إنه يوجد اثنان أخلص لهما أشد الإخلاص، وهما السير فيليام والرجل الذي أعاقني عن موافاتك اليوم، أما هذا الرجل فإن قصتي معه غريبة تشبه الحكايات الموضوعة، فأصغ إلي أقصها عليك.
وأصغى إليه روكامبول وهو يرجو أن يستفيد من حكايته، فقال الربان: كنت في السنة الماضية في أمستردام، وقد شحنت سفينتي بضائع إلى الهند، وكان معي في السفينة فتاة بورتغالية أحببتها وأحبتني حبا ليس بعده حب، ولما كنا في أمستردام أنزلتها إلى المدينة وأقمتها في أجمل فندق إلى أن يتم شحن السفينة.
وفيما أنا في ليلة جالس على ظهر السفينة، إذ استوقف نظري شبوب نار هائلة في الشارع الذي كانت فيه الفتاة، ونظرت بالنظارة المكبرة فرأيت النار تشب في نفس الفندق الذي نزلت فيه حبيبتي، وعند ذلك أسرعت مهرولا كالمجانين إلى البر، ولما بلغت الفندق رأيت النار قد شبت في جميع أطرافه، ونظرت تلك الفتاة تصيح وهي واقفة على الشرفة، صياح اليأس ولا سبيل إلى إنقاذها، فهلع قلبي لصراخها، ونظرت حولي عساي أجد منفذا إليها، ورأيت سلما خشبية نصبت على الجدار المحترق، ورجلا في مقتبل الشباب تسلق تلك السلم غير مكترث للموت حتى بلغ إلى الشرفة، فاحتمل الصبية وعاد بها وخشب السلم يلتهب تحت قدميه، حتى وصل بها الأرض، وقد أغمي عليها من الرعب، فأكبر الناس بسالته وجعلوا يهتفون له معجبين بهذه المروءة، أما أنا فإني اقتحمت الجمع حتى وصلت إليه، فجعلت أقبل يده شاكرا ودموع الفرح تنهل من عيني، وكانت المرة الأولى التي خرجت فيها الدموع من عيني، كما كانت أول مرة دخل فيها الحب إلى قلبي، وحتمت على نفسي أن أسفك دمي في خدمة هذا الرجل، وأن أكون له عبدا ما حييت، ولهذا لو سألني السير فيليام أن أتخلى له عن سفينتي وجميع أموالي لفعلت، ولكن لو سألني هذا الكونت أن أقتل السير فيليام لما تأخرت.
فأجفل روكامبول وقال له: من هذا الكونت؟ - هو شاب غني روسي يدعى الكونت أرتوف.
فوقع هذا الاسم على روكامبول وقع الصاعقة، وقال في نفسه: قدر لأندريا أن يفشل حين الانتصار، وأن تأتيه الخيبة والعثرات من حيث لا يدري. ولكنه كظم ما به وسأله: كيف لقيت الكونت؟ - لقيته اليوم اتفاقا قبل أن أجيء إليك.
فقال في نفسه: قبح من اتفاق، فما فسد أعمالنا غير الصدفة، فإنه إذا رأى هذا الربان بشأن اختطاف الفتاة اليهودية إلى أن استقرا على أمر واتفقا على أن يتقابلا في المساء.
وعاد روكامبول إلى الفندق، فدعى إليه فانتير وأخبره بما عزموا عليه من اختطاف اليهودية، ثم أمره أن يذهب إلى مدام فيبار ويخبرها، ثم يبحث وإياها عن أنجع الطرق لاختطافها، وأن يأخذ التعليمات اللازمة عن منزل باكارا وعن طريقة البلوغ إلى الفتاة.
وذهب فانتير وعاد إليه في المساء وأخبره أن مدام فيبار ذهبت إلى المنزل بصفة متسولة، وعلمت جميع غرفه ومنافذه، حتى إنها طبعت أقفال أبوابه بالشمع كي تصنع مفاتيح لها وتدخل المنزل دون أن يشعر بها أحد، وفوق ذلك فقد علمت أن باكارا لا تعود إلى المنزل قبل انتصاف الليل، وأنه لا يوجد فيه سوى اليهودية والخادمة والخادم الكهل، فسر روكامبول وأمر فانتير أن يذهب إلى صانع الأقفال ليصنع المفاتيح، ثم يذهب إلى مدام فيبار ويأمرها أن تراقب في الغد باكارا كي تعلم متى تخرج منه.
وبعد ذلك ذهب روكامبول لمقابلة ربان السفينة، وقد خطر له حين ذهابه هذا الخاطر، وهو أنه إذا شاركنا الربان في اختطاف الفتاة عرف البيت وقد يتفق أن يرى فيه الكونت وباكارا، وفوق ذلك فإن من العار على من بلغ هذا المبلغ في مهنتنا أن يحتاج إلى ثلاثة أشخاص لاختطاف صغيرة، ثم إننا إذا استغنينا عن مساعدة الربان في اختطاف الفتاة فإننا لا نستغني عنه في إيصال باكارا إلى القبائل المتوحشة، ولما كانت باكارا لا تفارق هذا الكونت الروسي فقد وجب قتل الكونت في الحال.
ولما فرغ من الخطة وصل إلى المكان الذي ينتظره فيه الربان، وأخبره أن اختطاف الصبية أصبح ميسورا لأنها تخرج وحدها من المنزل، ووافقه على مقابلته في الغد، ثم رجع إلى الفندق ولقي فانتير وساومه على الكونت بعشرة آلاف فرنك، يدفع نصفها مقدما والنصف الآخر بعد القتل، ووضعا الخطة اللازمة لليهودية.
58
في الساعة التاسعة من تلك الليلة قدم إلى منزل باكارا روكامبول وفانتير، وهو في صباغه الأسود ومدام فيبار، وكان فانتير قد أحضر مفاتيح المنزل، فأخذها روكامبول وجعل يفتح الأبواب، ودخل الثلاثة دخول اللصوص، تتقدمهم مدام فيبار، لأنها كانت عارفة بخفايا المنزل، ولما بلغوا إلى صحن الدار وقفوا يتشاورون، فقال روكامبول: أين غرفة الخادم؟
فقالت مدام فيبار: إنها في الطابق العلوي. - لا خوف علينا منه. وأين غرفة الخادمة؟ - هي أمامك. - إذن لندخل إليها أولا إذ لا خوف علينا إلا منها.
ثم دخل الثلاثة إلى غرفة هذه المسكينة، فاستيقظت مذعورة وحاولت أن تصيح، وأطبق عليها روكامبول إطباق القضاء وتعاونوا جميعهم على ربط فمها بمنديل وقيدوا رجليها ويديها، ثم ربطوها إلى سريرها كي لا تستطيع أن تزحف إلى الخارج، ودخل الثلاثة إلى غرفة اليهودية فانتبهت أيضا من رقادها وهبت من سريرها واجفة الفؤاد من الذعر، فبادرتها العجوز قبل أن تصيح وأسرعت إلى ربط فمها، ثم تراجع الثلاثة بأمر روكامبول الذى قال: كيف السبيل إلى الذهاب بها، فإننا إذا وضعناها في مركبة فلا نأمن السائق أن ينم بنا، وإذا حملناها فلا نمشي بها خطوات حتى تنتبه إلينا الشرطة.
فقالت العجوز: لا دواء إلا الإرهاب. ثم أخذت خنجر فانتير ودنت من الصبية، ففكت رباط فمها ووضعت الخنجر على عنقها وهي تقول: إننا لا نريد بك شرا، ويجب أن تتبعيني إلى منزلي، وإذا فهت بكلمة واحدة على الطريق فإن هذا العبد يقتلك بهذا الخنجر.
ثم أعطت الخنجر لفانتير، فأخذه ووقف أمام الفتاة، فقالت لها العجوز: البسي ثيابك في الحال.
وجعلت تلبس ثيابها ورجلاها تضطربان من الخوف حتى أتمت لباسها، فتأبط روكامبول ذراعها وخرج بها إلى الطريق، فمشى فانتير وراءهما ومشت العجوز أمامهما وقادتهما في طريق لا ينتابه الناس، سيما في الليالي الممطرة، وما زالوا يسيرون حتى بلغوا منزل العجوز، فسلمها روكامبول الفتاة وعاد مطمئنا آمنا لمقابلة الربان، فألفاه ينتظره في المكان المعين، فأخبره باختطاف الفتاة وودعه على أن يقابله في سفينته يوم تصير فيها باكارا.
ثم ذهب إلى الفندق فلقي فانتير ينتظره فيه، فقال له: كيف حال الفتاة؟ - إنها على أسوأ حال من النكد والخوف، ولكن مدام فيبار باذلة جهدها في ملاطفتها.
فقال روكامبول: إنها ستأنس بها، فقد تعودت هذه مؤانسة الفتاة، وأنت مذ فرغت مهمتك من اختطافها لم يبق عليك غير قتل الكونت. - وأنت بقي عليك دفع الثمن. - هاك نصفه، وسأدفع لك النصف الآخر بعد القتل حسب الاتفاق. فقبض المال وانطلق يكمن للكونت.
أما روكامبول فإنه لما فرغ من جميع هذه المشاغل ذكر الرسالة التي أرسلتها إليه مدام ألفونس تدعوه فيها إلى موافاتها في منزلها خارج باريس، فجعل يتردد في الذهاب إليها، فتتمثل له بجمالها النادر، وذكر أنها تخدع حبيبها من أجله وأنها أظهرت له من اللطف والإيناس في الليلة الراقصة ما يزال مؤثرا فيه، ثم رأى أنه لم يعد لديه عمل يعمله، فحن إلى لقائها وبرح الفندق، فركب مركبة وأمر سائقها أن ينطلق به إليها.
وبعد ساعة كانت تسير به المركبة سيرا حثيثا حتى وصلت إلى المنزل المطلوب، فأطلق روكامبول سراحها وهو غير حاسب لشيء، وطرق الباب الداخلي ففتحت له صبية بملابس الخادمات وأوصلته إلى القاعة التي كانت تقيم فيها مدام ألفونس، ثم تركته ومضت في شأنها دون أن يتمكن روكامبول من النظر إلى وجهها.
فلما دخل إلى القاعة رأى مدام ألفونس متكئة على مقعد طويل، فابتسمت له وشكرته لقدومه إليها في هذه الليلة الممطرة، وجعلت تنادمه وينادمها حينا إلى أن قطعت عليه الحديث وهي تتفرس في وجهه وقالت له: ما هذا الشبه الغريب؟
فاضطرب روكامبول وقال: أي شبه تعنين؟
فلم تجبه ولكنها جعلت تحدق به هنيهة وقالت: لولا لحيتك وشعرك الأسود ... ثم توقفت عن الكلام وعادت إلى التحديق به.
فسئم روكامبول وقال: أي شبه تعنين يا سيدتي؟ - إنك على سمرة وجهك وسواد شعرك تشبه شبها عجيبا رجلا أبيض البشرة أشقر الشعر.
فزاد اضطراب روكامبول وقال: من هو هذا الرجل؟ - رجل أسوجي يدعى الكونت دي كامبول.
فقال دون اكتراث: إني لا أعرفه. - إنه برح باريس منذ ثلاثة أسابيع، وقد ظهر أنه كان من الأشقياء، وأن له حديثا غريبا تعرفه خادمتي، ولكنه كان متصلا شروره وآثامه بكثير من الأسرات النبيلة، فقد كان يزور قصر المركيز فان هوب.
وكانت هذه المرأة تقص عليه هذه الأقوال كأنها تقولها اتفاقا، غير أن روكامبول شغل باله لحديثها وقال في نفسه: ما عساها تريد من هذا الحديث؟ فعادت المرأة إلى حديثها وقالت: وقد أصيب هذا الكونت بضربة خنجر كادت تودي بحياته قبل احتجابه، وقد كانت الطعنة هنا في هذا المكان من الصدر، وأشارت بيدها إلى أثر الجرح في صدره.
فأجفل روكامبول وقال: لماذا تقصين علي سيرة هذا الرجل؟ - لأنه يشبهك. - كيف يشبهني إذا كان أبيض اللون وأنا أسمره، وإذا كان شعره أشقر كما تقولين وشعري حالك السواد؟ - لكن خادمتي تقول غير ذلك وسترى!
ثم قرعت بجرس أمامها ففتح الباب ودخلت منه باكارا المتنكرة بزي الخادمات، فدنت منه وقالت له بلهجة الساخر: على الكونت دي كامبول السلام.
فوجف فؤاد روكامبول لأنه علم أنها باكارا وقال في نفسه: لقد وقعت في الشرك. ولكنه اطمأن حين افتكر أنه مسلح، وأنه لا يرى أمامه إلا امرأتين، غير أن هذا الاطمئنان لم يطل فإنه بينما كان ينظر منذعرا إلى باكارا رأى أن بابا آخر قد فتح، ودخل منه الكونت أرتوف الروسي وهو حامل بيديه غدارتين، فعلم روكامبول أنه لم يعد له نجاة من قبضة باكارا، ولكنه قال في نفسه: إذا قتلت فسينتقم لي فانتير بقتل الكونت، وينتقم لي أندريا بإرسال باكارا إلى القبائل المتوحشة. فكان ذلك أكبر عزاء له في الساعة الهائلة.
وكان روكامبول ثابت العزيمة شديد الجرأة، إذ أصر على إنكار أمره، فلم يحفل بالوعيد ولو رأى الموت نصب عينيه، غير أنه كان وافر الحكمة شديد الدهاء، فقال في نفسه بسرعة التصور: إنه لم يعد لي سبيل إلى إنكار نفسي بعد أن عرفوني، ولا أرى سبيلا للنجاة إلا بالإقرار، فأنا أعترف لهما بكل شيء دون حديث قتل الكونت وإرسال باكارا على سفينة جون إيرد؛ إذ لا يعلمان شيئا من ذلك، إذا قتل الكونت وسافرت باكارا، فلا يخشى شيء من إقراري. وعند ذلك دار بينهم الحديث الآتي، فقالت باكارا: كفاك يا حضرة الكونت تنكرا فقد عرفناك، وأجبنا على ما نسألك عنه إذ لا فائدة من ضياع الوقت. - ليكن ما تريدين، فسلي ما تريدين. - أتذكر أن آخر مرة تشرفنا فيها بلقائك كانت في منزل دابي ناتها الهندية؟ - أذكر ذلك ولا أنساه، فإني كنت عشيق تلك الهندية وقد لقيتها ميتة، وأصبت بطعنة خنجر. - كذبت، فإنك لم تكن عشيق تلك الفتاة ولم تكن عشيقتك. - كيف تعرفين ذلك؟ - أعرفه كما أعرف أنك لست بابن تلك العجوز التي أخرجتك من المستشفى. - ذلك أكيد. - ولست أيضا الكونت دي كامبل، فإن الأشراف لا يغيرون أسماءهم ويشتركون مع اللصوص، ولا ينخرطون في سلك تلك العصابة السرية التي كان يرأسها السير فيليام. - إذا كنت تعرفين ذلك فماذا تريدين أن تعرفي مني؟ - ستعرف ما أريده منك، ولكن عليك أن تعلم قبل كل شيء أنك في قبضة يدنا، وأن هذا المنزل معتزل عن الناس، وأن الليل قد انتصف، فإذا استغثت فلا يجيبك إلا الصدى. - إذن فأنتم تريدون قتلي. - ربما قتلناك إذا امتنعت عن الإقرار. - بماذا ينبغي أن أقر؟ - بحقيقة ما تعلمه عن السير فيليام، فإذا سلمتنا هذا الرجل فقد نعفو عنك؛ إذ إن حبل حياتك معقود بإقرارك. - ماذا تريدين أن أقول عن الفيكونت أندريا الذي تدعونه السير فيليام، فإن طعنه إياي بالخنجر أعظم برهان على أني ليس لي أقل اتصال به.
فالتفت باكارا عند ذلك إلى الكونت أرتوف قائلة: إن هذا الرجل لا يريد أن يقر، فاقتله دون تأخير. - ليكن ما تريدين.
ثم فتح زناد الغدارة وصوبها إلى رأس روكامبول، فهلع قلبه وقال: قف سأقول كل شيء. - إذن أسرع بالقول. - سليني أجيبك. - أكان السير فيليام شريكك؟ - نعم. - أتقر هذا الإقرار أمام أخيه الكونت دي كركاز. - غير أن الكونت قد سافر إلى كارلوفان مع أخيه. - إذن فاكتب إقرارك كما أمليه عليك.
فلم يسع روكامبول إلا الامتثال، وجلس قرب المائدة فأملت عليه ما يأتي:
هذه آخر ساعة من ساعات حياتي، ومن كان في هذا الموقف فلا يستطيع الكذب والبهتان، ثم إن الكونت أرتوف واقف فوق رأسي وغدارته مصوبة إلى قلبي، وهو يطلب أن أعترف بذنوبي وأبوح باسم الرجل الذي يقودني منذ عهد بعيد في طريق الآثام، فأنا أعترف الآن أن هذا الرجل الذي يتلبس بلباس التائبين وحشو قلبه المكر والدهاء، إن هذا الرجل الذي كان رئيسي وكنت يده العاملة حين حاول أن يحمل ليون رولاند على قتل فرناند روشي بواسطة الفيروزة، وحمل المركيزة فان هوب على قتل امرأته، إن هذا الرجل الأثيم الذي دفعني في سبل الجرائم والذنوب هو الفيكونت أندريا شقيق الكونت أرمان دي كركاز.
ثم أمرته أن يوقع على الرسالة، فوقع عليها وأخذتها باكارا وقالت للكونت: إنه إذا اطلع عليها أرمان لا بد أن يفتح عينيه ويعلم حقيقة أمر أخيه. - ربما، ومع ذلك فسأقول أنا كل شيء.
فقالت باكارا: لقد خدعت فإنك لا تستطيع أن تقول شيئا.
واستنكر روكامبول قائلا: لماذا؟ - لأنك ستموت.
فاصفر وجهه وعلم أنه كتب لنفسه الموت، إنما كتبه بهذا الإقرار.
فقالت له باكارا: لقد أسأت إلى نفسك فيما كتبته، إذ لولا كتابتك لما كنا نجد بدا منك لإقرارك أمام الكونت أرمان، أما الآن فإن خطك يكفي، ولا بد لك من الموت.
فقال لها روكامبول بصوت المتهكم: إنك تتعجلين يا سيدتي بقتلي. - ألعل لديك ما تقوله؟ - لدي سر يساوي أكثر من حياتي. - قل وسترى. - إني أعتبر هذا السر عظيما، ولهذا فقد قلت إنه يساوي أكثر من حياتي، وأنا الآن أريد بيعه لكما. - إننا نشتريه بحياتك إذا كان خطيرا كما تقول. - ذلك لا يكفيني، فإن أردتم قتلي فاقتلوني ولكنكم لا تعلمون شيئا. - إذن سنقتلك. - غير أنكم ستندمون الندم الشديد لرفضكم ما طلبته، حين ترون أن الصاعقة قد انقضت على رجل تحبونه وكنتم قادرين على إنقاذه.
وارتعشت باكارا وخشيت أن يكون ذلك الرجل فرناند، وعادت إلى مسالمته وقالت: ما زلت سائرا في سبيل الموت، فقل عن الثمن الذي تريده لإفشاء هذا السر. - مائة ألف فرنك، ومتى علمتم السر فإنكم أرأف من أن تقتلوني. - أهذه كلمتك الأخيرة؟ - نعم! - إذن فأنت تريد أن تموت؟ - إني أفضل ألف موت على أن أبيع سرا دون ثمن. - وإذا لم يكن سرك مساويا لهذا الثمن؟ - إنه يساوي أكثر من المبلغ الذي عينته. - قبلت، فقل الآن إذا كان لك ورثاء لأدفع لهم المال.
واضطرب روكامبول ولم يعد يشكك بموته وقال: إنكم لم تفوا بعهودكم، فإني لم أطلعكم على السر كي أورث الناس من بعدي.
وصوب الكونت الغدارة إلى صدره قائلا: لم يبق لك في هذه الحياة سوى دقيقتين، فاذكر اسم الذي تريد أن يقبض المال.
وبينما كان روكامبول ينظر إليه وقد جمدت عيناه من الرعب، إذ فتح باب ودخل منه رجلان عظيما الجثة هائلا المنظر ووقفا موقف الخدم أمام الكونت ينتظران أمره، ولم يعد يشكك بدنو الأجل.
59
كان هذان الرجلان اللذان دخلا من خدم الكونت قد أحضرهما معه من روما للمحافظة عليه، وهما من أشد خدامه خضوعا له، وقد رآهما روكامبول يحملان كيسا عظيما حين دخولهما، فخطر له أن الكونت يريد أن يقتله حسب النمط الشرقي، فيضعه في الكيس ويلقيه من نافذة المنزل إلى النهر الذي كانت تتكسر أمواجه على جدرانه.
وقال له الكونت وهو ينظر إلى الكيس: قلت لك إنه لم يعد لك سوى دقيقتين في الحياة، فاذكر لي اسم وريثك كي أدفع له المال.
فنظر إليه روكامبول نظرة الخائف القانط دون أن يجيب، وعند ذلك تقدمت باكارا من الكونت وسارت به إلى آخر الغرفة وسألته: لا تقتل هذا الرجل، فقد يحمله الخوف على الإقرار بأسرار أخرى. - إنك أعطيتني في هذا الصباح سلطانا مطلقا، ودعيني أفعل ما أشاء واخرجي الآن مع هذه المرأة التي سيغمى عليها ودعيني أفعل ما يجب. - لا تقتله لأني لا أريد. - اذهبي لأنه ينظر إليك.
فخرجت باكارا مؤملة بشفقة الكونت؛ لأنها لم تطق أن تكون السبب في قتل هذا الشاب.
أما الكونت فإنه رجع إلى الخادمين وأشار لهما إشارة خاصة، فحل أحدهما قيود الكيس ودنا الثاني من روكامبول وقبض عليه بيد من حديد، وعاد الكونت وقال لروكامبول: قل لمن تريد أن أدفع المال.
وقد خطر لروكامبول خاطر غريب يخطر لهؤلاء اللصوص عند الشدة، ونظر إلى الكونت أرتوف وقال له: ألعلك تريد قتلي غرقا؟ - إن نهر المارن بعيد الغور، ولا بد أن تكون قتلت في حياتك الأثيمة بعض الأبرياء مثل هذه القتلة، فاذكر اسم وريثك.
فقال روكامبول: إني لا أتدانى إلى طلب العفو منك، ولا أريد أن يكون وريثي غير الصدفة. - ماذا تريد بالصدفة؟ - إنك ستلقي بي إلى المياه، أليس كذلك؟ - نعم، وستلقى إليها حيا ضمن هذا الكيس، بعد أن تسد عليك منافذه. - ميتة شرقية، ولكن نهر المارن ليس له عمق البوسفور، أريد بذلك أن جثتي قد يعثر بها أحد الصيادين؟ - وبعد ذلك؟ - ومتى عثر الصياد بجثتي فهو لا بد أن يبحث في جيوبي فيرى فيها الحوالة التي أعطيتني إياها على بنك روتشيلد، فيقبضها ويكون وريثي. - إنه فكر حسن وليكن ما تريد، ثم جعل يحادث الخادمين باللغة الروسية، ونسي روكامبول المال وجعل يفتكر بذلك الخاطر الذي خطر له، وأمل فيه النجاة ولم يخش إلا أمرا واحدا، وهو أن يقيدوه قبل وضعه في الكيس.
ولما فرغ الكونت من حديثه مع الخادمين نظر إلى روكامبول قائلا: يعجبني منك ما تظهره من عدم الاكتراث للموت، مما يدل على بسالتك، ومن له مثل هذا الصبر على الخطوب فلا بد من مراعاته بعض المراعاة في مثل هذه المواقف.
فقال له بلهجة الساخر: أشكرك لكرم أخلاقك.
فقال الكونت: جرت العادة بإغراق المجرمين أن يقيدوا أيديهم وأرجلهم، ومنهم من يدعونهم مطلقي الأيدي، إذا طلبوا ذلك وأريد مراعاتهم، فمن أي فريق أنت؟ - من الفريق الثاني. - إذن تدخل الكيس من تلقاء نفسك دون أن يمسكه أحد.
وتمكن روكامبول من إخفاء فرحه وقال: نعم.
وعند ذلك كلم الكونت الخادمين باللغة الروسية، فتركا الكيس في الأرض وابتعدا عنه.
وحاول روكامبول أن يزج نفسه فيه، فسأله الكونت: ألا تؤمن بالله؟ ألا تصلي قبل الموت؟ - نعم، لقد أصبت. ثم ركع وجعل يتمتم هنيهة ونهض، فسلم سلام الأبطال القدماء ودخل في الكيس، وأشار الكونت إلى الخادمين وربطوا الكيس من فوق رأسه رباطا وثيقا، وذهب أحدهما إلى النافذة المطلة على النهر وفتح مصراعيها، وحمل الثاني روكامبول ضمن الكيس وألقاه من النافذة، فشق عباب الماء وكان له دوي شديد.
أما الكونت فإنه أمر الخادم أن يقفل النافذة فأقفلها، ثم أمره أن يفتح الباب ففتحه ودخلت منه باكارا، ولما علمت أنه ألقاه في النهر قالت له بصوت المؤنب: أعصيتني وقتلته؟ - نعم، فإذا كان قد مات فلقد عاش بموته كثيرون.
60
بعد ذلك بساعة خرجت باكارا من منزل مدام ألفونس يصحبها الكونت أرتوف، وكانت نفسها منقبضة لقتل روكامبول، فقد كانت تحب أن يبقي عليه الكونت بعد إقراره، لاعتقادها أنه لم يكن غير آلة بيد أندريا، وما زالت تسير بهما المركبة حتى بلغت إلى منزلها، فاستوقفتها وودعت الكونت أرتوف وحاولت الدخول إليه، فوجدت الباب مفتوحا خلافا للعادة، فأوجست شرا ودخلت إلى الفسحة الخارجية، ورأت أن باب المنزل الداخلي مفتوح أيضا، ونادت الخادمة فلم تجب، فأعادت النداء دون أن تسمع من مجيب، وعند ذلك وقفت تصغي وقد ساد السكون بعد انتصاف الليل، فسمعت أنينا صادرا من غرفة تلك الخادمة، فعلمت أنه قد فاجأها مصاب، ولم تجزع لفتح الأبواب وما سمعته من الأنين، بل إنها دخلت إلى المنزل ببسالة تندر في الرجال حتى بلغت إلى غرفة الخادمة، فسمعت ذلك الأنين ونادتها فلم تجب، وحاولت أن تفتح الباب فوجدته مقفلا، فرفسته برجلها ففتح، وأنارت الغرفة فوجدت تلك المسكينة مقيدة اليدين والرجلين، مكمومة الفم على ما تركها روكامبول، فأسرعت إلى حل رباطها وسألتها منذعرة: ماذا حدث؟ - لقد اختطفوا الفتاة يا سيدتي بعد أن تركوني كما رأيت. - من هم الذين اختطفوها؟ - ثلاثة، وهم امرأة عجوز وشاب وعبد أسود.
فصاحت باكارا صيحة منكرة: إن هذا العبد خادم المركيز وشريك روكامبول، وقد أصبت فإن هذا الشقي مات دون أن يعترف بكل شيء.
إلا أن باكارا كانت منخدعة، فإن روكامبول لم يمت، بل إنه أفلت من كفنه وإليك البيان: إنه بينما كان الكونت أرتوف يلح عليه بذكر اسم وارثه ليدفع له المائة ألف فرنك، وبينما باكارا تلتمس من الكونت أن يبقي عليه، كان روكامبول يقول في نفسه إن لدي خنجرا خبأته تحت صدرتي، وإن الكيس الذي سيضعوني فيه متسع بحيث لا يعيق يدى عن الحركة، ثم إنهم سيلقونني في نهر المارن من موضع مرتفع، ولكن هذا النهر بعيد الغور، فسأصل إلى غوره حيا، وعند ذلك أشق الكيس بخنجري وأصعد منه إلى سطح الماء فأنجو.
فلما دخل إلى الكيس وجعل الخادمان يربطان فم ذلك الكيس، أدخل روكامبول يده من تحت صدرته وقبض على قبضة الخنجر، ثم لبث واقفا دون حراك، حتى إذا ألقوه في الماء أخرج الخنجر قبل أن يبلغ إليها، فوصل إلى منتهى عمق النهر بعشر ثوان ومزق الكيس وهو من المشمع بخنجره، فأخرج منه يديه ورجليه دفعة واحدة، وحين أصبح حرا ضرب الأرض برجليه وذهب صعدا حتى بلغ إلى سطح الماء، فتنفس الهواء وغاص مسرعا حذرا من أن يروه من النافذة، ولكن الظلام كان مشتد الحلك، وقد أقفلت النوافذ حين إلقائه منها.
وكان روكامبول من الماهرين في السباحة لأنه ربي بين الأنهار، فما زال يسبح غائصا تحت الماء، وكلما انقطع نفسه صعد متنفسا حتى بلغ الشاطئ فصعد إليه وهو لا يصدق بالنجاة، وجعل يبتعد عن هذا المنزل وهو يلتفت في كل حين حذرا من أن يتبعه أحد، إلى أن وصل إلى صخر مرتفع، فاختبأ وراءه وجلس يراقب المنزل الذي كان فيه، وأقام ساعة مبتل الثياب وأعضاؤه ترتجف من البرد، حتى رأى أن الأنوار قد انطفأت، ثم لم يمض على ذلك هنيهة حتى سمع مركبة خرجت من ردهة المنزل، فعلم أن من فيه قد رجعوا إلى باريس، وجعل يركض مقاومة لتأثير البرد إلى جهة خمارة كان رآها حين قدومه إلى المنزل، حتى وصل إليها وهو لا يزال بملابسه المركيزية الدالة على السعة والثروة، فاحتفل به صاحب الحانة؛ إذ لم يتعود أن يتشرف بزيارة مثل هؤلاء النبلاء. فأخرج روكامبول دينارا من جيبه ودفعه إليه، فأمر أن يعد له نارا للتدفئة وأن يحضر له شيئا من الشراب، ثم طلب إليه أن يعطيه ما لديه من الثياب، فأعطاه ثوبا من ثيابه، فخلع المبتل بعد أن أخذ منه الحوالة ولبس ثوب الحانة، وقد أخبره أنه سقط في النهر اتفاقا.
ثم تركه وجعل يمشي إلى أن لقي مركبة فركبها وذهب إلى مدام فيبار، فأيقظها ورأى اليهودية قائمة عندها، فأخبرها بجميع ما حدث له، وكان الصباح طلع فأمرها أن تذهب وتتردد حول منزل الكونت أرتوف كي تعلم إذا كان قتله فانتير، وأن تكتم حديثه أمام أعوانه لأنه عزم على ألا يعود إلى فندقه، بل يسافر رأسا إلى لقاء أندريا، فذهبت العجوز بعد أن أقفلت الباب وراءها حذرا من فرار الصبية، ونام روكامبول في سريرها.
وفي الساعة التاسعة أقبلت العجوز فأيقظته وقالت له: أظن أن الكونت قد قتل. - كيف ذلك؟ - ذلك لأني رأيت فانتير والإنكليزي الربان خارجين من الفندق الذي كنت فيه في الساعة الثامنة وعليهما ملامح السرور.
فطرب روكامبول وأجاب فلأذهب للقاء السير فيليام؛ إذ لم يبق لي ما أعمله في باريس.
ونهض فخرج من منزل العجوز، وذهب توا إلى بنك روتشيلد، فقبض المائة ألف فرنك حوالة على بنك لندرا، وذهب إلى حيث ينتظره أندريا.
أما أندريا فكان مقيما مع أخيه في كارلوفان يدهشه بظواهر قداسته، ويظهر له كل يوم آية جديد من آيات توبته، وكان أرمان يذوب تشوقا إلى معرفة سر مبارزة أخيه مع المركيز، وفي كل يوم كان يسأله عن هذا السر، فيماطله إلى أن أخبره أخيرا أن المركيز قد تجرأ على امرأته ودخل ليلا إلى منزلها إلى آخر ما يعرفه القراء من هذا الحديث، فغضب أرمان غضبا شديدا وأقسم أنه لا بد له من قتل هذا الرجل السافل الذي يتجرأ على أطهر امرأة، فطيب أندريا خاطره وغادره وهو فرح القلب كي يقابل روكامبول ويعلمه كيف يقابل امرأة أخيه مرة ثانية.
وكان اتفاقه مع روكامبول أن يقابله في سانت مالو، فلما بلغ إليها وجده ينتظره في المكان المعين، فسر به أندريا وأثنى عليه، فقال له روكامبول: أتعلم من أين أنا آت؟ - ألست قادما من باريس؟ - كلا، بل أتيت من دار الأبدية.
فضحك أندريا وقال: لا أظنك أتيت، إذ لا أجد في وجهك أثرا من آثار الأبالسة. - ربما كان ذلك لأني لقيتك، فأزالت بركات قدسك من وجهي تلك الآثار، ولكني ما أتيت إلا من قعر نهر المارن. - ألعلك غرقت فيه؟ - لا بل أغرقوني.
ثم قص عليه جميع ما جرى له بالتفصيل، فاصفر وجه أندريا إلى أن أخبره بما علمه من العجوز عن قتل الكونت أرتوف، فطاب خاطره ولم يعد يخشى لقاءه مع جون إيرد، فقال له: يجب السرعة الآن، فإذا كان الكونت قد قتل فإن جون إيرد سيقضي على باكارا، فلا يبقى علينا غير قتل أرمان.
ثم جعل يعلمه كيف يصل إلى امرأته حنة، فدله على المنزل وأرشده إلى مدخل الغرفة التي تقيم عادة فيها، وهي غرفة مجاورة لغرفة يشتغل فيها زوجها، بحيث لو نادته بأخفض صوت لسمع نداءها، وقال: إذا احتجت إلى أن تكلمها فكلمها كما كلمتها المرة السابقة، ولكنك لا تحتاج إلى الكلام، فإنها ستصيح حين تراك فيسرع إليك زوجها، وهو رجل شريف ويثق بأنك شريف أيضا، فيبارزك وتطعنه بالسيف تلك الطعنة الإيطالية التي تعلمتها. فاذهب الآن على بركات الأبالسة. - إني لا آمن أن يقبض علي خدام الكونت حين يرون أني قتلت سيدهم ويسلمونني للشرطة. - وماذا عليك منهم، فإنك قتلت خصمك بالمبارزة وهي غير ممنوعة. - وماذا أصنع بعد قتله؟ - إنك تذهب إلى سانت مالو حيث توافيني فيها. - أين؟ - في سفينة الربان الإنكليزي، إذ لا بد لي من وداع باكارا.
ثم أطلعه على رسالة وردت إليه من الهافر من جون إيرد يخبره فيها بالفوز، وأنه سيسافر بباكارا إلى جزائر المركيز.
وافترق الاثنان، فذهب أندريا إلى سانت مالو، وذهب روكامبول إلى قصر كارلوفان.
وكان الظلام قد خيم والخدم في القصر يتأهبون لإعداد العشاء، وحنة جالسة في غرفتها تتلهى بالتطريز وتنتظر قدوم زوجها إليها كي يذهب بها إلى المائدة، وبينما هي على هذه الحال إذ طرق باب غرفتها، فحسبت أن الطارق أرمان وقالت له: ادخل.
ولما فتح الباب ورأت أن الداخل لم يكن زوجها بل كان المركيز، صاحت صيحة ذعر وصرخت تقول: إلي يا أرمان!
فركع روكامبول أمامها وقال لها: لماذا تخافي أيتها الحبيبة وأنا موقف حياتي في سبيل رضاك؟
ولكن لم يكد يتم حديثه حتى انقض عليه رجل انقضاض الصاعقة، وهو يزبد من الغضب إزباد الجمال، وكان هذا الرجل أرمان.
أما روكامبول فقد كان يتوقع هذه المباغتة، فمد يده إلى جيبه وقبض فيها على غدارته للدفاع، ولم يكن في يد أرمان سلاح ولكنه كان قوي العصب والعضل، وقد زاده الغضب قوة وبأسا، فقبض على كتف روكامبول بيد من حديد وأنهضه بعد أن كان راكعا، وكان الغضب قد أضاع صوابه فقبض على عنقه يريد خنقه، فجعل روكامبول يصيح بملء صوته إلي ... إلى القاتل ... إلى السفاك ...
فلما سمع الكونت كلمة السفاك عاد إليه رشده، ورفع يده عن عنقه وتراجع عنه خطوة إلى الوراء وهو ينظر إليه بعينين تتقدان من شرر الغيظ، وقال له: لقد أصبت، فإنك وإن كنت قد دخلت إلى منزلي دخول اللصوص، فإني لا أقتلك دون أن يكون لك سلاح تدافع به عن نفسك.
ثم هجم عليه وصفعه بإحدى يديه على وجهه، وأخذ باليد الأخرى سيفين كانا معلقين على الجدار.
وعند ذلك تراكض الخدم مسرعين إلى الغرفة، فأمر الكونت بعضهم أن يعتني بامرأته التي أغمي عليها، وأمر الآخرين أن يذهبوا بالأنوار إلى الحديقة، وخرج يتبعه روكامبول إلى الحديقة التى جعلاها ساحة لهذا المعترك، وهناك قال للخدم: إنه إذا قتلني هذا الرجل، فلا يقبض أحد عليه.
ثم أخذ الاثنان يتقارعان بسيفهما لا يحضر مبارزتهما غير الخدم.
61
وبينما كان الكونت وروكامبول يتبارزان، كان أندريا يسير آمنا مطمئنا إلى سانت مالو وهو يلتفت من حين إلى حين إلى قصر كارلوفان، فيخفي البعد أنواره حتى احتجبت تلك الأنوار عن عينيه، فقال في نفسه: هو ذا قد انطفأ آخر نور من عائلة كركاز. وابتسم ابتسام الأبالسة وهو يقول: لقد ظفرت بعد صبري الطويل.
ثم نظر إلى جهة البحر فرأى أن سهما ناريا عقبه أسهم جعلت تشق كبد السماء، فانتعش جسمه من الفرح وقال: هو ذا الربان قد ظفر بباكارا وحبسها بالسفينة، وهذه الأسهم هي الإشارة المصطلح عليها بيننا.
وانطلق مسرعا إلى الميناء وعزم على أن يذهب إلى السفينة في أول قارب يصادفه، ولما مشى قليلا سمع صوت رجل يناديه، ونظر إليه منذهلا فإذا هو جون إيرد ربان السفينة، فحياه الربان باحترام وقال له: قد أتيت لأذهب بك إلى السفينة فإنهم ينتظرون فيها.
ففرح أندريا وقال: أوقع الطير في الشرك؟ - نعم، بحسن تدبيرك. - كيف رأيت جمال باكارا؟ - إنها تستحق أن تكون ملكة لتلك القبائل المتوحشة الذاهبة إليها. - بل إني أؤثر أن يمزقوها حية ويولموا عليها الولائم. - ربما كان هذا نصيبها، أفلا تزورها وتودعها بكلمة؟ - إني ما أتيت إلا لهذا. امض بنا.
ثم ركب الاثنان قارب السفينة وجرى بهما حتى بلغ إلى السفينة، فصعد إليها فقاده الربان إلى قاعة فيها وقال له: فسأرسل إليك باكارا.
ولم يمض هنيهة حتى دخلت باكارا وقالت له: أهذا أنت يا سيدي الفيكونت؟
فضحك أندريا ضحكا عاليا وقال لها: لست بسيدك الفيكونت، بل أنا السير فيليام الذي عرفته من قبل.
فنظرت إليه باكارا باحتقار وقالت له: إني أعرف أن تلك التوبة لم تكن غير كاذبة، وأن نار انتقامك كانت كامنة تحت رماد الغش والتدليس، ثم إني أعلم أن هذا الرجل بل هذا الوحش الضاري الذي أحبطت جميع مساعيه الشريرة وأمانيه الأثيمة يكرهني إلى أن يتمنى لي الموت. - لقد أصبت أيها العزيزة، فإن جميع الذي لفظت به حق لا ريب فيه . - وإني أعلم أيضا أنه اختطف تلك الفتاة التي كنت أربيها في منزلي، وكان يحبها حب الفجار الفاسقين. - إنها جميلة هذه الفتاة، وإن مدام فيبار ستربيها في باريس بدلا منك.
فقال له ربان السفينة الذي كان يسمع الحديث: لقد أخطأت يا حضرة السير فيليام؛ لأن الفتاة ليست في باريس بل هي في سفينتي.
ونظرت باكارا إلى أندريا فرأته يصفر ويضطرب، فقالت له بلهجة الهازئ: لقد صدق المثل القائل إن لكل صارم نبوة، فلقد كنت رجلا لا يحتفل بالنظام الإنساني ولا يكترث للشرائع المقدسة، ولا قيمة لديه لحياة الناس، بل كنت تمشي إلى غايتك لا تلوي عنها مشي الظل الزاحف، فما كنت تجد في سبيلك حجر عثرة تصدك عن قصدك، غير أن الله نظر إلى شرك وأراد أن يوقفك عند حد في آثامك، فوضع نصب عينيك هذه الفتاة التي كان يضطرب لها فؤادك على خلوه من عواطف الإنسان.
فضحك أندريا أيضا وقال للربان: إذا كانت الفتاة هنا، فلماذا لا تحضرها لي لنسمع حديثها بدلا من حديث هذه المرأة؟
فأجاب: ها أنا ذاهب لإحضارها.
ولما خلا أندريا بباكارا قال لها: لقد خسرت بمسألة فرناند خمسة ملايين، ولو لم أتمكن من الفرار لكنت قتلتك. - كان ينبغي أن تقتل. - ربما، ولكني لم أجد بدا من مكافأتك، فلقد أعددت لك جزاء غريبا، أتعلمين ما هو؟
وردت باكارا دون اكتراث: كلا، فما هو؟ - إنك الآن في سفينة تدعى فولر، ربانها من رجالي وستسير هذه السفينة اليوم إلى اوسيانيكا، أما جزاؤك فهو أني أمرت هذا الربان أن يلقي بك في إحدى جزر القبائل المتوحشة، حيث يصنعون كل يوم وليمة على قطعة من جسدك الترف الناعم.
ثم قهقه ضاحكا وهو يحسب أن باكارا ستصيح الرعب وتسقط متوسلة على قدميه، غير أنها كانت تسمع حديثه متبسمة، ولما فرغ منه قالت له: لقد أخطأت يا حضرة المنتقم، فلست أنا التي سأذهب إلى هذه القبائل المتوحشة بل أنت.
وحين انتهت إلى هذه الكلمة أزيح الستار عن باب الغرفة، وولج منه رجل وقال له: لقد كنت تحسبني ميتا فيما أظن.
ورجع أندريا منذعرا إلى الوراء، لأن هذا الرجل كان الكونت أرتوف.
62
ولنظهر الآن السبب في قدوم الكونت أرتوف، فنقول إنه حين ألقى روكامبول في البحر عاد مع باكارا ومدام ألفونس إلى باريس، فأوصل باكارا إلى منزلها وذهب بمدام ألفونس إلى منزله كي يدفع لها المائة ألف فرنك حسب الاتفاق.
وقد تقدم لنا القول إن فانتير كان قبض من روكامبول نصف أجرته عن قتل الكونت أرتوف، وتعهد أن يقتله في تلك الليلة، فتربص له على باب النادي الذي كان يسهر فيه إلى الساعة الحادية عشرة، فلم يخرج، ثم رأى سائق مركبته يعود بها في طريق منزله دون أن يكون فيها الكونت، فحسب أنه يريد أن يسهر في منزل باكارا، وللحال ركض حتى أدرك المركبة، فتعلق بها ثم دخل تحتها مستندا على قاعدة الدواليب، ولما بلغت المنزل فتح البواب الباب الخارجي ودخلت إلى الردهة ودخل فانتير فيها، فأقام مختبئا بين دواليبها ساعة حذرا أن يعود السائق لغرض من الأغراض، وبعد ذلك طلع من مخبئه، وكان يعرف منزل الكونت لصداقته مع الخدم، فانسل دون أن يشعر به أحد من الخدم لأنهم كانوا نياما، وفتح الباب بمفتاح خاص ثم ولج إلى غرفة مجاورة للغرفة التي ينام فيها الكونت وتربص مختبئا فيها.
ولبث في مكانه حتى عاد الكونت مع مدام ألفونس ودخل إلى غرفته، وسمع فانتير صوتها ونظر من ثقب الباب فرأى مدام ألفونس، وعلم أنها المرأة التي ذهب إليها روكامبول، فعجب لهذا الاتفاق وأنصت لحديثهما كي لا تفوته كلمة منه، فرأى أن هذه المرأة جلست على مقعد جلوس المضطرب وقالت: أمر فظيع وهائل.
فقال لها الكونت: لا أنكر ما تقولين، ولكنه كان واجبا لا بد منه، فقد رأيت بعينيك وسمعت بأذنيك، فعلمت ما أعلمه من آثام هذا الرجل. - وأنا لا أنكر أيضا أنه أثيم، ولكن أكان يجب قتله لهذه الآثام؟
فاضطرب فانتير في مكمنه وقال: عن أي رجل يتكلمان؟ ألعله روكامبول؟
ثم سمع الكونت يقول معترضا: كيف لا يجب قتله، ولو أبقينا هذا المركيز الكاذب أما كان قتل الكونت أرمان؟
فجعل العرق البارد ينصب من جبينه وقد أيقن أن روكامبول مات، وأنه لم يعد له رجاء بقبض المال منه.
أما مدام ألفونس فإنها أعيت عن الجواب، ولكنها لبثت مستنكرة للقتل فقال لها الكونت: إنك ستكتمين هذا السر في كل حال. - لا بد لي من كتمانه لأني شريكة لكما بقتل هذا المسكين. - بقي أن أدفع لك المائة ألف فرنك التي وعدتك بها.
ثم ذهب إلى خزانته ففتحها وأخرج منها أوراقا بهذه القيمة وهو يقول: ليس لدي اليوم غير هذه القيمة فخذيها. - كلا، فإن هذا المال ثمن دم ذلك المسكين وهو ورثني الشقاء.
وألح عليها فأبت فقال لها: إذن خذيها وضعيها في صندوق الصدقات المعلق على باب كنيسة نوتردام، وهذه مركبتي إنها توصلك إلى الكنيسة، ثم تذهب بك إلى منزلك. - أحسنت، فإن التبرع بهذا المال على الفقراء سيكون كفارة عن ذنوبي.
وأخذت المال وودعته وانصرفت.
وبينما كان الكونت ينزع ثيابه لينام كان فانتير يقول في نفسه: إن روكامبول مات بعد أن أباح بأسرار السير فيليام، ولا بد أن يكون الكونت وباكارا قد اتخذا الوسائل اللازمة لإنقاذ أرمان دي كركاز من مخالب أخيه، فإذا قتلت هذا الكونت فلا أستفيد من قتله شيئا، لا سيما وأنه لم يبق في خزانته شيء من المال، وخير لي أن اتفق مع هذا الكونت، فقد يعرض علي ما خسرته بموت روكامبول.
وعند ذلك فتح باب الغرفة المختبيء فيها، ودخل وبيده الغدارة على الكونت، وكانت الكونت قد خلع ثيابه وصعد إلى سريره وأخذ يقرأ في كتاب، فلما رأى هذا الأسود داخلا إليه وبيده غدارة يصوبها إليه ذعر لمنظره، غير أنه تجلد ولم يظهر شيئا من دلائل الخوف، بل قال له بسكينة: من أنت وماذا تريد؟
فوضع فانتير الغدارة على المستوقد، ودنا من سرير الكونت، ووقف بإزائه وقال: إنك يا سيدي الكونت رجل شريف لا تخل بوعد، ولو صدر هذا الوعد منك إلى لص. - ذلك لا ريب فيه، ولكن من أنت وماذا تريد؟ - أنا لص وقد أوشكت أن أكون قاتلا، أما ما أريده فلا أنطق به إلا إذا تعهدت لي أن تسمعني دون أن تنادي خدمك فيطردوني. - قل، وأنا أتعهد لك بسماع جميع حديثك. - إني دخلت منزلك يا سيدي الكونت دخول اللصوص، ولكني لم أكن أبغي سرقة مالك بل ما هو أعز من المال. - ألعلك كنت تريد قتلي؟ - نعم، وقد كنت مدفوعا إلى قتلك بأجرة معينة قدرها عشرة آلاف فرنك قبضت نصفها مقدما.
وابتسم الكونت وقال: أحب أن أعرف اسم هذا الرجل الذي يقدر حياتي بهذه القيمة. - إنها قيمة زهيدة يا سيدي الكونت، ولكنك من الأغنياء.
وابتسم الكونت أيضا وقال: لقد علمت الآن السبب في عفوك عني، فلقد قلت في نفسك أن الكونت غني وقد يمنحني ضعف هذه القيمة، فإذا كان ذلك فإني أمنحك عشرين ألف فرنك فاذهب بسلام. - أشكرك يا سيدي جزيل الشكر، إلا أني لم أتشرف بالمثول أمامك لهذا السبب وحده. - لأي سبب؟ - إنك يا سيدي تراني أسود اللون، غير أني إذا إغتسلت بالماء السخن ودهنت جسمي ببعض المواد صار أكثر بياضا من جسمك. - ماذا أسمع؟ ألست إذن عبدا أسود؟ - كلا يا سيدي، ولكن دخولي في خدمة المركيز دون إينجو اضطرني إلى أن أصبغ جسمي بلون أسود. - أنت كنت في خدمة هذا الرجل؟ - نعم. - وهو الذي دفع لك خمسة آلاف لتقتلني؟ - نعم. - لقد أحسنت إذن برجوعك عن قتلي، لأنك لو قتلتني لخسرت الخمسة آلاف الأخري. - لقد عرفت يا سيدي، لأني سمعت ما كنت تحدث به تلك السيدة. - إذن أخبرني الآن بماذا تريد؟ - إنك وعدتني أولا بأن تمنحني عشرين ألف فرنك، ثم تسمع جميع حديثي. - سأفي بالشرطين. - إذن، اعلم أن لهذا المركيز الذي قتلته اسما ثانيا. - عرفت ذلك. - إنما بقي أمر ثان لم تعلمه، وهو أنه لدي سر هائل يختص بشخص تحبه، فإذا وقفت عليك فإنك تساومني بمشتراه.
فاضطرب الكونت وقال: من هو هذا الذي أحبه؟ - أعيد عليك يا سيدي ما وعدتني به من إطلاق سراحي بعد الوقوف على أسراري، ثم أذكرك أني رضيت بعشرين ألف فرنك مقابل رجوعي عن قتلك، إلا أن السر الذي سأطلعك عليه يساوي أكثر من هذا الثمن، وسأذكر لك اسم الشخص كي تعلم خطورة هذا السر، إنه باكارا.
وانذعر الكونت وقال: باكارا ... ألعلها مهددة بخطر؟ - وبخطر عظيم. - وهل تستطيع الإباحة به؟ - دون شك. - إذن اذكر المبلغ الذي تريده وقل لي. - لا تظن يا سيدي إني أطمع بك، ولكن الخطر الذي يتهدد باكارا أشد من الموت، ومثل هذا السر لا يباح بأقل من مائة ألف فرنك، فهبني هذا المبلغ وأنا أعاهدك على أن أسلمك أيضا هذا الرجل الذي تطارده دون أن تتمكن من القبض عليه، والذي لم يكن روكامبول أو المركيز سوى آلة في يده. - ألعلك تعني السير فيليام؟ - نعم.
فأشار الكونت إلى منضدة وقال له: أدنها مني كي أكتب لك حوالة على بنك إذ ليس لدي شيء من المال.
فامتثل فانتير وبينما هو يدني من المنضدة، إذ فتح الباب بغتة ودخلت منه باكارا وهي منذعرة شاحبة اللون، فقالت قبل أن ترى فانتير: إنهم دخلوا إلى منزلي في الليل واختطفوا الفتاة.
ثم رأت فانتير فصاحت صيحة منكرة لأن الخادمة روت لها أن بين الذين اقتحموا المنزل كان يوجد رجل أسود.
أما الكونت فإنه وثب من سريره ولبس عباءة وأسرع إلى باكارا، ووضع يدها بين يديه وقال لها: لا تخافي إن هذا الرجل ...
وقاطعه فانتير قائلا: إن هذا الرجل هو أحد الذين اختطفوا الفتاة. ثم قال لباكارا: لا تخشي يا سيدتي، إن الفتاة ترد إليك سالمة في الغد.
وعند ذلك قدم المنضدة حتى وضعها قرب الكونت، فقال له: اعلم يا سيدي السفاك أنك لو عاهدت رجلا من عوام الناس لحنث بعهده معك، إن هذه السيدة الآن بقربي ولا خوف عليها، ولكني من النبلاء ولا يحنث النبيل بما يعد.
فابتسم فانتير وقال: إن وجود السيدة باكارا بقربك لا يبعد عنها الخطر الهائل الذي ينذرها، إذا لم أتكلم وأذكر اسم ذلك المنتقم.
فقالت باكارا: من هو هذا الرجل وما شأنه؟
فروى لها الكونت بجميع ما كان بينه وبين فانتير، فقال: إني أعيد عليك ما قلت، وهو أني إذا ذكرت لك اسم رجل لا يعلم بوجوده في باريس سواي، تتلاشى عن السيدة كل المخاطر، وتقبض على السير فيليام كما تشاء.
فأجابه الكونت بأن وضع ورقة وكتب عليها حوالة على بنك روتشيلد بمائة ألف فرنك ودفعها إليه، فوضعها فانتير في جيبه والتفت إلى باكارا قائلا: لا أعلم يا سيدتي ماذا فعلت مع السير فيليام فاستحققت منه هذا الكره الوحشي، واعلمي الآن أنه لو لم يحسن إلي الكونت أرتوف ويعطيني من النقود ما يكفيني لأن أعيش عيشة صالحة إلى نهاية أيامي، لتمكن السير فيليام من أن ينفذ بك انتقامه الهائل، فإن لديه الآن رجلا يحكم على عصابة لصوص تعهد للسير فيليام أن يحملك على سفينة إلى جزائر المركيز، ويلقيك فيها بين مخالب قبائلها المتوحشة.
وإن هذا اللص السفاك مدين لرجلين يخلص لهما إخلاصا شديدا، وأحد هذين الرجلين السير فيليام، وهو يقتل نفسه من أجل السير فيليام، ولكنه يقتل السير فيليام من أجل ذلك الرجل الثاني.
فسأله الكونت منذهلا: من هو هذا الرجل؟ - هو أنت يا سيدي.
فزاد عجبه وسأله: من هو هذا اللص؟ وما اسمه؟ - إنه رجل أنقذت حبيبته من النار.
فتذكر تلك الحادثة وسأله: أهو ربان إنكليزي؟ - نعم، وهو يدعى جون إيرد، فإذا أمرتني يا سيدي أحضرته إليك من فندقه حالا.
فنادى الكونت أحد الخدم قائلا: خذ بإحدى مركباتي هذا الرجل إلى حيث يريد وارجع به إلي.
فذهب فانتير إلى الفندق الذي يقيم فيه الربان وأيقظه من رقاده قائلا: هل أنت مستعد لاختطاف السيدة؟ - نعم، إني لا أعصي أمرا للسير فيليام. - ولكنك إذا عرفت من هي هذه السيدة، فإنك ترجع عن طاعته. - من هي؟ - هي حبيبة الكونت أرتوف.
فذعر الربان مما سمع وأجاب: إذن لا بد لي من قتل السير فيليام لأنه اقترح علي مثل هذه الخيانة. - إن الكونت يتوقع منك أحسن من ذلك، فهو يريد أن تذهب بالسير فيليام إلى هذه القبائل المتوحشة بدلا من باكارا.
فأجاب الربان ببرودة الإنكليز: ليكن ما يريد الكونت. - إذن لنذهب إليه.
وذهب الاثنان إلى الفندق الذي يقيم فيه روكامبول، وذلك لأنه خطر لفانتير أن يسرق جميع ما يجده لدى روكامبول بعد أن علم بقتله، ولما خرجا من هذا الفندق شاهدتهما مدام فيبار وعلى وجهيهما علائم السرور، فأيقنت أن فانتير قتل الكونت أرتوف، وأخبرت روكامبول بما تقدم، وبعد هنيهة وصلا إلى الكونت أرتوف فأمرهما أن يختطفا الفتاة اليهودية من منزل العجوز، ففعلا وعادا بها إلى باكارا، وفي اليوم التالي ذهبوا جميعهم إلى باخرة الربان ما عدا فانتير، فإنه أخذ الأموال التي منحه إياها الكونت وسافر بها إلى لندرا.
63
لقد تركنا أرمان وروكامبول يتلاحمان على ضوء المشاعل التي كان ينيرها الخدم، وكان روكامبول معتمدا في مبارزته على الضربة الإيطالية التي تعلمها وهو واثق من التغلب على الكونت، فكان يقاتله بسكينة وبرود خلافا للكونت، فإنه كان هائجا أشد الهياج، فلما ضاق ذرع روكامبول ورأى أن خصمه خبير بفنون القتال، وأنه يوشك أن يتغلب عليه، عمد إلى الضربة الإيطالية إلا أنه ما لبث أن بدأ بمقدماتها حتى علم الكونت قصده وصاح به: خسئت أيها الغادر، فإني تعلمت هذه الطعنة قبلك. ثم انقض عليه انقضاض الصاعقة وضربه ضربة شديدة وقعت في أعلى صدره، فصاح روكامبول صيحة ألم وسقط على الأرض.
وعند ذلك رمى أرمان سيفه إلى الأرض وسكن ثائر غضبه، فأسرع إلى خصمه فضمد له جرحه وأمر الخدم أن يحملوه إلى غرفة في فناء القصر، ثم أمر أحدهم أن يسرع بإحضار الطبيب وكأنه قد نسي جميع ما كان من خصمه، فجلس بإزاء سريره يعتني به ويعامله معاملة الصديق الرءوف.
ولما حضر الطبيب كان روكامبول مغميا عليه لفرط ما نزف من دمائه، فاستفاق من إغمائه وسمع الكونت يسأل الطبيب: ألعل الجرح خطير؟ - إنه شديد الخطورة يا سيدي، قد يفضي إلى الموت.
ورأى الكونت أن روكامبول قد فتح عينيه، فأشار للطبيب بالصمت.
ودنا الطبيب وجس نبض روكامبول ثم أشار لأرمان أن يتبعه، فتبعه إلى نهاية الغرفة وجعل يحادثة بشأن الجريح.
أما روكامبول فإنه اضطرب اضطرابا شديدا من الموت، وذكر أن أندريا كان السبب في جميع ما أصابه من الشدائد، وما يلقاه الآن من خطر الموت، فحقد عليه وقال في نفسه: لا بد لي من الانتقام من هذا الرجل الذي لم يقتلني غير مبالغتي بالاعتماد عليه، فكان يتنازعه عاملان وهما الخوف من الموت وكره أندريا الذي جرعه هذا الكأس.
وفيما هو على هذه الحالة من الاضطراب، دنا الكونت من سريره وقد فرغ من محادثة الطبيب وقال له: كيف أنت الآن؟
فأجابه روكامبول: أود يا سيدي الكونت أن أخلو بك ساعة فأبوح لك بسر خطير لا أحب أن ينزل معي إلى القبر.
فأشار أرمان إلى الطبيب فانصرف وقال لروكامبول: قل فإني مصغ إليك. - إني سمعت الطبيب يا سيدي يقول أن ساعاتي باتت معدودة، فأردت أن تعرف من أنا وكيف اتصلت بك قبل أن أموت، فاعلم يا سيدي أني لست المركيز دون إينجو، وما أنا من أهل البرازيل.
فسأله أرمان منذهلا: إذن من أنت؟ - إني الآلة المنفذة لأغراض رجل يدعونه الآن السير أرثير.
فاضطرب أرمان لأنه ذكر أنه سمع هذا الاسم، وتابع روكامبول: وأنا يا سيدي الذي تبارزت مع فرناند روشي، وكان اسمي في ذلك الحين الكونت دي كامبول، وحملت فرناند مع السير أرثير إلى منزل الفيروزة، ثم قص عليه جميع ما جرى في منزل الفيروزة إلى أن أخبره كيف أن باكارا أحبطت جميع مساعي السير أرثير واضطرته إلى الفرار.
فاضطرب أرمان وقال له: من هو أرثير هذا؟ وكيف لم يعلم بآثامه أخي؟
فابتسم روكامبول وقال له: أصغ لي يا سيدي، فإن السير أرثير هذا كان له كثير من المشروعات الأثيمة، وقد أشركني في جميع آثامه، فكان الرأس المرشد وكنت اليد العاملة، وقد خطر له يوما أن يدع المركيز فان هوب يقتل امرأته كي يزوجه بابنة عمه الهندية. - كيف ذلك؟ أهي تلك المرأة التي وجدت ميتة في قصرها أمام عشيقها الذي قتلته؟ - لقد خدعتم يا سيدي، فإن هذا العشيق الكاذب لم يكن إلا أنا، ولم يكن الذي طعنني بالخنجر غير السير أرثير. ثم ذكر له تفاصيل جميع هذه الحكاية، وهو يذكر له أندريا باسم السير أرثير، إلى أن تولد الشك في نفس أرمان فقال له وقد فرغ صبره: من هو أرثير هذا؟ ومن أين أتى؟ - سأشرح لك عنه ما تريد، فأمهلني إلى أن أتم حديثي، واعلم أن هذا السير عندما حبطت جميع أمانيه بقي له رجاء واحد، وهو أن يتزوج السيدة حنة دي كركاز متى أصبحت أرملة، ولهذا قد علمني هذه الطعنة الإيطالية وأمرني أن أقتلك.
وصاح أرمان صيحة رعب مما سمع، وعاد روكامبول إلى حديثه فقال: واعلم يا سيدي أني ما تجاسرت على حب السيدة دي كركاز ولا رفعت إليها نظري مرة لحسابي الخاص.
فقال أرمان بصوت يضطرب: إذن ما هذه المبارزة مع أخي أندريا؟ - أمعن بي النظر يا سيدي لعلك تعرفني، وسأعينك على معرفتي، ألا تذكر تلك الليلة في بوجيفال حين وضعت خنجرك على عنقي وطلبت إلي أن أرشدك إلى حيث تقيم حنة وسريز؟
فذكر أرمان للحال تلك الليلة الهائلة وقال: لقد عرفتك فأنت روكامبول. - نعم يا سيدي، وأنا أيضا ذلك الرجل الذي كان بين خدمك، والذي كان يركب وراءك في المركبة حين لقيت أخاك أندريا منطرحا على الطريق كأنه على وشك الموت، أما السير أرثير فقد كان يدعى من قبل السير فيليام، وأنت تعلم أن السير فيليام هو الفيكونت أندريا.
وصاح أرمان صيحة منكرة وكاد يسقط من فرط تأثره.
فقال روكامبول: وهو يا سيدي الذي يعلمني الطعنة الإيطالية منذ ثلاثة أشهر، وهو الذي دلني منذ ساعتين على الطريق التي أصل بها إلى غرفة امرأة أخيه.
فذكر أرمان جميع ما قالته له باكارا عن أندريا وقال: تبا له من خائن. - إن ما قلته لك يا سيدي صحيح لا ريب فيه، على أنك إذا كنت مرتابا في صحة ما قلته فإن لدي برهانا دامغا، ولكني لا أقوله لك مجانا بل أبيعك إياه بيعا، ولا تحسب يا سيدي أن الندامة دعتني إلى الإباحة بأسرار أندريا، بل هو الانتقام؛ لأني ما أحببت أن أموت وحدي.
فقال أرمان: إذن قل برهانك. - إن باكارا مهددة الآن بخطر هو شر من الموت، فإذا بحت بهذا السر سلمت من الخطر، وإلا فإنها تقع في شرك السير فيليام. - أسرع وقل ما تريد ثمن هذا السر. - أن تعدني أولا أنه إذا أخطأ الطبيب ولم أمت فلا تسلمني إلى الشرطة. - أقسم لك بشرفي على أن تخرج من منزلي حرا. - ثانيا أن تعطيني يوم أخرج من منزلك مائة ألف فرنك وجواز سفر إلى إنكلترا. - سأعطيك ما طلبت فقل.
فأخبره عند ذلك بجميع ما كاده أندريا لباكارا، وأنهما لا بد أن يكونا الآن في سفينة الربان الإنكليزي.
فهلع فؤاد أرمان من الخوف على باكارا، ونادى أحد الخدم وطلب إليه أن يسرج له جوادا في الحال، وبعد عشر دقائق ركب جواده وسار ينهب به الأرض إلى الميناء. فقال روكامبول في نفسه: مت أيها الشقي وعزائي أني لا أموت وحدي.
64
لنعد الآن إلى السفينة، فلقد غادرنا أندريا منقلب السحنة منذعر الفؤاد حين طلع عليه الكونت أرتوف، وهو يحسب أن فانتير قد قتله كما أخبره روكامبول، فلما رآه ضاع صوابه وجعل يقلب طرفه بين الكونت وباكارا وينظر إليهما نظرات اليأس؛ لما كان يعلمه أن اجتماع هذا الكونت بالربان يقضي عليه، فعلم للحال أنه وقع في الشرك الذي نصبه، وساد سكوت هائل بين الثلاثة، فلم يتكلموا إلا بالنظر.
ولقد كان يجول في ذهن أندريا إلقاء نفسه إلى البحر والفرار، أو الهجوم بخنجر على باكارا أو الانتقام منها بالقتل، إلا أنه لم يستطع تنفيذ شيء من ذلك؛ لأن قوته قد تلاشت وفقد رشده شأن كبار المجرمين حين يباغتون بخطر لا يتوقعونه، فبدأت باكارا الحديث فقالت بصوت هادئ ثابت خرج من فمها كالقضاء المبرم: لقد دنت ساعة العقاب يا حضرة الفيكونت أندريا، ويا جناب السير فيليام.
فرفع أندريا رأسه وحاول أن يجيب، فانقض عليه الكونت أرتوف انقضاض الصاعقة، فقبض على عنقه بيد من حديد ووضع خنجره على صدره ينذره بالموت، فجعل أندريا يصيح بصوت مختنق: إلي ... يا جون ... إلي أيها البحارة، ثم حاول أن يجرد خنجره، فلم يخرج نصف نصاله حتى ألقاه الكونت على الأرض ووضع ركبته فوق صدره، ولم يعد يستطيع حراكا.
وعند ذلك أتمت باكارا حديثها فقالت: لقد قلت لك ياحضرة الفيكونت إن حبك الفاسد لهذه الفتاة اليهودية كان السبب في سقوطك، فلقد أشركت في اختطافها جون إيرد وروكامبول، وعهد هذا الأخير شريكك بالآثام إلى فانتير أن يقتل الكونت، ولكن فانتير خانكم جميعا وكان ذلك بقضاء من الله كي تنقطع شرورك من الأرض.
فأن أندريا أنين الموجع السقيم، وجعل الزبد يخرج من شدقيه، فقالت باكارا: كان جون إيرد شقيا لصا مثلك، ولكنه كان له بين جنبيه قلب يعرف الامتنان، وقد أحسن إليه الكونت فأخلص له وانقلب من خدمة اللصوص إلى خدمة الأشراف، أعلمت الآن كيف وقعت في الشرك؟
وقال له الكونت: إنك تستغيث فلا يغيثك أحد، وتطلب الإشفاق عليك فلا تجد مشفقا؛ لأنك لم تشفق على أحد، فاستسلم للموت فسينفذ فيك قضاء الله. وعلم أندريا أنه مقضي عليه، فجعل يستعطف ويقول: رحماكم.
فقالت له باكارا وهي تبتسم ابتسام المتهكم: ألعلك كنت رحمتني لو وقعت في قبضتك؟
فهاج الحقد بصدر أندريا حتى أنساه موقفه الحاضر وقال: كلا. - أما أنا فلو كنت أسأت إلي وحدي لكنت صفحت عنك، غير أن الذين أسأت إليهم كثيرون.
فلمعت عيناه ببارق من الأمل وعاد إلى التوسل والاستعطاف.
غير أن أمله لم يطل فإن باكارا قالت: لست أنا التي أحكم عليك الآن، بل الكونت أرتوف، بل جميع أولئك الذين أسأت إليهم، فانظر.
وحين قالت هذا القول أزيح الستار عن باب الغرفة، فارتعش أندريا حيث إنه رأى على مقعد طويل المركيز فان هوب، وعلى يمينه الكونت مايلي، وعلى يساره فرناند روشي، ووراءهما ليون ورولاند والفيروزة التي جنت وهي تضحك وتبكي في حين واحد، وبالقرب منها الفتاة اليهودية.
فلما رأى أندريا هذا المنظر الهائل صاح يقول: رحماكم!
نظرت باكارا إليه وقالت: هم أولاء الذين أسأت إليهم قد أصبحوا قضاتك الآن. ثم نظرت إليهم جميعهم وقالت لهم: من أراد منكم أن يعفو عن هذا الأثيم فليرفع يده؟ فلم يرفع يده بينهم غير الفتاة اليهودية. فقالت باكارا: انظر إلى هذه الفتاة التى أردت أن تدنسها، فإنها وحدها التي صفحت عنك، ولذلك فإنك لا تموت، ولكنك إذا سلمت من الموت فلا تسلم من العذاب.
وعند ذلك تولى الكلام عنها الكونت أرتوف فقال: نحن الآن في البحر، وصاحب هذه السفينة حاكم فيها تطيعه النوتية كما تطيع الجنود قوادها، وأنت أيها الخائن قد اخترعت لنفسك العقاب، فستفذف بك هذه السفينة إلى أحد شواطئ جزيرة المركيز، فتلقى من توحش قبائلها جزاء ما جنته يداك، غير أنه لما كنت قادرا على الشر بحيث يخشى لفرط دهائك أن تفلت من السفينة وتعود إلى أوروبا، ثم لما كان الأفعى ينزعون أسنانها حين يخشون نفث سمها القاتل، فقد رأيت أن أنزع منك تلك القوة كي لا يكون لك بعد ذلك سبيل إلى الشر. ثم تكلم كلاما باللغة الروسية، فدخل الروسيان اللذان عرفهما القراء في حادثة روكامبول حين ألقياه في النهر، وكان أحدهما يحمل غدارة محشوة والآخر يحمل موسى، فأمرهما الكونت فقبضا على أندريا، ثم تراجع فجلس على المقعد الذي كان يجلس عليه فرناند ورفاقه، فقال الكونت: إنك كنت تغري النساء بجمالك، وتغري رجالك بفصاحة لسانك، فسيشوه هذا الوجه ويقطع هذا اللسان كي تصبح عبرة لبني البشر.
وفيما هو يقول ذلك إذ دخل جون إيرد وقال: أسرعوا فلقد أقبلوا!
فقال الكونت: من هم؟ - لا أعلم، إني رأيت أربعة رجال يسرعون إلى سفينتي بقارب.
قالت باكارا: لعله أرمان.
فهاج الحقد بصدر أندريا وقال: إن أرمان قد قتل.
فذعر الجميع لهذا النبأ، ما خلا الكونت وباكارا، فإنهما كان يحسبان أن روكامبول قد مات.
قال لهم أندريا: إنكما تحسبان روكامبول ميتا، وقد نجا من الكيس الذي ألقيتماه في نهر المارن، وقتل الكونت منذ ساعة وفر.
فذعرت باكارا وقالت: إذا كان ما تقوله صحيحا فاستعد لأفظع موت. ثم خرجت مسرعة إلى ظهر السفينة، فأخذت منظار الربان ونظرت به إلى القارب، فرأت أرمان فيه على نور المشاعل: فرجعت مسرورة الفؤاد وقالت: كذبت أيها الخائن، فهو ذا أرمان قد أتى ولكنه أتى بعد فوات الأوان، فلا تؤمل أن يشفع بك.
وعند ذلك أصدر الكونت إشارة إلى خادميه الروسيين، فسقط الستار بين الحاضرين وبين أندريا؛ إذ لا يجب على القضاة أن يحضروا تنفيذ العقاب.
65
ولم يكد يصعد الحاضرون إلى ظهر السفينة حتى رأوا أرمان مسرعا إليها مع ثلاثة من خدامه، وكلهم مسلحون، ولكنه ما لبث أن رأى باكارا حتى تراجع منذهلا إلى الوراء قائلا: ماذا أرى؟ - إن الله معنا يا سيدي الكونت، فلنشكر الله. - وأندريا الخائن أين هو؟ - إنه يلقى العقاب الذي يستحقه.
ثم أخذته بيده إلى حيث كان الجالسون على المقعد، فسمع أندريا يئن أنينا يخرج من صدره كزئير الوحوش، فتقطع قلبه من الإشفاق، وذكر أن أما واحدة حملتهما فاسترسل إلى عواطف حنوه ونظر إلى باكارا قائلا: إنه أخي ...
ولم يكد يتم هذا القول حتى انقطع الأنين، وخرج صوت غدارة يدوي في جوانب السفينة.
فساءلهم أرمان: ماذا أسمع ألعلهم قتلوه؟ - كلا، تعال وانظر.
ثم أزاحت الستار، فتراجع أرمان منذعرا لما رآه.
ذلك أن أحد الخادمين قطع لسانه بموسى، فجعل الدم يسيل من فمه فيخضب الأرض، وأطلق الآخر غدارة محشوة بارود، فسقط على وجهه فشوهته تشويها هائلا وفقأت إحدى عينيه.
وعند الفجر سارت السفينة بأسيرها المشوه إلى القبائل المتوحشة. •••
أما أرمان فإنه عاد إلى منزله والحزن ملء فؤاده، فأخبر روكامبول بما كان، وقال له: إنه مهما يكن من سابق شرورك، فإني سأفي بوعدي لك ومنحك المائة ألف فرنك التي وعدتك بها، فمتى خرجت من قصري معافى تقبضها من الوكيل.
ثم برح كارلوفان مع امرأته وولده وعاد إلى باريس.
وتمكن روكامبول في خلال معالجته من الولوج إلى غرفة أندريا، فسرق جميع أوراقه.
وبعد شهر تزوج الكونت أرتوف بباكارا وسافر بها إلى روسيا .
وفي اليوم نفسه سافر روكامبول إلى لندرا بأموال أرمان دي كركاز وأوراق أستاذه أندريا.
الغادة الإسبانية
الغادة الإسبانية
الغادة الإسبانية
الغادة الإسبانية
روكامبول (الجزء الثالث)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
الغادة الإسبانية
1
كانت الباخرة الفرنسية مويت، وهي من البواخر التجارية قادمة من لفربول إلى الهافر.
وكان النسيم بليلا والجو صافيا والبحر ساكنا، هدأت مياهه فباتت كمياه البحيرات، فكان ربان تلك الباخرة يسير على ظهرها ذهابا وإيابا وهو ينظر إلى ما يكشف الفضاء من الصفاء نظرة رضى؛ إذ لم يكن يكدر ذلك الجو الرائق غير دخان سيكاره الكثيف، ثم كأنه قد تعب من المسير، فجلس على مقعد قرب أحد المسافرين وقال له: إذا لبث الطقس على ما هو عليه الآن فإننا نصل صباح الغد إلى ميناء الهافر، فأرى فرنسا بعد فراقي لها أربعة أعوام.
وكان لباس المسافر وجموده يدلان على أنه من الإنكليز، ولهذا فقد كلمه الربان بالإنكليزية، غير أن المسافر جعل يحادثه بالفرنسية الفصحى، فأجابه: إذن أتظن أننا نبلغ الهافر صباح الغد؟ - نعم، إلا إذا ثارت عاصفة أو فاجأتنا الأقدار بمصيبة لا نتوقعها.
ثم أخذ الربان منظاره وجعل يراقب فيه جهات الفضاء الأربع، وقال: إن السماء صافية والمياه هادئة، فسأعهد بقيادة السفينة إلى الربان الثاني وأنام الليلة مطمئن البال. وبعد هنيهة ودع المسافر وانطلق إلى غرفته، فبقي المسافر وحده على المقعد، فجعل ينظر إلى مغيب الشمس حتى توارت في حجابها، ثم أسند رأسه إلى يده وأخذ يناجي نفسه فيقول: «ما لقلبي قد اضطرب لمغيب الشمس، وما هذا التأثر الذي أجده حين أرى أشعة القمر الذهبية ترقص فوق هذه المياه، وقد عهدت قلبي خلوا من الإحساس، وما أنا من عالم الخيال أو الشعراء. وبعد فما هذا التشوق للوطن، وما هذا الارتياح الذي أشعر به حين قربي من هذا الوطن بعد طول الغربة، فإني أحتقر من يشكو وحشة الاغتراب بالحنين إلى الأوطان، بيد أني أشعر بأن قلبي يخفق سرورا حين أعلم أننا سنبلغ غدا إلى الهافر، ألعلي أصبحت شريفا لطول عشرتي للأشراف، وأصبحت ذا قلب يحن بعد اختلاطي مع ذوي العواطف؟ كلا ولكن هذا القلب الصخري لا يخفق هذا الخفوق لقرب وصولنا من الهافر، إلا لأن هذا الميناء لا يبعد سوى خمس ساعات عن باريس.»
وقد ذكر باريس كما يذكر الطفل اسم أمه، ثم قال: أيتها العاصمة الجميلة، إنك بلد رجال الجرأة والإقدام، فلا يفوز فيك غير رجال المطامع والنوابغ من أهل المكر والدهاء، فلقد أقمت أربعة أعوام في بلد الضباب - أي عاصمة الإنجليز - لا أغمض عيني إلا على رجاء أن تتمثل لي بالحلم باريس، تلك العاصمة الزهراء مرسح المطامع وميدان أصحاب العقول الراجحة.
ثم تنهد وقال: نعم، إني أقمت في لندرا أربعة أعوام، وقد حان لي الآن أن أعود إلى بلادي، ولقد نسي سكانها أني كنت أدعى الفيكونت دي كامبول، والمركيز دون أينجو، ورئيس الجمعية السرية، وتلميذ السير فيليام.
ثم نهض روكامبول وكان هو بعينه، ونزل إلى غرفته في السفينة وأخذ ملفا من الأوراق، وجعل يقلب فيها ويقول: أف للسير فيليام وللغته الهيروغليفية، ومن لي بحل رموزها! فلقد كان يكتب لشدة دهائه بلغتين، فيطلعني على أسرار الواحدة ويكتم عني الأخرى، فلقد مضى بي أربعة أعوام أقرأ هذه الأوراق دون أن أتمكن من حل طلاسمها، وكلما دنوت خطوة من أسرارها بعدت ميلا. مثال ذلك أني أقرأ بهذه الأوراق التي سرقتها ما يأتي:
يوجد في باريس في قصر ... في شارع ...
وقد كتب اسم القصر والشارع باللغة السرية التي لا أفهمها، ثم أقرأ ما يأتي:
إن هذا القصر يسكنه المركيز والمركيزة دي وابنتهما، ويبلغ المركيز من العمر ستين عاما، والمركيزة خمسين، وابنتهما ثمانية عشر. أما المركيز فهو غني يبلغ إيراده مليونا في العام، ولهذا المركيز ولد إذا كان لا يزال في قيد الحياة فإن عمره يبلغ الآن أربعة وعشرين عاما، ولهذا الولد قصة، وهي أنه عندما كان عمره عشر سنوات أدخل في سفينة إنكليزية من بواخر شركة الهند بصفة نوتي، ولم يظهر شيء من أثره بعد ذلك، بحيث لا يعلمون إذا كان ميتا أو هو في قيد الحياة، فإن المركيزة تجهل مصيره، ولا يعلم أين هو سوى المركيز، ولا بد له من أن يدفن هذا السر معه، فإنه لم يفارق ولده في عهد الطفولة ويرسله نوتيا في البحار، ويكتم أمره عن امرأته إلا لسبب عظيم، إلا أن أمه لا تزال ترجو أن تراه، فإذا رجع هذا الولد، فإنه يرث ثلاثة أرباع ثروة أبيه حسب نظام تلك العائلة، ويبقى الربع لأخته، وعلى ذلك فيمكن أن ...
إلى هنا انتهت الكتابة الواضحة، وقد كتبت تتمة الحديث باللغة الهيروغليفية الخاصة بالسير فيليام، فكأنه يقول لي: يوجد في لندرا في منزل مشرف على الشارع كنز مدفون، وأين لي أن أعرف هذا المنزل فأجد ذاك الكنز!
ثم دفع هذه الأوراق مغضبا لإبهامها، وقال في نفسه: إن غاية ما أعرفه أنه يوجد مركيزة ترجو أن يعود إليها ولدها، وأن ما يمكن الاستفادة به من ذلك أن أكون ذلك الولد، فإننا بعمر واحد، وقد غادرته طفلا فهي لا تعرفه الآن، ولكن كيف أفعل هذا وأنا لا أعرف اسم المركيزة، ولا أين تقيم؟ ولو ذكر لي السير فيليام اسم الشارع على الأقل لهان الأمر، ولكنه حمل سره معه إلى جزائر المركيز.
ووالله إني أشفق على هذا الرجل وأحسده في حين واحد، أما إشفاقي عليه فلأنه ما شرع في مكيدة إلا بناها على أمتن دعائم الحكمة وحسن التدبير، ولكنه لم يفلح بأمر لما خص به من نكد الطالع، وأما حسدي له، فلما أوتيه من الدهاء وبعد النظر في الأمور. ومن أين لي عقل هذا النابغة!
وما أوشك روكامبول أن يتم هذه المناجاة، حتى سمع صوت ضجيج وتهافت المسافرين إلى ظهر السفينة، وصوت الربان يصدر أوامره الشديدة إلى البحارة، فقال في نفسه: ما هذا الانقلاب؟ إني غادرت الربان منذ ساعة آمنا مطمئنا، وهو الآن يضطرب وينادي البحارة، فما معنى هذا الانقلاب؟
ثم برح غرفته وصعد إلى ظهر السفينة، فوجده يلقي الأوامر والبحارة يطوون الشراع، وعلائم الذعر بادية في وجوه المسافرين، ومع ذلك فإن البحر كان لا يزال على سكونه، والجو على صفائه، فلم يفقه روكامبول معنى هذا الهياج، ودنا من أول مسافر لقيه وكان يلبس لباس رجال البحرية وسأله: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك عن السبب فيما أراه من ذعر المسافرين واهتمام البحارة بطي القلوع.
فأجابه المسافر: ذلك لأن العاصفة ستفاجئنا. - أين العواصف، وأنا لا أجد سحابة في السماء؟ - إنك لا تراها لأنك لست من رجال البحرية، فخذ هذا المنظار وانظر إلى أسفل الجهة الغربية من الأفق.
وأخذ روكامبول المنظار ووجهه إلى الجهة المشار إليها، ورأى غمامة صغيرة تشبه الشراع، فقال: ما عسى أن يكون وراء تلك الغمامة؟ - ما وراءها سوى العاصفة، فإنها ستتسع وتمتد حتى تعم بعد ساعة جميع هذا الفضاء، فتنقض منها الصواعق، وتزبد مياه هذا البحر الساكنة، فترقص السفينة على أمواجها كما تضطرب أشعة القمر الآن فوقها، بحيث لو أغفل شراع دون طي غرقت السفينة لا محالة.
وكان الرجل يتكلم بما يدل على خبرته في فن البحار، فعجب روكامبول وسأله: أمثل هذه الغمامة الصغيرة تحدث هذه الأنواء العظيمة؟
فابتسم المسافر وأجاب: إني بحري والبحارة يندر أن يخطئوا بما يبدو لهم من أدلة الأنواء. - إذن فلا بد من العاصفة. - نعم، وستكون شديدة هائلة. - أنحن في خطر أكيد؟ - ربما، إلا إذا أراد الله لنا السلامة، فإنه يبدد هذه العواصف، إلا أني أرى الخطر جليا، وقد أكون مبالغا فيما قلت، على أن الذي يحملني على الرجاء ما أراه من اهتمام الربان وحسن طاعة الملاحين ودربتهم، فإني إذا كنت الآن مسافرا فقد كنت بحارا مثل هؤلاء، وقد تعلمت هذا الفن في سفن شركة الهند.
فاضطرب روكامبول لما سمعه، وتذكر أوراق السير فيليام التي كان يقرؤها منذ حين، فقال للمسافر كي يجره إلى الحديث: أعرفت مدينة الهافر من قبل؟ - كلا، وأنا ذاهب إلى باريس لأرى فيها أما وأختا لم أرهما منذ ثمانية عشر عاما؛ أي منذ سافرت بحارا في سفن الهند، ولم يكن لي في ذلك العهد من العمر سوى عشرة أعوام.
فلما سمع روكامبول هذا الكلام نسي العاصفة وأخطار الغرق، بل نسي الوجود وانصرف بجملته إلى التأمل بهذا الشاب، ولم يصب في حياته بما أصيب به من التأثر حين كشف له هذا البحار دون أن يعرف أسرار تلك الأوراق، وتراءى له أن أبواب المستقبل قد فتحت أمامه، وأن الصدفة أقبلت تبتسم له أجمل ابتسام، ولكنه ضبط اضطرابه وقال له بلهجة سرور: إذن أنت فرنسي؟
وهز البحار رأسه وأجاب: إنك تعجب كيف أشتغل في سفن الهند وأنا فرنسي، إلا أن لذلك سرا عائليا لا يسعني إفشاؤه.
ثم أمسك منظاره من يد روكامبول وقال: أرجو أن تأذن لي يا سيدي بمبارحتك الآن؛ لأني ذاهب إلى غرفتي كي أجعل أوراقي في مأمن من المياه إذا نكبنا بغرق السفينة، فإني قد وضعتها في حقيبة من الحديد الرقيق وسأتمنطق بها، وإن ألقيت نفسي إلى الماء لا تبتل.
ولما انصرف خاض روكامبول في عباب تصوراته، وقد جعل جل قصده التزلف إلى هذا البحار بصداقة تحمله على الوثوق به والإباحة له بجميع سره، وقد سار في مجال هذا التصور إلى مدى بعيد، حتى إنه خطر له أن يكون بدل هذا البحار عند أمه وأخته، ولكنه اضطرب حين بلغ إلى هذا الحد من التصور، وكأنه لم يجسر على تتمته، ثم اشتدت عزيمته حين تذكر السير فيليام الذي لم يكن يشفق على أحد، وذكر ما كان يقوله له: «وهو أن الحياة معترك، ولا بد للفوز في المعارك من القتل، وأن عزاءنا على قتل الناس كثرة الناس في الأرض.»
ولبث واقفا على ظهر السفينة غير مكترث لما يكتنفها من المخاطر، وجعل يردد في تفكيره هذه الكلمات: «إنه فرنسي ... اشتغل في إحدى سفن شركة الهند ... ترك باريس منذ ثمانية عشر عاما ... دخل إلى السفن وهو في العاشرة من عمره كي يتعلم فن البحارة.
إن جميع ما سمعته من هذا الرجل ينطبق أشد الانطباق على ما قرأته في أوراق السير فيليام.»
وفيما كان روكامبول غارقا في لجج تصوراته، كانت تلك الغمامة التي لم تكن ترى إلا بالمنظار تمتد وتتسع، كما تنبأ به المسافر، حتى ملأت ذلك الفضاء الوسيع وتوارى القمر في ضبابها المتلبد، ثم هبت الرياح فكانت خفيفة في بدء هبوبها، ولكنها جعلت تزيد وتضعف تباعا حتى أوشكت أن تكسر الصواري.
وكان صوت العاصفة يصل من بعيد فيبلغ إلى السفينة كزئير الأسود، والناس قد هلعت قلوبهم، وبات دوي أصواتهم يمتزج بين دوي الرعود وبين رجال يجأرون إلى الله بالدعاء، ونساء تعول وتنتحب، فيطبق صراخها الفضاء، وبحارة يصيحون وهم يتسلقون الصواري ليطووا القلوع، فتصدهم زوابع الهواء.
وكان روكامبول واقفا بين هذا الخليط مشتت البال، منشغلا عن اضطراب الناس من حوله لما كان يجول في خاطره من أمر هذا المسافر، وبقي على هذا الذهول إلى أن رده إلى هداه المسافر نفسه، فاحتك به قائلا: أرأيت ما كان من أمر هذه الغمامة؟
والتفت روكامبول ورآه بقربه وقد خلع ما كان عليه من الثياب، فلم يبق سوى قميصه وبنطلونه، وكانت حقيبة أوراقه مشدودة إلى وسطه بمنطقة من جلد، فقال له: إني أراك قد بالغت في الحذر؛ لأني لا أجد ما تجده من مخاطر الغرق. - أراك نسيت أننا في بحر المانش، وعلى عشر مراحل من الشواطئ، وقد تدفع الرياح سفينتنا فتلتطم برصيف أو بصخر فتتحطم، ثم ألا ترى السرعة التي تسير بها السفينة من الشمال إلى الجنوب مع أن القلوع مطوية؟ أصغ إلى صوت الربان، وهو قديم في هذه المهنة، كيف أن أوامره التي يصدرها تدل على القنوط!
ولم يكد هذا البحار يتم قوله، حتى سمع الربان يقول: اقطعوا الصاري الأكبر!
وجعل البحارة يضربونه بالفئوس حتى سقط، وكان له دوي شديد، وفي الوقت نفسه صاح صيحة رعب: هو ذا الأرض!
أما روكامبول فلم يبد عليه شيء من علائم الخوف.
2
ولكنه حين رأى أن الخطر محدق بالسفينة، والخوف سائد على جميع ركابها، رأى أن من الحكمة أن يقتدي برفيقه المسافر ويتحذر، فغادره وأسرع إلى غرفته، فخلع ما عليه من الثياب الخارجية، وأخذ ما لديه من النقود وأوراق السير فيليام ووضعها جميعها بمنطقة من الجلد لا ينفذ إليها الماء وشدها إلى وسطه، وصعد إلى ظهر السفينة والتقى برفيقه ولازمه وهو يقول في نفسه: إما أن نغرق معا أو ننجو معا.
وكانت السفينة لا تستقر على حالة من القلق، تتقاذفها الأمواج كما تشاء العواصف ومهاب رياحها، فتندفع كالجواد المطلق الجامح لا يثنيه شيء عن اندفاعه، فقال البحار وهو ينظر إلى الجو المريد: لقد قضي الأمر.
وأجاب روكامبول: كيف ذلك؟ - انظر إلى آخر الأفق في الجنوب، ألا ترى غمامة أقل سوادا من بقية الغمام؟ - نعم. - إن الأرض هناك وهي تبعد عنها ثلاث مراحل، ولا بد لسفينتنا من الالتطام بها.
ولم يكد يتم حديثه حتى ارتجت السفينة ارتجاجا عظيما لاصطدامها بأحد الصخور العظيمة الناتئة، فصاح الربان بالبحارة: أسرعوا إلى إنزال القوارب.
إلا أن البحار لم ينتظر إنزالها، بل أشار إلى روكامبول أن يتبعه، وألقى بنفسه إلى تلك اللجج الثائرة، واندفع روكامبول في إثره وجعل الاثنان يسبحان إلى جهة البحر نحو ساعة حتى تعب روكامبول وتأخر عن رفيقه، والتفت إليه وشجعه قائلا: تجلد، لقد بلغنا إلى صخر قريب نستريح عليه.
فتشجع روكامبول وجعل يبذل ما بقي له من الجهد وهو يؤنب نفسه لتقصيره قائلا: ما هذا الوهن؟ أأجعل طعاما للأسماك على بعد ميل من البر؟ وأضعف عن اللحاق بهذا الرجل الذي سأكون بعده أغنى مركيز.
إلا أن جهده لم يطل، فإنه لم يسبح مسافة وجيزة حتى شعر بأن قواه قد نهكت، فصاح يستنجد برفيقه وجعل يغوص تحت الماء ويرتفع فوقها إلى أن شعر بيد قبضت على شعره، ثم أغمي عليه فلم يع على شيء.
وعندما صحا من إغمائه قلب نظرا حائرا فيما كان يراه حواليه، فرأى أن أشعة الشمس قد بددت جيش الظلام، وأن العاصفة قد استبدلت بالسكينة، ثم رأى أنه لم يكن غريقا في أعماق الأوقيانوس، بل كان ممددا على رمال بلغت إليها حرارة الشمس، وجففت ثيابه المبتلة من الأمواج.
ونهض وجعل يمشي على تلك الرمال، ورأى نفسه فوق صخر عظيم متسع يحيط به الماء من جميع جهاته، وذكر أن رفيقه أشار له إلى هذا الصخر وأنه قبض على شعره حين استنجد به، ولم يعد يذكر شيئا، ولكنه أيقن أن رفيقه البحار - أي المركيز - قد أنقذه، ثم قال في نفسه حين لم يجده: ألعله وضعني في هذه الجزيرة وأتم مسيره إلى الميناء القريبة، فإذا كان ذلك فكيف أجده؟
وكأن هذا الرجل الهائل نسي موقفه الشديد، وأنه في جزيرة صغيرة قد يموت بها جوعا قبل أن يجد بها أحدا، فلم يفتكر إلا بأطماعه بالفتك بهذا الرجل الذي أنقذه من الموت.
وجعل يمشي في أرض هذه الجزيرة المقفرة مشي العاجز السقيم لفرط ما لقي من عناء السباحة، ويتفقد هذه الجزيرة كي يعلم مقدار بعدها عن البر، وفيما هو يمشي إذ سمع عن بعد صوت إنسان يستغيث، فأسرع إلى الجهة التي خرج منها الصوت حتى بلغ إلى هوة عميقة، سمع أن الصوت صادر منها، وعلم أنه صوت رفيقه البحار، فدنا منها ورأى عمقها نحو ستة أمتار.
ولما رأى روكامبول يطل عليه صاح صيحة الفرح وقال: لقد خشيت أن أموت ولا تسمع ندائي. - معاذ الله أن يحل بك مكروه، فقد أنقذتني من الموت وسأنقذك منه.
ثم جعل روكامبول يتأمل بالحفرة وعمقها ويبحث بحث المدقق، فعلم أنه إذا لم ينجده منها فلا سبيل له إلى الصعود، وأنه يموت فيها جوعا دون شك، فاتقدت عيناه ببارق الفرح الوحشي وقال في نفسه: إن الأقدار خادمة لي والصدفة من عبيدي.
أما المركيز فقد قص على روكامبول السبب في سقوطه، فقال: إني بينما كنت متمددا بالقرب منك أعالجك كي تستفيق من إغمائك، شاهدت سفينة تسير في عرض البحر، فوقفت وجعلت أركض إلى الشاطى وأنا أشير بيدي إليها وأنادي رجالها.
وبينما أنا أركض غير منتبه وعيناي شاخصتان إلى السفينة، سقطت في هذه الحفرة، ولو لم تسمع ندائي لهلكت من الجوع.
فأجاب روكامبول: طب نفسا أيها الأخ المشفق، فقد وجدت أخا مشفقا مثلك، إلا أنه كيف السبيل إلى إنقاذك؛ فإني لا أستطيع أن أنزل إليك، وليس لدي حبل أرفعك به؟ - إنك تجد على مسافة عشرين خطوة من هذه الحفرة قرب المكان الذي كنت نائما فيه، غدارتي وحقيبة أوراقي ومنطقة من جلد، وهي طويلة كنت ألف بها وسطي خمس مرات، فاذهب وأت بها فإنها كافية لإنقاذي، فإنك ترسل إلي أحد طرفيها لأتعلق به وتسحبني بالطرف الثاني. - ليطمئن بالك، وها أنا ذاهب حالا.
ثم ذهب روكامبول يمشي الهويناء وهو يخاطب نفسه: إن هذا الصخر مقفر قد لا يمر به الصيادون مرة في العام، وإذا لم أنقذه من الحفرة فلا يجد من ينقذه، وعلى ذلك فإذا أخذت أوراقه وسبحت إلى هذا البر القريب أصبح مركيزا غنيا لا ريب فيه، وبعد هل أنا رميته في الحفرة لأنقذه منها؟ إن الصدفة قد عرضت لي فلأتمسك بأهدابها؛ لأنها لا تعرض في كل حين، وفي كل حال فإنه إن كان قد أحسن إلي في هذه الحياة وأنقذني من الموت وأعطاني لقبه وماله، فسأنفعه في الآخرة؛ لأن الله سيسجل اسمه في دفتر الشهداء.
وبعد أن قال هذا القول ذهب إلى المكان الذي دله عليه، فوجد الحقيبة والمنطقة والغدارة، فجلس على الرمال وبدأ يفتح الحقيبة وأخذ يفحص ما فيها من الأوراق مطمئنا، فكانت أول ورقة عرضت عليه شهادة مركيز من شركة سفن الهند، وهي مكتوبة باسم فريدريك ألبرت دي شمري، ولد في باريس في 25 يوليو سنة 1800، وله من العمر 28 عاما.
فخاطب روكامبول نفسه: لقد علمت الآن أني صرت أدعى فريدريك دي شمري، وأني اشتغلت في سفن الهند، فلأنظر في بقية الأوراق.
ثم أخذ رسالة طويلة مكتوبة بخط رفيع متطاول، فعلم أنه خط امرأة، وكان عنوان هذا الكتاب «ولدي العزيز» والتوقيع عليه «المركيزة دي شمري»، فقال روكامبول: الحق يقال، إن السير فيليام قد خدمني في حياته وفي مماته، ولولا أوراقه لما غدوت الآن مركيزا في مقام النبلاء. ثم قرأ تحت التوقيع «شارع فانو نمرة 17 في القصر»، وبعد ذلك أخذ في تلاوة هذه الرسالة وهذا نصها:
أرسل هذا الكتاب إلى وزارة البحرية الإنكليزية، ورجائي أن يصل إليك ولو بعد حين، وأن تسرع بعد تلاوته إلى أمك وأختك، كما يرجو أبوك الذي ندم عند احتضاره لسوء ظنه، وإني لم أعلم يا ولدي العزيز إلا الآن بذلك السر الذي دفع أباك إلى الإساءة إلي وإبعادك عني، وإليك الحديث: كان المركيز دي شمري يقيم منذ 16 عاما بعيدا عني لا يكلمني، وكان يرسل إلي راتبا في كل شهر أنفقه علي وعلى أختك، وقد طالما بكيت أمامه وتوسلت إليه أن يطلعني على سر هذا الجفاء، فلم أفز منه بمراد، على أننا كنا في عيون الناس نتشارك بالسعادة والهناء، وفي الحقيقة كنا من أشد الناس نكدا، حتى حسبنا أن أباك أصيب بضرب من الجنون. أما سر هذا الجفاء فهو أن أباك لم يكن منذ ثلاثين عاما على شيء من الثروة، سوى أنه كان كولونيلا في الجيش، وكنت أنا فقيرة مثله، فتزوج بي زواج غرام، وكنت أول ثمرة من ثمرات هذا الزواج، وعندما بلغت الخامسة من عمرك، تغيرت حالة أبيك فجأة، فإن ابن عمه كبير هذه الأسرة كان أغنى الأغنياء فقتل في مبارزة.
وقبل أن يموت هذا المركيز ببضعة أعوام، اضطر أبوك إلى السفر في حملة الجرائر، فأقامني عند قريبته المركيزة دي شمري في قصره خارج باريس، ولما عاد أبوك اضطر إلى الاستقالة، بحيث بلغنا بعد استقالته إلى أقصى درجات الفقر، فخدم في إحدى المناجم بصفة كاتب، ولكن عهد شقائنا لم يطل؛ فإن المركيز هكتور شمري جرح جرحا خطيرا في مبارزة ضمان بعد أن كتب وصيته، وقد أوصى بجميع ماله إلى أبيك، وحرم أختا له وهي ابنة المركيز دي شمري من غير زوجه، فحقدت هذه المركيز حقدا عظيما علي، ووشت بي وشاية هائلة لم أعلم بها إلا أمس.
وحكاية هذه المركيزة أنها ترملت وهي في عنفوان الشباب، وكان ابنها هكتور لا يزال طفلا فلم تستطع الزواج؛ لأن زوجها اشترط عليها في وصيته أن لا تتزوج بعده أو هي تحرم من حق الإرث، إلا أنها ارتكبت هفوة ولدت بعدها بنتا وأخفتها في البدء عن العيون ، ثم جاءت بها إلى قصرها، وكانت تقول إنها يتيمة وقريبة لها. أما أخيها المركيز فقد علم سرها، ولهذا فإنه حرم أخته من الإرث وأورث ماله لأبيك، ومن ذلك العهد بدأ انتقام تلك المرأة.
وقد اتفق أنه بعد قتل هذا المركيز بثلاثة أشهر ولدت أنا أختك، وكان عمرك خمسة أعوام، أيضا ماتت هذه المركيزة فذهب أبوك إليها وحضر ساعة احتضارها، فقالت له أقوالا أملاها عليها الحقد الدفين، وكانت علة شقائي أعواما طوالا؛ لأنها كانت السبب في إبعادك عني.
فقال روكامبول في نفسه: ما هذا الكتاب؟ إنه يشبه الحكايات الموضوعة، فلأتم قراءة هذه الحكايات. واندفع في قراءة تتمة الرسالة، فقرأ ما يأتي:
اعلم يا ولدي العزيز، أنه بعد أن عاد أبوك من عند المركيزة بثمانية أيام، خطفوك من منزلي وبقي سر اختطافك دهرا طويلا مكتوما عني حتى حسبتك في أعداد الأموات.
وكان عمرك حين اختطافك عشرة أعوام، وكنت تحب في ذلك العمر أن تنام في غرفة وحدك.
وفي أحد الأيام دخل الخادم إلى غرفتك كي يوقظك ويمرنك على ركوب الخيل كما كنت تحب، فلم يجدك فيها، وبحث عنك في الحديقة وفي كل مكان من القصر دون أن يقف على أثرك.
وكان أبوك غائبا عن باريس في تلك الليلة، وأخبرت البوليس بأمر اختطافك فذهبت أبحاثه عبثا، وكتبت إلى أبيك أخبره بهذه المصيبة فوردني منه كتاب لم يظهر فيه شيئا من عواطف الوالدين، على أنه عاد من سفره بعد شهر فرأيت أن شعوره قد ابيضت، وحسبت أن ذلك كان تأثير تلك المصيبة، ولكنه منذ ذلك العهد لم يكلمني كلمة إلا أمام الناس، ولم ينظر إلى أختك نظرة حنو، ولم يذكر اسمك مرة في خلال هذه المدة الطويلة التي بلغت ستة عشر عاما.
وفي أوائل العام الماضي لزم الفراش لانحراف ألم به، ثم اشتدت وطأة علته فلم يكن يؤذن لي ولأختك أن ندخل إلى غرفته، إلى أن وسطت في ذلك أحد القسيسين، فأذن لي بالدخول إليه وهو في حالة الاحتضار، وقال: لقد دنت ساعة الموت ولا أحب أن ألقى الله وفي قلبي أثر من الحقد، ولذلك فإني أصفح عنك.
فاضطربت حواسي وقلت له: إن الصفح يكون عن المجرمين، فأي ذنب ارتكبته؟
وقد كانت لهجة الصدق ظاهرة من ملامحي، فتأوه وقال: رباه! ألعل المركيزة كانت كاذبة نمامة؟
ثم أخذ رسالة من بين أوراقه كتبتها إليه المركيزة قبل وفاتها بيومين، ودفعها إلي وهو يقول: اقرئي هذه الرسالة. فأخذت الرسالة بيد مرتجفة وقرأت فيها ما يأتي:
يابن عمي العزيز
إن ولدي العزيز هكتور قد جعلك وريثا لجميع أمواله، فحسبت لبساطة قلبك أنه جعلك الوريث الوحيد دون أخته ودوني لأن هذا الإرث من حقك، على أنه لم يخصك بإرثه لهذا السبب، بل إنه أراد أن يحرم أخته التي أربيها في منزلي بصفة قريبة، وما هي في الحقيقة إلا ابنتي، ثم إن هناك سببا ثانيا وهو أنه كان يحب امرأتك، وهو لم يدفع أمواله إليك بل لابنته التي تحسب أنها ابنتك. أما وقد اعترفت لك بالحقيقة، فأرجو أن تعتني بأمر ابنتي من بعدي، فإنها باتت صبية، وما تركته لها قد لا يكفيها.
المركيزة دي شمري
أعلمت الآن يا ولدي السبب الذي دعى أباك إلى احتقاري، فقد كان يحسبني من أحط النساء العابثات بالواجبات، ويحسب أن أختك عار عليه لاعتقاده أنها بنت الجريمة، وذلك لأني ولدتها في منزل المركيزة التي أرادت لحقدها علي أن تدنس شرفي قبل موتها، فلقيت أشد العذاب لجفاء أبيك في ذلك العهد الطويل.
ولما قرأت هذه الرسالة الكاذبة جثوت راكعة أمام سرير أبيك، وسألت الله أن يلهمه إلى سبيل السداد، فيثق ببراءتي قبل أن يموت، وقد أراد الله أن يجيب ندائي، فإن أباك أيقن مما رآه وسمعه مني بطهارتي، فسألني الصفح بدلا من أن يصفح عني، وفاضت روحه الكريمة وهو يباركني.
وقد أخبرني قبل أن تحضره الوفاة أنه هو الذي اختطفك، وسوى ذلك من التفاصيل التي علمت منها محل وجودك، فعد أيها الحبيب إلى أحضان أمك؛ لأنها تنتظرك بفارغ الصبر.
إلى هنا انتهت رسالة المركيزة إلى ولدها ، فتناولها روكامبول ووضعها مع أوراق الشهادة، ثم بدأ يقرأ الأوراق الباقية في الحقيبة ورأى بينها مذكرات كتبها البحار عما لا يزال عالقا بذاكرته عن اختطافه، وكيف أن أباه أخذه من الغرفة التي كان نائما فيها وذهب به إلى الهافر، وهناك سلمه إلى ضابط إنكليزي في إحدي السفن، إلى غير ذلك من المذكرات التي قرأها روكامبول بإمعان شديد.
ولما أتم قراءتها جميعا قال: إن جميع هذه الأوراق تثبت أن هذا البحار هو ابن المركيز دي شمري، ولكنه لا يستطيع الخروج من الحفرة إلا بإذني، ثم إني لا أجد فائدة من قتله، فإن هذا السجن الذي هو فيه كاف لقتله.
وعند ذلك أرجع الأوراق إلى الحقيبة وشدها بالمنطقة إلى وسطه، وذهب إلى الشاطئ فرأى أن البحر عاد إلى السكون، وأن أرض فرنسا لا تبعد عنه أكثر من ساعة، فألقى نفسه في البحر وراح يسبح مجدا إليها.
3
في الساعة الثالثة بعد ظهر أحد أيام المرافع، كان شارع سانت كاترين بباريس غاصا بالناس، إلا أن اجتماعهم في ذلك الشارع لم يكن لفرجتهم على ملك المرفع، ولا على الذين يمرون أفواجا وهم بملابس تستوقف الأبصار، بل إنهم كانوا محتشدين أمام ملعب صغير يسمعون فتاة حسناء تدعوهم إلى الدخول للفرجة على سلطان القبائل المتوحشة، وتحكي لهم عنه حكاية عجيبة تدفعهم إلى الدخول، فيدخلون ويخرجون أفواجا.
وقد مرت في ذلك الحين مركبة تقل شابا جميل الطلعة عليه ملامح النبل والذكاء، فلما رأى الناس محتشدين على باب هذا الملعب أوقف المركبة، حتى إذا سمع الفتاة تقص حكاية زعيم القبائل المتوحشة، نزل من المركبة ودفع للفتاة 20 فرنكا دون أن يتدانى إلى إرجاع الباقي مما زاد عن أجرة الدخول، فأعجبت الفتاة بكرمه، ودخل وهو غير مكترث لها إلى حيث كان هذا الزعيم، فرأى منظرا تتأثر له القلوب القاسية.
ذلك أنه رأى على منصة الخشب، رجلا مشوه الخلقة تشويها عجيبا، وقد وشم وجهه بنقوش مختلفة الألوان، بين أزرق وأخضر وأحمر، وفي خديه وسائر وجهه ندوب، بل أخاديد توشك أن تبرز منها العظام، وفي مكان عينيه حفرتان إحداهما عظيمة ذهبت بعينه بجملتها، والثانية أصغر من أختها إلا أنها أبقت على شيء من العين الأخرى، وقد شقت أنفه فعلقت فيه حلقة نحاسية عظيمة، وهو فوق هذه النكبات أبكم لا يتكلم، ولكن الذي يعرضه للفرجة كان يقول إنه يفهم اللغة الإنكليزية.
ومما زاد في منظره غرابة ذلك اللباس الذي كان يلبسه، فقد كان يلبس ثوبا مرقعا جمع بين معظم أصناف الأجواخ والأصواف على اختلاف أصنافها وألوانها، ولبس في رأسه قبعة جعلت بشكل تاج وزينت بريش الطيور وأذنابها، وعلى الجملة إنه كان لا يفرق عن الحيوان إلا بأنه لا ذنب له، ولكن منظره كان يحمل على الإشفاق والذعر معا، فلا يراه المتفرجون حتى يتراجعوا عنه منذعرين، ويخرجوا من ذلك الملعب مستعيذين.
ولما دخل الزائر الجديد جعل يتأمله ساعة، وكلما زاد تفرسا به زاد ذهوله، وبقي يتفرس به والمتوحش منشغل عنه بطعامه إلى أن تفرق الناس من حوله، فنادى صاحبه وقال: لقد سمعتك تقول إنه يفهم اللغة الإنكليزية، أحقيقة ما تقول؟ - نعم يا سيدي، وإذا شئت فامتحنه.
فدنا المتفرج من المتوحش وقال له بالإنكليزية: على أية سفينة عدت إلى أوروبا، أعلى فيلتون أم برسفرانس أم فولر؟
ولما سمع المتوحش اسم السفينة الأخيرة ارتعش، وتزحزح لاضطرابه عن المنصة التي كان جالسا عليها، فعلم المتفرج ما أراد أن يعلمه من هذا السؤال، وخرج إلى الفتاة وقال لها: ما يكون منك هذا الرجل الذي يعرض المتوحش للفرجة؟
فأطرقت عينيها وقالت إنه زوجها.
فعلم المتفرج أنه خليلها فقال لها: أتريدين أن تكسبي مائتي فرنك؟ - لا أحب إلي من هذا الكسب؟ - متى أراك وأين؟ - تراني في هذا الملعب متى أقفلت أبوابه في الساعة الثانية.
فألقى إليها دينارا وذهب.
وفي الساعة الثانية عاد إليها فرآها تنتظره في إحدى غرف الملعب، وهي جالسة على كرسي وبالقرب منها المتوحش نائم على الأرض لا غطاء له سوى ثوبه الرقيق، فسألها: أتعرفين اللغة الإنكليزية؟ - كلا!
فدنا عند ذلك من المتوحش وأيقظه وقال له بالإنكليزية: لا تخف فإني صديق لك، ولا بد أنك تذكر تلميذك القديم روكامبول.
فظهر على المتوحش من علائم السرور ما لا يحيط به وصف.
فقال له المركيز دي شمري أو روكامبول: إني أبكيك منذ خمسة أعوام، ويسوءني أن ألقاك على هذه الحالة، إلا أني أتعزى بأني سأخفف شقاءك.
ثم عاد إلى الفتاة وقال لها: ألعلكم تكسبون من عرض هذا المتوحش كثيرا؟ - كلا، بل إن إيرادنا منه لا يفي بنفقتنا عليه، لا سيما في هذه العاصمة فإن كل من رآه ينفر منه ولا يعود، ولم يعد لي طاقة بالإنفاق عليه والانتقال به إلى بلدة أخرى. - إني أكفيكم مئونته، بل أشتريه منكم إذا أردتم بيعه، فإني أشفقت عليه وأحب أن أعالجه عله يطيب من هذه الندوب.
ففرحت الفتاة وباعته المتوحش بألف فرنك، دفعها لها على الفور مع المائتي فرنك التي وعدها بها، ثم ألبسه لباسه من ثياب الفتاة وخرج به، فركب معه المركبة التي كانت تنتظره على الباب وأمر السائق أن يسير إلى شارع سيرسانس.
4
ولما خلا روكامبول بأندريا، لأن هذا المتوحش لم يكن غير السير فيليام؛ أي الفيكونت أندريا، الذي تقدم ذكر عقابه في رواية التوبة الكاذبة، وكان اجتماعهما في أحد منازل روكامبول السرية، فقال له روكامبول: لقد خلا لنا الجو الآن، فأصغ إلي كي أخبرك بأنك إذا كنت وهبتني لقب مركيز مستعار، فقد صيرت نفسي مركيزا ثابتا لا ريب فيه؛ إذ إني أدعى الآن المركيز دي شمري.
ولهذه المركيزة الجديدة حديث طويل، ولكن اعلم أن أخاك الكونت أرمان دي كركاز ...
فاضطرب أندريا حين سماعه اسم أخيه، وسر روكامبول لما رآه من اضطرابه، فقال له: يسرني أن أراك عائدا من جزائر المركيز بحقدك القديم؛ لأن ذلك يدلني على أنك لا تزال السير فيليام، فلا أعدم فوائد دهائك، فاعلم أيها الصديق القديم أنني عندما بارزت أخاك الكونت وكنت أرجو أن أظفر به بتلك الطعنة الإيطالية، رأيت أنه يعلم دقائقها أكثر مني، فانجلت المبارزة على ظفره بي فجرحني جرحا بالغا، وكان من إحسانه أنه عالجني في قصره، فاغتنمت تلك الفرصة وسرقت أوراقك من غرفتك في ذلك القصر، وهي التي أعانتني على الدخول في سلك النبلاء وصيرتني كما تراني مركيزا من أغنى الأغنياء.
ثم قص عليه جميع ما نعلمه من حديث السفينة والغرق، وكيف ترك المركيز الحقيقي في الحفرة إلى أن قال: وعدت سباحة إلى أن بلغت الشاطئ الفرنسي وأموالي وأوراق المركيز معي، ولما أعملت الفكرة وجدت أن هذه الأوراق بعد بعد المركيز عن أمه وأخته ثمانية عشر عاما، ومشابهتي إياه بعض الشبه، وكوننا في عمر واحد، كل ذلك لا يكفي لإثبات مركيزيتي، بل يجب أن أكون بحارا ماهرا، وأن أعرف الهند وأخلاق قومها وعاداتهم وشيئا من لغتهم إلى غير ذلك مما كان يعرفه المركيز، فعدت في اليوم التالي إلى لندرا وهناك اتفقت مع أحد التراجمة الذين يسافرون إلى الهند، سافرت معهم إليها وأقمت فيها ستة أشهر، وكنت في كل يوم أختلط مع البحارة والضباط حتى عرفت كل ما ينبغي عرفانه، أطلقت سراح الترجمان وعدت إلى فرنسا، فوجدت تلك الأم المسكينة قد ماتت قبل وصولي بيومين، ولعلها ماتت من الفرح، فقد كتبت إليها أخبرها بقدومي، ورأيت شقيقتي وهي غضة الصبى بارعة الجمال، فعانقتها عناق الأخ وعرفتني بخطيبها، ثم دفعت إلي أموال أبي المركيز، فصرت من ذلك العهد أدعى المركيز دي شمري.
أما هذا المنزل الذي أتيت بك إليه الآن فهو أحد منازلي السرية التي استخدمها لأغراضي، وسأقيمك في منزلي الخاص كي تكون بقربي في كل حين، غير أنه لا بد لي من أن أدعو طبيبا ينظر في وجهك، فعساه يتمكن من إزالة هذا الوشم الكريه.
وعند ذلك دعا خادمه وأمره أن يدعو له أحد الأطباء الأخصاء بهذه العاهات.
انطلق الخادم مسرعا، وذهب روكامبول إلى المطبخ فأحضر لأندريا ما تيسر من الطعام، جعل يزدرده بشراهة تدل على شدة جوعه، إلى أن حضر الطبيب فلفق له روكامبول حكاية خلاصتها أن هذا الرجل كان بحارا تحت إمرته، وكان له عدو شديد احتال عليه حتى تمكن من إبقائه على شاطئ إحدى الجزر المتوحشة، ففعل به أهلها ما فعلوه، ثم باعوه إلى أحد البحارة فباعه إلى أحد أصحاب الملاعب، إلى أن عثر به هذه الليلة فعرفه واشتراه وقدم به كي يعالجه، ثم سأله إذا كان يمكن إزالة هذه الندوب والوشم من وجهه، ففحصه الطبيب فحصا مدققا وقال: لا ريب أن هذا الوشم من آثار تلك القبائل المتوحشة، وأظن أني أستطيع إزالته. - والندوب؟ - إن آثارها لا تزول. - وعيناه؟ - إن إحداهما طفئت فلا رجاء منها، والثانية في أشد حالة من الخطر، وفي كل حال سأعود غدا في الساعة العاشرة أفحصه على نور النهار. - حسنا، وستراني بانتظارك. فودعه الطبيب وانصرف.
عاد روكامبول إلى أندريا وقال: إننا سنفرغ جهدنا بإزالة هذه الآثار من وجهك، فلا تطمح أن تعود إلى سابق حالك، فتغوي بجمالك الكونتس حنة دي كركاز امرأة أخيك، ولكننا نحاول أن نخفف شيئا من قبح هيئتك.
ارتعد أندريا عندما سمع اسم شقيقه وابتسم ابتساما هائلا، فقال روكامبول: طب نفسا، سأصنع لك جميع ما أستطيعه، والآن اسمح لي بفراقك إن للمركيز دي شمري أختا وصهرا يسكن معهما، فلا بد له من العودة إلى قصره. فرأى على مائدته رسالة وردت إليه في المساء وهذا نصها:
إن الدوق والدوقة دي سالاندريرا يتشرفان بدعوة المركيز ألبرت دي شمري إلى طعام العشاء عندهما يوم الأربعاء.
فقال روكامبول في نفسه: إن أعمالي مع هذه الأسرة جارية في أحسن مجرى. ثم نام نوم المطمئن الآمن من الحاضر والواثق بالمستقبل.
وفي الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي ذهب إلى المنزل الذي أقام فيه أندريا، فوجد الطبيب قد سبقه وفحصه الفحص الدقيق، فقال روكامبول: ماذا شاهدت؟ - إني أستطيع إزالة بعض الآثار من وجهه، بحيث يظهر بعد ذلك كأنه قد انفجر مرجل أمامه، فأصابه رشاش مواده وشوهته، إلا أني أخشى أن يذهب ما بقي من بصره ويصبح أعمى بعد هذه المعالجة.
فتركه روكامبول ودخل إلى الغرفة المقيم فيها أندريا ووضع أمامه أدوات الكتابة وسأله: ألا تزال قادرا على الكتابة؟
فأخذ أندريا القلم وكتب هذه الجملة : إني شديد الظمأ للانتقام، وأذكر كل شيء.
فأجاب روكامبول: إذن أغمض عينك، واكتب لأرى إذا كنت تستطيع الكتابة في الظلام؛ إذ لا يمكن أن تحادثني إلا بالكتابة، وقد نضطر إلى المحادثة في الليل.
فأطبق أندريا عينه الوحيدة وكتب: إني إذا عميت أعرف أعدائي باللمس بل بالوحي. - إذن تمرن على الكتابة وأنت مغمض العين.
ثم تركه وعاد إلى الطبيب وقال: اشرع في معالجته، فلا حاجة له بالبصر.
5
بعد هذه الحوادث المتقدمة بشهر كان أندريا في قصر روكامبول الذي يقيم فيه مع شقيقته وصهره، وقد وفى الطبيب بما تعهد به وأصلح وجه أندريا إلا أنه أعماه.
ودخل روكامبول إليه وجعل يعزيه لفقد بصره، غير أن أندريا كان قد قنط من كل شيء، فلم يعد له عزاء إلا بفوز تلميذه والانتقام له من أعدائه، فقال له روكامبول: إني لا أعلم إذا كنت تفتكر كما أفتكر، إلا أني لو كنت في مقامك لكنت أقول في نفسي إني قد تمتعت بجميع ملاذ الدنيا، وطالما انتصرت على الناس وفتكت بهم كما شاءت مطامعي، إلى أن ظفر بي أعدائي فشوهوا وجهي، وقطعوا لساني، وأعموا عيني مما يحلو معه القنوط والموت، غير أني لا أحب الموت قبل الانتقام من هؤلاء الأعداء.
فهز أندريا رأسه إشارة إلى الموافقة على هذا الكلام، فتابع روكامبول: إني سأنتقم لك من أعدائك وهم أعدائي أيضا متى لاحت لنا فرصة الانتقام، والآن فإني أصبحت بفضل أوراقك كما كنت أنت في أول عهدك؛ أي رجلا في مقتبل الشباب، وافر المطامع، لا يروق لي غير المسابقة في حلبة هذه الحياة والبلوغ إلى أقصى ما توحيه إلي الأماني، فإذا أرشدتني بمقياس ذكائك وأوضحت لي السبل بدهائك، فزت بفوزي وسررت لسروري؛ فأكون عزاء لك وسلوى عما أنت فيه.
فهز أندريا رأسه أيضا مرات كثيرة إشارة إلى المصادقة، فقال له روكامبول: إنما يجب أن تعلم أني إذا كنت قد أنقذتك من الملعب بصفتي روكامبول، أي تلميذك القديم، فقد أحسنت بعمل ما تدعوني إليه واجبات الإخلاص، فما أسأت أيضا فيما صنعت بصفتي المركيز ألبرت دي شمري، ولو كان رجل سواي فعل ما فعلت لقال في نفسه إني قد أخطأت فيما صنعت؛ إذ لا يجب أن يقف أحد على سري الهائل، إلا أني أرى سوى هذا الرأي، وأقول إن السير فيليام رجل شديد الدهاء وافر الذكاء، فإذا كان مرشدي في ما أطمع بنيله من الآمال بلغت ما أريد، وربما وصلت إلى منصب السفارة والوزارة، بل ربما بلغت إلى العرش، فإن أطماعي لا تقف عند حد وذكاؤك لا ينتهي عند غاية.
فاختلج أندريا على كرسيه عند سماع هذه الكلمات، وظهرت على وجهه علائم الرضى، فتابع روكامبول: والآن أيها الصديق، بل أيها الأستاذ المرشد، إني سأقص عليك مشروعاتي وأنت تشير علي، ولا أخرج عن آرائك، غير أنه لا بد لي قبل الشروع بذلك أن أبدي لك فكرا جديدا ربما كان صوابا، لقد كنا نجري في أعمالنا السابقة على قاعدة تبين لنا خطؤها بعد الاختبار، وهي أننا كنا نستعين على الشر برجال الشر، وعندي أن خير كفيل للفوز بصنع الشر أن نستعين على تنفيذه برجال الخير والصلاح؛ فإن ذلك أضمن في الفوز وفي نيل الأغراض لبعد الشبهات.
فتهلل وجه السير فيليام وهز رأسه كأنه يقول أحسنت.
وتابع روكامبول: إني منتحل اسم المركيز دى شمري، ومنذ أربعة أشهر تحيط بي شقيقتي وهي من النساء الأشراف، وزوجها رجل شريف، ومعظم أصحابي من نخبة الأسرات النبيلة، وسأقص عليك علائقي مع هؤلاء الأشراف، فتجد بعد ذلك سبيلا إلى استخدامهم فيما تريد، فإن الشر والمكائد لا يخطران لهم في بال، وأبدأ بذكر قصتي فأقول: إني حين أتيت باريس ماتت أمي المركيزة، فكان موتها من حسن حظي؛ لأن الأم قد تعرف ابنها ولو غاب عنها عشرين عاما، وكانت شقيقتي مخطوبة، ولما مضت ثلاثة أشهر على وفاة أمي تزوجت شقيقتي خطيبها، وأقام الاثنان عندي إلى أن تنتهي مدة الحداد، أما أنا فإني تصرفت تصرف النبلاء، كأني خلقت مركيزا من بطن أمي، ولا جرم لقد مثلت على مسرحك كثيرا من الأدوار، وأصبحت علائقي كثيرة مع أشهر أسرات باريس وغيرها من الأسرات العريقة بالنسب، كعائلة الدوق دي ساندريرا الإسباني، فإن هذا الدوق من عظماء الإسبان وليس له سوى فتاة في نضارة العمر، وهي التي سترث أمواله التي لا تحصيها أقلام الحاسبين.
وقد كثر ترددي على هذا البيت، وفي كل يوم ألقى دليلا جديدا من الفتاة على ميلها لي، حتى لقد بت أحسب أنها تحبني، وكذلك أمها الدوقة فإنها ترحب بي ترحيبا عظيما كلما ذهبت إليهم، ولم يبق علي سوى هذا الدوق.
فهز أندريا رأسه بشكل خاص كأنه يقول سوف نرى في أمره، فقال: والآن فإن لدي مشروعين خطيرين قد يدعو فوزي بالواحد منهما إلى فوزي بالآخر، أحدهما مشروع زواجي بهذه الغادة الإسبانية النبيلة، والثاني أن صهري الجديد ربما ورث في عهد قريب إرثا عظيما سنبحث فيه عند نيله، فإن لي فيه مآرب.
ولنعد الآن قليلا إلى أعدائك بل أعدائي، فإننا بتنا واحدا كما أرى، ولنبدأ بأخيك إرمان دي كركاز.
فظهرت على وجه أندريا علائم الحقد الهائل، كأن إحسان أخيه وتقادم العهد على ما كان بينهما لم يطفئ ذلك الحقد الكامن في صدره كمون النار في الحجر، فقال روكامبول: إني وجدت إرمان لا يزال من رجال الصلاح، يقضي معظم وقته في صنع الخير، ولا تزال امرأته تحبه ولا يزال ابنه بقربه.
وبحثت أيضا عن باكارا، فعلمت أنها قد تزوجت بالكونت أرتوف، ولكن سبب هذا القران سر غامض لم يقف عليه أحد.
ورأى روكامبول أن علائم الحقد والرعب قد ظهرت على وجه أندريا حين ظهر له اسم باكارا، فقال له: إن حقدك على أخيك وسعيك للانتقام منه كان السبب في هلاكك مرتين، فخير لك أن تتخلى عنه وتنصرف إلى الانتقام من باكارا، فإنها علة مصابك، في حين أن أخاك لم يكن يريد لك إلا الخير، ثم إني لا بد لي من مقاومة باكارا للانتقام منها، ولخوفي من أن تحول دون ما أبغيه من القران بالإسبانية، فإن هذه المرأة قد أحبطت جميع آمالي حينما كنت الفيكونت دي كامبول، فأخشى أن تحول دون مقاصدي وتفسد علي أمري وأنا أدعى المركيز دي شمري.
وكان روكامبول يخشى باكارا وهو لا يعلم أنها في باريس، ولا يعلم كيف أنها تستطيع أن تحبط مساعيه في قرانه، وسنوضح كل ذلك في مكانه من هذه الرواية الهائلة.
6
ولا بد لنا قبل الخوض في حديث باكارا أن نذكر شيئا من حكاية هذا الدوق الإسباني وفتاته، لشدة علاقته بهذه الرواية، فنقول:
كان هذا الدوق من عظماء الإسبان وأعظم أغنياء تلك البلاد، ولم يكن له وريث غير فتاة بارعة في الأدب والجمال، فكان يقدم بها كل عام وبامرأته إلى باريس، فيقيم فيها ستة أشهر ثم يعود إلى بلاده.
وكان لهذا الدوق ابنا أخ، أحدهما يدعى الدون بادرو والثاني يدعى الدون جوزيف، ولما رأى أنه لم يرزقه الله مولودا ذكرا يرث اسمه النبيل، عزم على أن يزوج ابنته بابن أخيه الدوق، كي ينحصر الإرث بالعائلة.
وكان الدوق جوزيف يجيء معهم كل مرة إلى باريس، ويزورهم في كل يوم، فكان الناس يتحدثون أنه هو الذي سيتزوج الصبية، غير أنه تعاقب على هذه الزيارات عامان فجعل الناس يقولون إنه لا بد من حائل يحول دون هذا الزواج، فتهافت الخطاب على قصر الدوق وكلهم من علية القوم وكبار النبلاء، ولكن الفتاة كانت ترد جميع خطابها وتعتذر بأنها لا تزال صغيرة ولا رغبة لها بالزواج.
وكان الحائل بينهما مرض أخيه الدون بادرو، فإنه كان عليلا منذ أربعة أعوام، وقد أصيب بمرض غريب عضال عجز عنه الأطباء وقنط الدوق من سلامته، فانصرف بآماله إلى ابن أخيه الدوق جوزيف، وأراد أن يزوجه ابنته بعد وفاة أخيه لأنه كان يحبه، إلا أن الفتاة كانت تكرهه؛ لأنها كانت تحب أخاه، وكان كرهها له ظاهرا لم يخف على عين روكامبول النقادة، حتى إنها كانت إذا التقت في منزلها بروكامبول والدون جوزيف تظهر ميلها إلى روكامبول، وتنفر من ابن عمها بقدر ما تسمح لها قيود المجاملة وروابط النسب، ولولا حب أبيها له لما اقتصرت في النفور منه عند هذا الحد.
فترجح لدى روكامبول أنها تحبه، وكان كلما حاول أن يكاشفها بغرامه يستشير أندريا فيقول له: اصبر، فإن الثمرة لم تنضج بعد، وإذا كانت تكره ابن عمها وتحبك كما تقول، فلا بد أن يحملها كرهه وحبك إلى أن تكون البادئة في بثك هواها، وعند ذلك أجد لك حيلة لإقناع أبيها.
فيمتثل روكامبول ويقتصر على مناجاتها بلغة العيون، وهي أنفذ رسول إلى القلوب.
إلا أن نبوءة أندريا قد صدقت، فإنه لم يمض على ذلك أسبوع كان روكامبول لا ينقطع في خلاله عن زيارة الدوق، حتى لقيه خادم الفتاة يوما وهو خارج من منزلها ودفع إليه رسالة، ففضها روكامبول فإذا هي من ابنة الدوق تدعوه فيها إلى التنكر عند منتصف الليل، وموافاتها إلى حديقة القصر من باب سري أرسلت إليه مفاتيحه، فأخذ روكامبول الرسالة وأسرع إلى أندريا، وهو يكاد يطير من الفرح وأخبره بشأنها، فقال له بعد أن تأمل مليا (وكان يخاطبه بالكتابة): ليس هذا اللقاء لقاء غرام، فإن مثل ابنة الدوق لا تدعوك إليها عند انتصاف الليل إلا لأمر خطير، ومن هنا ستبدأ روايتك، فاحرص على أن تظهر أمامها بمظاهر كبار النبلاء، واحذر من أن تبدر منك بادرة أو أن يدفعك غرور الصبى إلى المجاهرة بما لا يستحب، فإن عظماء الإسبان شديدو التمسك بالشرف، ولهم فيه كثير من التقاليد، فلا يغفرون زلة.
فاتعظ روكامبول بمواعظ أستاذه، وغادره إلى النادي الذي يجتمع فيه بأصحابه، حتى إذا دنا الأجل المضروب ذهب إلى منزله السري فتنكر وانطلق إلى الحديقة، ففتح بابها بمفتاحه وجعل يمشي تحت أشجارها مشية السارق حتى بصر بها جالسة تنتظره على مقعد من الرخام في ظل شجرة، فتعارفا وجلس بالقرب منها وجعل يكلمها بملء الاحترام.
وبعد أن اعتذرت له بصوتها الرخيم عن الخطة التي سلكتها معه واجتماعها به في منتصف الليل في خلوة سرية، قالت له: إني لم أفعل ما فعلت إلا لثقتي بنبلك، وقد دعتني هذه الثقة إلى أن أعتمد عليك في أمل جلل، فهل تكون موضع ثقتي ؟ - بل سأكون من أخلص خدمك. - إذن خذ هذه الأوراق، فقد كتبت فيها تاريخ أسرتي وبعض حوادثها، فمتى وقفت عليها وتمعنت بها، تعد إلي لأخبرك بما أريد منك.
ثم أعطته الأوراق، فتناولها روكامبول قائلا: ومتى تأمريني أن أعود إليك؟ - غدا في مثل هذه الساعة. - أين نجتمع؟ - في هذا المكان.
وقبل روكامبول يدها ثم انحنى أمامها بملء الاحترام وخرج، فانطلق مسرعا إلى منزله السري، فخلع ثياب التنكر وذهب إلى قصره، وصعد إلى الغرفة التي ينام فيها أندريا فأيقظه وأخبره بما كان، وقال: اسمع كي أتلو عليك هذه الأوراق.
وجعل يقرأ عليه جميع ما كتبته الغادة الإسبانية.
وكانت خلاصة هذه الأوراق أن الفتاة أظهرت فيها أخلاق أبيها، وعزمه على أن تبقى ألقابه وأمواله منحصرة في أسرته، ولهذا فقد أراد تزويجها بالدون بادرو شقيق الدون جوزيف، ثم ذكرت أنها تهوى ابن عمها هذا، وأنه مريض منذ أربعة أعوام، وهنا أخذت تقص حكاية غريبة محصلها أن الدون جوزيف حسد أخاه الدون بادرو على خطبته لها وقرب تمتعه بأموال أبيها، فاتفق مع بدوية يهواها اسمها فاطمة دست السم لأخيه في الطعام، فأصيب على أثره بهذا الداء العياء، وقد ذكرت كيف وقفت على الدسيسة، فقالت إنها كانت جالسة في ليلة اشتد حرها تحت شجرة في حديقة قصر أبيها في إسبانيا، وبينما هي تستنشق النسيم من حفيف الأوراق، إذ سمعت صوت الدون جوزيف وفاطمة يتحدثان في تلك الحديقة دون أن يرياها، بشأن هذا السم وبدء أعراضه، فكانت تقول له فاطمة: طب نفسا، إن أخاك قد يعيش أربعة أعوام، ولكنه يعيش عليلا وتزداد علته في كل يوم إلى أن يتلاشى، فارتاعت الفتاة مما سمعت وأسرعت إلى ابن عمها، إلا أن الدون جوزيف حين رآها وعلم أنها سمعت حديثه مع فاطمة، انفرد بها وقص عليها قصة أفظع من هذه، وهي أن أباها الدوق قتل أخاه، أي والد الدون جوزيف قتلا سريا، وأن أباها لا يريد أن يزوجها بابن أخيه إلا ترضية له عما فعله بأبيه، ثم قال لها: إنك إذا بحت بسري بحت أنا بسر أبيك، فاختاري بين الفضيحتين.
ومما جاء في هذه الأوراق أن الدون بادرو حين رأى نفسه عليلا، وأن الأطباء عجزوا عن شفائه، التمس من عمه أن يزوج ابنته لأخيه الدون جوزيف، فأجابه الدوق إلى هذا الملتمس، وكان بينه وبين ابنته نزاع شديد أسفر عن اضطرار الفتاة إلى قبول الدون جوزيف زوجا لها بعد وفاة أخيه، وهي تعلل نفسها بأن تجد مخرجا لها من هذا الزواج الشائن، إلى أن علمت أخيرا بأن بادرو أصبح في حالة النزاع، وأنه لم يعد لها مناص من الزواج بهذا القاتل، فالتجأت إلى المركيز دي شمري وهي تؤمل أن يجد لها وسيلة تنقذها مما هي فيه.
هذا ملخص لأوراق الغادة الإسبانية، وكان روكامبول يتلوها معجبا بهذه الأسرار، وأندريا يصغي إليه أشد الإصغاء، حتى إذا أتم تلاوتها سأله: ماذا ترى؟
فكتب على اللوح الحجري يجيب: أرى أن يجب أن تقصر اهتمامك على اقتفاء أثر الدون جوزيف، والتربص له في كل مكان حتى تقف على جميع أسراره، فلا بد أن تكون حياته محاطة بالأسرار، ومتى تمكنت من الوقوف على شيء منها أسرع إلي وأخبرني. - وماذا أجيب الفتاة بعد تلاوة الأوراق؟ - اذهب إليها غدا في الوقت المعين، وأظهر لها أنك أهل لكتمان سرها وجدير بإعانتها، وانهج معها أحسن مناهج الاحترام.
فودعه روكامبول وولج إلى غرفته ونام نوم المطمئن، وفي الليلة التالية ذهب في الأجل المضروب إلى الحديقة، فلقيها تنتظره فبدأ معها بخطاب طويل أظهر لها فيه تأثره من مصابها وإكراه أبيها لها على زواجها برجل سفاك قاتل، ثم وعدها بأن ينقذها منه في أقرب حين، فأجفلت الفتاة وقالت: ألعلك تريد قتله بالمبارزة؟
فتنهد روكامبول وأجاب: أمجنون أنا فأقدم على قتله بمبارزة يتضح أمرها لجميع الناس، فتقصيني عنك؟
فتبسمت الفتاة وقالت: إني إذا كنت الآن بإخلاصي أحسن فتاة، فسأكون أحسن امرأة إذا نجوت من هذا القاتل. - اطمئني يا سيدتي، فلا يمر أسبوعان حتى يلقى جزاءه وتصبحين حرة مطلقة من عهود أبيك.
وإنما توغل بهذا الوعد لشدة ركونه إلى السير فيليام، واعتماده على قريحته الجهنمية، ثم قبل يدها باحترام وودعها وانصرف.
7
أما هذا الدون جوزيف فقد كان من دهاة الرجال، وكان عاشقا لامرأتين، إحداهما فاطمة النورية وهي التي شاركته في تسميم شقيقه، وقد أتى بها من إسبانيا إلى باريس، فأقامها في بيت محتجب في أحد الشوارع الحقيرة وحصرها فيه لغيرته عليها، بل لحذره من أن تختلط بالناس فتفشي سره، وكانت توافقه على هذا الاحتجاب لشدة شغفها به، فإنها لم يدفعها إلى مشاركته بالجريمة غير الحب، فكان يذهب إليها كل ليلة متنكرا في الساعة العاشرة، فيقيم عندها إلى منتصف الليل، وقد عين لخدمتها عبدا أسود وعجوزا، فكان هذان الخادمان رقيبين عليها.
أما المرأة الثانية فقد كانت من بنات الهوى، وهي محظية لأحد الأغنياء الروسيين، وقد اضطر هذا الفتى إلى السفر ثلاثة أشهر، وسمعت بإسراف الدون جوزيف وفرط ثروته وشدة دهائه، فأرادت أن تقتنصه بالخدعة واحتالت عليه حيلة غريبة، وهي أنها كتبت إليه كتابا دون توقيع قالت له فيه إن امرأة شريفة مشغوفة به تريد أن تحاذر أيضا من أن يعرف منزلها، فإذا أحب أن يأتي إليها معصوب العينين فلينتظر في شارع عينته له، إلى أن يوافيه خادمها الذي يعرفه فيأتي به إليها.
فلما وقف الدون جوزيف على هذا الكتاب هاج به شوق غريب إلى معرفة هذه المرأة؛ فقبل بشروطها وذهب إليها معصوب العينين.
فلما تقابلا رأى من جمالها وأدبها ودلائل انشغافها به ما أدهشه، ثم زاد ميلا إليها حين أخبرته أنها زوجة كونت روسي شديد الغيرة شرس الطباع، وأنه جاء بها من بلاده إلى فرنسا، وهي بها منذ زمن طويل دون أن تتمكن من معرفة أسرة من أسراتها، لفرط احتجابها وغيرة زوجها، ثم لفقت له حديثا طويلا أخبرته فيه أنها رأته في الأوبرا عدة مرات، وأنها علقت به وعرفت اسمه من وصيفتها، فما زالت صابرة على هواه إلى أن سافر زوجها حديثا فكتبت إليه هذا الكتاب.
وكان من أمره أنه عشقها عشقا مبرحا نسي بعده حبه لفاطمة، ولكنه لبث يزور فاطمة متنكرا كل ليلة، ويزور عشيقته الأخرى معصوب العينين، ويختلف إلى ابنة عمه في النهار لوثوقه بأنها ستكون امرأته بعد موت أخيه، الذي كانت ترد الأخبار عنه في كل بريد مشيرة إلى أنه أصبح على وشك الموت. •••
ولنعد الآن إلى روكامبول، فلقد تقدم لنا القول إن أندريا أشار عليه بمراقبة جوزيف، فامتثل لنصيحته وخرج في تلك الليلة إلى منزله السري، فتنكر وذهب إلى منزل الدوق الإسباني، فكمن له عند الباب في الزمن الذي يخرج فيه، ولم يطل انتظاره حتى رأى الدون جوزيف خارجا من المنزل وهو يمشي مطرق الرأس، فاقتفى أثره وجعل يتبعه إلى أن دخل إلى منزل، وكان هذا المنزل خاصا بالدون جوزيف، فصبر روكامبول وهو لا يعرف أنه منزله نحو نصف ساعة، إلى أن رآه خرج منه وقد غير زيه فلبس ملابس العمال، ووضع قبعة كبيرة على رأسه سترت بعض وجهه، غير أنه لم يخف على روكامبول وقال في نفسه: لقد صدق أندريا، فإن حياة هذا الرجل مكتنفة بالأسرار، فلأتعقبه.
وما زالا يسيران وكلاهما متنكر بزي يستر حقيقته عن العيون، حتى بلغ الدون جوزيف إلى منزل في شارع حقير، فأخذ مفتاحا من جيبه وفتح به باب المنزل، ثم ولج إليه من دهليز طويل، فقال روكامبول: لا شك أن له خليلة في هذا المنزل يغار عليها.
وأقام يتخطر ذهابا وإيابا في ذلك الشارع وهو يراقب الباب، إلى أن عيل صبره وانتصف الليل، وعند ذلك سمع صرير المفتاح في قفل الباب، فرأى الدون جوزيف خارجا منه وسمع صوت فتاة تودعه ألطف وداع.
فقال روكامبول في نفسه: إن الليل قد انتصف وهو عائد لا شك إلى منزله، فلأدعه يذهب في شأنه ولأفحص هذا البيت.
ثم دنا من المنزل، فقرأ نمرته وجعل يرود في أكنافه، حتى علم جميع ما ينبغي أن يعلمه، ثم عاد إلى أندريا وأخبره بكل شيء، وتلقن منه التعليمات اللازمة.
8
مضى على ذلك يومان، لم تفتر فيهما همة روكامبول عن تعقب الدون جوزيف والوقوف على دخائل منزل فاطمة، وكانت تنتظر عشيقها الإسباني في كل ليلة.
ولقد يتبادر إلى الذهن حين ذكر هذه النورية أنها كانت عجوز شمطاء، ترجم بالغيب وتكشف المخبئات، شأن أمثالها من النوريات، غير أنها كانت فتاة باهرة الجمال غضة الصبى، وكانت في بدء عهدها راقصة في المسارح، فطافت أوروبا ورقصت بمسارح العواصم الكبرى، فكانت تحوم حولها الأبصار إلى أن رآها الدون جوزيف، فعلق بها وما زال بها حتى شغفت بهواه وتركت المسارح من أجله، فكانت ساكنة في إسبانيا، وإذا قدم إلى باريس قدمت معه إليها.
وكان الدون جوزيف قد تأخر تلك الليلة عن ميعادها، فلما جاءها استقبلته عاتبة غضبى لتأخره، فأنكر عليها عتابها ودار بينهما الحديث الآتي فقالت النورية: لقد طال غيابك حتى حسبت أنك غير عازم على الحضور. - أسبق لي عهد أيتها الحبيبة بالتخلف عنك؟ - ذلك أكيد، ولكني لا أنكر عليك ما أشعر به من الغيرة. - أتغارين علي؟ وممن تغارين؟ - أغار عليك من كل مجتمع تختلط به ولا أستطيع أن أكون معك، بل أغار من خدمك الذين يستطيعون أن يروك في كل حين، بل أغار عليك منك ومن الهواء الذي تتنشقه، بل ...
فقاطعها الدون جوزيف وقال ضاحكا: ما هذا الجنون؟ - هو جنون كما تقول، ولكنك لو كنت مثلي سجينا في هذا المنزل، بل في القفص المذهب، وقد خطر عليك الخروج منه ومنعت من الوقوف في المشرف ومن الإطلال من النافذة، وكنت أنا في مكانك أتنشق الهواء المطلق، وأعاشر من أردت، وأعرض جمالي على جميع الناس، أما كنت تغار علي؟ - ربما، ولكنك تعلمين أني لا أحب سواك في هذا الوجود.
فقالت له بصوت المتهكم: حتى خطيبتك؟
فهز كتفيه وقال: ألعلك تعلمين أنها تكرهني وتحتقرني، ثم أتظنين بأنها تغفر لي قتل أخي خطيبها، وإذا غفرت لي، فهل أغفر لها ذلك الكره؟ - إني أرجو على الأقل أن لا يحصل هذا الغفران. - اطمئني أيتها الحبيبة، وثقي بأني لا أتزوجها إلا لطمعي بمركز أبيها؛ إذ لا أحب سواك. - إني أصدقك في جميع ما تقول حين تكون بقربي، وحين تنظر إلي عيناك الجميلتان، ولكنك حين تكون بعيدا عني فإخال أن النساء الجميلات يحطن بك من كل جانب، ولا أتمنى إلا أن يكون لهؤلاء النساء رأس واحد.
فقال الدون جوزيف باسما: لماذا؟ - لأقطع هذا الرأس. - إذن فأنت تعيسة في باريس؟ - نعم، ولا سيما حينما أكون بعيدة عنك، فإني أذكر أيامي الماضية وأسري الحاضر، إلى أن تجهش عيناي بالبكاء، ولكني لا آسف لتلك الأيام الخوالي؛ لأني أحبك، ولا أطلب الخلاص من أسري؛ لأنك بقربي، غير أني لم أعد أطيق الإقامة في باريس، لشدة ما ألاقيه من متاعب الوحدة والضجر. - صبرا أيتها الفتاة، فإننا سنبرحها في القريب العاجل، فتعودين إلى ربوعك.
فسرت البدوية وقالت: أحق ما تقول؟ ومتى نبرحها؟ والى أين نسافر؟ - إلى قاديكس.
فأمعنت الفتاة وقالت: لقد علمت الآن السبب في رجوعك، أليس هو لأن أخاك الدون بادرو على فراش الموت؟
فابتسم الدون جوزيف ابتساما هائلا دون أن يجيب، فقالت له النورية: لو لم أحبك أبلغ حب لما ارتكبت معك جريمة تسميم أخيك.
وفيما هي تكلمه نظرت إلى منديل كان يعبث به بيده، ورأت حرفين مكتوبين عليه، فأجفلت أيما إجفال، واستحالت تلك الغزالة الأنيسة إلى لبؤة ثائرة، فاختطفت المنديل من يده، وركضت إلى المستوقد وأخذت خنجرا كان عليه، فجردته من الغمد وهي تقول: أيها الخائن، قل من أية امرأة وصل إليك هذا المنديل، أو أشك هذا الخنجر بصدرك؟
فاصفر وجه الإسباني وتلعثم لسانه، ثم قال قولا متقطعا: إنه منديلي. - كذبت، فإنه منديل امرأة، وما هذان الحرفان المكتوبان فيه من حروف اسمك؟
فتمالك روعه وقال: صدقت، ولكنك لو أمعنت النظر بهما لعلمت من هي صاحبة المنديل. - قل من هي وإلا قتلتك، فإنك لم تعرف بعد من أنا.
فضحك الدون جوزيف ضحكا عاليا وقال: إنك مجنونة دون شك، ألا ترين هذين الحرفين يوافقان الحرفين الأولين من اسم خطيبتي؟
فأعادت فاطمة النظر إليهما ثم سقط الخنجر من يدها، وقالت: إنك فزت بإيجاد هذا البرهان، وإلا فإنك كنت في عداد الأموات. - إن البرهان لم أتكلف إيجاده، فإن ما قلته هو الحق، وفوق ذلك فإني لا أخاف وعيدك. - لقد أخطأت في عدم خوفك، فإنك تذكر دون شك حين أحببتك، ورضيت أن أودع جميع ملاذ الحياة، وأكون عبدة لك، ذلك القسم الذي قسمته وهو أني متى رأيت دليلا على خيانتك أقتلك دون إشفاق. - أذكر. - أتحسب أني أحنث بيميني؟ - كلا. - إنك مهما انغمست في الشر والخيانة، لا بد أن تكون مؤمنا بالله، فإذا كان ذلك فأقسم لي بهذا الإله الذي نعبده نحن البدويات، إنك لم تخن عهدي. - أقسم لك بالله إني ما خنتك ولا أخونك. - ولكني رأيت في الليلة السابقة حلما لا أزال موجسة شرا منه إلى الآن؛ وهو أني رأيتك في مرقص تخاصر امرأة، وأنك كنت تحب هذه المرأة وتهمس في أذنها أحاديث الغرام. - وهل تصدقين الأحلام؟ - وهل أنا إلا نورية؟ - صدقت، فإنكم السابقون في حلبة الأوهام، ولكن هذه الفتاة التي تمثلت لك أني أخاصرها في الحلم لا يمكن أن تكون إلا أنت. - كلا، فإنها كانت لابسة صليبا في عنقها، وما أنا بمسيحية فألبس صليبا! - إذن فإن حلمك كاذب؛ لأني لا أحب سواك. - يمكن أن يكون كلامك صادقا.
فضاق صدره من كثرة غيرتها وقال: نعم، فماذا تريدين بعد ذلك؟
فاستاءت لجوابه وقالت: أريد أن تعلم أن الوثاق الذي بيننا لا يحل. - ذلك لا ريب، فإنه وثاق الحب. - كلا، بل وثاق الجريمة، وأصغ إلي الآن فإنك كنت مطلقا من هذا الوثاق إلى اليوم الذي دفعني فيه هواك إلى الاشتراك معك بقتل أخيك، أما الآن وقد غمست يدي في دمه كي تحظى بخطيبته، فلم يعد لك براح من يدي، وأصبحت لي بجملتك كما أنا لك بجملتي، وذلك إلى آخر العهود، فإن قيود الجرائم لا تحل. - ما دخل الجرائم الآن بيننا، وما بالك لا تحدثيني بأحاديث الغرام؛ إذ هي ألذ للسمع من هذه الأحاديث، وفوق ذلك فما أنا قتلت أخي ولا أنت، بل إخوتك الذين دسوا له السم في الدسم. - صدقت فإنهم أشرار يرتكبون كل ذنب من أجل المال، ثم إنهم لم يقتلوه من تلقاء أنفسهم، بل كان ذلك بمالك وبواسطتي، فنحن القاتلان، وإني إذا أمرتهم أن يقتلوك فلا يتأخرون، وأقول ذلك تحذيرا لك من خيانتي.
فنهض الدون جوزيف وقال: لا شك أنك جننت لعدم ثقتك بي وباليمين التي حلفتها.
ثم التف بردائه وقبل جبينها وخرج، فخرجت معه وشيعته إلى الباب، فذهب وهو يقول في نفسه: إن هذه المرأة واقفة على سري، وهي تنذرني في كل حين؛ فلا بد إذن من قتلها.
أما فاطمة فإنها وقفت هنيهة على الباب تشيعه بالنظر حتى بعد عنها، فعادت إلى القاعة التي كانت فيها، ولكنها ما لبثت أن دخلت إليها حتى تراجعت منذعرة؛ لأنها رأت فيها رجلا كأنه قد صعد إليها من جوف الأرض، لأن المنزل ليس له غير باب واحد.
وكان هذا الرجل واقفا وسط الغرفة، وهو مشهر الخنجر الذي سقط من يد النورية، فذعرت المرأة وقالت له: من أنت؟ - صديق. - وماذا تريد مني؟ - أريد أن أكلمك عن الدون جوزيف.
ثم أشار إليها إشارة الآمر أن تقفل الباب، فامتثلت فاطمة لما تولاها من الرعب، وأقفلت الباب وعادت إليه وقالت: قل ماذا تريد مني؟ إني مصغية.
ثم دار بينهما الحديث الآتي، فقال الرجل الغريب: أتدعين فاطمة؟ وأنت خليلة الدون جوزيف؟ - نعم، ألعلك تعرفه؟ - إني أعرف المرأة التي يحبها ويخونك من أجلها.
فاحتدمت فاطمة غيظا وهاجت مكامن غيرتها، فقالت له: إنك كاذب فيما تقول. - أصغي الآن فإني متى بحت لك بأسرار تحسبين أنك واقفة عليها وحدك، تثقي حينئذ بأقوالي. - قل فإني مصغية إليك. - فاطمة، إن للدون جوزيف أخا يدعى بادرو.
فقالت وهي تضطرب: أتعرفه أيضا؟ - ربما، وإن هذا الأخ في حالة النزع الآن وسيموت قريبا، أي إنه سيموت مسموما والناس يحسبون أنه مصاب بمرض شديد.
فرفعت فاطمة عينيها إلى هذا الرجل ونظرت إليه نظرة انذهال وهي تقول: أتعرف هذا السر؟ - أعرف أنك والدون جوزيف قتلتما الدون بادرو.
فركعت فاطمة أمامه وقالت: عفوا ومرحمة. كأن هذا الرجل قاضيا، وكأنها في موقف قضاء.
فضحك الرجل ضحكا عاليا ثم قال: إن هذا الأمر لا يعنيني، وسيان عندي إذا عاش الدون بادرو أو مات فلا تخافي. - إذن فماذا تريد مني؟ - أما كنت تقولين الآن للدون جوزيف ... - وكيف عرفت؟ أكنت معنا؟ - لا تهتمي بذلك ويكفي أني عرفت، والآن أما كنت تقولين له: إنك إذا خنتني أغمد خنجري في صدرك. - نعم، قلت هذا القول وأقسمت على قتله إذا خانني. - إذن، إذا كنت تبرين باليمين التي حلفتيها، فإني أريك الدون جوزيف يخاصر المرأة التي يحبها.
فهاجت الغيرة في فؤادها وقالت: متى وفي أي مكان؟ - بعد ثمانية أيام في حفلة راقصة. - ماذا أسمع؟ إن ما تقوله قد رأيته في الحلم، ومن عسى تكون أيها الرجل، ألعلك شيطان؟
فضحك وقال: ربما. - أنت الشيطان نفسه. - وماذا يفيدك أيتها الفتاة أن تعلمي إذا كنت الشيطان نفسه؟
وكان يقول هذا القول وهو ينظر إليها نظرات غريبة ويضحك، فخافت الفتاة وحاولت الهرب.
فأسرع وأجلسها على كرسيها وقال: لماذا تخافين مني وأنا صديق لك؟ - أنت صديقي؟ - نعم. - ولكني لم أرك في حياتي. - أما أنا فقد عرفتك منذ عهد طويل، وها أنا أقص عليك أمرك مع الدون جوزيف؛ فإنك جئت إلى باريس منذ عام؛ لأن الدون جوزيف كان فيها. - هذا أكيد. - وكان هذا الإسباني يحبك في هذا العهد ويغار عليك من العيون، فأمرك أن تدخلي إلى باريس في ظلام الليل. - وهذا أكيد. - وإنك تقيمين في هذا المنزل مع امرأة عجوز كانت حاضنة لك، ومع خادم أسود، وقد كان الاثنان في خدمتك حينما كنت في إسبانيا، وكانا يخدمانك في أغراضك الغرامية قبل أن تحبي الدون جوزيف. - وهذا أيضا أكيد. - والآن فإن الدون جوزيف قد اشتراهما بالمال، فباتا أطوع له من البنان. - وهل يخدعانني؟ - ستعلمين ذلك فيما بعد، والآن فأصغي إلي، إنك منذ عام أي منذ دخولك إلى هذا المنزل، لم يدخل إليه إلا الدون جوزيف؛ وذلك لفرط انشغافك فيه، أما حاضنتك فهي تشيع أمام جيران منزلك أنك مصابة بداء السرطان، وأنك جئت إلى باريس كي تتعالجي فيه، وهم يحسبون أنك طريحة الفراش منذ ذلك العهد إلى الآن؛ لأنهم لم يروك. والآن فهل كفاك ما قلته لك؟ وهل تثقين بكلامي؟ - لا بد لي من هذه الثقة؛ لأني أراك واقفا على جميع أسراري. - وإذا ثبت لك أن الدون جوزيف يهوى سواك ويخونك أتصدقين؟ - ربما صدقتك ووثقت من أقوالك، إلا أنه لا بد من البرهان في كل حال. - سأقدم لك هذا البرهان بعد ثمانية أيام.
فأطرقت فاطمة برأسها إلى الأرض ولم تجب، فقال لها الرجل باحتقار: لقد أخطأ ظني بك، فلقد كنت أحسب أن لك قلبا يتأثر ويلذ له الانتقام، ألم تقولي إنك عازمة على قتل الدون جوزيف إذا أثبت لك خيانته، فما بالك الآن ضعفت وأصبحت على وشك الإغماء؟ - إنك منخدع بي، ولا تعلم من أنا.
فابتسم ابتسام الهازئ المستخف وقال: بل أعرفك حق العرفان، فإنك امرأة ضعيفة تقيد فؤادها بسلاسل الغرام. - قلت لك إن فراستك قد أخطأت بي، فإنك ترى بشرتي تشف عن العروق الزرقاء، ولكن تحت هذه العروق أعصاب قدت من الفولاذ، وإن اليوم الذي تطعن يدي صدر الدون جوزيف بخنجر، يخترق هذا الخنجر صدره النصاب. - هذا الذي كنت أود أن أسمعه منك. - إنما هات برهانك على خيانته، وأنا أقتله لا محالة. - لا أصدقك إلا إذا أقسمت.
فرفعت النورية يدها باحترام ثم قالت: إننا معشر النور لنا ديانة سرية لا تشبه الدين المسيحي ولا الإسلامي في شيء، وقد تلقنت أسرار هذه الديانة التي يجلها جميع الناس لحرص النور على كتمانها، وأنا أجلها كل الإجلال؛ ولذلك فإن كل نوري يقسم بمعتقده السري، وهو لا يحنث بيمينه ولو دفعه البر به إلى الموت، فأنا أقسم لك بمعتقد آبائي وبهذه الديانة السرية التي لا يحق لنا الإباحة بسرها إلا لمن يعتقد بها، أنني أطعن الدون جوزيف بخنجري حين أراه مع غريمتي. - إذن، فإني أثق بقولك بعد هذا اليمين. - وأنا أنتظر البرهان. - سترينه، غير أنه يجب أن تعلمي أن الانتقام لا يفلح إلا حين يسير مع صفة ينبغي أن تكون ملازمة له وهي الحكمة، ثم إنه يجب أن يكون الانتقام مقرونا بالكتمان. - أعرف ذلك. - وينبغي أن تكوني دائما باسمة الثغر طلقة المحيا، كي لا يداخله فيك أقل ريب، واعلمي أنه لم يرني أحد دخلت إليك، ولا يعرف أحد الطريق التي سلكتها، وسأعود إليك لأراك بعد ثلاثة أيام. - أتعود إلي بالبرهان؟ - ربما. - إذن، فسأتكل عليك. - أصغي إلي، فإني لم أتم نصيحتي بعد، واحذري من الحاضنة ومن هذا الخادم الأسود كما تحذرين من الموت. - لماذا؟ - ستعلمين ذلك فيما بعد؛ إذ لا أستطيع أن أخبرك به اليوم. ثم ذهب إلى المستوقد وكان عليه آنية صينية فرفعها وقال لها: إني سأضع لك في كل ليلة رسالة تحت هذه الآنية في الوقت الذي تنتظرين فيه قدوم الدون جوزيف، فاقرئيها تجدي بها تعليماتي، والآن فإني منصرف ولا يجب أن تعرفي كيف أذهب وكيف أتيت.
ثم أخذ من جيبه عصابة حمراء وقال لها: يجب أن أعصب عينيك.
وتعاظم ذهول النورية، ولكنها لم يسعها إلا الامتثال فقالت: افعل.
فعصب عينيها وقال لها: عدي على أصابعك إلى المائة والخمسين، ومتى أكملت عدها ارفعي العصابة.
وجعلت تعد على أصابعها إلى أن أتمت العد، فأزاحت العصابة فما رأت أمامها أحدا، فرفعت يديها إلى السماء وقالت: لا شك أنه شيطان.
9
في الساعة العاشرة من الليلة التالية ذكرت فاطمة وصية ذلك الرجل الذي باتت تعتقد أنه الشيطان، ورفعت الآنية عن المستوقد ووجدت تحته رسالة وحقا صغيرا، فخفق فؤادها ولم يعد لديها شك أنه الشيطان بعينه، ثم فتحت الرسالة فرأت مكتوبا فيها ما يأتي:
إنك تجدين بجانب هذه الرسالة حقا صغيرا فيه رشاش أبيض، ذوبيه في كأس واشربيه، وإذا لم تفعلي حين اطلاعك على الرسالة وقبل مجيء الدون جوزيف، فإنك مائتة لا محالة.
ففتحت فاطمة الحق ووجدت فيه ذلك الرشاش، فما ترددت عن شربه، ولم يكن امتثالها حذرا من الموت كما جاء في الرسالة، غير أنها قالت في نفسها: إن هذا الرجل الذي تمثل لي لم يكن إلا الشيطان بعينه، وهو الذي أرسل لي هذا الرشاش لقصد أجهله، ولكن لا شك عندي بأن الشيطان يحميني، فإنه معبودنا نحن معاشر النور الذي لا نعبد سواه.
ولم تكد تشرب الرشاش مندفعة إلى شربه باعتقادها أنه مرسل إليها من معبودها، حتى سمعت وقع أقدام الدون جوزيف فوجف فؤادها؛ لأنها باتت واثقة من أنه يخونها، وخطر لها أن تفتك به، ولكنها ذكرت وصية الذي تعتقده الشيطان، فهدأت روعها واستقبلت عشيقها بمظاهر البشر والسرور.
أما الدون جوزيف فإنه لم يستقر به المقام حتى أخرج من جيبه زجاجة وقال: لقد وردني اليوم هذا الشراب من إسبانيا، وهو من أفخر أنواع الشراب.
ثم نادى الخادم وقال: أحضر كأسين، فإني أريد أن أشاطرها الشراب. •••
ولنعد الآن خطوة إلى الوراء لنبسط ما كان من الدون جوزيف بعد أن غادر فاطمة، فإنه خرج من عندها مغضبا عليها، وقد عول على قتلها لأمرين: أنه لم يعد يحبها بعد أن نشبت في فؤاده مخالب تلك المرأة التي كانت تدعي أنها زوجة الكونت الروسي، والثاني أنه بات يخافها خوفا شديدا، ولا يجسر على تركها؛ لأنها واقفة على جميع أسراره.
وكان لهذا الإسباني خادم بل مستشار يدعى زامبا، وحكاية هذا الخادم أنه حكم عليه بالإعدام في إسبانيا لجريمة ارتكبها، ففر من القضاء والتجأ إلى الدون جوزيف، فأمنه وأدخله في خدمته، وعند ذلك تنكر هذا الخادم كي لا تعرفه الشرطة، وأصبح مقيدا بجريمته وبات أطوع للدون من بنانه.
وكان الدون جوزيف يثق به ثقة شديدة، لوثوقه من أنه لا يستطيع خيانته حذرا من أن يسلمه مولاه إلى القضاء، وكان يأتمنه على أسراره ويستخدمه في جميع أغراضه، حتى أصبح مع مرور الأيام مستشارا في السر، وهو في الظاهر خادم غرفته، وذلك لما لقيه من رجاحة عقله وحسن استنباطه وشدة مقدرته في المكر والدهاء.
ولما برح الدون جوزيف منزل فاطمة ذهب إلى منزله، فلقي فيه خادمه زامبا ينتظره، وحكى له ما كان من أمر فاطمة وتصميمه على قتلها، فأشار عليه زامبا أن يقتلها بالسم، وأعطاه سما قاتلا مزجه بذلك الشراب الذي حاول الدون جوزيف أن يشرب ويسقي فاطمة منه.
أما فاطمة فإنها أخذت الزجاجة وفضت ختمها بيدها، ثم صبت شرابها بالكأسين وأخذت كأسها، ولما أدنته من فمها داخلها الشك وقالت في نفسها: إنه ربما كان يريد تسميمي. ولكنها اطمأنت حين رأته قد شرب ما في الكأس وشربت كأسها.
وأقام عندها يحدثها بأطيب الأحاديث، وهي تجامله أحسن مجاملة، إلى أن انتصف الليل فودعها وهو يقول: إياك والغيرة علي؛ لأني لا أحب سواك في هذا الوجود.
ثم خرج، ولما صار في الطريق رثى لتلك الفتاة وقال: مسكينة، أنها ستموت في عنفوان الشباب، ولكني لم أقتلها إلا عملا بناموس تنازع البقاء؛ إذ لم يكن بد لأحدنا من الموت.
وكانت فاطمة قد خرجت معه حسب عادتها إلى الباب الخارجي، ولما عادت إلى القاعة التي كان فيها، تراجعت منذعرة لأنها رأت فيها ذلك الرجل الذي كانت تعتقد أنه الشيطان، وكان جالسا على المقعد ينتظر عودتها، فمد يده دون أن يحفل بانذعارها إلى الزجاجة وقال لها: أشربت من هذا الشراب؟ - نعم.
وكان معلقا بالجدار قفص فيه ببغاء جميل، فقام إلى القفص وأخرج منه الببغاء، ثم أخذ قطعة سكر عن المائدة وصب فوقها بضع نقط من فضلة الكأس التي شربت منه فاطمة وقدمها للببغاء، فأكلها وقالت له فاطمة وقد عجبت لصنعه: ماذا تفعل؟
ولم يجبها، ولكنه أشار بيده إلى الببغاء، فرأت أنه جعل يصفق بجناحيه برهة، ثم انقلب مائتا لا حراك به.
وقال لها الرجل عند ذلك: إن هذا الشراب يقتل الإنسان بليلة، فإن الدون جوزيف قد سقاك أقتل السموم، وهو إنما أراد قتلك كي يخلو له الجو مع التي يحبها.
فصاحت صيحة منكرة ثم قالت: لا بأس، فإني سأحيا إلى الغد وأقتله. - وأية فائدة لك من قتله إذا كان قد شرب السم معك، فلا بد له أن يموت حين تموتين. - لقد أصبت، ولكن لماذا قتلني إذا كان يريد أن يموت هو أيضا؟ لقد طاش رأسي في بوادي هذه الأسرار.
فضحك من اضطرابها وقال: إن كشف النقاب عن هذا السر سهل ميسور، وهو أنه شرب ضد السم الذي سقاك إياه قبل أن يشربه، فشرب وهو آمن مطمئن. - أواه! لقد عرفت الآن كل شيء، ولكنه لم يحسب حساب خنجري، وإذا لم يكن لي بد من الموت ...
فقاطعها وقال: لقد أخطأت أيضا، فإنك لا تموتين. - كيف لا أموت وقد شربت هذا السم، ورأيت فعله في الببغاء؟ - ذلك لأنك شربت ضد السم، وهو الرشاش الأبيض الذي وضعته تحت الآنية.
فركعت فاطمة وقد رسخ في ذهنها أنه الشيطان، وقالت له: لقد علمت أنك أبي. - كيف ذلك؟ - ألست الشيطان؟
فأدرك في الحال اعتقادها وقال: ربما، وفي كل حال فأنت مدينة لي بحياتك وبانتقامك من هذا السفاك. - سأقتله دون رحمة؛ إذ قد ثبت لي الآن أنه كان يريد قتلي، فبرهن لي عن خيانته، واذكر لي اسم تلك الخليلة التي يهواها لتعلم أني أبر بيميني. - سترين هذا البرهان قريبا.
فقالت له بإلحاح: متى؟ فقد نفد صبري عن قتل هذا الخائن. - صبرا، فإن الساعة قد دنت وأصغي إلي، فإن هذا الخائن قد سقاك السم بيده، وعلم أنك مائتة في الغد، ولكنه لم يخجل من أن يمد يده إلى وداعك ويقول لك: إلى الغد. وهو يعلم أنه سيراك جثة باردة، فإذا رآك غدا حية ترزقين فلا بد له من أن يسعى في قتلك بطريقة أخرى، وإذا رأى أن السم لم ينجح فهو سيلجأ إلى الخنجر، ولكن لا تخشي فإني بقربك أحميك، إنما يجب أن تتمي تمثيل دورك. - كيف ذلك؟ - ذلك أن تظهري له الحنو والانعطاف، وتبالغي بإظهار الغرام كما كنت تصنعين من قبل. - ولكنه سيعلم أني شربت ضد السم. - ذلك لا ريب فيه، وهو سيتهم خادمه؛ لأنه لا يعلم مقدرتي وسلطاني، ولكنك ستزيلين شكه فتنامي غدا إلى الساعة الثالثة بعد الظهر، فإذا جاء الدون جوزيف أظهري له أنك تشكين ألما في الرأس وتثاقلا في الأجفان، ثم تقولين له إنك شربت أفيونا، وإن ذلك من تأثير الأفيون، فإن الأفيون يكون ترياقا لبعض السموم. والآن فإني ذاهب فاقتربي مني لأعصب عينيك، ولا تنسي أن تبقي العصابة إلى أن تعدي مائة وخمسين.
ثم عصب عينيها وقال لها: احذري من خادميك أشد الحذر.
10
كان من عادة الدون جوزيف أنه متى خرج من منزل فاطمة يعود إلى منزله، فيتنكر بزي جديد، ثم يأخذ خادمه زامبا ويذهب إلى شارع مقفر، فيرى هناك رجلا ينتظره بمركبة فيطلق سراح زامبا ويدنو من الرجل، فيعصب عينيه ويسير به إلى تلك المرأة التي كان يهواها، وهي إحدى بنات الهوى كما قدمناه، غير أنها كانت توهم الدون جوزيف أنها امرأة كونت، وأنها تعصب عينيه كي لا يعرف منزلها فلا يزورها إلا حين تدعوه إليها، مغتنمة فرصة خلو المنزل.
وكان الدون جوزيف قد ولع بالفتاة وأحبها حبا عظيما ليس بعده حب لمعشوق، وقد علمت من سائق مركبتها أن الدون جوزيف كان يأتي إلى الشارع المقفر مصحوبا بخادمه، فأنكرت عليه صحبة الخادم حذرا من أن يقف على شيء من سرها، وأكد لها أنه واثق منه، واندفع مع تيار حبه فباح لها بسر هذا الخادم، وكيف أنه محكوم عليه بالإعدام في إسبانيا، وقد هرب من الموت ولجأ إليه، فدخل في خدمته بعد أن تنكر بحيث بات آمنا منه أشد الأمان.
ويذكر القراء أن روكامبول عندما أخبر أستاذه أندريا بالكتاب الذي أرسلته إليه ابنة الدوق قال له: يجب أن تقتفي أثر الدون جوزيف وتترصده حتى تقف على جميع أسراره، وأن روكامبول تبعه مرة فعلم أنه يذهب متنكرا إلى فاطمة، ثم تبعه في ليلة أخرى فرآه قد عاد إلى منزله، فتنكر بزي جديد وذهب إلى ذلك الشارع المقفر الذي كان ينتظره فيه السائق، ثم رأى أن السائق قد عصب عينيه وسار به في مركبته، فركب مركبة وسار في إثره حتى عرف المنزل الذي دخل إليه، وفي الليلة نفسها عرف صاحبة ذلك المنزل، وعاد إلى أستاذه فأخبره بجميع ما رآه وتزود بتعليماته.
وفي اليوم التالي ذهب إلى تلك الفتاة وهو متنكر وأخبرها بما رآه، ثم اتفق وإياها على أن تخدمه في بلوغ أغراضه من الدون جوزيف، وفي مقابل ذلك فإنه يطلق لها السراح بسلبه على ما تشاء ويزيدها من عنده مبلغا من ماله، فرأت هذه المومس أنه قد وقف على سرها، وأن شروطه موافقة لها، فرضيت بها في الحال وأخبرته بجميع ما عرفت من أسرار الدون جوزيف، وفي جملتها سر خادمه زامبا.
فعلمها روكامبول ما ينبغي أن تصنع، ثم تركها ومضى إلى لقاء زامبا، فترصده أمام منزل سيده إلى أن خرج فناداه وقال له: أنت الذي يدعى زامبا؟ - نعم. - أنت في خدمة الدون جوزيف؟ - نعم. - وهل أنت مخلص له؟ - دون شك. - إذن تعال معي إلى هذه القهوة القريبة، فإني أحب أن أحدثك بأمر خطير.
فامتثل له زامبا، وسار الاثنان إلى قهوة قريبة فجلسا بمكان منفرد منها ودار بينهما الحديث الآتي، فقال روكامبول: إنك تدعى زامبا كما تقول، وأما الدون جوزيف فقد جعلك في خدمته كي تنجو من الإعدام.
فاختلج فؤاد زامبا ووهت رجلاه حتى أوشك أن يسقط على الأرض؛ إذ لم يخطر في باله أن الدون جوزيف يبوح بسره لأحد، فقال روكامبول: إنه لم يمض على فرارك غير ستة أعوام، وهذه المدة غير كافية لإنقاذك من حكم الإعدام؛ أي إن كلمة واحدة تصدر مني إلى بوليس باريس تدعه يقبض عليك ويسلمك مكتوف اليدين إلى الحكومة الإسبانية، فينفذ فيك الإعدام، ومهما يكن من نفوذ مولاك فإنه لا يستطيع إنقاذك. - قل ما تريد مني. وقد علم أن هذا الرجل لا يبيعه حياته بثمن بخس. - يوجد اثنان بأيديهما حياتك أو مماتك، الأول هو الدون جوزيف. - والثاني؟ - هو أنا، اعلم الآن أن الدون جوزيف لم يكتم سرك، ودليل ذلك أني أعرفه.
فتهدد زامبا الفضاء بقبضته وقال: سأنتقم شر انتقام. - إذن فإن إخلاصك له لا يدوم. - كيف تريد أن يدوم بعد هذه الخيانة؟ - وإذ كنت تخلص له في الخدمة، فما ذلك إلا من قبيل الخوف. - هذا لا ريب فيه. - وإذا طلبت إليك أن تخونه. - أنت؟
فابتسم روكامبول وقال: نعم أنا، إني أشد من الدون جوزيف، وأريد أن أسحقه ولا أستطيع أن أصل إلى هذه الغاية إلا إذا ساعدتني عليها، ولا تحسب أني سأعتمد على هذا السر الذي أعلمه عنك فأبخسك حقك، بل إني أدفع لك فوق ما تطمع به، ولنبدأ الآن بالحساب، فقل لي كم يبلغ كسبك من الدون جوزيف. - ألف ريال في العام. - وكم تسرق منه؟ - عشرة آلاف فرنك على الأقل. - وماذا تؤمل منه؟ - إني أرجو متى تزوج الدوق أن أكون مدير منزله، فأمر بأمواله كما أشاء. - إن أملك سيحبط؛ لأن الدوق جوزيف لن يتزوج ابنة الدوق، وإذا تزوجها فإنه يقتل في ليلة الزفاف.
وبرقت عين زامبا وجعل يتأمل روكامبول تأمل لص يختبر لصا مثله، وأدرك أن محدثه أشد منه دهاء، غير أنه لم يخطر له أن الذي يريد قتل الدون جوزيف هو نفس ذاك الطامع بزواج ابنة الدوق، بل أيقن أن هذا الرجل يخلص إخلاصا عظيما لتلك المرأة البولونية التي يهواها الدون جوزيف، وأن الغيرة قد دفعته إلى استخدامه.
وقال روكامبول: إنه إذا بقي الدون جوزيف حيا فهو لا يعلم شيئا من خيانتك، وإذا مات تقبض من المال ما يعزيك عن فقده، واعلم الآن أنه متى أخبرتني بما يصنعه مولاك في شارع روشة كل ليلة أنقدك عشرة آلاف فرنك، ومتى أصبح زواج الدون جوزيف بابنة الدوق مستحيلا أدفع لك مائة ألف فرنك، وفي خلال ذاك فإني أدفع لك راتبا قدره ألف فرنك في كل شهر.
ثم أخذ ورقة قيمتها ألف فرنك وقال: هذه الورقة على الحساب.
وعند ذاك أخبره زامبا بحديث فاطمة، فما أبقى على شيء من أسرار العاشقين، وكان روكامبول يصغي إليه أشد الإصغاء، ولما فرغ من حديثه سأله عن المواعيد التي يذهب بها إليها، وعن مداخل المنزل، وأخبره بكل شيء وزاد عليه أنه يوجد في منزلها مدخل سري لا يعرفه غير زامبا والدون جوزيف؛ وذاك لأن الدون جوزيف كان شديد الغيرة عليها حين قدمت إلى باريس، ولم يكتف بالخادمين الذين وضعهما في منزلها جواسيس عليها، بل إنه بنى ذاك المنفذ إلى غرفة نومها، وجعل بينه وبين الجدار محلا سريا يقف فيه فيسمع كل حديث يجري في الغرفة دون أن يراه أحد، وإذا أراد الدخول إلى الغرفة ضغط على زر فينفتح باب يؤدي إلى الغرفة.
وقال له روكامبول: أريد أن تذهب بي إلى هذا المنفذ وتجعلني بذاك المكان السري. - متى؟ - غدا حين يكون الدون عند فاطمة.
وقد عرف القراء الآن كيف توصل روكامبول إلى الدخول إلى منزل فاطمة دون أن تراه، ويسمع كل حديثها دون أن تراه، وينقله إليها حتى باتت تعتقد أنه الشيطان الذي يحميها. أما عزم الدون جوزيف على تسميم فاطمة، فقد عرفه روكامبول من زامبا، وهو الذي أعطاه ذاك الرشاش وهو ضد السم، وقد وجدته فاطمة تحت الآنية وشربته، فأمنت الموت.
في اليوم التالي لتسميم فاطمة ذهب الدون جوزيف إليها ودخل إلى غرفتها حسب العادة قبل أن يرى الخادمة، فأجفل حين رأى خليلته تستقبله باسمة، وهو يحسب أنه سيراها جثة باردة، أما فاطمة فإنها لم تظهر شيئا من انفعالها عملا بوصية شيطانها، وجلست تنادمه وتمازحه، غير أن الدون جوزيف كان يتكلف المباسطة لانشغاله بالسم، وكيف أنه لم يقتلها على ثقة من تأثيره، ونظر إلى وجهها ورأى عليه أثر الضنك، وقال لها: ما بالك متعبة؟ ألعلك لم تنامي ليلة أمس؟ - كلا، بل ذاك من كثرة النوم، فإنك تعلم أني متعودة شرب الأفيون، غير أني أفرطت أمس في شربه فطال نومي، ولما صحوت أصبت بصداع شديد.
وأقام عندها هنيهة وخرج وهو يحسب أن السم لم يؤثر بها لأنها شربت بعده ذاك الأفيون، وعول على قتلها بطريقة أخرى.
ولما خرج من عندها ذهب إلى منزله، فتنكر بزي جديد وانطلق إلى منزل البولونية حسب العادة، فوجدها حردة غضبى، وأجفل من غضبها؛ لأنه كان يحبها حبا مبرحا، وما زال يلح عليها بالسؤال عن سبب غضبها حتى أخبرته بأنها عالمة بحبه لفاطمة، وأنه لا يطمئن لها خاطر، بل لا تقبله في منزلها إلا متى عاد إليها بمنديل مصبوغ بدم الفتاة.
وكان روكامبول قد علمها أن تسأل هذا السؤال، أما الدون جوزيف فلم يستاء لطلبها ؛ لأنه كان معول على قتل الفتاة، ولكنه خرج من عندها مفكرا مهموما؛ إذ لم يهتد لطريقة تضمن له قتلها.
ولما بلغ إلى منزله وجد زامبا ينتظره فيه، فأخبره بما كان من نجاة فاطمة واقتراح البولونية، وسأله رأيه بقتلها، فأشار عليه بإغراء خادمها الأسود على قتلها بالمال، وإعداده له، فوافقه على هذا الرأي.
وفي صباح اليوم التالي دعا إليه الخادم الأسود واتفق معه على قتلها في المساء، وانطلق زامبا إلى المكان الذي يجتمع فيه مع روكامبول وأخبره بجميع ما كان.
أما روكامبول فإنه سر من هذه الجريمة الجديدة وقال في نفسه: لقد قبضت على الدون جوزيف وفزت بابنة الدوق.
ثم ذهب إلى منزله وتنكر بالزي الذي كانت تراه فيه فاطمة، وذهب إليها من المنفذ السري، وبينما هي جالسة على مقعدها إذ التفتت فرأته وراءها دون أن تعلم، فاستعاذت منه به وخرت له ساجدة لاعتقادها أنه معبودها.
فقال: قلت لك أن تحذري من خادمتك وخادمك، والآن خذي هذه الحبة وتدبري في حيلة تستطيعين بها أن تدعي الخادمة تبتلعها عند المساء دون أن تعلم، ثم احرصي أشد الحرص من الخادم، أما أنا فسأعود إليك في المساء واعصبي عينيك حسب العادة لأني أريد الذهاب. فعصبتها وعدت للمائة والخمسين، ثم أزاحت العصابة فلم تجد ذاك الشيطان.
ولما توارت الشمس في حجابها، أخذت تلك الحبة فوضعتها بتينة يابسة أخذتها من صحن كان أمامها فيه تين ونقل، ودعت خادمتها وجعلت تشاغلها بالحديث وهي تأكل، ثم أعطتها التينة التي وضعت فيها الحبة، فأخذتها الخادمة وأكلتها وهي لا تحسب حسابا لما فيها.
وبعد ذلك بساعة عاد إليها روكامبول وعلم منها أن الخادمة قد نامت من تأثير المخدر الذي شربته، وسألها: وأين الخادم؟ - هو في المطبخ. - حسنا، فلنحمل هذه الخادمة إلى سريرك.
فانذهلت فاطمة وقالت: ما هذه الأسرار؟ - ستعلمين كل شيء.
ثم ذهب وإياها، فحمل الخادمة ووضعها على سرير فاطمة في غرفتها، وأطفأ روكامبول المصباح وخرج بفاطمة إلى الغرفة المجاورة وقال لها: إن الدون جوزيف أغرى خادمك الأسود على قتلك بالخنجر، والآن فإن هذا الخادم سيدخل إلى غرفتك فيقتل الخادمة شريكته بالمؤامرة عليك وهو يحسب أنه يقتلك ولا يدري، وإنما أطفأت المصباح لأن السود يخافون ارتكاب الجريمة على النور، ويؤثرون القتل في الظلمة، فقفي بإزائي واحبسي أنفاسك إذا استطعت، فسترين العجب.
وكانت النار موقدة في المستوقد، فيخرج منها نور ضعيف، ورأيا من نوره هذا العبد الأسود يدخل إلى غرفة سيدته وهو يخفف الوطء حذرا من إيقاظها، وبيده خنجر عريض النصل، فما زال يمشي وعليه ظواهر الخوف إلى أن وصل إلى السرير وسمع غطيط الخادمة، فما شك أنها فاطمة وطعنها بخنجره طعنة شديدة غرق في جنبها إلى النصاب واخترق قلبها، فماتت دون أن تنتبه أو تصيح صيحة ألم لتأثير المخدر.
أما الخادم فإنه ترك الخنجر مشكوكا بقلبها وأنار شمعة كي يتحقق قتلها، ويسرق ما يخف حمله من غرفتها، ولكنه ما لبث أن أنارها حتى شعر بيد قوية قبضت على عنقه، وسمع صوت سيدته تقول له: لم تقتلني أيها التعس، بل إنك قتلت شريكتك بالجريمة.
ووضع روكامبول خنجره على عنقه وقال: إذا كنت تريد الحياة فقل الحقيقة.
فهلع فؤاده من الخوف وقال: رحماك فإني أقول كل شيء. - من أمرك أن تقتل سيدتك؟ - الدون جوزيف. - أتثبت ذلك أمام القضاء إذا وعدتك بالإبقاء عليك؟ - إني أقسم لك بأعظم الأقسام على الامتثال لما تريد.
والتفت روكامبول إلى فاطمة وقال لها: أسمعت؟
ثم عاد إلى الخادم وقال له: ألم يعطك الدون جوزيف منديلا؟ - نعم، وها هو.
ثم أخرجه من جيبه.
فأخذه روكامبول وأراه لفاطمة وقال لها: أليس هذا المنديل شبيها بالذي كان معه وقال لك إنه منديل ابنة عمه؟
فتأملته وهي تكاد تتميز من الغيظ وقالت: إنه يشبهه أتم الشبه. - إذن فاعلمي أنه منديل خليلته، وليس منديل ابنة عمه كما قال.
ثم عاد إلى الخادم فقال: لماذا أعطاك الدون جوزيف هذا المنديل؟ - لأصبغه بدماء سيدتي وأحمله إليه. - إذن اصبغ المنديل بدماء الخادمة، وإذا أردت الحياة فاذهب به الآن إلى الدون جوزيف ولا تقل له كلمة عما جرى، بل دعه يعتقد أنك قتلت سيدتك، وبعد أن تعطيه المنديل تهرب إلى حيث تشاء، واعلم أنك إذا خالفتني بشيء مما أمرك به، فلا مناص لك من القضاء. - سأفعل ما تريد يا مولاي.
أما روكامبول فإنه تركه يغمس المنديل بدماء الخادمة وقال لفاطمة: خذي الآن مجوهراتك وكل شيء ثمين لديك في هذا المنزل واتبعيني. - إلى أين؟ - ستعلمين متى وصلت.
وبعد ذلك بعشر دقائق خرج روكامبول وفاطمة، وتبعهما الخادم فسار إلى منزل الدون جوزيف، ورأى زامبا ينتظره على الباب فقال: ما فعلت؟ - قضي الأمر. ثم أعطاه المنديل وأركن إلى الفرار.
11
بينما كان روكامبول يسير بفاطمة إلى حيث لا تدري، وبينما كان الخادم الأسود يذهب إلى منزل الدون جوزيف ليعطيه المنديل المصبوغ بدماء الخادمة، كان الدون جوزيف ينتظر بذاهب الصبر قدوم زامبا إليه بهذا المنديل.
وكان الخوف قد بلغ مبلغا عظيما من الدون جوزيف؛ لأنه كان يعلم شدة غيرة فاطمة، وبات يخشى أن تفاجئه ليلة اقترانه بابنة عمه وتدفعها الغيرة إلى أن تبوح بسره أمام جميع الحضور وتقول: هو ذا قايين الذي قتل أخاه، وأنا كنت شريكة له بهذه الجريمة. لأنه كان يعلم أنها لا تصبر على حبه، وأنها جديرة بأن تقدم على أكثر من هذا الإقرار، فقرر قتل فاطمة منذ خطر له هذا الخاطر المخيف.
ومما زاده إصرارا على قتلها أن البولونية التي يهواها طلبت إليه قتل فاطمة، ثم إنها أرسلت إليه في اليوم التالي تقول فيها:
إن المركبة ستنتظرك عند منتصف الليل حسب العادة، فإذا أعطيت سائقها المنديل مصبوغا بدم، فاصعد إليها واحضر إلي، وإلا فعد من حيث أتيت.
وبينما كان الدون جوزيف غارقا في لجج هواجسه، إذ دخل عليه زامبا فأعطاه المنديل وهو يقول: قضي الأمر وستحظى بلقاء امرأة الكونت.
ففرح الدون جوزيف فرحا وحشيا، وأخذ المنديل بلهف وطواه مع الرسالة التي وردت إليه، ووضعهما بجيبه، ثم ترك خادمه وذهب إلى لقاء السائس الذي كان ينتظره حسب الاتفاق، فقال له السائس: ما لون منديلك؟ - أحمر. - إذن فاصعد.
ثم عصب عينيه حسب العادة وانطلق به إلى منزل البولونية، فلما وصل إليها لم يجدها فيه، بل وجد وصيفتها، فدفعت إليه كتابا من مولاتها كتبت إليه فيه ما يأتي:
لا أعلم إذا كنت وفيت بوعدك فقدرت أن تأتي إلي في الموعد المعين، وفي كل حال فإنه يستحيل علي أن أراك في هذه الليلة؛ لأن زوجي الظالم قد عاد فارث لحالي، واعلم بأن حبي لك يفوق كل حب، ثم إني لا أعلم إذا كنت أستطيع أن أراك غدا، ولكني أرجوك أن تبقى في منزلك ولا تخرج منه من الصباح إلى الساعة الخامسة، ولا تستقبل أحدا من زائريك، وأطلق سراح جميع خدمك طول النهار؛ لأني إذا رأيت أنك وفيت بوعدك، وأحضرت إلي ذلك المنديل، فقد أزورك مبرقعة الوجه، فتفتح لي باب منزلك بيدك، وإذا لم أحضر في النهار في الساعة الخامسة، فاذهب حيث تشاء وعد في الساعة العاشرة، فقد يمكن أن أزورك في الليل، وفي كل حال أطلق سبيل خدامك في النهار والليل.
فاختلج فؤاد الدون جوزيف عند قراءة الكتاب وقبله مرارا، ثم وضعه في جيبه ودفع المنديل إلى الوصيفة، ورجع إلى منزله فأخبر زامبا بما كان وأمره أن يطلق الخدم غدا وينطلق معهم.
ذاك ما كان من الدون جوزيف، أما روكامبول فإنه أخذ فاطمة التي كانت تنقاد إليه انقياد الأطفال، فركب معها مركبة وعصب عينيها وهما على الطريق، وذهب بها إلى منزله السري، ولما دخل بها إلى القاعة أزاح العصابة عن عينيها وقال لها: انظري إلى ما حولك، فإنك في حبس جميل. - ألعل إقامتي تطول في هذا المكان؟
وجعل روكامبول يحسب ويعد على أصابعه ثم قال: أربعة أيام. - لماذا؟ - كي تنتظري فيه ساعة الانتقام، واحذري من أن تخرجي من المنزل أو تطلي من النافذة، وسآمر خادمي أن يقتلك إذا فعلت شيئا من ذلك. - سأفعل كما تريد، ولا يصعب علي سجن أربعة أيام، فقد تعودت الحبوس في عهد الدون جوزيف.
وتركها روكامبول ودخل إلى غرفته، وأقام فيها ربع ساعة ثم خرج متنكرا بزي جديد ، ولما رأته فاطمة أنكرته، ولكنه تبسم لها وكلمها فعرفته من صوته، وزادت وثوقا من أنه الشيطان بعينه، فقبلت يده قبلة عبادة وقبلها في جبينها قبلة حنو، ثم حذرها ثانية من الإطلال من النافذة، وخرج فنادى خادمه وأوصاه بالعناية بها والاحتراس عليها، وأن لا يجيبها بشيء إذا سألته عنه، بل يقول إنه حديث العهد بخدمته، ثم سأله إذا كان ذهب إلى قصره وأحضر له رسائله فقال: نعم ولا يوجد غير رسالتين.
فأخذهما روكامبول وفض الأولى وكانت من ابنة الدوق، فقرأ ما يأتي:
سيدي المركيز
إننا سنسافر بعد ثمانية أيام إلى إسبانيا، وربما حضرنا فيها مأتم ذلك المريض المنكود، ولما كان لا بد لنا من وداع معارفنا في باريس، فقد قرر أبي أن يدعو جميع أصحابنا إلى مأدبة في يوم الأحد، وأنت من جملة المدعوين، فأرجوك أن تحضر لأني أحب أن أراك.
فوضع روكامبول الرسالة في جيبه وقلبه مفعم فرحا، ثم فتح الرسالة الثانية فكانت من البولونية التي يهواها الدون جوزيف تخبره فيها بأنها لم تستقبل الدون جوزيف في هذه الليلة كما أمرها، وأنها تنتظره في الساعة الحادية عشرة حسب الاتفاق. فكشف روكامبول عن ساعته ورأى أن الوقت قد دنا، فأسرع إلى لقائها فوجدها تنتظره، فقال لها: أسرعي وأرسلي السائس إلى لقاء الدون جوزيف. - لعله قتلها وعاد بالمنديل؟ - إنه عاد بالمنديل مصبوغا بدم كلب، وهو يظن أنه دم فاطمة، وسأخبرك بكل شيء، أما الآن فاكتبي ما أمليه عليك.
ثم أملى عليها الرسالة التي أخذها الدون جوزيف من الوصيفة كما قدمناه، وخلا بها فقال: لا بد لي الآن أن أطلعك على السر فاسمعي.
ولم يكن تلميذ السير فيليام من الذين يبوحون بأسرارهم لبنات الهوى، ولكنه بعد أن حملها بالمال والوعيد على أن توافقه بالمؤامرة على الدون جوزيف لفق لها حديثا فقال: إننا بعد أن بلغنا إلى ما نحن عليه الآن لم يعد يخلق بأحدنا أن يكتم شيئا عن الآخر، فاعلمي إذن أن الذي يدفعني إلى كيد الدون جوزيف هو أنه سلبني مرة خليلة لي كنت أحبها فأغواها بالمال، فأقسمت في البدء على أن أنتقم منه، ثم إني لما علمت أنه عازم على الزواج بابنة عمه، راهنت أحد الأغنياء بمائة ألف فرنك على أن أبطل هذا الزواج، وإذا فزت وكسبت الرهان كان المبلغ لك وعشت به سعيدة مدى الحياة دون أن أكون خسرت شيئا، ثم إنك تذكرين أني أنا الذي علمتك كيف تحتالين عليه وتغرينه على قتل فاطمة.
وقاطعته البولونية قائلة: ألعلها المرأة التي كنت تحبها؟ - ربما، ولما عولت على الانتقام منه رشوت جميع خدامه، وهم الآن خدامي بالباطن، يطلعونني على أعماله، فلما أغري الخادم الأسود أخبرني الخادم بالأمر وأمرته أن يقتل كلبا ويغمس المنديل بدمه، ففعل وهو الذي ساعدني على اختطاف فاطمة.
فضحكت البولونية ضحكا عاليا وقالت: إنها خير خدعة، ولكنك لم تقل شيئا عن غرضك من هذا الكتاب الذي أمليته علي للدون جوزيف. - أردت به أن يبقى في منزله بانتظارك، ولا يعلم شيئا مما جرى في منزل خليلته، ثم أردت أن يزيد ولوعه بك حين يضطر إلى انتظارك، فما هاج الحب مثل حدوث المصاعب فيه. - هو الحق ما تقول، غير أن الدون جوزيف لا بد له أن يعلم أن خليلته لم تقتل وأن الدم كان دم كلب. - إنه سيعلم ذلك، أما أنت فيجب أن تبقي واثقة من قتل فاطمة. - أأراه غدا؟ - نعم، وسأخبرك غدا بما يجب أن تفعليه. - ولكني لا أعلم إلى الآن كيف يكون انتقامك؟ وكيف تستطيع إبطال زواج الدون جوزيف؟ - ذلك أن فاطمة أسيرة عندي الآن، وقد وعدتها أن أريها الدون جوزيف يرقص معك في الليلة الراقصة التي سيحييها الجنرال الإسباني، فإذا رأته فاطمة يخاصرك تنقض عليه بغدارتها.
فأجفلت البولونية وقالت: إن هذا الانتقام لا يوافقني؛ لأني أخشى أن تدور الدائرة فيه علي. - لا شك أنك بلهاء، إني لا أريد بالانتقام القتل، بل أريد به الفضيحة، ولذلك فإني سأحشو الغدارة بيدي ولا أضع فيها غير البارود.
فاطمأنت وقالت: إنها ستكون فضيحة هائلة. - وأية فضيحة أبلغ من أن يوجد الرجل أمام خطيبته في محفل حافل بالسيدات النبيلات، وهو محاط بخليلتين تتنازعان وتتخاصمان عليه، والآن إني ذاهب وسأراك غدا كي أخبرك بما يجب أن تفعليه.
ثم تركها وذهب إلى منزله ودخل إلى غرفة أندريا وأخبره بكل شيء، وبعد أن تلقن تعليماته دخل إلى غرفته ونام.
وفي اليوم التالي ذهب في الساعة الخامسة إلى قصر الدوق إجابة للدعوة، ووجد هناك معظم نبلاء باريس، وكان فريق منهم ملتفا حول ابنة الدوق وبينهم الدون جوزيف، فدخل روكامبول وجلس بالقرب من ابنة الدوق مع الحاضرين، وكان الحضور يتحدثون بأحاديث مختلفة إلى أن قطع الحديث أحدهم وقال: أعلمتم بالمقتل الفظيع الذي جرى أمس في الشارع المجاور لهذا القصر؟
فحدقت عيون الجميع بالمتكلم وقالوا: كلا، لا علم لنا بشيء! وأي مقتل تعني؟
فأخرج المتكلم جريدة من جيبه وقال: اسمعوا، إني سأتلو عليكم تلك الحكاية الغريبة.
فنظر روكامبول نظرة سرية إلى ابنة الدوق وأشار إليها إشارة خفيفة كأنه يقول لها: أصغي إلى الحديث.
واندفع الرجل يتلو حديث فاطمة والقتل الذي جرى أمس في منزلها، وكانت هيئة الدون جوزيف تستلفت الأنظار، وكان كلما اندفع الرجل بالقراءة يشير روكامبول إشارة إلى ابنة الدوق التي علمت أن للدون جوزيف علاقة عظيمة بالحادثة.
وما زال الرجل يقرأ عليهم إلى أن قال: ولم تكن القتيلة تلك الفتاة النورية المقيمة في ذلك المنزل، بل كانت خادمتها، وقد وجدت مضرجة بدمائها على سرير مولاتها.
وعند ذلك اضطرب الدون جوزيف اضطرابا شديدا، حتى أوشك أن يسقط لفرط ما ألم به من ذاك الخبر الذي انقض عليه انقضاض الصاعقة؛ لأنه كان يحسب أن فاطمة قد زجت في هوة الأبدية، فإذا هي لا تزال حية تسعى.
وكان روكامبول قد تمكن في ذلك الوقت من الدنو من ابنة الدوق، فقال لها همسا: إن القتيلة هي وصيفة فاطمة، وإن القاتل هو العبد الأسود، وإن المغري على القتل هو ابن عمك، وقد طعن الخادمة في الظلام وهو يحسب أنه يطعن فاطمة.
ثم اختلط المدعوون وتمكن روكامبول من الاختلاء مع ابنة الدوق هنيهة قال لها فيها: إن الدون جوزيف قتل أخاه بالاشتراك مع فاطمة كي يصل إليك، وأراد قتل فاطمة كي لا تحول بينه وبينك، فإذا أردت أن أنقذك ينبغي عليك أن تطيعيني طاعة لا حد لها. - إني أقسم لك أن أطيعك بكل شيء. - إذن يجب أن تحضري الليلة الراقصة التي سيحييها الجنرال الإسباني. - إني مدعوة إليها وسأحضر. - وتصحبين معك هذا الوحش المفترس الذي يسمونه الدون جوزيف. - سأفعل كل ما تريد.
وفي الساعة التاسعة تفرق المدعوون، فخرج الدون جوزيف وهو ضائع الرشد واجف الفؤاد، تتمثل له فاطمة وخناجرها وإخوتها بكل مخيل، إلى أن بلغ إلى منزله ودخل إلى غرفته، وأول ما رآه على طاولته كان كتابا عرف من عنوانه أنه من فاطمة، فأسرع إلى فضه وقرأ فيه ما يأتي:
لا تضطرب ولا تخش تلك الفتاة التي أردت قتلها، والتي أحبتك حبا لا يحيط به وصف، وأنك وإن كنت قد أسأت إلي إساءتين بانشغالك عن حبي وبعزمك على قتلي، ولكني أحبك ولن أحب سواك. وإذا كنت لا أنتقم منك، فذلك لأن حبي القديم يشفع فيك، ثم إني أصفح عنك لأنك لم تعتمد قتلي إلا لخوفك من أن أقتلك، وذلك لما بدا لك من غيرتي حين شهرت عليك خنجري.
والآن، إني سأكتم عنك كيف تخلصت من الموت، وسأحمل معي هذا السر؛ لأنك لن تراني بعد في هذا العالم، وعندما يصل إليك كتابي أكون برحت باريس، وبعد ثلاثة أيام أكون قد غادرت فرنسا ولا أعود إليها، فإذا أردت أن تبقى حيا وأن تعيش سعيدا، فلا تبحث عني ولا تحاول أن تعرف أين أنا، بل اقتد بي لأني لا أبحث عنك، وإذا بدر منك شيء مما حذرتك منه، فإن خناجر إخوتي لا تزال مسنونة.
الوادع وكن سعيدا مع التي أحللتها محلي من قلبك، أما أنا فسأحاول أن أنساك. واطمئن فإن السر الذي كان يوثقنا بقيوده لا يخرج من صدري، ولا يعلم أحد أننا اشتركنا في تسميم أخيك الدون بادرو.
الوداع إلى الأبد.
فاطمة
فقرأ الدون جوزيف هذا الكتاب مرارا وهو غير مصدق أن هذه الفتاة التي كانت تغار عليه من النسيم تصفح عنه هذا الصفح، إلى أن وثق أخيرا من أنها لا تزال تحبه، وأن هذه الرسالة لم تكن خدعة، فطمأن باله ونظر عرضا إلى الساعة المعلقة أمامه، فرأى أنها قد أوشكت أن تبلغ الحادية عشرة، فخطرت له حبيبته البولونية، وخشي أن تكون قد أتت في مدة غيابة، فأسرع وهو واجف القلب إلى البواب، وسأله إذا كانت قد أتت امرأة مبرقعة. - لا. - ألم تر مركبة وقفت بقرب الباب؟
وفيما هو يقول ذلك، إذ سمع صوت مركبة قادمة، فوقف ينتظرها إلى أن دنت من المنزل، فوقفت وخرجت منها فتاة مبرقعة علم الدون جوزيف أنها صاحبته، فطار لبه سرورا وصاح صيحة فرح، ثم تأبط ذراعها ودخل وإياها إلى المنزل، وقد نسي فاطمة وجميع حوادثها.
ودار بينهما حديث طويل، وأقامت عنده هنيهة ثم خرجت بعد أن اتفقت معه على أن يحضر لها تذكرتين لحضور الحفلة الراقصة التي يحييها الجنرال الإسباني لها ولوصيفتها؛ لأن الدون جوزيف كان لا يزال يعتقد أنها امرأة كونت روسي.
12
في الليلة المعينة لتلك الحفلة الراقصة التي كان يحييها الجنرال الإسباني، كان قصره غاصا بالمدعوين، وكانت الجموع تفد إليه من الرجال والنساء وجميعهم بملابس التنكر، غير أنه لم يكن بد للداخل من تقديم ورقة الدعوة على الباب، فما كان يقرأ من تولى استلامها غير أسماء الكونتات والبارونات والدوقات وأعظم نبلاء الباريسيين.
ولم يكن أحد يعرف الآخر بتلك الأزياء الغريبة، إلا من كان منهم على اتفاق مع صديق أو صديقة فيخبره عن الزي الذي سيتنكر به فيعرفه به.
وكان روكامبول قد اتفق مع البولونية على اللباس الذي تلبسه، وعلم من ابنة الدوق لباسها ولباس الدون جوزيف، فلما كانت الساعة العاشرة وقد تكامل عدد المدعوين، جاء روكامبول مع فاطمة وكان متنكرا بزي امرأة، وهي متنكرة بزي غريب يستلفت الأنظار، فأدخلها إلى المرقص وأوقفها في مكان وقال لها: لا تبرحي هذا المكان حتى أعود إليك.
وذهب إلى البولونية وقال لها : هو ذا الدون جوزيف، وقد عرفتيه لا شك من لباسه الذي أخبرتك عنه. - نعم. - اذهبي إليه وخذيه إلى هذا الرواق وعاتبيه عتابا غراميا، فإذا رأيت هذه الفتاة (وأشار إلى فاطمة) مرت بكما، فارفعي صوتك ودعي أحاديث عتابك تصل إلى مسامعها. - أهذا كل شيء؟ - نعم.
فتركته وانصرفت إلى الدون جوزيف.
أما روكامبول فإنه ذهب إلى فاطمة وقال لها: انظري إلى هذين المجتمعين في الرواق، فإن أحدهما الدون جوزيف، والثاني هي خليلته التي تخلى عنك من أجلها، فإذا أردت أن تشفي غليلك من الانتقام فأطيعيني في كل ما أريد. - إني لا أخالفك بشيء بعد أن علمت أنك معبودي. - إذن اذهبي ومري بالقرب منهما كي تسمعي بأذنك ما يقولان، وإياك أن تصنعي شيئا قبل أن يصل إليك أمري.
فامتثلت فاطمة وذهبت تسمع ما يقوله العاشقان، ولما دنت منهما رأتها البولونية، تذكرت وصية روكامبول فجعلت تعاتب الدون جوزيف بصوت مرتفع عتابا هاج كوامن الغيرة والحقد في صدر فاطمة حتى أوشكت أن تبطش به، ولكنها ذكرت قول شيطانها فابتعدت عنهما وجعلت تنتظر روكامبول وهي تكاد تجن من القنوط.
أما روكامبول فإنه حين تركها ذهب إلى ابنة الدوق وقال لها: انظري يا سيدتي إلى ابن عمك الدون جوزيف، ألا ترينه يتكلم مع امرأة في ذاك الرواق؟ - نعم. - إنها خليلته، ثم انظري إلى المرأة الثانية الواقفة بقربهما، ألا ترين علائم الجزع واليأس بادية عليها من حركاتها وتململها؟ - نعم. - إنها خليلته الثانية التي هجرها، والتي أراد قتلها؛ أي إنها فاطمة، وهي آتية للانتقام منه.
فتأففت ابنة الدوق واشمأزت من هذا الرجل السافل الذي يمد يده لقرانها وهو منغمس في الرذائل، فقال لها روكامبول: أستحلفك بالله يا سيدتي أن تدعي الاعتلال وتبرحي القصر، لأنه ستحدث فيه أمور هائلة لا طاقة لك باحتمالها.
فارتعشت ابنة الدوق وقالت: ما عسى أن يجري؟ ألعله يقتل؟ - كلا، بل ستضربه يد الله ضربة قاضية. - رباه! إني أغفر له، فاصفح عنه أنت. - لقد فات الأوان يا سيدتي وقضي القضاء المبرم.
ونظر روكامبول إلى فاطمة فرأى أنها تنظر إليه كأنها تقول له: لم يعد لي طاقة على الصبر، فقال لابنة الدوق: أستحلفك بالله يا سيدتي وبكل عزيز لديك أن تعودي إلى منزلك في الحال. - ليكن ما تريد، وها أنا ذاهبة إلى أمي فأعود بها في الحال.
فشكرها روكامبول وافترقا، فذهبت ابنة الدوق إلى أمها وشكت لها صداعا مؤلما أصابها، وأنها لم تعد تستطع البقاء، فأخذتها أمها وخرجت بها عائدة إلى منزلها.
ولما رأى روكامبول أنها خرجت دعا إليه فاطمة وقال لها: ماذا سمعت من هذين العاشقين؟ - سمعت ما كنت أؤثر ألف موت على سماعه، ولو لم يصدر إلي أمرك بالصبر لما صبرت لحظة على قتله، فقد سئمت الحياة. - إن ساعته قد دنت فاتبعيني.
فتبعته فاطمة إلى إحدى الغرف، فأخذ من جيبه زجاجة فيها سائل أحمر وقال: اشربي ما في هذه الزجاجة، فإنها تشدد ساعدك. - إن ما بقلبي من الانتقام يغنيني عن كل شدة، ولكني أشربه لأني لا يخلق بي أن أخالف لك أمرا.
ثم أخذت الزجاجة فشربت ما فيها جرعة واحدة وألقتها على الأرض، وعند ذلك أخذها روكامبول وسار بها يبحث عن الدون جوزيف حتى رآه في قاعة منزويا مع البولونية، وفي هذه القاعة بعض المدعوين فقال لها: إني أسلمك إياه الآن، فافعلي به ما تشائين.
ثم تركها وهرول مسرعا، فبرح القصر عائدا إلى منزله وهو يقول في نفسه: لقد ساءني قتل هذه الفتاة، فإنها كانت تطيعني طاعة لا حد لها، فجرعتها سما يقتل شاربه بربع ساعة، ولا أنكر أنه عمل وحشي، ولكن الحوادث قد قضت عليها؛ لأنها إذا قبض عليها بعد قتل الدون جوزيف فقد تقر أمام المحاكم بأنه قتل أخاه كي يتزوج بابنة الدوق، وهو إقرار شائن لأسرتها يقصيني عنها، أما إذا ماتت على إثر قتلها الدون جوزيف، يموت هذا السر معها وأتزوج أنا ابنة الدوق.
13
في اليوم التالي لهذه الحفلة الراقصة كان المركيز دي شمري - أي روكامبول - يتناول طعام الغداء في النادي الذي يجتمع فيه مع أصحابه، وهو جالس على مائدة وعلى مائدة أخرى أربعة من أعضاء هذا النادي، وقبل أن يتم طعامه دخل شاب جديد من أعضائه فجلس على مائدة روكامبول وقال له بصوت سمعه الجميع: ألعلك كنت أمس في مرقص الجنرال الإسباني؟ - نعم، وأنت؟
فقال له الشاب: كيف تسألني هذا السؤال، ولا يبدو عليك شيء من أثر الاهتمام؟ - لماذا تريد أن أهتم؟ - كيف ذلك؟ ألعلك لم تعلم بما جرى؟ - علمت أن الحفلة كانت حافلة. - أهذا كل ما علمته؟ - وأن امرأة الجنرال أزاحت البرقع هنيهة عن وجهها، فكانت من أبدع ما تراه العيون. - أبقيت في الحفلة إلى انتهائها؟ - كلا، بل إني بارحتها عند منتصف الليل. - لقد علمت إذن. - أما أنا فلم أعلم. - أريد أن أقول إني علمت السبب في جهلك لما حدث. - ماذا عسى أن يكون حدث؟ ألعل صاحبة الحفلة أغمي عليها، أم أن زوجها غار من أحد الملتفين حولها فأظهر هذه الغيرة؟ - بل حدث ما هو أبلغ من ذلك، والحق أيها المركيز إني لا أرى أبسط منك، ولا أكثر سلامة من قلبك.
فصاح الجميع وقد فرغ صبرهم: قل لنا ماذا حدث؟ - حدث أن الدون جوزيف ابن أخ الدوق سالاندريرا قد قتل أمس في تلك الليلة الراقصة التي انقلبت إلى مأتم.
فصاح الجميع منذعرين: كيف قتل؟ ومن قتله؟ - قتلته امرأة، وتفصيل هذه الحكاية أن الدون جوزيف كان يهوى امرأتين، وكل منهما تغار من الأخرى عليه، وقد اتفق أن الاثنتين كانتا في المرقص، فبينما كان الدون جوزيف يكلم إحداهما، إذ دنت منه الأخرى وأزاحت البرقع عن وجهها وقالت له: أعرفتني أيها الخائن؟ ثم استلت خنجرا وطعنته به في قلبه طعنة نجلاء خر على أثرها صريعا على الأرض دون أن ينبس بكلمة، فأسرع الناس واحتاطوا بها من كل جانب، وقد حسبوا في البدء أنها مجنونة، وبينما هم يسألونها أسئلة مختلفة إذ اصفر وجهها وصاحت صيحة عظيمة، ثم سقطت على الأرض لا تعي.
فقال روكامبول: ألعلها أغمي عليها؟ - كلا، بل إنها ماتت مسمومة، فقد وجدت زجاجة فارغة فيها بقية من سائل أحمر، حكم أحد الأطباء الذين كانوا في الحفلة، أنه سم نقيع قاتل.
فقال روكامبول ببرود: لقد عاقبت نفسها كي لا يعاقبها القضاء. - ولكن الغريب في هذه الحادثة التي تشبه الروايات المحزنة أنها ختمت بفصل مضحك.
فقال الجميع: كيف ذلك؟ - إن الفتاة الأخرى التي كان يحدثها الدون جوزيف عندما رأت قتل حبيبها سقطت مغميا عليها، فلما فرغ الناس من الاهتمام بالقاتلة عادوا إليها ونزعوا الحجاب عن وجهها، فأجفل بعض من عرفها من الشبان وصار كل واحد منهم يقول للآخر: البولونية ... البولونية. ولم يكن النساء يعرفنها، وكن يعجبن لعجب الشبان حتى أخبرهن أوقحهم بأنها أشهر بنات الهوى، واتصل خبرها بالجنرال فغضب غضبا شديدا وقال لها: كيف تجاسرت على الدخول إلى منزلي وأنت كما يقولون؟
قالت: إنك أنت الذي دعوتني إليه. وأخبرته أن الدون جوزيف أحضر لها ورقة الدعوة.
فطردها من القصر، ثم حضر البوليس فحملت القتيلة إلى دار الحكومة وحمل القتيل إلى قصره، ثم تفرق الناس ونزل الستار على آخر فصل من هذه الرواية.
فعجب الجميع لهذا الاتفاق الغريب، أما روكامبول فإنه نهض وقال: إذن لا بد لي من تعزية الدوق لوفاة ابن أخيه العزيز.
ثم تركهم يتحدثون بهذا الحديث وذهب إلى قصر الدوق كي يعزيه على قتل ابن أخيه، فأخبروه أنه لا يقابل أحدا، فترك رقعة الزيارة وانطلق إلى أستاذه السير فيليام.
14
عندما وصل روكامبول إلى منزله رأى صهره الفيكونت فابيان، وهو زوج أخته المركيزة، فقال له الفيكونت: أما علمت بما جرى في حفلة الجنرال الإسباني؟ - نعم، وقد كنت في الحفلة. - عجبا أتكون عارفا مثل هذه الحوادث الخطيرة، ثم تكتمها عني وأنا وإياك في منزل واحد؟ - إنما كتمتها عنك لأني برحت الحفلة قبل الحادثة، ولم أعلم بها إلا الآن! - إن الدون جوزيف قتل قتلا فظيعا، غير أن عزاءك في موته أنه خطيب ابنة الدوق. قل لي ألا تزال تحب تلك الفتاة؟
فتظاهر روكامبول بالخجل وقال: إنكم تتهموني بحبها، وأنا لم يخطر لي حبها في بال. - إني أعلم منك أكثر ما تعلمه عن نفسك، وسواء أنكرت هذا الحب أم بحت به، فسننظر في أمرك؛ لأن الخطيب قد مات موتا شائنا بين خليلتين وخلا لك الجو.
فأطرق روكامبول وقال: ولكن قبره لا يزال مفتوحا.
فابتسم الفيكونت وقال: إنه سيغلق فاطمئن، فسأخدمك أجل خدمة.
ثم دخل الاثنان إلى المنزل، فذهب صهره إلى امرأته، وذهب روكامبول إلى أندريا فأوقفه على جميع ما حدث وسأله تعليماته، فكتب له على اللوح الحجري: «اصبر إلى أن يردك كتاب من ابنة الدوق أو تقابلها.»
فدخل روكامبول إلى غرفته وأقام ينتظر فيها هذا الكتاب إلى الساعة الثامنة، فلم يحضر، فذهب إلى النادي ولبث فيه إلى منتصف الليل، ثم خرج منه فلقي عند بابه رجلا عرف أنه خادم ابنة الدوق، فأعطاه رسالة وانصرف، فأخذها روكامبول والفرح ملء قلبه، وركب مركبة وسارت به تنهب الأرض إلى المنزل، حتى إذا بلغه ذهب توا إلى غرفة أندريا ففض الكتاب وتلاه عليه.
وخلاصة هذا الكتاب أنها ذكرت فيه كيف أنهم أتوا بالدون جوزيف قتيلا إلى القصر، وأنها وإن كانت تعتقد أنها القاتلة؛ لأنها أغرت روكامبول على قتله، فإنها لا تستطيع أن تخفي ما نالها من التأثر الشديد، ثم ذكرت له أنهم وجدوا في جيب الدون جوزيف كتابا من فاديكس يشير إلى موت أخيه الدون بادرو، وأنها لا تنكر على الدون جوزيف أن يحضر إلى المراقص في الليلة التي يرد فيها نعي أخيه؛ لأنها تعلم أنه سفاك أثيم، وأنه هو الذي قتل أخاه بالسم فلا يكترث بموته، ثم طلبت إليه أن يحضر إليها لأنها تريد أن تراه.
ولما أتم روكامبول تلاوة الكتاب قال لأندريا: ماذا ترى؟
فأخذ أندريا لوحه الحجري وكتب عليه: لقد خطوت خطوة كبيرة، فإن ابنة الدوق تحبك وخطيبها قد مات، ولكن ...
وهنا قطع الكتابة وجعل يفتكر، فقال له روكامبول: ولكن ماذا؟
فكتب أندريا: «إن الدون سالانديرا من عظماء الإسبان ومن كبار الأغنياء، لا سيما وأن ثروته ستزيد أضعافا بما سيرثه من الدون بادرو والدون جوزيف، أما أنت فإنك مركيز وغني، ولكن شتان بين ثروتك وثروته، ومقامك ومقامه .»
فقال روكامبول: وما علي من التباين بين الحالتين إذا كانت تحبني؟ - أصبت، إنما أحب أن أعلم إذا كان قد تقدم لطلبها أحد غيرك من النبلاء.
فقال روكامبول: نعم، فلقد خطبها من قبل رجل عرفناه في أدوارنا السابقة، وهو الرجل الذي كنت تغريه على إغواء هرمين؛ أي الكونت دي مايلي الذي أصبح الآن دوقا بعد موت قريبه الدوق الذي مات دون أن يتزوج الأرملة، غير أن طلبه قد رفض.
فقال أندريا: ذلك لأن الدون جوزيف كان خاطبا للفتاة وكان لا يزال في قيد الحياة، أما الآن فقد يمكن بعد شهر أو شهرين أن يعود إلى هذا الطلب ويفوز، وهنا كل الخطر.
فقال روكامبول: لقد أصبت، غير أني لا أخشى الدوق دي مايلي، بل إني أخشى باكارا لاتصالها بأسرته.
فاضطرب أندريا عندما سمع اسم باكارا، وبدت علائم الغضب على وجهه المشوه، فقال روكامبول: لقد قلت لك إن باكارا باتت تدعى الكونتس أرتوف، وهي الآن في روسيا مع زوجها، غير أنها ستعود في أوائل الشهر القادم، ولقد رأيت كثيرين من الناس الذين عرفوني حين كنت أدعى الكونت دي كامبول وحادثتهم، فما عرفني منهم أحد وأنا أحمل لقب المركيز، إلا أني أخشى أن تعرفني باكارا؛ فإن تنكري لا يخفى عليها، أما باكارا وزوجها فقد عرفا الدوق سالانديرا منذ سنتين في مياه ويسبادن، وبات الكونت أرتوف صديقا للدوق، وباتت باكارا صديقة لابنة الدوق وأمها، وعلى ذلك فإني أخشى أن يكون الكونت أرتوف هو الذي طلب ابنة الدوق للدوق مايلي، وأن تحبط باكارا مساعينا كما أحبطتها من قبل إذ لم نبالغ في الحذر؛ لذا فإني أرى أن الاهتمام بشأن باكارا أولى من كل اهتمام، فإن الدوق وامرأته وابنته لا بد أن يسافروا بجثة الدون جوزيف إلى إسبانيا.
فوافقه أندريا بهز رأسه مرات متوالية، فقال روكامبول: واعلم بأني لا أخرج عن أمرك في شيء، بقي أن تعلم أني لا أستهجن كرهك لأخيك الكونت دي كركاز، فقد كان السبب الأول في شقائك، غير أنه يجمل بك الآن أن تتخلى عنه مؤقتا، فإنك لو تدبرت في ماضيك لعلمت أن كرهك له ومحاولتك الانتقام منه كانا علة حبوطك في جميع مساعيك، ولو كنت قد تخليت عنه من قبل وجعلت كل اهتمامك في باكارا لما فقدت لسانك وبصرك، ولكنت ظفرت بتلك الفتاة اليهودية التي أحللتها في أعظم محل من قلبك.
فاصفر وجه أندريا عند ذكر اسم اليهودية، ورأى روكامبول ذلك الاصفرار، فعلم أنه لا يزال يحبها، فقال له: إذا ساعدتني على الانتقام من باكارا ومنعها عن التعرض لي، فزنا عليها وكانت لك تلك اليهودية مكافأة لأعمالك.
فظهرت على وجه أندريا علائم الفرح الوحشي ووافق روكامبول على كل ما قال، فغادره روكامبول ومضى وهو واثق من الفوز.
وفي اليوم التالي ركب مع صهره مركبة مجللة بالسواد، وذهب إلى قصر الدوق لحضور جنازة الدون جوزيف، فقد تقرر أن يصلى عليه في الكنيسة، ثم تحنط جثته كي تدفن في إسبانيا.
ولما كانوا في الكنيسة والناس منشغلون برش المياه المقدسة على الميت، دنا خادم ابنة الدوق من روكامبول وأعطاه رسالة منها، فأخذها روكامبول ودسها في جيبه، ثم انتظر إلى أن انتهت المراسيم.
ثم عاد مسرعا إلى أستاذه أندريا وقرأ عليه هذه الرسالة؛ وهي كما يأتي:
إننا مسافرون غدا إلى سالاندريرا نحمل جثة الدون جوزيف إليها لدفنها في مدفن العائلة، ولا أريد بل لا أطيق السفر قبل أن أراك، فأحضر الليلة عند منتصف الليل إلى الحديقة في المكان المعهود.
فلما أتم قراءتها قال: ماذا ترى؟ - أرى أنه يجب أن تذهب للقائها. - ما هذا الذي أعنيه، بل إني أسألك رأيك في الرسالة. فكتب أندريا: إن رأيي هو أنه يجب أن تحتفظ بجميع هذه الرسائل، حتى إذا نستك وهي في إسبانيا أو تزوجت بالدوق مايلي أو دوق سواه، تضع له هذه الهدايا في العلبة التي تضع فيها هدية العرس. فضحك روكامبول وتحدث معه هنيهة ثم تركه وانصرف إلى النادي، فأقام فيه إلى انتصاف الليل، وعند ذلك ذهب للقاء ابنة الدوق، فوجد أنها تنتظره في الحديقة.
ودار بينهما حديث طويل افتتحته ابنة الدوق بشكر روكامبول عن خدمته الجليلة، ثم أخبرته أن أباها بات يمقت البلاد الإسبانية لكثرة ما لقي فيها من المصاعب، وأنه سيقيم في باريس، وما زالا ينتقلان من حديث إلى حديث ويتناجيان باللحاظ إلى أن ناب اللسان عن العيون، فتشاكيا وتناجيا وتوافقا على الحب إلى الموت، ثم افترقا وقد اتفقا على المراسلة، فودعها روكامبول وهو يمسح دمعة عن خده لا ندري من أين نزلت، فشهقت ابنة الدوق بالبكاء وهي تقول: أحبك. وذهب روكامبول وهو يتأوه ويتنهد.
15
خرج روكامبول والفرح ملء قلبه وهو يقول في نفسه: لقد ظفرت بما ابتغيته، وأصبحت هذه الأموال الإسبانية في قبضة يدي، ثم جعل يمشي وهو غارق في بحار هذه الهواجس غير مكترث بالمطر المتساقط عليه، ولا زال يمشي إلى أن أيقظه من سبات تصوراته صوت امرأة تستغيث، فأسرع إلى المكان الذي خرج منه الصوت، فرأى امرأة تحاول أن تتخلص من رجل وهو يمسك بها فيجرها تارة، ويضربها بحمق كلما امتنعت عن اللحاق به، ولا ندري ما دفع روكامبول إلى إنقاذ تلك الفتاة، وما هاج في صدره تلك المروءة إلا أن يكون قد طمع بغنم من هذا الانتصار، فجرد خنجره وصاح بالرجل صيحة أرهبته، فذعر كما يذعر اللصوص عندما يفاجئهم مفاجئ، ثم لما رأى الخنجر يلمع في الظلام بيد روكامبول ترك الفتاة وأركن إلى الفرار، فدنا روكامبول منها وقال: اطمئني، لا خوف عليك وأنا بقربك.
فقالت له الفتاة بصوت الخائف: بربك لا تتخلف عني ولا تدعني وحدي، فإنه يعود إلي ويقتلني دون شك.
فارتعش روكامبول عند سماع صوتها وقال في نفسه: إني سمعت هذا الصوت قبل الآن، غير أن الظلام كان مدلهما فلم يستطع أن يرى وجهها، ولكنه مسك يدها وقال لها: لا تخشي وهلمي معي فأوصلك إلى محل تأمنين فيه. فمشت المرأة معه إلى أن بلغا إلى مركبة واقفة في الشارع، فتبين وجهها على نور مصباحها، وارتجع منذعرا إلى الوراء وهو يقول: باكارا!
وكان ذهول روكامبول عظيما حتى إنه لم يتمالك رشده ، ونسي أنه إذا تظاهر بمعرفة باكارا أمامها فكأنه يدعوها إلى أن تعرفه، غير أن المرأة أجابته وهي منذهلة أيضا: إنك واهم يا سيدي، فما أنا بصاحبة هذا الاسم الذي ذكرته. فجعل روكامبول يتفرس في وجهها بإمعان، فرأى أنها باكارا بعينيها وشفتيها وطولها وشعرها وصوتها وكل ملامحها، غير أنها كانت أهزل من تلك التي تدعى منذ أعوام بالكونتس أرتوف، وهي لابسة أحقر الملابس، فوقف روكامبول بإزائها ساكنا باكتا وهو يقول في نفسه: إما أن تكون تشابهها وهو من غرائب الاتفاق، وإما أن تكون هي باكارا بعينها، فإنها كانت تتنكر أحيانا حين تحوجها بعض الأعمال الخيرية إلى التنكر، ولكنها إذا كانت باكارا فما شأنها مع ذلك الرجل السكير الخامل الذي كان يكلمها كمن له السلطان عليها، مما يدل على علائق سابقة بينهما، وكانت ظواهره تدل على الاضطراب الشديد، غير أن المرأة لم يظهر عليها أنها انتبهت إلى شيء من ذلك، ففتح روكامبول باب المركبة ودفعها إليها وهو يقول: لقد خدعت، فإنك تشبهين شبها غريبا امرأة عرفتها من قبل. - لا شك بانخداعك؛ لأني ما رأيتك مرة في حياتي.
ثم دخل في إثرها إلى المركبة وقال لها: إلى أين تريدين أن أذهب بك؟
فاحمر وجه تلك المرأة وقالت: ليس لي منزل يا سيدي، فقد كنت مقيمة مع هذا الرجل الذي أنقذتني منه، ولكنه كان يسيء إلي إساءة لا تحتمل حتى اضطررت إلى الفرار منه في هذه الليلة، وجعل يبحث عني حتى لقيني، وكان بيني وبينه ما عرفت. - لا بأس!
ثم همس في أذن السائق اسم الشارع الذي كان فيه منزله السري، فسار بهما وعند ذلك سألها روكامبول عن اسمها فقالت: ريبيكا. - أيهودية أنت؟ - كلا، غير أن أمي كانت يهودية. - وأبوك؟
فتلجلج لسانها وقالت: ما عرفت أبي غير مرة واحدة، فإني ابنة الحب الشائن، وقد أرتني إياه أمي مرة وكان معه امرأته الشرعية وفتاة صغيرة شقراء تشبهني أتم الشبه، وربما كانت المرأة التي عرفتها وحسبتني إياها. - أكان أبوك غنيا؟ - كلا، بل كان من العمال، وكانت أمي تحبه كثيرا، وكأن تماديها في غرامها أساءه، فغادرها مع طفلتها وهي أنا وتزوج بسواها زوجة شرعية.
وكان روكامبول يعرف حقيقة تاريخ باكارا وسريز فقال في نفسه: لا يبعد أن تكون ريبيكا هذه أخت باكارا. ثم قال لها: قلت إن أباك كان من العمال، أتعلمين ما كانت مهنته؟ - نعم، فقد كانت تقول لي أمي إنه حفار. - أتعلمين أين كان يشتغل؟ - في معمل أنطوان. - لم يعد شك عندي الآن بأن تلك الفتاة الشقراء التي أخبرتني عنها هي أختك. - أهي المرأة التي تعرفها؟ - نعم!
فهاج مكامن حقد دفين في صدر ريبيكا ظهر باتقاد عينيها وقالت: إذن فاعلم أن تلك التي تدعوها باكارا هي أختي حقيقة، وهي التي جردت أبي من كل عاطفة حب لي، وهي التي زجتني إلى الحضيض الذي أنا فيه، فأصبحت من بنات السبيل وسرت إلى ذلك السير الشائن؟ - كم عمرك الآن؟ - 32 عاما.
وقال روكامبول في نفسه: إنها أكبر من باكارا بعامين، وسنرى ما يقول أندريا، وكيف يستفيد من هذه اللقطة العجيبة.
وعند ذلك وقفت المركبة عند باب منزله، فنزل وأنزلها وقال لها: ادخلي معي فإني سأحدثك بأمور تسرك. ثم دخل بها إلى قاعة فاخرة الرياش فأجلسها بإزائه، ودار بينهما الحديث الآتي، فقال روكامبول: قصي علي الآن تاريخ حياتك بجملته، فقد بات يهمني كثيرا.
فابتسمت ابتسام الحزين وقالت: إن من كان مثلي لا يروق سماع قصته. - لا بأس، فقصي علي كل شيء؛ إذ قد أكون عونا أرسلني إليك الله، فلقد قلت إنك ابنة غرام، وإن أمك كانت تحب أباك حبا شديدا. - بل كانت تعبده عبادة، ولما هجرها كنت طفلة لا يزيد عمري عن عام، ثم ماتت أمي وعمري خمسة أعوام، فتولت تربيتي جارة لنا إلى أن بلغت الخامسة عشرة من عمري. - وبعد ذلك؟ - نهجت في مناهج أمي، وسرت في ذلك السبيل الشائن الذي تسير فيه كل فتاة تربت في مهد الرذيلة ولم تجد من يردعها، فأحببت أول شاب ابتسم لي وقال: إنك حسناء. - من كان هذا الشاب؟ - تلميذ من التلامذة الأغراب، فكنت أذوق حلاوة العيش مرة وأمج علقمها مرات، ثم جعلت أنهض من هوة فأسقط في غيرها حتى صرت إلى هذا الرجل الذي أنقذتني منه. - إذن أنت تكرهين أختك باكارا التي تشبهك هذا الشبة الغريب؟ - كما أكره الموت. - وأنا أيضا. - أنت تكرهها أيضا؟ - لأني أحببتها كثيرا وقد داستني بقدميها، فإذا كنت تكرهينها كما تقولين وهيأت لك وسيلة للانتقام منها، أتقبلين؟
فقالت وقد ظهرت عليها مظاهر الفرح الوحشي: كيف لا أقبل وإذا لم أستطع أن أحب فإني أريد أن أكره، وإنما يعيش المرء كيما يضر وينفع، ولكن كيف لي أن أنتقم؟ - سأساعدك وأخدمك أجل خدمة. - أتقسم بشرفك؟ - سأفعل خيرا من ذلك، وهو أني سأهبك هذا المنزل الذي أنت فيه الآن، ومتى عرفت ذلك فلا يبقى لديك شيء من الريب.
فنظرت إليه نظرة المنذهل قائلة: أصحيح ما تقول؟ - إني أعيد عليك ما قلته، وهو أن هذا المنزل لك، والخادم الذي فيه تحت مطلق سلطانك، وأنا سأزورك في كل يوم. - كيف ذاك؟ ألك منزل آخر غير هذا تقيم فيه؟ - نعم، فإني غني وستذوقين معي حلاوة العيش. ونهض وقال: إني ذاهب الآن وسأعود إليك غدا.
ثم دعا الخادم وقال له: إنك ستكون طوع أمر هذه الفتاة، إنما تكون مسئولا عنها، فلا تدعها تخرج من هذا المنزل.
فانحنى الخادم إشارة إلى الامتثال، ووقفت ريبيكا حائرة لا تعلم كيف أرسلت لها الأقدار هذا الرجل، أما روكامبول فإنه ركب مركبة وانطلق إلى منزله، ودخل إلى غرفة أندريا الذي كان ينتظر عودته بذاهب الصبر، ليعلم ما جرى بينه وبين ابنة الدوق، فقص عليه روكامبول جميع ما كان بينهما، وما حدث من تبادل العهود، وسفرها إلى إسبانيا واتفاقها على المكاتبة بالسر إلى أن تعود مع أبيها إلى باريس، فكانت علائم السرور تبدو على وجه أندريا، ولما فرغ من حديث ابنة الدوق أخبره بأمر ريبيكا، وأنها تشابه أختها باكارا كما تتشابه نقط الماء، وأنه حصرها في منزله السري إلى أن قال: والآن فقد أتيت أستشيرك في شأنها؛ لأني لا أعلم كيف أستفيد من هذه اللقية، وما حبستها في منزلي إلا لعلمي بأنك من رجال القرائح النابغة، وأنك لا بد أن تجد فائدة عظيمة من هذا التشابة الغريب، لا سيما وأن ريبيكا تكره أختها باكارا، ولا أحب إليها من الانتقام منها.
فأطرق أندريا يفكر وقد خاض في بحار تأملاته عدة دقائق وروكامبول لا ينبس بحركة؛ كي لا يقطع عليه تصوره، إلى أن فرغ أندريا من التفكير فأخذ اللوح الحجري وكتب فوقه: اذهب الآن ونم مطمئنا، وعد إلي عند الصباح. - ألعلك اهتديت إلى السبيل؟ - إني لا أزال في الطريق، ولا بد لي من الوصول.
فانصرف روكامبول طائعا ممتثلا لأستاذه، وهو واثق أشد الوثوق من قريحته الجهنمية، وعاد إليه في صباح اليوم التالي، فوجد أن أندريا لم ينم بعد وقد صرف ليله بالإمعان والتفكير، فقال له: ألعلك اهتديت؟ - نعم.
ثم كتب على لوحه يسأله متى تعود باكارا من روسيا. - بعد ثمانية أيام. - أأنت واثق مما تقول؟ - بعض الثقة. - إذن فاعلم أنه لا بد من إيجاد شاب حاد المزاج ضعيف العقل، بحيث يمكن أن يحب امرأة الكونت أرتوف؛ أي باكارا، حبا صادقا شديدا، ومتى وجدت هذا الشاب نبلغ من باكارا ما نريد.
فأجاب روكامبول: يخال لي أني حزرت خطتك الهائلة، أما هذا الشاب فسأجده دون شك، وأنا ذاهب لأراه عند أختي في ساعة الغداء.
16
إن الذي جعل روكامبول يفتكر بأخته وبهذا الشاب الذي يتغدى عندها، هو أنه عندما كان عائدا أمس مع صهره من جنازة الدون جوزيف قال له صهره: إن صديقك رولاند دي كايلت هو الآن في باريس، وقد أرسل لي كتابا اليوم يقول فيه إنه سيزورني غدا ويتغدى عندي، فلا تأكل غدا في النادي حسب عادتك.
فأجابه روكامبول بالقبول دون أن يفتكر بهذا الشاب؛ إذ لم يخطر له في باله اقتراح أندريا، فلما غادر أندريا ذهب إلى أخته، فوجدها مع زوجها ورولاند في قاعة الاستقبال، فقال له صهره: لقد جئت في الوقت المناسب، فإنك ستسمع قصة رولاند وهي جميلة دون شك كجميع حكايات غرامه، ألم تقل لي بالأمس إن العشاق لا يكتبون إلى أصدقائهم؟ - نعم، وهذا ما أرتاب به؟ - ولكنك مخطئ، فإن رولاند كتب لي.
فالتفت روكامبول وقال له: ألا تزال عاشقا أيها الصديق؟
فتنهد قائلا: نعم، وا أسفاه!
فقال الفيكونت فابيان: ولكنه لا يعشق أميليا كما تعهد، بل إن حبا جديدا طرد ذلك الحب القديم.
فقال روكامبول: مثل المسمار يدفع المسمار ويحل محله. - هذا ما جرى لصديقنا رولاند، فإنه برح باريس واليأس ملء قلبه عله يجد سلوى عن غرامه بالسياحة والأسفار، فشفي من هذا الداء بعد ثلاثة أشهر، غير أنه شعر في بدء الشهر الرابع أن قلبه بات خليا، وأنه لا يستطيع أن يحيا دون غرام، فعاد من ألمانيا مكبلا بقيود حب جديد.
فقال روكامبول: ألعله شغف بإحدى الألمانيات؟ - كلا، فإن التي يحبها روسية، ولا أعلم التفاصيل، ولكن رولاند سيقصها علينا.
فاختلج فؤاد روكامبول عندما سمع كلمة روسية، وقال رولاند: يسوءني أني في حاجة إلى هذه التفاصيل أكثر منك.
فقال روكامبول: ألعلك تهزأ بنا؟ - كلا، فإن المرأة التي أحبها ...
ثم توقف مترددا إلى أن قال: إن هذه المرأة لم أرها غير مرة. - أأحببتها من نظرة؟ - نعم، حبا يشبه العبادة!
فقال روكامبول بلهجة الهازئ: إنك هربت إلى روسيا كي تنسى حب الفرنسية، وقد رجعت إلى باريس كي تنسى حب الروسية. - إني لم أكد أراها حتى جننت بها، ولم أكلمها كلمة واحدة. - لا أجد لك شبها إلا الإناء ملؤه البارود، إذا دنت منه الحرارة هب والتهب، وأنت كذلك فإن نظرة واحدة تثير منك مثل هذا الغرام، والحق أن مثل هذا الحب لا يوجد إلا في الروايات. - وإن حبي حكاية. - أيمكن أن أقرأها؟ - بل إنك تسمعها لأني سأقصها عليك وهي بسيطة محزنة كسائر حكايات الغرام؛ فإني كنت قادما من حديقة بادن فرأيتها فيها، وكنت قد شفيت من غرامي القديم وعزمت على الرجوع إلى باريس، فدعاني أحد أصدقائي إلى حفلة راقصة وقال لي: تعال معي فسأريك الليلة أجمل امرأة، وهي الكونتس أرتوف.
فاضطرب روكامبول اضطرابا شديدا لم ينتبه إليه أحد، وأتم رولاند حديثه فقال: ثم أخبرني صديقي بحديث هذه الكونتس، فقال لي إنها كانت تدعى باكارا، وهي من أشهر مومسات باريس، وقد قدر لها أن تنقلب من الشر إلى الخير، فأحبها الكونت أرتوف الروسي وتزوج بها، فلما سمعت اسم باكارا وكنت سمعت بشهرتها، أحببت أن أراها في تلك الحفلة، ورقصت معها، فما انتهى الرقص إلا وقد ذهبت بعقلي.
فقال روكامبول وقد أخفى اضطرابه: أهذا كل الحديث؟ - كلا، فإني عندما خرجت من تلك الحفلة سكرت كأني مصاب بحمى شديدة، فلم أنم طول ليلتي وهي تتمثل لي بكل مخيل حتى خشيت أن أكون جننت.
فقال فابيان: لا يجب أن تخشى شيئا، فإنك منذ عهد بعيد محسوب من المجانين.
فابتسم رولاند وعاد إلى حديثه فقال: وفي اليوم الثاني أقسمت على أن ألحقها حتى أحملها على حبي، ولو اضطررت إلى أن أصيغ النجوم لها عقودا، فأخذت أطوف في ذلك اليوم المنتزهات علي أراها، فما وقفت لها على أثر، وفي الساعة الخامسة ذهبت إلى الفندق الذي كانت مقيمة فيه، فقيل لي إنها سافرت إلى هلدبرج، فذهبت إليها في ذلك المساء.
فقال روكامبول: ألعلك رأيتها؟ - بل أنقذتها من الموت!
فقاطعة روكامبول قائلا: لقد تقدم لك القول إنك ما رأيتها غير مرة، وإنك لم تكلمها كلمة واحدة، فكيف تقول الآن إنك أنقذتها من الموت؟ - إن ما أقوله حقيقة لا ريب فيه.
فقال فابيان: وأنا أقول إن جنونك لم يعد جنون غرام، بل جنون أكيد. - إنك عندما تسمع حكايتي ترجع عن كلامك هذا.
فصاح الجميع: إذن لنسمع الحكاية.
وجعل بعضهم يهزأ وبعضهم يسكت الهازئين، إلى أن استرعاهم روكامبول السمع وقال: لنسمع الحكاية، فقد قلت أيها الصديق إنك لم تكلمها كلمة. - لم أرد بذلك أني لم أكلمها على الإطلاق، فقد كلمتها بضع كلمات حين كنت أراقصها.
فقال روكامبول: ولكنها كلمتك دون شك؛ فقد سمعت عن هذه المرأة أنها كانت كثيرة الكلام حين كانت تدعى باكارا. - لقد كانت كذلك حين كنت أراقصها، ولكنها لم تفه بكلمة حين أنقذتها من الموت؛ لأنها أغمي عليها. - وعندما عادت إلى رشدها ألم تشكرك؟ - لم تجدني لأنني سافرت، ولكني لم أسافر طائعا مختارا، بل إنهم طردوني.
فعجب الجميع ببدء قصته وطلبوا إليه أن يقص عليهم الحديث بجملته، فقال: إن باكارا أو الكونتس برحت مدينة بادن في صباح الليلة الراقصة، وذهبت مع زوجها إلى هدلبرج فاقتفيت أثرها في الحال، وذهبت إلى تلك المدينة وعلمت أن زوجها قد سافر إلى فرنكفورت، وأنها مقيمة في منزل جميل على شاطئ البحر، ثم علمت أنها ستنتظر هناك زوجها مدة شهر إلى أن يعود.
وقد رأيت أنه لا يليق أن أزورها؛ لأني ما رأيتها غير مرة واحدة في تلك الحفلة الراقصة، فجعلت أترقب الفرص كي أراها، فعلمت في اليوم التالي أنها تخرج إلى قارب صغير تتنزه فيه، ومعها اثنان من القوزاق هائلا الجثة، تلوح عليهما ملامح الفظاعة والشراسة، فعلمت أن زوجها قد جعلهما حارسين عليها.
فذكر روكامبول هذين الرجلين اللذين قد وضعاه في الكيس وألقياه إلى النهر، واختلج جسمه لهذه الذكرى، وتابع رولاند قائلا: وقد ترصدتها عدة مرار وتصديت لها في طريقها، فإذا سلمت عليها من بعيد ردت السلام ببرود وقلة اكتراث، فصبرت وجعلت كل يوم أركب قاربا وأتنزه مثلها بإزاء قاربها، إلى أن اتفق يوما أن الرياح عصفت فجأة، فانقلب القارب وسقطت منه باكارا إلى البحر ومعها الرجلان، فألقيت بنفسي وقلت هو ذا الفرصة قد دنت، وما زلت أصادم الأمواج حتى بلغت إليها قبل البحارة، فأنقذتها وهي موشكة إلى الغرق، وسبحت بها مغميا عليها إلى القارب.
وكان البحارة قد أسرعوا إلينا جميعا، فاحتملوا القوزاقين وباكارا إلى قارب، وسبحت أنا إلى قاربي وقد أنقذتها من الموت.
فلما كان اليوم التالي لبست أفخر ملابسي وتطيبت وذهبت لأزور تلك التي كانت مدينة لي بحياتها وأنا واثق من حسن استقبالي، فلما طرقت الباب فتح لي أحد هذين الرجلين، فما لبث أن رآني حتى أقفل الباب بوجهي ولم يرد علي بحرف، على أني عدت إلى منزلي وأرسلت إليها رسالة هنأتها فيها بالسلامة، فكتبت لي تقول: إن الكونتس أرتوف لا تنسى أنها مدينة بحياتها للمسيو رولاند دي كايلت، وأنها تؤمل أن يزورها بعد أسبوعين في باريس لتفيه تشكراتها. فلما قرأت رسالتها علمت أنها تقول بعبارة صريحة إنها لا تريد أن تراني في هدلبرج، وفي الوقت نفسه ورد لي كتاب من عمي يستعجلني فيه بالحضور إلى باريس، فلم أجد بدا من الحضور، وها أنا الآن بينكم أنتظر رجوع هذه الفاتنة بفارغ الصبر، ولكنها ستعود قريبا ولا بد لي أن أراها، ولا بد لها أن تحبني.
ولما انتهى من حكايته وعلم روكامبول أنه مغرم مفتون بباكارا، ترك الحفلة وأسرع إلى أندريا، وقال: لقد وجدت الرجل المطلوب. - الرجل الذي سيحب باكارا؟ - بل الذي يحبها.
فابتسم أندريا ابتساما هائلا وقال: وأنا وجدت أيضا، فاسمع.
ثم خط له خطة هائلة سيقف عليها القراء في الفصول التالية.
17
بعد أن خلا روكامبول بأندريا خلوة طويلة سرية، تركه وانصرف إلى ريبيكا أخت باكارا، وكانت هذه الفتاة لا تزال بين مصدقة ومكذبة لما رأته، فإنها بعد أن كانت تجول في الأزقة تلتمس قوت ليلة من طرق النكد، وبعد أن كاد عشيقها السكير يقتلها أصبحت في منزل أنيق وفرش فاخر، ولديها خادم يقف أمامها بملء الاحترام ويناديها بألقاب السيادة.
وكان روكامبول يقول في نفسه وهو قادم إليها: إنني إذا ألبست هذه الفتاة شالات باكارا وملابسها الثمينة، فلا تعود تفرق شيئا عنها لشدة ما بينهما من التشابه، وهي ذكية الفؤاد مثلها، فلا بد لخدعة أندريا أن تنجح.
فلما وصل إليها استقبلته شاكرة فرحة، فسألها عما إذا كانت قد سرت بهذا المنزل، فقالت: إني سررت سرورا لا يوصف، ولا أتمنى إلا أن يكون لي مثله. - إني أعددت لك خيرا منه، فهلمي معي إلى المنزل الجديد.
فوجف قلب الفتاة وخشيت أن يكون هازئا بها، ثم تبينت من وجهه الصدق وقالت في نفسها: قد يكون وقع في غرامي.
فاطمأنت وسارت معه حتى بلغ بها إلى منزل في شارع باسي، تكتنفه حديقة صغيرة وعليه ملامح الجلال ، ثم دخل بها إليه وأدخلها إلى قاعة الاستقبال، فإذا هي مفروشة من أجمل فرش، وجعل يذهب بها من غرفة إلى غرفة، وهي منذهلة لما تراه وتحسب أنها حالمة، إلى أن ذهب بها إلى غرفة خاصة بملابسها، فجلس وإياها وقرع جرسا، فأسرعت خادمة بارعة في الجمال وقالت: ألعل مولاتي تدعوني؟ - نعم، إنها تريد أن تلبس ثيابها، وغدا تأتي إليها الخياطات.
ثم نهض وقال لريبيكا: إنك الآن في منزلك وأنا ذاهب، ولكني سأعود إليك في المساء فأتعشى معك، واعلمي الآن أنه لديك في هذا المنزل طباخة ووصيفة وخادم وسائق مركبة وجوادان.
ثم قبل جبينها وخرج، فبهتت ريبيكا وقالت: لا شك أنه فتن بي وسأخلص له الحب؛ لأنه يعرف طرق قلوب أمثالي. •••
ولنسبق الآن روكامبول وندخل قبله إلى منزل الدون جوزيف الذي استقبل فيه البولونية قبل أن يقتل، فنقول إن جثته لم ترسل إلى منزله كما يعلم القراء، بل أرسلت إلى منزل الدوق.
وكان زامبا ينتظر مولاه في تلك الليلة التي قتل فيها، حتى إذا انتصف النهار ولم يعد، ذهب إلى قصر الدوق ليسأل عنه، فأخبروه أنه قتل، فعلم للحال أن ذلك من صنع الرجل المتنكر؛ أي روكامبول، وجعل يقول في نفسه: إنه لو عاش سيدي وتزوج ابنة الدوق، لكان جعلني وكيل منزله، أما الآن وقد مات ماذا أصنع؟ أأسرق ما في منزل الدون جوزيف وأفر هاربا؟ ولكني قد لا أنجو من القضاء، وهب أني نجوت فليس في منزله مما يسرق أكثر من عشرة آلاف فرنك، وهي لا تكفيني شر العوز في المستقبل، وخير لي أن أتزلف للدوق فإنه كان يحب الدون جوزيف، فربما أبقاني في خدمته، فقد أستفيد فائدة عظيمة لوقوفي على سر هذا الرجل المتنكر، الذي لم يعد لدي شك أنه هو الذي أغرى على قتل الدون جوزيف كي يتزوج ابنة الدوق، ولكن ما بال هذا الرجل المتنكر لم أره منذ ثلاثة أيام؟ ألعله لم يعد في حاجة إلي بعد أن أدرك قصده؟
وفي كل حال فلا بد لي من البقاء في منزل الدون جوزيف أتولى حراسته إلى أن أرى ما يكون.
وكان قد عاد إلى المنزل وجعل يفتش في خزائن القتيل ويسرق ما فيه من المال، وفيما هو على ذلك إذ سمع قرع الباب الخارجي، فبادر إلى إقفال الخزائن، وأسرع إلى الباب ففتحه فرأى ذلك الرجل المتنكر الذي كان يفكر فيه.
ولم يكن هذا الرجل غير روكامبول، فإنه عندما ترك ريبيكا ذهب إلى منزله السري فتنكر وقدم إلى منزل الدون جوزيف كي يرى زامبا، فلما رآه انحنى مسلما عليه حتى كاد يبلغ الأرض، فقال له روكامبول: هل أنت وحدك؟ - نعم.
فدخل وأمره أن يوصد الباب، فأحكم إيصاده ودخل الاثنان إلى إحدى الغرف ودار بينهما الحديث الآتي، فقال روكامبول: أتقدر أن تخبرني عن قتل الدون جوزيف؟ - عجبا كيف تسألني هذا السؤال وأنت أعلم بالتفاصيل مني! - لا بأس أخبرني بكل شيء. - إن الدون جوزف مات قتيلا بخنجر فاطمة، وأظن أنك أنت الذي وضعت في يدها هذا الخنجر. - ربما كان ذلك، ولكن أتعلم السبب فيه؟ - كلا. - ذلك لأن الدون جوزيف كان يبغي الزواج بابنة الدوق. - إذا كان هذا الزواج قد ساءك فأنت تخدم دون شك رجلا آخر يريد أن يتزوج بها؛ إذ لا أظن أنك أنت الراغب بزواجها. - أرى أنك رجل نبيه ذكي الفؤاد، فقد أصبت، وأنا أخدم سواي في هذه المهمة كما كنت تخدم سواك، فلنتفق إذن إذا أمكن الاتفاق.
فجلس زامبا جلسة الواثق من شدة الحاجة إليه وقال: كل اتفاق ممكن بين عاقلين. - إنما أسألك قبل كل شيء أن لا تنسى أني واقف على سرك، وأنك محكوم عليك بالإعدام، وأني أستطيع أن أبعث بك إلى المشنقة حينما أريد. - وأنا ألتمس منك أن تكون كريما ورحيما. - سأكون كما تريد، فاعلم الآن إن طمعت أن تكون وكيل منزل ابنة الدوق، وستكون وكيلها بعد زواجها، غير أنه يجب من أجل ذلك أن تخدم في الوظيفة التي سأعينها لك إلى أن يتم هذا الزواج. - أخدم أينما أردت. - لي صديق يثقل وجوده علي، وأحب أن أضع في منزله من يراقبه، وهو الدوق دي مايلي. - عرفت هذا الدوق بالنظر. - وغدا ستذهب إليه، ويكون لديك كتاب توصية من ابنة الدوق. - من ابنة الدوق، وكيف لي أن أحصل على هذا الكتاب؟ - سأرسله لك بالبريد.
ثم تركه روكامبول ومضى إلى منزله السري، فدعا خادمه وقال: لقد أعفيتك من خدمتي وضاعفت راتبك.
فأجفل الخادم وقال: كيف ذلك يا مولاي؟ - ذلك أني سأعينك في خدمة رولاند دي كايلت لمراقبة أحواله، وستذهب إليه بهذا الكتاب.
ثم كتب إليه كتابا إلى صديقه رولاند يوصيه بهذا الخادم الأمين وأعطاه للخادم، وقال له: انصرف بهذا الكتاب إليه وعد إلي غدا لأخبرك بما يجب أن تصنع.
فأخذ الخادم الكتاب وهرول فرحا بهذا المورد الجديد.
وفي الساعة السادسة من المساء ذهب روكامبول إلى ريبيكا، فوجدها تنتظر وقد أصبحت بملابسها الجديدة فتنة للعيون، وفيما هما يتعشيان قال لها: لا بد أن يكون قد خطر لك بأني أحببتك، وأني أريد أن أتخذك لي خليلة.
فعجبت ريبيكا وقالت: ما عسى أن يكون قصدك إذن مما تنفقه علي؟ - إني أريد أن أجعلك من النساء النبيلات، وأن تكوني جديرة بالاسم الذي تدعين به؟
فزاد عجب الفتاة وقالت: ألعلي تقمصت وصار لي اسم جديد؟ - نعم، فإنك تدعين منذ الآن الكونتس أرتوف؛ أي باكارا شقيقتك العزيزة.
18
كان رولاند دي كايلت فتيا لم يتجاوز عشرين عاما، وكان على حداثة سنه كثير الغرور بجماله، وشديد الإعجاب بنفسه ومقدرته على فتنة النساء، ولكنه كان على هذا الغرور ضعيف العقل كثير الخيلاء، لا يراعي حرمة النساء، حتى إنه يندر إذا كلم امرأة أو رأى منها ابتسامة أن يسلم عرضها من فلتات لسانه، فيتباهى أمام إخوانه بأن فلانة تتمنى رضاه، وفلانة تذوب هياما به، شأن كثيرين ممن يأخذ بهم الغرور من الشبان فيجعلون فضيلات النساء مضغة الأفواه وسمر النوادي، والويل لمن تبسم لهم ابتسامة رضى، وتكلمهم كلمة حلوة، فإنها لا تنجو من مخترعات غرورهم.
وهذا كان شأن رولاند؛ فإنه عندما عاد إلى باريس يحمل بفؤاده حب باكارا الجديد، جعل يطوف على أصحابه، وكلما عثر بواحد منهم حدثه بحديث الكونتس أرتوف بجملته، وقال له: إنه سر أودعك إياه فلا تبح به لأحد، وما زال على ذلك حتى شفى غليله، واتصل هذا السر بنحو ثلاثين من أولئك الأصحاب.
وكان يقيم وحده في منزله، وليس معه فيه غير الخادم جرمين الذي أرسله إليه روكامبول، وقد طاف يوما كاملا فلم يجد صديقا جديدا يبوح له بغرامه الجديد، حتى إذا عاد إلى منزله لم يجد أمامه غير خادمه، فجعله في زمرة أصدقائه وباح له بسره، ثم عهد إليه أن يراقب مجيء الكونتس، فجعل الخادم يذهب كل يوم بحجة الاستفسار عن رجوعها من خدامها، ويذهب إلى روكامبول فيأخذ منه التعليمات اللازمة.
وقد مضى على دخوله في خدمته سبعة أيام دون أن يحدثه بأمر جديد عنها، إلى أن عاد رولاند إلى منزله في اليوم الثامن وسأل خادمه إذا كان علم أمرا جديدا، فقال: لقد علمت من خدام الكونت أنهم ينتظرون عودته بعد ثمانية أيام. - والكونتس؟ - لو كنت تعلم يا سيدي بما أتيتك به من الأنباء لكنت تجازيني خير جزاء؛ فإن الكونتس لا تعود مع زوجها. - ويحك ماذا تعني؟ - أعني أنها الآن في باريس وحدها.
فاختلج فؤاد رولاند سرورا وقال: أين أقامت؟ أفي قصرها؟ - كلا، بل إنها استأجرت منزلا في شارع باسي وأقامت فيه متنكرة، وقد علمت ذلك من وصيفتها التي تحبني وأحبها، ولكنني لا أزال أجهل نمرة المنزل، ولا بد لي أن أعرفها في هذا المساء.
فطار فؤاد رولاند سرورا وقال لخادمه صنيعة روكامبول: إنك إذا عرفت نمرة المنزل أجازيك خير الجزاء.
وفيما هما على ذلك إذ طرق الباب ودخل صديق جديد يدعى أوكتاف كان غائبا عن باريس، وكان من أخص أصدقائه، فسر رولاند بقدومه وأخبره بجميع أمره مع باكارا إلى أن أخبره بحديث خادمه، فقال له صديقه: إنها لم تتنكر وتأتي إلى باريس قبل زوجها إلا بقصد أن تراك، وفي جميع ذلك مما يدل على أنها مفتونة بك، وكيف لا تحبك بعد أن أنقذتها من الموت ، بل كيف لا تهواك وقد خصك الله بجمال بت فيه فتنة النساء. فسر رولاند وجعل يفتل شاربيه مختالا.
وفيما هما يتحدثان إذ دخل الخادم يحمل كتابا إلى مولاه، فأخذه رولاند وفضه على عجل، فقرأ فيه ما يأتي:
إذا كان رولاند دي كايلت هو ذلك الرجل النبيل الذي تدله عليه ظواهر أعماله، وإذا كان خليقا باسمه وبذلك الحب الذي غرسه في قلب المرأة المدينة له، فليركب جوادا في الساعة الحادية عشرة من المساء، وليذهب إلى شارع باسي وينتظر.
فلما أتم قراءته عرف أنه من باكارا، فدفعه إلى صديقه وهو لا يصدق ما يراه من الفرح، فقرأه أوكتاف وقال: لم يعد شك أنها مفتونة بك. - نعم، غير أن الخط ليس خطها.
فهزأ به أوكتاف وقال: ألا تظن أن لها وصيفة تأتمنها على سرها وتستكتبها مثل هذه الرسائل الخيرة؟ فاقتنع رولاند وخرج مع صديقه إلى النادي لمناولة الطعام.
وكان هناك روكامبول وصهره فابيان، فدار الحديث بين الحضور على أبحاث شتى، إلى أن عاد رولاند إلى حديث غرامه، فجعل يخلو بكل واحد من أصدقائه ويخبره بحديث الرسالة، إلى أن أفضى الدور إلى فابيان، ولما باح له بكل شيء جعل يؤنبه لما يبديه من الطيش والغرور، وقال: إنك والكونت من أصدقائي، وقد بحت لي بسرك مع امرأته فأوقفتني أصعب موقف، على أني لا أزال أشكك في هذه الرسالة، وأعتقد أن أحد أصدقائك أراد أن يمازحك فكتبها إليك، وفي كل حال فإن الكتمان أجدر بك، وإلا فإنك تعرض نفسك لمبارزة الكونت أرتوف.
فهاجت الكبرياء بصدر رولاند وقال: أتحسب أني أخشى مبارزته؟ - كلا، ولكنك تخشى مقابلة تلك المرأة بعد أن تقتل زوجها، وفي كل حال فإنه يجدر بك صيانة عرض تلك المرأة إذا كنت تحبها كما تقول، وإلا فأي حب هذا؟
فأطرق رولاند وهو لا يعلم بماذا يجيب، وما صدق أن دخل بعض أعضاء النادي إلى الغرفة التي كان فيها حتى غير الحديث، ثم أفلت من فابيان ونصائحه واندمج مع أصدقائه الآخرين وهو لا يلويه شيء عن الافتخار بهذا الحب الجديد، وما زال في النادي إلى أن حان الموعد المضروب، فخرج من النادي وركب جواده وانطلق للقاء باكارا وهو موجس خيفة من تحذير فابيان، وهو أن هذه الرسالة قد يكون كتبها له أحد أصدقائه على سبيل المزاح.
19
وكانت الليلة ممطرة، ولكن رولاند لم يبال بالمطر لما كان يتأجج بصدره من نار الوجد، فجعل يسير مسرعا بالجواد إلى أن وصل إلى الشارع المعين، فوقف ينتظر فلم ير أحدا وقد أقفر الشارع من المارة لانهمار المطر.
وما زال يسير ذهابا وإيابا في مسافة محدودة لا يتعداها إلى أن حان منتصف الليل، أخذ يرجح ظنون فابيان وسئم من نفسه لإباحته بسره لجميع أصدقائه، حتى جعلهم يهزءون به هذا الهزء، ولكنه بقي له شيء من الرجاء فلم يخب رجاؤه، ففيما هو واقف في الطريق والمطر ينهمر عليه، إذ لقي مركبة تدنو منه حتى وصلت إليه فأوقفها سائقها ونزل منها رجل، فدنا منه، وقال له: ألعلك رولاند دي كايلت؟ - نعم. - تفضل إذن بالتخلف عن جوادك والركوب في هذه المركبة إلى حيث ينتظرونك، أما جوادك فسأحتفظ به إلى حين عودتك. فامتثل رولاند وهو لا يصدق ما يسمع، ودخل في تلك المركبة فأقفل بابها من الخارج، وانطلقت به مسرعة إلى منزل الحبيب.
وبعد مسير عشر دقائق وقفت المركبة على باب منزل كبير، فأراد رولاند أن يفتح باب المركبة فوجده مقفلا من الخارج، فحاول أن يرى من زجاج نافذتها، فرآه مصبوغا بدهان بحيث لا يستطيع أن يرى شيئا، فعلم أن باكارا أرادت بهذا الحذر أن لا يعرف طريق منزلها.
ولم يطل انتظاره، فإن باب المركبة فتح من الخارج ورأى رولاند خادما يقول له: تفضل يا سيدي واتبعني. فتبعه إلى قاعة مفروشة بأجمل الرياش منورة بنور ضعيف، فأدخله الخادم إليها وانصرف، فرأى رولاند ريبيكا التي تمثل دور باكارا جالسة قرب المستوقد، فلم يشكك رولاند أنها امرأة الكونت لشدة الشبه بينهما، ودنا منها فأخذته بيدها البيضاء فقبلها باحترام وقال لها: ما أرق قلبك! وما ألطف شعورك!
فابتسمت له ابتسام الحزين بعد أن جذبت يدها من يده باضطراب وقالت: تفضل يا سيدي بالجلوس بقربي. وكان رولاند يعتقد أنه يحب امرأة الكونت أرتوف حبا شديدا، فتلجلج لسانه عن الكلام حين رآها، كذلك ريبيكا فإنها كانت تمثل دور الغرام، فلم تنبس بحرف كأنها لا تجسر أن تفتح الحديث.
وكان روكامبول قد علمها دورها حتى أتقنته، فلما رأت رولاند يضطرب ولا يجسر أن يتكلم بدأت هي بالحديث، فقالت باسمة: إذن أنا مدينة لك بحياتي.
فقال رولاند وقد حلت عقدة لسانه: حبذا يا سيدتي لو تمكنت من أن أجعل حياتي في كل ساعة فداءك.
فابتسمت وقالت: إنك لا شك مجنون. - ذلك لأني جننت بحبك.
فتنهدت وقالت: أريد أن أقول إن كلينا مجنون، إني أحبك أيضا. ثم غطت وجهها بيدها، فخيل لرولاند أنه رأى دمعة نفذت من خلال أصابعها، ثم مسحت تلك الدمعة وكأنها ذكرت أنها امرأة الكونت أرتوف، وأنها مقيدة بقيود الواجبات، فقالت لرولاند وكان لا يزال واقفا أمامها: اجلس على هذا الكرسي بجانبي، واحذر أن تبدو منك ما أنكره عليك وإلا ... - وإلا ماذا؟
فقالت بلهجة الممازح: وإلا أقصيتك عني فلا تعود تراني.
فاطمأن رولاند للهجتها وامتثل لها فجلس بقربها، فوضعت يدها بيديه وقالت: لنتحدث. - أي حديث يا سيدتي يفصح عما أجد من غرامك؟ - تريد أن تقول إنك منذ لقيتني لم تعرف طعم الرقاد، وإنك لم تنم إلا على أمل أن ترى طيفي في الأحلام.
فوضع يده على قلبه وقال: هو ما تقولين أيتها الحبيبة، فإنني لقيت ما لا تقوى النفوس على احتماله. - وقد وصلتك رسالتي، فتلوتها مرارا وأتيت إلي وأنت كالثمل من شدة الرجاء، إنك تريد أن تقول لي جميع هذه الجمل التي أسبقك إلى قولها، فإنك ترى أني جربت في حلبة هذا العمر شوطا بعيدا، وقرأت جميع تواريح الغرام، فباتت فقراته وفصوله في محفوظي. - لا أرى إلا أنك فتنة العيون، وأني أحبك.
فابتسمت وقالت: لو لم أكن واثقة من حبك أكنت تراني في خلوة معك، أما وقد عرفت سر قلبي فلا بد لي من أن أوقفك على شيء من أسرار حياتي؛ فاعلم أني لم أخلق نبيلة كما تراني، بل إنني قبل أن أكون امرأة الكونت أرتوف كنت أدعى باكارا، ألم تسمع بباكارا؟ - ذلك سيان عندي، فإني أحبك. - أصغ إلى تتمة حديثي، فإن باكارا عرفت أنها لا قلب لها يشعر بالحب، ولكن الحب نفذ إلى قلبها يوما كما تنفذ أشعة الشمس إلى الآنية فتملؤها شعاعا، فلما تبت عن عيشي السابق وأصبحت امرأة الكونت أرتوف، أقسمت على أن أحترم اسمه الشريف، وأن أكون من أطهر النساء فما نكثت بهذا العهد، وأحببت زوجي أربعة أعوام حبا يشبه العبادة.
ثم غطت رأسها بيديها وتظاهرت أنها تضطرب، وبعد حين نظرت إليه بعين يترقرق الدمع فيها وقالت: كيف اعترضتني في سبيلي؟ وكيف لقيتك؟ وما لقيت منك؟ فإني ما لبثت أن رأيتك حتى اختلج فؤادي وعلمت أن لك سلطانا علي لا يغلب، فبينما أنا الكونتس أرتوف إذ غدوت فجأة باكارا، وبات هذا الكونت النبيل الذي طالما أحبتته سمجا في عيني حتى لم أعد أطيق النظر إليه. ثم جعلت تبكي بعد هذا القرار بكاء شديدا وتقول: رباه! ما هذا الحب وما أصعب مواقف الغرام!
فذهب عقل رولاند ولم يدر ما يقول، فجثا أمامها وجعل يقبل يدها وهو يقول بلسان متلجلج: أحبك.
غير أن ريبيكا رأت أنه يجمل بها الاندفاع، فجذبت يدها من يده بلطف وقالت: رولاند، إن زوجي سيحضر بعد ثلاثة أيام.
فتنهد وقال: ثلاثة أيام فقط؟ - نعم، وا أسفاه! فقد أصبحت أمقته أشد المقت، فارث لحالي فإن هنائي بصحبته أربعة أعوام سينقلب إلى شقاء شديد لا قبل لي باحتماله.
فتحمس رولاند وقال: أتهربين معي؟ - إلى أين؟ فإننا لو ذهبنا إلى آخر المعمورة لأدركني وقتلني شر قتلة. - أتخشينه وأنا بقربك؟ - إنه يقتلك أيضا، وأنا لا أريد لك الموت، بل أن تعيش لي وتحبني، فلنبق هنا إلى أن أجد سبيلا يجمعني وإياك، ولكنك ستدفن سري في أعماق قلبك، أليس كذلك؟ - أعندك شك بهذا؟
وقد نسي في تلك الساعة أن سره يتحدث به ثلاثون من أصدقائه.
قالت: ولا تأسف حين يكون زوجي في باريس إذا لم أستطع أن أراك كل يوم، بل اصبر كما أنا صابرة. - سأصبر إلى أن نجد وسيلة كما تقولين. - إذن فاذهب الآن وسنجتمع غدا. - أين؟ - في هذا المنزل، فتأتي إلى الشارع على جوادك، وتنتظر إلى أن توافيك المركبة التي وافتك اليوم.
فامتثل رولاند وقبل يدها بلهف ثم خرج، فشيعته باسمة إلى الباب، فلقي المركبة تنتظره فركب فيها وانطلقت به إلى حيث كان ينتظره الخادم بجواده، فامتطى الجواد وانطلق يعدو به إلى النادي حيث كان يرجو أن يجد فيه أحدا من أصدقائه، فيبوح له بهذا السر الذي كاد ينفجر بقلبه، ولكنه لم يجد أحدا منهم، فانقلب راجعا إلى منزله يمشي مشية الحزين لضيق صدره بهذا السر، مع أنه لم يكن في حياته على ما هو عليه من الفرح بهذا الاجتماع.
ونام فلم يحلم تلك الليلة إلا بباكارا، وظل نائما إلى الظهر، فلما فتح عينيه سمع جرس الباب الخارجي يدق، فظن أن صديقه أوكتاف قام لزيارته، ولكن ظنه أخطأ فإن القادم كان المركيز دي شمري؛ أي روكامبول، فدخل إلى غرفته وقال باسما: أتدري لماذا أتيت لزيارتك؟ - كلا! - إني أتيت لظني بأنك في حاجة إلى صديق، وفيمن يكتم سرك ويعينك بإخلاصه على ما أنت فيه. - لقد أحسنت، فإن لدي سرا سيقتلني دون شك إذا بقي مدفونا في قلبي.
فجلس روكامبول على طرف سريره وجعل رولاند يقص عليه ما جرى له في ليلة أمس.
20
وكأن الصدفة أرادت أن تخدم روكامبول أجل خدمة؛ وذلك أنه في اليوم التالي لتلك الليلة التي كانت ريبيكا تمثل فيها دور الكونتس أرتوف، كانت هذه الكونتس؛ أي باكارا، سبقت زوجها إلى باريس بيومين، فقدم هو عن طريق الرين وبلجيكا لقضاء بعض المهام، وقدمت هي عن طريق ستراسبورج ولورين، وهي أخصر الطرق إلى باريس، وقد ذهبت توا إلى قصرها، وكان الخدم متأهبين لاستقبالها، وجلست هنيهة إلى أن استراحت من مشاق السفر، ثم طلبت رسائلها التي وردت، فجعلت تطالعها حتى رأت بينها ورقة نعي الدون جوزيف الذي كان يحول بين الدوق مايلي وبين ابنة الدوق دي سالاندريرا، فاختلج فؤادها عند تلاوتها هذا النبأ، وقامت في الحال إلى مكتبها فكتبت إلى الدوق مايلي تعلمه بقدومها وتدعوه إليها، وأرسلت كتابها مع أحد الخدم، ثم كتبت كتابا آخر إلى أختها سريز تخبرها بحضورها، وجعلت تنتظر حضور الدوق.
وكان الدوق مايلي يبلغ الثلاثين من العمر، وهو وافر الثروة عريق النسب جميل الطلعة، وكان يحب ابنة الدوق سالاندريرا حبا عظيما، وتعرض لخطبتها غير أن أباها رفض لعزمه على تزويجها بالدون جوزيف.
فلما أتى الدوق مايلي وجد باكارا تنتظره في غرفة أشغال زوجها، وأمامها منضدة عليها دفتر ملئت صفحاته بخط تدل ثخانة حروفه على أنه خط رجل، فقال لها: كنت أحسب يا سيدتي أني سأرى معك الكونت. - إن زوجي لا يحضر إلا بعد ثلاثة أيام، ولولا هذا النبأ الذي علمته منذ ساعة لكنت انتظرت حضوره فدعوتك إلي. ثم أعطته ورقة نعي الدون جوزيف، فاصفر وجهه ولم تخف حالته على باكارا، فقالت له: ألا تزال تهوى ابنة الدوق؟ - نعم وا أسفاه! وإنما أتأسف لأنه حب لا رجاء فيه. - إني أراك قانطا على أنك لو قرأت هذا الدفتر الذي تراه أمامي لتبدل يأسك بالرجاء.
فذهل وقال: ما هذا الدفتر؟ - صبرا الآن وأجبني على أسئلتي، أليس لعائلتك فرع في روسيا؟ - نعم في أودسا، إن أخا جدي وهو الشفاليه دي مايلي ذهب في عهد لويس الخامس عشر مع الدوق دي شوازيل الذي تعين سفيرا لفرنسا في بطرسبرج، فأحب فتاة من حاشية الإمبراطور كانت وافرة الثروة وتزوج بها، فعين عند ذلك كولونيلا في الجيش الروسي، وقد ولد له ثلاثة بنين استوطنوا روسيا ونسوا أنهم فرنسيون، فلم يعد لهم أقل علاقة بنا، وأذكر أن عمي لقي في حربها مع روسيا سنة 1812 كولونيلا روسيا يدعى باسم عائلتنا وتقاتل معه. - إني أريد أن أحدثك عن هذا الكولونيل نفسه، فإنه هو الذي أعطاني هذا الدفتر إليك، وقد لقيناه هذا العام في أودسا، وقد دعانا إلى حفلة راقصة في قصر الحاكم، فلما سمعنا باسمه ذهلنا، فأخبرنا أنه من أصل فرنسي، وحكى لنا هذا التاريخ الذي حكيته.
ثم استحكمت حلقات الصداقة بينه وبيننا، وبعد زيارات كثيرة أخبرته بأمرك وأنك تحب ابنة الدوق سالاندريرا، ولكنهم يرفضون طلبك، فانذهل عمك وقال: كيف يرفضون طلبه؟ قلت: لأن الدوق سالاندريرا لم يخلف مولودا ذكرا، وهو يود أن يورث ألقابه واسمه لابن أخيه الدون جوزيف. قال: إنه مصيب في ما يرتئيه، ولكن الدوق مايلي هو قريب الدوق سالاندريرا.
ارتعش الدوق وقال: أنا قريب سالاندريرا؟ - ربما. ثم أتمت حديثها متبسمة وقالت: ألم يكن أحد أجدادك من أركان الحرب في عهد لويس الخامس عشر. - نعم. - ألم يكن من فرقة الشرف التي سارت إلى إسبانيا مع الملك فيليب الخامس؟ - يظهر أنك تعرفين تاريخ عائلتي كما أعرفه. - بل أكثر مما تعرفه؛ فإنك لم تكن تدري أن أحد أجدادك هذا تزوج في العاصمة الإسبانية. - كلا. - إذن اقرأ هذا الكتاب الطويل الذي كتبه إليك عمك الروسي قبل سفرنا؛ فتعلم ما كنت تجهله.
أخذ الدوق مايلي الدفتر وجعل يقرأ ما فيه بلهف شديد حتى أتمه، وهي حكاية طويلة يظهر منها أن لعائلة مايلي اتصالا شديدا بعائلة سالاندريرا، غير أن هذا النسب مكتوم عن الناس، ولكن عمه الروسي قال له في آخر كتابه: إن لديه كتابا بخط والده الدوق دي سالاندريرا، وكتابا آخر بخط رئيس الأساقفة يثبتان هذا النسب، وأنه مستعد لإرسال الكتابين إليه إذا كان زواجه بالتي يحبها متوقفا على إثبات هذا النسب.
فلما أتم الدوق قراءة هذه الحكاية لبث هنيهة مفكرا مطرقا ثم قال: إذن لم يبق حائل بيني وبين هذه الفتاة بعد موت خطيبها؟ - إن هذا لا ريب فيه، فإن الدوق لم يرفض طلبك إلا لوجود من هو أقرب إليه منك وهو الدون جوزيف، والآن فلم يبق لدينا غير أمر واحد، وهو الحصول على هذين الكتابين اللذين أشار إليهما عمك لإثبات النسب، ومتى وردا إليك أتعد بنيل ما تبتغيه من زواج ابنة الدوق، فاذهب إلى منزلك واكتب لعمك عن اضطرارك إلى هذين الكتابين، ثم أرسل لي كتابك هذا فإني أبعث به مع واحد من خدامي القوزاق. - متى يرد الجواب؟ - بعد أسبوعين، ومتى ورد الكتابان وعادت عائلة سالاندريرا إلى باريس أتولى المخابرة عنك في هذا الشأن الخطير على ثقة من النجاح فيه.
فودعها الدوق وخرج وهو يحسب نفسه حالما لقرب تحقيق آماله.
أما باكارا فإنها عادت إلى قاعة الاستقبالات، فرأت أن أختها سريز تنتظرها، فكان سرور الأختين بالتقائهما لا يحيط به وصف، فلما سكنت عوامل شوقهما قالت لها سريز: عجبا كيف تكتبين لي أنك وصلت منذ ساعة وأنا رأيتك أمس؟
فذهلت باكارا وقالت: أين رأيتني؟ - رأيتك أو خيل لي أني رأيتك أمس في الساعة الثانية في الشارع الكبير، وكنت راكبة في مركبة يجرها حصان واحد، فما تمالكت حين رأيتك من أن أصيح صيحة دهش واستغراب. - إني كنت في هذه الساعة قادمة من نانسي، وكان بيني وبين باريس عدة أميال، ولا بد أن تكوني رأيت امرأة تشبهني، فقد كان منذ ستة أعوام يوجد امرأة تشبهني أتم الشبه.
فأطرقت سريز وقالت: ربما كانت «هي».
وقد أشارت بقولها هي إلى أختها دون أن تجسر على التصريح باسمها، فلم تكترث باكارا لذلك وقالت: إن الخلق يتشابهون.
ولم يخطر لها في فكر ما ستجره عليها هذه المشابهة من بلاء.
21
وفي اليوم التالي لاجتماع باكارا بالدوق مايلي، بينما كان روكامبول جالسا في المكان السري، وهو متنكر بالزي الذي كان يلقى به زامبا، إذ طرق الباب ففتح للقادم، وكان زامبا الذي عينه روكامبول في خدمة الدوق، كما عين خادمة في خدمة رولاند؛ كي لا تخفاه خافية من أعمال الاثنين.
فدخل زامبا وهو يبتسم تبسم الظافر، فأدرك روكامبول معنى هذا الابتسام وقال له: ما وراءك من الأخبار؟ - جئتك بخبر هام. - ما هو؟
تعلم أنه بات للدوق ثقة عظيمة بي بعد أن أعطيته كتاب توصية الغادة الإسبانية، فجعلت أدرس طباعه منذ ثلاثة أيام حتى عرفته حق العرفان، فهو يحب ابنة الدوق يا مولاي حبا شديدا ، وأصبح كل ما لقيني يسألني عنها أسئلة متواترة تدل على شغفه، غير أني كنت أتبين من أسئلته أنه لم يكن طامعا بزواجها، وبقي على هذا اليأس إلى ليلة أمس.
فوجف قلب روكامبول وقال: ماذا حدث أمس؟ - وردته أمس رسالة من الكونتس أرتوف تدعوه فيها إليها، فاضطرب الدوق عند تلاوتها وهرول مسرعا إلى زيارتها، وعاد بعد ساعتين وعليه ملامح التأثير، ولكنه تأثير فرح وصفاء. - ألعلك عرفت لماذا؟ - كلا، ولكننا سنعرف السبب إذا فتحنا هذا الكتاب الذي عهد إلي الدوق بإرساله إلى الكونتس أرتوف قبل أن ينام، ولا يزال نائما إلى الآن فإنه صرف ليلته بالقراءة. - وماذا كان يقرأ؟ - دفترا ضخما ربما جيء به من عند الكونتس. - سوف نرى.
ثم أخذ الكتاب من زامبا وفتح درجا، فأخذ منه غلافا يشبهه، فكتب عليه عنوان باكارا مقلدا خط الدوق أتم التقليد، وفض الكتاب فرأى في طيه كتابا آخر إلى ابن عمه في أودسا، وكان فحوى كتاب باكارا أنه يسألها فيه مراجعة كتابه إلى ابن عمه، حتى إذا رأته موافقا أرسلته مع خادمها إلى أودسا كما وعدت، وكان فحوى كتابه إلى ابن عمه أنه يطلب إليه إرسال الشهادتين الدالتين على نسبه وقرباه من عائلة سالاندريرا.
فلما قرأهما روكامبول اصفر وجهه، ولكنه لم يعلم حقيقة هذا اللغز، فقال لزامبا: لا بد لي من قراءة هذا الدفتر الذي أتى به من عند الكونتس. - غدا يكون عندك؛ لأن لدي مفاتيح جميع خزائن الدوق.
فاطمأن روكامبول وأعطاه كتاب باكارا وذهب به إليها، وفي اليوم التالي عاد إليه بالدفتر فأخذه روكامبول وانطلق به مسرعا إلى أستاذه أندريا فتلاه عليه، وأخبره بكتاب الدوق إلى باكارا، ففكر أندريا مليا، ثم كتب على لوحه الحجري: لا بد للدوق مايلي من فوزه مع حليفته باكارا، إلا إذا استحال على باكارا مساعدته، وبذلك يجب أن تتم الدور الذي شرعنا بتمثيله. - سنتمه كما تريد. - لا ينبغي أن يموت الكونت أرتوف؛ لأن موته يدفع باكارا إلى الاهتمام بأمر الدوق كي تتعزى عما هي فيه. - إذن فما نفع الدور الذي تريد أن نمثله؟ - ستعلم النتيجة يوم مبارزته مع رولاند.
فنظر روكامبول إليه نظرة ارتياب وقال: أرى أن الحزن والشقاء قد ذهبا بصوابك.
فابتسم أندريا ابتسام الساخر وقال: إنك لم تغير عهدي فيك، فإنك لا تزال غرا أبله جاهلا بدقائق أسرار المهنة على طول تمرنك فيها.
فاستاء روكامبول وأجاب: إذا كنت لا تريد قتل الكونت أرتوف، فلماذا تريد حمله على المبارزة؟ - ذلك أني أريد أن أصيره مجنونا في ساعة المبارزة. - أرى أني أنا الذي سيغدو مجنونا لأني لا أفهم شيئا من هذه الألغاز. - ستفهم كل شيء حين الأوان، والآن فإن باكارا لا بد أن تكون أرسلت رسولا إلى أودسا للحصول على أوراق نسب الدوق مايلي، ولا بد لهذا الرسول أن يعود بالأوراق قبل شهر، فلما يرجع لن تستطيع باكارا أن تهتم بالدوق مايلي لانشغالها بزوجها وجنونه وتلطيخ سمعتها، غير أنها حين ترد إليها الأوراق ترسلها إلى الدوق، ومتى وصلت إليه عرضها على الدوق سالاندريرا، إذن فلا بد من الحصول على هذه الأوراق. - لا نستطيع الحصول على الأوراق إلا إذا قتلنا الرسول. - إن الكرة الأرضية غاصة بسكانها، فلا تؤثر عليها نقص واحد أو اثنين. - حسنا وبعد ذلك؟ - يجب قتل الدوق مايلي.
فأجفل روكامبول وقال: ألعلك تريد إرسالي إلى المشنقة؟ - حقك أن تكون معلقا عليها منذ عهد بعيد، ولكنك ستنجو منها الآن كما نجوت من قبل، وما عليك الآن إلا أن تنفذ أوامري دون أن تعترض علي في شيء. - ماذا تريد أن أفعل؟ - أريد أن تذهب إلى ريبيكا وتملي عليها هذا الكتاب:
حبيبي رولاند
لا أستطيع - وا أسفاه - أن أكون حرة في هذه الليلة، غير أني أرجوك أن تكون في منزلك غدا في الساعة الخامسة، فسأزورك فيه.
التي تحبك
فأجاب روكامبول: هذا كل ما ترومه؟ - هو كل ما أطلبه إليك الآن، فاذهب عني لأني أحب أن أستريح.
22
فتركه روكامبول ومضى إلى ريبيكا، فأملى عليها الكتاب المتقدم وأرسله إلى رولاند، فذهب رولاند حسب عادته إلى جميع أصحابه، وجعل يخبرهم بأمر الرسالة، وكان من الذين أطلعوا على هذا السر روكامبول؛ أي صديقه المركيز دي شمري، فلما ذهب روكامبول إلى منزله لمناولة الغداء، لقي صهره فابيان فخلا به وقال له: أتحب رولاند؟ - إني أحبه حبا شديدا، وفوق ذلك فإني مسئول عنه أمام والده، فإنه يكتب إلي في كل أسبوع يوصيني بالعناية به والحرص عليه. - إذن فاعلم أنه سيوقفك بعد أسبوع في أشد موقف؛ لأنه سيدعوك لتكون أحد شاهديه في قتاله مع الكونت أرتوف.
فهز فابيان كتفيه وقال: إني لا أصدق حرفا من حديث حبه للكونتس. - إنك مخطئ في زعمك، فقد زارها أمس في منزل سري في شارع باسي، ثم إنها ستزوره اليوم في منزله، فإنها كتبت إليه. - لا شك أن الكتاب مزور. - ربما كان ذلك، وفي كل حال يجب ردعه عن تماديه، فقد جعل عرض الكونت مضغة الأفواه، ومتى عاد الكونت واتصل به شيء من هذه الأحاديث يقتله لا محالة، والذي أراه أنه يجمل بك الآن أن تذهب إليه في منزله؛ فإنه ينتظرها فيه وتردعه عن هذه الخطة المنكرة، فإنك مسئول عنه كما تقول. - أحسنت، وها أنا ذاهب إليه الآن، وعسى أن أوفق لردعه.
ثم افترقا فذهب روكامبول إلى النادي، وانطلق فابيان إلى منزل رولاند، فوجده وعلائم الجزع بادية عليه، فقال له: ما بالك قلقا، ألعلك تنتظر زيارة أحد. - إني أنتظرها (أي الكونتس). - لقد قلت أيها الصديق إنك منخدع، فإن التي تحبها وتزعم أنها تحبك ليست الكونتس أرتوف. - ومن عسى تكون؟ - ربما تكون إحدى بنات الهوى لقيتك في بادن، فانتحلت هذا الاسم كي تتمكن من إغوائك.
وكأن رولاند قد مست كبرياؤه فقال له: أتريد أن تعلم الحقيقة؟ - نعم. - إن الكونتس أرتوف ستكون هنا بعد عشر دقائق، وسأجتمع بها في هذه القاعة التي نحن فيها، فإذا أردت أن تتأكد بأني غير منخدع فادخل إلى هذه الغرفة المجاورة وانظر إليها من ثقب القفل، فتعلم الحقيقة إذ تراها مرأى العين.
وما أوشك أن يتم حديثه حتى قرع الباب الخارجي، فارتعش رولاند وقال: إنها أتت، فإذا شئت أن تراها فأسرع إلى هذه الغرفة المجاورة. - نعم أريد أن أراها، فأظهر لك انخداعك. - إذن أسرع بالاختباء.
فامتثل فابيان ودخل إلى الغرفة، ثم أغلق بابها ووضع عينه على ثقب القفل.
وبعد هنيهة دخلت إلى القاعة امرأة مبرقعة الوجه وقالت لرولاند: ألعلك وحدك؟
فاختلج فابيان لسماعه هذا الصوت وحدق النظر من ثقب الباب، وكانت قد أزاحت البرقع عن وجهها، فكاد يسقط على الأرض لدهشته ولشدة تأثيره؛ لأنه رأى الكونتس بعينها، ولم يعد لديه شك بما كان يقوله رولاند، وإنما خدع لشدة الشبه بين باكارا وريبيكا، حتى إن الناقد البصير لا يستطيع التمييز بينهما إلا إذا كانتا بإزاء بعضهما. فلما أيقن من أنها امرأة الكونت، رجع عن الباب فجلس على كرسي في آخر الغرفة كي لا يرى ولا يسمع، وهو يقول في نفسه: إن المرأة إذا سقطت في هوة الرجس وتدنست بالآثام فلا رجاء بإصلاحها، ولا تكون مظاهر توبتها غير كاذبة، فما أشد شقاء من ينخدع بهذه المظاهر ويتزوج إحدى هؤلاء التائبات، فإن الوحل يجف إذا أصابته أشعة الشمس فيستحيل إلى تراب، ولكنه لا يلبث أن يعود وحلا عند أول رشاش يصيبه من المطر.
أما ريبيكا فإنها جلست بإزاء رولاند، وهو يوشك أن يطير سرورا بها، وقالت له: أتعلم أن الكونت سيحضر غدا؟
فهدد رولاند الفضاء بقبضتيه وقال: يا ويله إذا اجتمعنا، فلا يلاقي غير الموت. - حبذا ما تقول! ولكن أتدوم على حبي متى أصبحت مطلقة القياد. - بل أعبدك عبادة، وكيف لا أحبك وأنا أريد أن أقتله من أجلك.
فأخذت يده بين يديها وقالت: لعلني أجد طريقة تجمعني وإياك إلى الأبد، أما الآن فليس لي من سعادة لقياك غير ليلة واحدة سأصرفها برمتها معك، ولأجل هذا أتيتك فاذهب الآن إلى الأوبرا واستأجر اللوج الأول فيها، وأنا أوافيك إليه في الساعة العاشرة، ثم نعود سوية إلى محل نستر به حبنا عن العيون. - ألعلك ذاهبة الآن؟ - نعم، فقد صحبتني امرأة تنتظرني على الباب بالمركبة، وما هي إلا رقيبة علي، فلا أحب أن أحملها على الريبة بي إذا أطلت الإقامة عندك.
ثم أفلتت من يديه إفلات الظبي وخرجت وهي تقول: لا تنس الأوبرا.
وبعد ذلك دخل فابيان، فقال له رولاند: أسمعت بأذنك ورأيت بعينيك؟ - نعم، وبئست الساعة التي علمت فيها هذه الحقيقة الهائلة، والآن فلم يبق لي إلا أن أسديك النصيحة، وهي أن تكتم هذه الحقيقة عن جميع إخوانك، لا إشفاقا على عرض هذا الكونت المسكين، بل رحمة لنفسك فإنه رجل شديد.
ثم خرج دون أن يسلم عليه لفرط تأثيره، فلما وصل إلى منزله رأى فيه المركيز ألبرت فريدريك دي شمري، فسأله عما رأى، وكأنه لا يعلم شيئا عن هذه الحوادث.
فأجاب رأيت أن رولاند لم يكن منخدعا، وأن امرأة الكونت أتت بنفسها إليه، وستجتمع به هذه الليلة في الأوبرا في لوج واحد، وربما رفعت برقعها وعرضت وجهها لجميع الحضور.
فرد روكامبول: إنها قد تقدم على أكثر من هذا، وعندي أن رولاند بات مقضيا عليه لا محالة، فإن الكونت أرتوف سيدري بخيانة امرأته إثر عودته، فيقتلها ويقتله ثم يقتل نفسه، غير مكترث بالحياة بعد فقد الشرف.
وعند ذلك دخل الخادم ودفع كتابا لروكامبول فاصفر وجهه؛ إذ رأى عليه طوابع أجنبية وعلم أنه من ابنة الدوق، فاستأذن صهره وذهب إلى غرفته ليطالع هذا الكتاب.
وكان الكتاب من ابنة الدوق وهو يتضمن تفصيل سفرها، وشدة تأثر أبيها لفقد قريبيه وانقسام حبل أسرته، ثم ذكرت له أنه بعد أن خفت لواعج أبيها كاشفتها أمها بأمر الزواج، ووصفت لها الدوق دي مايلي مثنية على آدابه، واشترك معها أبوها فذكره أمامها بالخير، مما يدل على رضاه عنه، غير أن ابنة الدوق ختمت كتابها بتجديد علائق الحب مع روكامبول، وعادت إلى شكره لإنقاذها من الدون جوزيف كأنها تطلب إليه إنقاذها من الدوق مايلي أيضا.
فلما أتم تلاوته ذهب به لأندريا وقرأه عليه، فأخذ لوحه الحجري وكتب عليه: يجب أن تسرع بشأن باكارا، وأن لا تهتم بشأن ابنة الدوق إلى أن تعود. - ماذا يجب أن أصنع بشأن باكارا؟ - يجب أن تجد ذلك الطبيب الذي عالجني، فإنه خبير بجميع أنواع السموم، وإن بين هذه السموم سما لا يقتل شاربه، ولكنه يذهب بعقله إلى حين، فإذا تمكنت من الحصول منه على هذا السم بلغتك ما تريد. - ماذا تبغي أن أصنع بهذا السم؟ - ستعلم ذلك حين إحضاره.
فذهب روكامبول ممتثلا وهو يفكر في حيلة تمكنه من إغراء هذا الطبيب على إعطائه السم المطلوب.
23
ولنعد الآن إلى رولاند، فإنه ذهب في الساعة التاسعة إلى الأوبرا، وأقام في اللوج الذي اتفق مع ريبيكا أن ينتظرها فيه، وكان جميع أصحابه قد علموا بهذا الموعد فجاءوا إلى الأوبرا كي يتأكدوا صدق رولاند، فلما كانت الساعة العاشرة رأوا أن امرأة أدخلت إلى لوجه وجلست بإزائه، ولكنهم لم يتبينوا وجهها لأنها أقامت إلى انتهاء التمثيل دون أن تزيح برقعها، غير أن الفضول دفعهم إلى معرفتها، فتصدوا لها ولرولاند عند خروجهما من اللوج ووقفوا في ممرهما، وكان معهما روكامبول، فلما خرجا ونظرت إليهم أشار إليها روكامبول إشارة خفية، فأزاحت البرقع كأنها تريد إصلاحه، فرآها الجميع وأيقنوا أنها الكونتس أرتوف لشدة ما كان بينها وبين باكارا من الشبه، ثم اقتفوا أثرهما إلى أن رأوهما دخلا إلى منزل رولاند، فرجعوا وكلهم يعجبون بما رأوه ويتوقعون لرولاند القتل العاجل.
أما روكامبول فإنه انفصل عنهم، وفي اليوم التالي تنكر وذهب إلى منزله السري، وأقام فيه ينتظر قدوم زامبا إليه بخبر جديد، فما طال انتظاره حتى جاءه هذا الخادم وأخبره أن الكونت أرتوف وصل إلى باريس في هذا الصباح، وأن امرأته أرسلت إلى الدوق مايلي هذه الرسالة، فتصفحها روكامبول فإذا هي تخبره فيها بقدوم زوجها، وأنهما ينتظرانه في هذا المساء، وأن زوجها طال اشتياقه إلى باريس ونواديها، فهو ينتظر زيارة الدوق مايلي ثم يذهب وإياه إلى ناديه، فلما أتم قراءتها ردها إلى زامبا وقال له: يجب أن أقف على أخبار سيدك كل يوم بالتفصيل، وإذا تعذر عليك القدوم إلي فاكتب لي.
فانصرف زامبا ممتثلا، وبقي روكامبول فجعل يضحك ويقول في نفسه: لقد كنت أبحث عن طريقة أتمكن بها من جمع رولاند بالكونت أرتوف، وقد وجدت هذه الطريقة نفسها، فإن الدوق دي مايلي ورولاند مشتركان في ناد واحد، وسيأخذ الكونت صديقه الكونت أرتوف إلى هذا النادي فيجتمعان.
ثم غير زيه وذهب إلى ريبيكا، فجلس إلى منضدة وأخرج من جيبه رسالة من خط باكارا، فقلد خطها تقليدا عجيبا، وكتب رسالة بهذا الخط المقلد إلى رولاند وأعطاها لريبيكا وقال لها: اذهبي بها في الساعة العاشرة إلى منزل رولاند. - أيكون فيه؟ - كلا، بل يكون في النادي، لكنك تعطين هذه الرسالة إلى خادمه وتأمرينه أن يذهب بها إلى سيده في النادي فيمتثل، أما أنت فإنك تدخلين إلى المنزل وتنتظرينه فيه إلى أن يحضر فتقيمين معه ساعة، ثم تذهبين دون أن تحددي له موعد آخر. - أهذا كل شيء؟ - نعم، وتقولين أيضا إن زوجك الكونت أرتوف قد ذهب إلى النادي مع الدوق مايلي، فاغتنمت هذه الفرصة للحضور إليه.
ثم أعطاها الرسالة وعاد إلى منزله، فتلبس بلباس المركيز ومضى إلى منزل أخته المركيزة.
وفي الساعة العاشرة من المساء ذهب مع صهره فابيان إلى النادي، وكان فيه رولاند وأوكتاف ومعظم أعضاء ذلك النادي الذين كانوا واقفين على سر رولاند، وفيما هم جالسون على طاولة اللعب إذ ورد كتاب إلى فابيان من الكونت أرتوف، يقول فيه إنه قادم إلى النادي مع الدوق دي مايلي وهو يرجو أن يراه فيه، فأوقف فابيان روكامبول على هذه الرسالة وقال له: إن الكونت سيلتقي الآن برولاند، وعندي أنه يخلق بنا إبعاد رولاند تلافيا لهذا اللقاء.
فأجاب روكامبول: وماذا عليه من هذا اللقاء، أتحسب أن رولاند سيقول للكونت إني أحب امرأتك؟ - كلا، ولكنه سيقف معه موقف الوقح المنتصر، فيثير منه الظنون، فخير له أن نحتال في إبعاده. - إن ذلك محال، فإنه يلعب الآن، وفوق ذلك فإنه يخسر فلا سبيل إلى إخراجه.
فالتفت فابيان إلى جهة الباب وقال: لم يعد سبيل إلى ذلك، فإن الكونت قد حضر.
ولم يتم كلامه حتى دخل الكونت أرتوف والدوق دي مايلي، فأقبل الجميع يهنئون الكونت أرتوف بعودته، وينظر بعضهم إلى بعض ويتغامزون، وقام فابيان فسلم عليه وقام له روكامبول فاحتفل به الكونت احتفالا عظيما، وقد تنكر عليه فلم يعلم أن هذا المركيز الجديد قد وضعه منذ خمسة أعوام في كيس وألقاه في النهر. ثم جاء به الدوق مايلي إلى طاولة اللعب التي كان عليها رولاند، وعرفه بجميع من كان حولها حتى انتهى إلى رولاند، فحياه الكونت باحترام وقال له: إني أغتنم هذه الفرصة لشكرك يا سيدي باسم امرأتي التي أنقذتها من الموت، فإنها مدينة لك بحياتها.
فتناظر الحضور نظرات الهزء، أما رولاند فإنه اكتفى بأن يقول له: إني عملت واجباتي.
وعاد إلى اللعب وعلائم عدم الاكتراث بادية عليه، فهمس روكامبول بأذن صهره وقال: ما هذا الأبله؟
فتنهد فابيان وقال: إنه يسعى إلى حتفه بظلفه؛ إذ لا بد أن يقتله الكونت.
ولما رأى فابيان قحة رولاند خشي وخامة العاقبة، فاقترح على الكونت - كي يشغله عن مراقبة الحضور - أن يدخل معه ومع روكامبول والدوقة إلى غرفة ثانية يلعبون بالورق، فقبل الكونت شاكرا ودخلوا جميعهم إلى الغرفة وبدءوا باللعب.
وخلا الجو لرولاند ورفقائه، فجعلوا يبحثون في شأن الكونت ورولاند كما يريدون، من هازئ به ومشفق عليه، كل ذلك ورولاند يبتسم ابتسام المنتصر إلى أن قال أحدهم: لا شك أن الكونت غير مرتاب بشيء، وإلا لما وقف الأمر عند هذا الحد.
فقال آخر: ولكن رولاند اصفر وجهه عندما رآه حتى يقال إنه اضطرب وخشي من أن ينظر إليه.
فتحمس رولاند وقال: لقد أخطأت أيها الصديق، بل إني سأبحث عنه وأجلس وإياه على طاولة واحدة كي تعلم أني لا أهاب نظراته.
ثم ترك اللعب وذهب يبحث في غرف النادي حتى انتهى إلى الغرفة التي كان فيها الكونت، فدنا من الطاولة التي كانوا يلعبون عليها وجلس تجاه روكامبول واشترك معهم باللعب، وكان الكونت جالسا في الجهة المقابلة له، غير أنه كان منهمكا باللعب، فلم ينتبه إلى ما كان يظهره رولاند من القحة والميل إلى إظهار العداء، ولم يكن يخشى سوء عاقبة هذا الاجتماع غير فابيان.
وفيما هو يلعب مع اللاعبين إذ دخل خادم النادي وقدم له كتابا ففضه وألقى الغلاف إلى الأرض، ثم ما لبث أن تلاه حتى ابتسم ابتسام الظافر وأعطاه لروكامبول وهو يقول له بصوت منخفض: إنه منها. كأنه نسي أن الكونت مقيم بينهم.
فعلم فابيان أن الكتاب من باكارا، فنهض عن كرسيه وأسرع فاختطف الكتاب من يد روكامبول وقال لرولاند بصوت المؤنب المازح: إنك لا تشفق على أحد، أليس من الظلم أن تثلم عرض هذه الممثلة، وأنت تعلم أنها ذات زوج؟
وبينما رولاند في انذهاله من هذه المفاجأة، ولا يعلم أيغضب أم يضحك لقول صديقه، أدنى فابيان الرسالة من الشمعة وأحرقها بحيث لم يبق من أثرها غير الغلاف الذي ألقاه رولاند على الأرض، ثم قال له: اذهب أيها الصديق إلى موعدك، وكن حريصا على الأعراض.
فقام رولاند وقد نسي كل شيء عند ذكر الموعد، وسلم بملء القحة وخرج، فذهب للقاء ريبيكا التي يحسب أنها باكارا، وعاد اللاعبون إلى اللعب غير أن الكونت كان مقطب الجبين لا سيما من كل ما أجراه رولاند.
وبعد ساعة فرغوا من اللعب، فذهب فابيان والدوق دي مايلي إلى منزليهما، وبقي روكامبول والكونت فأخذ كل منهما جريدة من جرائد المساء وجعل يطالع أنباءها، وكان روكامبول يقرأ ويراقب الكونت، فيراه ساهي الطرف والجريدة بيده كأنه يفكر بتلك الرسالة، وإسراع فابيان إلى اختطافها وإحراقها إلى أن أبعد كرسيه ورجع بها إلى الوراء، فالتفت وهو يصلحها إلى الأرض، فرأى غلاف الرسالة فانحنى وأخذه، وما كاد يقع نظره على خطه حتى اصفر وجهه اصفرارا شديدا، وأوشك أن يسقط من اضطرابه، فقال روكامبول في نفسه: لقد قضي الأمر وعرف الخط.
ثم ترك الغرفة وانصرف وهو فرح القلب بنجاح مساعيه وهو يقول في نفسه: إن الليل قد انتصف، فإذا لم يحدث شيء فوق الحسبان فإن الأمور تجري على ما أريد؛ وذلك أن باكارا إما تكون قد عادت من عند أختها، أو أن تكون باقية عندها، فإذا كانت قد عادت فإن الكونت قد تدفعه الغيرة والغضب إلى قتلها، وإذا كانت لم تعد فلا بد للكونت من الذهاب إلى رولاند، وفي كلتا الحالتين فإن الفوز لي.
أما الكونت أرتوف فإنه كان كلما أعاد النظر إلى خط الغلاف يزيد اضطرابا، فإنه أيقن أن الخط خط امرأته، وإنها هي التي راسلت رولاند، ثم أيقن أن هذا الرجل أنقذها من الغرق، وأنه كان يراسلها، وقد حاول أن يزورها عدة مرات، وأن فابيان بل جميع أعضاء النادي واقفون على سر علائقها مع رولاند، وخطر له أن فابيان لم يحرق الرسالة إلا لأنه يعلم بما فيها، وأن نظرات أصحاب رولاند وتغامزهم لم تكن إلا عليه، فهاجت به الغيرة حتى أوشك أن يجن، وأسرع إلى الخروج من النادي إلى منزله.
ولما وصل إليه رأى مركبة على الباب، فسأل البواب: لمن هذه المركبة؟ فأخبره أنها لامرأته. - متى عادت؟ - الآن.
فصعد الكونت إلى غرفتها، وكانت لا تزال بالملابس التي كانت فيها عند أختها سريز، وهي باسمة الثغر طلقة المحيا، وعليها جميع دلائل السرور، ولكنها ما لبثت أن نظرت إلى زوجها حتى راعها اصفراره، فقالت له: ما بالك؟ ألعلك لعبت فخسرت؟ - ألعل نقص مالي ينقص من حبك لي.
ثم وضع يده على جبينه كمن يريد أن يفتكر قبل أن يقدم على أمر هائل، فأعاد هذا التفكير بسكينة وقال لها: أتسمحين لي أن أضع يدي على قلبك؟
فلم تفهم باكارا شيئا من مراده وأخذت يده ووضعتها على قلبها، فكان ينبض النبض العادي، وكانت شفتاها تبسمان فقالت له: ما بالك أيها الحبيب، وما هذه الأمور التي تجريها؟ ألعلك جننت؟ - كلا، ولكني على وشك الجنون، أتسمحين لي أن أسألك بعض الأسئلة؟
فابتسمت وقالت: سل ما تشاء يا حضرة قاضي التحقيق، ولنر فلعلي مذنبة!
فقال الكونت ببرود: لا أعلم، فقولي لي متى عدت؟ - الآن. - من عند أختك؟ - دون شك. فأطرق الكونت يفكر، ثم نظر إلى باكارا فرآها هادئة ساكنة لا أثر في وجهها للاضطراب، فقالت له باكارا: يظهر أنك غيور. - هذا أكيد. - إذن فتصرف بما أعطيته من سلطة الزواج، وسل ما تشاء. - أما قلت لي مرة إن رولاند دي كايلت أرسل لك عدة رسائل كاشفك فيها بغرامه؟ - نعم، وقد فعل ذلك في بادن، ثم عاد إليه في مدينة هلدبرج حين أنقذني من الغرق. - يظهر أنه بات له عليك حق إنقاذك من الموت. - إني أعرف هذا الشاب، فهو في مقتبل العمر كثير الغرور، فقد لا يبعد أن يكون روى حادثة غرقي وإنقاذي رواية خدشت سمعتي واتصلت إليك، غير أني ألتمس منك أمرا. - سلي ما تشائين. - إنك دعوت بعض الأصدقاء إلى شرب الشاي عندك في مساء غد، فأذن لي أن أدعو هذا الفتى فنشكره لإنقاذي من الغرق، وبعد ثمانية أيام يرسل إليك بطاقة زيارته حسب العادة، فترسل له رقعتك وينقضي كل شيء كما أرجو، فإننا مدينون لهذا الرجل. - أهذا كل ما تريدين أن تقوليه؟ - وما أقول غير هذا؟ - ألم تنظريه بعد عودتك إلى باريس؟
فقالت بملء السكينة: كلا.
فاقتنع الكونت بعض الاقتناع لما رآه من سكينتها، ولكنه قال: إنه أمر غريب.
فأخذت باكارا يده بين يديها وقالت: أوضح لي كل شيء أيها الحبيب، إنك طاهر القلب نبيل، وأنت تعلم أني أحبك حبا شديدا، فلا يخلق بي أن أقف أمامك موقف المجرمين. - وهذا الذي يسوءني.
فأجفلت باكارا وقالت بلهجة السيادة: إني أسألك بدوري فأجبني من أين أتيت؟ وماذا سمعت؟ وماذا قيل لك؟ - إني أتيت من النادي الذي ذهب بي إليه الدوق دي مايلي، وقد لقيت فيه رولاند دي كايلت، ولقيت من قحته ما لا أنساه. - لا ينبغي أن تعجب من قحته، فقد تجاسر أن يرسل لي رسائل غرامه وهو لا يكاد يعرفني. أهذا كل شيء؟ - كلا فقد كان هذا الفتى مع فريق من أصحابه وكلهم على شاكلته، فكانوا ينظرون إلي نظرات تهكم ويتغامزون. - إنه لأمر خطير كما يظهر، فلا بد أن يكون رولاند قد اختلق عني ما يمسني، وفي هذه الحالة فلا بد من تأديبه. وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك فإنه بينما كان رولاند جالسا على طاولة اللعب، أحضر له خادم النادي رسالة ففضها وقال: إن هذا الكتاب ورد إليه من سيدة لها مقام كبير، وهي تنتظره في منزله. ثم رمى الغلاف إلى الأرض، وأعطى الرسالة إلى المركيز دي شمري الذي كان في جواره، فأسرع فابيان إلى اختطافها وإحراقها، وبعد ذلك ذهب اللاعبون وذهب رولاند، فلما وجدت نفسي وحيدا في الغرفة أخذت المغلف عن الأرض وعدت به إليك وهذا هو.
فأخذته باكارا وما أوشكت أن تقرأ العنوان وتتبين الخط حتى اصفر وجهها، ثم وثبت عن كرسيها منذعرة كأنما لسعتها أفعى وقالت: رباه ماذا أرى! فإن الخط خطي لا ريب فيه، فمن زور هذا العنوان؟ ومن كتب بيدي؟ ثم سقطت على كرسيها وهي قريبة الإغماء، وكانت جميع مظاهر انذعارها واضطرابها صادقة لا سبيل إلى الارتياب فيها؛ حتى إن الكونت جثا أمامها على ركبتيه وقال: أسألك العفو، فإني تجاسرت على إساءة الظن بك.
فأنهضته باكارا وقبلته بجبينه ثم قالت له: وكيف لا تشك وبيدك مثل هذا البرهان؟ - مهما كان من أمر هذا البرهان، فما كان ينبغي أن أشك بك، على أن هذا الرجل التعس لا بد أن يموت غدا، وها أنا ذاهب لأعين شهودي ونتفق على موعد المبارزة.
فأوقفته باكارا وقالت: بل ابق هنا وأصغ إلي فتعلم أني غير مخطئة. - قولي ماذا تريدين أن أصنع؟
فأخذت باكارا الغلاف وقالت: إن هذا الخط يشبه خطي شبها غريبا، فإما أن يكون رولاند قد تمكن من تقليد خطي كي يفتخر أمام إخوانه بعلائقه معي، وإما أن يكون هذا التشابه من قبيل الاتفاق كما يتفق تشابه الوجوه، ويكون رولاند يحب امرأة يشبه خطها خطي من قبيل هذا الاتفاق. - إن هذا مستحيل. - لا شيء مستحيل في الأرض. - إذا كان رولاند يحب امرأة يشبه خطها خطك؛ فما معنى هذه النظرات من إخوانه؟ وما معنى تغامزهم علي؟ - هل انتقدت على هذه النظرات قبل أن تعثر بالغلاف؟ - كلا. - إذن فقد أثار بك الغلاف هذه الهواجس، ومثل لك هذه النظرات تغامزا عليك، على أني لا أزال أقول إن رولاند إما أن يكون تعسا مجرما، وفي هذا المقام فلا بد من عقابه شر عقاب بعد إظهار جريمته للجميع، وإما أن تكون هذه الخيانة من عند الصدفة والاتفاق ... انظر إلي أيها الحبيب، وسل نفسك: أيمكن لامرأة رفعت مقامها حتى بلغت إليك وتجاسرت على حمل اسمك الشريف، أن تبلغ من نكران الجميل إلى حد الخيانة؟
ثم شهقت بالبكاء، فحن الكونت إليها وضمها إلى صدره وقال: إني أريد أن أعرف العالم أجمع أنك خير امرأة على الأرض.
ثم سكت الاثنان سكوتا قصيرا إلى أن بدأت باكارا الحديث فقالت: أتأذن لي أن أتولى هذا الأمر بنفسي كما كنت تأذن لي من قبل. - نعم، فافعلي ما تشائين. - إني سأدعو رولاند إلى شرب الشاي عندنا غدا، وأنت تراقبه كما تريد حتى إذا تجاسر على أن يخرج عن حدود الاحترام سلمته إليك. - حسنا فليكن ما تريدين.
فقامت عند ذلك إلى منضدة وكتبت إلى رولاند هذه الرسالة:
سيدي
لم أنس أني مدينة لك بالحياة، فأذن لي أن أشكرك بذلك وأن أدعوك إلى زيارتنا مساء كي تشرب الشاي عندنا مع بعض الأصدقاء؛ كي أظهر لك شكري وامتناني.
الكونتس أرتوف
ثم طوت الرسالة وتركتها على المنضدة كي يأخذها الخادم صباحا إلى رولاند، وبعد حين ترك الزوجان الغرفة التي كانا فيها ودخلا إلى غرفة النوم، وكل منهما يفكر في شأن.
وفي الوقت نفسه فتح باب ودخل منه زامبا، فانقض على الرسالة وقرأها ثم نسخها، وخرج دون أن يشعر به أحد، فذهب توا إلى منزل روكامبول السري؛ إذ قال له إنه ينتظره فيه إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فلما رآه روكامبول علم أنه يحمل خبرا جديدا، فقال له: ما وراءك من الأخبار؟
فأطلعه زامبا على نسخة الرسالة، فسر روكامبول سرورا عظيما بها؛ لأنه لو لم يقف عليها لذهبت جميع مساعيه أدراج الرياح، ثم أطلق سراح زامبا وواعده إلى الغد، وانطلق بعد ذلك إلى ريبيكا، فأملى عليها كتابا لرولاند وانصرف.
24
وفي اليوم التالي أقبل أوكتاف على صديقه رولاند قبل أن يخرج من منزله، فقال له: إني أراك باسم الثغر فرح القلب، فما شبهك إلا فرنسوا الأول الذي كان ينام على مركبة المدفع ليلة القتال. - كيف ذلك؟ - ذلك لأني أراك قرير العين ناعم البال، كأنك غير خائف من شيء. - ومما أخاف؟ - من الكونت أرتوف. - لا أعلم لماذا يجب أن أخافه. - لأنه سيعلم قريبا بكل شيء فتتبارزان، وقد روي عنه أحاديث كثيرة تدل على شدة هوله في المبارزة، فإنه ما بارز خصما إلا قتله. - أنا سأقتله، فإن الشواذ من لوازم كل قاعدة.
وفيما هما على ذلك إذ دخل الخادم يحمل كتابا إلى رولاند، فأخذه وفضه مسرعا لأنه عرف الخط، وقرأ ما يأتي:
حبيبتي رولاند
إني أكتب إليك في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، مغتنمة فرصة رقاد زوجي الظالم لأخبرك بأنه قد ثارت عاصفة وستنقض على رأسي، كأن الليالي قد غيظت من تساقينا الهوى فدعت بأن نغص، وذلك أني أخطأت خطأ عظيما حين كتبت لك أمس بخط يدي لحذري من وصيفتي التي أستكتبها فحرقت رسالتي، ولكنك أبقيت الغلاف فوقع بيد زوجي الكونت وعرف الخط، وجاء إلي وهو يتميز من الغضب، وكنت قد رجعت من عندك حتى خشيت أن يقتلني، ولكني قد تشجعت وهبت لي قوة عظيمة تجاه هذا الموقف الخطر، فكذبت وأنكرت وقلت تشابه الخط من قبيل الاتفاق، وهو يتشابه كما تتشابه الوجوه فصدقني، ولكنه بقي له شيء من الريبة بي، فطلب إلي أن أدعوك كي تشرب الشاي عندنا مساء غد وغرضه من هذه الدعوة أن يراقبنا، ويتمعن بحركاتنا ونظراتنا، فاحذر من أن تبدر منك بادرة أيها الحبيب، فإن نظرات المحبين لا تخفى على الحاذقين، ولا تتجاوز معي حد الاحترام وأنا سأكون كذلك، فأمثل البساطة والطهارة خير تمثيل، فإذا اقتديت بي وكنت حكيما نجونا وعدنا إلى ما كنا فيه.
والآن فإني أستودعك الله إلى الغد، كلا فإني سأكون غدا غريبة عنك، إذن أستودعك الله إلى لقاء تمهده لنا الصدفة ... أحبك.
وكانت هذه الرسالة خالية من التوقيع، فلما أتم رولاند تلاوتها دفعها إلى أوكتاف، فقرأها وقال: إني أود أن أخسر سنة من حياتي وأكون مدعوا إلى تلك الحفلة كي أرى ما يكون منك فيها.
وعند ذلك طرق الباب مرة ثانية ودخل الخادم بكتاب آخر، وكان هذا الكتاب من باكارا الحقيقية تدعوه فيه إلى شرب الشاي في منزلها كما اتفقت على ذلك مع زوجها.
وفي الساعة التاسعة من المساء ذهب رولاند إلى منزل الكونت، وكان عدد المدعوين قد تم وبينهم روكامبول وصهره، فكان روكامبول خائفا من أن تعرفه باكارا، ولكنه اطمأن لأنه حين قدم لها باسم المركيز دي شمري حادثته بأمور كثيرة، فلم يظهر منها شيء يدل على ريبتها به. أما رولاند فإنه كان يعامل باكارا بملء الاحترام والكونت يراقبه، فلم ير منه ما يدل على شيء من آثار الحب، فلما انقضت السهرة وانصرف المدعوون كان رولاند آخر المودعين، فقبل يد باكارا في أشد حيرة؛ لأنها لا تعلم ما كان يعنيه بهذا الامتثال إذ لم تأمره بشيء، ولكنها قالت في نفسها: إنه ربما كان يريد بذلك أنه لم يزرني في مدينة هدمبرج؛ لأني لم أدعه فعد ذلك امتثالا.
ولما انصرف الجميع عادت إلى زوجها فقالت له: ماذا رأيت؟ - رأيت أننا ظلمنا هذا الشاب بريبتنا به، فإني لم أر منه إلا كل احتشام وأدب.
وفي اليوم التالي خرج الكونت يتنزه بعد الظهر على جواده حتى وصل إلى محل تباع فيه أشهر المرطبات، وهي حديقة مقسمة إلى غرف صغيرة يفصل بينها خشب رقيق، فدخل إلى إحدى هذه الغرف وطلب كأسا من الشراب، وفيما هو يشربها سمع صوتا من الغرفة المجاورة لغرفته عرف أنه صوت أوكتاف الذي تعرف به أمس في النادي، فأصغى بالرغم عنه إلى حديثه مع رفيقه، فسمع أوكتاف يقول: كنت أود أن أكون أمس في الحفلة التي كانت في منزل الكونت أرتوف.
فأجاب رفيقه: لا بد أن يكون رولاند قد تصرف بحشمة وأدب.
فارتعش الكونت وقال في نفسه: لماذا يتكلمان عن رولاند في معرض الكلام عني؟
فقال أوكتاف يحادث رفيقه: إني لقيت رولاند اليوم، فأخبرني أن كل شيء قد تم على مرامه. - كيف ذلك؟ - ذلك أن رولاند كان يمثل رواية في ما أبداه من مظاهر الحشمة، ولكني أعجب من الكونتس كيف أنها كانت باسمة الثغر ماهرة بإظهار عدم الاكتراث وإخفاء مظاهر الخجل، حتى إنها كانت تحادث رولاند كأنها قد رأته للمرة الأولى.
فقال له رفيقه: لا تثق بأقوال رولاند، فإنه كثير الغرور مهذار. - بل أنت ثق بأن الكونتس تحبه. - أرأيتها في منزله؟ - كلا، ولكني رأيتها معه في الأوبرا. - أكانت مسفرة عن وجهها؟ - كلا، ولكنها عند خروجها من اللوج الذي كانت فيه مع رولاند تصديت لهما في الممر، ورأيتها قد أبعدت البرقع عن وجهها فعرفتها.
فشعر الكونت أرتوف عند سماعه هذا الكلام أن العرق البارد ينصب من جبينه، أما أوكتاف فإنه أتم حديثه فقال: وفوق ذلك فإني صديق رولاند وهو لا يكتم عني أمرا، ويطلعني على جميع رسائله، وقد علمت منه أن الكونتس كانت تستقبله في منزل في شارع باسي، ثم إني كنت عنده في صباح أمس، فورد إليه كتاب أوقفني عليه، وكان من الكونتس وقد قالت له فيه: إنها أرسلت كتابا آخر غير هذا يتضمن دعوته إلى منزلها، غير أن هذا الكتاب كان بخط وصيفتها، والكتاب الآخر المتضمن للدعوة كان بخطها، فإن باكارا تعرف أن تحذر. - ولكن رولاند يسعى إلى حتفه بظلفه، فإن خصمه قوي شديد.
فقال أوكتاف: لقد قلت مثل هذا القول لرولاند، وأن من يجسر على الزواج بباكارا لا بد أن يكون من الأشداء.
غير أن أوكتاف قبل أن يتم كلامه سمع من ورائه صوتا شديدا صعق له، فالتفت فرأى أمامه الكونت أرتوف وقد اصفر وجهه فأصبح كالأموات، وجعل الشرر يقذف من عينيه وانقض على أوكتاف وشد عليه فألقاه على الأرض راكعا، ثم قال له بصوت يتهدج من الغضب: أنا هو الكونت أرتوف، ولا يمنعني عن قتلك الآن غير ما أجده من حداثة سنك، وأنه لا بد أن يكون لك أم تبكي عليك، ثم لا ينقذك من قبضتي غير أمر واحد.
وكان هياج الكونت شديدا حتى إن هذين الغلامين باتا يرتجفان أمامه كما يرتجف التلميذ المسيء أمام معلمه، وجعل أوكتاف يعتذر فأنهضه الكونت وقال له: إنك لا تنجو مني إلا إذا أقسمت لي بأنك تذهب إلى منزلك، فتقيم فيه يوما وليلة لا تخرج منه ولا ترى رولاند.
فأقسم أوكتاف، فقال الكونت: احذر من أن تنكث عهدك إذا أردت أن تسلم من الموت، فإني لا أريد قتلك بل قتله.
ثم أطلق سراحه، فانصرف مع رفيقه وهو يقول: لقد قضي على رولاند القضاء المبرم.
25
يذكر القراء ذلك الطبيب الذي عالج أندريا وأزال عن وجهه آثار ذلك الوشم الذي كان يشوهه أيما تشويه، وقد كان لهذا الطبيب شهرة بعيدة في باريس وفي المنتديات العلمية، ولا سيما بالسموم؛ إذ كان من أشد الأطباء خبرة بها، وكان هذا الطبيب واسمه صموئيل يقيم في منزل واسع تكتنفه حديقة غناء، فيصرف معظم أوقاته بالبحث والمطالعة والوقوف على الدقائق العلمية.
ففي اليوم نفسه الذي كان فيه الكونت أرتوف يتنزه وقد لقي أوكتاف، وسمع منه تلك الكلمات الهائلة كما تقدم، كان روكامبول قد ذهب لزيارة صموئيل الطبيب، فأوقف مركبته خارج الحديقة ودخل به الخادم إلى الغرفة التي كان يشتغل فيها الطبيب، وكان يدعوها غرفة السموم لوجود جميع أنواعها فيها بين قاتل ومشوه ومغن وذاهب بالعقل إلى غير ذلك.
ولما دخل روكامبول كان الطبيب جالسا على طاولة وعليها كثير من الكتب صف بعضها فوق بعض، بحيث باتت تحجبه عن عيون الداخلين، وكان يفحص بنظارة إحدى الأوراق السامة فحصا مدققا حول انتباهه إليها، بحيث لم يشعر بدخول المركيز إليه إلا حينما نبهه الخادم وأعلن له اسم المركيز دي شمري، فأسرع الطبيب لاستقباله وقابله مقابلة تدل على علو مكانته عنده، فقال له روكامبول: أسألك المعذرة عن مضايقتي لك في أشغالك، ولكني مررت ببابك فذكرت أني مدين لك بإصلاح هذا البحري المسكين (يشير إلى أندريا)، وأني تأخرت عن إظهار امتناني لك إلى الآن، فأتيت كي أصلح هذا الخطأ.
ثم أخذ من جيبه ورقة مالية بقيمة ألف فرنك ووضعها بلطف واتضاع على الطاولة ، ثم لما انتهى من حديث المجاملة قال له روكامبول: ألا تزال عاكفا على طلب العلم والتنقيب عن غوامضه؟ ألم يكفك ما بلغت إليه وأنت اليوم إمام العلماء وحجة الأطباء؟
فأجابه الطبيب باتضاع ورفق: إن هذا العلم يشبه أعماق الأوقيانوس الهندي التي يطلبها الغواص لاستخراج اللؤلؤ، فهو كلما غاص فيه يزيد عثوره على مخبآته، ثم يخرج لسطح الماء وقد كادت أنفاسه تنقطع، فلا يلبث أن يملأ رئتيه من الهواء ويستريح حتى يعود إلى ما كان فيه من الغوص واستخراج اللؤلؤ الثمين، وهكذا العلماء فإنهم يغوصون في لجج هذا العلم، فكلما اكتشفوا شيئا بدت لهم أشياء لم يروها من قبل، فلا يزالون على ذلك إلى أن تتلاشى قواهم ولا يستطيعون أقل جهد.
فقال روكامبول: إذن فما نقول نحن الجهلاء إذا قضي علينا أن نندمج معكم ونغوص في هذه اللجج كل يوم؟
فابتسم الطبيب وعاد روكامبول إلى الكلام فقال: لقد كنت أمس في مجلس دار فيه الحديث على العلم والعلماء، فجعلتك سمر هذا الحديث وقلت إن لديك مجموعة من السموم الهندية لا يوجد منها في أوروبا، منها ما يميت ومنها ما يشفي من الموت.
فابتسم الطبيب وقال: بل منها ما يذهب بالعقل، ومنها ما يشفي من الجنون. - إني أعرف هذا السم الذي يذهب بالصواب. - إن هذا الذي تعرفه مشهور في أوروبا، ثم إن الجنون الذي يحدثه لا يكون إلا وقتيا. - وقد سمعت أحدهم يذكر سما هنديا من مدينة جافا، يقول إنه إذا شربه المرء جن جنونا طويلا. - إن لدي منه في مجموعتي، أتريد أن تراه؟ - لا بأس فقد رويت حكاية عن تأثير هذا السم تشوقت بعدها أن أراه.
فقام الطبيب إلى واجهة معلقة في الجدار، وأخرج الزجاجة الثالثة من الصف الأول وجاء بها إلى روكامبول، فرآها تحتوي على رشاش يشبه الدقيق، فحكى له الطبيب تاريخ هذا السم وقال: إنه ورق شجرة لا تنبت إلا في جافا، يؤخذ ورقها فيجفف ويسحق حتى يغدو كما تراه، فإذا وضع درهم من المسحوق في كأس ماء أو شراب وشربه المرء جن وبقي مجنونا مدى الحياة، غير أن الغريب في هذا السم أنه الداء والدواء في حين واحد، فإن شاربه لا يشفى منه إلا به، وذلك بأن يسقى منه ثانية مقادير لا سبيل إلى بيانها لتعلقها بحالة المسموم به وأعراض جنونه ومدتها، إلى غير ذلك مما لا يفهم تفصيله غير الأطباء.
فأظهر روكامبول عجبا شديدا بملء البساطة، وذهب الدكتور فأرجع الزجاجة إلى محلها، وفيما هو عائد إلى روكامبول إذ فتح باب الغرفة بعنف ودخل إليها خادم الطبيب ووراءه اثنان عليهما ملامح الذعر وهما يصيحان: أدركنا! - ماذا حدث؟
فقال أحدهما: إن أحد خدم البيوت الكبيرة لطمته مركبة فسقط على باب منزلك وهو لا يعي.
فاعتذر الطبيب وقال له: لقد عينتك حارسا لغرفتي إلى أن أعود.
ثم خرج في إثر الجماعة لمعالجة الخادم المغمي عليه على باب الحديقة الخارجي حتى وصل إلى هذا الرجل المغمي عليه، فنزع عنه ثيابه وفصحه فحصا مدققا، فلم يجد به أثرا لرض أو جرح، فأمر أن ينضحوا وجهه بالماء البارد ويدلكوا صدغيه بالخل، ففعلوا ووقف بينهم ينتظر النتيجة، ولم تمض هنيهة حتى استفاق الرجل كأنه لم يصب بشيء، ولم يكن هذا الماكر إلا زامبا، صنيعة روكامبول.
بينما كان الطبيب يعالج هذا المريض الكاذب كان روكامبول وحده في غرفة الطبيب، وقد عرف موضع الزجاجة، فأسرع إليها وأخذ منها المقدار الكافي لجرعتين أو ثلاث، ثم وضع هذا الرشاش في ورقة وطواها كما يطوي الصيدلي مثل هذه الأوراق ووضعها في جيبه، وبعد ذلك أرجع الزجاجة إلى موضعها وجلس على كرسيه ينتظر عودة الطبيب، وهو يقول: لقد أجاد زامبا غاية الإجادة في تمثيل دوره، ولا سيما أنه ترك لي الوقت اللازم لمباحثة الطبيب، وسأجازيه خير جزاء، ومهما أعطيته يكون قليلا بالقياس إلى ما سأقبضه من ملايين ابنة الدوق، فإن درهما واحدا من هذا الرشاش يشغل باكارا بزوجها وجنونه.
وما زال يعلل النفس بهذه الأماني إلى أن عاد الطبيب، فجالسه ساعة وانصرف عائدا إلى منزله وهو يحسب أنه نال السعادة بهذا الرشاش، حتى إذا وصل إلى منزله رأى على بابه مركبة، فسأل الخادم: من الذي قدم فيها؟ - الكونت أرتوف جاء لزيارتك وهو الآن في القاعة مع صهرك.
فأسرع روكامبول إلى القاعة وقد أيقن أن الكونت قد عرف كل شيء، فلما دخل رأى الكونت واقفا وعيناه متقدتان، ورأى فابيان مضطربا أشد الاضطراب، ولكنه سر عندما نظر روكامبول كأن عينيه كانتا تقولان لقد أتيت في حين الحاجة إليك، فوقف روكامبول في باب القاعة وجعل ينظر إلى الاثنين نظر الفاحص المنتقد، وإليك السبب في زيارة الكونت.
بعدما لقي الكونت أرتوف أوكتاف، وعرف منه خيانة امرأته على ما تقدم، خرج من الحديقة فأمر الخادم أن يذهب بجواده إلى منزله، وركب مركبة وأمر سائقها أن يذهب به إلى منزل المركيز دي شمري، وكان غرض الكونت أن يرى فابيان؛ لأنه تذكر أن فابيان اختطف الرسالة التي وردت لرولاند في النادي وأحرقها، فقال في نفسه: إنه لا بد أن يكون فابيان واقفا على سر رولاند، فإن هذه الحادثة وما علمته من أوكتاف وتغامز أعضاء النادي؛ جميع ذلك كان يثبت خيانة باكارا أتم الثبوت.
ولكنه كان لا يزال يحب امرأته حبا عظيما، فأراد أن يقف على الحقيقة من فابيان لشدة وثوقه بنبله، ولهذا فإنه لم يذهب إلى منزله بعد ما علمه من أوكتاف حذرا من أن يدفعه الغضب إلى قتلها، وكان لا يزال يحبها إلى الآن ولكن حب قنوط.
وكان فابيان في ذلك الحين مقيما في غرفته يكتب فيها بعض الرسائل، فلما دخل عليه الكونت أرتوف ورأى ما كان عليه من الاضطراب أجفل لرؤيته وخف لاستقباله، غير أن الكونت بقي واقفا في مكانه وقال له: إني أتيت لأحدثك بشأن خطير أيها الصديق، فقل لي: ألست بصديق رولاند دي كايلت؟
فاختلج فؤاد فابيان لذكر اسم رولاند وقال: نعم ولا، وذلك لأن بيني وبين هذا الفتى عشرة أعوام فلا يصح أن يكون عشيري، ولكن أباه صديق لأبي وقد أوصاني به خير وصاية. - لكنك صديقي الحميم منذ سبعة أعوام. - هذا لا ريب فيه وسأحفظ لك عهد الصداقة ما حييت، ولكن ما بالك مضطربا إلى هذا الحد؟ - ذلك لأن الكونت أرتوف ورولاند سيقتل أحدهما غدا، في مثل هذه الساعة.
فوقف فابيان وقد بدت عليه علائم الاضطراب وقال: ماذا حدث؟ - أحب قبل أن أجيبك أن أسألك بعض أسئلة، ورجائي أن تجيبني عليها لما بيننا من روابط المودة. - سأجيبك فسل عما تشاء. - إنك أول أمس اختطفت رسالة وردت إلى رولاند في النادي وأحرقتها، فلماذا تصرفت هذا التصرف؟ - ذلك لأن رولاند فتى كثير الغرور. - ليس هذا الجواب الذي أطلبه أيها الصديق. - إن رولاند كان يحاول مس عرض امرأة، بعرض رسالتها إليه على أصدقائه.
فقال الكونت وقد سكن جأشه، ولكن كما يقر الأسد قبل الوثوب، وكما يسكن الجو قبل انقضاض الصاعقة: لا شك أنك عرفت تلك المرأة أيها الصديق، ولولا ذلك لما تعرضت لإحراق رسالتها. - ذاك أكيد. - وليس أنت وحدك الذي عرفتها، بل كان يعرفها كل من كان يلعب معنا من أعضاء النادي. - ذاك أكيد أيضا، فإن رولاند لا يعرف أن يكتم سرا. - إذن لم يعد فائدة من إحراق الرسالة ما دام جميع الحضور يعرفون تلك المرأة، بقي أن زوج تلك المرأة كان بينكم وهو لا يعلم أمرا من خيانة امرأته، أليس ذلك أيها الصديق؟ إني أستحلفك بشرفك أن تقول الحق.
فأطرق فابيان استحياء وقال: هو الحق ما تقول. - إني لا أسألك اسم هذا الزوج التعس المنكود الذي أصبح شرفه وعرضه مضغة في أفواه الصبيان، بل أسألك أن تصغي إلي فاسمع، إنني بعد ذهابك من النادي بقيت فيه وحدي، فأخذت غلاف الرسالة الذي ألقاه رولاند إلى الأرض، وتمعنت في خطه فرأيت أنه خط امرأتي، فذهبت إلى منزلي وأعطيتها هذا الغلاف فذعرت له وصاحت صيحة دهش بدت فيها علائم الصدق التي لا تنقض حتى وثقت من براءتها، وأيقنت أن هذا المنافق قد قلد خطها لغرض سافل دنيء.
فحسب فابيان أن الكونت ليس له غير هذا البرهان فقال: إن هذا ممكن، فإن رولاند يقدم على كل شيء.
فقال الكونت: أصغ إلي فإني لم أتمم بعد. ثم قص عليه جميع ما علمه من أوكتاف بالتفصيل إلى أن فرغ من الحكاية.
فقال: إني كنت منذ ساعة مشككا أحسب أن رولاند قد زور الخط، أو أن تشابه الخطين من قبيل الاتفاق، ولم يكن يشكل علي غير السبب في إحراقك للرسالة، أما الآن فقد علمت أنك عارف الحقيقة بجملتها، وقد أتيت إليك كي أقف منك على هذه الحقيقة بتفاصيلها.
قال فابيان: أتراني مضطرا مكرها إلى قول كل شيء؟ - هذا ما أراه، وإلا فإنك تدعوني إلى قتل رولاند دون مبارزة.
فصاح فابيان صيحة إنكار.
فقال الكونت: إذن أثبت لي أنت الذي أحترمه وأجله خيانة امرأتي، فإني أقاتل رولاند قتال مبارزة وأقتله قتل الأشراف، وإذا قلت إنها بريئة فإني أثق بكلامك وأرجع عن كل شيء.
فأصبح فابيان في شر موقف يتصارعه عاملان من الشرف والإشفاق، ولكن الشرف تغلب عليه فقال بصوت مختنق: أرسل شاهديك إليه أيها الكونت.
جمد الدم في عروق الكونت ووهت رجلاه؛ إذ انقض عليه هذا التأكيد انقضاض الصاعقة، ولكنه ضبط نفسه وقال: إني واثق مما تقول أيها الصديق، ولكن أليس لديك برهان تقوله لي؟ - وا أسفاه أيها الصديق! إني رأيت الكونتس في منزل رولاند.
وفي هذا الموقف الحرج وقبل أن يتم فابيان جملته المتقدمة، دخل روكامبول، فلما رآه الكونت كظم غيظه ومد يده فسلم عليه متكلفا الابتسام، ثم ارتد إلى فابيان وقال: إنك كنت صديقي وقد برهنت لي الآن أنك لا تزال ذلك الصديق. - بل سأكون صديقك إلى آخر العمر. - إذن لا أسألك لتأييد هذا القول برهانا مستحيلا، كأن أطلب إليك أن تكون شاهدي في مبارزتي لرجل هو من أصحابك.
فقال فابيان باشمئزاز: لقد كان صديقي من قبل، أما اليوم فإني أحتقره بقدر ما كنت أميل إليه. - بل أطلب إليك ما هو أيسر من ذلك، فإني لا أحب أن أعود اليوم إلى منزلي، وأرجوك أن تخفيني هنا إلى الغد.
فقال له روكامبول: إنك يا سيدي في منزلك ونحن الضيوف فيه.
فشكره الكونت وجلس أمام طاولة، فكتب إلى امرأته ما يأتي:
سيدتي
كنت بالأمس مشككا والآن فلم يبق في نفسي أثر للريب، فلا تنتظري عودتي إلى المنزل؛ إذ لا أعود إليه، بل لا تنتظري أن تريني إلى الأبد، فإني أرجو أن أقتل غدا رولاند دي كايلت، وإذا سلمت من الموت فإني أغادر فرنسا بعد ساعة.
إني أحببتك من قبل وأنا أصفح عنك الآن.
كونت أرتوف
ثم طوى الرسالة فأعطاها لفابيان وقال له: إني سأغيب ساعة وأعود، وتركهما وانصرف ذاهبا إلى منزل رولاند.
وكان رولاند في منزله وقد وصلت له رسالة من ريبيكا وهو يحسبها من باكارا حسب العادة، تثني عليه فيها لحسن تصرفه في حفلة أمس وتدعوه إلى انتظارها في منزله إلى الساعة الخامسة؛ إذ إنها ترجو أن تزوره، فبقي في منزله حتى إنه أطلق سراح خادمه كي يخلو له الجو، وفي الساعة الثانية طرق باب منزله فرقص فؤاده سرورا لاعتقاده أن باكارا قادمة إليه، فأسرع وفتح الباب، ولكنه ما لبث أن رأى الكونت أرتوف حتى ذعر وتراجع إلى الوراء، فقال له الكونت: إني أتيت يا سيدي لأباحثك في شأن هام، فأذن لي أن أدخل إلى منزلك، فإن مثل حديثي لا يقال على الأبواب.
ثم دخل قبل أن يجيبه، فدخل أول غرفة لقيها مفتوحة، ووقف ينتظر فيها رولاند الذي تأخر عنه لإقفال الباب.
وكان رولاند ثاب من دهشته وذهب اضطرابه بزوال أعراض الدهشة الأولى، فعاد إليه رشده وعلم من لهجة الكونت ومن اتقاد عينيه أسباب زيارته له، وأنه عارف بكل شيء، فأدخله إلى الغرفة التي كان فيها وهو شامخ الرأس وسلم عليه وهو يبتسم ابتسام الاحتقار، ثم قال له: أيريد سيدي الكونت أن يعلمني بالسبب الذي شرفني من أجله بهذه الزيارة؟
فأجابه الكونت: كلمة واحدة تفصح عن السبب، وهي أني عارف بكل شيء.
فلم يتكلف رولاند الاحتجاج أو الإنكار، بل قال له: إني رهن أمرك وسأقبل كل شروطك. - شرطي أن نتبارز أولا بالمسدسات، ثم بالسيف إذا اقتضت الحال؛ أذ لا يخفاك أنه يجب أن ينطرح أحدنا ميتا في ساحة القتال. - ليكن ما تريد. - وسنتبارز غدا في الساعة السابعة صباحا، وسنلتقي في غابة فانسان بدلا من غابة بولونيا. - حسنا وستجدني مع شهودي.
وعند ذلك أحنى الكونت رأسه مودعا وخرج، فشيعه رولاند إلى الباب، وهناك نظر كل واحد منهما إلى الآخر نظرة حقد كانت أنفذ إلى قلبيهما من السهم المسنون.
أما رولاند فإنه كتب إلى صديقه أوكتاف بما حدث، وكلفه أن يدعو صديقا له فيكونان شاهديه.
وأما الكونت أرتوف فإنه ذهب إلى صديقه الدوق دي مايلي وقال له: أرجو أيها الصديق أن تكون غدا شاهدي، فإني سأبارز رولاند دي كايلت.
فذعر الدوق وقال: لماذا هذه المبارزة؟ - لا بد أن تعلم السبب، فهو أني كنت أحسب نفسي أمس إلى صباح اليوم من أسعد البشر، فعلمت الآن أني من أشقاهم. - ما هذا اليأس؟ وأي شقاء تعني؟ - لا شيء سوى أني محب غير محبوب، وقد كنت أحسب أن المرأة إذا تابت عن ذنوبها تصبح من ملائكة السماء، ولكني أخطأت في هذا الزعم؛ فإن المرأة متى سقطت في هوة الفساد، فلا بد لها مهما بلغ من توبتها أن تعود إلى هذه الهوة. - رباه! ماذا أسمع أيمكن ذلك أن يكون؟ أيمكن أن الكونتس ...
فقاطعه الكونت بإشارة وقال له: لا تذكر اسمها أمامي، فقد محتها الجريمة من صفحات قلبي.
26
بينما كانت هذه الحوادث تتوالى، كان يجري في قصر الكونت أرتوف حادث أشد تأثيرا منها، وذلك أنه بعد أن خرج الكونت أرتوف من منزله يتنزه كما تقدم، خرجت باكارا في إثره لشراء بعض حاجات لها، ولم تعد إلا في الساعة الثالثة، فوجدت فيه رسالة لها.
ولم تكن هذه الرسالة من الكونت أرتوف كما يتبادر إلى أذهان القراء، بل كانت من رولاند، فقد كتب لها ما يأتي:
يا ملاكي المحبوب
إن الذي يحبك ويحبك إلى الأبد يقيم منذ ساعة على أحر من جمر الغضا، ولولا خوفي من أن تكوني قتيلة لأسرعت إليك، فقد خرج زوجك الآن من عندي وقد عرف كل شيء ، وسنتبارز غدا مبارزة لا تنتهي إلا بموت أحدنا، وكنت أتمنى أن أموت من أجلك لولا ما أخشاه عليك من انتقام هذا الظالم، على أني سأحيا كي أحميك، فاكتبي لي كلمة كي أطمئن عليك، كلمة واحدة بحق السماء.
رولاند دي كايلت
وكان أحضر هذا الكتاب خادم رولاند وهو خادم روكامبول، فجاء به إلى المنزل وأعطاه إلى الخادم، فقال له: إن هذا الكتاب إلى الكونتس من أختها سريز، ولكنها أوصتني أن أسلمه لها يدا بيد، فهل تتعهد عني بتسليمه على هذا الشرط؟ - لا شك في ذلك، فإن سيدتي قد وصلت الآن، وهي وحدها في المنزل.
ثم أخذ منه الكتاب وأعطاه لباكارا بعد أن قال لها إنه من أختها سريز، ولكنها قبل أن تفض ختمه وتقرأ ما فيه سمعت صوت مركبة وقفت على الباب، فأطلت من النافذة وهي تحسب أنها مركبة الكونت، ولكنها انذهلت أشد الذهول لأنها رأت أختها سريز نزلت من المركبة، فانشغل قلبها لزيارتها وأسرعت لاستقبالها، والكتاب لا يزال مختوما بيدها، فقالت لها: ويحك أجننت؟ - لماذا؟ - أتكتبين لي كتابا ثم تجيئين في إثر الكتاب؟
فانذهلت سريز وقالت: أي كتاب تعنين؟ فإني لم أكتب لك شيئا. - هذا الكتاب الذي في يدي، أما أنت أرسلتيه إلي وأمرت الخادم أن يسلمني إياه يدا بيد؟ - كلا، فلم يكن شيء من ذلك.
فأسرعت باكارا إلى فض الكتاب، وأول ما وقع نظرها على توقيع مرسله، وقرأت اسم رولاند دي كايلت، ثم قرأته فانذعرت، ووقع الكتاب من يدها وهي تقول: رباه! أفي يقظة أنا أم في حلم؟
فأخذت سريز الكتاب من الأرض وقرأته أيضا وقالت: إني لا أفهم شيئا من هذه الألغاز يا أختي، ومن هو رولاند هذا؟ - إني ما رأيته غير مرتين، وما كلمته أكثر من جملتين، فماذا يعني بهذا الكتاب؟ - ومن هو هذا الرجل الذي سيبارزه ويخشى عليك منه؟
فلم ترد عليها باكارا وجعلت تقول: رباه! ما هذا المصاب، فلقد أوشكت أن أجن!
وعند ذلك فتح الباب ودخل الخادم برسالة وقال: إنها من الكونت.
فأخذتها باكارا بيد ترتعش، فلما تلتها صاحت صيحة القانطين وسقطت مغميا عليها، وقد عرف القراء فحوى هذه الرسالة التي كتبها الكونت في منزل فابيان.
وبعد ربع ساعة أفاقت من إغمائها، ولكنها كانت شبيهة بالمجانين، فقالت لأختها بصوت مختنق: هلمي معي فإني أريد أن أذهب إلى هذا الرجل الذي قلد خطي، وبلغ من السفالة إلى هذا الحد.
ثم خرجت معها فركبتا مركبة وسارتا إلى منزل رولاند، وكانت باكارا في الطريق لا تفوه بكلمة، فلما وصلت المركبة إلى منزل رولاند نزلت سريز وقال لأختها: انتظريني فسأقابل هذا الرجل وأعود إليك بما يكون.
ثم تركتها وصعدت إلى منزل رولاند، فطرقت بابه وهي تضطرب.
ولم يكن خادم رولاند في المنزل، ففتح لها رولاند وانذهل حين رآها، فقالت له: إني أدعى يا سيدي مدام ليون رولاند، وأنا أخت الكونتس أرتوف.
فاندهش رولاند لهذه الزيارة واستقبلها خير استقبال، فقالت له: إن أختي يا سيدي تنتظرني في المركبة الواقفة على بابك الخارجي.
فظهرت على رولاند علائم السرور وقال: ألم يقتلها؟ أسلمت من شره؟ الحمد لله وألف شكر لك يا سيدتي، فلقد كدت أجن من الخوف عليها.
فقالت سريز كأنها لم تسمع ما قاله: إن أختي في المركبة، وهي لا فرق بينها وبين المجانين؛ لأنها لم تعلم شيئا من رسائلك. - ألعل زوجها لم يعد إلى المنزل؟ - إنها لم تفهم شيئا من كتابك ولا من كتاب زوجها.
ثم عرضت عليه كتاب الكونت فقرأه وقال: لقد عرفت سبب اضطرابها، ولكن لتعلم يا سيدتي أني سأحميها لأني أحبها.
فقالت سريز وقد طاش رأسها: اعلم يا سيدي أنه إما أن يكون هناك اتفاق غريب خدعت به، أو أنك من أشد الناس حطة ونذالة، فإن أختي ما نظرتك غير مرتين وما أحبتك، ولم يكن لها بك أدنى اتصال.
فقال رولاند ببرود: عفوك يا سيدتي، فلقد كنت أحسب أن أختك أوقفتك على أسرارها بدليل قدومك إلي، وأنها تنتظرك على باب منزلي، وفي كل حال فلا يسعني أن أتغاضى عن شتمك لي، فما أنا بنذل، وإن أختك تستقبلني في منزل لها في باسي منذ ثمانية أيام، وقد أتت بنفسها إلى منزلي هذا ثلاث مرات.
فصاحت سريز صيحة اشمئزاز وهي تحسب أن الرجل قد جن، كأنما هذا الإقرار قد أثر بها تأثيرا شديدا، حتى إنها لم تعد تدري ماذا تجيب، ولكنها أسرعت إلى الخروج من غرفة رولاند، ونزلت على السلم مهرولة حتى بلغت إلى حيث أختها، فأمسكتها بيدها وجرتها وهي تقول: اصعدي معي إلى هذا الخسيس؛ فإنه يقول إنه ذهب إليك في باسي وأتيت إليه في منزله، أسرعي فإن الرجل لا شك مجنون.
فهاجت هذه التهمة بباكارا ووثبت من المركبة، فصعدت السلم مقتفية أثر أختها، وكان رولاند لا يزال واقفا على باب منزله الداخلي، فلما رأى باكارا صاح صيحة الفرح وأسرع إليها وقد فتح ذراعيه لضمها إليه، فصدته باكارا بعنف وقالت له: إنك رجل سافل أو إنك معتوه لا عقل لك، ويحك! بأي حق تريد معانقتي؟
فتراجع رولاند وقال: عفوا أيتها الحبيبة! فما أنا بسافل وما جننت إلا بهواك، وخطئي الوحيد هو أني كنت أحسب أختك واقفة على سرنا. - وأي سر تعني؟ ومتى كان بيني وبينك أسرار أيها الرجل؟
فأطرق رولاند لحظة ثم نظر إليها وقال: إني أسألك بدوري إذا كنت قد جننت أم أنك تمثلين دورا لا يخطر لي ببال.
فسقطت باكارا واهية القوى على كرسي وغطت رأسها بين يديها وهي تقول: يا لك من رجل سافل!
فدنا منها رولاند وهو واثق أشد الثقة من أنها المرأة التي يهواها؛ لأنها لا تتميز عن ريبيكا إلا بصفاء عينيها، غير أنه لقيها بحالة اضطراب شديد لم يعد بعده سبيل إلى معرفة ذاك الفرق، ثم قال لها بصوت منخفض: اذكري أيتها الحبيبة اجتماعنا في باسي، بل اذكري أنك كنت أول أمس جالسة على نفس الكرسي الذي أنت جالسة عليه الآن، وأني كنت جاثيا على ركبتي أمامك.
فاتقدت عينا باكارا بلهيب الغيظ ورفعت يدها تريد صفعه.
وعند ذلك خطر خاطر لسريز، فأمسكت يد أختها وقالت: لقد علمت كل شيء يا أختي ، فاطمئني واذكري تلك المرأة التي تشبهك، والتي خدعت بها فحسبتها إياك حين رأيتها.
فانتعش فؤاد باكارا وقالت: رباه! عسى أن يكون ذاك صحيحا.
وعند ذلك استحالت إلى السكينة بعد ذاك الغضب، وأخذت يد رولاند وقالت له بلهجة الاستعطاف: هو ذا وجهي معرض للنور، فتمعن فيه جيدا تعلم أنك عشقت امرأة تشبهني، وأن هذه المرأة قد قلدت خطي، انظر إلي جيدا ... إني أتوسل إليك وألتمس منك هذا التمعن راكعة أمامك على ركبتي.
وكانت نبرات صوتها تشف عن صدق أكيد، حتى إن رولاند تأثر وارتعش، ولكنه ما لبث أن قال: كلا، إن التشابه إلى هذا الحد محال، فإن الصوت والوجه والشعر واحد، وفوق ذلك فهذه الرسائل التي أرسلتيها إلي بخطك، وهذه التي أرسلتيها بخط وصيفتك، ألم تكتبي لي في هذه الرسالة جميع ما حدث بينك وبين زوجك حين عودته من النادي.
ثم أعطاها الرسالة، فلما قرأتها باكارا علمت أن كل شيء يدل على أنها مجرمة، وأن فكرا حاذقا قد دبر هذه المكيدة، فصاحت صيحة يأس وسقطت مغميا عليها، فأسرع رولاند وسريز إلى إنهاضها عن الأرض، وجعلت سريز تصيح وتستغيث، أما رولاند فقد تزعزع اعتقاده لما رآه من دلائل الصدق على الأختين.
وقد أسرع خدام المنازل المجاورة عندما سمعوا صوت الاستغاثة، فطلبت إليهم سريز أن يساعدوها بنقل أختها قبل أن تستفيق إلى المركبة، فحملوها إليها، وعند ذلك قالت لرولاند: ألتمس منك يا سيدي أن تأتي إلى منزلي بعد ساعة، فإنه لا بد من وجود سر هائل يجب أن نكشفه.
فوعدها رولاند بالذهاب وقد اشتد اضطرابه، حتى إنه خشي أن يكون قد أساء إلى هذه المرأة إساءة لا تغتفر.
أما سريز فإنها ذهبت إلى منزلها بأختها وهي مغمي عليها؛ حذرا من أن يفتك بها الكونت حين يراها. •••
بينما كانت المركبة تسير بسريز وأختها، خرج رجل من مركبة كانت واقفة منذ حين على مسافة 50 خطوة من منزل رولاند، فدفع أجرة المركبة ودخل إلى منزل رولاند، ولم يكن هذا الرجل إلا روكامبول، وكان باب رولاند لا يزال مفتوحا، فدخل روكامبول وهو يقول في نفسه: إن المقابلة كانت من غرائب المضحكات.
وتقدم إلى القاعة التي يجلس فيها رولاند، فألقاه ضائع الرشد مشتت البال، فقال له: لقد عرفت كل شيء أيها الصديق، فإن الكونت أرتوف زارك في منزلك، وإنكما ستتبارزان غدا، فلم أجد بدا من زيارتك، وقد علمت من حكاية الكونت أرتوف، أن صديقك أوكتاف كان علة هذه الفضيحة.
فقال له رولاند دون أن يهتم لحديثه: لقد علمت كل شيء كما تقول، فهل علمت أن الكونتس أرتوف خرجت من هنا قبل دخولك.
فتظاهر روكامبول بالانذهال وأجاب: رباه! ماذا أسمع أتبلغ جسارتها إلى ذاك الحد؟ - بل قد حدث ما هو أشد من ذلك.
ثم قص عليه ما جرى بينه وبين باكارا وسريز وهو يميل بحكايته إلى تصديق الأختين إلى أن أتم حديثه، وكان روكامبول يصغي إليه أتم الإصغاء، فلما رأى اعتقاده قد تزعزع قال له وهو يبتسم: كم عمرك يا رولاند؟ - أربعة وعشرون عاما. - إذن فإن عذرك ظاهر؛ لأنك لا تزال صغيرا تجهل مكائد النساء، فإذا كنت عرفت شيئا من حبهن فقد غابت عنك من مكائدهن أشياء. - ماذا تريد بهذا القول؟ - أريد أن باكارا وأختها قويتان وأنهما قد عبثتا بك؛ إذ لا يوجد شبيهة لباكارا كما تزعمان، وهي نفسها التي أحبتك ثمانية أيام باتت عدوة هائلة لك في مدة ساعتين.
فذهل رولاند وقال: كيف ذلك؟ - ذلك حين علم الكونت كل شيء لم يذهب إلى منزله، بل كتب إلى امرأته، فأسرعت باكارا مع أختها إليك، وقد اتفقتا على تمثيل هذا الدور ونجحتا فيه كما يظهر؛ لأنك أصبحت تعتقد - كما أرى - أنه يوجد شبيهة لباكارا، ولو لم يتفق قدومي إليك لكنت تماديت في اعتقادك هذا حتى تحسب نفسك مخطئا إلى الكونت، فتعتذر إليه غدا، ثم تقول له: إني ما عرفت الكونتس ولم يكن لي بها اتصال غرام، بل كنت منخدعا بامرأة تشبهها، فإذا شئت أن تقتلني فافعل، ولكني أقسم لك بشرفي أن امرأتك طاهرة بريئة! وعند ذاك يلقي الكونت حسامه إلى الأرض، وتبطل المبارزة، ثم تبحث وإياه عن تلك المرأة، التي لا توجد إلا في مخيلة باكارا، فلا تجدانها. - ومنزل باسي؟
فأجاب روكامبول بلهجة الاستغراب: ألعلك عرفت هذا المنزل؟ أما كنت تذهب إليه في مركبة مقفلة مسدودة النوافذ، ألا يمكن أن يكون المنزل في غير هذا الشارع؟
فأطرق رولاند وقال: لقد أصبت.
فقال روكامبول متمما حديثه: إنه بعد أن تبحث أنت والكونت ثلاثة أو أربعة أيام دون أن تجدا شبيهة باكارا، يخف غضب الكونت ويعود إلى الثقة بطهارة امرأته. - ولكننا لا نجد شبيهة باكارا فتراجعه الظنون. - كلا، فإن باكارا تكون في خلال هذه المدة قد أثبتت لزوجها براءتها، كما تكون قد أثبتت له أيضا أنك أنت المذنب، وأنك أنت الذي أردت إخفاء شبيهتها كي تبقى الشبهات متمكنة في نفوس أصحابك من أنك تحب الكونتس حقيقة، وأنك اختلقت هذه الحكاية كي تنقذها. - ولكن ذلك عمل سافل لا تقدم عليه باكارا. - بل إنك فتى غر لا تعرف شيئا من مكائد النساء وأحقادهن، فإن باكارا لا تصفح عنك إلى الأبد، ولا تنسى أنك أنت الذي دنست سمعتها بإفشاء سرها أمام أصحابك.
فأطرق رولاند هنيهة يفتكر ثم أجاب: لقد أصبت أيها الصديق، فإنها تلعب بي كما يلعب الغلمان بالكرة فاطمئن؛ لأني قد وقفت في مواقف الحذر.
وبعد أن تركه روكامبول كتب رولاند إلى سريز يعتذر إليها عن عدم حضوره، ثم أعطى الكتاب لخادمه وذهب إلى النادي كي يرى أصحابه، بل يخبرهم بجميع أمره.
27
أما روكامبول فإنه ذهب إلى منزله، فوجد فيه الكونت أرتوف وصهره فابيان، وكان الكونت بعد أن ذهب إلى رولاند والدوق دي مايلي، وبعد أن كتب إلى باكارا ذاك الكتاب الذي صعقها، عاد إلى فابيان فكتب عدة رسائل وفابيان جالس أمامه لا يجسر أن يفتح الحديث، فلما فرغ الكونت من كتابه قال لفابيان: إني أحب أن أجعلك منفذ وصيتي، ألك ما يمنعك عن قضاء هذه المهمة أيها الصديق؟
فنظر إليه فابيان منذهلا وقال: ماذا يدعوك إلى كتابة وصيتك الآن، وأنت واثق من قتل خصمك؟ - ولكني قد أقتل. - إن الله أرحم من أن يجازيك هذا الجزاء؛ إذ لا بد للفضيلة أن تنتصر ولو بعد حين. - أصبت على أن كتابة الوصية محمودة في كل حال.
فأجاب فابيان وقد تبين قصدا هائلا من ملامحه: إنك لا تزال تحب هذه المرأة يا كونت. - نعم، وعلى الكره مني. - وإذا لم يقتلك خصمك فماذا تصنع؟ - أقتل نفسي!
ثم تنهد وقال: أصغ إلي فإني قسمت تركتي إلى قسمين: القسم الأول وهو أملاكي في روسيا وسيرثها أهلي من بعدي، والقسم الثاني أملاكي في فرنسا فإن إيرادها يبلغ مائة ألف فرنك في العام، وأنا أريد أن أجعلك منفذا لوصيتي عن هذا القسم ... لا تقطع علي الحديث أيها الصديق؛ لأني أعلم ما تريد أن تقوله لي، واعلم أني إذا لم أقتل في المبارزة غدا فسأقتل نفسي؛ لأن سعادتي كانت متعلقة بهذه المرأة التي ما أحببت سواها، فملأت جميع فراغ قلبي، فلم يعد لهذا القلب رجاء بالحياة بعد أن سحقته تلك الخيانة، فإذا قتلت غدا هذا الفتى فإنه قد قتلني قبل أن أمد له يدا، فاعجب لقاتل يقتله مقتول! أما الموت فهو أشهى الأمور لدي وكفى به معزيا عما أنا فيه، والآن فهل تكون منفذ الوصية؟
فتنهد فابيان وقال: نعم. - إذن سأدع هنا وصيتي وجميع رسائلي، فإذا كان الغد ...
وعند ذلك دخل روكامبول، فأجاب فابيان بإشارة يريد بها أنه فهم المقصود.
أما روكامبول فإنه دنا من الكونت وقال له: لقد أمرت الخدم يا سيدي أن يهيئوا لك غرفة بإزاء غرفتي.
فشكره الكونت وقال: إذن لنذهب إليها ولندع فابيان مع امرأته، فقد حان وقت العشاء، ولا أحب أن أظهر أمامها بمظهر الاضطراب.
ثم خرج روكامبول بالكونت وصعد به إلى منزله، فقال له: أتريد أن نجلس على مائدة الطعام؟
فابتسم الكونت ابتسام الحزين وقال: لا أجد شهية للأكل. - إنه لا يجمل بك أن تبيت فارغ المعدة، وأنت مضطر إلى المبارزة في الصباح. - أصبت، وامتثل امتثال الأطفال.
ولما فرغا من الطعام أتاهم الخادم بالقهوة، فقال له روكامبول : أنصحك نصيحة، وهي أن لا تشرب هذه القهوة، بل اشرب كأسا من هذا الشراب.
وأشار إلى زجاجة على المائدة، فقال الكونت: لماذا اخترت ذاك الشراب دون سواه؟ - لأنه يساعدك على النوم، وأنت محتاج إلى الرقاد في هذه الليلة للراحة. - بل للنسيان، فهات من شرابك.
فصب له روكامبول كأسا وصب لنفسه من شراب آخر، فسأله الكونت: لماذا لا تشرب أنت من شرابي؟
فضحك روكامبول وقال: لأني لست محتاجا للنوم مثلك.
ثم شرب الاثنان، وعند ذلك نظر روكامبول إلى الساعة المعلقة وقال في نفسه: إننا في الساعة السابعة الآن، وفي الساعة السادسة من الصباح ستكون المبارزة.
وبعد أن أقاما على المائدة هنيهة، دخل الكونت إلى الغرفة التي أعدت له، وذهب روكامبول إلى أستاذه أندريا فقال له: لدي أيها الأستاذ كثير من الأمور التي تحب أن تقف عليها، فإن باكارا شبيهة بالمجانين، وقد قابلت رولاند، ولولاي لكان اعترف ذاك الأبله للكونت بأنه يهوى شبيهة امرأته.
ثم قص عليه جميع ما جرى، فلما أتم حديثه سأله: أواثق أنت من تأثير السم الذي سقيته للكونت أرتوف، وأنه يتم جنونه بعد اثنتي عشرة ساعة؟
فهز أندريا برأسه إشارة المصادقة. - وإذا اتفق أن المبارزة حدثت قبل الجنون؟
فكتب أندريا على لوحه الحجري: يكون ذلك لنكد رولاند، ألعلك مشفق عليه؟ - إنك لم تعلمني الإشفاق.
فكتب أندريا: كن مطمئنا، فإن أعراض الجنون تظهر في الساعة السابعة، وتحول دون المبارزة.
وفي صباح اليوم التالي نهض روكامبول باكرا وأيقظ الكونت، فشكره الكونت وارتدى ثيابه مسرعا، ولكنه شعر بدوار في رأسه فلم يكترث له، وخرج فركب مركبة وذهب بها إلى الدوق دي مايلي شاهده في المبارزة، وسار الاثنان إلى المكان المعين فلقيا رولاند وشاهديه، فسلم كل فريق على الآخر بإحناء الرأس، وبعد اتفاق الشهود وقف الخصمان موقف القتال.
وكان روكامبول قد سبقهما إلى محل المعركة متنكرا، ووقف بحيث يرى جميع ما يجري دون أن يراه أحد، وكانت عند ذلك الساعة السابعة، بينما كان الشهود ينتظرون بدء القتال رأوا أن الكونت قد حمل سلاحه ومشى إلى رولاند، فظن الجميع أنه سيقتل خصمه دون شك، ولكنه بدلا من أن يطلق عليه النار جعل يكلمه خلافا للقواعد المعروفة في المبارزات، فكان أول ما قاله: إننا يا سيدي في موقف لم يعد ينفع فيه الاعتذار، ولا بد لأحدنا من الموت.
فأجفل روكامبول وخاطب نفسه: ألعل أندريا والطبيب يهزأان بي، فإن الوقت قد حان ولا أرى عليه شيئا من أعراض الجنون.
فقال رولاند مجيبا الكونت: لقد صدقت يا سيدي، وها أنا مستعد لقتالك.
فقال الكونت بسكينة وأدب: ما تظن يا سيدي بفتى ضعيف العقل أحب امرأة لم تهواه على الإطلاق.
فأنكر عليه رولاند هذا الكلام وقال: ما لنا وللعود إلى تلك الأبحاث؟ - عفوك يا سيدي ودعني أتم كلامي.
فهز رولاند كتفيه إشارة إلى عدم المبالاة وقال: قل ما تشاء. - إن تلك المرأة لم تكن تهواه، فعول على الانتقام منها بالنميمة عليها وتخديش سمعتها، فجعل يظهر لجميع إخوانه الأغرار أن المرأة تهواه.
فأوقفه رولاند وقال: إنك تتمادى في القول يا كونت، فقف عند حدك.
فأجابه الكونت بصوت الملتمس: بالله دعني أتم حديثي.
فانذهل رولاند وجميع الشهود؛ لأن الكونت كان يخالف نظام المبارزة مخالفة ظاهرة لا تخفى على أحد، فدنا الشهود منه بضع خطوات، أما الكونت فإنه أتم كلامه فقال: لحسن الحظ يا سيدي أن الرذيلة مهما تمكنت من النفس؛ فإن أضعف شعاع ينفذ إليها من أشعة الفضيلة يتغلب عليها ويلقي صاحبها في مهاوي الندامة.
فنفد صبر رولاند وقال له مغضبا: ماذا تريد بهذه الأقوال؟
فتحمس الكونت وقال له: أصغ إلي بحق السماء، فإن تتمة حديثي يتعلق عليها شرف امرأتك.
فجمد رولاند من الذهول وقال له: امرأتي!
فسقطت الدموع من عيني الكونت وقال: نعم يا سيدي الكونت أرتوف، فلقد وشيت بامرأتك الكونتس أسفل الوشايات، فاصفح عني.
فوقعت هذه الكلمات الأخيرة وقع الصاعقة على رولاند وعلى الشهود، أما الكونت فإنه عاد إلى حديثه فقال: إني يا سيدي الكونت أدعى رولاند دي كايلت، كما أنك تدعى الكونت أرتوف، وكلانا شريف ونبيل و...
فقاطعة رولاند وقال: أنا الكونت أرتوف وأنت رولاند دي كايلت؟ لا شك يا سيدي أنك مجنون!
لقد كنت يا سيدي في عداد المجانين حين تجاسرت أن أرفع نظري إلى تلك المرأة الجميلة النبيلة، ولكنك ستصفح عني دون شك فتصافحني وتقبل اعتذاري.
ثم جثا على ركبتيه أمام رولاند وهو يقول: عفوك يا سيدي الكونت.
فصاح الشهود منذعرين: إنه مجنون!
وفكر روكامبول في نفسه: لا شك أن أندريا من الأنبياء، فها هو قد جن عند الساعة السابعة تماما كما قال.
ودنا الدوق دي مايلي من رولاند وهمس في أذنه قائلا: اقبل جميع أعذار هذا المسكين، فإنك لم تعد الآن أمام الكونت أرتوف، بل أمام تعس منكود، ذهب صوابه بذهاب شرفه، وداست امرأته على عقله بأقدام حبها السافل.
وبعد ذلك ببضع ساعات كان روكامبول يحدث أندريا بجميع ما رآه من جنون الكونت أرتوف الغريب، فقال له: إنه لا يزال يعتقد أنه رولاند وقد ركب إلى جنبه رولاند في مركبة واحدة، وأراد الذهاب معه إلى منزله كي يعتذر إلى باكارا التي يعتقد أنها زوجة رولاند، فكان يعتذر إليه طول الطريق إلى أن بلغوا إلى منزل الكونت أرتوف، فلم يجدوا باكارا فيه، فحبسوه في قصره وذهب كل في شأنه، والآن فقل لي أية فائدة لنا من جنون الكونت أرتوف؟
فأجابه أندريا بلوحه الحجري: إن الأطباء سيصفون له السفر مداواة لجنونه، فلا بد لباكارا من السفر معه ومغادرتها باريس، فيخلو لك الجو وتأمن شرها. - وبعد ذلك؟ - بعد ذلك تضعف قوة الدوق دي مايلي ونستطيع التفرغ له آمنين مطمئنين. - ألعلك قررت أمرا بشأنه؟ - نعم. - أتطلعني على الخطة التي رسمتها؟ - كلا، فاكتف الآن بتنفيذ أوامري ولا تناقشني في شيء، بل اطمئن ... فليس الدوق دي مايلي الذي سيمنعك عن الزواج بغادتك الإسبانية.
28
بعد ذلك بثلاثة أيام ورد إلى الكونت مايلي من باكارا الكتاب الآتي:
أيها الدوق العزيز
إن امرأة دنس بنو الشر شرفها، وضربتها يد القضاء ضربة لا قيام لها بعدها، تكتب إليك لتودعك وداعا ربما كان أبديا ، ولست أدري إذا كنت في عداد الذين يثقون بخيانتي، ولكنك رجل نبيل طاهر القلب عف الضمير، إذا كنت تتهمني كما يتهمني الناس بتلك الخيانة التي اختلقتها قريحة جهنمية، فإنك تحفظ لي دون شك شيئا من العهد القديم، لا سيما حين تعلم أنك كنت الرجل الوحيد الذي افتكرت به حين خروجي من باريس.
إننا نسافر غدا، فقد وصف الأطباء السفر لزوجي العزيز، وقالوا إن هواء سويسرا ومناظر جبالها قد يعيدان إليه صوابه، وما أسعد ذلك اليوم الذي تصدق فيه ظنون الأطباء، على أني عالمة بأن زوجي حين يعود إليه صوابه يطردني من داره طرد المجرمات، ويأنف من أن ينظر إلي؛ لأني لم يعد لي أقل أثر في قلبه، بل ربما قتلني أيضا، ولكني لا أهتم لحياتي وسأخاطر بكل شيء في سبيل شفائه؛ لأنه لا يزال في عنفوان الشباب، ولا بد لجرحه أن يندمل بتقادم الأيام.
ومع كل ما أنا فيه أيها الصديق - أواه! دعني أرجو أن تسمح لي بأن أناديك بهذا اللقب - فلا أحب أن أغادر باريس دون أن أهتم بأمرك، فقد وردني اليوم كتاب من قريبك في روسيا يقول فيه إنه وصل إليه رسولي الذي يحمل كتابي، وأنه سيرسل معه بعد ثلاثة أيام الأوراق التي تثبت علاقة نسبك بالدوق سالاندريرا.
وعلى ذلك، فسيصل هذا الرسول قريبا إليك، ويعطيك هذه الأوراق التي تبلغك ما تريد من الزواج بابنة الدوق، أما أنا فسأكتب للدوق سالاندريرا وأخبره بأمر نسبك، وأعيد عليه ما كتبته من قبل؛ وهو أن تكون زوج ابنته، ولا شك أن الدوق لم يصل إليه بعد نبأ شقائي، وسأكتب إليه بلهجة المرأة التي لا تزال سعيدة، فانتبه لنفسك واعمل ما يجب عليك، فقد علمت أنا ما يجب علي.
الوداع أيها الصديق فارث لحالي، ولا تحتقر دعائي لك؛ فإني لا أزال طاهرة بالرغم عن المرجفين.
الكونتس أرتوف
فتأثر الدوق عند قراءته هذا الكتاب وقال في نفسه: إن قلبي يحدثني أنها غير مجرمة، وفي كل حال فإني لا أسمح لأحد أن يهينها أمامي .
وكان الدوق يحاول الخروج من منزله عندما ورد إليه هذا الكتاب، فلما فرغ من تلاوته أعاده إلى غلافه ووضعه على طاولته وانصرف، وكان زامبا يراقبه، فلما خرج سيده دخل إلى غرفته، فنسخ الكتاب وذهب بنسخة إلى روكامبول في منزله السري الذي كان هذا الأخير ينتظره فيه وهو متنكر بالشكل الذي يعرفه فيه زامبا، وكان منهمكا بتلاوة كتاب ورد إليه من ابنة الدوق تقول فيه إن أباها يعهد إليها بعد موت الدون جوزيف اختيار الزوج الذي ترضاه، وإنهم عائدون من إسبانيا فيصلون إلى باريس بعد ثلاثة أيام، وفي الختام طلبت إليه أن يجيئها إلى الحديقة عند منتصف الليل حسب العادة.
فلما دخل زامبا أخفى روكامبول كتاب ابنة الدوق، فأطلعه على نسخة كتاب باكارا إلى الدوق دي مايلي، فأجفل لهذا الخبر وقال في نفسه: لقد أخطأ ظن أندريا، فإن باكارا لم يشغلها جنون زوجها عن خدمة الدوق، ولكنه أخفى اضطرابه وقال لزامبا أن يعود إليه في الساعة الثامنة، فانصرف وبعد ذهابه غير روكامبول شكله وذهب يستشير أستاذه أندريا.
وبينما مركبته تسير به وهو يمعن الفكرة بكتاب باكارا، إذ قطع خيط تصوره صياح السائق بقوله: احذر ورجوعه بالمركبة إلى الوراء، فالتفت روكامبول عندما تبين هذا الرجل؛ لأنه عرف أنه فانتير وكيل منزل الأرملة مالاسيس، الذي خان أندريا وأفشى سره للكونت أرتوف، فكان السبب في قطع لسان أندريا كما تقدم في رواية التوبة الكاذبة، فجعل فانتير يشتم السائق دون أن يرى من فيها؛ لأن روكامبول احتجب في داخلها حذرا من أن يعرفه، واستمر السائق يمشي هنيهة فأوقفه روكامبول ونزل وقال له: اذهب بالمركبة إلى المنزل، أما أنا فسأعود ماشيا. ذاك لأنه خطر له أن يقتفي أثر فانتير كي يعلم حقيقة حاله.
ولما شفى فانتير غله من شتم السائق جعل يمشي في الشارع، واقتفى روكامبول أثره حتى بلغ إلى منعطف الطريق، فأسرع إليه وسأله أن يولع سيكارته من سيكارته، قد أراد بذلك أن يعلم إذا كان يعرفه بالنظر إليه، فأعطاه فانتير سيكارته ونظر إليه دون اكتراث، فأيقن روكامبول أنه لم يعرفه، وما زال يتعقبه حتى وصل إلى منزله في شارع حقير، فأخذ مفتاح غرفته من البواب وصعد إليها، وبعد حين عرف روكامبول من هذا البواب أن فانتير يدعو نفسه جوناتس، وأنه في أشد حالة من الشقاء، حتى إن صاحب الغرفة طرده منها عدة مرات لامتناعه عن دفع الأجرة.
ولما عرف روكامبول جميع ما يريد معرفته عاد إلى منزله وذهب توا إلى أندريا، فأخبره بكتاب الغادة الإسبانية، وبكتاب باكارا إلى الدوق مايلي، وبلقائه بفانتير، فأمعن أندريا الفكرة طويلا ثم قال له بلوحه الحجري: يجب أن يكون فانتير من رجالنا؛ كي نرسله بشأن خطير إلى إسبانيا.
فدهش روكامبول وسأله: ماذا يصنع في تلك البلاد؟ - يذهب لسرقة كتاب باكارا إلى الدوق سالاندريرا من كيس البوسطة قبل وصوله إلى الدوق. - وإذا كان الكتاب قد وصل إلى الدوق؟ - ذلك غير ممكن، فإنه قد برح إسبانيا أمس، أما الكتاب فإنه يسير إلى إسبانيا والدوق خارج منها فيتقابلان على الطريق. - لقد فهمت قصدك، وسيكون ما تريد أن يكون.
29
بينما كان فانتير عائدا إلى منزله في اليوم التالي، ناوله البواب كتابا باسمه عليه علامة المركيز، فانذهل فانتير وقال: ألعل أحد النبلاء في حاجة إلي؟
ثم فض الكتاب بلهف وأسرع بنظره إلى التوقيع، فاصفر وجهه وخارت قدماه، ذلك أنه قرأ «السير فيليام»، وبعد أن ملك روعه أخذ يقرأ الكتاب فقرأ ما يأتي:
عزيزي فانتير
بل أيها اللص القديم الخبير بأساليب المهنة، إني عدت إلى باريس من سفر طويل بعد أن طفت حول الأرض، وأنا الآن في خير حالة بفضل مؤازرة بعض إخوان، غير أني أصبحت بعين واحدة، ولكن إذا كانت باكارا قد قطعت لساني، فإن ذلك لا يمنعني عن أن أصدر الأوامر بالكتابة، فاعلم الآن أن عصابتي تهتم منذ شهرين في البحث عنك، وقد بحثت في جميع أنحاء لندرا وباريس حتى عثرت بك، وأصبحت الآن في قبضتي بحيث أستطيع أن أبلغ منك ما أشاء وأشويك شيا على النار، وأقطع لسانك انتقاما منك؛ لأني أعلم ما يعانيه المرء من الشقاء بعد قطع لسانه، ولكني لا أصفح عنك بعد خيانتك لي إلا إذا رضيت أن تدخل في خدمتي وتكون لي عبدا، فإذا قبلت فتنزه الليلة أمام باب منزلك، وإذا أبيت فاستعد لما أنذرتك به.
السير فيليام
فضعضع هذا الكتاب رشد فانتير لشدة خوفه من أندريا، وأول ما خطر له أن يهرب من انتقامه، ولكنه قال في نفسه: لا بد أن يكون قد وضع الجواسيس من حولي، فلا سبيل إلى الفرار، ثم إنه لو لم يكن في حاجة إلي لكان قتلني دون أن يرسل إلي مثل هذا الإنذار.
وعندما خطر له هذا الخاطر اطمأن باله وجعل يتمشى أمام منزله ذهابا وإيابا كما أوصاه السير فيليام في الكتاب.
وبعد ساعة أتى رجل من ورائه وهمس في أذنه: السير فيليام!
وكان هذا الرجل روكامبول، فالتفت إليه منذعرا، وجعل يحدق به دون أن يعرفه، فخاطبه روكامبول بلهجته العادية: هلم بنا يا فانتير إلى هذه القهوة نتحدث فيها.
فعرفه فانتير من صوته وصاح منذعرا: روكامبول؟ - أجل أنا هو، وقد بعثني إليك السير فيليام لترصيد حساب قديم بيننا.
ورأى فانتير المسدس بيد روكامبول، فخاف خوفا شديدا وجعل يعتذر إليه عن الخيانة السابقة بأنه اضطر إليها مكرها، وأنه مستعد للدخول في سلك العصابة متعهدا أن لا يخونها حتى الموت.
فتظاهر روكامبول بقبول عذره وذهب به إلى قهوة منعزلة، فأخبره بالمهمة التي ينتدبه إليها، وهي سرقة الرسائل الذاهبة من فرنسا إلى إسبانيا باسم الدوق سالاندريرا، وأرشده إلى طريقة سرقتها من كيس البريد، ثم أعطاه ألفي فرنك ليستعين بها على رشوة حامل البريد إذا تعذرت لديه الوسائل، ووعده بعشرة آلاف أخرى إذا نجح في مسعاه، ففرح فانتير بهذه المهمة الجديدة التي أنقذته من مخالب أندريا ومن نكد الفقر، وقال له: أقتل إذا اضطررت إلى القتل؟ - لا بأس، ولكن تجنب إهراق الدماء ما أمكنك.
فسافر فانتير لساعته إلى إسبانيا، وعاد روكامبول إلى أندريا، فأخبره بما كان ثم قال له: إني لا أعلم إلى الآن أية فائدة لنا من سرقة هذا الكتاب! - ذلك أن الدوق مايلي يضطر بعدها إلى أن يخبر الدوق سالاندريرا بنسبه الجديد، وبالشهادات التي تثبت قرابته منه.
فرد روكامبول منذعرا: وإذا وصلت هذه الشهادات إلى الدوق مايلي؟
فضحك أندريا وأجاب: إن الذي سيحضر بها من روسيا خادم باكارا، إذا شئت أن يصل إليه سالما فافعل.
فأدرك روكامبول قصده وأجاب: حسنا، فسنكمن له منذ الليلة في الطريق. •••
بعد ذلك بثلاثة أيام عاد فانتير يحمل كتاب باكارا وهو فرح القلب بنجاح مسعاه، وفي اليوم نفسه دخل روكامبول إلى أندريا يحمل جريدة وسأله: أتريد أن أقرأ فصلا من هذه الجريدة؟
فهز أندريا رأسه إشارة إلى الرضى، وقرأ روكامبول ما يأتي بعنوان جريمة هائلة:
حدثت جريمة هائلة منذ يومين في غابة سنارت، وذلك أنهم وجدوا في الطريق العام جثة منطرحة على بطنها، وهي جثة رجل ظهر من ملابسه أنه قوزاقي، وقد حسبوا في البدء أن الموت لحادث أو مرض، غير أنه تحقق بعد ذاك أن الرجل كان مطعونا بخنجر في قلبه، وأنه مات على الأثر، وقد ثبت أن قاتله من اللصوص؛ لأنه لم يوجد شيء في جيوبه من النقود، فأخذ البوليس في البحث عن الجاني ... إلخ.
ولما فرغ روكامبول من تلاوة هذه القطعة أخذ من جيبه ملفا من الأوراق وخاطب أندريا: اسمع لأقرأ لك هذه الأوراق التي تثبت نسب الدوق دي مايلي وقرابته من الدوق سالاندريرا قبل أن أحرقها.
وبعد أن أتم قراءتها قبض أندريا على يده بيسراه، وكتب باليمنى على لوحه الحجري: احفظ هذه الأوراق وإياك أن تحرقها.
فانذهل روكامبول وسأله: وأية فائدة لنا من إبقاء الدلائل على قرابة العائلتين؟
فابتسم أندريا وكتب: إن العاقل يجب أن يتوقع كل شيء، فإن ابنة الدوق مهما كانت تحبك الآن فقد تتغير عليك، بل قد تضطر إلى عدم الزواج بك، وعدا ذاك فإن الدوق مايلي يدفع أكثر من مليون فرنك ثمن هذه الأوراق. - لقد أحسنت، ولكن ماذا أصنع بالأوراق؟ - احفظها. - وإذا فتشوا منزلي وعثروا عليها عندي، ألا تثبت جريمة القتل علي؟ - إنك قد نسيت أنك تدعى الآن المركيز دي شمري لا روكامبول، وأنك بعيد عن الشبهات.
فاقتنع روكامبول ووضع الأوراق بجيبه، ثم خرج من عند أندريا كي يخبئ الأوراق بمحل أمين في منزله، ولكنه قال في نفسه: إني قد أموت فجأة أو أقتل في حادث، ولا أحب أن يهان اسمي بعد الموت، وخير لي أن أخبئها في منزلي السري، فإني معروف فيه باسم آخر. فعزم على تخبئتها في المنزل السري.
وفي المساء عاد روكامبول إلى منزله، فوجد فيه رسالة من ابنة الدوق تخبره فيها أنها وصلت في الصباح مع أبيها وأمها إلى باريس، ودعته إلى موافاتها في الحديقة في الموعد المعين، فلما انتصف الليل ذهب إلى لقائها فوجدها تنتظره على مقعد خشبي تظلله شجرة كبيرة، فأسرع إليها روكامبول وأخذ يدها فقبلها قبلة حارة مزج فيها الحب بالاحترام، وجعل الاثنان ينظر كل منهما إلى الآخر، وهو لا يعرف كيف يفتح الكلام، إلى أن تظاهر روكامبول بأنه تغلب على تأثره من هذا اللقاء فقال: هذه أول ساعة منذ شهر شعرت أن لي قلبا يعرف لذة الحياة، فإني لم أكن عاشقا إلا بالتذكار.
فضغطت ابنة الدوق على يده، بينما تابع كلامه: إني بعد سفرك كنت أعد الأيام، ثم لما علمت بعزمك على الرجوع صرت أعد الساعات، ثم لما وردني كتابك اليوم أصبحت الدقائق عندي أعواما، فما أتعب الحب وما أهناه! - مهما كان من جزعك فأنت لم تبلغ به بعض ما كان؛ وذاك لأنه كانت تردك رسائلي في كل بريد فتعلم كل أخباري، أما أنا فلم يردني شيء منك، وكنت في أشد حالة من الجزع لانقطاع أخبارك، حتى كنت أتمادى في ظنوني عندما كنت أناجيك في خلواتي، وأحسب أنك قد نسيت عهدي.
فقال روكامبول بلهجة العاتب: أهكذا تسيئين ظنك بمن يموت من أجلك وهو باسم الثغر؟
وجرت بين العاشقين معاتبات حلوة، إلى أن ختما على هذا الحديث بقبلات الغرام، ثم تنهدت الفتاة وقالت: إني أتيت إلى باريس وأنا أتقلب بين الخوف والرجاء، وهما رجاء لقياك والخوف من ذلك الخطر الجديد الذي يتهددني.
فأجاب روكامبول بلهجة المتحمس: أي خطر تخافين وأنا بقربك؟ - إنك أنقذتني من مخالب الدون جوزيف، ولكنك لا تستطيع إنقاذي من إرادة أبي، فإنه بعد أن سمح لي أن أختار الزوج الذي تميل إليه روحي كما كتبت لك، رجع عن عهده، وهو الآن يرغب إلي أن أقترن بالدوق دي مايلي؛ لأنه شديد التمسك بالألقاب، والحرص على الاتصال بالأسرات القديمة.
فتنهد روكامبول وأجاب: لقد فهمت أيتها الحبيبة، فإنه لا ينظر إلي بالعين التي ينظر بها إلى الدوق دي مايلي، فما أنا دوق، وبيني وبينه تفاوت عظيم في مراتب الثروة. - إني أهواك وكفاني بقلبك النقي ونفسك الطاهرة ثروة لا تنضب ومجدا لا يبارى.
فأجاب روكامبول، وقد رأى أن الوقت قد أزف للتظاهر بالكرم والمروءة: أصغي إلي يا سيدتي وافحصي في أعماق قلبك، فلعلك لا تجدين فيه سوى حب ولده حب الاعتراف بالجميل.
فأنكرت الفتاة قوله وقالت: أتجسر على هذا الظن؟ - أجل، فقد تكونين حسبت أنك مقيدة بحبي لأني أنقذتك من رجل تكرهينه. لا تنظري إلي هذه النظرات أيتها الحبيبة، وكوني حكيمة عاقلة، فإذا كان أبوك يريد أن يزوجك بهذا الدوق النبيل، فلا تخالفيه.
فذعرت الفتاة من كلامه وقالت: ما هذه القسوة؟ ألا تعلم أني أهواك؟ - اجتهدي أن تنسيني، أيتها الحبيبة، كما أني سأجتهد لإكراه قلبي على نسيانك.
فأخذت الفتاة يده على يدها وقالت: إني أهواك هوى لا ينسى، فاحفظ عهدي كما أنا حافظة عهدك. ألا تعلم أني أقسمت يمينا على هواك ما حييت، وأني لا أتزوج سواك.
ثم فاضت عيناها بالدموع، فركع روكامبول أمامها وأقسم لها مثل يمينها، فجدد العاشقان العهود، وأقسما على أن يهربا إلى أقصى البلاد إذا لم يكن بد لهما من الافتراق.
وبعد ساعة خرج روكامبول وسار وهو مطرق الرأس يفكر بهذه السعادة الجديدة، ولا ينظر إلى شيء مما حوله حتى بلغ إلى ضفة نهر السين وهو سائر إلى منزله.
وكانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فانتبه لغناء بعض النوتية في قارب ، ثم نظر أمامه فرأى امرأة عجوزا تسير وهي تحمل مصباحا، فأخرج سيكارة من جيبه ودنا من تلك العجوز وسألها أن يولع سيكارة من مصباحها، فلما سمعت العجوز صوته ورأت عينيه صاحت صيحة فرح قائلة: ولدي روكامبول! كيف عدت؟ ومن أين أتيت؟
فذعر روكامبول وعرف أنها مدام فيبار، ثم أيقن أنها عرفته من صوته ومن عينيه، فلم يجد سبيلا للإنكار ولفق لها حكاية طويلة عن حاله، ثم سألها عن حالها فأخبرته أنها لا تملك قوت ليلة، وأنها تشتغل مع فانتير، ولكنهما لم يرزقا شيئا منذ أمد بعيد لشدة تيقظ الشرطة.
فأجفل روكامبول من ذكر علائقها مع فانتير، لا سيما وقد عرفته بهيئة المركيز، فخاطبها: لا بأس عليك يا أماه، فسأنقذك مما أنت فيه من العسر!
ثم أخرج من جيبه دينارين وقال: خذي الآن هذه النقود، وسأزورك غدا فأنظر في أمرك.
وبينما كانت مدام فيبار تأخذ الدينارين مبتهجة بهما وتضعهما في جيبها، قبض روكامبول على عنقها وضغط عليه ضغطا شديدا، فصاحت صيحة اختناق ثم سكتت فحسب أنه قضى عليها، وكان قريبا من ضفة النهر فحملها بين يديه وألقاها فيه، ثم أسرع الخطى إلى أن بلغ إلى شارع فركب مركبة وانطلقت به مسرعة إلى المنزل.
30
في اليوم التالي لاجتماع روكامبول بابنة الدوق، دخل زامبا على سيده الدوق دي مايلي ولفق له حديثا خلاصته أن ابنة الدوق سالاندريرا كانت تكره الدون جوزيف كرها عظيما، وأنها كانت إذا ذكر لها الدوق دي مايلي يعبق وجهها إشارة إلى أنها تهواه، وقد أنهى هذه القصة الملفقة بقوله: إن الدوق قد وصل إلى باريس مع امرأته وابنته منذ أمس.
فسر الدوق سرورا عظيما وقام من مكتبه فكتب إلى الدوق سالاندريرا الكتاب الآتي:
سيدي الدوق
إني أكتب إليك هذا الكتاب وفي يقيني أن الكونتس أرتوف قد كتبت إليك عن القربى التي تصل بيني وبينك، وهو ما أرجو بعده أن تسمح لي بزيارتك لأوقفك على حقيقة هذا النسب الجديد.
الدوق دي مايلي
ثم أعطى هذا الكتاب لزامبا وقال له: أسرع به إلى الدوق، وائتني بالجواب.
فأخذه زامبا وانطلق به مسرعا إلى روكامبول في منزله السري، فاطلع عليه روكامبول وقال له: يجب أن تجري مع ابنة الدوق على ما علمتك، ثم يجب أن تحرق ذاك الدفتر الذي أعطته باكارا للدوق دي مايلي، فإنك تعلم أين خبأه سيدك. - نعم، فإنه وضعه في صندوق خشبي صغير، يضعه عادة فوق طاولة الكتابة. - إذن، فاذهب الآن إلى الدوق الإسباني بجوابه، وارجع إلي لأخبرك ما يجب أن تصنع، ولا تنس ابنة الدوق.
فذهب زامبا تاركا روكامبول ينتظر عودته إلى منزل الدوق الإسباني، فطلب إليه خادم الغادة الإسبانية أن يستأذن له مولاته بمقابلتها، ففعل وأذنت له، فدخل ورأى عندها وصيفتها، ونظر إليها نظرة فهمتها ابنة الدوق فصرفت الوصيفة، وعندها وقف زامبا أمامها موقف الخشوع والاحترام وقال: أتأذنين لمجرم أن يسألك العفو والرحمة؟
ثم ركع أمامها فقالت مندهشة: أي ذنب ارتكبته؟ - إني خنتك يا سيدتي. - كيف تستطيع خيانتي وما أنت بخدمتي؟ - ذاك أني كنت خادما للدون جوزيف وقد جعلني رقيبا عليك، لا تأنفي من النظر إلي يا سيدتي فإن الخيانة عظيمة، ولكني كنت مخلصا لمولاي وقد وجب له علي الخضوع. - أراقبتني؟ - أجل وإذا سمحت لي سيدتي أخبرتها كيف كان ذلك. - تكلم. - إن الدون جوزيف كان يعلم أنك لا تحبينه، وأنك لم ترضي به خطيبا إلا امتثالا لإرادة أبيك، ثم إنه كان يعلم أو كان يظن بأنك تهوين سواه فعهد إلي أن أراقب الطريق في جوار المنزل؛ لأنه كان يعتقد أنك قد تكونين تهوين الدوق دي مايلي.
فظهرت على وجه الفتاة علائم الاشمئزاز، غير أن زامبا لم يكترث لذاك وأتم كلامه قائلا: بينما كنت ليلة أراقب حسب عادتي، رأيت رجلا دخل من باب الحديقة وقد قاده خادمك إلى داخلها.
فغضبت وقالت: اسكت أيها الشقي، كفى! - ألتمس من سيدتي أن تسمع حديثي إلى نهايته، فقد تصفح عني متى علمت كل شيء. وإني رأيت هذا الرجل فأقام ساعة وخرج منها يسبقه خادمك كما دخل.
فاصفر وجه الفتاة وقالت: أعرفت الرجل؟ - كلا ، ولكنه لم يكن الدوق دي مايلي.
ولما رأى زامبا أنها تنهدت تنهد الفرج تابع: فأخبرت الدون جوزيف في اليوم التالي بما شاهدت فقال: ما دام ذاك الرجل هو غير الدوق الذي أكرهه كرها لا يوصف فلا أخاف مزاحما، غير أني آمرك أن تراقبه وتعرفه، غير أن الدون جوزيف قتل في اليوم الثاني ولكن ...
ثم توقف عن الكلام فقالت: أتم حديثك. - ولكني عرفت الرجل الذي قتل سيدي وسأنتقم منه شر انتقام.
فاصفر وجه الفتاة وخشيت أن يكون واقفا على حقيقة السر، فقالت: من هو القاتل؟ - هو الدوق دي مايلي يا سيدتي.
فكادت الفتاة تقول له: كلا ليس هو القاتل!
ولكنها خشيت عاقبة هذا الإنكار، وأن يعلم هذا الخادم أنها واقفة على سر القتل، فأطرقت برأسها إلى الأرض وسكتت، فقال زامبا: إني حين أيقنت أن الدوق قتل سيدي أقسمت أن أنتقم منه؛ ولذا ترينني جاثيا على ركبتي أمامك.
فذهلت وقالت: إنك لم تخدعني في شيء أيها الرجل، فإنك خدمت سيدك، ولا أعلم عن أي خطأ تريد مني أن أصفح عنك. - سيدتي، إني تجاسرت على تزوير كتاب توصية لي إلى الدوق دي مايلى، كي أتمكن من الدخول في خدمته. - أقبل أن يستخدمك؟ - أجل، وأنا الآن خادم غرفته.
فاشمأزت وحاولت أن تطرده، ولكنها فكرت أن ذاك الرجل مضطلع على بعض سرها، وأنه رأى رجلا يدخل إليها من الحديقه، فسكتت هنيهة دون أن تجيبه بشيء، ثم قالت: حسنا، إني لا أنكر ذاك الكتاب، إنما قل لي ماذا تريد أن تصنع بالدوق؟ - أريد أن أنتقم منه وأمنعه عن القران بك.
فوجف فؤادها وقالت: ألعله لا يزال يفتكر بي؟ - بل إنه لا يشغله شاغل عنك، ولا يحلم إلا بقرانك، وإذا أذنت لي يا سيدتي أن أتمادى بالكلام أظهرت لك من دناءة هذا الرجل ما ينفر منه كل طبع شريف. - قل. - إن الكونتس أرتوف وذاك الدوق قد اتفقا من ثمانية أيام على طريقة تسهل للدوق أسباب الزواج بك، وذلك قبل نكبة الكونتس الأخيرة. - أيه نكبة تعني؟ - الحق أنت لا تعلمين شيئا لأنك كنت مسافرة، وحكاية هذه النكبة أن زوجها علم بأنها تخونه مع شاب يدعى رولاند دي كايلت، فاتفقا على المبارزة، واشتهرت الفضيحة في جميع باريس، غير أن المبارزة لم تحدث لأن الكونت أرتوف أصيب بالجنون في ساحة القتال.
فأجفلت الفتاة لأنها كانت تعتقد أن باكارا مثال الصلاح، وقالت: ما ذاك الأمر الهائل؟ - أصغي إلي يا سيدتي، فستعلمين من أحوالها ما هو أشد منه، فإن هذه المرأة كانت مرتبطة أشد الارتباط مع الدوق دي مايلي كما يظهر، وقد أتت إلى منزله من ثمانية أيام، وكنت أنا في الغرفة المجاورة للغرفة التي كانت فيها مع الدوق بحيث سمعت بعض حديثها، فإنها حين دخلت جلست قربه دون كلفة، وقالت له: لقد خطر لي اليوم خاطر عجيب، وهو أن أجعلك دوقا إسبانيا. - لقد حاولت هذا الأمر مدة فلم تنجحي. - ذاك لأن الدون جوزيف كان في قيد الحياة، أما وقد زال هذا الحائل الآن، فقد خطر لي خاطر غريب، وهو أن أجعلك من أنسباء الدون سالاندريرا، وذلك أني ألفق حكاية سرية عائلية، بلسان عمك المقيم في روسيا.
ثم اقتربت منه وجعلت تكلمه بصوت منخفض، فلم أعد أسمع شيئا.
فارتاعت ابنة الدوق لما سمعته من هذه الأسرار ولم تجب بشيء، فقال لها زامبا: إذا كنت تثقين بي يا سيدتي، فإني أفضح هذا الدوق أعظم فضيحة.
وعند ذلك دخلت الوصيفة وقالت لزامبا: إن سيدي الدوق يأذن لزامبا بالذهاب إليه.
فانحنى زامبا أمام ابنة الدوق وقال لها: سترينني مرة أخرى.
وذهب بكتاب مولاه إلى الدوق، فأخذ الدوق الكتاب منه وقرأه مرارا وهو يظهر العجب والاستغراب؛ لأنه لم يفهم شيئا، وبعد ذلك أرسل إليه الكتاب الآتي:
سيدي الدوق
لم يصلني كتاب من الكونتس أرتوف كما تقول، وقد يكون كتابها قد أرسل إلى إسبانيا، ثم يعود إلي منها إلى باريس، وفي كل حال فإني لا أعلم أي قرابة تعني، وأنا أنتظرك في منزلي للوقوف منك على هذه التفاصيل.
الدوق ساندريرا
فأخذ زامبا هذا الكتاب وانطلق به إلى روكامبول الذي كان ينتظره، فلما قرأه قال له: هل كان الدوق دي مايلي لابسا ثيابه حينما تركته؟ - كلا، بل كان بلباس النوم. - أين يضع مفاتيحه عادة؟ - على مائدة الكتابة. - اذهب إذن وأعطه هذا الكتاب واغتنم فرصة انشغاله بتلاوته ولبس ثيابه؛ فاسرق المفاتيح، حتى إذا شاء أن يأخذ الدفتر لا يجد مفتاح الصندوق الموجود فيه، فيذهب إلى الدوق ويعده بإطلاعه عليه, وبعد ذهابه تحرق الدفتر والصندوق, ثم تضع النار في جميع أثاث غرفته وتخرج فتصبح النار؛ كي لا يشك بك ويعلم أن احتراق الدفتر كان قضاء وقدرا. - فهمت كل شيء وسأمتثل لكل ما تريد، ثم تركه وانصرف مسرعا بالرسالة إلى مولاه.
وكان الدوق دي مايلي ينتظر زامبا بفارغ الصبر، فلما عاد إليه بكتاب الدوق اضطرب وقال: أسرع بإعداد ملابسي وقل للسائق يعد المركبة، ثم دخل إلى غرفته فلبس ثيابه بسرعة، فسرق زامبا المفاتيح في خلال ذلك، غير أن الدوق لم يفطن للمفاتيح والدفتر، بل ركب مركبته وأمر السائق أن يسرع به إلى منزل الدوق الإسباني، فخلا الجو لزامبا وأخذ صندوق مولاه فسرق ما فيه من الأوراق المالية وأخذ الدفتر فألقاه في المستوقد، وأضرم النار في الصندوق وفي ستائر الغرفة وأثاثها، ثم أقفل باب الغرفة وخرج إلى حيث كان يقيم الخدم، فجعل يحادثهم مطمئنا نحو ربع ساعة إلى أن تصاعد الدخان وعلموا باحتراق غرفة الدوق، فأسرع بعضهم إلى إطفائها، وهرع آخرون لإخبار رجال المطافئ وفي مقدمتهم زامبا.
أما الدوق دي مايلي فإنه لما وصل إلى منزل الدوق الإسباني استقبله خير استقبال، فأخبره الدوق دي مايلي بجميع ما عرفناه من نسبه الجديد، فأظهر الدوق الإسباني دهشا عجيبا وسر سرورا عظيما للنبأ، غير أنه بقي مشككا لعدم وجود أثر له في أوراق فانتير، فقال: إني أخشى أيها الدوق أن تكون منخدعا، وحبذا لو أطلعتني على كتاب قريبك الروسي. - إن ذلك سهل ميسور فإن الكتاب في منزلي، ثم أستأذنه وخرج لإحضار الدفتر، فلم يطل غيابه وعاد مصفر الوجه وعلائم الاضطراب الشديد بادية عليه، فذعر الشيخ لهيئته وقال: ما أصابك؟ - ذهبت إلى منزلي لإحضار الدفتر فرأيت النار ملتهبة فيه، ورجال المضخات يشتغلون بإطفائه، فلم يحترق منه غير تلك الغرفة التي وضعت فيها ذلك الدفتر.
وكان الصدق باديا في لهجته، فطيب الدوق خاطره وقال: لا بأس من احتراق الدفتر، فإن عمك الروسي لا يزال على قيد الحياة، وهو سيرسل إليك سواه. - بل إني أنتظر منه ما هو خير من ذلك؛ أي الأوراق المثبتة هذا النسب، ويسوءني أن الرسول قد أبطأ، فقد كان ينبغي أن يكون هنا منذ يومين. - لا بد له أن يحضر، فأقام عنده ساعة وكانت الفتاة حاضرة اجتماعهما، فلما انصرف ودعه الدوق الإسباني إلى الخارج وقال له: متى وردت هذه الأوراق أسرع وأخبرني بها.
ولما خلا الدوق بابنته أخبرها بحديث الدوق وقال لها: إذا ثبتت هذه الأوراق كنت من أسعد البشر، وكنت امرأة ذاك الدوق.
فظهر النفور منها وأوشكت أن تبوح بما حدثها به زامبا، غير أنه دخلت إحدى الزائرات فكفتها مئونه الإباحة؛ لأنها أخبرت الدوق الإسباني وامرأته بحكاية باكارا وجنون الكونت أرتوف.
فأجفل الدوق للحكاية الغريبة وبدأ الظن بالدوق دي مايلي، وحسب لعلاقته مع باكارا ألف حساب.
أما ابنة الدوق فإنها دعت إليها روكامبول وأخبرته بجميع ما جرى، وحكت له حكاية زامبا، فطيب خاطرها وقال: إذا كان ما قاله زامبا صحيحا، فلا بد لي من إظهار خداع ذاك الدوق.
31
ولنعد الآن إلى فانتير الذي أرسله روكامبول لسرقة كتاب باكارا إلى الدوق من البريد الإسباني، فإنه بعد أن تمكن من سرقة ذاك الكتاب وعاد به إلى باريس، جعل يفكر بأمره ويقول في نفسه: إن روكامبول لا يدفع عشرة آلاف فرنك في سبيل الحصول على ذاك الكتاب إلا إذا كان يتضمن سرا عظيما يعود عليه بفائدة تساوي أضعاف هذه القيمة.
فخطر له أن يفتحه وهو في المحطة، ولكنه ذكر أندريا، فوجف فؤاده من الخوف، وجعل يتردد في أمر فتحه وهو سائر إلى منزله حتى بلغ إليه ودخل إلى غرفته، فدهش لأنه رأى امرأة ممددة في سريره .
فلما شعرت المرأة بوقع أقدامه انتبهت جالسة في السرير، فصاح فانتير مندهشا: مدام فيبار، كيف أنت نائمة في سريري؟ ومن أين أتيت؟ - إني آتية من نهر السين، وقد قمت من بين الأموات؛ إن روكامبول ذاك الشقي الخائن الذي ربيته وأحسنت إليه إحسان الأمهات قد ألقاني في النهر، وهو يحسب أنه أماتني خنقا، فلما سقطت فيه أسرع إلي بحارة كانوا يصيدون في قارب فأنقذوني، فكتمت أمر روكامبول وجئت أختبئ في دارك كي لا يشك في موتي؛ لأني أريد أن أضربه الضربة القاضية. - أنت تقولين ما لا تفعلين، فإنك لا تلبثين أن تريه حتى يعاودك الحنو وتنسي جميع إساءته إليك. - كلا، فلقد ذهب كل حنو من قلبي بعد ما لقيته من خيانته، لا سيما وأنه حسن الحال، فقد رأيته متختما بالماس، وعليه دلائل الثروة الواسعة، لا شك أنه مقدم على أمر عظيم، وقد خشي مني حين رآني عرفته. - أحادثته؟ - بلى، فلقد ذكر لي أنه عاد بثروة واسعة من لوندرا، وأن أندريا قد مات.
فقاطعها فانتير، وقد بدت على وجهه ملامح السرور وسألها: أقال لك إن أندريا مات؟ - نعم.
فأطرق فانتير هنيهة ثم قال: لا بأس، فسنجد طريقة للانتقام منه، والآن فاطمئني لأن لدينا ما ننفق مدة طويلة، وخذي الآن فاشتري لنا ما نأكله فإني أكاد أموت جوعا.
ولما خلا المكان بفانتير قال في نفسه: إن أندريا قد مات وروكامبول لا أخافه، فلأفتح هذا الكتاب فقد يكون لي منه خير جزيل.
ثم فتح الكتاب وقرأ فيه جميع ما كتبته باكارا إلى الدوق الإسباني، ففكر في نفسه: يظهر أن باكارا تريد تزويج الدوق دي مايلي بابنة الدوق سالاندريرا، وأن روكامبول يريد منع هذا الزواج بدليل اهتمامه بسرقة الكتاب، وأنه لا شك باذل جهده بالحصول على الأوراق التي تثبت حقيقة نسب الدوق دي مايلي وقرابته من الدوق الإسباني، ولا يبعد أن يكون روكامبول قد تقمص كونتا أو مركيزا، وأنه يريد الزواج بابنة هذا الدوق؛ إذن فإن الحرب ستكون شديدة بين باكارا وروكامبول، أما أنا وقد وقفت على هذا السر فإلى أي الفريقين أنضم؟ لنبدأ بروكامبول، فإني لو ختمت هذا الكتاب وعدت به إليه، فإنه لا يعطيني إلا بقية العشرة آلاف فرنك، هذا إذا لم ينتبه إلى أني فتحت الكتاب، وإذا انتبه فلا يعدم وسيلة يتمكن بها من قتلي بعد أن يعرف أني اطلعت على سره.
وأما باكارا، فإنها قد تكون جاهلة عودة روكامبول، وأنه يحاول الانتقام منها، فإذا انضممت إليها وأطلعتها على السر، فقد أكسب منها ثروة تغنيني عن هذه الأعمال الشائنة.
ولما رأى أن كفة باكارا قد رجحت، وضع الكتاب في جيبه، وعند ذلك عادت مدام فيبار فأكل معها وتركها على أن يعود قريبا، ثم ذهب توا إلى منزل الكونت أرتوف، وسأل بواب المنزل عنه فعلم فانتير منه نكبة باكارا وجنون الكونت، وقنط قنوطا شديدا لذهاب آماله أدراج الرياح وفكر في نفسه: لا بد أن يكون لروكامبول يد في جنون الكونت وحادث باكارا.
ثم قال في نفسه بعد الإمعان الشديد: إنه إذا كانت باكارا مسافرة، فخير لي أن أرى الدوق دي مايلي نفسه وأطلعه على ذاك السر.
ولكنه رجع عن هذا العزم وقال: إني أنفقت العمر وأنا أشتغل لغيري، فلأشتغل الآن لنفسي؛ لأن هذا الدوق قد يعلم مني السر، ثم ينفحني بقليل من النقود لا يسد عوزا ولا يغني من فقر.
وعند ذلك دخل إلى قهوة في الشارع الذي كان فيه، وخطر له أن يبدأ بالكمون أمام منزل الدوق سالاندريرا؛ كي يعلم إذا كان روكامبول يزوره، ثم أخذ جريدة وجعل يقرأ فيها فأصاب نظره إعلانا مفاده أن الدوق دي مايلي يحتاج إلى سائق إنكليزي لمركبته، فصفق بيديه سرورا وقال: هو ذا الصدفة قد بدأت تخدمني، فإني أعرف اللغة الإنكليزية كأبنائها، وقد احترفت هذه المهنة عشرة أعوام، فلأذهب الآن إلى الدوق، وربما قدت يوما مركبة عرسه.
ونهض في الحال وذهب إلى الدوق مايلي، بعد أن تنكر وتقلد الإنكليز، فعرض عليه خدمته وقبله على سبيل التجربة، فنزل فانتير إلى الإصطبل يفحص الجياد، وذهب الدوق في زيارته الخصوصية.
وبعد ذلك دخل زامبا غرفة مولاه وجلس فيها يتأول بما صار إليه أمره، وفيما هو على ذلك إذ دخل عليه أحد خدم المنزل، فقال له: يوجد رجل على الباب يريد أن يراك. - من هو ذاك الرجل؟ - لا أعلم!
ثم وصفه له، فعلم زامبا أنه سيده الحقيقي؛ أي روكامبول، وأمر الغلام أن يدخله في الحال، فجاء به الغلام وانصرف.
فلما خلا روكامبول بزامبا قال له: إني جئتك لأمرين خطيرين عندي؛ أحدهما أن تطرد السائس من الإصطبل، وتعين السائس الجديد الذي سأرسله إليك. - هذا سهل، فما أمرك الآخر؟ - الثاني هو أن تستلفت أنظار الدوق حينما يعود إلى هذا الفصل المنشور بهذه الجريدة.
ثم أعطاه الجريدة، فأخذها زامبا وأجاب: وبعد ذلك؟ - بعد ذلك تنظر ما يكون من أمر الدوق بعد تلاوته هذا الفصل، وتأتي إلي فتخبرني بجميع ما يحدث.
ثم تركه وانصرف، فشيعه زامبا بملء الاحترام إلى الباب الخارجي.
وبعد هنيهة عاد الدوق فلقي زامبا وبيده الجريدة فسأله: ما هذه الجريدة التي بيدك؟
فتظاهر زامبا بالاضطراب وأجاب: قد اشتريتها لك يا سيدي خاصة؛ لأنها تتضمن مقالة عن تفصيل مقتل رجل في غابة سنارت، بين ميلين وباريس. - ولماذا يهمني هذا القتل؟ - ذلك لأني أخشى أن يكون ذاك الرجل المقتول نفس الرسول الذي ينتظره مولاي الدوق من روسيا.
فاضطرب الدوق اضطرابا شديدا، وأخذ الجريدة وجعل يقرأ المقالة بملء الاهتمام.
وكانت خلاصة تلك المقالة أن هذا الرجل قتل بخنجر، وأن جثته عرضت في ليو سانت فلم يعرفها أحد، وأنه يوجد في صدره وعلى يديه وشم، وأنه كان قادما من روسيا، ولكنه لا يوجد في جيوبه من النقود مما يظهر على أن اللصوص قتلوه.
فلما أتم الدوق تلاوتها تأمل برهة ثم قام إلى مائدة الكتابة، فكتب إلى الدوق الإسباني ما يأتي:
لا أعلم كيف أحاطت المصائب بهذه الأوراق التي أنتظر ورودها من أودسا؛ لأني حين عدت إلى منزلي قرأت في جريدة المحاكم أن رجلا قتل في غابة سنارت، وأخشى أن يكون رسولي؛ ولذا فإني مسافر إلى ليو سانت حيث تعرض الجثة الآن، وأرجو في كل حال أن أعثر على هذه الأوراق وأرسلها إليك غدا صباحا؛ لأني مسافر وأعود دون أن أتوقف.
ثم ختم الرسالة وأعطاها لزامبا قائلا: اذهب بهذه الرسالة إلى الدوق.
ثم ركب جوادا من الإصطبل وانطلق يعدو به إلى روكامبول.
أما فانتير فإنه صعد إلى الدوق فرآه على أشد حالة من الاضطراب وبيده جريدة المحاكم، فحفظ اسم الجريدة ووقف ينتظر أمر مولاه، فقال له الدوق: تأهب للسفر في الحال إلى ليو سانت.
فامتثل فانتير وخرج، فأمر السائس أن يعد المركبة، وأسرع إلى بائع جرائد بالقرب من القصر، فاشترى منه تلك الجريدة وقرأ فيها تلك المقالة، فقال في نفسه: إن يد روكامبول منغمسة في هذا الدم المسفوك دون شك، وهو الفصل الثاني من الرواية؛ لأني أنا مثلت الفصل الأول بسرقة الكتاب، وهو مثل الفصل الثاني بسرقة الأوراق.
وبعد هنيهة أقبل الدوق وكانت المركبة قد أعدت، فركب بها وأمر السائق أن يسير، حتى إذا مر بمنزل الكونت أرتوف أوقفه ودعا البواب إليه وسأله: أعرفت الرسول الذي بعثته الكونتس إلى روسيا؟ - أجل، وهو لم يعد إلى الآن. - أتعرفه جيدا؟ - أجل، إني أعرفه منذ عشرة أعوام، وأنا أدخلته في خدمة الكونت. - أرأيت صدره عاريا في مدة عشرتك له؟ - أجل رأيته مرات كثيرة وفيه كثير من الوشوم، وعلى جنبه الأيسر وشم آخر يمثل رجلا عاريا إلى وسطه وهو يحمل مدفعا بيديه.
فاكتفى الدوق بما سمع وأمر فانتير أن يواصل السير، فما زال يسير حتى وصل إلى ليو سانت بعد منتصف الليل، فدخل إلى فندق وسأل صاحبه عن الجريمة التي حدثت وعن المكان الذي عرضت فيه الجثة، فذهب به يدله عليها وذهب فانتير في إثرهما.
فلما رآها الدوق وفحصها رأى ذلك الوشم الذي أخبره به بواب منزل الكونت أرتوف، فأيقن أنه رسوله ووقف وقفة الحائر المضطرب، وهو لا يعلم إذا كان هذا القتل بسبب الأوراق أم أنه كان من قبيل الاتفاق، غير أن فانتير لم يدع له وقتا لإطالة التمعن ، فإنه ما أوشك أن نظر الجرح حتى عرف الخنجر، فدنا من الدوق وقال له بالإنكليزية: لقد عرفت الجرح وعرفت السلاح.
فارتعش الدوق وحاول أن يسأله، غير أن فانتير أوقفه بإشارة وخاطبه بصوت منخفض: لا تقل كلمة أمام هؤلاء الحراس.
ثم خرج الدوق وفانتير، فقال فانتير: لم يعد لنا شغل في المكان فلنعد إلى باريس. فأجفل الدوق من لهجة فانتير؛ إذ كان يكلمه بدون كلفة، ونظر إليه نظرة المستغرب، فقال فانتير: لا يستاء مولاي أني أكلمه بهذه اللهجة، وإذا أذن لي أن أكلمه بحرية وأراد أن ينسى هنيهة أني سائق مركبته، إنه لا يندم عما فعل. - إذن تكلم. - ليس هنا يا سيدي؛ فإن الحديث يطول. فزادت دهشة الدوق ومشى أمامه إلى المركبة.
ركب فانتير بإزائه وسارت بهما المركبة يقودها الدوق، فبدأ فانتير الحديث وتكلم باللغة الفرنسية، قال: لم يمض علي ليلة في خدمتك بعد، ومع ذلك أني أعرف سرك وأول ما أبدأ به هو أنك عاشق لابنة الدوق سالاندريرا.
فقال له الدوق بعظمة: ماذا تقول؟ - ليعلم مولاي أننا نسير في ظلام ليل دامس، فإذا كلمني دون كلفة فلا يجد من يؤاخذه؛ إذ لا يجد من يراه، ولو سمح لي أن أتكلم لشرحت له حقيقة موقفه، وربما فرجت أزمته الحاضرة. - قل ما تشاء. - قلت لك يا سيدي إنك تعشق الغادة الإسبانية. - هذا أكيد. - وإن الكونتس أرتوف التي كانت تدعى من قبل باكارا خطبتها لك فرفض أبوها. - وهذا أكيد أيضا. - ولكن باكارا عرفت بعد ذلك قريبا لك في روسيا، فعرفت منه أنه يوجد قربى بينك وبين الدوق سالاندريرا.
فزاد انذهال الدوق وقال: كيف عرفت جميع هذا؟ - من الكتاب الذي أرسلته باكارا إلى الدوق الإسباني، فوصل إلي قبل أن يصل إليه، وهو لا يزال معي.
فذعر الدوق وقال: كيف هذا؟ ومن أنت أيها الرجل؟ - إني يا سيدي ذاك الرجل الذي سينقذك من خطر عظيم، فعندك أعداء لا تعرفهم جعلوا أقصى مرادهم أن يحولوا دون زواجك بابنة الدوق. - من هم أعدائي؟ - ستعرفهم بعد حين، وأرجو أن تكتفي الآن بأن تعلم بأنهم هم الذين سرقوا كتاب باكارا، وهم الذين قتلوا الرسول القادم من روسيا وسلبوه الأوراق.
فغضب الدوق وقال: أتعرف هؤلاء الأسافل وتشاركهم في سرقة الكتاب، ثم تدخل في خدمتي؟ - إني ما دخلت في خدمتك وما تنكرت بهذا الزي الذي تراني فيه إلا لأفضح أمرهم، إنهم أشداء يجب معهم الحرص الشديد. - وأية غاية لك من فضيحتهم بعد أن كنت في عدادهم؟ - لا غاية لي غير أن أحصل منك على مكافأة تغنيني في مستقبل أيامي عن مثل هذه الأعمال الشائنة، واعلم يا سيدي أنك الآن لا تعلم سوى أن لك أعداء، ولكنك لا تعرف شيئا من أمرهم، ولا تدري كيف تتقيهم، فإذا كنت لا أخلص في خدمتك فإنك لا تتزوج ابنة الدوق، على أنك إذا عملت بما أقوله لك واتبعت مشورتي فلا بد لك من الزواج. - قل ما تريد أن يكون جزاؤك؟ - قبل أن أعين المال أسأل مولاي أن يتعهد لي بإبقائي في خدمته سائقا لمركباته، وأن لا يعلم أحد من الناس بما يدور بيني وبينك، وأن تتبع مشوراتي، وأن لا تسألني أقل سؤال عما أجريه. - إني أتعهد لك بجميع ذلك. - إذن فلنبحث بأمر الجزاء، اعلم يا مولاي أني كهل قد ناهزت الخمسين، وقد فطرت على الكسل بحيث لا أستطيع احتمال تعب الأعمال، فأنا أطلب من مولاي إيرادا سنويا قدرة 26 ألف فرنك. - أي إنك تريد خمسمائة ألف فرنك. - هو ذاك يا سيدي، غير أني لا أقبض منك فرنكا قبل ليلة زفافك، فإذا بلغت مرادك من هذا الزواج دفعت لي هذا المال، وإلا فإني لا أطالبك بشيء. - لك ما تريد على شرط أن ترجع لي الأوراق المسروقة. - سأجدها. - كيف ذلك؟ - ليذكر مولاي ما تعهد به، فإذا كان يريد أن يصل إلى نتيجته المطلوبة فلا يسألني عن شيء. - ليكن ما تريد، ولكني أسألك مسألة واحدة فقط، وهو أيطول الزمن الذي تجد فيه هذه الأوراق؟ - لا أستطيع أن أعين الزمن، غير أنه لا يقل عن أسبوع.
وهنا انقطع الحديث إلى أن بلغت المركبة إلى مكان تظهر منه مياه نهر المارن على أشعة القمر، فقال فانتير: انظر إلى هذا النهر يا سيدي، فإن أحد أعدائك ألقي فيه ضمن كيس منذ خمسة أعوام، ولكنه مزق الكيس بخنجره قبل أن يبلغ إلى العمق، وتمكن من النجاة، ومثل هؤلاء الأعداء الأشداء ينبغي معهم كل حذر، فإني ما أقدمت على مقاومتهم والانضمام إليك إلا وأنا مخاطر بحياتي أشد الأخطار.
32
ولما وصلت مركبة الدوق إلى منزله كان جميع من في القصر نياما، فدخل فانتير إلى الإصطبل بعد أن قال للدوق: احذر من جميع من في منزلك. - أأحذر من زامبا أيضا؟ - منه على الأخص، فإن جميع ما أراه منه يحملني على الريبة به.
فتركه الدوق وصعد إلى غرفته، فرأى على مائدته كتابا عرف أنه من الدوق الإسباني، ففضه للحال وتلا فيه ما يأتي:
سيدي الدوق
اضطررت إلى السفر سفرا فجائيا مع عائلتي بضعة أيام، وإنه قد عرض لنا من الحوادث التي لا يسعني ذكرها ما يدعوني إلى الرجوع عن ذلك الاتحاد الذي نوينا على إجرائه، أرجوك لا تلح علي بعد في هذا الشأن وأن تقبل احترامي.
الدوق سالاندريرا
وقد دعا الدوق الإسباني إلى قطع علائقة مع الدوق مايلي ما رآه من كذبه في أنبائه، فقد أخبره أن باكارا أرسلت إليه كتابا فلم يصل الكتاب، وأخبره أن عمه أرسل له دفترا حكى له فيه قصة اتصاله بعائلة سالاندريرا، فلما طلب إليه الاطلاع على هذا الدفتر قال له إنه احترق، وأخبره أخيرا أنه أرسل رسولا إلى روسيا ليحضر له الأوراق التي تثبت نسبه، ثم قال إن الرسول قتل، فدعت جميع هذه الأسباب مع ما عرفه أخيرا من خيانة باكارا، وأنها كانت في سابق عهدها من بنات الهوى، إلى أن يرسل الدوق الإسباني هذا الكتاب إلى الدوق مايلي، أما ما أشار إليه في كتابه من أمر السفر، وهو أنه عازم على شراء أرض في ضواحي باريس من فابيان صهر روكامبول فهو حقيقي.
فلما اطلع الدوق مايلي على هذا الكتاب، ورأى أن قطع العلاقة ظاهر فيه لا يحتمل الشك؛ سقط الكتاب من يده لفرط تأثره، ولكنه ما لبث أن عاد إليه الأمل بفانتير، فأخذ الكتاب ونزل إلى حيث كان فانتير، فأشار إليه أن يدنو منه.
ثم لما خرجا من الإصطبل ناوله الكتاب دون أن ينبس بكلمة، فأخذه فانتير وقرأه، ثم جعل يتأمل الغلاف والختم بإمعان وقال: لا بأس، فلا بد أن تحين ساعة تعرف فيها الحقيقة، ولكني أرجوك أن تخبرني عن الذي أحضر لك هذا الكتاب. - زامبا دون شك. - إذن اعلم أن هذا الرجل يخونك، إن الكتاب قد فتح قبل أن يصل إليك، وهي حقيقة لا تخفى على من كان مثلي من أرباب المهنة، ولكنها تخفى عليك.
فأجفل الدوق وقال: أترى لأجل من يخونني؟ - لا أعلم، ولكني أرجح أنه يخدم أعداءك الذين سرقوا كتاب باكارا وقتلوا الرسول؛ لأن أعداءك لا يمكن أن يعلموا بكتاب باكارا، وبأنك تنتظر الرسول من روسيا إلا من رجالك. - لقد أصبت. ثم خطر له في الحال إحراق غرفته وإحراق الدفتر فيها، فأيقن أن زامبا يخونه وقال: لا بد لي من طرد هذا الخائن وعقابه. - كلا، بل يجب أن تبقيه. - كيف أبقي هذا الخائن في منزلي بعد ثبوت خيانته؟ - نعم، ولو عشت مثلي بين أولئك الأشرار لعلمت الفائدة التي يمكن نيلها من عدو متستر وهو يحسب أنك واثق به. - إذن افعل ما تريد. - بل أنت افعل ما أقوله لك، اصعد الآن إلى غرفتك واجلس في سريرك، وعندما يدخل زامبا أظهر أمامه أنك بأشد حالة من اليأس، وأنا أتكفل بالباقي. - ألا أكتب للدوق الإسباني؟ - كلا. - لكنه يسافر. - ليسافر.
فاضطرب الدوق وقال: إني لا أفهم شيئا من هذه الألغاز. - لا ينبغي أن تفهم، فإني قد وضعت خطتي، وليعلم مولاي أن نفعي لا يكون إلا بزواجه.
فرجعت ثقته بفانتير وأجاب: لقد أصبت، افعل ما تشاء.
ثم تركه وانصرف فانتير لينام. •••
وفي الساعة نفسها التي أحضر فيها زامبا كتاب الدوق الإسباني إلى الدوق دي مايلي المتضمن لقطع العلائق، كان روكامبول جالسا أمام أستاذه أندريا يخبره بشأن الكتاب وبعزم الدوق الإسباني على السفر، فقال له أندريا بلوحه الحجري: لقد أحبطت مساعي الدوق، ولكنك لم تخبرني شيئا عن فانتير، ألم يعد بعد؟ - كلا، فإن غيابه يشغل بالي.
ففكر أندريا هنيهة ثم تابع: إن هذا الرجل قد خاننا كما خاننا من قبل، ولكنه لا يستطيع أن يستفيد بشيء من الكتاب؛ لأن باكارا سافرت، على أنني أخشى أن يتصل إلى غيرها، وفي كل حال فإنه يجب أن نفرغ من أمر الدوق دي مايلي.
فارتعش روكامبول وقال له: ألا تقول لي شيئا عن خطتك التي أنفذها كالآلة الصماء؟ وماذا تبغي من إدخالي سائسا في إصطبل الدوق دي مايلي؟ - إني لا أقول لك شيئا؛ لأنك لا تزال على غرور الصبى ولم تمرنك التجارب بعد، اكتف بتنفيذ أوامري. - ليكن ما تريد، فماذا أفعل غدا؟ - تتناول أولا الطعام مع أختك وصهرك. - وبعد ذلك؟ - تذهب وتتنزه. - وبعد ذلك؟ - تتوجه إلى النادي وتسلي نفسك بالمقامرة. - أراك تهزأ بي! - هو ما تقول، ولكن بعد أن تعود من النادي وقبل أن تذهب لوداع ابنة الدوق، تعال إلي لأخبرك لماذا يحتاج الدوق دي مايلي إلى سائس مثلك في إصطبله.
فانصرف روكامبول ففعل كما أوصاه، وفي اليوم التالي عاد إليه وسأله: إني فعلت جميع ما أوصيتني به، فهل تقول لي الآن لماذا يحتاج الدوق إلى سائس؟ - أجل، فهل سمعت بهذا المرض الذي يسمونه «الجمرة الفارسية»؟ - إنه مرض قتال يصيب الخيل والأبقار فيفتك بها. - وهو إذا أصاب الناس قتلهم أيضا.
33
لقد تركنا الدوق جاعلا كل اعتماده على فانتير في أزمته التي ضاق صبره عن احتمالها، أما فانتير فإنه لما أصبح وحده جعل ينظر في موقفه ويقول: إن اثنين يتنازعان على هذه الغادة الإسبانية، وهما الدوق دي مايلي وروكامبول، ولكني لا أدري إذا كان روكامبول يشتغل لغيره أو لنفسه، فقد تعود هذا الجسور أن يتقمص كل يوم في نفوس الكونتية والبارونات، وهنا السر، إذا كان يشتغل لنفسه فأي مركيز هو الآن؟ وماذا يدعى؟ وكيف لي أن أعلم ذلك ؟ وإذا كان يشتغل لغيره فإني أبحث منذ يومين ولا أهتدي لشيء، ولا يعلمون أن أحدا طلب ابنة الدوق غير الدوق دي مايلي، على أن مدام فيبار أخبرتني أنها رأت روكامبول قادما من الطريق المؤدية إلى منزل الدوق الإسباني، وأنه كان لابسا أفخر لباس، إذن لا بد أن يكون قادما من ذلك المنزل حين رأته، وقد يتفق أن ابنة الدوق أحبته، وأنه يكيد هذه المكائد من أجل زواجها، وعلى ذلك لا بأس من أن أكمن له في تلك الطريق ليلتين أو ثلاثا لعلي أهتدي إلى حل ذاك اللغز.
ثم قام لساعته فتنكر وذهب إلى الشارع الذي كان فيه منزل الدوق، فجعل يسير فيه ذهابا وإيابا وهو يراقب الباب، ولبث في مكمنه إلى منتصف الليل، فرأى رجلا قدم إلى باب الحديقة ففتحه بمفتاح خاص ودخل وأقفله من ورائه، فقال فانتير: لا أعلم إذا كان هذا الرجل روكامبول أو سواه، ولكنه عاشق ابنة الدوق دون شك، وسنعلم من هو هذا المزاحم.
وبعد ساعة خرج الرجل نفسه كما دخل من باب الحديقة، فرأى فانتير أن رجلا شيعه إلى الباب فمد الرجل - وكان روكامبول - يده إلى جيبه وأخرج منها نقودا فأعطاها للرجل الذي شيعه، فسمع فانتير أن الرجل شكره ودعاه بمركيز، ثم أقفل الباب ومضى روكامبول في شأنه ذاهبا إلى منزله السري، فدخل إليه وأوقد شمعة، فقال فانتير في نفسه: لقد عرفت الآن أين تسكن أيها المركيز وسنرى في أمرك، ثم صبر هنيهة إلى أن أطفئ النور، فحسب أنه دخل إلى سريره لينام، فذهب في شأنه، أما روكامبول فإنه أطفأ الشمعة وخرج من باب آخر يؤدي إلى شارع آخر غير الشارع الذي كان واقفا فيه فانتير.
وفي اليوم التالي ذهب فانتير متنكرا بملابس الخدم إلى منزل روكامبول السري، وقال للبواب: أين حضرة المركيز إني أحمل كتابا له؟ - أي مركيز تعني؟ فليس في هذا المنزل من يلقب هكذا. - أريد به ذلك الشاب الذي يسكن في الطابق الأول. - إنه يدعى المسيو فريدريك. - لا بأس، فهو الذي أعنيه ألعله في منزله؟ - كلا، لقد سافر منذ ساعة، وهو لا يعود إلا بعد ثلاثة أيام.
وكان فانتير يكلم البواب ويفحص المنزل، فرأى أن له منفذين، فترك البواب وهو يقول في نفسه: لا شك أني أبله، لقد حسبت أمس أنه نام حين أطفأ الشمعة، ولكنه خرج دون شك من الباب الآخر، فإن من يطمع بزواج ابنة الدوق سالاندريرا لا يسكن مثل هذا البيت الحقير، ولا يكون اسمه المسيو فريدريك. •••
ولنعد إلى روكامبول، فإنه بعد أن أمر زامبا أن يطرد السائس من إصطبل الدوق مايلي، وبعد أن امتثل زامبا كما أمر، قدم روكامبول بزي سائس فأدخله زامبا في الخدمة بدلا من السائس المعزول، فلما تقرر قبوله استأذن السائق وهو فانتير كي يذهب لإحضار ملابسه، فأذن له ولم يعرف أحدهما الآخر لمبالغتهما في التنكر.
أما روكامبول، فإنه ذهب إلى منزله فغير زيه وانطلق إلى أندريا فأخبره بما فعل، وسأله تعليماته فقال له: ينبغي عليك الآن أن تذهب إلى غرفتك فتأخذ دبوسا غليظا وتضعه في علبة، ثم تذهب في الصباح فتتنزه في جهة مونتفوكون.
فظن روكامبول أنه يهزأ به، فقطب جبينه وقال: ما علاقة الدبوس وتنزهي في هذه الجهة بدخولي في صفة سائس في إصطبل الدوق؟ - سوف تعلم، فإنك تذهب إلى تلك الجهة التي يلقون فيها الخيول المصابة بالجمرة الفارسية، ولا بد أن تلقى فيها جوادا أصيب حديثا بهذا الداء، فإذا عثرت به خذ الدبوس من العلبة وشكه ببطن الجواد، ثم أرجعه إلى العلبة واقفلها، واحذر أن يكون في يدك أقل خدش حين تمس هذا الدبوس المغموس بدم الجواد.
فبرقت عينا روكامبول وقال: أظن أني علمت مرادك. - كلا إنك لا تعلم شيئا فاسمع؛ إنك بعد أن تغمس الدبوس بدم الجواد المريض تذهب به إلى منزل الدوق دي مايلي. - أأشك به الدوق؟
فهز أندريا رأسه هازئا وأجاب: كلا، بل تشك به بطن الجواد الذي يفضله الدوق على سائر جياده. - لماذا تريد أن يسري ذاك المرض إلى جواده دونه؟
فغضب أندريا وقال له بلوحه الحجري: قلت لك مرارا لا تسألني عن شيء، بل اكتف بتنفيذ أوامري.
فأجاب روكامبول: إني لا أصفح عنك لاحتقارك لي، إلا إذا تزوجت ابنة الدوق. - إنك لا تحرم زواجها إلا إذا قضي علي بموت فجائي، والآن اذهب لم يعد لي ما أقوله لك.
فذهب روكامبول ممتثلا إلى تلك الجهة، فلقي جوادا مصابا بهذا الداء وغمس دبوسه بدمائه، ثم عاد مطمئنا فذهب إلى النادي وأقام فيه إلى أن حان موعد اجتماعه بابنة الدوق فذهب إليها، وأخبرته أنها مسافرة مع أبيها وأمها إلى قرية في جوار باريس؛ وذلك أن أباها يريد شراء أرض في تلك الضواحي. - لقد عرفت هذا، فإن الأرض أرض صهري، وهو سيذهب معكم تصحبه أختي.
فسرت سرورا عظيما وسألت: إذن ستذهب معنا؟ - كلا، بل سأتبعكم بعد أربعة أيام؛ كي يكون صهري وأختي قد رشحاني لخطبتك لدى أبيك وأمك، فقد علمت أختي بسرنا.
ولبث العاشقان ساعة ثم افترقا، وفيما كان روكامبول عائدا يسير على ضفة النهر، إذ رأى كثيرا من الناس محتشدين في المكان الذي ألقى فيه مدام فيبار، فأسرع الخطى واختلط بين المحتشدين؛ فرأى أن فريقا من البحارة مجتمعون حول فتاة أنقذوها من الغرق، فسأل أحدهم: ما شأن هذه الفتاة؟ - لا ندري، سوى أن هذا الأسبوع قد بات موسم الانتحار عند النساء، فإننا خلصنا الآن تلك الفتاة، ومن ليلتين خلصنا امرأة عجوزا كانت مشرفة على الاختناق.
فأجفل روكامبول وسأله: وكيف انتحرت تلك العجوزة؟ وما هي صفاتها؟ - لقد قالت لنا إنها انتحرت لفقرها ويأسها، فجمعنا لها من النقود ما تيسر. ثم وصف له صفاتها فوجف قلب روكامبول، وأيقن أنها مدام فيبار، وقال في نفسه: إني لم أجهز عليها حين خنقتها لثقتي أنها ستموت غرقا.
ثم أسرع إلى أندريا وكان نائما، فأيقظه وأخبره بما سمع عن مدام فيبار، فأطرق أندريا مليا ثم قال: ألم تعلم شيئا عن فانتير إلى الآن؟ - كلا، وقد بت أخشى أن يلتقي بمدام فيبار وهي تعرفني إذا رأتني. - لا بأس، إنك سوف تجدها؛ لأن الشارع الذي تقيم فيه غير متسع الأرجاء، والآن قل لي أذهبت إلى مونتفوكون؟ - نعم. - أغمست الدبوس بدماء الجواد المصاب؟ - نعم. - إذن فاذهب الآن ونم، وعند الصباح اذهب إلى إصطبل الدوق وشك دبوسك ببطن جواد الدوق.
وفي صباح اليوم التالي ذهب روكامبول بعد أن تنكر بزي سائس إلى إصطبل الدوق، وفعل ما أمره به أندريا.
34
في الساعة العاشرة من الليلة نفسها كان فانتير كامنا أمام منزل روكامبول السري، وفي جيبه حلقة علق بها عدة مفاتيح مختلفة، وبعض الآلات التي لا يستغني عنها اللصوص لفتح الأبواب، ثم جعل يخطر ذهابا وإيابا أمام ذلك المنزل يترقب غفلة بوابه للدخول إليه، بعد أن أيقن أن روكامبول قد سافر منذ الصباح كما أخبره البواب، إلى أن دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فوثق أن روكامبول قد سافر حقيقة؛ إذ لم يعد حسب عادته، واغتنم فرصة موافقة فدخل إلى المنزل وفتح بابه بأحد المفاتيح التي كانت معه، ودخل فرأى الظلام سائدا ولا أثر لوجود أحد في البيت، ولكنه قال في نفسه: لا بد أن يكون في هذا البيت خادم أو طباخ.
فأخذ من جيبه شمعة فأشعلها، وأخذ بيده الأخرى غدارة وجعل يمشي على رءوس أصابعه فيفحص كل غرفة حتى تفقد جميع البيت، وأيقن أنه لا يوجد فيه أحد، فأضاء مصباحا نقالا وجده في غرفة المائدة وأطفأ شمعته، ثم قال في نفسه: لأبحث الآن عن هذه الأوراق التي تثبت نسب الدوق مايلي، لا بد أن يكون روكامبول قد خبأها في هذا المنزل.
وعاد يتفقد الغرف حتى بلغ إلى غرفة المكتبة، فلقي فيها صندوقا ضخما، فعالجه حتى فتحه، وبحث فيه فوجد كثيرا من النقود وأشياء مختلفة فلم يحفل بها، ولكنه لم يجد أثرا للأوراق، فشغل قلبه وجعل يفتش في جميع الخزائن دون أن يعثر على شيء، حتى خطر له أن يفتش المكتبة، وقال في نفسه: إني أعرف كثيرين من الذين يخبئون الأوراق المالية بين صفحات الكتب، ولا يبعد أن يكون روكامبول فعل مثل ذلك.
فأخذ يفتش كل كتاب في المكتبة فيمسكه من طرفيه ويهزه فلا يسقط منه شيء، وفيما هو على ذلك إذ سمع صرير مفتاح في قفل الباب، فأقفل المكتبة في الحال وأطفأ المصباح، واختبأ وراء ستارة الغرفة، ثم سمع وقع أقدام في الرواق، ثم سمع احتكاك عود من الكبريت، فأشعلت شمعة ودخل بها ذلك القادم إلى المكتبة وهو يغني، فعرف فانتير من صوته أنه روكامبول، وكان ينظر إليه من خلال الستارة وبيده الغدارة محشوة فحار في أمره؛ لأن صوته يدل على أنه روكامبول وهيئته لا تدل على شيء من ذلك؛ إذ إنه كان متقمصا بهيئة المركيز دي شمري.
أما روكامبول فإنه وضع شمعته على المائدة وفتح المكتبة، فأخرج منها كتابا ضخما أحمر الجلد، ففتح أول ورقة منه فتفقدها ثم أعاد الكتاب إلى محله، فقال فانتير في نفسه: لقد فتشت الكتاب فلم أجد فيه شيئا، ولا بد أن تكون الأوراق فيه، وقد تفقده ليطمئن على كنزه الثمين.
وبعد أن اطمأن روكامبول على الأوراق أطفأ الشمعة وخرج وهو يغني، فلما سمع فانتير إقفال الباب صبر هنيهة إلى أن تحقق بعد روكامبول، ثم أضاء الشمعة وأخرج ذلك الكتاب وهزه فلم يسقط منه شيء، فجعل يقلب صفحاته بيده صفحة صفحة، حتى وصل إلى الصفحة البيضاء في آخره فرأى أنها ثخينة غير متناسبة مع أوراق الكتاب، فرقص فؤاده من الفرح، وأيقن أن الأوراق مخبوءة بين ورقتين.
وعند ذلك أخرج مدية رقيقة الشفرة من جيبه وحاول أن يفصل بينها، ولكنه خشي أن يخدشها، وخطر له أن لا يبقي أثرا لسرقته، فأسرع إلى المطبخ وغلا الماء على النار حتى تصاعد بخاره، فوضع ورقة الكتاب فوق البخار هنيهة حتى سال غراؤه، ففصل الورقتين وأخرج من بينهما تلك الأوراق المثبتة لنسب الدوق؛ وهي شهادتان مكتوبتان على ورق رفيع، فخفق قلبه سرورا وهو يحسب أنه ملك زمام السعادة، وقرأهما حتى إذا أتم قراءتهما وضعهما في جيبه، وأخذ ورقتين تناسبهما من الورق الأبيض ووضعهما بين صفحتي الكتاب بدلا من الشهادتين، ثم ألصقهما بصمغ كان على الطاولة، وأعاد كل شيء إلى مكانه، وخرج من ذلك المنزل بعد أن أطفأ النور وبلغ منه ما يريد.
وكانت الساعة الأولى بعد منتصف الليل، فأسرع إلى قصر الدوق كي يعطيه الشهادتين، غير أنه لم يستطع أن يراه لأنه كان نائما، فقال في نفسه: لا بأس، فسأعطيه إياها في الصباح.
ودخل إلى الإصطبل ليتفقد الجياد، فرأى جوادا نائما على الأرض والزبد يغطي شدقيه، فنادى أحد البيطريين وقال له: ماذا أصاب الجواد؟
فأجاب: لا أعلم؛ لأنه أصيب بعارض فجائي منذ خمس ساعات، وهو يعض نفسه ولا يستقر على حالة، وقد أتى الدوق بنفسه فتفقده عدة مرار.
فدنا فانتير منه، وفحص الجواد فحصا مدققا دون أن يمسه بيده، فعلم أنه مصاب بالجمرة الفارسية، وقال: لا خير منه ولم يعد يصلح إلا للمجزرة.
وكان روكامبول قد شك بطن هذا الجواد بالدبوس الحامل لمكروب هذا الداء، كما ذكر القراء. •••
لنعد الآن قليلا إلى ذكر ما حدث على إثر ذلك، فإنه بعد أن فعل روكامبول بهذا الجواد ما فعل قدم زامبا وأمر السائس - أي روكامبول - أن يسرج للدوق جوادا، فأسرج له في الحال الجواد المطعون، فركبه الدوق وذهب ليتنزه، وبعد ذلك دنا روكامبول من زامبا وقال: سر بي إلى الغرفة التي يقيم فيها الدوق عادة لكتابة رسائله.
فامتثل زامبا وسار أمامه حتى دخل إليها، فرأى طاولة للكتابة وأمامها كرسي ضخم مجلل بالمخمل، فقال: أيجلس على هذا الكرسي حين يعود؟ - نعم، وهي عادة مطردة له في كل يوم حين يعود من النزهة بهذا الجواد الذي حبه حبا عظيما، يدخل إلى هذه الغرفة فيجلس على هذه الكرسي ويكتب رسائله. - أفي كل يوم يفعل هذا؟ - هي قاعدة باتت مطردة لديه لم يتحول عنها منذ عرفته. - حسنا، ثم أخرج من جيبه علبة ملأى بالدبابيس وجعل يشكها في أطراف الكرسي من الجهات التى تسند إليها الأيدي حتى فرغ، ثم خرج مع زامبا وعادا إلى الإصطبل.
وعند الظهر عاد الدوق من نزهته وجلس على كرسيه يكتب رسائل، فلما فرغ منها وضع يديه على طرفي الكرسي مستندا عليها كي ينهض، فشكت الدبابيس يديه فصاح صيحة ألم، ثم نادى خادم غرفته زامبا وقال له مغضبا: كان ينبغي أن تضع هذه الدبابيس في مكانها حين تفرغ من استعمالها لا أن تشكها في ساعدي الكرسي، فأطرق زامبا متظاهرا بالخجل، ورأى أن كف الدوق قد خدش وجالت منه نقطة دم.
أما روكامبول بعد أن وثق من أن الدوق خدشت يده قال في نفسه: لم يعد لي ما أعمله في هذا المنزل الآن، فلأذهب للتفتيش عن مدام فيبار وعن فانتير فإنهما أصبحا خطرا علي، ثم خرج وذهب إلى داره وأقام فيه إلى أن أقبل الليل، فسار إلى منزل مدام فيبار فلم يجدها، ثم ذهب إلى المنزل الذي يقيم فيه فانتير فطرق الباب كمن يستأذن في الدخول؛ لأنه كان مفتوحا من الداخل، فسمع صوت مدام فيبار وهي في سريرها تقول: ادخل. فولج وأقفل الباب من الداخل، ثم أسرع إليها وهي في سريرها وقبض على عنقها وهو يقول: أنا روكامبول فاحذري من أن تصيحي؛ لأني لا أريد بك سوءا، بل أريد أن أتباحث معك. فلم تستطع العجوز أن تقول كلمة لما تولاها من الرعب، فقال روكامبول: قلت لك إني لا أريد بك سوءا، بل أريد لك كل خير، فقد ندمت لما ظهر مني من قبل وذكرت ما لك علي من حق التربية؛ فأتيت أستغفر منك، إذا كنت لا تريدين أن أسيء إليك احذري من الصياح، وإلا قتلتك في الحال.
فحلت عقدة لسانها وقالت: رحماك لا تقتلني.
فلطف روكامبول لهجته وقال: لا تخشي يا أماه وانظري إلي، ألا تجدين بين عيني ما يدل على الندم؟ وها أنا أرفع يدي عن عنقك، ولكني أحمل بيدي هذا المسدس واحذري من الصياح.
فهدأ روعها قليلا وقالت: ماذا تريد مني بعد أن أردت قتلي وألقيتني في النهر؟
إنك تعلمين يا أماه أني أحبك حبا صادقا، ولكنك حينما لقيتيني تلك الليلة ناديتني بصوت مرتفع وأنا الآن مركيز.
فصاحت العجوز منذهلة: كيف ذلك؟ أتكون مركيزا ثم تترك أمك تعضها أنياب الجوع، بل تقتلها كي تتخلص منها؟ - بالله يا أماه لا تذكري لي تلك الجريمة فقد بكيت كثيرا، ولا أزال كلما ذكرتك أبكي، ثم طوقها بذراعيه وجعل يقبلها.
فحن قلبها وقالت: إذن ندمت؟ - كل الندم. - وبكيت أيضا؟
فتهدج صوت روكامبول وقال وهو يجهش بالبكاء: نعم ولا أزال أبكي.
وكانت هذه العجوز التي عاشت بين الدماء والجرائم لا يحن قلبها إلا لروكامبول، ولا تحب سواه في الوجود؛ لأنها ربته وهو في المهد وتبنته فغذته بلبانها، فلما سمعت أقواله حملها حبها له على تصديقه وغلبها الحنو وبكت، فقال لها روكامبول: إذن فقد صفحت عني؟
فقبلته بدورها وقالت: كل الصفح. والآن قل لي هل أنت حقيقة مركيز؟ - نعم، وفوق ذلك فإن ثروتي تعد بالملايين. - أرجعت عن العيش السابق؟ - وأي فائدة لي بعد من ارتكاب الموبقات وإني غني نبيل. - أتحبني دائما؟ - لولا ذلك لما أتيت إليك، وسأهبك ثروة تعيشين بها أرغد عيش مدى الحياة. - إذن اسمع، إني سأحدثك بأمر هذا الخائن فانتير الذي يتعقبك ويحاول تسليمك للشرع.
ثم قصت عليه جميع ما عرفناه من أمر فانتير معها، وكيف أنه قدم منذ ثلاثة أيام، وفض ختم كتاب كان معه، وكيف أنه عاهدها على الفتك بروكامبول.
وكان مما قالته له إنه دخل سائقا في منزل الدوق، فاضطرب روكامبول وذكر في الحال أن السائق الذي رآه في إصطبل الدوق دي مايلي يشبه فانتير بالقامة وضخامة البطن وتقاطيع وجهه بعض الشبه، وأنه رآه يعرج بالرجل اليمنى عرجا خاصا بالذين يحكم عليهم بالليمان والقيد بالسلاسل، ثم ذكر أيضا أن ذاك السائق لم يدخل في خدمة الدوق إلا منذ يومين، فأيقن أنه فانتير.
ولما أتمت العجوز حديثها قال لها روكامبول: لا بأس يا أماه، فسننظر في أمر هذا الرجل الذي يريد قتلي، فإذا جاء انتبهي من أن تقولي له شيئا عني، بل تجاهلي أمامه أنك رأيتني، وكوني معه على ما يريده، والآن خذي هذه النقود واشتري بها خير ما تحتاجين إليه من اللباس، وسأشتري لك في هذا الأسبوع منزلا كبيرا تعيشين من إيراده مدى الحياة.
ثم أعطاها ورقة بنك قيمتها ألف فرنك وقبلها مودعا، ثم وعدها أن يزورها في الغد وخرج وهو واثق منها.
وكان الليل قد انتصف فذهب توا إلى منزله السري حين كان فانتير فيه يبحث عن الأوراق، فلم ينتبه روكامبول إليه كما تقدم، وغادر المنزل فسرق فانتير الأوراق وذهب آمنا كما قدمناه.
غير أن روكامبول قبل أن يصل إلى منزله خطر له أن يعود إلى منزله السري لبعض الشئون، فدخل إليه بعد خروج فانتير، وأشعل عودا من الكبريت كي ينير به المصباح، فرأى أن المصباح في غير الموضع الذي تركه فيه، فأجفل وخطر له أن سارقا دخل إلى البيت، فأخذ المصباح وأسرع إلى غرفة المكتبة فرأى نقطة ماء على المائدة، وهي من الماء الحار الذي استعان فانتير بحرارته على فتح صفحتي الكتاب، فطاش برأسه وأيقن من السرقة، فبادر إلى المكتبة في البدء وأخرج الكتاب الذي كان مختبئا فيه الأوراق وفتحه، فرأى أثر الصمغ الذي فيه، ففتح الصفحتين وأخرج الورقتين اللتين كانتا بينهما، فإذا هما من الورق الأبيض وضعتا بدلا من الشهادتين؛ فكاد يضيع صوابه من الغيظ، ولا شك أن السارق فانتير، ولا شك أنه سائق مركبات الدوق، والآن لم يبق لي غير رجاء واحد، وهو أن يكون الدوق نائما لئلا يصل إليه فانتير.
عند ذلك أسرع إلى غرفة الملابس وتنكر بزي السائس وانطلق - بعد أن تسلح بغدارتين وخنجر - إلى منزل الدوق دي مايلي، فلقي في الإصطبل فانتير واثنين من السياس منهمكين بشأن الجواد المصاب، وسمع فانتير يقول لأحدهما: إن الجواد مصاب بشر الأمراض، ولكني لا أدري كيف اتصل به هذا الداء؛ لأنه لم يخرج من الإصطبل منذ يومين.
فوافقه السائس على استغرابه وقال له: ربما كان ذلك من صنع السائس الذي طردتموه أخيرا، ففعل ما فعل بالجواد على سبيل الانتقام.
ولم يحفل فانتير بتعليله وأجاب: أأتى الدوق لتفقد الجواد؟ - نعم، إنه حضر مرتين في المساء. - وهل مسه بيده؟ - جملة مرار؛ لأن الجواد لم يكن يأنس إلا به، فكان يمسح الزبد عن شدقيه بمنديله ، ويمسح جلده بيده.
فارتعش فانتير وقال: ألم يعضه؟ - بل كان يلحس يده بلسانه.
وكان روكامبول يسمع كل هذا الحديث فقال في نفسه: لا شك أن فانتير لم يقابل الدوق بعد، ولا شك أن أوراقي لا تزال معه، وفي ذلك الحين دخل زامبا إلى الإصطبل وسأل عن الجواد، فأجاب فانتير: إنه على وشك الموت، قل لي أنام الدوق؟
أجاب زامبا: إن الدوق مريض. - أهو الذي أرسلك لتسأل عن الجواد؟ - نعم. - أيمكن أن أراه لأخبره بحقيقة أمره؟ - إنه في سريره، وسأسأله إذا كان يريد أن تذهب إليه.
ثم خرج من الإصطبل، ولما بلغ إلى الرواق رأى روكامبول قد تصدى له وأمره بصوت منخفض: اتبعني.
فامتثل وسار معه حتى اجتازا الرواق ولم يعد يراهما أحد، فخاطبه روكامبول: إذا لم تنفذ أوامري في الحال خسرنا كل شيء.
فأجفل زامبا وسأله: ماذا حدث؟ - حدث أنه إذا قابل هذا السائق الدوق، ذهبت أتعابنا أدراج الرياح! - إن ذلك ميسور، سأعود إليه وأقول إن الدوق مريض لا يستطيع أن يقابل أحدا. - قل لي كيف حاله؟ - إنه مصاب بحمى شديدة وقد تورمت يده. - أدعي إليه طبيب؟ - كلا.
فوقف روكامبول يفتكر هنيهة ثم قال له: إنه يوجد ثلاث غرف متسعة قبل غرفة الدوق، إذا تكلم أحد بصوت مرتفع في الغرفة الأولى أيصل كلامه إلى غرفة الدوق؟ - كلا، إن المسافة بعيدة. - حسنا، اصعد إلى مولاك وقل له إن الجواد بحالة حسنة، ولا تذكر كلمة عن السائق، وخذ بي إلى الغرفة الأولى.
فامتثل زامبا وصعد أمامه السلالم حتى وصل إلى الغرفة، ففتح بابها وقال له: ادخل. فدخل روكامبول قائلا: اذهب الآن إلى الدوق، وعد إلي في الحال.
وبعد هنيهة عاد زامبا فخاطبه روكامبول: انزل إلى الإصطبل وقل للسائق إن الدوق يريد أن يراه، واصعد به إلي وامش أمامه وبيدك شمعة منورة، فمتى دخلت إلى هذه الغرفة أطفئ الشمعة وألقها إلى الأرض، ثم اقبض على ذراعه على هذا النمط كما أفعل بك الآن. وهنا علمه كيف يقبض عليه، وتابع: اذهب في الحال قبل أن تفوت الفرصة.
وانطلق زامبا مسرعا فوجد فانتير ينتظر عودته بفارغ الصبر، فقال له: هلم معي لأن الدوق ينتظرك.
ولم يكن فانتير يعرف بعد مداخل القصر ومخارجه، فسار في إثر زامبا حتى دخل به إلى الغرفة التي كان فيها روكامبول، فأطفأ الشمعة وانقض عليه فقبض على ذراعيه كما تعلم، وفي الوقت نفسه، وقبل أن يتمكن من الصياح شعر بيد وضعت على فمه، وخنجر وضع على عنقه، وسمع صوتا منخفضا يقول له: أنا روكامبول أيها الأبله، فإذا نطقت بكلمة فإنك مقتول.
35
لما سمع فانتير صوت روكامبول وشعر بوخز خنجره في عنقه، وهت ركبتاه من الخوف، وضاع رشده حين أيقن بالخطر المحدق من حوله، فجعل يقول: بالله اعف عني ولا تقتلني.
أجاب روكامبول: اصمت ولا تفه بحرف.
وقال لزامبا: أمسكه جيدا.
ثم عاد يخاطب فانتير بتهكم قائلا: إن من كان لصا خائنا مثلك فهو لا يخلو من السلاح.
وجعل يفتش في جيوبه وأخرج منها مسدسين، ثم أخرج من حزامه خنجرا عرفه من قبضته، فقال له: إن هذا الخنجر لي وقد سرقته مني منذ ساعة، أما الآن وقد جردتك من سلاحك فلنتحدث قليلا.
فعاد فانتير إلى التوسل والاستعطاف وهو يختلج من الرعب، فقال له روكامبول: إذا فهت بكلمة دون أن أأمرك بالكلام قتلتك في الحال. ثم خاطب زامبا: أطلق الآن إحدى يديه وخذ الخنجر وضعه بين كتفيه، وإذا بدرت منه حركة اقتله بسرعة.
ووضع روكامبول خنجره في فمه كي يستخدم كلتا يديه، ثم أخذ قماش الستائر ومزقه قطعا طويلة وربط بها رجلي فانتير ويديه، وأخذ منديله فكم به فمه كي لا يستطيع الاستغاثة، وبعد أن انتهى من جميع ذلك قال لزامبا: دعه الآن وأنر المصباح.
فلما أضاءه قال له: ضع المصباح على المستوقد، واقفل جميع الأبواب واذهب بسلام وانتظرني خارج الباب.
فامتثل زامبا وأقفل الأبواب وخرج.
ولما خلا المكان بهذين اللصين دنا روكامبول من فانتير وخنجره بيده، ففك رباط فمه وقال بلهجة الهازئ المتهكم: يجب قبل كل شيء أن أخبرك بحقيقة الحالة؛ إن الدوق دي مايلي الذي لا بد أن يكون قد وعدك بمبلغ جزيل ثمن الرسالتين اللتين سرقتهما من عندي لا يستطيع أن يستفيد منهما بشيء؛ لأنه لم يعد له في الحياة غير ساعات معدودة؛ إذ إنه مصاب بالجمرة الفارسية كجواده، فخير لك أن ترد لي الرسالتين حالا لتشتري بهما حياتك، ثم إني أخبرك أيضا أن زامبا هو عبد لي يخضع لي في جميع ما أريده، ولهذا تراني أتصرف في المنزل كأنه منزلي، فإن لم تسلمني الأوراق التي سرقتها من عندي منذ ساعة أقتلك وأذهب في شأني، ولا خوف علي من أحد؛ لأن زامبا وبواب منزلي السري لا يعلمان من أنا.
أجاب فانتير: إنك مركيز.
ولما سمع روكامبول كلمة مركيز رفع خنجره وقال: قل من أنا، أسرع وقل اسمي إذا شئت أن تسلم من الموت.
فذعر فانتير لما رآه من اضطراب روكامبول وأجاب: مولاي عفوك، فإني أعلم أنك مركيز، ولكني لا أعرف اسمك.
فتنهد روكامبول تنهد المنفرج بعد ضيق وقال له: لقد عرفت ما أريد أن أعرفه منك، وما دمت تجهل اسمي فإنك تجهل منزلي، وعلى ذلك فإن الوقت فسيح أمامي وسأقتلك حينما أشاء.
فزاد اضطراب فانتير وقال: ماذا تريد مني؟ - الأوراق. - خذها، إنها في بطانة صدرتي.
فظل روكامبول ماسكا الخنجر بيده اليمنى، ومد يده اليسرى إلى بطانة صدرة فانتير وأخرج منها الأوراق، وبعد أن فحصها فحصا مدققا قال له: أتريد أن أبرهن لك عن أن دي مايلي لم يبق له غير ساعات معدودة في الحياة، انظر إلي.
ثم أدنى الشهادات من الشمعة فأحرقها، وقال: إن هذه الشهادات لا قيمة لها إلا عند دي مايلي، وحرقي لها دليل على أنه مائت، ولم يعد الآن ما يمنعك عن الإقرار التام. - إني أعترف لك بكل شيء على شرط أن تصفح عني ولا تدعني وشقائي، سلني عما تريد. - ماذا فعلت في إسبانيا؟ - قتلت مأمور البريد وسرقت الكتاب، ثم عدت إلى باريس وفتحته فعلمت كل شيء. - كيف عرفت أني مركيز؟ - من مدام فيبار.
ثم قص عليه جميع ما دار بينه وبين مدام فيبار من الحديث والمؤامرة عليه، فلما وثق روكامبول من صدقه قال له: لم يبق عليك إلا شيء واحد وهو أن تنضم إلى أتباعي، فإن من لا يستطيع أن يكون قائدا، فخير له أن يعود جنديا. - ألعلك تستفيد مني بشيء؟
فضحك روكامبول ضحك الساخر وأجاب: لو لم يكن لي فائدة منك لقتلتك بسرعة؛ لأنك تستحق القتل لخيانتك لي ولرئيسي. - إذا كان ذلك إني أقسم بالله إني لا أخونك بعد ذلك.
وعند ذلك دنا روكامبول منه ففك قيوده وقال: هلم بنا.
أما فانتير فإنه رأى بعينه أن الشهادتين قد أحرقتا، وأن الدوق في حالة النزع، فعلم أنه لم يعد له بد من الانقياد إلى روكامبول، فسار في إثره حتى بلغ به إلى منزله السري فقال له: لو تنبهت قليلا وأرجعت المصباح إلى مكانه لما علمت بسرقتك.
فتنهد فانتير، ولكن روكامبول أشفق عليه وقال: اطمئن إن سرقتك لم تكن لتنفعك؛ لأن الدوق مسموم منذ يومين. - والآن اجلس على المائدة واكتب ما أمليه عليك إلى مدام فيبار.
ثم أملى عليه ما يأتي:
إن مسألتي مع روكامبول تمنعني عن أن أراك اليوم، ولكني سأزورك في هذا المساء، فنامي في سريرك ودعي المفتاح على الباب؛ لأني سأحضر بعد منتصف الليل.
ولما انتهى من الكتابة ووقع باسمه على الرسالة أظهر انذهاله، وقال: ماذا تريد بهذه الرسالة الغريبة؟ - سترى ما هو أغرب من ذاك؛ لأني سأعود إلى ربط رجليك ويديك وكم فمك لتبقى في هذا المنزل أسيرا إلى مساء غد.
فذعر فانتير وبدت عليه ملامح العصيان، فاستل روكامبول خنجره وقال له: أتريد أن تعود إلى ما كنا فيه من الخلاف بعد أن اتفقنا؟
فخاف فانتير وقدم يديه للتقييد، فشد روكامبول وثاقه وأقفل الباب عليه وخرج.
36
في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي دخل روكامبول إلى غرفة أستاذه أندريا وقال: أتذكر حين لقيتك وأنقذتك مما كنت فيه ما قلت لك بعد اجتماعنا؟ إني قلت لك يومئذ إنك من النوابغ، ولكنك على سمو عقلك وشدة دهاك، ليس لك غير عيب واحد كان السبب في جميع ما تقدم لك من الفشل والخذلان؛ وهو أنك تستخدم رجال الشر لتنفيذ الشر، ولو كنت تستخدم رجال الخير لهذا القصد السيئ لكنت من الفائزين؛ لأن الكريم الشريف لا تخطر له المفاسد في بال خلافا للماكر الشرير، فإنك إذا استخدمته لغرض فطن لقصدك، وكان أول ما يجول في خاطره أن يستأثر بالنفع دونك، مثال ذلك: فانتير؛ إنك ركنت إليه في المرة الأولى فخانك وقطع لسانك وذهب ببصرك، ثم ركنت إليه في المرة الثانية فكاد يصعد بي إلى المشنقة لو لم أنتبه له ويخدمني الاتفاق في إحباط سعيه.
ثم قص عليه حكاية فانتير ومدام فيبار بجميع تفاصيلها إلى أن أخبره بأنه غادره عنده مكبلا موثقا.
فضحك أندريا ثم افتكر هنيهة وأخذ لوحه الحجري، وكتب عليه ما يأتي: إن الدوق دي مايلي في حالة النزاع ولم يعد لك حاجة بزامبا، وفانتير خائن وقد أحبطت جميع مساعيه فلا نستطيع أن نأمنه بعد الآن، ومدام فيبار عرفتك ولا يجمل بك أن تكون عبدا لها؛ أي يجب أن تتخلص من هؤلاء الثلاثة مرة واحدة.
فصفق روكامبول بيديه وأجاب: هذا ما خطر لي، وإني أفتخر أن يتوارد خاطري مع خاطرك، غير أني لا أعلم كيف يكون هذا القتل وأين تمثل هذه الرواية. - إنها ستمثل في غرفة مدام فيبار، أما طريقة قتلهم سأخبرك عنها، اذهب الآن إلى مدام فيبار وانظر إذا كان يوجد تحت غرفتها قبو، وتفقد ذلك القبو ثم أخبرني بتفاصيله؛ لأن عهدي بهذه المنازل أن يكون فيها أقبية واسعة.
فامتثل روكامبول وذهب توا إلى مدام فيبار فألقاها تنتظره، فلاطفها وجدد وعده لها بشراء البيت الذي باتت ليلتها طامعة به، ونفحها بمبلغ آخر من النقود، فبكت من سرورها، ثم حادثها بشأن الانتقام من فانتير.
واتقدت عيناها بشر الغضب، وقالت: أين هو الخائن الذي يريد أن يفجعني بك لأمزقه بأسناني؟ - سنرى، والآن افتحي لي هذا القبو الذي في غرفتك؛ لأني أحب أن أتفقده.
فقامت مدام فيبار وأزاحت خشبة كبيرة كانت تغطي مدخل القبو عند باب الغرفة، فانكشف عن هوة عميقة فقال لها: هاتي السلم إني أحب أن أنزل إليه.
فامتثلت وأحضرت السلم، فأنزله روكامبول حتى استقر على أرض القبو، وأسنده إلى الحائط وأضاء شمعة ونزل وحده وجعل يتفقده.
وكان القبو خاويا خاليا؛ إذ لا مئونة لهذه العجوز لتخزنها فيه، وبينما كان روكامبول ينظر في جدرانه؛ إذ رأى أحدها مبتلا بالماء دون سواه، فقال في نفسه: لا بد أن يكون لهذا الجدار شأن.
وأقبل يفحصه فحصا دقيقا فرأى الماء يخرج من ثقب رفيع في أنبوبة في جوف الجدار يسيل منها إلى المجاري العمومية، فخطر له في الحال خاطر هائل وأخذ خنجره وأزاح الطين المتلبد فوق الأنبوبة حتى انفرجت له وظهر ثقبها الرفيع، فشق تلك الأنبوبة بخنجره ووسع ثقبها، فجعل الماء يخرج منها بقدر ثخانة الإصبع.
وأقام في ذلك القبو ساعة يفحص انصباب الماء فيه حتى غمرت المياه قدميه، فقال في نفسه: إذا دام انصباب الماء على هذا القياس ولا بد أن يدوم، فإنها ستبلغ عند منتصف الليل إلى نصف علو القبو؛ أي علو مترين، وهذا القدر يكفي.
ثم صعد السلم مطمئنا حتى بلغ إلى الغرفة، فأخرج السلم وأعاد الخشبة - وهي باب القبو - إلى ما كانت عليه.
أما مدام فيبار فإنها كانت منذهلة لا تعلم شيئا من قصد روكامبول، ولم يتوان روكامبول إلى إخبارها، بل قال لها: انتظريني الليلة، فسأحضر إليك وأخبرك عن الذي سنصنعه بفانتير. - وإذا أتى قبل أن تحضر، فما أخبره؟ - إنه لا يحضر، وكوني واثقة من ذلك، إنما لا تخرجي من غرفتك.
ثم تركها وعاد لمنزله، فغير ملابسه وعاد إلى أندريا وأخبره بجميع ما صنع، فأخذ أندريا لوحه الحجري وكتب عليه سطورا كثيرة كان روكامبول يقرؤها وهو واقف وراءه، ولما أتم كتابته كتب تحتها: أفهمت؟ - نعم، ويا له من فكر هائل!
فابتسم أندريا معجبا بأفكاره الجهنمية، وذهب روكامبول مطرق الرأس يتمعن بإنفاذ هذه الخطة.
وفي الساعة السادسة من المساء قابل روكامبول زامبا وسأله عن حالة الدوق ، فأجاب: إنه في أسوأ حالة، وقد قنط الأطباء من شفائه. - اعلم الآن أن سيدي الذي يريد أن يتزوج بابنة الدوق أمرني أن أبلغك رضاه عنك، وهو سيجعلك وكيله بعد الزواج دون شك، ثم أمرني أن أمنحك ألفي فرنك على سبيل المكافأة عن حادثة الدوق والدبابيس، ذلك عدا عن المكافأة العظيمة التي ستنالها بعد الزواج، غير أنه يسألك أيضا قضاء أمر لا بد منه. - إني مستعد لكل أمر، فقل أطع. - إنه يريد الانتقام من هذا السائق الإنكليزي الذي دخل في خدمة مولاك وكاد يحبط جميع مساعينا. - أيريد قتله؟ - ذلك لا بد منه. - متى وأين؟ - اذهب بعد ثلاث ساعات إلى القهوة التي كنا نجتمع فيها، فأذهب بك لأخبرك بما يجب أن تصنع، ولا تنس أن تحضر معك أحسن خنجر عندك.
37
وفي الساعة الثامنة من مساء تلك الليلة قدم روكامبول إلى بيت مدام فيبار وطرق بابها، فدنت من الباب وقالت بصوت منخفض: من أنت؟
فذكر روكامبول اسمه، ففتحت ودخل يصحبه زامبا فقال لها: لقد أحضرت هذا الرجل لأنه يريد أن نتحدث قليلا مع فانتير.
ثم أقفل الباب وقال لزامبا: أطلعك على المهمة التي انتدبتك إليها، والتي تكون بعدها وكيل من يتزوج ابنة الدوق.
فقالت مدام فيبار متحمسة: إن المهمة هي قتل فانتير.
فرد زامبا منذهلا: أيدعى السائق فانتير؟
أجاب روكامبول: نعم، إنه اسم لا يشير إلى أن صاحبه من أصحاب النفوذ، غير أنه إذا بقي في قيد الحياة فهو يحول دون تحقيق أمانيك، وربما ألقى بك في هوة السجن المؤبد لتعيش بقية عمرك مقيدا بالسلاسل.
فهلع قلب زامبا لهذا الإنذار ورد: إذن سيموت.
وأمر روكامبول مدام فيبار أن تضيء المصباح وتحضر سلم القبو، فامتثلت وهي لا تعلم شيئا من خطته، ففتح روكامبول باب القبو وأنزل السلم إليه، ثم أخذ المصباح بيده ونزل درجات السلم حتى بلغ إلى نصفها وشعر بالماء وقال في نفسه: إن علو الماء قد بلغ مترين وهو يكفي لإغراق إنسان. ورأى أن الماء لا يزال يخرج من الأنبوبة بمعدله الأول ، فاطمأن خاطره وصعد وقال لزامبا: إنك ترى هذا القبو الذي نزلت إليه، أصغ إلي الآن، إنك ستقتدي بي وتنزل إلى هذا القبو كما نزلت، وهو ملآن بالماء لأن الأمطار الأخيرة نفذت إليه وجعلته بئرا.
فأجفل زامبا وقال: أيمكن للمرء أن يغرق فيه؟
أجاب روكامبول مبتسما: إنه يغرق ولا يغرق، وذلك أنك ستنزل إلى القبو أنت وفانتير، فيغرق هو، وأما أنت ستصبح وكيل من يتزوج ابنة الدوق. - إني لا أفهم شيئا مما تقول. - إني موضح لك هذا اللغز، ألا ترى السلم في القبو؟ - نعم. - ألا ترى أن مدخل القبو عند عتبة الباب؟ - نعم. - إنه عندما يأتي فانتير يكون الظلام سائدا وباب القبو مفتوحا، فإذا فتح الباب ودخل سقط في الهوة، أعلمت الآن؟ - نعم علمت، وأما أنا فماذا أعمل بالقبو؟ - إنه شديد المهارة بالسباحة، وإذا ترك وشأنه في القبو فهو يعوم فوق المياه عدة ساعات ويستغيث بصوته العالي إلى أن يرده المدد؛ ولذلك ينبغي أن تخمد أنفاسه ولا تبق له مطمعا في الحياة. - سأعمل، ولكن بأية وسيلة أخمد أنفاسه؟
إنك تقف على آخر درجة متصلة بالماء من درجات هذا السلم، فمتى سقط فانتير في الماء، أول ما يخطر له أن يلتمس ما يتمسك به ولا يجد غير السلم، وإذا دنا منه ومسك به تطعنه بخنجرك طعنة نجلاء تقضي عليه، ثم تصبر هنيهة إلى أن تعلم أنه مات فتناديني، وعند ذلك أنير لك الطريق لتصعد. - إذن إني مستعد للنزول، وهذا خنجري بيدي، وكن واثقا من قتله.
وعند ذلك أنار له روكامبول منفذ القبو، ونزل زامبا درجات السلم حتى بلغت رجله إلى الماء فنزل درجة ووقف، وعند ذلك أطفأ روكامبول المصباح وانزوى في الغرفة مع مدام فيبار، فقالت له: أأنت واثق أن فانتير سيحضر؟ - كل الثقة، فقد كان أسيرا عندي أطلقت سراحه ووعدته أن أعطيه خمسين ألف فرنك. - لماذا يأتي إلي؟ ولماذا تعطيه خمسين ألف فرنك؟ - جزاء قتلك؛ إذ إنه يحسب بأنه آت لقتلك.
ارتعشت العجوز وقالت: يقتلني أنا؟ - ألا تعلمين أنه خائن يبيع بنيه بالمال، قد وعدك بجزاء حسن إذا ساعدتيه على فضيحتي، وأنا وعدته بجزاء حسن إذا ساعدني على قتلك، فانطلت عليه الحيلة، ووقع في الفخ الذي نصبه لي.
وفيما هما على ذلك إذ سمعا وقع أقدام، اضطرب فؤاد روكامبول وقال: اسكتي، ها هو قد حضر، ثم سمعا صوت المفتاح في القفل، ثم فتح الباب فمشى فانتير ثلاث خطوات وكانت خطوته الرابعة في الهوة المفتوحة، فسقط في القبو وصاح صيحة عظيمة، أسرع روكامبول إلى باب القبو ووضع أذنه على مدخله ونام فوقه كي يسمع ما يجري بين زامبا وفانتير.
كان أول ما سمعه أن فانتير جعل يقذف الشتائم واللعنات لا يجيبه غير صدى هذا القبو المتسع المظلم، ثم جعل يسبح بيديه ورجليه وقد قنط من بلوغ صوته إلى المسامع لما سمعه من تجاوب الصدى، وبقي يسبح ويقذف نحو عشر دقائق، ثم انقطع الصوت ووقفت الحركة، قال روكامبول في نفسه: إنه قد عثر بالسلم وسنرى ما يكون من زامبا، ولكنه لم يكد يتم مناجاته حتى سمع صرخة قوية عقبها صوت سقوط جسم ضئيل في المياه، ثم انقطع الصوت، قال روكامبول: لقد قضي أمره وانتهى الفصل الأول من هذه الرواية، فلنباشر تمثيل الفصل الثاني.
ثم نهض فلقيته مدام فيبار فقالت: ماذا جرى؟ - لقد مات دون شك، إني لا أسمع له حسا، وبعد حين وجيز سمع صوت زامبا يناديه، أمر العجوز أن تضيء المصباح، ففعلت ثم ذهب به إلى باب القبو وفتحه، وقال لمدام فيبار: تعالي وانظري يا أماه، قرفصت العجوز على حافة الهوة وجعلت تحدق على نور المصباح لتنظر جثة فانتير، لما رأتها قالت: لقي هذا الخائن جزاء خيانته.
وضع روكامبول المصباح أمامه وقال: لم أقتله لهذا يا أماه، بل لأنه كان واقفا على أسراري.
فذعرت العجوز وحاولت أن تقف لما تولاها من الخوف، غير أن روكامبول كان أسرع منها، فإنه ضغط على عنقها بيديه ضغطا قويا وهو يقول: إنك لا تسلمين هذه المرة. وبعد أن أتم خنقها قذف بها إلى القبو، سقطت في الماء جثة جامدة لا حراك فيها.
وعند ذلك قال لزامبا: اصعد الآن فقد انتهى كل شيء. فجعل زامبا يصعد درجات السلم وهو فرح القلب بنجاح مهمته، وكان روكامبول من ورائه فلما ظهر رأسه من القبو بادره روكامبول بطعنة خنجر قوية بين كتفيه، صاح صيحة ألم وانقلب يهوي فوق رفيقه، وتم بذلك تمثيل الفصل الثالث من هذه الرواية.
أما روكامبول فإنه أخرج السلم من القبو بأتم سكينة فوضعه في مكانه، ووضع الباب فوق القبو، ثم أطفأ المصباح وخرج من الغرفة، وانسل إلى الشارع العام دون أن يراه أحد وهو يقول: إني لم أجد بين هؤلاء الثلاثة أشد بلها من زامبا؛ لاعتقاده بأني أرضى أن يكون وكيلي بعد أن أتزوج بابنة الدوق وأغدو من عظماء الإسبان.
وذهب إلى منزله السري فغير زيه وعاد مركيزا نبيلا، ثم انطلق إلى النادي ودخل وهو يغني غير مكترث لشيء كأن يده الأثيمة لم تنغمس بقتل ثلاثة منذ ساعة، وهناك علم أن الدوق دي مايلي قد مات مسموما، ورأى الأسف باديا على جميع الوجوه، فلم يسعه إلا إظهار الأسف معهم، وأقام بينهم إلى الساعة الأولى بعد منتصف الليل، ثم برح النادي إلى منزله، فوجد على المائدة كتابا من الغادة الإسبانية أرسلته إليه من القرية التي ذهبت إليها مع أمها وأبيها وصهره فابيان وأخته، وكانت خلاصة الكتاب أن أخت روكامبول قد ذكرته أمام الدوق الإسباني، ولمحت تلميحا عن حب أخيها لابنته، فأظهر الارتياح وهي تدعوه إلى موافاتهم في تلك القرية، راجية أن يعودا منها زوجين شرعيين.
ففرح روكامبول بهذا الكتاب فرحا لا يوصف، ودخل إلى غرفة أندريا وأخبره بجميع حوادث الليل وبموت الدوق مايلي وبكتاب الغادة الإسبانية، فظهرت علائم السرور على وجه أندريا وقال لتلميذه الهائل بلوحه الحجري: تأهب للسفر صباحا، واعلم أنه يجب أن أسافر معك. - ما شأنك معي في هذا السفر؟
قال: ذلك كي أوقع على شروط زواجك، وإن قلبي يحدثني أنه إذا لم أكن معك لا يعقد هذا الزواج.
فلم يعبأ روكامبول بكلامه وأجاب: أتظن أن حديث قلبك يصدق؟ - لا أظن بل أؤكد، وخذ عني هذه الكلمات واطبعها على ذاكرتك بحروف من نار، وهي أنا النور الذي يضيء نجمك، فإذا لم أكن موجودا ينطفئ نور هذا النجم.
38
بينما كانت هذه الحوادث التي رويناها تتوالى في باريس، كانت تجري في مدينة نيس حادثة لها علاقة شديدة بهذه الرواية.
ويذكر القراء أن باكارا قد ذهبت بزوجها المنكود إلى تلك المدينة كما وصف له الأطباء، فاستأجرت منزلا جميلا على شاطئ البحر، وكان يصحبهما طبيب خاص حكم على الكونت أرتوف أن يعتزل الناس ما أمكن، وأن لا يفارق امرأته لاعتقاده أن هذه الطريقة تعجل في شفائه، على أن حالة الكونت لم تتغير، وما زال يعتقد أنه يدعى رولاند دي كايلت، وليس الكونت أرتوف، ثم اتسع هذا الاعتقاد منه حتى بات يحسب أن الكونت أرتوف طلق امرأته، وأن باكارا تبعته بعد طلاقها من زوجها إلى نيس لشدة شغفها به.
وكان بين الأجانب المقيمين في نيس ضابط إنكليزي خدم مدة طويلة في الهند، وكان يرى باكارا وزوجها كل يوم حين خروجهما للنزهة، فتوصل الضابط إلى السلام عليهما لكثرة التقائه بهما.
وبينما كانت باكارا جالسة في غرفتها صباح يوم، إذ دخلت خادمة غرفتها تحمل إليها رقعة زيارة الضابط الإنكليزي، فدهشت لهذه الزيارة، ولكنها خرجت لمقابلته واستقبلته في القاعة الكبرى وجلست بإزائه، فبدأ هذا الضابط بالحديث وقال: أرجو ألا يسوء سيدتي ما تراه من إقدامي على زيارتها، ولم يدفعني إليها غير الرجاء بنفعها لما علمته من جنون زوجها، واعلمي يا سيدتي أن هذه المدينة لا يأتي إليها غريب حتى تتجه إليه الأنظار، ولا يمضي عليه زمن يسير حتى يعلم الغرباء أمثاله بجميع أمره.
قالت باكارا: إذن لقد عرفوا حكايتي. - نعم يا سيدتي، لقد عرفوها بتفصيلها، وانقسم الناس بشأنك قسمين بين مصدق ومكذب، وخاضوا في تأويل أسباب جنون الكونت إلى أن قدم أمس أحد الأعيان من باريس فأخبرنا ...
ثم توقف عن الحديث وقال: عفوك يا سيدتي، فإنك لو بحثت في أعماق قلبي لما رأيت غير الاحترام.
فقالت باكارا وهي لا تعلم إلى أين يريد أن يصل بحديثه: إني أعلم بما حدثوك، واسمح لي قبل إتمام حديثك أن أقول إن رجلا شقيا لا مبدأ له ولا شرف زج بنا إلى هذا الشقاء بنميمة كاذبة. - لم أشكك لحظة يا سيدتي بما تقولين، واسمحي لي أن أكلمك عن زوجك وجنونه، فلقد ذكر لنا هذا الباريسي أمرا غريبا، وهو أن جنون الكونت كان فجائيا لا يتقدمه شيء من العوارض المعروفة، وقد ظهر الجنون في ساحة المبارزة. - ذاك أكيد. - وأن جنونه حمله على الاعتقاد بأنه هو خصمه، وأن خصمه يدعى الكونت أرتوف. - وا أسفاه يا سيدي! إنه لا يزال يعتقد هذا الاعتقاد. - ولكن الغريب في هذا الجنون أنه غير عادي. - إنه كان يحبني، وقد اعتقد أخيرا أنني ...
فقاطعها الضابط قائلا: كلا يا سيدتي، فإن زوجك قد سقي سما فجن.
فاندهشت باكارا وأجابت: كيف عرفت ذلك؟ ثم أيوجد بين السموم ما يذهب بالعقل؟ - نعم يا سيدتي، إني خدمت بالهند وأقمت سنة في مدينة جافا، وعلمت أنه يوجد في هذه الجزيرة شجرة إذا جففت أوراقها وطحنت كان شربها داعيا إلى الجنون، وقد رأيت كثيرين من الذين جنوا بهذا السم، ومن أخص ما رأيته من الأعراض أن المجنون به ينكر نفسه ويحسب أنه سواه، وهذا ما أصاب زوجك.
فارتعدت باكارا وقالت: إن زوجي لم يذهب إلى الهند، ولا يعرف أحدا في باريس من الهنود. - أعرف ذلك يا سيدتي، غير أن من تجاسر على النميمة بك وكاد مثل هذه المكائد لك، فهو يجسر أيضا على تسميم زوجك.
فوجف قلبها وقالت: إذا صح ما تقول فإني أخشى أن لا يكون لهذا التسمم دواء. - بل إني أعرف طبيبا حاذقا بشفاء هذا الجنون، وهو طبيب نال شهرة واسعة في الهند، وقد لقيته منذ شهر في باريس، وعلمت أنه يقيم فيها منذ عهد طويل، وأن له شهرة عظيمة في فرنسا أيضا، وقد اشتهر خاصة بمعالجة تشوه الوجوه وإزالة الوشوم والشفاء من الجنون شهرة خاصة، وهو يدعى صموئيل ألبرت، فإذا دعوته يا سيدتي لمعالجة زوجك، فإني أرجو أن يشفيه سريعا.
فظهرت علائم الرجاء على محيا باكارا وقالت: كلا لا أدعوه إلي، بل أنا أسير إليه كي لا يطول انتظاري. - لقد أحسنت يا سيدتي، واحذري من أن تثقي بغير هذا الطبيب، واعلمي أن الأطباء يتحاسدون، ولا تقولي شيئا أمام طبيب الكونت، بل اختلقي حجة أمامه للسفر بزوجك إلى باريس.
فشكرته باكارا شكرا جزيلا، وودعها الضابط وذهب في شأنه.
وفي اليوم التالي ركبت باكارا مع الكونت مركبة البريد وبرحت نيس إلى ليون، وركبت منها السكة الحديدية إلى باريس. •••
بينما كانت باكارا ذاهبة بزوجها إلى باريس، كان رولاند دي كايلت عازما على السفر من باريس إلى الريف؛ إذ قد ورد إليه نعي عمه، فرأى أن الفرصة موافقة للبعد عن باريس بعدما رآه من ابتعاد الناس عنه إثر حادثة الكونت، واحتقار أصحابه له بحيث لم يبق له بينهم غير أوكتاف لاتفاقه وإياه في مبادئ الغرور.
ولما وصل إليه نعي عمه تأهب للسفر وذهب لوداع صديقه أوكتاف قبل الرحيل، وفيما هو سائر بمركبته شعر أن المركبة وقفت لازدحام المركبات ووقوفها عن المسير لمرور موكب، حتى إن معظم الذين كانوا في تلك المركبات نزلوا منها، فأطل رولاند من مركبته وجعل ينظر إلى الناس وإلى ازدحام المركبات، ورأى بالقرب منه ريبيكا التي يحسبها الكونتس أرتوف، فصاح صيحة دهش سمعتها الفتاة، والتفتت إليه فما وسع رولاند إلا أن يحني رأسه مسلما عليها، فردت تحيته بابتسام ولم يعد لدى هذا المسكين من شك أنها تحبه حبا أكيدا، وأنها اضطرت أمام أختها أن تمثل دورها، ثم رآها وضعت سبابتها على فمها تشير إليه بالصمت، غير أن رولاند تجاهل قصدها ونزل من المركبة للقائها، فأسرعت إلى مركبة في الطريق، فصعدت إليها وقالت للسائق بصوت مرتفع كي يبلغ إلى مسمع رولاند: إلى شارع باسي نمرة 43.
فارتجف رولاند وقد علم أنها تريد أن يزورها في ذلك المنزل، وذهب إلى صديقه أوكتاف وأخبره بهذا الاتفاق حين اضطراره إلى السفر، فقال له صديقه : خير لك أن تسافر لتقضي مهمتك وتعود بعد غد؛ لأن ابتسامتها لك يدل على أنها لا تزال تهواك فهي تنتظرك الليلة، ومتى رأت أنك لم تحضر فلا بد لها أن تكتب إليك، وتكون في ذلك الحين قد عدت إلى باريس وقضيت شئونك التي لا يمكن تأجيلها.
فامتثل رولاند لنصيحة صديقه أوكتاف وركب القطار الذي يخرج من باريس في الساعة الثامنة، ولما بلغ إلى المحطة الأولى وصل إليها أيضا في الوقت نفسه القطاران الخارج من باريس والداخل إليها في أول محطة، ووقف القطاران دقيقتين لنزول الركاب وصعودهم.
وكان هذا القطار قادما من ليون، فجعل رولاند ينظر إلى الركاب دون اكتراث، حتى أصاب نظره ركاب الدرجة الأولى، فصاح صيحة منكرة لأنه رأى بين أولئك الركاب باكارا وزوجها الكونت، وهو قد رآها منذ ساعة تسير إلى شارع باسي، فأوشك أن يضيع رشده وأسرع إلى النزول من القطار الذي كان عائدا بباكارا إلى باريس، ولكن القطار كان قد سار فلم يستطع إدراكه.
39
وصاح منبه القطار يدعو الركاب إلى الصعود إليه، ثم نظر إلى رولاند فرآه محدقا بذلك القطار المسافر، فنبهه إلى الصعود، غير أن رولاند قال له: إني عزمت على الرجوع إلى باريس، وسأنتظر القطار القادم في هذه المحطة.
فصفر المنبه بصفارته وانطلق القطار سائرا إلى الريف.
أما رولاند فإنه انتظر هنيهة إلى أن قدم قطار، فركب به وعاد إلى باريس، ولما وصل إلى المحطة سأل عن رئيس القطار الذي قدم رأسا من ليون، فأرشد إليه فقابله رولاند وقال له: أأنت رئيس القطار الذي قدم الآن من ليون؟ - نعم، وقد وصلت به منذ نصف ساعة. - أرأيت بقطارك امرأة شقراء وجميلة كان معها رجلان؟ - نعم، وهم الكونتس أرتوف وزوجها وطبيبه.
فاضطرب رولاند وقال: إني أرى على صدرك إشارة تدل على أنك منعم عليك بوسام، وأنك من رجال الشرف؛ ولهذا فإني أستحلفك بهذا الوسام الذي تتقلده أن تقول لي: هل الكونتس أرتوف حضرت بهذا القطار من ليون؟ - نعم يا سيدي، وأنا الذي أعنتها على الصعود إليه في محطة ليون.
فشكره رولاند وخرج وهو شبيه بالمجانين، فركب مركبة وأمر سائقها أن يسرع به إلى شارع باسي نمرة 43، فذهب السائق إلى ذلك المنزل، فأطلق رولاند سراحه ودخل، فقرع الباب وأجابه صوت امرأة من الداخل: من أنت؟
فلم يجب بل جعل يقرع الباب إلى أن فتحت له خادمة، فقال لها: أين سيدتك؟
فتلجلج لسانها وأجابت: إنها لم تعد بعد. - لا بأس، فسأنتظرها.
غير أنه رأى من عين تلك الخادمة أنها غير صادقة في قولها، فنظر إليها نظرة المتوعد وقال لها: اختاري بين أن أنقدك عشرة جنيهات، وبين أن تذهبي معي إلى رئيس البوليس حيث يسألك عن بعض الشئون.
فتظاهرت الخادمة بالخوف وقالت: إن سيدتي تطردني من المنزل إذا أدخلتك إليها دون إذنها، غير أني سأخاطر لأجلك هذه المخاطرة فاتبعني.
فسار رولاند في إثرها وصعدا إلى الدور الثاني من هذا المنزل، حتى انتهت به الخادمة إلى غرفة نوم ريبيكا، فقال لها: دعيني وحدي واذهبي بشأنك. فتركته وانصرفت.
أما رولاند فإنه دخل إلى غرفتها دون استئذان فوجدها نائمة، فوضع يده على كتفها فهبت من رقادها منذعرة، ثم ثابت إلى رشدها حين رأت رولاند فقالت: كيف أتيت؟ وكيف جسرت على الدخول إلى غرفتي دون إذني؟ - ذلك أيتها الحبيبة لأنك أخبرتني اليوم بنمرة منزلك حين ذكرتيها للسائق بصوت مرتفع.
فأنكرت ريبيكا ثم قالت له: لا بأس، وحيث قد أتيت فاجلس أمامي.
فجلس رولاند أمامها وقال لها بلهجة المتهكم: أتريدين يا سيدتي الكونتس أن تخبريني بشيء عن حالة زوجك الكونت؟ - إنه لا يزال مجنونا، وقد أرسلته إلى نيس. - أيقيم فيها زمنا طويلا؟ - لا أعلم، فإن ذلك مناط بطبيبه. - لقد أصبت، ويظهر أن طبيبه استحسن أن يعود به إلى باريس فعاد في هذا المساء. - من الذي عاد؟ زوجي؟ - كلا، بل الكونت أرتوف، وكانت تصحبه امرأته الكونتس.
وكانت ريبيكا شديدة الجرأة غير أنها لم تستطع أن تقاوم نظرات رولاند، وجعل وجهها يحمر ويصفر في آن واحد لما تولاها من الاضطراب، وعند ذلك نهض إليها رولاند وقال لها: لقد انقضى زمن التضليل، وأصبحت عالما الآن أنك لست الكونتس أرتوف، بقي علي أن أعرف من أنت، فاذكري اسمك.
وكان رولاند ينظر إليها نظرات إنذار، علمت بعدها أنه لم يعد لها حيلة، وأن الإنكار لا يجديها نفعا، فضحكت ضحكا شديدا دون أن تجيب، فصاح بها رولاند صيحة شديدة وقال: أيتها الشقية اذكري اسمك أو أقتلك في الحال دون إشفاق.
ثم قبض على عنقها وضغط عليه، فصاحت: رحماك لا تقتلني، إني أدعى ريبيكا.
فرفع رولاند يديه من على عنقها وقال: من أية عائلة؟ - لا عائلة لي، وأنا من بنات الهوى. - من الذي دعاك إلى تمثيل هذا الدور الشائن؟ - رجل لا أعرفه.
فاحتدم رولاند غيظا وعاد إلى التهديد فقال: لقد كذبت. - أقسم بالله إني لا أعرفه.
ولكن رولاند لم يبال بقسمها فقال: إذن إنك تريدين الموت.
ثم عاد إلى الضغط على عنقها فصاحت الفتاة وقالت: دعني فسأخبرك بكل شيء، ولكني أقسم لك إني لا أعرف اسم هذا الرجل، فقد لقيني ليلة فقادني إلى منزل لا أعرفه، ثم جاء بي في اليوم التالي إلى هذا المنزل، وقال لي: ينبغي أن يكون اسمك من الآن فصاعدا الكونتس أرتوف.
فأفرج عنها رولاند وقال لها: أتقولين جميع ذلك للكونتس الحقيقية؟
فذعرت الفتاة وقالت: كلا.
فلما قالت هذا القول نظر إلى ما حوله، فرأى سكينا على المائدة بقرب سريرها واختطفها وأسرع إليها فوضعه على صدرها، وقال: اختاري بين الموت وبين أن تذهبي معي إلى منزل الكونتس.
وكانت صحة وعيد رولاند بادية في عينيه، فأيقنت الفتاة أنها لا ينقذها منه غير الامتثال فقالت: ليكن ما تريد، هلم بنا.
وبعد هنيهة خرج الاثنان فركبا مركبة سارت بهما إلى منزل الكونت أرتوف، وكانت ريبيكا تقص على رولاند جميع ما تعلمه من أمر روكامبول إلى أن وصلت المركبة إلى منزل الكونت، فنزل منها رولاند مع ريبيكا وسأل الخادم عن الكونتس، فقال له: إنها أتت في هذا المساء، وهي الآن عند أختها، فإنها لم تعد بعد. - لا بأس، فسأنتظر عودتها مع هذه السيدة؛ لأني أتيت إليها بشأن خطير.
فأدخلهما إلى قاعة الانتظار، وكان على وجه ريبيكا نقاب كثيف.
40
أما باكارا فإنها بعد أن وصلت إلى باريس غادرت زوجها في المنزل مع طبيبه الخاص، وذهبت إلى أختها سريز فأخبرتها بالسبب الذي دعاها إلى الرجوع إلى باريس، ثم ذهبت وإياها إلى الطبيب صموئيل، فاستقبلهما خير استقبال.
وكان الطبيب عالما بحكاية باكارا وجنون زوجها، فقال لها: أظنك يا سيدتي آتية إلي بشأن زوجك. - نعم وا أسفاه! لأنه لا يزال على حاله ولم يفده الطب إلى الآن في شيء، وأنا أرجو أن تتمكن من شفائه لما بلغت إليه من الشهرة. - لا أستطيع أن أحكم في شيء قبل أن أرى الكونت، وأعلم بالتفصيل كيف بدأت معه أعراض الجنون.
إن جنونه كان فجائيا، وهو يعتقد أنه ذات الرجل الذي كان يريد مبارزته، ولا يزال ينكر نفسه إلى الآن.
ثم أخذت باكارا تذكر جميع أعراض الجنون إلى أن انتهت إلى قصة الضابط الإنكليزي، فأخبرته أن هذا الضابط يعتقد أن زوجها مسموم، وأنه هو الذي أشار عليها بعرض أمره على الطبيب صموئيل.
فارتجف الطبيب عندما سمع لفظة التسمم، وقال: إنه لا يوجد غير نوعين من السموم يحدثان الجنون أحدهما مشهور في أوروبا، ولكن الجنون الذي يحدث عنه لا يكون خطرا، ولا تنطبق أعراضه على ما ذكرته لي من أعراض جنون زوجك، والنوع الثاني غير معروف إلا في الهند، ولا يوجد منه في أوروبا إلا في منزلي، وعجيب أن تلك الأعراض تنطبق على أعراضه، فهل ذهب زوجك إلى الهند؟ - كلا. - ألعله يعرف أحدا فيها؟ - كلا.
ففكر الطبيب هنيهة ثم قال: إذا صح ما قاله الضابط الإنكليزي، فلا بد أن يكون الكونت قد شرب السم قبل زمن المبارزة بليلة، ثم لا بد أن يكون بات تلك الليلة في المنزل. - كلا يا سيدي، إنه لم يبت في المنزل، ولكني أرجح أنه بات في منزل الدوق دي مايلي، فإنه كان شاهده في المبارزة، وهو يقول لنا كل شيء. - ألعلك تجهلين يا سيدتي أن الدوق مات أمس؟
فهبت باكارا منذعرة وهي تقول: كيف مات الدوق وهو غض الصبى وفي ريعان شبابه؟
فلم يجبها الطبيب، ولكنه أخذ جريدة كانت أمامه ودلها على خبر نعيه فيها، فقرأته باكارا ثم ضغطت على الجريدة وقالت والدمع يجول في عينيها: كيف مات هذا المنكود؟ - بالجمرة الفارسية، وقد سرت إليه العدوى من جواد كان يحبه.
وساد السكوت هنيهة إلى أن عاد الطبيب إلى محادثتها بشأن زوجها فقال: مما يزيد عجبي أن هذا السم الذي شربه الكونت لا يوجد منه إلا في جافا وعندي، وليس لدي منه غير ثلاث أوراق طبية، فكيف توصل هؤلاء الأثمة إليه؟
ثم نهض إلى الخزانة الزجاجية الموجود فيها هذا السم، وأشار بيده إلى حق فيه رشاش ناعم، فقال: هذا هو السم. - إذا كان لا يوجد منه إلا عندك كما تقول، ألا يمكن أن يكون قد سرق من منزلك؟ - إن هذا مستحيل؛ إذ لا يدخل هذه الغرفة إلا أنا وخادم لي به ثقة شديدة، وفوق ذلك فإني حين أخرج من الغرفة أقفل بابها بحيث لا يمكن الدخول إليها، ومع ذلك فقد قلت لك إن لدي من هذا السم ثلاث أوراق، وسأزن ما في هذا الحق فأعلم إذا كان مسروقا.
ثم أخرج من درج مكتبه ميزانا صغيرا، وأحضر الحق من الخزانة، فأفرغ ما فيه في ورقة وزن السم، فاضطرب واصفر وجهه لأنه وجد أنه ينقص ستة عشر غراما، وقال: لقد سرقت!
فوقع هذا القول عليهما وقع الصاعقة، وجعل الطبيب ينظر تارة إلى باكارا وتارة إلى السم نظر البلاهة وهو لا يصدق، إلى أن قال: إن هذا السم لا يمكن أن يسرق إلا إذا نسيت أن أقفل الخزانة وتركت باب الغرفة مفتوحا وخرجت منها، ولم يحدث شيء من هذه الأسباب الثلاثة.
ثم قرع الجرس يدعو خادمه فأقبل الخادم، وهو رجل عجوز يناهز الستين كان يثق به الطبيب ثقة لا حد لها، ولكنه سأله: أتعلم ما كان في هذا الحق؟ - نعم، فقد كان فيه سم قاتل. - لقد سرقوا منه ستة عشر غراما فاستخدموها لجريمة هائلة.
أجاب الخادم بلهجة تبين منها الصدق: إن ذاك مستحيل.
فالتفت الطبيب إلى باكارا وقال: أسمعت يا سيدتي؟ - أنا لا أتهم هذا الرجل.
فعاد الطبيب إلى الخادم وسأله: تذكر جيدا، ألا تذكر أنه دخل أحد إلى الغرفة في مدة غيابي منذ شهر؟ - كلا. - ألم تلاحظ أني نسيت مفاتيح الخزانة على الطاولة في حين من الأحيان؟ - كلا. - ألا تذكر أنه دخل أحد إلى غرفتي ثم خرجت منها وبقي فيها؟ - نعم أذكر شيئا من ذلك، فلقد زارك رجل منذ أسبوعين أو ثلاثة، وفيما هو مقيم معك اضطررت إلى الخروج لمعالجة خادم صدمته سيارة، وكانت الخزانة مفتوحة، وأسرعت إلى الذي صدمته المركبة ولم يكن مصابا بشيء. - غير أن زائري يستحيل عليه سرقة السم.
فقالت باكارا: لماذا؟ - لأنه خيرة النبلاء وهو المركيز دي شمري. - عرفته، فهو ابن عم الكونت فابيان، وهو قد خدم دهرا طويلا في الهند. - هو بعينه. - إن هذا الرجل شريف لا يمكن اتهامه. - هو ما قلته يا سيدتي.
ثم غرق الطبيب في هواجسه، وخطرت له مباحثته مع روكامبول بشأن هذا السم خاصة، فقال: لقد ذكرت الآن يا سيدتي أني قد تباحثت مع هذا المركيز بشأن السموم عامة وهذا السم خاصة، وأنه سألني أسئلة كثيرة عن تأثيره وطريقة استعماله وزمن فتكه، إلى غير ذلك، حتى إنه طلب إلي أن يراه فأريته إياه.
ففكرت باكارا وقالت: إن جميع ذلك يشير إلى أنه هو السارق، غير أن ذلك مستحيل. - ليس من مستحيل في الأرض، وإذا صدق فإن المركيز هو الذي سقاه للكونت، على أنه إذا كان جنون زوجك من هذا السم، فإني أتعهد بشفائه شفاء عاجلا مضمونا.
فأظهرت باكارا من الفرح ما لا يوصف وشكرت الله، فقال لها الطبيب: عودي يا سيدتي إلى منزلك وسأزورك غدا عند الظهر لأفحص الكونت فحصا مدققا، وسنجد من الله معونة لمعرفة الأثيم الجاني.
فودعته باكارا وانصرفت، فأوصلت أختها إلى بيتها، وعادت إلى منزلها وهي تقول في نفسها: إن المركيز دي شمري لا يمكن أن يقدم على هذه الخيانة، ومهما يكن فإن ثقتي بهذا الطبيب باتت عظيمة، حتى إني أصبحت واثقة من شفاء زوجي العزيز.
ولما بلغت إلى منزلها أخبرتها الخادمة أنه يوجد في قاعة الانتظار شاب وسيدة ينتظران عودتها. - ما اسمهما؟ - لا أعلم، غير أني أكرر أني رأيت الشاب مرة في هذا المنزل. - والمرأة؟ - لم أستطع أن أتبين وجهها لأنها مبرقعة الوجه، ولكن قامتها تشبه قامتك أتم الشبه.
فتركتها باكارا ودخلت إلى القاعة، فرأت رولاند.
وكأنما حية لسعتها حين رأته، فصاحت صيحة الدهش وتراجعت منذعرة إلى الوراء، غير أن رولاند دنا منها وركع أمامها، فنظرت باكارا إليه وإلى هذه المرأة التي تشبهها أتم الشبه وقالت لرولاند: قم يا سيدي، فقد عرفت الآن كل شيء.
غير أن رولاند بقي راكعا، فعادت باكارا إلى ريبيكا وقالت لها: من أنت يا من تشبهيني هذا الشبه العجيب؟ وكيف تجاسرت على سرقة اسمي؟
فقالت ريبيكا ببرود: إني يا سيدتي ابنة أبيك، واسمي ريبيكا.
فسكن غضب باكارا وقالت بلهجة الحنو والإشفاق: إذن أنت أختي؟ نعم، فلقد ذكرت الآن، فقد حكت لي أمي حكايتك عدة مرات.
فقالت ريبيكا: يسرني منك ما أراه من إشفاقك علي بعد أن سببت لك من المصائب ما لا يحمل معه من الإشفاق، فأصبحت أقرب إلى عيشة التوبة والصلاح بفضل هذا الحنو، ولا سيما بعد أن دعوتني أختك.
ثم ركعت أمامها بجانب رولاند وقبلت يدها وهي تشرق بالدموع، فتأثرت باكارا لما رأته وقالت لها: انهضي أيتها الأخت العزيزة فقد صفحت عنك، وأنت يا سيدي فإنك لا تزال في مقتبل الشباب ولا شك أنهم خدعوك، فإن قلبك الصغير لا يسع مثل هذ الشر العظيم، فأنا أسامحك أيضا، غير أن هذه المصيبة التي نكبتني بها لا تذكر بإزاء مصيبة هذا الرجل النبيل الذي لقبني باسمه، فيجب علينا أن نتعاون للوصول إلى معرفة ذلك الجاني الأثيم الذي مثل هذا الدور الهائل وخدعنا جميعنا على السواء.
فنظر رولاند إلى ريبيكا وقال: أنت التي حضرت بك إلى هذا المنزل بعد الإنذار الشديد قولي الحقيقة الآن. - نعم سأقول كل شيء.
ثم قصت على باكارا جميع حكايتها مع روكامبول ورولاند بالتفصيل، وكانت باكارا مصغية إليها أتم الإصغاء، فلما أتمت حديثها سألت باكارا رولاند: كيف كانت تصلك رسائلي؟ - كان يحملها إلي خادم كان عندي وكان يقول لي: إن له علاقة مع وصيفة الكونتس أرتوف، فهي تعطيه رسائل سيدتها وهو يوصلها إلي. - لقد قلت إن الخادم كان عندك، ألعلك طردته؟ - كلا، بل إنه سرقني وهرب. - ومن أدخله في خدمتك؟ - أوصاني به صديق لي يدعى المركيز دي شمري.
فذعرت باكارا وقالت في نفسها: ما شأن هذا المركيز؟ وبماذا أسأت إليه؟ فإن جميع القرائن تدل على اشتراكه بهذه الجرائم!
وبعد أن افتكرت هنيهة قالت لرولاند: إنك يا سيدي إذا كنت لا تزال في طيش الصبى، فإن لك قلبا شريفا ورثت دماءه من أبيك، فهل تقسم لي بهذا الشرف بأنك تمتثل لي في جميع ما أريد؟ - إني أقسم لك بشرفي وبشرف آبائي أني أكون أطوع لك من البنان، وسأنشر حديث غروري وانخداعي بين جميع سكان باريس كي ...
فقطعت باكارا حديثه وقالت: أول ما أسألك إياه أن لا تفوه بكلمة عن جميع ما علمته، وأن تدع الناس على اعتقادهم الأول بي؛ ولذلك فإن أختي ريبيكا ستبرح باريس في صباح غد مبرقعة الوجه بحيث لا يراها أحد، فإن ساعة براءتي لم تحن بعد.
41
في صباح اليوم التالي هب الدكتور صموئيل من رقاده فدخل إلى غرفة شغله، وبدأ بمطالعة جرائد المساء، فاستلفت نظره مقالة بعنوان «جريمة عظيمة» بدأت كما يأتي:
كثرت الجرائم في هذه الأيام دون أن يتمكن رجال الأمن من معرفة الأثيمين؛ فقد نشرنا من قبل حادثة مقتل القوزاقي الذي كان قادما من روسيا إلى باريس، أما اليوم فإننا ننشر حادثة أشد فظاعة، وهي أن سكان إحدى الحارات في شارع مونتمارتر رأوا في المساء أن المياه تخرج بغزارة من باب غرفة تسكنها امرأة تدعى مدام فيبار، وبعد أن أيقنوا أنه لا يوجد أحد في الغرفة وخافوا خطر المياه المتدفقة، أسرعوا إلى استدعاء الشرطة.
فأقبل رجال الشرطة وكسروا الباب، فوجدوا أن المياه تخرج من قبو بعد امتلائه، ورأوا رجلا منزويا في إحدى زوايا الغرفة والدماء تسيل من كتفه وهو يحدق بعينيه تحديق المجانين، فأخرجوه ونضحوا المياه من القبو، فظهر لهم قتيلان أحدهما مدام فيبار صاحبة الغرفة وقد وجدت مخنوقة، والآخر يدعى فانتير، وهو مطعون بخنجر، أما الرجل المجنون فقد عرف بعد التحقيق أنه يدعى زامبا، وقد كان خادم غرفة الدوق دي مايلي ... إلخ.
فلما أتم الطبيب تلاوة المقالة شغل باله أمران، أحدهما جنون زامبا الناتج عما لقيه من الرعب، والثاني مقتل هذا الرجل في نفس اليوم الذي مات فيه سيده الدوق دي مايلي، فذهب إلى المحل الذي عرضت فيه جثتا القتيلين، ففحصهما فحصا دقيقا، ثم ذهب إلى المستشفى الذي نقل إليه زامبا وطلب أن يراه، فما أوشك أن ينظره حتى تراجع منذعرا؛ إذ علم أنه نفس الخادم الذي ادعى أن العربة صدمته حينما كان المركيز دي شمري عنده، فخرج لمعالجته تاركا المركيز في غرفته كما عرف القراء.
وعند ذلك غادر المستشفى وذهب إلى منزل الكونت أرتوف، فاستقبلته باكارا وأخذته إلى الحديقة، حيث كان الكونت جالسا على مقعد وهو يرسم على الرمل بعصاه الحرف الأول من اسم باكارا، غير مكترث بشيء مما حوله، فإذا أتم رسمه محا الحرف نفسه، وهكذا دون انقطاع.
وكان الطبيب يراقبه، فلما أيقن أنه لا يهتم إلا بأمر واحد، علم أنه مسموم لا محالة بذلك السم الهندي، فالتفت إلى باكارا وقال: اطمئني يا سيدتي فإني سأشفيه بإذن الله، واسمحي لي أن أسألك سؤالا واحدا، وهو هل كانت علاقاتكم وطيدة مع الدوق دي مايلي؟ - نعم.
فأخرج الجريدة من جيبه وطلب إليها أن تقرأ ذلك الفصل الذي قرأه، فلما قرأته قرأت اسم فانتير ومدام فيبار، جمدت عيناها وقالت: كل ذلك من صنع أندريا.
وكان الكونت لا يزال يرسم رسمه على الرمل، فلما ثابت باكارا من دهشتها أشارت إلى الطبيب أن يتبعها، وخلت به فقالت: إن كل ما قرأناه وعلمناه يدل على حدوث الجريمة، ولكن الظلمات تكتنفنا فلا نعلم شيئا أكيدا، وينبغي أن نخرج من هذه الظلمات إلى النور، ولنبدأ بما عثرنا عليه أمس، فلقد ثبت لنا أن السم قد سرق من غرفتك. - هذا لا ريب فيه. - ثم إنك أصبحت واثقا أن السارق هو المركيز دي شمري. - لم يعد لدي أقل شك، فلقد ذكرت إلحاحه علي بالحديث بشأن هذا السم. - وقد ثبت لك اليوم أن جنون زوجي كان لشربه السم. - وذاك أكيد أيضا. - إذن اسمع ما حدث لي.
ثم قصت عليه حديث رولاند وريبيكا بالتفصيل، إلى أن قالت له: إن ريبيكا لا تعرف الرجل الذي كان يغويها، ولكنها عرفت المنزل الذي كان قادها إليه في أول ليلة لقيها، وهو في شارع سوسانس.
فأجفل الطبيب وقال: إن للمركيز دي شمري منزلا في الشارع يستقبل فيه باسم فريدريك. - ألعلك ذهبت إلى ذاك المنزل؟ - عدة مرات، فقد كان يدعوني إليه لمعالجة رجل بحار مقطوع اللسان، وشوهت القبائل المتوحشة وجهه بالوشوم.
فارتعدت باكارا عند سماعها قول الطبيب وقالت: أتقول إنه مشوه مقطوع اللسان؟
فتعجب الطبيب لاضطرابها وقال: هل تعرفين الرجل؟
كيف لا أعرفه وأنا التي قطعت لسانه بعد أن لاقيت منه الأهوال الشداد، فإن الرجل الذي قال عنه المركيز دي شمري إنه بحار إنكليزي ما هو إلا الفيكونت أندريا؛ أي السير فيليام.
وعند ذلك قصت باكارا عليه حكاية أندريا إلى أن قالت: إن فانتير ومدام فيبار كانا من أعوانه، ولقد حاربت هذا الرجل أربعة أعوام حروبا هائلة كنت المنتصرة في ختامها، ولا شك أن فانتير وتلك العجوز لم يقتلا إلا بأمره، ولا شك أيضا أن المركيز دي شمري كان آلة بيد أندريا، فانتقم مني بما صنعه بزوجي وبثلم شرفي، غير أنه إذا كانت فائدة أندريا الانتقام، فأية فائدة لهذا المركيز من هذا الانتقام؟
انذهل الطبيب مما سمع وقال: إن هذا سر غامض! - أنت واثق من أن زامبا الذي رأيته في المستشفى هو نفس الخادم الذي عالجته عند باب منزلك حين سرق منك السم؟ - أتم الثقة. - إذن لنبدأ به، إنه لا شك شريك السارق، ولم يعد لدي ريب الآن أن الدوق دي مايلي سيد هذا الخادم قد مات مسموما باليد نفسها التي دست السم للكونت أرتوف، ولا أعلم الآن حقيقة هذا الرابط السري الذي يوثق بين أندريا والمركيز وزامبا، غير أن هذا الخادم كان يدعى زامبا حقيقة، فقد كان قبل أن يخدم الدوق خادم الدون جوزيف الذي قتلته خليلته في مرقص الجنرال الإسباني منذ شهرين، وقد كان الدون جوزيف هذا خطيب ابنة الدوق سالاندريرا.
فقال الطبيب: نعم، لقد سمعت بشيء من هذا. - لا أعلم الآن لماذا دخل زامبا في خدمة الدوق بعد قتل سيده، ولكن هذا اتفاق غريب؛ وهو أن سيده كان خطيب ابنة الدوق، وكان الدوق دي مايلي يحبها أيضا وقد طلب الاقتران بها، وكان ينتظر أوراقا خطيرة من روسيا تحمل الدوق الإسباني على الرضى بتزويجه ابنته متى اطلع عليها، على أننا مع جميع ما عرفناه لا تزال تحيط بنا الظلمات، أتعرف أين نجد النور الذي يبدد هذا الظلام ويكشف لنا الغامض عن هذه الأسرار؟ - أين؟ - في عقل الرجل المفقود الذي يسمى زامبا، أتظن أن شفاءه من الممكنات. - نعم، وقد يشفى بسرعة، فإن جنونه لم يحدث إلا على أثر الرعب الذي تولاه. - إذن اعلم أنه إذا كان هذا البحري المشوه هو أندريا، وإذا كان المركيز دي شمري آلة بيد أندريا، وإذا كان الدوق دي مايلي قد مات مسموما؛ فإن الدقائق تعد بالساعات. - ولماذا؟ - يجب السرعة، فإن قريحة أندريا الجهنمية لا تقف عند حد فضيحة امرأة وقتل رجل. - إذن فلنسرع، وأول ما أطلبه إليك أن تسألي أحد أصحابك من ذوي النفوذ أن يساعدني لدى الحكومة، فتأذن لي بمعالجة زامبا في منزلي. - إن ذلك سهل ميسور. ثم قامت من ساعتها وكتبت كتابا مطولا بهذا الشأن إلى الكونت أرمان دي كركاز وأعطته للطبيب، فأخذه وودعها وصار به إلى الكونت أرمان.
وبعد ثلاث ساعات ورد إليها كتاب من الطبيب يقول فيه إنه فاز بمراده، وإن الكونت ذهب بنفسه معه إلى دار الحكومة، وإن زامبا عنده في بيته.
فلما قرأته قالت في نفسها تخاطب أندريا: إنك قد عدت إلى القتال، ولكني سأظفر بك أيضا، وفي هذه المرة لا أبقي عليك، ولا أكتفي بتشويه أعضائك، بل أريح الأرض من وجودك.
غير أن باكارا أخطأت، فليست هي التي ستقتل السير فيليام.
42
بعد ثلاثة أيام من الحوادث المتقدمة قدمت باكارا إلى منزل الطبيب صموئيل، فأخبرها أن زامبا قد عاد إليه صوابه، وأنه عازم على أن يبوح بكل شيء، فدعوه إلى غرفة السموم، وجعلت باكارا تسأله وهو يجيبها، ثم لما انتهت من أسئلتها جعل يخبرها بما عرفه من شأن هذا الرجل المتنكر، وكيف أنه تنكر بزي سائس وشك الدبابيس بكرسي الدوق دي مايلي، فأدمى يديه وسرت إليه العدوى من جواده.
ثم ذكر لهم بالتفصيل جريمة المؤامرة على فانتير، وقتل مدام فيبار، وكيف أنه سمع تلك العجوز دعته روكامبول.
فصاحت باكارا صيحة منكرة، وذكرت دون أن تريد اسم أندريا، غير أنها ما لبثت أن ثابت من دهشتها حتى انكشفت تلك الأسرار بعض الانكشاف، وأيقنت أن روكامبول أراد قتل هؤلاء الثلاثة خشية على سره من الافتضاح، فقالت للطبيب ولرولاند الذي كان يصحبهما: دعاني أسأل هذا الرجل، فإني أعلم من هذه الأسرار ما لا تعلمان.
ثم التفتت إلى زامبا وقالت له: اعلم أيها الرجل أنك في قبضة الحكومة التي عهدت إلى الطبيب صموئيل معالجتك، فمتى شاء الطبيب ردك إليها، أصغ إلي الآن فإنك قد اعترفت بإقرارك أنك أنت الذي قتلت فانتير، ويكفي أن يشهد الطبيب والمسيو رولاند عليك، فلا يكون جزاؤك إلا الإعدام.
فاصطكت أسنان زامبا من الخوف وأجاب: عفوك يا سيدتي! - إن العفو مناط بإقرارك بكل شيء.
فيأس زامبا عند ذلك ولم يجد له منقذا إلا الإقرار التام، فحكى لها كيف أن روكامبول اطلع على سر جريمته التي ارتكبها في إسبانيا، فاستعبده من أجلها، وذكر لها جميع ما كان يحدث بينهما في شارع سرسانس.
فقالت باكارا عند ذلك لرولاند: أعرفت الكونت فابيان؟ - نعم، إنه من خير الناس . - وكيف علائقه مع ابن عمه المركيز شمري؟ - إنها على أحسن حال، فإن الكونت يحبه حبا شديدا.
فعجبت باكارا من ذلك وقالت لزامبا: أعرفت المركيز شمري؟ - نعم، رأيته مرتين، إحداهما في منزل الدوق سالاندريرا، والثانية في جنازة الدون جوزيف.
فسألت باكارا الطبيب عند ذلك أن يتحفظ على زامبا في منزله، فأمر خادمه بالذهاب به إلى الغرفة المعدة له، بعد أن وعده خيرا، ولما خلت باكارا برولاند والطبيب قالت لهما: إني أرى أن تسميم زوجي وتسميم الدوق دي مايلي وقتل الدون جوزيف جميعها صنع يد واحدة، وأن صاحب هذه المكيدة كان يحاول أمرا واحدا، وهو إبعاد هذين الخطيبين عن ابنة الدوق الإسباني ليزوجها برجل ثالث، أما هذا الرجل فلا أعرفه، ولا أخشى إلا أن يكون روكامبول الذي لا يقف بجرائمه عند حد، ولكني لا أدري كيف يجسر هذا اللص على الطمع بزواج ابنة دوق من أعظم عظماء الإسبان، ولكني أرجح أنه يخدم سواه في هذه المهمة.
أما أوجه تهمة المركيز دي شمري فهي متعددة: منها أنه أرسل خادما إلى رولاند فمثل دورا مهما في الخيانة التي اتهمت بها، ومنها أنه هو الذي سرق السم الذي تسمم به زوجي، ومنها أنه كان يقيم في منزل سري له في شارع سرسانس، وهو المنزل الذي كان يعالج فيه البحار الإنكليزي، وقد كان زامبا يجتمع به في ذلك المحل نفسه؛ أي إن الطبيب عرفه فيه باسم المركيز دي شمري كما عرفه زامبا باسم روكامبول في اليوم الأخير، فهل حدثت جميع هذه الجرائم لخدمة المركيز دي شمري؟ وإلا فأية علاقة بينه وبين روكامبول؟ وهل يمكن أن يكون الاثنان واحدا؟ إن ذلك لا يصدق.
فقال رولاند: إن للمركيز دي شمري شهرة واسعة، وليس بين أصحابه من يذكره بسوء، وعندي أنه يستحيل أن يكون له أدنى اتصال بمثل هؤلاء اللصوص. - لم يبق إذن إلا أن يكون روكامبول قد تقمص بالمركيز دي شمري؛ لأن هذا المركيز فارق أهله صغيرا وعاد بعد أعوام طويلة، فلا يبعد أن يكون هذا اللص وقف على سر هذه العائلة وجاءها بصفة ابنها وهو واثق من موته، أو أنه قتله واطلع على أوراقه، فإني أعرف كثيرا من أمثال هذه الحكايات.
فقال رولاند منكرا عليها هذا الظن: إن كل شيء ممكن، ولكنك يا سيدتي رأيت المركيز وأنت تعرفين روكامبول كما تقولين. - نعم، ولكني ما رأيته غير مرة ولم أنتبه إليه، ولم يعد لي بد من أن أراه؛ لأن هذا الشك قد تمكن مني فلا يزول.
أجابها رولاند: إن ذلك سهل، فإني أدعوه إلى منزلي للطعام، وتختبئين في غرفة لترينه وتسمعين كلامه كما تشائين.
فقال الطبيب: إن ذلك غير ميسور الآن؛ لأن المركيز قد غادر باريس منذ ثلاثة أيام.
فقالت باكارا: ألعله سافر وحده؟ - كلا، بل صحب معه ذلك البحار المشوه الذي تقولين إنه أندريا. - إنه أندريا دون شك، ولكن أعلمت أين سافر؟ - نعم، إنه ذهب إلى أرض لصهره يريد بيعها للدوق سالاندريرا، وقد ذهبت العائلتان منذ أسبوع، ولحق بهما المركيز منذ ثلاثة أيام.
فقالت باكارا: إني أعرف هذه الأرض، ولا بد لي أن أرى المركيز.
ثم قالت لرولاند: احضر إلي في صباح غد، واحرص أشد الحرص على أن تبوح بشيء مما سمعت؛ لأن كلمة واحدة تخرج من فمك، تفسد جميع ما أنا شارعة فيه.
ثم ودعتهما وعادت إلى منزلها.
وفي اليوم التالي جاء رولاند حسب الاتفاق، فذهل إذ رأى باكارا مرتدية بملابس الغلمان، ومتأهبة للسفر، فقالت له: إني تنكرت بهذا الزي كي يسهل اختلاطي بخدام الكونت فابيان، فأرى المركيز كل حين. - ألعلك ذاهبة إلى تلك الأرض؟ - بل إني ذاهبة معك إلى أرض عمك المجاورة لها، فهلم بنا إليها، وإني أرجو أن أتبين فيها وجه المركيز على ما أشاء.
فامتثل رولاند لها وخرج الاثنان فركبا مركبة وسارت بهما إلى تلك الأراضي، غير أنهما ذهبا بعد الأوان؛ لأن أندريا وروكامبول سبقاهما بأربعة أيام جرى في خلالها من الحوادث ما سنقصه على القراء.
43
وليس في هذه الأراضي التي أراد الدوق سالاندريرا شراءها من صهر روكامبول سوى أنها زراعية طيبة المناخ ، وفيها قصر قديم البناء تنبسط أمامه مروج خضراء، تنتهي بواد عميق هائل نشأت الصخور في جوفه، واشتهرت تلك الأرض بذلك الوادي.
وكان فابيان وامرأته والدوق وابنته أقاموا جميعا في هذا القصر المتسع، وجعلوا يخرجون كل يوم للصيد في الأراضي الفسيحة، فيقضي الدوق الإسباني حاجتين؛ وهما النزهة وفحص تلك الأرض التي عزم على شرائها.
وقد تمكنت الصداقة في هذه الأيام القلائل بين امرأة فابيان وبين الغادة الإسبانية، حتى أفضت إلى أن الغادة باحت لها بحبها لأخيها، وأنها تخشى معارضة أبيها.
وكانت امرأة فابيان تحب روكامبول حبا شديدا لاعتقادها أنه أخوها، وهي لم تصحب زوجها بهذه الحيلة إلا تمهيدا لزواجه بابنة الدوق بما تبذله من المساعي في هذا السبيل، فكانت تؤنس الشيخ وتلاطفه حتى مال إليها ميلا عظيما، وباحثته مرارا بشأن أخيها بأحاديث مزوقة جعلت لروكامبول مكانة عظيمة في نفس الدوق، فرضي عنه كل الرضى.
وكانت تكتم جميع هذه الأحاديث عن الغادة الإسبانية، ولكنها كلما خلت بها أملتها خيرا إلى أن قالت لها ابنة الدوق يوما: أراك تكتمين عني أمورا كثيرة، وكلما سألتك عما يجري بينك وبين أبي تدعينني إلى الصبر وتحملينني على الرجاء. - نعم، ولا أزال أدعوك إلى الرجاء. - سأرجو كما تشائين، ولكن ألا تقولين لي على أي أمر تعتمدين في هذا الرجاء؛ لأن أبي لم يقل لي كلمة بعد عن المركيز. - إذن، أصغي إلي لأني سأخبرك بكل شيء، إن أباك يحبك حبا يقرب من العبادة، ولا أكتمك الآن ما يحملني على هذا الرجاء ما قاله لي، وهو أنه سيدع لك الخيار في انتقاء الزوج الذي تهواه نفسك.
فظهرت علائم السرور على محيا ابنة الدوق وقالت: أهو الذي قال لك هذا الكلام؟ وبأية مناسبة جرى الحديث؟ - أتذكرين يوم ذهبت مع أمك وزوجي للنزهة، وبقيت أنا مع أبيك في القصر. - نعم. - بينما كنت أتنزه وإياه في الحديقة سألني: إني أعجب كيف أن أخاك المركيز لم يحضر معنا؟ فاضطربت عند ذلك اضطرابا لم يخف على الدوق، وسألني عن أسباب اضطرابي، فقلت له عند ذلك إن أخي يحب حب يأس، وإن هذا الحب الذي لا رجاء فيه حال دون قدومه إلى هذه القرية، فعجب أبوك وقال: كيف ذلك؟ ألعل تلك الفتاة التي يهواها مقيمة في القرية؟ قلت: كلا، بل إنها أتت إليها منذ ثلاثة أيام. فلما قلت هذا الكلام الصريح اضطربت اضطرابا عظيما، وكنت أحسب أن حياتي متعلقة بتلك الكلمة التي ستخرج من فم أبيك، بل كنت أخشى أن يقول لي: إن أخاك عظيم الجسارة. غير أنه لم يقل شيئا من ذلك، ولكنه دهش لسؤالي ثم قال: أأنت واثقة مما تقولين؟ قلت: كل الثقة يا سيدي لأني أخته. قال: أيحبها حبا شديدا؟ قلت: ليس وراء حبه حب؛ لأنه عاش في بلاد الهند ولم يعرف الهوى قبل أن يرى ابنتك، فملكت شغافه وتمكن حبها من فؤاده أي تمكن، حتى بت أخشى عليه من الهلاك؛ لأنه يكتم أمره في صدره، وهو يعلم أن عائلة سالاندريرا أعرق نسبا من عائلته وأبعد شهرة.
فقاطعني أبوك قائلا: إن عائلتي يا سيدتي أكثر شهرة غير أنها ليست أعرق نسبا. قلت: وفوق ذلك يا سيدي إن التباين عظيم بين ثروتك وثروته. فابتسم الدوق وقال لي بانعطاف: إننا متى اشتركنا زال التباين. ثم أضاف بكآبة: إني عزمت يا سيدتي عزما أكيدا أن أطلق لابنتي الحرية باختيار الزوج الذي تريده، وذلك لأني اخترت لها ثلاثة خطاب فقضي عليهم جميعا حتى تشاءمت من نفسي، وبت أشفق على من يقع عليه اختياري من الخطاب.
فاختلج فؤادي عند هذا القول وقلت: إذن إذا كانت ابنتك تحب أخي أيمكن أن ... فقاطعني قائلا: إنها تغدو دون شك المركيزة دي شمري في أقرب حين، ولكني أخشى أن لا يكون هذا الحب متبادلا بينهما، وأن تكون ابنتي تحب سواه.
فصحت صيحة فرح وقلت: سترى أنها تحبه، وإذا شئت أن تمتحن ذلك فاذكر اسمه عرضا ونحن على المائدة، ثم انظر إليها فترى ما يكون. أجاب: حسنا سأمتحن هذا الامتحان.
وقد فعل ذلك، فإنكم بعد أن رجعتم من النزهة وجلسنا جميعا على المائدة، ذكر أبوك اسم أخي، ثم نظر إليك ونظرت معه، فرأيت أن وجهك قد احمر احمرارا شديدا، وابتسم لي أبوك ابتساما خفيا أشار فيه إلى اقتناعه من تبادل الحب، وبعد أن قمنا عن المائدة خلا بي وقال لي: لقد أصبت فيما قلته لي، فاكتبي لأخيك أن يحضر. وقد كتبت له أمس.
فنهضت ابنة الدوق وأكبت على عنق امرأة فابيان تقبلها، فجعلتا تتعانقان وكل منهما تنادي صاحبتها بأختي.
وكان الكتاب وقد وصل إلى روكامبول، كما يذكر القراء، فأخذ أندريا وسافر معه.
وفي اليوم التالي خرج الدوق وامرأته وابنته وفابيان وامرأته من القصر للنزهة، فلم يمشوا بضع خطوات حتى سمعوا صوت مركبة قادمة، فوقفوا ينتظرون قدومها لندور قدوم المسافرين إلى هذه القرية، وكانوا كلهم يتكهنون عن القادمين بها ما عدا ابنة الدوق وامرأة فابيان، فإنهما كانتا موقنتين أن القادم هو المركيز دون سواه.
ولم يطل وقوفهم حتى وصلت المركبة وكان فيها روكامبول وأندريا، فلما رآهم روكامبول وثب مسرعا إلى صهره وأخته فعانقهما، وسلم على الدوق وامرأته وابنته باحترام شديد ممزوج بمظاهر الكآبة، ثم قال لهم: إني أحضرت معي ذلك البحار المسكين لتغيير الهواء، فقد كان يضنيه انحباسه في المنزل.
فقالوا جميعا: حسنا فعلت.
وعادوا إلى المنزل فوضعوا أندريا في غرفة خاصة، وعينوا أحد خدام القصر لخدمته، ثم خرجوا جميعا للنزهة ثانية، فعلم روكامبول من أخته ومن ابنة الدوق كل ما تقدم لنا بيانه، ففرح فرحا لا يوصف وأيقن من زواجه بتلك الغادة الإسبانية التي كلفته إهراق كثير من الدماء، وعرضته لأشد الأخطار، وبعد ذلك انضم إلى الدوق وفابيان، وكانا يتحدثان بأمور الصيد، وقد اتفقا أن يخرجا في الغد لصيد الدب، فقال لروكامبول: أتخرج معنا غدا للصيد؟ - بملء الرضى، فإني تعودت صيد الوحوش الكاسرة في الهند، ولا أحب إلي من هذا الصيد.
ولما عادوا إلى القصر دخل روكامبول إلى غرفة أندريا، فأخبره بجميع ما كان، فظهرت علائم السرور على وجه هذا الرجل الذي لم يعرف قلبه الحب الصحيح إلى أن أصيب بتلك النكبة وانقطعت آماله من غرور الحياة، فعادت إليه العواطف الإنسانية، وأصبح يحن إلى روكامبول ويحبه حب الآباء للأبناء، فضغط ضغطا شديدا إشارة إلى ما تولاه من الفرح، وأخذ لوحه الحجري وكتب عليه كتابة طويلة أرشد فيها تلميذه إلى طريقة يعرض فيها حالة الدوق للخطر في الصيد، ثم ينقذه من الخطر.
فعلمها ودخل إلى غرفته، فنام نوم المطمئن وهو يحلم طول ليلته بملايين الإسبانية وتاج الدوقية.
وخرج في اليوم التالي الدوق وفابيان وروكامبول بحاشية كبيرة من الخدم وقواد الكلاب، وقد التمس روكامبول من الدوق أن يوليه إدارة هذا الصيد ففعل، فأصدر روكامبول أوامره للخدم أن يطاردوا الدب في جهة عينها لهم، إلى أن وصلوا إليها، فعين موقف الدوق فجعله بعيدا عن فابيان، واختبأ هو على مسافة قريبة منهما بين الأدغال، فجعلوا ينظرون قدوم الوحش بفارغ الصبر، وكلهم متأهب على صهوة جواده لقتاله.
وبعد ساعة علا نباح الكلاب وقدم الوحش من جهة الدوق، فصوب الدوق بندقيته عليه وأطلق النار فأخطأه، فهاج غضب الدب فأطلق النار عليه ثانية فجرحه جرحا بالغا، غير أن الوحش لم يسقط بل هاج هياجا عظيما وهجم على جواد الدوق ونشب أنيابه في ساقه، فسقط الجواد بفارسه على الأرض، وأيقن الدوق من الموت فرمي بندقيته واستل خنجره للدفاع به الدفاع الأخير، وشعر بأنفاس الدب تهب على وجهه وهو يمزق صدر الجواد، ولكنه قبل أن يصل الوحش إليه سمع دوي بندقية ورأى أن رصاصة وقعت في ظهر الدب، فترك الوحش الجواد منذعرا والتفت إلى الوراء ليرى هذا العدو الجديد.
والتفت الدوق بعده فرأى روكامبول هاجما عليه بجواده، ورأى الوحش هاجما عليه، فأطلق عليه روكامبول رصاصة ثانية، ثم ترجل عن جواده فاستل خنجره وهجم على الوحش بعد أن أصابه رصاصه بجراح بالغة، وما زالا يتجولان وروكامبول يحذره ويلتمس منه مطعنا حتى ظفر به وطعنه بخنجره طعنة صادقة بقلبه، فانقلب الدب صريعا يتخبط بدمائه.
وفيما هو يمسح خنجره بجلده غير مكترث لشيء، إذ دنا منه الدوق وقال له بصوت يتهدج: اركع يا بني واشكر الله معي، فلقد نذرت إليه نذرا وأجابني إلى دعائي.
فقال روكامبول: أي نذر هو يا سيدي؟ - إني كنت منذ خمس دقائق بين مخالب هذا الوحش الكاسر، فنذرت إلى الله أن أجعلك ولدا لي إذا سلمت من هذا الخطر، وقد سلمت منه وأنت الذي أنقذتني.
فوجف قلب روكامبول وأجاب: أنا ولدك؟ - نعم يا بني، عرفت كل شيء فإنك تحب ابنتي وهي تحبك، ولا بد لكما من القران.
وعند ذلك رأى روكامبول أن حسن الذوق والمجاملة يقضيان عليه بالإغماء، فتظاهر أنه أغمي عليه من السرور وسقط على الأرض لا يعي.
فأسرع الدوق إليه وجعل يفك أزرار ثوبه وينادي فابيان إلى أن أتى لنجدته، فرأى روكامبول أنه قد حان له أن يفيق من ذلك الإغماء الكاذب، فلما استفاق رأى أمامه الدوق وفابيان، فقال الدوق لفابيان وهو يضطرب: أصغ إلي أيها الفيكونت، إن ثلاثة خطبوا ابنتي فلقي كل حتفه دون أن يحقق أمانيه من الزواج، حتى لقد بت أخشى على المركيز وهو الخطيب الرابع، ولما كان المركيز قد أصبح ولدي وكنت مدينا له بالحياة؛ فلنسرع بعقد زواجه على ابنتي لأن هذا الزواج لا بد منه في القريب العاجل، بل إني أريد أن يكون غدا وهو يوم أحد، فتول عني إبلاغ الكنيسة هذا الزفاف الذي سنحتفل بالإعلان عنه غدا دون شك.
44
وفي يوم الأحد، أي في اليوم التالي، وعظ الكاهن في كنيسة تلك القرية الصغيرة، وأعلن الناس أنه سيحتفل قريبا بزواج المركيز فريدريك ألبرت أرنوريه دي شمري أحد ضباط البحرية في الهند الإنكليزية، على المدموازيل كسبسيون ابنة الدوق سالاندريرا.
وفي الساعة الرابعة بعد الظهر جاء المسجل إلى القصر، فخلا بالدوق ساعة، ثم خرج به إلى القاعة العمومية حيث كان ينتظرهما الفيكونت فابيان وامرأته وامرأة الدوق وأندريا وهو جالس بينهم بملابسه الرسمية، وكان روكامبول والغادة الإسبانية جالسين بمعزل عن الحضور يتناجيان الغرام.
فجعل المسجل يكتب شروط الزواج أمام الدوق وفابيان الذي كان ينوب عن روكامبول، وقد ذكر فيها ثروة روكامبول وخطيبته، وأن الدوق يحق له أن يورث ألقابه واسمه للمركيز دي شمري بعد وفاته، فيتسمى المركيز باسمه ويلقب بالدوق سالاندريرا حفظا لنسب العائلة؛ إذ ليس لها وريث ذكر.
وبعد أن أتم الكتابة أقبل الجميع وفي مقدمتهم روكامبول وخطيبته، فوقعا على صك الزواج، ثم تلاهما الباقون إلى أن انتهى الدور إلى أندريا، فقاده روكامبول إلى الطاولة وأعطاه القلم.
فأدمعت عينا أندريا حنوا على تلميذه، وجعل القلم يرتجف بيد هذا الرجل الجهنمي الذي لم يرتجف بيده الخنجر!
45
في مساء ذلك اليوم الذي فاز فيه روكامبول بما يبتغيه بعد جده الطويل، وبعد أن قتل في هذا السبيل النورية ومرضعتها والدون جوزيف والدوق دي مايلي وفانتير ومدام فيبار، وبعد أن هتك عرض باكارا وذهب بعقل زوجها، وبعد أن قتل المركيز شمري وزامبا كما يظن، كان الليل مدلهما والحر شديدا، والرياح تهب حارة والسماء متلبدة بالضباب، وعند منتصف الليل جعل الرعد يقصف والبرق يتألق في تلك السماء المظلمة.
وكان جميع سكان القصر نياما، ولم يبق صاحيا غير روكامبول، فكان يسير في غرفته ذهابا وإيابا سير المضطرب يتنازع فؤاده عاملان لا يعلم إلى أيهما يخضع.
وكان يقف خلال مسيره فيضع يديه على جبهته، ثم يعود إلى السير بخطوات غير متوازنة تدل على اضطرابه، ثم يدنو من زجاج النافذة فيفتحه وينظر إلى ذلك الوادي السحيق الذي يشرف عليه القصر، فيتراجع منذعرا ويعود إلى مشيه المضطرب.
فما أصاب هذا الرجل وقد أدرك أقصى أمانيه، فوقع على صك الزواج وتعين القران الديني في الليلة التالية؟ ألعله أصيب بنكبة بعد التوقيع على الصك، أم تأخر الزواج لعارض فجائي؟
كلا، إنه لم يصب بشيء من ذلك، ولكنه كان مضطربا لأنه كان يحاول الإقدام على أمر هائل تنازعت فيه مصلحته وعواطفه، إذا صح القول بأن لهذا السفاك الجهنمي عواطف إنسان دون أن نهين تلك الكلمة.
وكان يناجيه أثناء سيره المضطرب صوتان: صوت حب الذات والأثرة الوحشية التي كمنت في فؤاد لص قاتل يريد أن يمحو جميع براهين ذنوبه السابقة، وصوت يقرع ضميره ونفسه ويذكره واجب الإشفاق والامتنان وعرفان الجميل.
غير أن لكل نزاع نهاية، وقد انتهى تنازع نفسه بالإصغاء إلى الصوت الأول، فرفع رأسه بعد انخفاض وقال: لا بد لي من الانتهاء، فسأغدو من عظماء الإسبان، ولا يجب أن يبقى في هذه الأرض من يعرف جرائمي واسمي القديم.
وعند ذلك امتنع تردده، فزرر ثوبه ولبس قبعته وفتح باب الغرفة، فخرج منه يحمل مصباحا، ودخل إلى غرفة أندريا فوجده في سريره ولكنه لم يكن نائما، فقال له: أراك مثلي أرقا، ألعل الحر منعك عن النوم؟
فأشار برأسه إشارة إيجاب، فقال روكامبول: وأنا كذلك، وقد زاد على الحر أني سأتزوج غدا، وكيف يستطيع المرء رقادا ليلة زفافه؟ ثم إني أتيتك لأحدثك بمشروعاتي في المستقبل.
فابتسم أندريا ابتساما معنويا كأنه يريد أن يقول لتلميذه: ألعلك مللت الشر بعد بلوغك منتهى ما طمعت فيه، وأردت أن تكفر عن ذنوبك بصنع الخير؟
فأدرك روكامبول معنى ابتسامه وقال: هو ما تظن؛ إذ أصبحت في غنى عن ارتكاب الموبقات.
ثم أعطاه سيكارة وقال: هلم بنا نخرج إلى السطح فنتحدث مليا ونأمن شر هذا الحر.
فامتثل أندريا وخرج به روكامبول بعد أن ألبسه ثيابه إلى السطح المشرف على الوادي، وجلسا هناك على حافة السطح يتحدثان الواحد بلسانه والآخر بإشارات رأسه ويديه، فقال روكامبول مفتتحا الحديث: أتعلم يا عماه أني قد نلت ما لا ينال وغدوت من عظماء الإسبان، وأنا لا أعلم أين ولدت، وقد ربيت في خمارة، فنشأت بها سفاكا لا يقف بجرائمه عند حد؟
فهز أندريا رأسه إشارة إلى الموافقة وهو يبتسم إعجابا بتلميذه، فقال روكامبول: إن صفحتين تكتبان من تاريخ حياتي تكفيان لإرسالي إلى ليمان طولون، وأربع صفحات تبعث بي إلى المشنقة، ولكنك تعلم أن هذه الصفحات الأربع لا يأذن المركيز شمري سالاندريرا أن تكتب، ولقد أرشدتني يا عماه إلى التخلص من الذين وقفوا على بعض أسراري، فقتلت الثلاثة ودفنتهم في قبو واحد، فلم يعد الآن في الأرض من يعلم أن المركيز دي شمري كان يدعى روكامبول إلا أنت يا عماه.
فابتسم أندريا ابتساما كأنه يقول له: إنك تعلم أني لا أخونك، وأني أحبك كما يحب الأب وحيدا له.
فلم يحفل روكامبول بما رآه وقال: أتعلم أين نحن الآن؟ إننا في أقصى مكان من سطح هذا القصر الشاهق، وهو مكان منعزل لا يحيط جار، ولا تبلغ الأصوات منه سكان القصر، فلو أراد أحدهم قتل إنسان فيه لما سمع استغاثته أحد.
ولم يكن أندريا يستطيع المحادثة؛ لأن لوحه الحجري لم يكون معه، فكان روكامبول يتولى الحديث وحده فقال بعد سكوت قصير: إن الفضيلة خير ما تستنير به النفوس يا عماه، ولا سيما لمن سار مسيري في طريق الآثام، ولهذا فسأكون من فضلاء القوم إرضاء لعروسي، وأغدو في طليعة رجال الخير والإحسان كما تقتضيه ثروتي الطائلة ومركزي العظيم.
فصفق أندريا بيديه إشارة إلى الانذهال من استحالة أخلاق تلميذه، فقال روكامبول: لا تعجب أيها الأستاذ، فلقد ألقت تمثيل دور المركيز دي شمري حتى بت أصدق نفسي، ولا أحسب إلا أني ولدت مركيزا ولم أدع يوما بروكامبول، ولم أعرف أبدا هذا الرجل السافل الجهنمي الذي يدعى السير فيليام.
وقد قال هذا القول وجعل يضحك ضحكا شديدا، فلم يستاء أندريا، وحمل تلك الإهانة على محمل المزاح.
ثم عاد روكامبول إلى الحديث فقال: لقد أحسنت إلى نفسي حين لقيتك وأنت تعرض على المسارح لقبح سحنتك وتشويه خلقتك، فأنقذتك وذلك لأنك أرشدتني خير إرشاد في مسائل الدون جوزيف والدوق دي مايلي والكونت أرتوف، وليس من ينكر أنك داهية شديد الذكاء، غير أن لديك عيبين عظيمين يا عماه، أحدهما أنك لا تزال تكره أخاك الكونت إرمان دي كركاز كرها شديدا، فإذا لم أضع حدا لكرهك فقد تدفعني إلى الانغماس في جرائم أخرى؛ كي تشفي غلك دون الانتقام، وأنا أحب أن أعيش عيشا صالحا أحفظ به كرامة اسمي الشريف. وعيبك الثاني أنك تجاهر بمبدأك، فقد علمتني يوما هذه القاعدة، وهي أنه إذا اشترك اثنان في جريمة وجب على القوي منهما أن يقتل الضعيف.
فلما سمع أندريا هذا القول ملأ الشك قلبه، وحاول أن يقف فوضع روكامبول يده على كتفه وقال له ضاحكا: اجلس أيها الأبله ودعني أتمم حديثي فاسمع، إننا الآن يا عماه جالسان على حافة سطح تحته واد سحيق كثير الصخور يبلغ عمقه نحو مائة متر.
فأجفل أندريا وأيقن من قصد روكامبول، فحاول النهوض غير أن روكامبول أسرع إلى عنقه يضغط عليه بيديه كما فعل بمدام فيبار وقال له: يعز علي أن يكون بيننا هذا الفراق، ويكون هذا جزاؤك مني، غير أني أعمل بما علمتني، ومثل المركيز دي شمري لا يجب أن يعرف السير فيليام.
وعند ذلك ضغط ضغطا شديدا على عنقه، فوثب أندريا مدفوعا بحفظ الحياة، وهب هبة شديدة فتخلص من روكامبول وحاول الفرار، غير أنه لم يعلم أين يفر وهو لا يرى، فأتى روكامبول وحمله يريد إلقاءه إلى الهوة، فجرى بينهما نزاع هائل أسفر عن تغلب روكامبول عليه فألقاه إلى الأرض، ووضع ركبته على صدره ويده على فمه، وقال له بلهجة المتهكم: لا تقنط لهذا الموت؛ فسنلتقي في جهنم ولا تعدم وسيلة للانتقام.
ثم دفعه إلى الهوة، فانقلب يهوي في ذلك الوادي السحيق.
فسمع روكامبول صوت سقوط جسمه وتحطمه على الصخور، ثم انقطع الصوت وساد السكون.
وعند ذلك قصف الرعد وأبرقت السماء برقا متصلا أنار الأرض كما ينيرها ضوء الشمس، فرأى روكامبول على ضوء البرق المتألق جثة أستاذه أندريا ملقاة في أسفل الوادي، وذكر في الحال ما قاله في حياته وهو: «أنا النور الذي يضيء نجم سعودك، فإذا هلكت انطفأ النجم.»
فجثا روكامبول على ركبته وقد هاله ما فعل فقال: رباه! لقد خفت، أنا الذي لم أعرف الخوف!
وحق لروكامبول أن يخاف، فقد أطفأ بيده تلك الشمعة الجهنمية التي كان يسترشد بها في ظلمات الآثام، وأما أندريا فقد زجته ذنوبه إلى الهوة الأبدية، فقتل باليد التي طالما دفعها للقتل وصح فيه قولنا:
هكذا عاقبة الإثم فما
لقي الإنسان إلا ما صنع
بشر القاتل بالقتل فمن
زرع الشر جنى مما زرع
انتقام باكارا
انتقام باكارا
انتقام باكارا
انتقام باكارا
روكامبول (الجزء الرابع)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
انتقام باكارا
1
بعد مضي نحو شهرين على الحوادث التي سبق ذكرها في رواية الغادة الإسبانية، كانت مركبة بوستة قد سافرت من أورليان في الساعة العاشرة من المساء تجري في أرض تورين، نحو الساعة الخامسة من الصباح على الطريق العمومية، المؤدية من تورين إلى مدينة صغيرة تدعى ج ... توجد على نحو ثلاثة فراسخ منها أرض أورنجاري، التي ماتت فيها منذ 18 عاما المركيزة دي شمري أم المرحوم هكتور دي شمري، والآنسة أندري برينوت.
وكانت المركبة المذكورة تقل رجلين قد اشتهرا عند القراء، وهما الفيكونت فابيان دي أشمول والمركيز فردريك ألبر أنوري دي شمري؛ أي: بطلنا روكامبول.
وكان روكامبول يومئذ كالخيال الذي لا حراك له، أصفر اللون حائر البصر، تبدو على وجهه علائم القلق، وينبئ منظره أنه واقع في شرك حزن قاتل؛ لأن رفيقه كان ينظر إليه، فيراه غائصا في لجة عميقة من الأحزان، ينظر إلى جانبيه نظر رجل قد تملك الجزع نفسه، وضاقت عليه الدنيا برحبها.
قبض الفيكونت على يد المركيز قبضة إشفاق، وقال له: ألا تدري أيها الصديق أنك تخيفني؟
فتكلف روكامبول الابتسام، وأجاب: أنا أخيفك أيها الصديق؟! - نعم. - وكيف ذلك؟ - إن رؤيتك على هذه الحالة من القلق والغم منذ شهرين لم أعلم لها سرا. - ليس في ذلك ما يخيف، ومعرفة هذا السر سهلة جدا. - مهما تكن معرفة هذا السر سهلة، فإنني لم أدركها بعد. - أما تعلم أنني أحب ابنة الدوق سالاندريرا؟ - وماذا يحزنك من ذلك، وأنت ستتزوج بها بعد ستة أسابيع؟
فهز روكامبول رأسه، وقال: إن نفسي حزينة ضعيفة الأمل، وكان صوته مختنقا حتى لم يكد فابيان يسمعه.
فقال الفيكونت: إني أشعر أنك ضعيف العواطف، وليس لك جلد وصبر على حلول المقادير. - بربك لا تذكر لي هذا الكلام، فإنه يزيدني حزنا. - كنت أظنك أيها الأخ العزيز أكثر صبرا، وأقوى جلدا على تقلبات الأيام وطوارق الحدثان، ولا سيما أن ما تستعظمه مما ألم بك ليس في الحقيقة شيئا عظيما، إن حظك السعيد الذي تطلبه إنما قد تأخر إلى ستة أسابيع، فستقترن بعدها بابنة الدوق سالاندريرا، وتكون أسعد حظا وأوفر سرورا، وإذا كانت المقادير السيئة قد قضت بموت أبيها في صباح اليوم، الذي كان تقرر فيه قرانكما، فكان من الضرورة تأخير هذا القران، فما ذلك من الأسباب التي توهن عزمك، وتضعف أملك لتهرع إلى هذا اليأس الذي أنت فيه، وبالله كيف لا يكون من الضرورة تأخير هذا القران، وقد التزمت هذه الغادة الإسبانية أن تبدل حلتها البيضاء بحلة سوداء حدادا على أبيها، وعلى خادمك البحري أيضا، الذي مات ضحية العاصفة القوية في نفس الليلة التي مات فيها صاحبنا الدوق سالاندريرا.
فتنهد روكامبول ولم ينبس بكلمة.
فعاد فابيان إلى كلامه، وقال: إن الغادة الإسبانية لم تكن تستطيع الاقتران بك في اليوم التالي لوفاة والدها، وكان من الضرورة أن يتأخر زمن الزواج طبقا للعادة المتبوعة عند الإسبانيين في الحداد، ولا شك أن هذه الغادة لا تزال تحبك كالمحبة السابقة، بل إن محبتها تزيد مع توالي الأيام، وهل مر عليك يوم واحد لم تحصل فيه على رسالة ودية منذ ضمها مع والدتها قصر سالاندريرا، حيث احتفل بجنازة الدوق؟ - كلا؛ فهي تراسلني كل يوم. - ومع ذلك فأنت حزين قلق البال بدون انقطاع، تندفع مع تيار الهواجس الكاذبة، حتى كأنك في حلم عميق تصدق فيه كل ما يبدو لك ويمر ببالك، ولقد مضى بضعة أيام وأنا وأختك بلانش امرأتي في قلق وخوف من حالتك الحاضرة. - إنني أقاسي في نفسي عذابا كعذاب الموت. - أجننت أيها الصديق؟! أما ترى أن يوم سعدك سيحل في القريب؟ - ومن يعلم ذلك؟
لفظ روكامبول هذه الجملة الوجيزة والاضطراب آخذ منه أشد مأخذ، ثم ما لبث أن تظاهر بالسكينة والدعة، ورفع رأسه وهو يتكلف الابتسام، وقال: كأنك أنت لا تكترث للهواجس، ولا تضطرب منها؟ - كلا، فلا تأثير لها علي. - إذن، فما أسعد حظك! - كأن في نفسك شيئا تريد قوله: وإلا ماذا تعني بهذا الكلام؟ - أريد أن أقول: إنني قد طالما علقت الآمال بالسعادة ونيل المنى ، وما زال يبدو في خاطري أنني أنخدع ببارق الآمال، ولا أقصد غير السراب، وقد حلمت حلما راعني جدا، وما زلت موجسا خيفة من مغزاه، وقد كان في الليلة التالية لموت الدوق سالاندريرا، وذلك البحري التعيس ولتر بريت. - وما هو هذا الحلم؟ - هو أني بعد أن أغمضت عيناي حلمت أن رجلا يوقظني فاستيقظت في الحلم، وإذا برجل يلبس أثوابا بيضاء قد تقدم مني، وجلس عند موضع قدمي من السرير، فحدقت به فرأيته البحري ولتر بريت، ولكني رأيته على غير هيأته الماضية، فليس عليه شيء من علائم التوحش، وليس أعمى العينين كما كان، فمنظره جميل وعيناه صحيحتان زرقاويتان، وابتسامته ابتسام رجل عظيم، ثم إنه ما لبث أن نظر إلي قائلا: إنني انتقلت إلى الحياة الثانية، وما أتيت إليك إلا لأخبرك بالمستقبل ... وأشار بيده إلى السماء من النافذة المفتوحة، وأراني بين الغيوم المتكاثفة نجمة زاهرة، فهذه النجمة كانت عندئذ سافرة زاهية، ثم لم يكن أكثر من لحظة عين، حتى رأيتها كأنها تضطرب، ثم سقطت في الفضاء واضمحلت ولم يبق لنورها أثر. - ومن الذي لا يضحك عندما تقص عليه هذا الحلم، ويعلم اضطرابك منه. - بالحقيقة إنني أعتقد أن هذه النجمة هي نجمة حياتي. - ما هذا الجنون؟ - ونفسي تحدثني بأنه من المستحيل أن أقترن بالغادة الإسبانية. - لو لم تكن عاشقا لعددتك مجنونا، ولكن العشاق تكثر عليهم الهواجس، ولا سيما أنك قد زاد ما اتفق من موت الدوق، وتأخير الزواج هواجس بالك المتغلبة عليك، فهرعت إلى الحزن واليأس على أنك في الحقيقة ستنال عن قريب غاية مناك، وإنني متحقق بأنك ستقترن بابنة الدوق سالاندريرا، وهي ستصير المركيزة دي شمري قبل مضي شهرين.
فكأن كلام فابيان كان يعيد إلى روكامبول بعض الآمال، فانتعش قلب روكامبول، وقال لفابيان وهو يبتسم عن أمل وفرح: عسى أن يحقق الله أملي فمن اتكل عليه لا يخيب، وأنا قد رجعت الآن إلى نفسي، فظهر لي أن اليأس الذي جنحت إليه ما كان إلا من كثرة هواجسي الكاذبة، وأن الأولى بي أن أعود إلى الرجاء والاتكال على الله.
فقال فابيان: الحمد لله فإن مرادك قريب المنال، فاجتهد أن تطرد عن خاطرك كل هاجس كاذب، وأن تبدو دائما مستريحا مطمئن البال لا يبدو عليك أثر من علائم الحزن واليأس. - سأجتهد في كل ذلك، ولا أكون إلا كما تقول، ولكن هل نقيم مدة طويلة في الأورنجاري؟ - إننا ليس لنا فيها أشغال نروم قضاءها، وما مجيئنا إليها إلا للتنزه وترويح النفس، وأنت لم تذهب إليها منذ أتيت من بلاد الهند، وأنا قد تركت أشغالي لأجل الحضور بك إليها، فلا غرو إذن إن قضينا فيها أياما قليلة نشاهد أماكنها الجميلة، ونشرح الصدر بطيب هوائها.
فتنهد روكامبول تنهد جزع لما سمع أن مدة أيامهما فيها ستكون طويلة.
تابع فابيان: لما تتنهد وتجزع، فإنني قد اتبعت نصيحة طبيبك صاموئيل إليوت، فهو الذي أشار إلي بإطالة هذه السفرة بالأورنجاري من أجل شفاء نفسك، وزوال الهم عن قلبك.
فارتعش روكامبول من سماع هذا الكلام، ولم ينطق بكلمة.
فقال فابيان: إن الطبيب الذي عرضت عليه حال صحتك مرارا كثيرة منذ دخولنا إلى باريس قد انفرد بي منذ أيام، وقال لي: إنني أصنع حسنا إذا سافرت بك من باريس مدة أيام؛ لأجل تغيير الهواء، وقد أردت تلبية إشارته وعرضت عليك السفر إلى الأورنجاري فرضيت به.
فقال روكامبول وقد تناول يد فابيان، وتظاهر بالسكينة: ربما كان الطبيب مصيبا بما أشار به، فإنني أشعر أن ضيق الصدر عن الصبر هو الذي يسبب آلامي، وكثرة الغم تسقمني، وتكثر هواجس نفسي، ولكن يجب أن أكون اليوم أبعد عن الهم من الأمس، وأن لا أميل إلى التخيلات الكاذبة التي تشتد علي، وتسبب علتي، ثم قال وهو يبتسم: ويجب أن أنتظر بكل سكينة أيام سعادتي الآتية. - أتعدني بذلك؟ - نعم؛ أعدك به وعدا صحيحا.
وعند ذلك أراد فابيان أن يغير هذا الحديث؛ ليزيل عن خاطر روكامبول كل شيء يمكن أن يؤثر عليه، فقال له: أين نحن الآن من أرض الأورنجاري؟ وأطل رأسه من نافذة المركبة؛ ليرى الناحية التي هما سائران فيها، ففعل روكامبول فعله، وجعلا يرسلان بصريهما إلى جوانب تلك الأرض التي تسير المركبة عليها.
وكان ذلك اليوم من متوسط شهر أبريل، والساعة تقرب من الخمسة ونصف من المساء والسماء صافية الأديم، خالية الآفاق من الغيوم، وكانت المركبة التي تقل فابيان وروكامبول تجري عندئذ بين مروج خضراء تتصل بمدينة س ... التي تكاد المركبة تصل إليها، وكان ذلك اليوم يوم السبت، أو بالأولى يوما من أيام المواسم.
وكانت الطريق عندئذ تكاد تزدحم بالذاهبين إلى هذه المدينة من سائر القرى، وهم يسيرون عليها بين مشاة على الأقدام، وركب على الخيول وعلى العربات، وقد زادت الطريق ازدحاما بهم ولا سيما عندما وصلوا إلى قرب المدينة، فهناك ظهرت عليهم ملامح المسرعين لمشاهدة شيء عظيم، وجعل يزاحم بعضهم بعضا في دخول المدينة.
وكان يظهر من ملامحهم وكثرة عددهم أنهم يحضرون إلى المدينة لمشاهدة مشهد عظيم، وكانوا كلهم يقصدون ساحة الموسم، أو ساحة المهرجان، وقبل أن يصل راكبو الخيول والمركبات إلى المكان المذكور، كانوا يلتزمون أن ينزلوا عن خيولهم ومركباتهم، ويسيرون على أقدامهم؛ كي لا تدوس خيلهم أحدا من الجموع المزدحمة في الطرق حول ساحة المهرجان، فلم يشعر فابيان وروكامبول إلا والمركبة قد وقفت، ونزل خادم الفيكونت أي: خادم فابيان عن كرسيه، وتقدم من النافذة وقال: لا تستطيع المركبة التقدم إلى الأمام، ومن المحال أن تتقدم عن هذا الحد، فدهش روكامبول وسأله عن السبب، فأجاب: سيحل قضاء الموت بعد خمس دقائق في ساحة المهرجان، والأسواق جميعها مزدحمة بالناس والخيل والعربات عند هذا الحد، ولا يدعونها تتقدم خطوة؛ إذ لا سبيل لها.
فما كاد روكامبول يسمع لفظ القضاء حتى أجفل، واهتز من الجزع فتنهد فابيان، وقال: لقد فهمت الآن لماذا يحتشد الناس، ويتسابقون إلى دخول هذه المدينة، فقد كنا ظننا أن كثرة الوفود ناتجة عن كون هذا اليوم من أيام المواسم، ولكن مثل هذه الجموع الغفيرة، وهذا الازدحام الشديد لا يكون لأجل ذلك.
وبينما المركيز والفيكونت يسرحان أبصارهما من نافذة المركبة؛ إذ نظرا على مسافة مائة متر منهما آلة قطع الرؤوس مهيئة في ساحة يحيط بها الجنود، ثم يحيط بهم من كل جانب جماهير غفيرة من الناس، وهم يشخصون أبصارهم في هذه الآلة المخيفة، ويتساءلون عما جنى الأثيم المحكوم عليه بالإعدام، ويكادون يرتجفون هولا من شدة العبرة التي نالتهم من رؤية الآلة الهائلة، ومنظر هذا المشهد المخيف.
أما فابيان فإنه أمر بأن تساق المركبة راجعة من حيث وصلت، فقال له السائق: لا أستطيع العودة الآن؛ لأن وراءنا جماهير يتوافدون وهم مزدحمون ازدحاما، بحيث يجب أن ننتظر حلول القضاء الهائل حتى يرجع الناس الذين وراءنا، فنكون نحن بعدهم أول الراجعين من الذين أمامنا.
فتنهد الفيكونت، وقال: بالله ما هذا المشهد الفظيع، الذي ستبصره الآن عيوننا بالرغم عن إرادتنا؟
أما روكامبول فحين سرح بصره في آلة الإعدام استولى الرعب على قلبه، وحول وجهه عن النافذة كي لا يراها، فكأنه لم يهرق في عمره دما، ولم يشهد مشهدا مؤثرا من مشاهد القتل والخنق، التي كانت يده آلة في زمانه السابق، وكأن هواجسه الشديدة قد مثلت له أن هذه الآلة إن لم تكن مهيئة له في نفس ذلك الوقت، فهي ستهيأ له قريبا وتهرق دمه بمشهد أشد تأثيرا على الناس من المشهد الذي كان يراه، وبينما هو وفابيان صامتان متأثران؛ إذ سمعا امرأة بالقرب من المركبة تقول لرفيقتها: الويل لهذا الجاني التعس، فإن ساعته قد دنت، وسيعدم في الساعة السادسة.
وكان بالقرب من المرأتين رجل لا يزال راكبا على حماره يدير أذنيه إلى كل متكلم؛ ليعرف حقيقة الجريمة التي جناها ذلك الشقي المزمع إعدامه، فلما سمع كلام المرأة سألها قائلا: وماذا صنع هذا التعس، فاستحق هذا الجزاء الشنيع؟ - قتل امرأة تعسة كانت قد ربته كولد لها. - وكيف قتلها؟ - خنقها بيده القاسية، ولم يشفق عليها وهي عجوز لم يبق لها في الحياة غير أيام قليلة، فقطع حبال أيامها ظلما غير مكترث بعاقبة فظاعته.
فلما سمع روكامبول كلام هذه المرأة اقشعر بدنه، وارتجفت أعضاؤه من شدة الخوف، واصفر لون وجهه حتى كاد يموت خوفا وجزعا.
ثم سأل الرجل المرأة: وكم يبلغ من العمر هذا الشقي المحكوم عليه؟ - عمره ثمانية وعشرون عاما.
فزاد روكامبول ارتعادا ويأسا، وهو مصغ إلى تتمة الكلام.
ولم تكد المرأة تنتهي من كلامها حتى جعل القوم من كل جهة يلفظون قائلين: ها هو قد ظهر، يعنون المحكوم عليه، ولم يلبثوا أن سادت بينهم السكينة، وشملهم الهدوء ولم يعد لهم غوغاء تسمع، كأنه لم يكن في ذلك المكان جموع تضج وتلغط.
وفي الوقت نفسه بينما كان فابيان منحني الرأس متخشعا يصلي إلى الله عن هذا التعس المزمع إعدامه، أخذ روكامبول يتكلف هيئة فابيان وعمله، فخانته الحال وشعر في نفسه بقوة غالبة، رفعت أبصاره رغما عن إرادته إلى آلة الإعدام، وجعل يزداد ارتجافا من شدة الخوف، والعرق البارد يتصبب من جبهته، ولكن فابيان كان منشغلا عنه بصلواته فلم يرد.
فأول ما وقع عليه نظر روكامبول سطح آلة الإعدام يقف عليها رجلان، ما هما غير مساعدين للجلاد بقبض الأرواح، ثم لم يلبث أن رأى رجلا يصعد على سلم الآلة وهو أصفر الوجه من الخوف، يدل منظره أنه لا يزال في ريعان العمر، وهو حليق شعر الرأس مكشوف العنق؛ لأنه غرض الآلة القاطعة.
وكان الرجل المحكوم عليه بالإعدام يصعد على سلم الموت، وهو مرتجف الأقدام واهن القوى من الرعب، يعينه على الصعود اثنان من ورائه هما الجلاد والكاهن.
ولم يمض بضع ثوان حتى رأى روكامبول هذا الجاني التعس، الذي لا يزال في ريعان الشباب قد ذبلت نضارة وجهه، وبان كأنه شيخ قد أخذت السنون من جماله ورونقه، كما أخذت من قوته وهو بين الكاهن الذي يدني الصليب من فمه، ويطلب له المغفرة من السماء وبين الجلاد، الذي يقف كأنه فارغ الصبر ينتظر الأمر بإعدامه.
وما كادت تتوالى بضع ثوان حتى رأى روكامبول أن هذا التعس قد استلمه الجلاد من يد الكاهن، وقدمه إلى الأمام حيث وضع عنقه تحت شفار الآلة.
فزاد ارتعاد روكامبول واضطراب بصره، فجعل يدير في تلك الآلة بصرا قلقا، وفؤاده يخفق خفوقا قويا كأنه نفس المقدم للإعدام، وعندئذ ضج القوم ضجيجا مؤلما من فظاعة المشهد، وسقط رأس المجرم وروكامبول يهتز من الاضطراب، ويكاد يموت من شدة رعبه، فأغمي عليه وسقط قرب صهره لا يعي.
2
لنترك الآن روكامبول وفابيان في هذه السفرة، ولنعد إلى باريس لنرى ما كان بعد سفر روكامبول عنها، ففي ذات ليلة نحو الساعة التاسعة من المساء كانت الكونتس أرتوف جالسة قرب المستوقد بمنزلها الكائن في شارع بانينار، وكان عندها الدكتور صموئيل إليوت، وهو جالس لا يجول معها في الأحاديث، ولا يكلمها في شيء، فنظرت إليه وقالت له بعد أن كانت ساكتة منذ ربع ساعة: أتعلم أيها الدكتور أنه الآن قد مضى شهران كاملان على سفري إلى فرنش كونتي مع رولاند دي كايلت؟ - نعم؛ أعرف ذلك. - ويظهر أنك منذ ذلك الوقت لا تريد أن تسألني عن أمر من الأمور كما كنت أوصيتك. - نعم فقد تبعت إرادتك، وما عدت أسألك عن شيء بعدما عرفت أنك لا تريدين ذلك.
فتنهدت الكونتس أرتوف، وقالت: بالحقيقة إنني لم أطلب إليك أن تعدل عن سؤالي عن كل شيء؛ إلا لأنني أرى نفسي امرأة قد قضت أيامها بين الشرور والأعمال الفظيعة، فهي ترى أنه أولى بها أن لا تحدث أحدا بأمر من أمورها، وأن تخفي جميع أسرارها في زوايا صدرها، وتتوب عن سلوكها الماضي توبة كاملة، ولكنني اليوم أرى أنني يجدر بي أن أخفي عنك كل شيء من أسراري إلا الأمر المهم، الذي لا بد لي من إظهاره لك؛ إذ ذلك أولى بي من إخفائه.
فأحنى الدكتور رأسه ولم يجب بشيء.
فأتمت الكونتس كلامها، وقالت: أظن أن الساعة قد أتت الآن لأظهر لك فيها هذا السر المهم، وأطلعك على ما صنعت وعلى ما أريد أن أصنع؛ لنصل إلى الغاية التي نسعى إليها. - إنني مصغ إليك فتكلمي. - أريد أن أخبرك بالتفصيل عن سفرنا إلى فرانش كونتي، وما كان لنا من الحوادث في هذا السفر، حيث تركنا رفيقنا رولاند.
ثم جلست الكونتس جلوسا حسنا شأن من يريد أن يحدث حديثا طويلا، وأتمت كلامها فقالت: إنك لا تجهل أنني سافرت من باريس على مركبة بوستة مع المسيو دي كايلت، ولا بد أنك تتذكر أنني غيرت زي النساء، وتزييت بزي الرجال، وكان يخالني من ينظر إلي في هذا الزي المستعار شابا في مقتبل العمر لا يزيد سنو عمره عن الثمانية عشرة، وقد قطعت كل الطريق، وأنا أتظاهر بأنني وكيل رولاند.
أما القصر الذي مات فيه دي كايلت، وأقام ابن أخيه قيما عليه، فقد كان يبعد منا ثلاثة فراسخ بالطريق العمومية، ولا يبعد غير فرسخ ونصف فقط إذا سلكت إليه بطريق مختصرة تمتد بين الغابات المتصلة بقصر هوبا، فوصلنا إلى كليت بعد ثماني وأربعين ساعة مضت على خروجنا من باريس.
وقد قضت التقادير أن يذهب إلى قصر هوبا المركيز دي شمري والفيكونت والفيكونتس دي أسمول، والدوق الإسباني وامرأته وابنته، وقد كنت أظن ويجول في خاطري أن المركيز دي شمري ما هو إلا روكامبول نفسه، ولكني كنت من ذلك بين الشك واليقين، فرأيت من الضرورة أن أتحقق من ذلك، ففي أول ليلة لوصولنا قلت لرولاند: يجب أن تذهب إلى الفيكونت دي أسمول.
فأجابني متعجبا: وماذا تريدين بذلك، وقد تراخت بيننا العلائق الودية منذ مثلت ذلك الدور الكبير؟ - إنك تحتج في زيارتك له بأنك إنما أتيت إليه لأمر ذي أهمية، يختص بأشغال ناجحة تتعلق به وبك. - نعم الرأي الذي ارتأيتيه فهو موافق غاية الموافقة؛ لأن عمي في السنة الماضية قد اشترى له طاحونة لم يدفع ثمنها تماما حتى اليوم. - إذن فاذهب إليه بهذه الحجة. - ولأي غرض؟ - لكي تأتي به إلى هنا مع المركيز، فإنه يجب أن أرى هذا الرجل. - ولكنه يعرفك. - كلا فهو لا ينظرني؛ لأنني أختبئ فأراه دون أن يراني.
أما رولاند فهو منذ عرف حقيقة خطئه إلي صار يطيعني طاعة عمياء، وهذا الشاب المعروف بالطيش إلى هذا الحد صار في مدة أيام قليلة تبدو عليه ملامح الكبر، كأن هذه البضعة أيام كانت كعشر سنوات مضت من عمره.
فقال لي: إنني مطيع، فمتى تريدين أن أذهب؟ - غدا صباحا.
ففي اليوم التالي هب باكرا، وسار على الطريق ماشيا يحمل على كتفه بندقية، فجعل يجوب أرضا مرملة واقعة بين كليت وهوبا، فما كاد يتوغل فيها حتى التقى برجل صياد كان قد رافقه إلى الصيد مرارا كثيرة.
فحين قابل هذا الرجل رولاند تنهد، وقال له: لقد فاتك صيد ناجح. - متى؟ - قبل أمس أي: يوم السبت. - وأين فاتني ذلك؟ - في الغابة السوداء، حيث كان الفيكونت دي أسمول وصهره المركيز دي شمري مع رجل إسباني ودوق وهم قد صادوا دبا. - ومن هو هذا الذي صاده منهم؟ - هو المركيز ... وهنا أخبر رولاند كيف تمكن روكامبول من قتل هذا الدب، ثم أضاف إلى كلامه أن الزواج قد تقرر. - وأي زواج تعني؟ - زواج المركيز بابنة الرجل الإسباني.
فقال رولاند، وقد أخفى الدهشة التي تولته: ومتى يكون هذا الزواج؟ - قرئت أمس ورقة الزواج في الكنيسة بعد الذبيحة، التي تقام الساعة الحادية عشرة من الصباح، وأظن أن القران سيتم هذا اليوم.
أما رولاند فقد قال لي إنه عندما سمع من الرجل هذا الكلام أخذ منه الغضب مأخذا عظيما، حتى جعل يرتجف من شدة غيظه، ولو لم يتمسك بحبل الجلد والصبر لسقطت البندقية من بين يديه لشدة ارتجافه، ولكن هذا الخبر الذي علمه قد فقه أفكاره، وجعله يتبصر فيما أرسلته لقضائه.
ثم ترك الرجل وجعل يواصل سيره، وهو يقول في نفسه: إن شقيا نظير المركيز دي شمري لا يقدر أن يتزوج ابنة الدوق سالاندريرا، ولا يمكنني الوقت من الرجوع على الأقدام إلى الكونتس أرتوف لأطلعها على ذلك، فأنا أواصل السير لأرى وحدي في هذا الأمر.
وكان يسير سيرا سريعا، وهو لا يدري ماذا يصنع ليمنع هذا الزاوج، أو بالأقل ليؤخره عن ميعاده، ولما كاد يصل إلى حيث يذهب كان الوقت نحو الساعة الثامنة من الصباح.
وكانت الثلوج قد كست تلك الطرق حلة بيضاء أثناء الظلام، فلما اقترب رولاند من المكان الذي يقصده، رأى على الطريق آثار الأقدام باقية على الثلوج، ورأى أثر أقدام حصان تظهر له على طريق مختصرة تؤدي إلى قصر هوبا.
فخالج فكر رولاند أن آثار هذه الأقدام ما هي إلا من أهل ذلك القصر، وأنهم خرجوا منه باكرا كي يقضوا جميع الأمور اللازمة، التي لا بد منها في وقت القران، ولكنه لم يكد يصعد على الأكمة التي يوجد عليها القصر المذكور، حتى بدا له راكب عجوز يسير نحوه فتأمله رولاند، فإذا به طبيب كبير السن يقيم في بلدة قريبة تدعى أولناي كان يعرفه منذ صغره.
فتقدم حتى دنا منه وحياه، وبعد أن تبادلا التحية سأله رولاند: من أين تأتي في هذا الصباح؟ - من هوبا. - أزرت فيه مريضا؟
فأحنى رأسه دلالة على ذلك، ثم قال: نعم إنني قد زرت مريضا، ولكني أتيت إليه متأخرا. - وكيف ذلك؟ - إن الدوق قد مات. - أمات الدوق؟ - نعم. - الدوق دي سالاندريرا؟ - نعم هو. - وكيف مات؟ - مات بعلة فجائية شديدة، وحين وصلت إليه رأيته يتردد الأنفاس الأخيرة، فلم يعد لي حيلة وقد مات على أثر وصولي.
وأخبر هذا الطبيب رولاند بسبب موت الدوق، فقال: إنه قبل أمس قد ذهب للصيد مع آخرين، فاعترضهم دب هائل، فاستولت رجفة شديدة على الدوق من كثرة خوفه، وقد أدت إلى موته. - نعم؛ وقد التقيت في طريقي بصياد، فأخبرني هذا الخبر، ولكن كيف أدى ذلك إلى موته؟ - حين اشتد عليه الخوف، وتمكنت منه هذه الرجفة الشديدة أثر ذلك على دمه تأثيرا عظيما، ففسدت دماؤه وفاجأه داء السكتة فمات. - ومتى كان ذلك؟ - في هذه الليلة نحو الساعة الحادية عشرة من المساء. - وهل عرفوا به حال وقوع هذا الداء عليه؟ - لم يعرفوا به حتى الصباح؛ لأنه لم يستطع نداء أحد، وحين دخلوا إليه في هذا الصباح وجدوه في حالة خطرة. - أليس خادمه الذي دخل إليه أولا؟ - كلا فهو المركيز. - وأي مركيز؟ - المركيز دي شمري صهر الفيكونت دي أسمول، والذي سيتزوج ابنة الدوق دي سالاندريرا. - لقد ذكرت هذا المركيز فإني أعرفه.
فعاد الطبيب إلى حديثه، وقال: يظهر أن هذا المركيز أيضا قد بات بليلة الملسوع، وحق له أن يأرق، فإنه يحب تلك الغادة الإسبانية، وكان يرجو أن يتزوجها في اليوم التالي، وإذ لا يحق له أن يدخل إلى غرفة خطيبته دخل إلى غرفة عمه، ولكنه ما لبث أن دخل إليها حتى جعل يستغيث، وينادي الخدم وسكان القصر، فأسرعوا إليه فوجدوا الدوق سالاندريرا قد سقط من سريره إلى الأرض، وليس فيه ما يدل على الحياة.
وكان المركيز دي شمري قد خدم في البحرية، وهو يعرف شيئا من فن الجراحة، فأسرع إلى فصد عمه بساعده، وأرسلوا أحد خدم القصر على جواد إلي يدعوني، فوصلت ولكن بعد فوات الأوان؛ لأن الفصادة قد تأخر وقتها ولم تفد هذا المريض، إلا أنها أخرت موته ساعتين فمات بين يدي. - ما هذه المصيبة الفادحة. - لا أنكر أن الخطب عظيم غير أنك لم تعلم غير نصف الحادثة. - لا أفهم ما تقول. - أريد أن هذا القصر لم يمت فيه واحد بل اثنان أحدهما الدوق. - والآخر؟ - الإنكليزي النوتي الأعمى الذي أحضره معه المركيز.
فعلم رولاند أنه أندريا، وقال له: كيف مات هذا النوتي؟ - يظهر أنه سقط عن السطح إلى الوادي، فإن غرفته تشرف على السطح، وقد خرج يستنشق الهواء فزلت قدمه، وهوى إلى ذلك الوادي السحيق، فرأى الفلاحون جثته مهشمة على الصخور، فأخذوه وحملوه إلى القصر، فكان لموته تأثير شديد حتى إن المركيز دي شمري أغمي عليه حين رآه قتيلا.
فأظهر رولاند اندهاشه لهذه الحادثة، وحادث الطبيب هنيهة، ثم افترقا فذهب الطبيب بشأنه، وبقي رولاند وحده وهو حائر فيما يعمل، فإنه لم يجد الفرصة مناسبة للذهاب إلى قصر الدوق، ولكنه وثق من أن موت الدوق سيؤخر زواج المركيز دي شمري، فقال في نفسه: إن الوقت فسيح لدينا، ثم وضع بندقيته على كتفه وعاد إلى قصر عمه.
أما أنا فقد انذهلت انذهالا عظيما حين رأيته أسرع في عودته، وزاد في دهشتي ما أخبرني به من تلك الأحاديث، فإن حديث رولاند دعاني إلى الإمعان، فقلت في نفسي بعد هذا التفكير: إنه لا بد لموت الدوق أن يؤخر هذا الزواج، ومهما يكن من حب الغادة الإسبانية للمركيز، فإنها لا تستطيع أن تزف إليه قبل الثلاثة أشهر حسب الاصطلاحات الموضوعة، ولا سيما لدى الإسبان، فإنهم شديدو الحرص على عاداتهم.
فلما رآني رولاند أفكر سألني: على ماذا عولت؟ - عزمت أيها الصديق على أن نعود إلى باريس. - ألا تريدين أن تنظري المركيز؟ - ذلك لا بد منه؛ لأني لا أزال مشككة بأمره وأحسب أنه روكامبول، فإذا صحت ظنوني، وكان هذا اللص متقمصا بالمركيز دي شمري، فلا بد أن يكون المركيز الحقيقي موجودا، وبالتالي فلا بد من إيجاده لإظهار حقيقة روكامبول. - هذا لا ريب فيه، غير أننا نحتاج إلى وقت طويل لإيجاد هذا المركيز. - ما دام الزواج قد تأخر ثلاثة أشهر على الأقل بسبب وفاة الدوق، فإن الوقت فسيح لدينا. - إذن فكيف عزمت على أن تنظري المركيز؟ - إني سأتنكر بزي الخدم، وسيدفنون الدوق والإنكليزي، فأرى الرجل دون أن يراني إذ لا بد له من حضور الجنازة.
3
قالت باكارا: وفي اليوم التالي غيرت ملابسي بملابس أحد خدم رولاند، وذهبت مع خادم كان رولاند يأتمنه، وله صحبة مع خدم قصر الفيكونت فابيان دي أسمول صهر ذلك المركيز الكاذب، فاختلطنا مع خدم القصر، ونظرت جثة ذلك الأعمى، ثم نظرت المركيز كما أشاء وعدت إلى رولاند. - فأسرع إلى استقبالي وقال: ما رأيت؟ - رأيت ذلك الأعمى وهو أندريا، ورأيت ذلك المركيز وهو روكامبول. - أأنت واثقة مما تقولين؟ - كل الثقة؛ لأن هيئة هذين الرجلين لا تخفى علي مهما تشوه أندريا، وتنكر روكامبول. - وماذا يجب أن نعمل الآن؟ - أما أنت فلا يجب أن تعمل شيئا، بل يجب أن تقسم لي بشرفك على أن تبقى في القرية، ولا تعود إلى باريس إلا حينما آذن لك بالرجوع. - وأنت؟ - أما أنا فإني سأسافر في المساء؛ إذ يجب أن أعلم ما حدث للمركيز دي شمري الحقيقي.
وفي اليوم نفسه غادرت رولاند في القرية لا يعلم ماذا يعمل، ورجعت إلى باريس.
فلما سمع الطبيب صموئيل جميع ما قالته باكارا، وكان مصغيا إليها أتم الإصغاء ، ودهش دهشا عظيما من جرأة روكامبول، وقال: إن ما أقدم عليه هذا اللص لا يقدم عليه أحد، ويجب أن نضربه الضربة القاضية ونريح الأرض من شروره.
فقالت باكارا: صبرا أيها الصديق واسمع تتمة حكايتي، فإني لم أفرغ بعد واعلم بأنه لا يكفي أن أعلم بأن المركيز دي شمري هو روكامبول؛ لأن مثل هذا اللص الحاذق لا يتنكر باسم سواه، ولا يدخل في عائلة شريفة، ولا يختلط بالشعب الباريسي دون أن يكون قد اتخذ الاحتياطات الشديدة، وبالغ في إخفاء آثاره السابقة التي تظهر اسمه الحقيقي.
ثم إنه لا بد أن يكون لديه أوراق، وأدلة وشهادات جمة تثبت أنه ذلك المركيز، الذي إما أن يكون قتله وتنكر باسمه، أو أنه سرق أوراقه واستخدمها لأغراضه، فاسمع ماذا صنعت.
إني عند وصولي إلى باريس أسرعت إلى الكونت إرمان دي كركاز، فرويت له جميع ما سمعت ورأيت.
وكان ذاك الكونت يعتقد أن أخاه السير فيليام قد هلك بين القبائل المتوحشة، فجمد رعبا عندما علم بشروره الأخيرة، وأنه مات قتيلا في واد بضواحي باريس.
ثم سألت الكونت رأيه، فقال لي: إن يد الله وراءنا فإن موت الدوق سالاندريرا في اليوم، الذي كانت ستزف فيه ابنته إلى ذاك اللص السفاك دليل على أن الله أراد تأخير الزواج؛ كي نتمكن من غل يد ذاك اللص، وأنه لم يأذن بموت الدوق إلا اجتنابا لمصيبة أعظم، وهي وقوع الفتاة الطاهرة بين مخالب الوحش الضاري. - إني من رأيك يا سيدي الكونت، ولكني لا أعلم كيف نغل يد ذلك اللص.
فقال الكونت دي كركاز: يجب أن لا نغفل عن أمر خطير، وهو أننا إذا فضحنا روكامبول، وأظهرنا اسمه الحقيقي فإننا نفضح عائلة شريفة تتناولها أقلام الجرائد، فيظهر للناس قاطبة كيف أن هذه المرأة الطاهرة أحبت لصا سفاكا، وهي تعتقد أنه أخوها، بل إننا نهين كثيرا من العائلات التي فتحت أبوابها لاستقبال هذا الرجل، الذي لا ينبغي أن يكون مقره إلا في أعماق السجون. - ولكننا لا نستطيع أن ندع هذا اللص يلقب نفسه بالمركيز دي شمري. - لا ريب في ذلك، غير أننا قبل أن نبدأ في نزع اللقب منه يجب أن نعلم ما حدث لذلك المركيز الحقيقي، الذي اختلس منه روكامبول هذا الاسم.
وكان الكونت دي كركاز مصيبا فيما قال، فعزمنا في الحال على السعي في كشف الحجاب عن غوامض هذه الأسرار.
وأول ما خطر لنا هو أن نعلم كيف كانت عودة روكامبول إلى باريس، فجعلنا نبحث حتى علمنا بعد يومين أن الذي يدعي أنه المركيز دي شمري وصل إلى باريس يوم وفاة أمه فيها، وأنه كان الرجل الوحيد الذي سلم من الغرق؛ لأن الباخرة التي قدم عليها غرقت، وذلك منذ ثمانية عشر شهرا.
فلما وقفنا على هذه التفاصيل قال لي الكونت دي كركاز: إنه يرجح أن المركيز دي شمري الحقيقي وروكامبول اتفق وجودهما سوية في تلك الباخرة التي غرقت، فإذا صح ظني فإنه يسهل علينا أن نعلم الحقيقة؛ وذلك لأن المركيز دي شمري كان عائدا من الهند، فلا بد له من المرور بلندرا ولا بد للأوراق الموجودة مع روكامبول أن يكون عليها كتابة من الأميرالية البحرية، وبالتالي فلا بد أن نجد في لندرا ضباطا يعرفون المركيز من الذين خدموا في الهند، سواء كلكيتا أو في بمباي. - إن ذلك ممكن لا سيما وأنه يرد في كل يوم إلى لندرا سفن من شركة الهند. - إن المركيز الحقيقي إذا كانوا رأوه في لندرا؛ فهو إما أنه كان من جملة ركاب الباخرة التي غرقت، وإما أن يكون قتل قبل سفرها، فإذا كان الأول يكون قد فقد واستولى روكامبول على أوراقه، وإذا كان الثاني فإننا نستطيع الوقوف على آثاره في لندرا. - لقد فهمت ما تقول وسأسافر إلى لندرا غدا. - وأنا أسافر معك أيضا، فإن رأيين أحسن من واحد.
وفي اليوم التالي سافرت مع الكونت دي كركاز، وبعد اثنتي عشرة ساعة وصلنا إلى لندرا، فكان أول ما شرعنا به أننا ذهبنا إلى الأميرالية البحرية، وسألنا عن المركيز دي شمري، فأخبرنا أحد الموظفين أنه يذكر بأنه كتب الكتابات المألوفة على جواز المركيز دي شمري منذ ثمانية عشر شهرا، وقال لنا: إنه يذكر أيضا بأن هذا المركيز ضابط بحري في الهند الإنكليزية وهو مستقيل.
وأخبرنا ضابط في الأميرالية أنه يعرف المركيز، وأنه خدم وإياه في سفينة واحدة، فقلنا له: أواثق أنت من أن الذي قدم جوازه إلى الأميرالية هو نفس المركيز دي شمري؟ - كل الثقة وأذكر أيضا أني سلمت عليه، وباحثته في أمور كثيرة، ثم أخذ دفترا ضخما فقلب صفحاته ونظر فيها، وقال: كان يصحبه حين حضوره القائد جوكسن وهو من أصحابه الأخصاء، أما هذا القائد فلا بد أن يكون الآن في لندرا؛ لأنه قدم إليها عائدا من إفريقيا منذ عشرة أيام، فإذا أحببتم أن تروه، فإنكم تجدونه دون شك في فندق جنوا في شارع بلغراف.
فشكرنا هذا الضابط ثم غادرناه، وانطلقنا مسرعين إلى هذا الفندق، وكان القائد جوكسن موجودا فيه.
فذهل هذا القائد في البدء لأسئلتنا الكثيرة إلى أن أخبره الكونت كركاز باسمه، وأنه لا يسأله عن المركيز إلا لأمر عائلي، فقال عند ذلك ما يأتي: إن المركيز شمري كان من أخلص أصدقائي، وقد سافر منذ ثمانية عشر شهرا من لندرا إلى فرنسا على سفينة شراعية، وكنت من الذين ودعوه. - أتعرف هذه السفينة؟ - نعم، اسمها مويات. - أرأيته صعد إليها؟ - بل رأيتها سافرت به، وبقيت واقفا على الرصيف أودعه بالإشارات إلى أن توارت السفينة عن الأنظار.
وكان هذا جميع الذي نريد أن نعرفه؛ إذ ثبت لنا أن المركيز دي شمري الحقيقي سافر دون شك في السفينة التي غرقت.
فلما غادرنا القائد جوكسن وخلوت بالكونت، قال لي: لم يعد لدينا شك الآن أن أوراق المركيز قد سرقت، سواء كانت السرقة في السفينة أو بعد غرقها، فإذا كانت سرقت في السفينة فلا بد أن روكامبول كان موجودا فيها، وإذا كانت بعد غرقها فقد يكون حدث اتفاقا أن روكامبول كان على الشاطئ متى غرقت فيه السفينة، وأنه عثر بجثة المركيز فسرق الأوراق. - هذا لا يمكن احتماله. - لماذا؟ - لأن روكامبول لا يعود إلى فرنسا إلا إذا دفعه أمر خطير إلى العودة إليها، فاستصوب الكونت كلامي.
ولم يبق علينا بعد ذلك إلا أن نستطلع بعض الأمور من البوليس، فذهبنا إلى إدارة قلم الجوازات، وعلمنا منها أنه يوم سفر السفينة مويات أخذ منها رجل جوازا باسم السير أرثير، ثم وصف لنا أوصاف هذا الرجل كما هو مبين عنده في الكتاب، فوجدنا أنها تنطبق أشد الانطباق على أوصاف روكامبول.
وبعد ذلك عدنا إلى الهافر، فدقق الكونت كركاز بالاستعلام عن غرق تلك السفينة، فعلم أنه لم يسلم أحد من ركابها غير أنه كانوا يشيعون أن أحد أصحاب قوارب الصيد في إيترات كان يقول: إن رجلا عليه ملامح رجال البحرية قد بلغ سباحة إلى الشاطئ.
فذهبنا من الهافر إلى إيترات، ولم تكن حادثة غرق السفينة قد تنوسيت بعد، فأخبرنا الصيادون الذين كنا نسألهم أنهم جميعهم يذكرون الحادثة، وأن معظم الغرقى قذفت الأمواج جثثهم إلى الشاطئ.
ولما أوشكنا أن نقنط من معرفة الحقيقة قال لنا أحد الصيادين: إذا شئتم أن تعرفوا الحقيقة بتفاصيلها فاسألوا الصياد فانتيال إنه يعلم جميع التفاصيل.
فدعونا هذا الصياد وسألناه عما يعلمه، فأخبرنا أنه لم يسلم من ركاب السفينة غير رجل واحد، ولكننا لم نعرف اسمه، فإنه لم يحدثنا بكلمة بل اكتفى أنه اشترى منا رداء ولباسا. - وأين ذهب؟ - ركب مركبة وسار بها إلى الهافر، ويظهر أنه قضى ليلة قبل وصوله في جزيرة صغيرة قريبة من الشاطئ، ثم إنه يوجد شاب آخر قد نجا من ركاب السفينة، ولكن هذا الرجل لم تطأ أقدامه الأرض.
فتعجبنا من البيان، وقلنا: ماذا تريد بذلك؟ - إن لذلك حكاية غريبة، وهي أنه بعد غرق السفينة بثلاثة أيام كنت عائدا مع ابني في قارب إلى الهافر، فرأينا سفينة كبيرة ذات ثلاثة صواري عليها علم نروجي وهي شاحنة خشبا من الشمال، وكنا قد اصطدنا صيدا كبيرا، وكان البحر هادئا فاقتربنا من السفينة قصد أن نبيعها سمكا من صيدنا، فصعد ابني إليها فعرض سمكه على الربان فاشترى منه، وقال له: أغرقت سفينة حديثا عند تلك الشواطئ؟ فقال ابني: نعم، وحكى له عن غرق موبات، فسأله الربان، إذا كان نجا أحد من ركابها، فقال له: لم يسلم غير واحد، فإنه نجا سباحة حتى بلغ الشاطئ، فقال الربان: إذن فإن الذين نجوا اثنان.
ثم أخذ ولدي بيده وذهب به إلى غرفة، فرأى فيها سريرا ممدودا عليه شاب يناهز الثامنة والعشرين من عمره، وهو منطبق العينين كأنه نائم وأمامه طبيب السفينة.
فسأل الربان الطبيب كيف حاله قال: أرجو أن أشفيه، ولكن شفاءه يطول وأخشى متى شفي جسمه يذهب عقله.
وعند ذلك أخبره الربان أن الشاب المنطرح على السرير ضائع الرشد، وليس عليه من الملابس غير بنطلون وقميص، وجده بحارة السفينة منذ ساعتين مغميا عليه في حفرة كائنة في جزيرة صغيرة، وقد كان البحارة نزلوا إليها لجمع الأصداف فعثروا به.
ثم أخبره الربان أنهم يرجحون بأنه سقط في الحفرة بالليل، وأنهم عندما وجدوه كان في وشك الموت.
فقال الكونت: أواصلت السفينة النروجية سيرها؟ - نعم واصطحبت معها الشاب. - أعرفت اسم تلك السفينة؟ - نعم فإنها تدعى إنفسييل، وكانت رافعة راية نروجية.
فوضع الكونت يده على جبينه كمن يتذكر أمرا، ثم قال: لقد ذكرت الآن فلقد قرأت منذ ستة أشهر في جريدة إسبانية أن إحدى البوارج الإسبانية أسرت سفينة نروجية ذات ثلاثة صواري، وقبضت على بحارتها وهم اثنا عشر رجلا فحكمت عليهم بالليمان.
قالت باكارا: ولما قال الكونت هذا القول أعطى الصياد دينارين مكافأة له عن تعليماته، ثم قال لي: أظن أننا قد أصبحنا عارفين مقر المركيز دي شمري الحقيقي.
هذه هي الحكاية التي قصتها باكارا على الطبيب صموئيل، فلم نجد بدا من ذكر بعضها مما لا غنى عن إيضاحه في سياق هذه الرواية، فنقف من حديثها معه عند هذا الحد، ونقول: إنها في اليوم التالي برحت باريس مع الطبيب في رحلة سرية سيعلم القراء تفاصيلها والغرض منها.
ثم نذهب بالقارئ إلى البلاد الإسبانية، حيث نجد فيها كثيرين من أبطال هذه الرواية العجيبة.
4
هو ذا الفجر قد انبثق وتفجرت أشعته اللامعة على قمم الجبال، وسكنت مياه البحر، فكانت نسمات الصباح تنقش على صفحاته زردا، وكانت مياهه لا تزال زرقاء تشبه زرقة السماء التي كسف الفجر أنوار نجومها.
وكانت الجبال الشامخة تشرف على ذلك البحر، الذي كانت فيه السفن الشراعية كالحمائم عائدة بالصيادين مشحونة بالأسماك، وبينها مدينة بيضاء القصور بنيت منازلها على الطريقة المغربية، وكان أهلها لا يزالون نياما في ذلك الصباح.
أما هذه المدينة فهي كاديس ميناء الأندلس، وهي لا تزال حافظة أثر سلطانها المغربي الذي فارقها، والدمع ملء عينيه، وهو يعلم أنه فارق الأقطار الإسبانية فراق الأبد.
وكان المار في شوارع تلك المدينة الضيقة عند تبلج الفجر يجدها خالية قفراء؛ لأن سكانها كانوا لا يزالون نياما غير أن باب فندق الأندلس فيها فتح، وخرج منه شاب جميل مرتد بملابس يظهر من حسن هندامها على بساطتها أنها باريسية، وكان يصحب هذا الشاب امرأة حسناء على كتفيها شال من الكشمير الثمين، وقد تأبطت ذراعه وسار الاثنان إلى جهة البحر، فكان الشاب يقول لها: سترين يا حبيبتي هرمين أجمل منظر تبتهج له النفوس، وهو شروق الشمس وأنت في البحر. - لقد رأيت هذا المنظر في العام الماضي حين كنا مسافرين من الهافر إلى بليموث.
وكان هذا الشاب فرناند روشي وامرأته هرمين، اللذين عرفهما القراء فيما تقدم من فصول الرواية.
فابتسم فرناند لزوجته، وقال لها: إن الأوقيانوس المحيط يشبه البحر المتوسط، كما يشبه الزجاج البراق الألماس، وإن سماء أوروبا تشبه سماء الأندلس كما تشبه الأشعة المنعكسة نور الشمس.
ثم ذهب الاثنان إلى الميناء وهما يتحادثان.
وكان فرناند قد رجع إلى زوجته بعد ذلك الهجر القديم، الذي دعاه إليه شغفه بتلك الفتاة التي كانت تلقب بالفيروزة، وكان يسافر في ذلك العهد مع امرأته سائحا في إسبانيا، فبعد أن ذهب إلى غرناطة برحها قادما إلى قاديس.
وكان يقول لها وهما سائران إلى الميناء: أتعلمين أيتها الحبيبة أن قومندان الميناء، القائد بيدرو هو ابن عم الجنرال الإسباني صديقنا الذي يقدم في كل شتاء لباريس؟ - كلا لم أعرف ذلك من قبل. - إذن فاعلمي أنه عندما كنت منهمكة في ترتيب ملابسك أمس اغتنمت فرصة انشغالك، وأرسلت إليه كتاب التوصية الذي أعطاني إياه ابن عمه الجنرال ليلة سفرنا ... - وهل أجابك على ذلك الكتاب؟ - نعم ولذا فقد بادرت إلى إيقاظك قبل الفجر؛ كي لا تفوتنا نزهة البحر شروق الشمس، ولكن أتعلمين كيف نتنزه في هذا البحر الهادئ؟ - في إحدى سفن الصيد دون شك. - كلا أيتها الحبيبة في سفينة القومندان نفسه، وهو الذي سيصحبنا في هذه الرحلة الفجرية. - يظهر أن هذا الرجل رقيق الحاشية، وأنه يبالغ في إكرامنا. - وستكون بحارة السفينة من الأشقياء المحكوم عليهم بالليمان لاستفحال شرورهم.
ورأى فرناند أنها أجفلت، وخافت من أولئك الأشقياء، فقال لها: اطمئني فإنهم سيكونون أشد وداعة من الحمام بحضرة القومندان.
وعند ذلك وصلا إلى الشاطئ، فرأيا تلك السفينة بانتظارهما، فلما رآهما القومندان هرع إلى استقبالهما وأنزلهما إلى سفينته، وكان فيها اثنا عشر رجلا من أولئك الأشقياء مقيدة أرجلهم بالسلاسل الضخمة، وأربعة من جنود البحرية.
وبعد أن تبادلوا التحيات المألوفة أمر القومندان أن ترفع المراسي، ثم نظر إلى أحد أولئك المجرمين، وقال له: لقد وليتك قيادة السفينة يا حضرة المركيز.
وكان المجرم الذي ناداه القومندان باسم مركيز شاب جميل الطلعة، رشيق القد، أزرق العينين، أشقر الشعر، وعلى محياه ملامح الاكتئاب غير أن هيئته كانت تدل على الأنفة والسلامة خلافا لرفقائه المجرمين، فلما سمع أمر القومندان انحنى أمامه احتراما، وشرع بقيادة السفينة بمهارة فائقة تدل على أنه ممرن في فنون البحر.
فقال أحد المجرمين لرفيق له: إن هذا المركيز حسن البخت، وقد بات القومندان يحبه ويميزه علينا، حتى لقد بت أخشى أن يطلق سراحه ويوليه مكانه.
فانتهره رفيقه، وقال له: كفاك حقدا على هذا الرجل، فإنه يفضلنا جميعا بلين أخلاقه وحسن آدابه، وإنك لا يدفعك للهزء به غير حسدك.
فتمتم المجرم بكلمات لا تفهم، ثم سكت خوفا من أن يسمعه القومندان.
وكانا يتكلمان باللغة الإسبانية وفرناند قريب منهما، فلم تفته كلمة من حديثهما؛ لأن فرناند كان يعرف هذه اللغة، وقد هاج به الفضول إلى أن يعلم السبب في تلقيب ذلك المجرم بالمركيز، فدنا من القومندان، وكان يحادث امرأته هرمين، وقال له: إني عجبت لأمر الشاب الذي دعوته بمركيز، فكيف أتاه هذا اللقب، بل كيف وجد بين المجرمين على ما يبدو منه من ظواهر السلامة والدعة.
فابتسم القومندان وقال: لقد تولتني قبلك الدهشة، فإني عندما توليت رئاسة الميناء، وذلك منذ تسعة أشهر، حكم على هذا الشاب بالسجن والقيد خمسة أعوام.
فتأثرت هرمين لنكبته، وكانت تنظر إليه نظرة إشفاق، وقالت للقومندان: أي ذنب جناه، ولماذا حكم عليه؟ - ذلك لأنه وجد في سفينة قرصان نروجية أسرتها إحدى مدرعاتنا، فحوكم بحارتها ومن جملتهم هذا الشاب في مجلس عسكري، وحكم عليهم بالسجن خمسة أعوام.
فقالت هرمين بلهجة ظهر منها عدم التصديق: أيمكن لهذا الشاب أن تكون مهنته النخاسة، فيسرق العبيد ويبيعهم بيع السلع؟ - نعم يا سيدتي ... - ألعله نروجي؟ - كلا فإنه يقول: إنه فرنسي ولكني أرى من لهجته أنه إنكليزي. - إني أعجب كيف تكون هذه الملامح النبيلة في وجه قرصان نخاس. - بل هو أعظم من ذلك يا سيدتي، فإنه بلغ من التزوير مبلغا لم يخطر لأحد من قبل حتى لقد كاد يقنعني فيما يدعيه. - كيف ذلك؟
فسار القومندان بفرناند وزوجته إلى محل فسيح في آخر السفينة، وقال: تصوري يا سيدتي أن رفقاءه لا ينادونه إلا بلقب مركيز. - أهو مركيز حقيقة؟ - هذا ما كان يدعيه، ويحاول أن يحملني على تصديقه، وهي حكاية لطيفة سأقصها عليكما فاسمعا.
5
إنه في اليوم التالي لدخوله إلى السجن التمس هذا المركيز أن يقابلني، فأشفقت عليه وأذنت له بهذه المقابلة، وقد دهشت كما دهشتما لحسن منظره وملامح نبله، فقال لي: إني يا سيدي أدعى المركيز ألبرت أونوريه دي شمري، وقد كنت في البحرية الإنكليزية الهندية.
فصحت صيحة انذهال لقوله، ولكنه لم يأبه لي فأتم حديثه وقال: إني ولدت يا سيدي في باريس، وفارقت عائلتي وليس لي من العمر غير عشرة أعوام فما رأيتها بعد ذلك.
وقد رجعت منذ شهر من الهند إلى لندرا بعد أن استقلت من الخدمة، وعزمت على الرجوع إلى فرنسا لورود كتاب لي من أمي تدعوني فيه إلى الحضور، فسافرت من لندرا على باخرة تجارية كانت مسافرة إلى الهافر.
ولما قربنا من الشواطئ الفرنسية هبت عاصفة شديدة، فجنحت السفينة فغرق ركابها ونجوت أنا سباحة، وكان يحاول النجاة معي شاب إنكليزي، فأنقذته من الغرق وصعدت به وهو مغمى عليه إلى جزيرة صغيرة.
وكان الليل حالك السواد وقد أصبت بعطش قوي، فوضعت رفيقي وهو لا يزال مغميا عليه على الرمل، وجعلت أمشي في الجزيرة ألتمس ما خلفه الشتاء في إحدى حفرها، وبينما أنا أمشي زلت قدمي وسقطت في حفرة عميقة استحال علي الخروج منها، فبقيت فيها إلى أن أشرق الصباح.
ولما رأيت أن صعودي منها محال جعلت أستغيث بملء صوتي راجيا أن يكون رفيقي عاد إلى رشده فيسمعني، فما أخطأ ظني وأسرع إلي فأخبرته بما أصابني وقلت له: إني تركت منطقتي وغدارتي وحزامي على الأرض، ثم رجوته بأن يأتي بذلك الحزام إلي فأتعلق به، وأصعد عليه من الهوة.
فذهب الشاب، وكان هذا آخر العهد به فتوالت الدقائق والساعات، ثم أقبل الليل ولم يحضر فتغلب علي الجوع والعطش والقنوط والضعف، فانطرحت مغميا علي، ولم أعلم ما جرى لي بعد ذلك، غير أني حين استفقت رأيت نفسي ممددا فوق سرير في سفينة يحيط بي بحارة ما عرفتهم من قبل.
ثم عرفت بعد أن سألتهم أنهم وجدوني بين حي وميت في هوة، وأني بعد أن أفقت من إغمائي أصبت بحمى قوية عقبها هذيان اتصل بضعة أيام، ثم نقهت من علتي فارتأى ربان السفينة أن يجعلني بحارا لقلة البحارة.
قال القومندان: ولما رآني هذا المخادع مصغيا إليه متأثرا لكلامه أتم حديثه، فقال: ولكني علمت بعد ذلك أن السفينة سفينة قرصان، غير أني كنت مكرها على الخدمة فيها، وقد حاولت الفرار فأنذروني بالقتل، ولما رأى الربان أني ماهر في فن البحارة رقاني إلى درجة نائب ربان، وما زلنا نحترف هذه المهنة الشائنة حتى قبضت علينا الحكومة الإسبانية، وهذا هو السبب يا سيدي في أن المركيز دي شمري يوجد مع المجرمين مكبلا بالقيود.
قال الربان: فلما انتهى المركيز الكاذب من حديثه أشفقت عليه إشفاقا شديدا؛ لأني كنت أتبين الصدق الأكيد من لهجته لا سيما، وقد قال لي: إنه عرض أمره على المجلس الحربي فلم يصغ إليه، ولكنه يلتمس مني أن أكتب إلى لندرا وباريس في شأنه، فوعدته عند ذلك أن أكتب.
قال فرناند: وهل كتبت؟ - كتبت دون شك في اليوم نفسه لوثوقي من صدقه إلى أن ورد إلي الجواب، فعلمت أن حديثه ملفق، وأن حكايته كاذبة، فإن المركيز دي شمري موجود في باريس، حتى إنه أوشك أن يتزوج منذ شهرين بابنة وطنينا الدوق دي سالاندريرا، ولكن الدوق مات موتا فجائيا يوم الزفاف، فتأجل اقترانه إلى انقضاء مدة الحداد.
فأظهر فرناند اندهاشه من هذه الحكاية الغريبة، وبينما القومندان يتكلم كانت هرمين تنظر إلى المركيز بإمعان، وتقول: أيمكن لهذا الشاب أن يكون منافقا إلى هذا الحد، وليس في ملامحه ما يدل على ذلك؟
ثم دنت من زوجها، وقالت له بصوت منخفض: أرجوك أن تستأذن لنا القومندان بمحادثة الرجل حين رجوعنا إلى البر، فإني أراه نبيلا بعيدا عن المنكر والنفاق، وقد أكون صادقة بظنوني.
قال: لا بأس فسألتمس منه هذا الالتماس.
وعند ذلك أشرقت الشمس تبعث أشعتها الذهبية، فتخرق قمم الجبال وتبسط على مياه البحر، فيلاعبها نسيم الصباح، وترقص الأمواج احتفاء بها، فنسي الجميع عند ذاك المنظر حديث المركيز معجبين بجمال الطبيعة.
6
بينما كان الكونت إرمان دي كركاز يطالع بريده بعد هذه الحوادث المتقدمة بأسبوعين، أخذ رسالة وجد عليها طوابع إسبانية، فاستلفتت نظره وفضها مسرعا، ونظر إلى التوقيع فإذا هي من فرناند روشي، فقال في نفسه: ما عسى أن يريد مني هذا الصديق، وما دعاه إلى كتابة هذا الكتاب الطويل؟ ثم جعل يقرأ ما يأتي:
سيدي الكونت ...
لو لم نلق من مكائد الخيانة أشدها، ونشترك من صروف الدهر بأمرها، ونعمل يدا واحدة في كثير من الأحيان؛ لدفع غارات الزمان ورد كيد الإنسان، لما كنت كتبت إليك هذا الكتاب؛ لأن ما أكتبه إليك من أغرب ما خطته يد الجرائم في هذا الباب فاسمع.
أعرفت في باريس هذا الشاب الجميل الذي كان في البحرية الهندية الإنكليزية، وهو المركيز دي شمري ابن عم الكونت فابيان دي أسمول؟
إني عرفته قبل سفري إلى إسبانيا فقد عرفني به أحد الأصدقاء ...
فإذا كنت عرفت هذا الرجل أو سمعت بهذا الاسم، فاعلم أني وجدت في قاديس رجلا يدعى بهذا الاسم، وهو يدعي أيضا أنه خدم في الهند في البحرية، وأنه أيضا ابن الكولونيل دي شمري شقيق بلانش دي شمري، التي تزوجت الفيكونت فابيان منذ عام، ثم يضيف إلى هذه الأقوال كثيرا من التفاصيل بلهجة يتبين منها الصدق، ولا تحمل على شيء من الشك.
إذن فإن المركيز الأول هو الآن في قصره في باريس، وهو سيتزوج المدموازيل سالاندريرا، والمركيز الثاني في قاديس، ولكن أتعلم أين وفي أية حالة، إنه في السجن مكبل بالقيود محسوب في مصاف المجرمين ... لا تدهش لما تقرأ، واقرأ البقية.
وهنا ذكر له فرناند جميع ما تقدم لنا ذكره من أمر السجين، وحكايته للقومندان، ولما فرغ من جميع ذلك قال له:
إني التمست من القومندان بناء على طلب امرأتي أن يأذن لي بمحادثة هذا المركيز؛ لأنها كانت تعتقد أنه بريء.
وقد أذن لنا القومندان، وذلك أنه دعانا إلى العشاء في منزله، واستدعى المركيز فقال له أمامنا: إني قصصت حكايتك في هذا الصباح على ضيفي فاستغرباها، ورغبا أن يسمعاها من فمك.
وكان المركيز واقفا يحمل قبعته بيده وهيئة كآبته تقطع القلب من الإشفاق.
فانحنى أمامنا باحترام، ثم نظر إلى القومندان فابتسم ابتسام الحزين، وقال له: إنك أبيت أن تصدقني يا سيدي القومندان، ولكني أرجو أن تصدقني السيدة وزوجها، وهما مثلي فرنسيان.
فهز القومندان كتفيه إشارة إلى أن اعتقاده راسخ بكذبه، ثم استأذن منا وتركنا وإياه.
فقص علينا المركيز نفس القصة التي قصها علي القومندان بلهجة صادقة، ولما أتم حكايته قلت له: ألا تعلم أنه يوجد في باريس مركيز يدعى المركيز دي شمري، وأن جميع نبلاء باريس عرفوه؟ - إن ذلك محال إلا إذا ... ثم وقف مترددا.
قلت: قل إلا ماذا؟ - إلا إذا كان الذي أنقذته، ثم صاح صيحة قانط، وقال: لقد عرفت كل شيء، فإن الرجل قد سرق أوراقي واختلس اسمي، وهو يعتقد أني ميت.
قلت: إن هذا صعب التصديق، فإن المركيز دي شمري الموجود الآن في باريس روي عنه أنه حزن حزن الخنساء على أخيها حين وفاة أمه.
فما قلت هذا القول حتى شعرت كأن الصاعقة قد انقضت على رأس هذا المسكين، فجعل يصيح ويقول: أمه ... أمه ... أي: أمي التي ماتت، وعند ذلك وهت رجلاه وسقط على الأرض، وهو ينتحب ويبكي بكاء الأطفال، ويذكر أمه بأشجى الألفاظ.
فلم أشكك بعد هذا البرهان الجلي بصدق كلامه، وأنه هو المركيز الحقيقي.
وفي ذلك الحين دخل علينا الربان، فوجدني مع امرأتي محيطين بهذا التعس المنكود نعزيه على مصابه، ونبكي لبكائه فأجفل لما رآه؛ لأنه كان لا يزال معتقدا بأنه من الكاذبين، ولكني عندما رويت له ما جرى مال إلى التصديق، فأخبرته أني سأكتب إليك ووعدني أنه سيبذل جهده لإطلاق سراح المركيز، وهو الآن قد أخرجه من السجن، فجعله في خدمته الخاصة تخفيفا لشقائه.
والآن فاعلم يا سيدي الكونت لماذا أكتب لك، فإن المركيز سواء كان صادقا أو كاذبا، فإنه يقول: إن لعائلته أرضا تدعى الأورنجرى وإن فيها قصرا كبيرا، وهو يقول إنه يوجد في القصر صورة تمثل رسمه، وهو في التاسعة من عمره، وإنه قد مثل في الرسم لابسا لباس الأيكوسيين، وعلى رأسه قلنسوة عليها ريشة عقاب، وصورة عليها خطوط زرقاء وبيضاء، ورجلاه عاريتان إلى الركبتين.
ثم إنه كشف أمامنا عن ساقه، وأرانا لطخة حمراء تشبه آثار الخمر على القماش الأبيض، وقال لنا: إن اللطخة مرسومة في الصورة بشكلها وحجمها، ولونها كما هي الآن.
ولذا يا سيدي الكونت قد كتبت لك هذه التفاصيل، فإذا رأيت تلك الصورة، وعثرت بهذا الأثر فيها، فإن المركيز هو المركيز الحقيقي دون شك ، وإن مركيز باريس أعظم منافق خداع عرف إلى الآن.
وأنا أرجو بعد أن تقف على حقيقة هذه التفاصيل أن تشير علي بما يجب أن أصنعه في شأن هذا الرجل، فإني لا أقدم على أمر قبل أن ترد إلي مشورتك والسلام.
فرناند روشي
فما أوشك الكونت أن يتم قراءة الكتاب، حتى دخل خادم غرفته يخبره بقدوم الكونتس أرتوف، فسر الكونت لقدومها، وأسرع وهو يقول: لقد وجدته.
فاندهشت باكارا، وقالت: ماذا وجدت؟ - بينما كنت عازما على الكتابة إلى إسبانيا أستعلم عن تلك السفينة، التي فقدنا فيها آثار المركيز دي شمري وردتني رسالة من إسبانيا عن هذا المركيز. - من الذي كاتبك من إسبانيا؟ - فرناند.
فارتعشت باكارا عند ذكر اسم فرناند، كأنها لا تزال تحبه، وقالت: ماذا عمل؟ - إنه وجد المركيز الحقيقي، ثم أخذ الرسالة وأعطاها إياها فتلتها بإمعان، وعلائم الدهشة تبدو عليها حين تلاوة كل سطر، فلما أتمتها قال لها الكونت إرمان: ماذا ترتئين؟ - إن الآنسة سلاندريرا لا تزال في إسبانيا والمركيز الحقيقي فيها، فيجب إذن أن أذهب إلى تلك البلاد. - أنت تذهبين إلى إسبانيا؟ - نعم وسأصحب معي الطبيب صموئيل وزامبا خادم الدون جوزيف، والدوق دي مايلي المتوفيين. - إذن فما ينبغي أن أكتب لفرناند؟ - لا تكتب له شيئا، فإني سأصل إلى قاديس في اليوم الذي يصل فيها كتابك إليها؛ لأني مسافرة غدا، فأية فائدة من كتابك؟ - ولكن هذه الصورة التي ذكرها فرناند في كتابه؟ - سأحصل عليها.
فقال إرمان: إني تعودت يا سيدتي الكونتس أن أثق ثقة عمياء من فوزك بكل ما تفعلين، فاذهبي بأمن الله واصنعي كما تشائين. - سأسافر غدا كما قلت لك، غير أني أرجوك أن تكتب كتابا ثانيا إلى قنصل فرنسا في قاديس. - سأكتب له في المساء. - والآن أعطني كتاب فرناند، فإني أحتاج إلى مراجعة ما تضمنه من التعليمات.
فأعطاها إياه، وعند ذلك نهضت، فودعته ووعدته أن تكتب إليه من قاديس ومضت.
وفي الساعة نفسها بعد أن أخذت الكتاب كتبت إلى الطبيب صموئيل ترجوه أن يحضر معها، وقد عرف القراء ما جرى بينهما من الحديث عند اجتماعهما، فإنها عندما أخبرت هذا الطبيب أنها ستسافر وإياه في الغد إلى إسبانيا، قالت له: أتظن أن زامبا قد شفي من جنونه شفاء أكيدا؟ - لا ريب عندي في شفائه التام. - أيستطيع أن يصحبنا في هذه الرحلة؟ - نعم. - إذن يجب أن تسأل قاضي التحقيق، الذي أذن لك بمعالجته بواسطة الكونت كركاز أن يأذن لك أيضا بالذهاب به إلى إسبانيا، وأرسله إلي في المساء. - سأفعل ما تشائين ولكنك لم تقولي لي شيئا عن السبب الذي نذهب من أجله إلى إسبانيا. - إننا نذهب لنجد المركيز دي شمري. - أهو في إسبانيا؟ - إنه في سجن قاديس، فاذهب وأعد معدات سفرك وأرسل إلي زامبا. - وماذا نصنع بالكونت أرتوف زوجك؟ - نصحبه معنا. - إن هذا محال فإنه آخذ في النقاهة، وأخشى عليه إذا صحبناه معنا أن ينتكس، ولكني سأعين للاعتناء به طبيبا من إخواني، فيعالجه بطريقتي.
وافقته باكارا على ذلك وانصرف، وبعد ذلك بنصف ساعة قدم إليها زامبا، وقد عاد إليه صوابه ولم يبق له شيء من أعراض الجنون، فسلم على باكارا باحترام ولبث واقفا ينتظر أوامرها.
فقالت له باكارا: ألا تزال تذكر حالتك وموقفك الخطر؟ فإنك محكوم عليك بالإعدام في إسبانيا، وأنت في باريس أسير تحت مسئولية الطبيب صموئيل، فإذا بلغ هذا الطبيب الحكومة أنك شفيت من جنونك تعود إلى قبضة الحكومة الفرنسية.
فركع زامبا أمامها وقد وجف قلبه لذكر المحاكم والجرائم، وقال: ارحميني يرحمك الله. - إن الحكومة الفرنسية تبدأ بالبحث في قضيتك، ثم لا تزال تنتقل من تحقيق إلى تحقيق حتى تنتهي إلى معرفة حقيقة حالك. - إذن أنت تريدين تسليمي إلى الحكومة؟ - كلا، إلا إذا لم تطعني. - إنك تعلمين يا سيدتي بأني سأكون لك أطوع من العبيد. - لا أريد أن تكون عبدي الآن، بل أكتفي أن تكون خادمي في السفر. - وإلى أين تريد سيدتي السفر؟ - إلى إسبانيا. - ويلاه إن الحكم بالإعدام صدر علي في إسبانيا وهناك القضاة ... - إنك عشت فيها أربعة أعوام في خدمة الدون جوزيف بعد صدور الحكم عليك. - هذا أكيد ولكن الدون جوزيف ... - إنك ستكون أيضا آمنا في خدمتي على نفسك، فلا يمسك أحد بسوء.
فأحنى زامبا رأسه، وقال: سأمتثل لما تريدين. - والآن أتعلم لماذا أكرهك على السفر معي؟ - كلا. - إن الآنسة سالاندريرا في إسبانيا، وأنا أذهب بك إليها؛ لأني أريد أن تخبرها كيف مات الدون جوزيف والدوق مايلي. - وإذا فعلت ذلك أأنجو من المحاكم؟ - إنك ستنال العفو في اليوم الذي يقبض فيه على ذلك الرجل، الذي جازاك عن صدقك في خدمته بضربة خنجر، فيرسل إلى السجن أو إلى المشنقة.
7
وفي اليوم التالي في الساعة الثامنة من المساء سافرت باكارا، وبصحبتها الطبيب صموئيل وزامبا جالسا وراء المركبة.
وكانت باكارا متنكرة بزي الغلمان، كما فعلت حين سافرت مع رولاند دي كايلت، فكانت تمثل فتى من الأسرات النبيلة في المستعمرات يسيح في أوروبا مع مؤدبه وخادمه، غير أنها لم تكتف بعقد شعرها كما فعلت في المرة الأولى، بل إنها قصته غير مشفقة عليه، وجعلته كشعر الفتيان كي يتم الشبه ولا يبقى مجال للشك.
أما زوجها الكونت أرتوف، فإنه بقي في باريس وقد عين له الطبيب صموئيل طبيبا يراقبه حسب إرشاداته، وقد كانت حالته تحسنت تحسنا بينا.
وفي اليوم التالي لسفرها كانت مركبتها تجتاز أرض التورين، وقد وصلت عند غروب الشمس إلى قرية صغيرة، فقالت للطبيب: إني لم أقل لك بعد إلى أين نحن ذاهبون. - كيف ذلك ألم تقولي: إننا ذاهبون إلى إسبانيا؟ - نعم ولكننا سنقف قبل ذهابنا إليها في مكان يبعد مرحلتين عن هذه القرية التي نحن فيها. - أين ذلك؟ - في الأورانجري وهي أرض المركيز دي شمري.
فعجب الطبيب لكلامها، ولكنه قبل أن يسأل قاطعته بإشارة، وقالت له: ألم تشر على المركيز، بل على الرجل الذي اختلس هذا الاسم النبيل أن يذهب إلى الأورانجري، كما أوصيتك تبديلا للهواء لما أصابه من الهزال. - نعم وقد قال لي إنه سيسافر. - إنه سيسافر في هذا المساء من باريس فيصل إلى أرضه غدا، ونكون قد سبقناه إليها بليلة. - ألعلنا ننتظره في قصره فيها؟ - كلا، بل ننام هذه الليلة في القصر. - لماذا؟ - ستعلم ذلك فيما بعد، واكتف الآن بأن تعلم أن السائق الذي يقود مركبتنا سيسقط المركبة بنا في حفرة واقعة عند مدخل بستان القصر.
وكان الطبيب قد تعود من باكارا أنها تكتم سرها، فلا تبوح به إلا عند الاقتضاء، فلم يلح عليها بمعرفة السر، ولم يكترث لوقوعه في الحفرة.
وبعد ساعة كانت الشمس قد غابت، وساد الظلام، والمركبة قد دنت من ذلك البستان، فاندفعت المركبة بسرعة عظيمة.
وعند ذلك قالت باكارا للطبيب: احذر فقد وصلنا إلى الحفرة.
ولم تكد تتم قولها حتى سقطت المركبة في تلك الحفرة.
وكانت باكارا والطبيب قد رجعا إلى الوراء، وتأهبا فلم يصبهما ضرر خلافا لزامبا فإنه سقط عن كرسيه من وراء المركبة، وجعل يصيح ويستغيث بصوت مرتفع، وكذلك السائق.
وما زالا يستغيثان حتى فتح باب البستان، وخرج أربعة من الفلاحين يتقدمهم رجل كهل كان نافذ الكلمة بينهم، فأخرجوا زامبا من الحفرة، وقد ابتلت ثيابه بمائها، وتلوثت بوحلها وخرج الطبيب وباكارا وهي بملابس الغلمان كما تقدم.
ثم أخرجوا المركبة وجيادها، وفيما هم يخرجونها رأت باكارا دولاب المركبة قد انكسر، فأظهرت أسفها، وبعد أن شكرت زعيم أولئك الفلاحين لاهتمامه بهم قالت له: إن دولاب المركبة قد انكسر، ونحن مضطرون إلى اجتياز ثلاث مراحل بعد أن نصل إلى المحطة فأين نحن الآن؟
فأجابها الزعيم، وكان اسمه أنطوان: إنكم في أرض الأورانجري ملك المركيز دي شمري، وهذا القصر قصره وأنا وكيله.
فقالت باكارا وهي تمثل دورها أتقن تمثيل: إني أعرف هذا المركيز وصهره الفيكونت دي أسمول من أخلص أصدقائي. - إذا كنت تعرف يا سيدي مولاي المركيز، فاسمح لي أن أدعوك باسمه إلى المبيت الليلة في قصره إلى أن يصلح دولاب المركبة. - لا بأس إنما أرجوك أن تقول لي كم يقتضي من الوقت لإصلاح الدولاب؟ - عند الصباح يكون قد تم إصلاحه، فتستطيعون مواصلة السير.
وعند ذلك مشى أنطوان أمامهم، فتبعوه إلى داخل القصر، ودخل بهم إلى القاعة الكبرى المعدة للاستقبال، ثم تركهم وانصرف كي يعد لهم عشاء فاخرا.
ثم جلسوا جميعا على المائدة إلى أن حضر الطعام، فجعلت باكارا تحادث أنطوان، فقالت له: أيأتي المركيز دائما إلى قصره؟ - إنه لم يزره منذ عودته من الهند. - إذن فسأنبئك نبأ تسر له، وهو أن المركيز سيكون هنا غدا، فقد كنت وإياه في النادي أول أمس، فأخبرني أنه مسافر غدا إلى أرضه في الأورانجري، وهو قد برح باريس أمس، فلا بد أن يكون هنا غدا كما قلت لك.
ففرح أنطوان فرحا عظيما، وقال: إذن سأرى هذا المركيز قبل أن أموت، فإني ما رأيته إلا صغيرا كما هو ممثل بهذا الرسم، أي: وهو في التاسعة من عمره ثم أشار بيده إلى صورة معلقة في الجدار.
فأخذت باكارا المصباح بيدها ودنت من الصورة، فجعلت تتأملها بإمعان شديد، فقالت في نفسها: إنها الصورة التي فصلها فرناند في كتابه، وهذه هي البقعة الظاهرة فوق ساقه تشبه لطخة الخمر فوق الثوب الأبيض.
ثم نظرت إلى أنطوان، وقالت له: عجبا أهذا المركيز؟ - نعم وهو في التاسعة من عمره وهذه الصورة تمثله أحسن تمثيل. - إذن فقد تغير تغيرا عظيما بحيث يستحيل على من لم يره من ذلك العهد أن يعرفه الآن. - إني لم أره منذ عشرين عاما، ويندر جدا أن تبقى للشبان الملامح التي كانت لهم في دور الطفولية.
وبعد أن تحادثا قليلا خرج أنطوان لبعض الشئون، ودخل زامبا فقالت له باكارا: إنك لص ماهر، أليس كذلك؟
فانحنى زامبا دون أن يجيب، ولكنه كان يشير بانحنائه إلى الامتثال.
فقالت باكارا: إذن سأعهد إليك بمهمة تعود فيها إلى مهنتك القديمة، أترى هذا الرسم المعلق في الحائط؟ - نعم. - يجب أن تسرقه، واعلم أننا سنبيت الليلة في القصر، ونسافر في الساعة الخامسة من الصباح، فانزع الرسم من الإطار المحيط به وضعه بين ثيابنا، واحذر من أن يراك الوكيل. - سأفعل يا سيدتي ما تريدين.
وعند ذلك عاد الوكيل إلى الغرفة، فقالت له باكارا: لقد قلت لك إني صديق لمولاك المركيز، ولكني لم أقل اسمي، فإني شريف برازيلي أسيح متجولا في أوروبا يصحبني مؤدبي، وقد أقمت في باريس سنة كاملة، فعرفت في خلالها المركيز وكان من أخلص خلاني وهذه رقعة زيارتي.
فأخذ الوكيل رقعة الزيارة، ورأى عليها تاج المركيزية فعلم أن صاحبها من النبلاء، وانحنى أمامها باحترام عظيم. - أعتمد عليك بإصلاح المركبة، بحيث أستطيع السفر عليها عند الفجر. - كل الاعتماد يا سيدي، فإن العمال لا ينامون قبل إنجازها.
ثم رأى الوكيل أن هذا السائح ومؤدبه يريدان أن يناما، فنادى خادما كهلا مثله، وأمره أن يذهب بهما إلى الغرفة التي أعدها للزائرين.
ولما كانت الساعة الرابعة قرع زامبا غرفة باكارا قرعا خفيفا، وكانت قد استيقظت منذ حين، ولبست ملابسها ففتحت له الباب، فدخل وقال لها: إن المركبة يا سيدتي معدة للسفر. - والصورة؟ - في المركبة. - ألا تخشى أن ينتبه الوكيل لفقدها؟ - لا أظنه ينتبه يا سيدتي فإنها موضوعة قرب باب الغرفة، وباب القاعة يبقى دائما مفتوحا بحيث يحجبها، وفوق ذلك فإن الوكيل لا يزال نائما وسنسافر قبل أن يصحو.
وكان زامبا مصيبا في ظنه، فخرجت باكارا يتقدمها زامبا إلى أن وصلت إلى المركبة، فوجدت الطبيب ينتظرها فيها والسائق متأهب للرحيل.
ولما صعدوا جميعهم إلى المركبة شاهدوا الوكيل يركض مسرعا إليهم، وقد كان نومه ثقيلا فاضطر الخدم إلى إيقاظه، فأسرع إلى ضيوف مولاه يعدو كالمجانين، وهو يخشى أن لا يدركهم.
فقالت له باكارا: أرجوك أن تهدي سلامي إلى المركيز، ثم شكرته لحسن ضيافته ونفحته بورقة مالية، وأشارت إلى السائق بالرحيل، فسارت الجياد تنهب الأرض نهبا حتى تجاوزت القرية، وبلغت إلى الطريق العام.
وفي خلال هذه المدة كان الوكيل أنطوان عاد إلى القصر، وهو مهتم بهبة باكارا أكثر من اهتمامه بقدوم المركيز، فدخل إلى القاعة كي يقفل أبوابها، وكان لا بد له عند ذلك من إعادة النظر إلى صورة المركيز، الذي سيراه غدا بعد فراق عشرين عاما، ولكنه ما لبث أن رفع نظره إليها حتى صاح صيحة القانط؛ لأنه رأى الإطار ولم ير الصورة.
وعند ذلك دخل عليه أحد الخدم، وقال: أرأيت هذا الشاب الصغير الذي بات عندك أمس، إني أراهن على ما تشاء بأنه لم يكن غلاما بل امرأة بزي غلام.
وكان الاضطراب قد بلغ مبلغا عظيما من الوكيل، فقال له: ليكن ما يشاء فإن الذي أعرفه أنه سرق صورة المركيز.
ثم خرج من القاعة، وانطلق يعدو وهو يحاول اللحاق بعربة المركيز، ولكنها كانت قد ابتعدت بعدا شاسعا، فرجع قانطا وقد ضاقت به الدنيا على رحبها، وأقبل الخادم يعزيه، ويقول: إنها لا شك امرأة وإنها عاشقة للمركيز، فسرقت صورته ولا بد للمركيز أن يعرفها، فيسترد الصورة منها إذا شاء.
8
ولنعد الآن إلى المركيز الكاذب إلى روكامبول، الذي غادرناه مغميا عليه في المركبة حين رأى آلة القضاء قد قطعت رأس ذلك المجرم.
وقد كان صهره فابيان معه كما تقدم، ولكنه حين وقعت الآلة على عنق ذلك المسكين أغمض عينيه، فلما فتحهما رأى روكامبول بجانبه مغميا عليه، فذعر وأمر السائق أن يسرع إلى القصر حتى إذا بلغ إليه نزل فابيان، وأمر بإحضار طبيب في الحال، ثم نقلوا روكامبول إلى غرفة، وهو لا يزال مغميا عليه.
وبقي على ذلك إلى أن حضر الطبيب، ففحصه وعلم السبب في إغمائه، فقرر أن هذا الإغماء غير خطر، وأنه ما دعا إليه غير الرعب والتهيج العصبي الناتج عما أصابه من الانفعال النفساني، ثم قال: إنه سيفيق من نفسه دون واسطة، غير أنه قد يصاب بعد ذلك بحمى يصحبها هذيان مؤقت لا يحمل على الخوف.
ومع ذلك فإنه لم يجد بدا من وصف علاج، كما تقتضيه واجبات المهنة، فكتب العلاج وانصرف.
ولم يطل تحقيق نبوءة الطبيب، فإن روكامبول أفاق على أثر ذهابه من إغمائه، ففتح عينيه وجعل ينظر نظرا تائها إلى ما حوله، فرأى أنه في مكان لم يعرفه من قبل، ولم ينظر صهره فابيان الذي كان جالسا على كرسي بجانب السرير، ثم بدأت الحمى كما قال الطبيب، فجعل يقول: أين أنا؟ ويجيل في الغرفة نظرا قلقا مضطربا، فلا يذكر شيئا مما هو فيه، وحاول أن يجلس في سريره فلم يستطع .
كل ذلك وفابيان جالس بقربه لا يجسر على الدنو منه حذرا من إزعاجه.
ثم بدأ معه دور الهذيان، فوضع يده على جبينه، وقال: لقد ذكرت الآن ... إني رأيت الجلاد، نعم رأيته وكان عاري اليدين ... فضحك عندما رآني وأراني الخنجر، ثم جعل يضحك ذلك الضحك العصبي الذي يصاب به من يتولاه الرعب أو القنوط.
فدنا صهره عند ذلك، وحاول أن يمسك يده، فصاح به روكامبول: إلى الوراء، ارجع ولا تدن مني، أأنت آت كي تقبض علي؛ لأني أنا أيضا قتلت أمي التي ربتني خنقا بيدي ... ارجع فإني سأنجو منك، ويا طالما أفلت من أعماق السجون، ونجوت من أعماق البحار ... فإني أدعى ... إن اسمي الحقيقي ...
وهنا توقف عن الكلام كأنما بارق من الصواب قد لاح له حين هذيانه، فامتنع عن ذكر اسمه ولكنه قال: إنك تريد أن تعرف اسمي، ولكنك لن تعرفه.
ثم عاد إلى ذلك الضحك المؤلم، وجعل بعده يبكي وينطق بألفاظ متقطعة وجمل مقتضبة، فكلما أوشك أن يظهر شيئا من حقيقة أمره يختلط هذيانه بالصواب، فتقتضب الجمل وتلتبس معانيها، ثم تراجع إلى الوراء كأنما الرعب قد تولاه، وجعل يصيح بصوت مختنق: إلى الوراء أيها الجلاد، إلى الوراء وأشفق على نفسك.
وقد دامت هذه النوبة نحو ساعتين، ثم نام بعدها نوما هادئا إلى المساء.
ولما صحا من رقاده لم يبق أثر للهذيان، وعادت إليه سكينته، ولكنه بقي متعجبا لوجوده في مكان يجهله.
وكان صهره لا يزال في غرفته، فلما رآه قد فتح عينيه ورأى ما هو عليه من السكينة دنا منه، فأخذ يده بيده، وقال: كيف أنت الآن يا ألبرت؟
فنظر إليه روكامبول بانذهال، وقال له: أهذا أنت ... أين نحن الآن؟ - إننا في قرية ج، على بعد ثلاث مراحل من الأورانجري. - ولماذا توقفنا في هذه القرية؟ - لأنك كنت مريضا. - أنا مريض؟! وكيف مرضت؟ - إنك كنت مصابا بحمى شديدة على أثر إغماء أصابك. - عجبا، ولماذا أغمي علي؟
فتردد فابيان في جوابه غير أن روكامبول ذكر السبب، وقال: نعم لقد ذكرت الآن المقصلة وذلك الرجل الذي قطع رأسه فيها.
فقال فابيان: نعم هو ذاك أيها الحبيب، وقد هالك ذلك المنظر الهائل، حتى إنك لم تطق احتماله، فأغمي عليك وحملناك وأنت فاقد الرشد إلى هذا المكان.
وكان روكامبول قد نفض عنه غبار الحمى، فانقضى هذيانه وعادت إليه الحكمة فقال: ما هذا الضعف الذي تولاني فكنت أشبه بالنساء، ولا بد أن أكون أصبت بالحمى. - هو ذاك وقد عقب تلك الحمى هذيان.
فذعر روكامبول وخشي أن يكون باح بأسراره وهو لا يدري، فقال: ألعلي أصبت بهذيان؟ - كان هذيان شديد حتى إنك كنت تقول أشياء لم أسمع أغرب منها. - كيف ذلك؟ وماذا قلت؟ - إن حديث هذا الرجل الذي قضي عليه بالإعدام، وحكوا لنا أمره قبل إعدامه قد أثر عليك تأثيرا عظيما، حتى أصبحت تحسب أنك أنت هو ذلك المجرم المقضي عليه. - ما هذا الجنون؟ - ولبثت ساعة كنت في خلالها تحسب أنك أنت الذي خنقت أمك التي تبنتك، وتعتقد أن الجلاد قادم للبحث عنك.
فاضطرب قلب روكامبول، وخشي أن يكون صهره قد اطلع على سره، فنظر إليه نظر المستطلع.
غير أن فابيان ابتسم له، وجعل يحدثه بجميع أخبار هذيانه بسلامة لا يداخلها شيء من الشك.
فارتاح بال روكامبول، وأيقن أنه لم يبح بشيء، ثم تشدد ونهض من سريره، فسأله فابيان: كيف أنت الآن؟ - على أحسن حال. - إذن، أتستطيع مواصلة السفر إلى الأورانجري، والمبيت فيها هذه الليلة؟ - دون شك، وها أنا سألبس ملابسي فنسافر بعد العشاء.
وعند ذلك خرج فابيان وأمر بإعداد المركبة للرحيل.
ولما خلا المكان بروكامبول جعل يتخطر في أرض الغرفة ذهابا وإيابا، وهو يؤنب نفسه لما أبداه من الضعف، ويقول: أيغمى علي؛ لأني نظرت رجلا يشنقونه كأني لم أر ميتا قبلا ولم أسفك دماء، ثم أصاب بالحمى وأهذي بكلامي، فأذكر مدام فيبار فإنه ضعف شديد، وإذا جدت بي حادثة أخرى كهذه، كنت من الهالكين؛ لأنه لو اتفق أنه كان لفابيان أقل ريب بي، وحاول أن يعلم حقيقة أمري، لما فاته شيء من أسراري، ولقضي على تلميذ السير فيليام.
وكأنما أندريا قد تمثل له حين خطر في باله، فأجفل مرتعدا، وقال في نفسه: لقد أخطأت الخطأ الشديد بقتل هذا الرجل، فإنه كان مرشدي في كل سبيل ومعيني في كل معضلة، أما الآن فقد ندمت لفقده، وبت أرى المشنقة منصوبة لقتلي، حتى إني أكاد أسمع صوت مطارق العمال الذين ينصبونها.
ثم سمع وقع أقدام صهره فابيان، فانقطع حبل هواجسه، وقال في نفسه: ما هذا الجنون؟ ومتى كان روكامبول يخضع للهواجس، ويخشى نكبات الأقدار؟ وأيه حاجة لي بهذا الرجل وقد مات؟ ألست المركيز دي شمري، وخطيب ابنة الدوق، فلأمشي إلى الأمام ولأكن جريئا مقداما فقد كان يقول السير فيليام: إن الجرأة مفتاح الصعاب؟
وعند ذلك دخل صهره فابيان، وقال له: هلم بنا إلى المائدة، فإن الشمس قد غابت ولا بد أن تكون جائعا. - هو ما تقول؛ لأن شهيتي عظيمة.
ولبس روكامبول ملابسه بسرعة، ثم خرج الاثنان إلى المائدة، وبعد أن أكلا برحا ذلك الفندق، فركبا مركبة وسارت بهما إلى الأورانجري.
وكان روكامبول يعرف هذه الأرض ومداخل القصر، وجميع خدمه، فلما بلغ إليه مع صهره أظهر حنينا عظيما، وجعل يذكر عهد حداثته، وجميع ما يعرفه من أحوال تلك الأرض.
ثم أقبل الخدم وجعلوا يقبلون يديه، فرحين مسرورين بعودة مولاهم ما خلا وكيل الأرض أنطوان، فإنه لم يكن موجودا بينهم، وقد كانوا يعجبون كيف عرفهم.
ثم إنه نادى أحدهم باسمه، وهو الذي قال لأنطوان: إن باكارا لم تكن غير امرأة متنكرة بزي الغلمان، وقال له: أين الوكيل أنطوان؟ وكيف لا أراه بينكم؟ - إنه ذهب إلى قرية ج. - إنني قادم منها فكيف لم أره فيها؟ وما دعاه إلى السفر؟ - إنه سافر يا سيدي المركيز في الصباح؛ كي يقدم شكواه للحكومة، لقد سرقونا في هذه الليلة. - كيف سرقوكم وما سرقوا؟ - اسمع هذا الحديث الغريب يا سيدي، فقد قدمت أمس مركبة، وعند مرورها قرب البستان سقطت في حفرة فانكسر دولابها، وكان فيها ثلاثة سياح، وهم: فتى في مقتبل العمر - يقول إنه من أصدقائك، ومؤدبه ، وخادمه. - ما اسم هذا الرجل؟ - لا أعلم، ولكن أنطوان قد عرف اسمه. - أهو هذا الفتى الذي سرق؟ - نعم. - وماذا سرق؟ - سرق صورة مولاي المركيز التي كانت تمثله طفلا، وكانت معلقة ضمن إطار في جدار القاعة الكبرى.
فصاح روكامبول صيحة اندهاش، وعادت إليه هواجس الشر.
9
وعاد الخادم إلى إتمام حديثه، فقال: ومما يدل على أن الفتى كان يعرف سيدي المركيز أنه أنبأنا بقدومه. - بقدومي أنا؟ - نعم يا سيدي فقد قال لأنطوان: إنك ستقدم إلى أرضك في اليوم التالي، فصدق فيما أخبر.
فحار روكامبول في أمره، وقال لصهره: أتذكر أنك أخبرت أحدا بسفرنا؟ - لا أعلم، فإني لا أذكر شيئا من ذاك.
فقال الخادم: إن الفتى يا سيدي قال إنه رآك في النادي، وإنك أنت أخبرته بعزمك على السفر في الغد. - ماذا أسمع؟ وما هذه الألغاز؟ فإني منذ ثلاثة أشهر ما ذهبت إلى النادي!
ثم دخلوا جميعا إلى القاعة، فأراهما الخادم إطار الصورة المسروقة، فوقف روكامبول فوق كرسي، وجعل يمعن النظر في طريقة إخراج الصورة من إطارها، فوجف قلبه وعلم أن يدا ماهرة نزعتها من موضعها، ثم التفت إلى الخادم، وقال له: اذكر لي شكل الفتى. - إنه ربعة القوام، أشقر الشعر، هزيل. - أعرف أنطوان اسمه كما تقول؟ - لا بد أن يكون عرفه، فإنه أعطاه رقعة زيارته واسمح لي يا سيدي أن أقول: إن أنطوان طاهر القلب شديد الإخلاص، ولكنه متعنت في رأيه لا يسمع نصحا، ولا يجري إلا ما يخطر في باله. - كيف ذلك؟ - ذلك أنه ذهب إلى تلك القرية كي يعرض شكواه، وفاته أن من يحضر في مركبة لسرقة رسم لا يكون من عوام الناس. - هذا لا ريب فيه ولا شك أن أنطوان بسيط القلب.
فتشجع الخادم لما سمعه، وقال: أتأذن لي يا مولاي أن أقول كلمة؟ - قل. - أظن أن هذا السارق كان له فائدة عظمى بسرقة الصورة، حتى إنه قد يبذل في نيلها كل عزيز.
ثم دنا من روكامبول، وقال له بصوت منخفض: إن الفتى لم يكن غير امرأة متنكرة بثياب الغلمان.
وكان فابيان قد سمع ما قاله الخادم، فقهقه ضاحكا، وأجاب: لم أكن أتوقع هذا الختام.
غير أن روكامبول خطرت له في الحال أوصاف ذلك الفتى، وهي أنه ربعة القوام هزيل أشقر الشعر لا نبات في عارضيه، فارتجف ولم يبتسم لضحك صهره، بل إن العرق البارد جعل ينصب في جبينه، وقال في نفسه: ... باكارا!
فدنا منه فابيان، وقال: ماذا فعلت يا ألبرت؟ ألعلك محبوب إلى هذا الحد؟ وكيف تسمح بمثل هذا الغرام، وأنت على أهبة الزواج بابنة الدوق؟
ولم يكد فابيان يتم كلامه حتى سمعوا وقع حوافر جواد، فأطل الخادم من النافذة، وقال: هو ذا أنطوان قد رجع.
فقال فابيان: ستعلم الآن كل شيء، ادخل يا ألبرت إلى غرفتك؛ لأن المسكين سيجن سرورا برؤياك، وأنا سأقابله وأعلم منه كل شيء.
فدخل روكامبول إلى غرفة قاده إليها الخادم، وهو موجس شرا عظيما لا يعلم سره فيتلافاه، فوقف أمام نافذة الغرفة، وجعل ينظر إلى أنطوان الشيخ، وقد ترجل عن جواده وقال لفابيان وعلائم السرور بادية في ثنايا وجهه: إن مولاي لا بد أن يكون في القصر! ... وقد عرفت ذلك من القرية التي كنت فيها، فقد أعطتني إدارة البريد كتابا إليه وصله إلى باريس بعد سفره. - من أين أتى هذا الكتاب؟ - من إسبانيا.
فلما سمع روكامبول كلامه فرح فرحا عظيما، وقال للخادم الذي كان لا يزال معه: أسرع وأحضر لي الرسالة التي أتى بها أنطوان.
وكان روكامبول قد نسي في تلك الساعة سرقة الصورة وهواجسه ورعبه وباكارا، حين سمع بذكر تلك الرسالة، فلم يطل انتظاره حتى عاد بها الخادم إليه ففضها، وجعل يقرأ فيها بينما كان صهره فابيان يسأل أنطوان عن حادثة الصورة.
أما الرسالة فقد كانت من خطيبته كونسبسيون ابنة الدوق الإسباني، وهي كما يأتي:
أيها الحبيب
هو ذا ثمانية أيام قد مضت دون أن أكتب لك فيها حرفا، ولا بد أن يجول في خاطرك أني نسيت عهدك على أني لا تمر بي دقيقة من دقائق حياتي دون أن أناجيك فيها، فإن حياتي لك.
ولقد كتبت إليك آخر كتاب قبل هذا من سالاندريرا، حيث أقمت فيها مع والدتي ستة أسابيع نبكي على ذلك الوالد الحنون، الذي اختطفته يد المنية من بيننا ليلة زفافنا، وندعو له الله في خلواتنا، وعسى أن يجيب دعواتنا ويحشره في زمرة الأبرار.
والآن أيها الحبيب فإني أكتب إليك من جرنادييز وهي أرض لنا قضيت فيها عهد الطفولية، وهي واقعة بين قاديس وغرناطة في قلب تلك الجنة المغربية، التي يدعونها بلاد الأندلس.
وفي هذه الأرض يتنازع في مخيلتي تذكاران من السعادة والشقاء، أحدهما ملذات الطفولية وأخراهما نكد الشباب، فإن في هذه الأرض سقت تلك النورية التي كانت تهوى الدون جوزيف، ذلك السم النقيع للدون بادرو فأودت بحياته الطاهرة.
ولا يخطر في بالك أني أتيت هذه الأرض مندفعة بتلك الذكرى، فإن قلبي بجملته لك بل إني أتيت إليها مع أمي؛ كي أعجل عقد قراننا.
وأنت تعلم أن عادات الإسبانيين شديدة في الحداد، ولو قدر الله أن يبقى أبي في قيد الحياة ساعتين لكنت الآن امرأتك أمام الله والناس، ولكنه أبى علينا هذا النعيم، فغادرنا باريس نصحب تلك الجثة الباردة إلى سالاندريرا فاستقبلنا أسقف غرناطة، وهو من أقارب أمي، فبقي معنا بعد الاحتفال بدفن الجثة ثمانية أيام كان يمتزج دموعه بدموعنا، وقبل ذهابه خلا بأمي، وتداول معها في أمر لم أعلمه إلا في هذه الأيام، وهذه خلاصته أنقلها إليك وهي: إن أمي والأسقف تداولا في شأن وفاة أبي ليلة عرسي، وبما لقيته من العناء لهذا الاتفاق الغريب، حتى إنهما كانا يخشيان علي عاقبة تلك الأحزان، فجعلا يفكران في طريقة تعجل عقد قراننا تخفيفا لأحزاني، فقال الأسقف: إن أصول الكنيسة لا تؤذن بزواج الأبناء بعد موت والديهم قبل مضي شهرين ونصف على الأقل، ثم إن هناك مصاعب أخرى وهي العادة عند نبلاء الإسبان بإطالة زمن الحداد احتراما للآباء، فلو نقضنا ذاك العهد لقامت علينا قيامة الأشراف، وسلقونا بألسنة حداد. - إني أعرف جميع ما ذكرت ولذا بت قلقة البال على ابنتي لما أعلمه من شغفها بخطيبها. - اسمحي لي أن أسألك بعض أسئلة قبل إبداء رأيي، فهل عقدت شروط الزواج بينكم وبين المركيز؟ - نعم. - وهل أورث صهره اسمه وألقابه؟ - نعم. - إذن فإن الأمر سهل، وهو أن الملك في حاجة إلى سفير من النبلاء يرسله إلى البرازيل، وقد كان عزم على تعيين زوجك الدوق في هذا المنصب، ولما عزم على الكتابة إليه واستدعائه فاجأه خبر نعيه، وهو لا يزال حائرا فيمن يعينه.
فقالت أمي: وأية علاقة لما تقول بتعجيل الزواج؟ - اسمعي، فأنت تعلمين أن الملك لا يخيب لي رجاء، وسأذهب إلى مدريد وألتمس منه تعيين المركيز دي شمري في ذاك المنصب. - لم أفهم بعد. - إنه لا يعنيه إلا متى صار إسبانيا، ولا يصير إسبانيا إلا متى تسمى باسم الدوق سالاندريرا، ولا يتسمى بهذا الاسم إلا متى تزوج بابنتك، فمتى عرف الناس أن المملكة تحتاج إلى سفير ترسله في الحال إلى البرازيل، وأن الملك وقع اختياره على صهرك بطل عتبهم، وعلموا أن إرادة الملك قضت بتعجيل الزواج؟!
فصفقت أمي سرورا وافترقا، فذهب الأسقف إلى مدريد بعد أن أوصى بكتمان الأمر مني وذهبنا إلى غرناطة.
وبعد شهر ورد إلى أمي كتاب من الأسقف يقول فيه: إن الأمور تجري على ما يريد، وأمرها أن تسافر بي إلى هذه الأرض التي أكتب لها منها الآن.
10
وبعد يومين ورد إليها هذا الكتاب الثاني، وخلاصته:
إن الأسقف قد تباحث مع الملك في هذا الشأن، فوعده جلالته أنه سيمر في أرضنا اتفاقا ويعزي أمي لمصابها، ثم يعين ابنتها من نساء بلاط المملكة دلالة على احترامه للدوق الفقيد، ولما كانت نساء البلاط ينبغي أن يكن متزوجات، وقد صدر أمر الملك بتعييني في بلاطه، فلا بد إذن من زواجي وهو خير واق لنقول الناس.
فلما اطلعت أمي على هذا الكتاب أخبرتني عند ذلك بكل شيء، فاسمع الآن ما حدث بعد ذلك.
إننا أصبحنا يوما وإذا بخادمة غرفتي دخلت إلي منذعرة، وهي تقول: سيدتي إن الملك والملكة دخلا بموكبهما، وهما الآن على الباب.
فخرجت مضطربة فرأيت أمي قادمة إلي، فذهبت بي لاستقبال جلالتهما.
وجعل الملك والملكة يعزيان أمي، وأقاما في قصرنا ساعتين، ثم خلت الملكة بأمي وعند انصرافها مع الملك قالت لي: إني عينت بين نساء بلاطي مدام شمري سالاندريرا.
فهزتني هذه الكلمات كما تهز الرياح أوراق الخريف، حتى إني تلعثمت فما عرفت كيف أشكرها غير أن أمي تولت عني تلك المهمة.
وبعد ذهابها بساعتين قدم إلينا الأسقف ودعانا إلى الذهاب إلى قاديس، حيث نقيم في منزله مدة إقامة الملك في تلك المدينة، وسأكتب لك منها بعد ثلاثة أيام.
هذا ما أكتبه إليك الآن أيها الحبيب، وفي كل حال فكن متأهبا للسفر قريبا إلى إسبانيا، فإن يوم سعادتنا غير بعيد.
خطيبتك
كونسبسيون
فتلا روكامبول الكتاب والتأثر باد في وجهه، فنسي موقفه الشديد ولم يخطر في باله غير أن ابنة الدوق تهواه، وأن ملكة إسبانيا اهتمت في شأنه، وأن أعداءه قد هلكوا وانقرضوا، فقال في نفسه: ممن أخاف ولماذا هذا الاضطراب؟ ألقتلي ذاك الرجل الذي يدعي نجم سعادتي؟ وماذا حدث لي الآن مما يحملني على المخاوف؟
ثم ضحك من أوهامه، وقال: إذا كان لا بد لي من الموت، فلا أحب أن أموت إلا سفيرا.
وبعد ذلك خرج كي يرى فابيان الذي ذهب للقاء أنطوان.
وكان أنطوان أخبر الفيكونت فابيان بجميع الحوادث التي جرت قبل سرقة الصورة بأدق تفصيل، فلما فرغ من تفاصيله سأله فابيان، ماذا يدعى الشاب الذي سرق الصورة؟
فأخرج أنطوان من جيبه رقعة الزيارة التي تركتها باكارا، وأعطاها لفابيان، فأخذها منه فابيان وتركه وانصرف ذاهبا إلى قاعة الأكل، ودنا من المصباح الموضوع على المستوقد كي يقرأ الاسم على نوره، وكان أنطوان قد تبعه إليها.
وفي ذلك الحين ظهر روكامبول على باب القاعة، وسمع فابيان يقرأ هذا الاسم: «المركيز دون أنجو دي لوس مونتس».
فلما طرق الاسم مسمعه تراجع إلى الوراء منذعرا؛ لأن الاسم لم يكن غير الاسم الذي اختلقه له أندريا حين عهد إليه إغواء امرأة أخيه الكونتس دي كركاز، كما تقدم في رواية التوبة الكاذبة.
ولحسن حظه أن فابيان وأنطوان كان ظهراهما من جهة الباب، فلم يريا ما أصابه من الرعب والاصفرار حين تلاوة الاسم.
أما فابيان فإنه قلب الرقعة بيده، وقال: إني لا أعرف صاحب هذا الاسم.
ثم التفت فرأى روكامبول واقفا في الباب، فقال له: أتعرف المركيز دون أنجو دي لوس مونتس؟
وكان روكامبول قد ضبط نفسه في هذه الفترة، وعاد إليه سكونه فأجاب صهره ببرود قائلا: كلا.
أما الوكيل أنطوان، فإنه أسرع إلى روكامبول وهو يحسب أنه مولاه المركيز، فصاح صيحة فرح وقال: مولاي المركيز أهذا أنت؟
وكأنه أراد أن يعانقه، ولكنه وقف متهيبا فقال له روكامبول: لا بأس أيها الشيخ تقدم وعانقني.
فهجم عليه أنطوان عند ذلك، وعانقه عناقا طويلا ثم قال له: تعال معي إلى نور المصباح؛ كي أرى ما بقي في وجهك من آثار الطفولية.
وبعد أن حدق به انفك راجعا وهو يقول: عجبا إنه لا يوجد في وجهك أقل أثر من ملامحك القديمة، ولو رأيتك خارج القصر لاستحال علي أن أعرفك.
فقال روكامبول: أما أنا فقد عرفتك، أتعلم أنك لا تزال كما كنت في عهد الشباب؟ - ومع ذلك فإني قد تجاوزت السبعين من عمري.
وكان لا يزال يحدق به، فقال: من الغريب أنك لا تشبه نفسك في شيء حين كنت في عهد الحداثة.
فخفق فؤاد روكامبول، وقال في نفسه: أيجسر هذا الأبله على فضيحتي؟
وعند ذلك قطع فابيان كلام أنطوان، وقال لروكامبول: إذن فلا تعرف صاحب هذه الرقعة؟ - كلا! - غير أن الخادم يوسف يقول إن هذا الفتى كان امرأة متنكرة بثياب الغلمان. - إني لا أعلم شيئا من تلك الألغاز، وفي كل حال فقد أحسن أنطوان بتقديم شكواه إلى الحكومة. - وأنا من رأيك.
ثم أعطاه رقعة الزيارة التي تركتها باكارا، فلما وقع نظره عليها علم في الحال أنها الرقعة التي كان يستعملها حين كان يدعى باسم ذاك المركيز البرازيلي، وأن أشائر المركيزية نفسها وقطع الرقعة، والحروف المطبوعة عليها، ولون الورق كل ذلك واحد ...
بعد ذلك بساعتين كان روكامبول في غرفته يمشي فيها ذهابا وإيابا بخطوات غير موزونة.
وكان يقول في نفسه: لم يعد لدي شك الآن بأن ذاك الفتى الأشقر الذي جاء إلى القصر، وتسمى بالاسم الذي كنت أدعى به من قبل، وسرق رسم المركيز دي شمري القديم لم يكن من الفتيان، بل كان امرأة، وأن تلك المرأة لم تكن إلا باكارا.
وعندما خطر في باله ذاك الخاطر وقف خائفا، وداخل فؤاده شك هائل فقال: لماذا سرقت صورة المركيز؟
وفي الحال انتقل بتصوره إلى المركيز دي شمري الحقيقي، الذي تركه ملقى في الحفرة في الجزيرة، ينتظر أن ينتشله منها، وكان يعتقد أنها ستكون قبرا له لصعوبة خروجه منها، فقال في نفسه وهو يرتعش: أيمكن أن يكون ذاك المركيز قد نجا من الموت، وعاد إلى باريس؟ وإلا فما قصد باكارا من سرقة الصورة؟
وعند ذلك طرق باب غرفته، وكان الطارق أنطوان فأذن له روكامبول بالدخول فدخل، وكانت الساعة قد آذنت بانتصاف الليل.
فقال الوكيل: أرجوك يا مولاي معذرة لدخولي إليك في تلك الساعة المتأخرة، ولكني أسمع خطواتك من ساعتين، فخشيت أن تكون محتاجا إلى شيء.
فابتسم له روكامبول، وقال له: لست بحاجة إلى شيء الآن.
فحاول أن يخرج غير أن روكامبول أوقفه، وقال له: اجلس أمامي لنتحدث.
فجلس أنطوان وعاد إلى التحديق بروكامبول، وقال: عجبا! ما هذا التغيير الذي طرأ عليك، فإن المرء مهما تغيرت ملامحه، فلا بد أن يبقى له شيء من الملامح القديمة.
فجعل روكامبول يحدق بذلك الشيخ بدوره، وقال: وأنا لم يبق لي شيء من تلك الملامح؟ - كلا فإني لا أجد منها أثرا لا في ابتسامتك ولا في نظراتك، حتى إن لون عينيك قد تغير وهو من الغرابة بمكان، فإن لون العين لا يستحيل كأنما قد غيروك في الهند كما يبدلون الأحداث في مهودهم.
فضحك روكامبول ضحك الساخر، وقال له: لا شك أنك مجنون!
ثم إنه جلس على كرسي، وقال له: أعني على خلع حذائي، ودعني بعد ذلك وشأني، فإني أريد أن أنام.
ومد له رجله اليمنى، فركع أنطوان وعالج الجزمة التي كان يلبسها روكامبول، فأخرجها من رجله، وانكشف من تحتها بطة ساقه.
وكان على المستوقد مصباحان ينبعث منهما نور متألق، فجعل أنطوان يمعن النظر في ساق روكامبول، ثم خرجت من فمه صيحة تشير إلى الدهشة العظيمة والإنكار.
فسأله روكامبول: ماذا أصابك؟ - تقول: ماذا أصابني، أليس هذا ساقك الأيمن؟ - دون شك. - إنه كان يوجد على هذا الساق بين البطة والركبة أثر لا يمحى ولا يزول. - لا شك أنك مجنون قم وامض عني. - كلا لست بمجنون، فأين ذاك الأثر؟ - إنه قد زال مع مرور الأيام، ألا تعلم أن آثار الندوب والجروح تزول من الأجسام بتوالي الزمن عليها؟
فلم يبق ريب عند ذلك لدى أنطوان، فوقف وقال له: لقد كذبت فإن ذاك الأثر لم يكن جرحا أو ندبة، بل كان بقعة حمراء خليقة في ساقك لا يمكن زوالها.
فهاج غضب روكامبول وقال: ويحك أيها الشقي! أتجسر على تكذيبي؟!
فصرخ الشيخ يقول: إنك لست بمولاي وما أنت المركيز دي شمري.
فانقض كلامه على روكامبول انقضاض الصاعقة، وخشي الفضيحة، ولكنه تجلد وقال له: ليس ما يمنعني أيها الوقح أن أرمي بك النافذة لولا حبي لك، ولو لم يكن لك علي حق التربية.
غير أن أنطوان قد تغلبت عليه عواطف العدوان، فقال له: إذا كنت المركيز دي شمري كما تقول، فاكشف عن صدرك أمامي. - لماذا؟ - اكشف عن صدرك. - أتأمرني أمرا أيها الوقح. - اعلم يا سيدي أنه إذا اتضح أني كاذب، فلك أن تعاقبني بما شئت، وإذا أبيت أن تكشف صدرك أمامي ناديت جميع من في القصر، وقلت أمامهم: أنك لست بالمركيز.
فكان لذاك الإنذار تأثير شديد على روكامبول فلم ير إلا الامتثال للشيخ، ففتح صدرته وفك أزرار قميصه، ثم كشف عن صدره فأخذ أنطوان المصباح بيده، وجعل يتمعن في ذلك الصدر المكشوف حتى إذا أتم فحصه أرجع المصباح إلى موضعه، وقال له متهكما: إنك لو كنت المركيز دي شمري حقيقة لوجب أن يكون لك ثلاث شامات تحت ثديك الأيسر، فما أنت غير مزور محتال، ولا بد أن تكون فتكت بالمركيز أيها القاتل السفاك.
وعند ذلك ابتعد عنه وحاول أن يصيح مستغيثا، فانقض عليه روكامبول، وقبض على عنقه وجعل يقول له: اصمت واسمع ما أقول.
11
غير أن الشيخ كان يحاول الإفلات منه، ويصيح بصوت المختنق لشدة الضغط عليه، فيخرج متقطعا كالأنين، فلما رأى ذلك منه روكامبول خلع عنه رداء المركيزية، وعاد لصا سفاطا، فضغط على عنق الشيخ ضغطا شديدا حتى جعل الزبد يخرج من فمه، وجحظت عيناه، ولكنه مع ذلك كان يدافع دفاعا شديدا بالرغم عما يتطلبه سنه من الضعف، غير أن أيدي روكامبول كانتا قد نشبتا في عنقه كما تنشب الكلاليب، فلم يستطع صراخا ولكنه لبث يئن.
وعند ذلك دقت الساعة مشيرة إلى انتصاف الليل، وكان جميع من في القصر نياما، فقال له روكامبول: كفاك تئن أو أقتلك، وإذا قتلتك فلا يشعر بي أحد؛ لأن الجميع نيام.
غير أن الشيخ لم ينقطع عن الدفاع ومحاولة الاستغاثة، فجذبه روكامبول وألقاه على الأرض، ثم وضع ركبته فوق صدره ويداه لا تزالان على عنقه، وقال له: إنك ترى نفسك تحت رحمة يدي، فإذا لم تنقطع عن الصراخ خنقتك دون إشفاق.
فلم يستطع الشيخ أن يجيبه، ولكنه نظر إليه بعينيه الجاحظتين نظرة ملؤها الاحتقار، وحاول أن يتخلص أيضا.
وحاول روكامبول أن يجرب معه التمليق، فقال: إني أجعلك غنيا فأعطيك مائة ألف فرنك، وأهبك المنزل الذي في آخر البستان إذا طاوعتني فيما أريد، فإن المركيز مولاك قد مات، وأنا هو المركيز الحقيقي لدى جميع الناس، ومهما تقل فلا تجد من يصدق أقوالك ... قل الآن أترضى بما وعدتك به، وتكتم هذا السر؟
ثم أفرج قليلا عن عنقه كي يسمع جوابه، فلم يجبه بغير هذا القول: إلى الوراء أيها القاتل السفاك إلى الوراء.
فقال له روكامبول: إذن فلم يعد بد من قتلك فاستعد للموت، ثم ضغط على عنقه ضغطا شديدا، وهو لا يستطيع حراكا؛ لأن ركبة ذلك اللص كانت فوق صدره ولكنه لم يخنقه.
وكان جميع من في القصر نياما كما قدمنا، ولما كان هذا الشيخ المسكين لا يستطيع حراكا ولا صراخا، كان الوقت فسيحا لروكامبول للإمعان فيما هو فيه، فذهبت عنه آثار الرعب، وعادت إليه سكينته المعتادة، فقال للشيخ: إني في شرخ الشباب وأنا قوي الساعد متين العضل كما ترى، فلا رجاء لك بالخلاص مني؛ لأنك عارف بسري، ولا يجب أن يعرفه أحد سواي، إذن فلا بد من قتلك وسأفتكر بطريقة موتك.
وعند ذلك جعل روكامبول يقول في نفسه: إني إذا قتلته بالخنجر أو خنقته بيدي، فلا بد أن يروا في الغد أثر الخنجر في صدره، أو أثر اليدين في عنقه.
وفيما هو يفتكر شعر أن دبوس رباط رقبته قد برز منه صعدا ولمس عنقه.
وكأن هذا الدبوس قد أوحى إليه فكرا هائلا، فابتسم ابتسام الظافر لفكره الجهنمي، وقال له: ستموت أيها الأبله من يدي، وسيحسب الناس أنك مت بالسكتة الدماغية.
وفي الحال أدار ذلك الشيخ المسكين الذي انتهكت قواه، فقلبه على بطنه وركع على ظهره، وكان بالقرب منه مخدة السرير، فوضعها تحت فمه كي يمنعه عن الصياح، ثم قبض على عنقه من القفا بيده اليسرى، وأخذ بيده اليمنى الدبوس من صدره فشكه في مخه.
فانتفض الشيخ انتفاضا هائلا ألقى روكامبول طريحا على الأرض، ونهض لحظة ثم انقلب صريعا لا حراك به، فإن الدبوس اخترق نخاعه وأماته في الحال.
أما روكامبول فإنه أسرع إليه والرعب ملء قلبه لخوفه من صياحه، فوجده لا حراك به، وعند ذلك اطمأن باله فأخذ المصباح بيده، واجتذب الدبوس من مخ ذلك الخادم الأمين.
وكان الدبوس قد ثقب في مخه ثقبا رفيعا بقدر جرمه، لا يبدو أثره للعين، ولم يسل غير نقطة صغيرة من دمه البريء فمسحها ذلك السفاك بيده، وأعاد ترتيب شعور الشيخ البيضاء إلى ما كانت عليه، فاختفى أثر الدبوس أتم الاختفاء.
ثم قال في نفسه: إن سر هذا الموت لا يدركه غير حكيم ماهر، وهو سيخفى على طبيب هذه القرية الحقيرة؛ لأنه دون شك دجال، فإذا قلنا أمامه إنه مات بالسكتة الدماغية؛ وافق على قولنا أتم الموافقة.
وبعد أن مسح دبوسه وأرجعه إلى مكانه أقبل يفحص عنق الشيخ وقبضتيه، فما وجد فيها أقل أثر يكشف حقيقة ما كان بينهما، فوقف ينظر إلى وجهه المصفر وقوف الظافر المطمئن، ثم ابتسم ابتسام الأبالسة، وقال: لقد أخطأ من يقول: إن حسن الذاكرة من نعم الله، فإن هذا الأبله لم يقتله غير ذاكرته إذ إنه لو لم يذكر ذلك الأثر في ساق المركيز، وتلك الشامات في صدره لما قضي عليه بالموت، ولأبقيته حيا يتمتع بالوكالة عني في أملاكي.
ولما انتهى من تأبينه حمله إلى زاوية الغرفة وغطاه، ثم قال: لنبحث الآن في هذه الحالة الحاضرة، فإنه يجب قبل كل شيء أن أضع هذا الرجل في غرفته وعلى فراشه؛ إذ يجب أن يجدوه ميتا فيها، ولكن أين هي غرفته فإني لا أعرف شيئا من أحوال هذا القصر فلنبحث.
وخرج من غرفته وبيده المصباح، فأقفل بابها وأخذ مفتاحها من قبيل الحذر، وجعل يمشي في الرواق مشي اللص الخائف.
وكان روكامبول قد تنكر منذ عامين بزي الشحاذ، وأتى إلى القصر مستطلعا أحواله، فعرف كل شيء من أمره، ولكنه لم يخطر في باله أنه سيضطر إلى قتل وكيله، فلم يهتم بمعرفة المكان الذي ينام فيه هذا الوكيل المنكود.
وكان يعلم أن الخدم ينامون في الدور الثاني، ولكنه كان يرجح أن أنطوان بصفته وكيلا في القصر يميز نفسه عن الخدم، وينام في الدور الأول لا سيما بعد غياب مواليه عن القصر أعواما طويلة.
فلما بلغ إلى منتصف الرواق وقف وبيده المصباح، وقال في نفسه: إن هذا الأبله قد طرق باب غرفتي، ودخل علي وقال إنه كان يسمع صوت خطواتي فلا بد إذن من أن تكون غرفته ملاصقة لغرفتي، وإلا فلا سبيل له إلى سماع صوت.
فدنا من الغرفة المجاورة فرأى فيها نورا ضعيفا، فأطفأ مصباحه واقترب من الباب، فوضع عينه على ثقب القفل، وجعل ينظر من خلاله موجودات الغرفة، فكان أول ما رآه طاولة كان عليها مصباح، ورأى بجانب المصباح علبة للتبغ ذكر أنه رآها بيد الشيخ في أول الليل.
ثم نظر إلى الجدار، فرأى معلقا عليه أسلحة وملابس ورداء طويلا كان رأى الشيخ مرتديا به، فلم يبق لديه شك أن الغرفة غرفة القتيل.
فأصغى أتم الإصغاء؛ كي يعلم إذا كان يوجد أحد في الغرفة، ولما وثق من خلوها دفع الباب ودخل ففحص الغرفة فحصا مدققا، ووجد على الطاولة جريدة ملفوفة بقطعة من الورق مطبوع عليها هذا العنوان «إلى الموسيو أنطوان وكيل قصر الأورنجري»، فلم يبق لديه شيء من الشك، فأنار مصباحه وخرج إلى غرفته، فحمل القتيل على كتفه، وجاء به إلى الغرفة فجرده من ثيابه، وألبسه ملابس النوم ووضعه في سريره، وفتح الجريدة فقلب صفحاتها ثم ألقاها إلى الأرض؛ كي يقال إنه كان يقرأ قبل أن يموت هذا الموت الفجائي.
ولم يبق عليه إلا صعوبة واحدة، وهي إقفال الغرفة من الداخل والخروج منها؛ كي لا يبقى مجال للشك أنه مات حتف أنفه، وبعد الإمعان رأى فوق الطاولة التي بإزاء السرير نافذة واحدة، فصعد إلى الطاولة وفحصها، فوجد أنها تشرف على الرواق، ففرح فرحا وحشيا ونزل فأقفل باب الغرفة من الخارج، ثم عاد إلى الطاولة، فصعد منها إلى النافذة وسقط إلى الرواق.
فلما وصل إلى حجرته اطمأن خاطره، وتنهد تنهد المنفرج بعد ضيق شديد، وقال: ليس من يشك في الغد أن هذا الشيخ قد مات بالسكتة الدماغية، ثم عاد إلى كتاب خطيبته ابنة الدوق يتغزل بمعانيه، ويعلل النفس بما سيناله من الوجاهة في البلاط الإسباني، وبتلك السعادة التي سينالها كأن يده الأثيمة لم تتلطخ بدم ذلك القتيل المنكود.
وفي الساعة السابعة من صباح اليوم التالي دخل روكامبول إلى غرفة صهره، وهو باسم الثغر وعليه ملامح السعادة والهناء، فدفع كتاب خطيبته إلى صهره، وقال له: ما رأيك في هذا الكتاب؟
فأخذه فابيان وجعل يقرأه بإمعان وهو يتبسم، فلما أتم قراءته قال له: أرى أنه يجب أن تغدو إسبانيا في أقرب حين.
وفيما هما يتباحثان إذ أقبل عليهما خادم وعليه ملامح الذعر، فأخبرهما بوفاة أنطوان.
فأجفل روكامبول، وقال له: ويحك! كيف مات هذا الخادم الأمين؟ - إننا وجدناه يا سيدي ميتا في غرفته وهو في فراشه.
فقال روكامبول، وقد أخذ الكدر منه كل مأخذ: مسكين! فلقد مات مسرورا بي وما قتله إلا الفرح.
12
ولنعد الآن إلى إسبانيا حيث تركنا فرناند روشي مع امرأته هرمين في قاديس، بعد أن علما من قومندان الميناء ما ذكرناه بشأن المركيز دي شمري الحقيقي، فنقول: إنه بعد مضي خمسة عشر يوما على ما تقدم كانت سراي الحكومة في قاديس مزينة أجمل الزينة، والشعب الإسباني تتقاطر جماهيره في الشارع المؤدي إلى السراي.
وذلك لأن الملكة كانت تقيم في ذلك الثغر منذ خمسة عشر يوما للاستحمام بمياه البحر، وكانت قد وعدت المجلس البلدي بحضور حفلة أعدها لمساعدة فقراء المدينة.
فبدأت المركبات تتوارد إلى السراي منذ الساعة التاسعة صباحا، فتنزل من فيها من الزائرين والزائرات، ثم تعود فتقف في مواضعها المعينة.
وكانت الحفلة حفلة رقص اختلفت فيها أزياء المدعوين، وقلدت فيها ملابس جميع العصور والشعوب، بحيث باتت مناظر تلك الأزياء الغريبة مما تدهش الأبصار.
وكان نظام تلك الحفلة أن الرقص يبدأ الساعة التاسعة، ويسوغ للراقصين والراقصات أن يلبثوا متنكرين إلى منتصف الليل، وعند ذلك تحضر الملكة فتسفر البراقع عن جميع الوجوه احتراما لجلالتها؛ إذ لا يسوغ أن يقف أحد من رعيتها أمامها موقف التنكر.
فلما دقت الساعة التاسعة أقبلت مركبة يظهر من شكلها أنها فرنسية إلى السراي، وخرج منها رجلان وامرأة، فكان أحد الرجلين متنكرا بملابس رجال البلاد في عهد لويس الخامس عشر، وكانت المرأة لابسة لباس المركيزات وهي متأبطة ذراعه.
وكان كلاهما سافر الوجه، فلما رآهما المتفرجون ذكروا أنهما رأوهما مرات كثيرة في الملاعب، وفي شاطئ البحر والمنتزهات العمومية؛ إذ إنهما كانا فرناند روشي وامرأته هرمين.
أما الرجل الآخر الذي كان يصحبهما، فقد كان متنكرا بزي حرسي من الحرس الإمبراطوري الروسي، وهو شاب جميل الطلعة لم ينبت الشعر في خديه، أشقر الشعر، حاد النظر، تدل هيئته على الثبات وقوة الإرادة، وكان أيضا كرفيقيه مسفر الوجه.
فلما دخل إلى القاعة الأولى بعد فرناند وامرأته، أحدقت به الأبصار لجماله، وقال إسباني من المدعوين إلى الحفلة لرفيق له: من هذا الفتى المرتدي بملابس الحرس الروسي؟
فأجابه رفيقه: إنه روسي حقيقة. - ماذا يدعى؟ - إنك تسأل سؤالا يصعب الجواب عليه، فإن اسمه ينتهي بلفظة «سكي» أو «أوف» كثير الحروف، بحيث يستحيل التلفظ به إلا بعد حفظه مرات كثيرة. - ومتى قدم إلى قاديس؟ - منذ ثلاثة أيام ... - وأين يقيم؟ - في فندق أستيري ولا تسألني غير ذلك، فإن هذا كل ما أعلمه. - الحق أنه بارع الحسن يفضل بجماله النساء.
وبينما كان الإسبانيان يتحدثان بشأن هذا الحرسي، كان ذاك الفتى الجميل يطوف في قاعات السراي مع فرناند وامرأته، وهم يبحثون عن قومندان الميناء العسكري.
فلما عثروا به تبادلوا التحية، ثم أخذ الروسي القومندان وسار به إلى حديقة السراي، وجلسا في محل منفرد لم يكن فيه أحد، ودار بينهما الحديث الآتي، فقال الروسي: أنجحت في مهمتك؟ - نعم يا سيدتي. - لا تنادني بألقاب النساء، ثم لنتكلم باللغة الفرنسية مبالغة في الحذر. - ليكن ما تريدين ... عفوا فقد غلطت وليكن ما تريد ... - قل الآن ما فعلت. - ذهبت في هذا الصباح، إلى القصر الذي تقيم فيه الملكة والملك فالتمست من جلالته، أن لا يسألني عن السبب، ونلت منه حرية الأجراء، وذلك بعد أن قلت له: إن شرف أسرة من أعرق أسرات البلاد الإسبانية نسبا يتعلق على تصرفي هذا، فاسمعي الآن بيان الخطة التي عزمت على أن أتبعها. - قل لنرى. - إنه سيحضر الآن فيتجول بين الراقصين والراقصات، وهو مقنع الوجه إلى أن ينتصف الليل فيترك الحفلة وينصرف. - وبعد ذلك؟ - يعود إلى الحفلة بعد انصراف الملكة ... - ويزيح القناع عن وجهه؟ - كلا؛ إذ لا يوجد كثير من الناس. - إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تريد أن يبرح الحفلة عند حضورها ويعود بعد انصرافها؟ - ذلك؛ لأنه مهما كانت براءته تامة جلية في أعيننا، فإنه لم يتبرأ بعد تبرئة رسمية، وإذ كان لا يزال من المجرمين في عين القضاء، فلا يجمل حضوره حفلة تحضرها الملكة، فإن ذلك يحسب إهانة لها وللقضاء. - لقد أصبت وأما هي فماذا يكون من شأنها؟ - إنها تبقى في الحفلة بعد ذهاب الملكة. - أتحضر حفلات الرقص بالرغم عن واجب الحداد؟ - نعم ولا جناح عليها في شيء، فإن جلالة الملكة قد عينتها بين نساء بلاطها، وحيث تكون الملكة يجب عليها أن تكون، وأما بقاؤها في الحفلة بعد ذهاب الملكة، فستأمرها الملكة بالبقاء دون أن توضح لها الأسباب. - ألم تسألك الملكة شيئا؟ - كلا فإني جثوت أمامها وقلت لها: إن ما ألتمسه من جلالتك سينقذ من العار أنبل أسرة إسبانية، فاكتفت بذلك ولم تسألني شيئا.
فقال الروسي: إن الأمور تجري في خير المناهج.
ثم أخذ برقعا مخمليا من جيبه، ووضعه على وجهه الجميل وقال للقومندان: دعني أفارقك الآن، فإني ذاهبة لمراقبة ذاك الرجل الذي تحميه إنما قل لي: أأنت واثق من أن الفتاة لابسة ثوبا أسود وعلى كتفها شريطة حمراء؟ - كل الثقة. - وهو ماذا يلبس؟ - إنه يبقى بثوبه العادي، ولما كان البرقع يستر وجهه، فلا يعرف أحد حقيقة أمره، ويحسبون أنه متنكر بملابس المجرمين.
ثم دخل الاثنان إلى قاعات الرقص وهناك افترقا، فذهب القومندان يبحث عن فرناند روشي وامرأته، وذهب الروسي إلى القاعة الأولى التي لا بد لكل مدعو من المرور بها حين قدومه، وجعل يراقب عند بابها وهو مقنع الوجه لا يعرفه أحد.
وأقام عدة دقائق يراقب في هذا الموقف، إلى أن دخل رجل استلفت أنظار الحضور بلباسه الغريب، وجعلوا يتحدثون بأمره وكلهم ينظر إليه ضاحكا معجبا.
وكان ذاك الرجل ربعة القوام، تدل خطواته وثبات أقدامه، وسرعة انتقاله على أنه لم يتجاوز عهد الشباب، وهو مقنع بقناع كثيف يحجب وجهه عن العيون.
على أن جميع حركاته وشكل سلامه كانت تدل على أنه من كبار النبلاء.
أما الذي كان يدعو الناس إلى العجب منه، فإنه كان مرتديا بملابس المجرمين المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة.
فكان أحد الحاضرين يقول: ما هذا الثوب المخيف؟ ويقول آخر: لا شك أنه إنكليزي؛ إذ لا تخطر هذه الغرابة إلا في خواطر الإنكليز.
واتفق في ذلك الحين مرور القومندان، فقالت له إحدى السيدات على سبيل المزاح: ألعلك يا حضرة القومندان دعوت محابيسك لحضور الحفلة؟ - نعم ولكن اطمئني يا سيدتي؛ لأني ما دعوت إلا أعقلهم، ولا تخشي هذا المجرم؛ لأنه من الأشراف.
ثم تركها القومندان وانصرف ومشى المجرم أيضا، فسار بأثره الروسي حتى إذا بلغ القاعة الثالثة وضع الروسي يده على كتف المجرم، وقال له: أتلعب لعبة الباكارا يا سيدي؟
فارتعش المجرم وأجابه بصوت منخفض: نعم يا سيدي. - إذن، اتبعني.
ثم تأبط ذراعه وسار به إلى قاعة لم يكن فيها رقص، وكان فيها بعض المدعوين يتكلمون بأصوات منخفضة.
وكان بينهم امرأة لابسة لباسا أسود، وعلى كتفها شريطة حمراء، ولكنها جالسة بمنعزل عن الحاضرين لا تكلم أحدا، فدل الروسي المجرم عليها وقال له: تعال معي إليها.
وكانت هذه الفتاة غائصة في بحار من التأملات العميقة، فلما شعرت بدنو الرجلين منها، ورأت ملابس ذلك المجرم ذعرت لمرآه، وبدت عليها علائم الخوف.
فقال لها الروسي: لا تخافي يا سيدتي؛ فإن المجرمين الذين يحضرون مثل هذه المراقص لا خطر منهم.
فاطمأنت الفتاة وابتسمت معجبة بهذا اللباس، وجلس الروسي بإزائها فقال لها: إنك أتيت يا سيدتي من فرنسا قريبا أليس كذلك؟
فانذهلت الفتاة؛ لأنها كانت متنكرة أشد التنكر، وقالت له: ألعلك تعرفني؟ - نعم وإذا كنت تريدين فإني أذكر لك اسمك.
ثم دنا منها وقال لها همسا: إنك تدعين يا سيدتي كونسبسيون دي سالاندريرا، ولم أتجاسر على الدنو منك؛ إلا لأنك قادمة من فرنسا.
فجعلت ابنة الدوق تنظر إليه متمعنة، وقد خيل لها أنها سمعت هذا الصوت من قبل، ثم قالت: ألعلك فرنسي؟ - إني روسي كما ترين من ملابسي التي ألبسها، وأما صديقي هذا ...
ثم أخذ بيد المجرم وقدمه لابنة الدوق سالاندريرا قائلا: إن هذا المجرم من أشرف العائلات.
فانحنى المجرم أمامها باحترام شديد أزال ما بقي في فؤادها من آثار الرعب لمنظره، فردت تحيته ودعته إلى الجلوس بجانبها.
فنهض الروسي عند ذلك، وانحنى أمام المجرم وهمس بأذنه قائلا: إياك على الأخص أن تذكر أمامها اسمك، ثم تركهما ومضى.
فلما خلا المكان بالمجرم وابنة الدوق دار بينهما الحديث الآتي، فقالت الفتاة: إذن، أنت فرنسي؟ - نعم، يا سيدتي. - وأنت قادم من باريس دون شك؟ - إني لم أر بلادي يا سيدتي منذ عشرين عاما، وا أسفاه! - إذا كان ذلك، فكم يكون عمرك؟ - سأبلغ الثلاثين بعد بضعة أشهر. - إذن فقد غادرت بلادك وأنت في العاشرة من عمرك؟ - وا أسفاه! هي الحقيقة ما تقولين. - وسكنت في إسبانيا بعد ذلك؟
فارتعش المجرم، وقال: إني لم أعرف إسبانيا إلا منذ إحدى عشر شهرا وأنا في قاديس غير أني قبل ذلك ... ثم وقف مترددا. - قل يا سيدي إني مصغية إليك.
فقال بصوت فيه لهجة الكآبة أثر على ابنة الدوق تأثيرا عظيما: إنه قد يتفق يا سيدتي وجود امرأة تحضر حفلة راقصة، وهي بملابس الحداد، كما تفعلين ويتفق أيضا وجود رجل في هذه الحفلة لا يحق له لبس الحداد كما اتفق لي. - ماذا تعني بذلك؟ - أريد يا سيدتي أن حزني شديد يخترق أعماق القلب ولا يدري به أحد. - إذن فقد تعذبت كثيرا؟ - ولا أزال أتعذب.
وقد قال تلك الكلمات الأخيرة بلهجة حزينة اضطرب لها قلب الفتاة، ولكنه أسرع بعد أن تنهد إلى الحديث، فقال: لقد التمست يا سيدتي أن أقدم إليك فإنك قادمة من العاصمة التي طالما حن قلبي إليها، ولا أحب إلي من الكلام عن ذاك الموطن العزيز الذي تركت فيه من أحب، فلقد ذكر عن لطفك ما دفعني إلى أن أقدم إليك دون أن أتردد أو أخشى الخيبة.
وسكت الاثنان بعد ذلك سكوتا قصيرا، فإن ابنة الدوق تضايقت في أمرها حين رأت نفسها منفردة بهذا الرجل الذي اختارها كاتمة لأسراره دون أن يعرفها، ثم كأنما الرغبة الفطرية بالنساء للوقوف على الأسرار دفعتها إلى الاطلاع على أمره، فذهب ما عندها من الوجوم، وقالت له: ألعلي أستطيع خدمتك في شيء يا سيدي؟
فقال المجرم بلهف: حدثيني يا سيدتي بأحاديث باريس ، فإن اسم هذه العاصمة حبيب إلى قلبي.
ولبث الاثنان ساعتين يتحدثان في تلك القاعة الخالية من الراقصين، فتحدثا عن باريس وفرنسا وأخلاق الباريسيين، فإن كل كلمة كان يسمعها ذاك المنفي الذي فارق الوطن منذ عشرين عاما تدعوه إلى العجب والانذهال، وتدفعه إلى الأسئلة والاستفهام، فإنه كان باريسيا ولكنه لا يعرف باريس، وكان فرنسيا ولكنه لا يعرف فرنسا إلا كما يعرفها من يقرأ رواياتها من الغرباء عنها.
غير أنه كان حنون الصوت عذب الكلام رشيق التعبير، فكانت الفتاة تصغي لأقواله وهي تشعر أنها منجذبة إليه بجاذب سري.
وعند ذلك دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فارتجف المجرم ونهض مسرعا.
13
فنظرت ابنة الدوق إلى اضطرابه منذهلة، أما المجرم فإنه قال لها: عفوك يا سيدتي؛ فإني مضطر إلى الذهاب. - وإلى أين أنت ذاهب؟
فوضع أصبعه على فمه وقال: إن هذا سر من الأسرار.
ثم أخذ يدها، وتجاسر على تقبيلها وقال: إنك لا تبرحين المرقص قبل الساعة الثالثة. - لماذا؟ - لأني في الساعة الثالثة أكون قد عدت إليه.
ثم انحنى أمامها مسلما باحترام شديد، وانصرف.
فجعلت ابنة الدوق تراقب خطواته إلى أن غاب عن أبصارها، فجعلت تقول في نفسها: ما هذا الرجل؟! وما هذا النظام السري الذي تخضع له القلوب هذا الخضوع؟! فإني ما رأيت وجه هذا الرجل ولا عاشرته من قبل، ولا عرفت شيئا من أمره، ولكن لهجة صوته الحزينة تميل إليه القلوب، ولا بد أن يكون قد أصيب بنكبة شديدة أورثته هذه الكآبة الحنونة، وهو يبالغ في كتمان أمره.
ثم نظرت إلى ما حولها فرأت أنها وحدها في القاعة، فقامت تحاول الاختلاط بالناس. ولكنها ما لبثت أن رأت الفتى الروسي قد دخل وهو لا يزال مقنعا، فدنا منها وقال: ماذا فعلت بصديقي؟ - إنه تركني فجأة حين دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل. - إني أعلم سر انصرافه في هذه الساعة، ولكن هذا السر غير مختص بي ولا يسعني إفشاؤه، على أنك لو سألتني يا سيدتي إفشاء أسراري الخاصة لما تمنعت عن الإباحة لك بها. - أنت محاط بالأسرار أيضا؟ - هي أسرار غريبة يا سيدتي. - وما يهمني إذا كان لا علاقة لي بها؟! - لا شيء، ولكنها على عكس ما تظنين. - وأيه علاقة لي بأسرارك يا سيدي؟! إني لا أفهم ما تقول، ولا أعرف من أنت. - هذا أكيد ولكننا قد التقينا مرات عديدة في مجالس باريس، وأنا أعرف كثيرين من معارفك حتى إني أعرف المخلصين لك أيضا.
فارتعشت ابنة الدوق، وقالت: أصحيح ما تقول؟ - لا ريب فيما أقوله، ودليل ذلك أني أقص عليك شيئا من تاريخ حياتك إذا أحببت.
فقالت له بقلق: من أنت؟ - إنك ترين أيتها السيدة الحسناء أننا في حفلة رقص يجوز فيها التنكر. - إذن، فلا تقول لي من أنت. - كلا، ولكني مقابل هذا الكتمان أخبرك بأمور لا تعلمينها بعد أن تتذكري كثيرا مما تعلمينه، مثال ذلك أني أعلم كيف مات الدون جوزيف خطيبك الثاني.
فاضطربت الفتاة واصفر وجهها تحت البرقع، وعاد الروسي إلى الحديث، فقال: وأعلم أيضا كيف مات الدوق دي مايلي.
وكان روكامبول كتم عنها موت الدوق، فصرخت قائلة: كيف ذلك؟ أمات الدوق؟! - إنه مات يا سيدتي في ذات اليوم الذي ذهبت فيه من باريس مع أبويك إلى أرض الفيكونت فابيان لشرائها.
فذعرت الفتاة، وقالت: من أنت أيها الرجل العارف بجميع تلك الأمور؟ - إنك ترين أيتها الحسناء أني من حرس جلالة إمبراطور روسيا. - ولكن ذلك لا يدل على اسمك. - إني أدعى أرتوف. - أرتوف؟ - نعم يا سيدتي، فإنك تعرفين هذا الاسم، وأنا قريب الكونت أرتوف ذلك التعس المنكود الذي خدعته امرأته كما يقال، وقد عرفت حكايته دون شك فإنه ذهب عقله وهو يحاول مبارزة رولاند دي كايلت. - لقد سمعت بهذه الحادثة يا سيدي، فقد تناقلتها الأفواه.
ثم قالت بلهجة الساخر: أما أنت فلا بد أن تكون عرفت تفاصيلها من الكونتس أرتوف نفسها؟
ورأى الروسي أن اسم الكونتس أرتوف قد أثر ثأثيرا سيئا على الفتاة، فقال لها: إنك إذا أذنت لي يا سيدتي أخبرتك بأمر تجهلينه.
فقالت له مظهرة عدم الاكتراث: إني أأذن لك فقل ما تشاء . - أتأذنين لي أيضا يا سيدتي أن أذهب بك إلى الحديقة؟ - لماذا؟ - لأريك شخصا تعرفينه، ولا يخطر في بالك أنه في قاديس. - الحق يا سيدي أنك مكتنف بالأسرار والألغاز. - ألم أقل لك يا سيدتي إني أعرف شيئا من أسرارك؟
فأظهرت إشارة دلت بها على ريبها، فقال لها الروسي: مثال ذلك أنك كتبت أمس إلى خطيبك المركيز دي شمري.
فخفق فؤاد ابنة الدوق، وجعل ذراعها يرتجف تحت ذراع الروسي، ولكنها كانت تسير معه إلى الحديقة مندفعة بحب الوقوف على هذا السر؛ وكي ترى ذلك الرجل الذي قال لها الروسي إنها تعرفه، وقد خطر لها أن هذا الرجل يمكن أن يكون «هو» المركيز دي شمري.
وكان الروسي يسير بها إلى الحديقة، وفيما هو نازل وإياها على سلم القصر قال لها: لا تحسبي أيتها السيدة الحسناء أني أبالغ في ما ترينه من التحوط والكتمان إلا لأمر خطير.
فضاق ذرع الفتاه، وقالت له بلهجة الجازع: أوضح لي يا سيدي إذن هذه الألغاز. - ستعلمين كل شيء فاتبعيني.
ثم سار الاثنان في رواق طويل تكتنفه الأشجار من الجانبين، ولم يكن يمر به غير بعض المتنزهين.
وكان يوجد في آخر الرواق غرفة أو كوخ من الخشب تغطيه الخضرة، ولم يكن فيها غير مصباح واحد معلق في وسط سقفها.
ففتح الروسي باب الكوخ، ودخل فتبعته ابنة الدوق، فرأت فتاة جالسة على مقعد وهي مقنعة بقناع كثيف ومتنكرة بملابس النور.
وكانت هذه الفتاة تنتظر قدومها دون شك، كما ظهر من نهوضها وبادرتهما بالتحية.
فانذهلت ابنة الدوق؛ لأنها لم تكن ترى في تلك الليلة غير أسرار يشكل عليها فهمها، فأغلق الروسي عند ذلك باب الكوخ، وقال لابنة الدوق: إننا الآن وحدنا، وسأريك هذا الشخص الذي قلت لك: إنك تعرفينه، وفاء للوعد.
ثم أشار إلى المتنكرة النورية، فأزاحت البرقع عن وجهها، ووقفت بقرب المصباح.
فصاحت ابنة الدوق صيحة انذهال وقالت: من أرى ... الكونتس أرتوف؟
فجعل الفتى الروسي يضحك ضحكا عاليا، ثم وقف بإزاء تلك التي دعتها بالكونتس أرتوف، فأزاح القناع عن وجهه وقال: انظري إلي أيضا يا سيدتي فإن في منظري ما يدهشك.
فلما رأته ابنة الدوق صاحت صيحة أخرى، وجعلت تجيل نظرها بينهما وقد بدت عليها علائم الانذهال الشديد، والحيرة الغريبة؛ ذلك لأنها كانت ترى أمامها امرأتين كلتاهما الكونتس أرتوف وكلتاهما باكارا، ولم تر فرقا بينهما إلا بالملابس، فإن إحداهما كانت متنكرة بملابس النوريات، والأخرى بملابس حرسي روسي.
فقالت لها حينئذ باكارا، وكانت هي المتنكرة بلباس الفتيان: أتعلمين يا سيدتي أينا الكونتس أرتوف؟ - إني أحسبني حالمة فلا أفقه شيئا من هذه الألغاز. - كلا؛ بل أنت في اليقظة. - إذن فقد ذهب عقلي الآن، وما أنا إلا من المجانين وإلا فما معنى ما أراه؟ - انظري يا سيدتي إلى هذه الفتاة، فإنها أختي وهي تدعى ريبيكا، ولكنها أختي من أبي، فإن أمها يهودية.
فنظرت ابنة الدوق عند ذلك إلى الفتى الروسي، وقالت: إذن أنت الكونتس أرتوف بالحقيقة.
وشفعت كلامها بابتسام دل على الاحتقار، فعظم ذلك عند باكارا وعلمت أنها أرادت احتقارها لاشتهار حادثتها في باريس، فقالت لها: سلي هذه السيدة حتى تجيبك أنها هي التي أحبها رولاند كايلت، وكان يحسبها الكونتس أرتوف وليس أنا.
فقالت ريبيكا: نعم؛ أنا هي، وقد دفعت إلى تمثيل هذا الدور الشائن.
فصاحت ابنة الدوق صيحة جديدة، ولكنها لم تكن صيحة اندهاش؛ ذلك أنها رأت بعد ما علمته أن حجابا كثيفا قد انجلى عن بعض الحوادث الغامضة لديها، غير أنها لم تعلم كل شيء بل إنها أوشكت أن تعلم.
ولما كانت هذه الفتاة من نبلاء الأسرات الإسبانية، فقد وبخها ضميرها لاتهامها باكارا بالخيانة، فمدت يدها إليها وقالت لها مستغفرة: أسألك العفو يا سيدتي فقد تجاسرت على اتهامك بما أنت بريئة منه.
فابتسمت باكارا ابتسامة حزينة، وقالت: لست أنت وحدك يا سيدتي التي تفردت باتهامي، بل إن جميع أسرات باريس قد حكمت علي حكما صارما لا يطاق. - ولكنها سترجع إلى ما هي مدينة لك به من الاحترام، كما رجعت أنا حين تشتهر الحقيقة. - كلا فلم يحن الوقت بعد. - لماذا؟ - لأن لدي مهمة خطيرة يجب أن أهتم بها قبل الاهتمام بنفسي.
ولما رأت باكارا أن انذهال ابنة الدوق قد بلغ أقصاه، قالت لها: لا تنذهلي يا سيدتي، فستعلمين كل شيء وستحمديني لاهتمامي بشئون غيري قبل الاهتمام بشئون نفسي، والآن فاسمحي لي أن أسألك ألست مقيمة مع سيدتي الدوقة والدتك في قاديس، في منزل قريبك أسقف غرناطة؟ - نعم. - أليس هذا المنزل خارج المدينة، وهو على شاطئ البحر تتكسر الأمواج على جدرانه؟ - نعم. - إذن أرجوك أن تكوني على سطح المنزل غدا في مثل هذه الساعة، أي: بعد منتصف الليل. - ولكن ألا تقولين لي ... - لا أستطيع أن أقول شيئا الآن يا سيدتي سوى أن أخبرك بأنك معرضة لخطر هائل. - رباه! ماذا أسمع؟! إنك تخيفينني. - لا بأس فاسمحي لي بالذهاب.
ثم أخذت البرقع وتقنعت به، فقالت لها الفتاة: ألا أراك بعد هذه الليلة؟ - ربما ولكن لا تنسي أن الساعة قد بلغت بعد منتصف الليل.
فارتعشت الفتاة، وقالت: ماذا تعنين بذلك؟ - أعني أن الرجل المتنكر بملابس المجرمين قد وعدك أن يعود إلى المرقص في هذه الساعة ويجب أن تقابليه. - وأية علاقة بيني وبين ذاك الرجل؟ - ذلك ما لا أستطيع أن أقوله أيضا إنما حين ترينه قولي له: «إني رأيت الكونتس، وإنها تأذن لك بأن تقص علي قسما من حكايتك.»
ثم أشارت باكارا إلى أختها ريبيكا أن تتبعها، فوضعت برقعها على وجهها وعند ذلك حيت باكارا ابنة الدوق، وقالت لها: ابقي في مكانك هذا فسأرسله إليك.
وعند ذلك خرجت الأختان، وبقيت ابنة الدوق في موضعها، وكانت قد تلاشت قواها لفرط ما سمعت من الغرائب، لا سيما حين علمت أنها معرضة لخطر هائل، فجلست على مقعد في ذلك الكوخ، ووضعت رأسها بين يديها، وقالت: رباه ما هذه الأسرار؟
وأقامت وحدها عدة دقائق فكانت الأنغام الموسيقية يحملها نسيم الليل، فيجتاز بها أشجار تلك الحديقة الغناء، فتبلغ إلى مسامعها رخيمة شجية لا يزاحمها غير حفيف الأوراق، ولكنها كانت بعيدة عن الإصغاء إليها لانصراف بالها إلى حديث باكارا، وما أورثتها من المشاغل ، حتى إنها أرادت أن تفتكر بمن تهواه نفسها أي: بخطيبها المركيز دي شمري فلا تجد للافتكار به سبيلا لشدة اضطرابها.
ولم يكن يصغي قلبها إلا لذلك الصوت السري، الذي كانت تخرج نبراته الحنونة من فم ذلك الرجل الذي تزيا بزي المجرمين، وهو أشد وداعة من الحمام كما يستدل من لطف حركاته، ومن صوته الحنون الرخيم، فكان يشغلها من أمر هذا الرجل شاغلان أحدهما ما وجدت في نفسها من الارتياح إليه، والآخر شدة توقها إلى الوقوف على حكايته.
وفيما هي غائصة في بحار تأملاتها إذ سمعت وقع أقدام، فرفعت رأسها ورأت رجلا واقفا على باب الكوخ، وكان هذا الرجل هو بعينه أي: ذلك المجرم الذي شغلها هذا الانشغال.
غير أنه لم يكن مقنعا كما رأته قبل منتصف الليل، بل كان حاسر الوجه فأثرت هيئته على ابنة الدوق تأثيرا عظيما.
وكان هذا المجرم يناهز الثلاثين من العمر، وهو أشقر اللحية أزرق العينين ينبعث منهما أشعة تمتزج بين الكآبة، ومظاهر الذكاء، ومجمل هيئته يدل على السلامة والدعة.
فدنا منها وقبل يدها باحترام، وقال لها: إن الكونتس أرتوف يا سيدتي قد أخبرتني الآن أنك في هذا المكان من الحديقة و...
ثم توقف مترددا عن الكلام، فشجعته ابنة الدوق بابتسامة، فقال باضطراب: وأنك تنتظرينني يا سيدتي. - هو الحق ما تقول يا سيدي فإن ما قالته لي الكونتس، وما قلته لي أنت قد هاجا مكامن الفضول مني.
فابتسم ابتساما كئيبا، وسكت.
أما ابنة الدوق فإنها دعته بإشارة للجلوس بقربها، وقالت له: إن الكونتس تأذن لك أن تحكي لي شيئا من حكايتك.
فمرت غمامة كثيفة فوق مخيلة الشاب، وكان يحاول دون شك أن يبدأ بقص حكايته، غير أنه ما لبث أن تأهب للحديث حتى رأى أن باب الكوخ قد فتح بعنف، وبرز منه رجل وجف قلب ابنة الدوق عند رؤياه.
وكان هذا الرجل لابسا ملابس تدل ألوانها وشكلها على أنه من حراس السجون.
غير أن هذا الحارس لم يحفل بما رآه من اضطراب ابنة الدوق، بل إنه نظر إلى الفتى الجالس بقربها، وناداه باسمه وهو نمرة 30؛ لأن كل سجين يستبدل اسمه بنمرة خاصة به فينادى بها.
ثم قال له: ينبغي أن تعود، إنه يجب أن تعود في الساعة الرابعة، وإن الساعة الآن الثالثة ونصف، فلم يبق لك من الحرية غير نصف ساعة أيها المركيز.
ولما قال هذا القول بلهجة الآمر تركه وانصرف، فلما رأت ابنة الدوق أنه خرج نظرت إلى هذا الشاب الذي دعاه حارس السجن بنمرة 30، ثم دعاه بالمركيز، وقالت له - والرعب ملء فؤادها: من هذا الرجل؟ وماذا يريد؟ وماذا يبغي من قدومه إلى هنا؟
فأجابها بلطف: إنه أتى يا سيدتي يبحث عني. - يبحث عنك أنت؟
فلم يجبها الفتى ولكنه رفع الوشاح الذي كان يغطي ساقه، وقال لها: انظري يا سيدتي.
فذعرت ابنة الدوق ذعرا شديدا؛ لأنها رأت سلسلة من الحديد مربوطة في ساقه، وهي قيد المجرمين في السجون وتراجعت إلى الوراء.
فقال لها بكآبة ولكن دون خجل: إن هذا الرجل يا سيدتي هو حارسي، وإن الثوب الذي ألبسه لا أريد به التنكر في هذه الحفلة الراقصة، بل إني مجرم حقيقي أكرهت على لبس هذا الثوب، واستبدل اسمي بنمرة فهم يدعونني نمرة 30.
14
ولقد يتوقع القارئ أن يغمى على ابنة الدوق من الذعر، أو أنها تخاف مما رأته فتصيح وتستغيث وتفر هاربة من هذا المجرم، غير أنها لم تفعل شيئا من ذلك.
وذلك أن هذا الرجل كان مجرما حقيقيا، ولم يعد لديها ريب في أمره بعد أن رأت في رجله القيد.
غير أن لهجته كانت لهجة النبلاء، ورواء عينيه يدل على السلامة والخلوص، حتى إنه عندما أكد لها أنه من المجرمين كان يكلمها بكآبة ونبل تظهر أن شدة بعده عن مواقف الذنوب، فهدأ ثائر روعها وقالت: لا بد أن يكون هذا المسكين ضحية أغلاط القضاء، وأن له حكاية غريبة، فلم يجد سبيلا إلى إظهار براءته مما هو متهم به.
وقد استحال نفورها منه وانذعارها من قيده إلى استئناس به وارتياح إليه، فقالت له: لقد رأيت قيدك يا سيدي، ولكني واثقة من براءتك فبأية جريمة قد اتهموك؟! ثم مدت إليه يدها إشارة إلى ارتياحها.
فأخذ يدها وبرقت عيناه من السرور والامتنان، وقال: أشكرك يا سيدتي ألف شكر لما تفضلت به علي من حسن الظن، ولأنك لم تصدقي أني من المجرمين. - لا يمكن أن أحسبك مجرما؛ إذ ليس في نظراتك ما يدل على الذنوب، أما وقد ثبت لي أنك بريء فأرجوك يا سيدي أن تقص علي أمرك بتفاصيله، بل يجب أن تحكي لي جميع حكايتك، فإن لي شفاعة لدى الملكة وسأذهب إليها، وأنطرح على قدميها فلا تخيب رجائي.
فابتسم الشاب وقال: أشكرك يا سيدتي، فإن الوقت لم يحن بعد، وفوق ذلك فإن إطلاق سراحي وتبرئتي لا يتعلقان بالملكة. - رباه! ما هذه الألغاز؟ وبمن إذن يتعلقان؟ - ربما كانا يتعلقان بك دون سواك.
فزاد انذهال ابنة الدوق حتى لم تعد تصدق ما تسمع، وقالت له: بي أنا؟! وكيف ذلك؟ إني لا أفهم شيئا مما تقول. - قلت لك يا سيدتي ربما كان أمري متعلقا بك، وفي كل حال فإن الوقت لم يحن بعد لكشف هذه الغوامض المشكلة عليك. - ولكني أرجوك أن توضح لي شيئا من هذا، فإني أحسب نفسي حالمة أو أصبحت في عداد المجانين. - وا أسفاه! يا سيدتي إني لا أستطيع ... - إذن قل لي على الأقل منذ أي حين أنت في ...
وتوقفت عن لفظة السجن؛ إذ لم تجسر على قولها.
فشكرها بالنظر، وقال: إني في سجن قاديس منذ أحد عشر شهرا، وقد حكم علي بالتكبيل بالقيود خمسة أعوام. - وبأي ذنب أنت متهم؟ - بالنخاسة يا سيدتي، وقد كنت في ذلك العهد دون شك في باريس، ولكن لا بد أن تكوني قرأت في الجرائد أن دارعة إسبانية أسرت سفينة أسوجية شراعية ... - نعم، نعم ... أذكر ذلك! - وكانت هذه السفينة تشتري العبيد فتخبئهم في عنابرها، وتبيعهم بيع السلع للراغبين فيهم. - لقد ذكرت جيدا الآن، فإن أبي قرأ لنا هذه الحادثة. - وقد حكم على ربانها ونائبه وتسعة من بحارتها بالسجن، وكنت أنا نائب ذلك الربان. - أنت ... أنت تحترف هذه المهنة؟
فنظر الشاب إليها نظرة ملؤها السويداء، وقال لها: إنك ترين يا سيدتي أني أصبحت مضطرا إلى أن أحكي لك شيئا من حكايتي. - ولماذا لا تحكيها بجملتها؟ - لأنه غير مأذون لي أن أذكر اسمي أو اسم عائلتي، ولا أن أقول الآن أين صرفت عشرين عاما خارج موطني. - إذن قل لي ما تستطيع قوله. - كنت يا سيدتي منذ عامين مسافرا على سفينة من إنكلترا إلى فرنسا، وكنت ممنطقا بحزام علقت فيه حقيبة وضعت فيها أوراق ولادتي، وشهادة خدمتي بصفة ضابط في البحرية الإنكليزية، فثارت عاصفة شديدة أغرقت السفينة ومن فيها، ولكني نجوت من الغرق سباحة، وأنقذت معي شابا كان رفيقا لي في هذا السفر، وعمره لا يزيد عن عمري ولا ينقص.
وهنا أخبرها بجميع ما جرى له في تلك الجزيرة المقفرة مما عرفه القراء، غير أنه عمل بما أوصته باكارا، فلم يذكر اسمه ولم يشر إلى سرقة أوراقه، ثم ذكر لها كيف وجده البحارة مغميا عليه، وهو بحالة تقرب من النزع لما تولاه من الضعف من الجوع والعطش، فأخذوه إلى سفينتهم وعالجوه حتى شفي، فأكرهوه على الخدمة في السفينة بصفة بحار، ولما رأوا أنه ماهر في المهنة جعلوه ربانا ثانيا للسفينة.
فقالت له ابنة الدوق - وكانت تسمع حديثه بإصغاء تام: لماذا لم تقص أمرك بتفاصيله حين قبضوا عليك؟ - لقد حكيت كل أمري، ولكنهم لم يصدقوني في شيء. - ألم تقل إنه كان لديك أوراق تثبت مولدك وحقيقة حالك؟ - نعم ... ولكني عندما استفقت من إغمائي في السفينة لم أجد تلك الأوراق معي، وهي لا بد - وا أسفاه! - أن تكون باقية في تلك الجزيرة. - أليس لك عائلة في باريس؟ - نعم أم وأخت ... - لماذا لم تلتجئ إليهما؟ - لقد التجأت إلى قومندان الميناء، وحكيت له جميع أمري فصدق حديثي، وكتب إلى باريس فأجابوه أني منافق مخادع، وأن الرجل الذي اتخذت اسمه موجود في باريس يراه سكانها كل يوم. - ماذا أسمع ... إن هذا مستحيل. - ولكنها الحقيقة يا سيدتي. - ولكن كيف تقول أن ...
وقبل أن تتم كلامها فتح الباب فجأة، وظهر الحارس فنادى نمرته، وقال: هلم بنا فقد بلغت الساعة الرابعة ...
فنهض الفتى منذعرا، فودع ابنة الدوق، وشكرها لرفقها به واعتنائها بأمره. - كيف ذلك، أتنصرف الآن؟
فقال: لأنه لا بد لي من الانصراف، فإنهم لم يسمحوا لي بالخروج من السجن إلا من قبيل المجاملة، التي لا يطمع بها أحد المسجونين، وقد حان الوقت فلا بد من الانصراف. - إذن فسأذهب بنفسي، وأرى قومندان الميناء فإنه كان صديقا حميما لأبي. - ألتمس منك يا سيدتي أن لا تفعلي شيئا من هذا، فإنهم يسعون أجمل سعي في سبيل إنقاذي، وكل مداخلة جديدة تسد علي منافذ الخلاص. - ليكن ما تريد، أفلا أراك بعد الآن؟ - ربما يا سيدتي، وهذا غاية ما أرجوه.
ثم تركها وانصرف مع حارسه، وغادر تلك الفتاة تائهة حائرة لا تعلم أفي يقظة هي أم في منام.
وقد حملت رأسها بين يديها، وجعلت تعيد في مخيلتها جميع ما مر بها من الحوادث الغريبة، وبعد أن أمعنت في التفكير جعلت تسائل نفسها، فتقول: كيف اتفق للكونتس أرتوف أن تعلم أمر هذا الرجل وهو قد عاش عشرين عاما خارج بلاده، بل كيف اتفق أن يكون لي دخل في جميع هذه الحوادث، فقد قال: إن تبرئته وحريته يتعلقان بي دون الملكة، فما المراد بهذه الأقوال؟ وما معنى هذه الأسرار؟
وقامت تمعن الفكرة هنيهة، فلما لم تهتد إلى حل هذه المعميات نهضت، فغادرت ذلك الكوخ وذهبت إلى قاعات الرقص.
وكانت الحفلة قد قاربت النهاية، فإن قاعات كثيرة فرغت من الراقصين، وقصرت الشموع حتى إن بعضها ذاب وانطفأ، فلم يضعوا بدلا منه وسكتت أصوات الموسيقى.
فذكرت ابنة الدوق عند ذلك أنها جاءت إلى هذه الحفلة بأمر خاص من الملكة، وأنه كان يصحبها إليها قريبة لها تدعى المركيزة دورنا جوزيفين، فتركتها حين قدومها في إحدى قاعات اللعب في بدء الحفلة، ثم انشغلت بباكارا وبذلك المجرم حتى نسيتها، ولكنها عادت إلى الحفلة ورأت نفسها وحيدة ذكرت تلك القريبة، وجعلت تبحث عنها، فذهبت في البدء إلى القاعة التي تركتها فيها فما وجدتها.
وبينما هي تبحث عنها في القاعات، إذ نظرت خادما يطفئ الشموع في إحدى القاعات، فعرفته في الحال وقالت منذهلة: زامبا.
وكان هو بعينه فوقف أمامها باحترام، وهو يظهر انذهاله أيضا.
فقالت له: كيف أنت هنا؟ - إني خادم غرفة رئيس المجلس البلدي يا سيدتي ... - متى دخلت في خدمته؟ ومتى رجعت من باريس؟ - منذ وفاة الدوق دي مايلي ...
فأثر هذا الاسم تأثيرا جديدا على ابنة الدوق، فقد ذكر أمامها مرتين في تلك الليلة، وفي المرتين ذكر بمناسبة موته.
فنظرت إلى زامبا وهي ترتعش، وقالت له: إذن فقد مات حقيقة هذا الدوق؟ - منذ شهرين يا سيدتي.
فنظرت الفتاة إلى ما حولها، ورأت أن القاعات خالية من الناس، فجلست على كرسي وقالت لزامبا: أخبرني كيف كانت وفاة هذا المنكود؟
فابتسم زامبا ابتساما معنويا، وقال: إن الجرائد يا سيدتي نشرت أنه مات بالجمرة الفارسية. - ما هو هذا الداء؟ فإني لم أسمع به. - إنه مرض يصيب الخيل فيقتلها ... - وكيف اتصل بالدوق؟ - قالت الجرائد يا سيدتي ...
فقاطعته ابنة الدوق وقد طوت مروحتها بسأم، وقالت: لا أسألك عن آراء الجرائد، بل أسألك عما علمته أنت من أمر موته، فإنك كنت خادم غرفته. - هذا أكيد يا سيدتي. - إذن فأنت تعرف أكثر من الجرائد كيف مات؟ - هذا أكيد أيضا، ولكن لا بد لي أن أذكر لسيدتي ما قيل! - قل ماذا يقولون. - إن الدوق كان عنده جواد مولع به ولعا شديدا، وقد أصيب هذا الجواد بداء الجمرة، وكان الدوق مفرطا في حبه، فكان يعتني به اعتناءه بنفسه دون أن يحذر، فاتصل به المرض بالعدوى فمات، وهذا ما كانت ترويه الجرائد ويتناقله عنها الناس ... - أليست هي الحقيقة، أم أن الدوق مات بغير هذا المرض الغريب؟ - هي الحقيقة بعينها يا سيدتي غير أن العدوى ما سرت إليه من الجواد ... - أوضح يا زامبا؛ فإني لا أفهم ما تقول ... - إن الدوق يا سيدتي قد مات بالجمرة كما مات الجواد، إلا أن كلا من الدوق والجواد أصيبا بالمرض كل على حدة دون أن يعدي أحدهما الآخر، وأن يكونا قد ماتا بمرض واحد. - كيف ذلك؟ - لأن الجواد قد شك بطنه بدبوس طويل يحمل مكروب هذا الداء من بطن جواد ميت كان مصابا فيه. - والدوق؟ - أما الدوق فإنه كان في اليوم نفسه جالسا على مائدته يكتب رسائله، فلما فرغ من الكتابة وحاول النهوض استند بيديه على الكرسي الذي كان جالسا عليه، وصاح صيحة ألم سمعتها؛ لأني كنت في الغرفة المجاورة، فأسرعت إليه ووجدت أن الدم يسيل من إحدى يديه.
وتوقف زامبا عند ذلك وجعل ينظر إلى ابنة الدوق، فعلم أنها لم تفهم شيئا، فاستطرد حديثه قائلا: وقد سال الدم من يده يا سيدتي؛ لأنها أصابت دبابيس كانت مشكوكة بوسادة الكرسي، وكانت الدبابيس تحمل أيضا ذات المكروب الذي أصيب به الجواد. - عجبا! ومن الذي شك الدبابيس في كرسيه؟! - أنا ... - أنت ... كيف أنت ... إذن فلا بد أن تكون وضعتها خطأ. - كلا يا سيدتي بل قصدا. - ماذا تقول أيها الشقي ... - لقد فعلت ما فعلت يا سيدتي؛ لأني كنت أكره الدوق كرها شديدا بعد ما علمت أنك لا تحبينه.
فصاحت ابنة الدوق صيحة رعب وإنكار، وقد هالها أمر الجريمة لاعتقادها أن هذا الخادم لم يدفعه إليها غير حبه القديم للدون جوزيف، وقالت له: ويحك أيها الشقي! أتحسب أنك تسرني بقولك إنك ارتكبت مثل هذه الجريمة من أجلي، وتظن أني سأتركك من دون عقاب، لقد ساء فألك وسترى ما يكون.
فأجابها زامبا بملء السكينة قائلا: كلا يا سيدتي فإني ما شككت الدبابيس في وسادة الكرسي بغية إرضائك. - إذن فلأي غرض شككتها أيها الشقي الخائن، ألعل الدون جوزيف أوصاك بارتكاب هذه الجريمة قبل موته؟ - لا هذا ولا ذاك يا سيدتي ...
فسكتت الفتاة سكوتا قصيرا، ثم قالت: إذن فلأي سبب قتلته؟ ألعلك تحمل عليه حقدا خصيصا؟ - كلا، فإن الدوق كان من نبلاء القوم، فلا متسع لأن يحقد عليه حقير مثلي، وفوق ذلك فقد كان شريف المبدأ لا يميز بين الخدم والأسياد لاعتقاده أن الجميع واحد في الإنسانية؛ فكان من المحسنين إلي ... - إذا كان ما تقوله صدقا فما حملك على قتله؟ - الخوف.
فبهتت ابنة الدوق، وقالت له: أي خوف تعني؟ وممن كنت تخاف؟ - يوجد رجل يا سيدتي يعرف أمورا لم يكن يعرفها غير الله والدون جوزيف، وأنا وقد كان هذا الرجل يعرف أني محكوم علي بالإعدام في إسبانيا، فكان قادرا بكلمة تخرج من فمه أن يسلمني إلى الجلاد فينزع رأسي. - ما هذه الأمور الهائلة التي أسمعها؟ - إن هذا الرجل يا سيدتي أمرني أن أقتل الدوق، فلم أجد بدا من الامتثال. - من هو هذا الرجل؟ - لم أكن أعرف اسمه من قبل وقد عرفته هذه الأيام، إلا أنه لم يؤذن لي أن أصرح به. - أتكتم اسمه عني أيها الشقي؟! - إني أضطر إلى كتمانه مكرها إلا أن سيدتي إذا شاءت أن تعلم أكثر مما علمت مني عن وفاة الدوق، وكثيرا غير تلك من أمور تجهلها ويهمها أن تعرفها، فلتسأل الكونتس أرتوف.
ثم انحنى مسلما باحترام واحتجب عن الأبصار.
15
وكانت ابنة الدوق قد نهضت عن كرسيها، وحاولت القبض على زامبا وإكراهه على الكلام، ولكنه أفلت قبل أن تتمكن من القبض عليه، فسقطت على كرسيها لفرط ما تولاها من الشواغل بعد تلك المعميات.
وقد كانت أتت إلى هذه الحفلة وهي منقبضة الصدر لوفاة أبيها، ولكن قلبها ملؤه الأمل بالمستقبل.
ثم رأت نفسها أنها ستخرج من الحفلة والهواجس ملء فؤادها، والرعب يفعل في قلبها حتى أوشكت أن تصاب بالحمى، وخالت أنها حالمة، وأن جميع ما مر بها من تلك الحوادث الهائلة لم يكن سوى أضغاث أحلام.
وكانت تدور في مخيلتها تذكارات ذلك المجرم، وتسمع صوته الرخيم يرن في أذنيها، فينقبض صدرها إشفاقا لمصابه وحنوا على نكبته، ثم يخطر في بالها أحاديث الكونتس أرتوف ورواية زامبا، فتضطرب حواسها وتصاب بذهول عظيم.
إلا أنه لحسن حظها قدمت إليها في هذه الساعة المركيزة جوزفين قريبتها، بعد أن بحثت عنها في جميع القاعات، وفي جميع أنحاء الحديقة وأروقتها، فلما رأتها سرت سرورا عظيما كأنها قد قنطت من لقائها، وقالت: أين كنت أيتها الحبيبة؟
فأظهرت ابنة الدوق مثل انذهالها، وقالت لها: إنما كنت أبحث عنك. - وأنا أيضا لم أدع مكانا في القصر حتى بحثت فيه، أتعلمين أن الفجر قد انبثق، ونحن لا نزال في المرقص؟ - إذن فلنذهب ...
فنظرت إليها المركيزة على نور مصباح قريب، فذعرت لمنظرها، وقالت لها: رباه! ماذا أصابك؟ وما علة هذا الاصفرار في وجهك؟ - إني رأيت أحد المدعوين إلى الحفلة بملابس المجرمين. - وأنا رأيته أيضا، فإن زيه من أغرب الأزياء، ألعلك خفت منه؟ - لقد خفت خوفا شديدا؛ لأني لقيته في الحديقة وكنت أتنزه فيها وحدي.
وقد تخلصت ابنة الدوق بهذه الكذبة من إلحاح قريبتها بالسؤال.
وكانت مركبتهما تنتظر على الباب، فودعتا رئيس المجلس البلدي، وخرجتا إلى المركبة، فذهبت بهما إلى القصر الذي تقيم فيه ابنة الدوق، وأمها خارج المدينة على شاطئ البحر، فلما بلغتا إليه ودعت ابنة الدوق قريبتها، ودخلت إلى المنزل أما المركيزة فإنها عادت بالمركبة إلى منزلها في داخل المدينة.
فلما دخلت ابنة الدوق إلى غرفتها رأت خادمتها تنتظرها فيها، فأعطتها غلافا فيه كثير من الأوراق.
فتعجبت الفتاة، وقالت: من أين هذا الغلاف؟ - لا أعرف يا سيدتي الذي أحضرها، ولكنها لك. - الذي أحضرها لي؟! - في الساعة التي ذهبت فيها سيدتي إلى الحفلة الراقصة، فقد أحضرها رجل يظهر من ملابسه أنه من الخدم، فقال لي: يجب أن تقرأ سيدتك هذه الأوراق حين رجوعها، وقد سألته عن مرسلها فلم يجبني وانصرف.
قالت: دعيني الآن وحدي.
ثم دنت من المصباح ونظرت إلى الغلاف، فقرأت عليه بحيرة كبيرة: «تاريخ الكونت إرمان دي كركاز وأخيه السير فيليام، وتلميذ هذا الأخير روكامبول.»
فقالت في نفسها: ما عسى أن يكون هذا التاريخ؟ ومن هو السير فيليام وروكامبول؟ فإني ما سمعت بهذين الاسمين، أما الكونت دي كركاز فلم أره إلا مرة واحدة؛ فأية علاقة لي بهذا التاريخ؟! وما هذه الغرائب التي تتوارد أمامي من أول هذا الليل؟!
ثم فتحت الغلاف فرأت فيه دفترا ضخما، ورأت ورقة منفصلة عنه مكتوبا فيها ما يأتي:
عندما يقع هذا الدفتر بيد المدموازيل سالاندريرا تكون قد عادت من المرقص، الذي لا بد أن تكون وقفت فيه على كثير من الغرائب، ومرسل هذا الدفتر يلتمس منها أن تقرأ جميع صفحاته لخطارتها؛ ولتعلقها بمصلحة مقدسة.
فقالت في نفسها: لنر ما في هذا الدفتر!
وكانت تحسب أنها ستقرأ فيه حكايه ذلك المجرم الذي رأته في المرقص، ففتحته وجعلت تقرأ ما فيه بإمعان شديد.
وكان هذا الدفتر قد كتبته بجملته يد باكارا، وهو يتضمن خلاصة تلك القصة التي عرفها القراء منذ قتل والد إرمان الكونت دي كركاز إلى ذكر العقاب الهائل، الذي عاقبت به باكارا أندريا على السفينة فويلر.
على أن باكارا لم تشر أقل إشارة إلى عودة روكامبول، وقد اختفت آثاره في الدفتر حين سفره إلى إنكلترا.
ولبثت ابنة الدوق تقرأ حتى الساعة العاشرة من الصباح، وهي تغلب النعاس منتصرة عليه بوقائع الرواية الهائلة، فما تركت الدفتر إلا بعد أن أتت على آخره، وقرأت آخر كلمة منه.
فلما فرغت منه وهي لم تكن تعرف بين جميع أشخاص هذه الرواية غير الكونتس أرتوف تولاها الانذهال، وجعلت تقول في نفسها: أية علاقة لي بهذه الحكاية؟! ولماذا أرسلتها لي الكونتس؟! إذ لا شك أنها هي التي أرسلتها.
ولم يكن يخطر في بال هذه الفتاة العذراء أن ذاك المركيز الجليل دي شمري، التي تدلهت في حبه وأصبحت خطيبته، كان ذلك اللص السفاك الذي نشأ في خمارة مدام فيبار؛ إذ لا يخطر لأحد سواها أن روكامبول والمركيز دي شمري واحد.
ثم إنها لم تجد في تلك الحكاية أقل أثر لذلك المجرم، الذي لقيته في المرقص، فحارت في أمر هذا الدفتر وضاق صدرها لهذه الغوامض، وانكمشت نفسها لكثرة ما قرأت من الجرائم الهائلة، فخرجت من غرفتها إلى الرواق المطل على البحر؛ كي تجلي عن نفسها بمناظره الفسيحة صدأ هذه الهموم واستندت على رخام الرواق، وجعلت تسرح أنظارها في تلك المياه الزرقاء.
فكانت مياهه ساكنة هادئة والنسيم بليلا يداعب هذه المياه، فيعقد فوقها زردا ينعش منظره الصدور، والجبال مشرفة عليه تكتنفه من يمينه وشماله مفروشة ببسط العشب الخضراء، والشمس تتوهج وتتوقد فوق المياه فترقص أشعتها الذهبية لهيمنة النسيم.
وكان فؤاد ابنة الدوق قد ارتاح لهذه المناظر البهية، فنسيت حديث الدفتر ورجعت بتصورها إلى الماضي، فانصرفت بأفكارها إلى من تحبه، وجعلت تعد على أصابعها الأيام التي مضت على إرسالها إليه كتابها الأخير، وتقول: لا بد أن يكون وصل كتابي إليه يوم الثلاثاء، ونحن الآن في يوم الجمعة فإذا أجابني عليه حين وصوله فلا بد أن يرد إلي اليوم كتابه العزيز.
وكانت تناجي نفسها بهذه الأماني وهي تسرح نظرها في عرض البحر المحيط، وتتبع بأبصارها سفينة شراعية كانت تجول، وتحاول الدنو من الشاطئ.
وكانت السفينة جميلة الرواء سريعة الحركات تجري في تلك المياه بخفة الأسماك، فراقها منظرها ودخلت إلى غرفتها، فأحضرت منها نظارة مكبرة وعادت إلى الرواق، فما أوشكت أن توجهها إلى السفينة، وتضعها على عينيها حتى ذعرت وأصيبت باضطراب شديد.
ذلك أن هذه السفينة كانت لقومندان الميناء، وأن ابنة الدوق رأت بنظارتها البحارة، فعلمت من ثيابهم الحمراء أنهم من المجرمين.
وكانت السفينة تدخل إلى الشاطئ مسرعة، والشاطئ يبعد عن مدخل القصر الذي كانت فيه ابنة الدوق 30 ذراعا.
وكان المنظار لا يزال بيد ابنة الدوق، فلما رأت أن السفينة تدنو اضطرب قلبها؛ لأنها رأت جميع من كان في السفينة، فلم تعرف منهم غير اثنين وهما قومندان الميناء وهو، أي: ذاك المجرم الذي رأته في المرقص، فحاولت أن ترجع إلى غرفتها، غير أن قوة عظيمة تغلبت على إرادتها، فلبثت في موضعها طائعة مكرهة.
ولم تعد في حاجة إلى المنظار، فإن السفينة اقتربت منها حتى باتت تميز أشخاصها بالنظر المجرد، ورأت أن ذلك المجرم كان يتولى قيادة السفينة، ورأت أنه قد رفع نظره إليها وابتسم فزاد اضطرابها، ولم تعد تعلم ماذا تصنع لا سيما بعد أن رأت القومندان يسلم عليها بالإشارة، وأن السفينة قادمة إلى موقفها خاصة كأنما القومندان يريد زيارتها.
ثم طويت قلوعها وجعل بحارتها يجدفون حتى بلغوا بها إلى الشاطئ، فنزل القومندان وحيى ابنة الدوق بالإشارة ثم صعد إليها، فلبثت في موقفها تنظر إلى السفينة وإلى ذلك المجرم فيها، غير أنه كان مطأطأ الرأس كأنه يخشى أن ينظر إليها.
وأقام القومندان معها هنيهة يتحادثان عن المرقص، ثم عاد إلى سفينته فأقلعت به، غير أن ابنة الدوق لبثت في مكانها تنظر إلى ذلك المجرم، وهي تشعر بعاطفة سرية تجذبها إليه.
وعند ذلك دخلت خادمة غرفتها إليها وأعطتها كتابا قائلة لها: إنه من فرنسا.
فصاحت ابنة الدوق صيحة فرح، ونسيت ذلك المجرم ثم فضت ختام الكتاب مسرعة وهي عالمة أنه من روكامبول.
16
ولندع الآن قاديس عائدين إلى روكامبول، حيث تركناه وقد فتك بذلك الشيخ المنكود دون أن يعلم بجريمته غير الله.
فإن سكان الأورانجري رأوا ذلك الشيخ ميتا في غرفته، فحكوا أنه مات فجائيا ودفنوه آسفين عليه، وبعد ذلك بأسبوع سافر قاتله المركيز فردريك ألبرت أونوريه دي شمري إلى باريس.
وقد نهض يوما مبكرا فجلس على كرسي أمام نافذة تشرف على حديقة القصر، وجعل يسرح نظره في مناظرها الجميلة غير أن علائم القلق الشديد كانت بادية في وجهه، ثم وضع رأسه بين يديه كأن هذه المناظر الخضراء لم ترقه، وجعل يناجي نفسه فيقول: إنهم سرقوا الصورة وتركوا لي رقعة زيارة طبع عليها اسم كنت أسمى به من قبل في عهد أندريا وإرمان، وقال الخادم: إن الشاب الذي سرق الصورة كان امرأة متنكرة بزي الغلمان، ومن عسى تكون هذه المرأة غير باكارا، وما هذه المعميات؟ ألعلها واقفة على أسراري؟
إنها ما عرفتني إلا باسم المركيز دي شمري، فهل رأتني غير مرة بزي آخر فعلمت أني روكامبول؟ وأين ذلك ومتى؟ فإنها لم ترني غير مرة واحدة، وذلك في منزلها، وأذكر أنها نظرت إلي عرضا نظرة لم تظهر فيها شيئا من الاهتمام، وهي لو كانت عرفتني فيها لعلمت ذلك من اضطرابها أو انذهالها، ولكنها لم يبد منها شيء؛ لأني كنت محدقا بها أراقبها أشد مراقبة، فأين إذن رأتني؟
ثم إننا لو افترضنا أنها عرفتني، وأنها إذا طاردت المركيز دي شمري فهي تطارد روكامبول، فلماذا سرقت صورة المركيز الحقيقي؟ ألعل هذا المركيز في قيد الحياة؟
لما بلغ بتصوره إلى هذا الحد ذعر، وجعل قلبه يخفق خفوقا شديدا، ثم قال: لم يبق لدي ريب أنه إذا كان المركيز حيا، فقد قضي علي قضاء مبرما وبت من الهالكين، وخير ما ينبغي إجراؤه في هذا الموقف الحرج أن أسرع بمغادرة باريس والسفر إلى إسبانيا، فأتزوج ابنة الدوق.
وإني أرى كل شيء قد جرى في خير المناهج، فإن جميع الذين كانوا واقفين على سري، وهم: فانتير، وأندريا، وزامبا، ومدام فيبار، والشيخ أنطوان. قد هلكوا وانقرضوا، وجميع نبلاء باريس يشهدون عند الاقتضاء بأني هو أنا المركيز الحقيقي ذلك فضلا عن الأوراق التي تؤكد حجتي.
غير أنه إذا كان المركيز الحقيقي الذي أحسبه ميتا قد نفض غبار الموت، وإذا كانت باكارا قد اتصلت به، فإن جميع هذه الحسابات ضائعة.
وعند ذلك سمع أن باب غرفته يطرق، فقام إلى الباب وفتحه، وكان القادم إليه صهره فابيان، فقال له: يسرني أيها العزيز أن أراك نهضت من الرقاد. - لماذا؟ - إذ يجب علينا أن نخرج في الحال. - إلى أين؟ - إلى السفارة الإسبانية، فقد أعددت كل شيء لتغيير تبعتك، ولم يبق إلا أن توقع على الأوراق التي ستعرض عليك. - لقد عجلت في قضاء هذه المهمة؛ فألف شكر لك. - ذلك لأني أحب السعادة، ولأنه ينبغي أن تسافر مساء غد إلى إسبانيا. - سأذهب دون شك، ولكني لا أزال قلقا على كثرة سعادتي. - من أي شيء؟ - من الصورة؛ فإن سرقتها لا تزال تقلقني. - لا أخالفك هذا القلق؛ فإن سرقتها تشغل البال. - إني أخاف أن تكون إحدى المومسات قد سرقتها، وذهبت بها إلى ابنة الدوق لشأن سافل؛ لأن أمثال هؤلاء النساء يقدمن على كل شيء. - لا تخش شيئا من ابنة الدوق؛ فإن قلبها قد ختم على حبك. - لا ريب عندي في حبها. - حتى إنهم لو برهنوا لها غدا أنك مجرم تستحق السجن، لما رجعت عن حبك.
فضبط روكامبول نفسه عند ذكر السجن ، وقال: هذا لا ريب فيه.
وكان روكامبول قد أتم لبس ثيابه عند ذلك، فخرج الاثنان إلى السفارة، ووقع روكامبول على جميع الأوراق التي عرضت عليه.
وقد لقيا في السفارة ذلك الجنرال الإسباني ابن عم قومندان الميناء في قاديس، وهو ذلك الجنرال الذي قتل الدون جوزيف في منزله في الليلة الراقصة، فسلم روكامبول عليه وعندما أتم التوقيع على الأوراق قال له: إني مسافر إلى إسبانيا فهل أستطيع خدمتك فيها بشيء؟
فابتسم الجنرال ابتسام الحزين، وقال له: إني منفي متطوع لا يريد أن يسمع كلمة عن وطنه، ثم قال له: متى عزمت على السفر يا حضرة المركيز؟ - غدا مساء. - وإلى أين تذهب؟ - إلى قاديس.
فابتسم أيضا وقال لفابيان: إني أعلم السبب في ذهابه، فإنه قد عرف الطريق إلى قلب ابنة الدوق. - نعم ولكنه يحبها حبا شديدا. - إذا أردت أيها المركيز أن أعطيك كتابا إلى ابن عمي قومندان الميناء فعلت بارتياح. - أقبل كتابك بشكر وغبطة. - ولا أجد بدا أيضا من أن أحملك كتابا إليه، فقد كتب لي عن حكاية عجيبة لم أكن لأطلعك عليها لو لم تقل لي إنك ذاهب إلى قاديس. - ما هي هذه الحكاية العجيبة؟ - إنك خدمت مدة طويلة في الهند، أليس كذلك؟ - مدة طويلة، لا تنقص عن 18 عاما. - أكان يوجد تحت إمرتك نوتي فرنسي؟ - ربما كان ذلك ولكني لا أتذكر، فقد كان تحت أمري كثيرون من البحارة، ثم تطلع إلى الجنرال تطلع المستطلع، وقال له: ولماذا تسألني هذا السؤال؟ - ستعلم السبب، فاسمع إنه يوجد بحار لم تعلم تبعته بعد، ولكنه يقول: إنه فرنسي، ويبدو أن هذا البحار خدم في الهند بقيادتك؛ لأنه يعلم جميع عاداتك وعلائقك وأخلاقك وذوقك، وكل علائقك مع عائلتك.
فارتعش روكامبول، وقال له: كيف ذلك؟ - إن هذا الرجل قبض عليه مع رفقاء له في سفينة قرصان، وحكم عليه بالسجن. - وبعد ذلك؟ - أتعلم كيف تجاسر هذا الرجل أن يدافع عن نفسه؟ - كيف أستطيع أن أعلم؟
فضحك الجنرال الإسباني ضحكا عاليا، وقال: إنه ادعى بأنه المركيز دي شمري.
ولو سمع هذه المباغتة من الجنرال غير روكامبول، لكان اصفر لونه واضطربت أعضاؤه؛ لأن حياته موقوفة على هذا المركيز. وقد قيل له فجأة إنه لا يزال حيا يرزق، ينذره بالفضيحة والسجن، بل بالموت موت المجرمين السفاكين غير أن تلميذ أندريا تمالك نفسه، فلم يبد عليه شيء من ملامح اضطرابه الداخلي، بل إنه ابتسم بسكينة طالما أنقذته من أصعب المواقف حين كان رئيسا للجمعية السرية في عهد أستاذه، وقال بلهجة المتعجب: إن هذا التزوير عظيم، لا يقدم عليه غير الأشداء. - وأنا من رأيك، فأصغ إلى تتمة حديثي. - قل يا سيدي الجنرال، فقد شغلتني هذه الحكاية لغرابتها. - إن هذا المزور تمكن من إقناع ابن عمي قومندان المرفأ في قاديس على أنه هو المركيز دي شمري. - لا عجب في ذلك، فإن ابن عمك لا يعرف عائلتي، ولا يعلم أني مقيم في باريس. - فلما وثق ابن عمي من حكايته الملفقة كتب إلي منذ بضعة أشهر يخبرني بحكاية هذا الرجل، ويسألني إرسال التفاصيل عن عائلة دي شمري إلى غير ذلك من هذه الأبحاث.
فقال روكامبول ضاحكا: وماذا أجبت يا سيدي الجنرال؟ - أجبت ابن عمي أن هذا الذي يدعي أنه المركيز دي شمري كاذب منافق؛ لأن المركيز دي شمري من أصحابي، وكان أمس من المدعوين إلى حفلة راقصة أعددتها في منزلي في باريس. - ما هذه الغرائب؟! إن جسارة هذا الرجل لم نقرأها حتى في القصص. - ولكنك ذاهب إلى قاديس فسترى فيها دون شك الرجل. - ذاك لا ريب فيه، ولقد خطر لي خاطر يا حضرة الجنرال، فاكتب لي كتابا إلى ابن عمك. - إني عرضت عليك هذا الكتاب. - نعم ولكني أحب أن تقدمني إلى ابن عمك باسم غير اسمي الحقيقي. - لأي قصد؟ - لأني أحب أن أقيم في قاديس ثمانية أيام متنكرا، بحيث أستطيع أن أرى هذا الرجل كما أريد، وأسمع حكايته العجيبة من فمه. - ليكن ما تريد، وسأرسل لك في هذا المساء كتابا بعنوان ابن عمي القومندان بيدرو أوصيه بك خير وصاية، فبأي اسم تريد أن أقدمك إليه؟ - باسم الكونت بولاسكي، وتخبره أني من أعيان بولونيا.
فابتسم الجنرال وأجاب: سأرسل لك الكتاب في المساء.
ثم ودعه وافترقا.
وكان الكونت فابيان يتحادث في ذلك الحين، مع السفير الإسباني، في الطرف الآخر من القاعة، فلم يسمع كلمة واحدة مما دار بين الجنرال الإسباني وروكامبول.
فدنا منه روكامبول، وقال له: هلم بنا الآن إلى دائرة البوليس لنأخذ الجواز.
بعد ذلك ببضع دقائق بينما كان فابيان وروكامبول ذاهبين بمركبتهما إلى دائرة البوليس، مرت بهما مركبة كان فيها صديق لفابيان، فأشار كل منهما إلى مركبته بالوقوف وحيى الثاني.
وكان الرجل يدعى سيرفيل، وهو شاب من رجال القضاء درس الحقوق مع فابيان في مدرسة واحدة، وتعين حديثا قاضيا للتحقيق.
فقال له فابيان: من أين آت؟ - من منزلي في سانت لويس. - وإلى أين أنت ذاهب؟ - إلى المجلس.
فابتسم فابيان، وقال له: إنك من حين تعينت قاضيا للتحقيق لم يعد أحد يراك. - لا تذكرني بمنصبي أيها الصديق، فإنك تهيج أحزاني. - لماذا؟ وأي حزن يعتريك من مثل ذاك المنصب الرفيع؟! - ذلك لأن أول عمل عهد إلي التحقيق فيه كان أعقد من ذنب الضب، ولا أزال تائها في ظلماته. - في أي تحقيق؟ - في مقتل مدام فيبار والحادثة التي حصلت في غرفتها.
فارتعش روكامبول ارتعاشا شديدا حين سماع القاضي، ولكنهما لم ينتبها إلى اضطرابه؛ لأنه كان داخل المركبة.
فسأله فابيان: إني لم أسمع بهذا القتل، فكيف اتفق؟ - إنها مشكلة من أصعب المشاكل أيها الصديق، فقد وجدوا منذ شهرين في غرفة تلك العجوز المياه قد فاضت في قبو تحت غرفتها، ووجدوا جثتين طافيتين فوق المياه إحداهما جثة العجوز صاحبة الغرفة وهي مخنوقة، والثانية جثة رجل مطعون بخنجر، ولقد تبين أنه من مشاهير المجرمين. - ما هذه الحادثة الهائلة؟
ثم رأوا رجلا حيا جالسا في زاوية من الغرفة.
فارتعد روكامبول ارتعادا عظيما؛ لأنه علم الآن أن زامبا لم يمت.
فقال فابيان: إنه كان القاتل دون شك. - كلا أيها الصديق فقد كان هو أيضا مجروحا بظهره وثيابه مبتلة؛ مما يدل على أنه كان في المياه ونجا منها. - لا بد أن تكون سألته عن هذه الجناية. - لم أستطع أن أسأله شيئا؛ لأنه كان مجنونا.
وهنا تنفس روكامبول الصعداء وبقي له شيء من الأمل.
فقال القاضي: إن ذاك المجنون لم يكن يتكلم غير الإسبانية والبرتغالية، وقد سلم إلى طبيب حاذق يتولى معالجته حتى إذا شفي نستطيع أن نعرف الحقيقة. - من هو هذا الطبيب؟ - إنه الطبيب المشهور صموئيل.
فالتفت فابيان إلى روكامبول، وقال له: إنه طبيبك الخاص.
وبعد ساعة عادا إلى القصر بعد أن أخذ روكامبول جواز السفر إلى إسبانيا، فما صدق روكامبول أن افترق عن صهره فابيان حتى دخل إلى غرفته، وأوصد بابها وارتمى على مقعد وهو يوشك أن يجن من اليأس، فقال: إن المركيز الحقيقي في قيد الحياة، وزامبا لم يمت ... لقد فقدت كل شيء، وما أنا إلا من الهالكين.
غير أن اليأس لا يتمكن في صدر روكامبول، ولا يلبث أن يحل محله الرجاء، فإنه عندما رأى أن الأخطار تحيط به من كل جانب، وأمعن في موقفه الحرج الشديد، هبت إليه جرأته النادرة فاتقدت عيناه ببارق من الأمل، وزال عن قلبه كل خوف، وقال في نفسه: أنا الغريق، وما خوفي من البلل؟! وسأمثل الدور الأخير من الرواية، فإما أن أفقد كل شيء أو أنال كل شيء.
17
وفي صباح اليوم التالي خرج روكامبول من منزله ماشيا على الأقدام، بعد أن أمر خادم غرفته بإعداد مهمات سفره، وبرح شارع فرنيل ذاهبا إلى شارع سيرنس، حيث جعل فيه منزله السري.
وكان خادم ذلك المنزل لم يره منذ شهرين، غير أن روكامبول قد عوده على مثل هذا الغياب، بحيث لم يجسر الخادم أن يسأله كلمة عن غيابه.
فدخل روكامبول إلى تلك الغرفة العجيبة، التي كان يعدها لتغيير سحنته وأزيائه عندما يريد التنكر لغرض من أغراضه الجهنمية، فأخذ من الملابس والبراقع، والمواد الكيماوية ما وقع اختياره منها، وهي مواد يستطيع بها تغيير لون جلده كما يشاء.
ثم وضع جميع هذه الأشياء في صندوق، وأقفله بقفل سري، وحمله بنفسه إلى المكان الذي يقيم فيه البواب، وطلب أن يحضر له حمالا.
فامتثل البواب وهو مندهش مما يراه، وعاد بعد حين بحمال لقيه في الشارع، فأعطاه روكامبول الصندوق، وأمره أن يتوجه به إلى منزله في شارع فرنيل.
ثم إنه بدلا من أن يسير في أثر الحمال تركه يسير في شأنه بعد أن دله على منزله، وذهب إلى شارع سانت أونوريه، حيث يقيم الدكتور صموئيل إليوت.
ولم يجد حاجة إلى التنكر في هذه المرة؛ لأنه لم يخطر له في بال أن هذا الطبيب متفق مع باكارا على إهلاكه، ثم إنه وجد حجة معقولة في زيارته لذاك الطبيب، ومعرفة ما حدث لزامبا عنده، وهي أنه مسافر وأنه يريد أن يقابل هذا الطبيب، فيقول له: إني سأبرح باريس في هذا المساء إلى إسبانيا لأتزوج فيها ابنة الدوق سالاندريرا، وسأسافر في اليوم التالي لزواجي إلى البلاد الأميركية، فأنا آت لأودعك قبل هذا السفر الطويل، ولأسألك أن تعطيني كتب توصية إلى أصحابك في تلك البلاد؛ لأنك من أبنائها وقد نشأت فيها.
وقد وجد روكامبول أن هذه الحجة مقبولة، فقال في نفسه: إني لا أبرح منزله حتى أعلم حقيقة شأن زامبا ومبلغ جنونه.
غير أنه دهش دهشة عظيمة حين بلغ إلى ذلك المنزل، وأخبره بوابه بسفر الطبيب فسأله: كيف يستطيع طبيب أن يغادر زبائنه على كثرتهم في باريس؟ إن هذا محال! - ولكنها الحقيقة يا سيدي. - متى ذهب؟ - منذ ثمانية أيام. - وإلى أين ذهب؟ - لا أعلم، ولكنك إذا سألت في شارع بيبينيار يخبروك.
فارتعد روكامبول لاسم الشارع الذي تقيم فيه باكارا، وسأله: ألعله يقيم في ذلك الشارع؟ - كلا؛ ولكنه يعالج فيه عظيما من عظماء الروسيين أصيب بالجنون.
فاستند روكامبول على الباب، وقد كاد يضيع صوابه، ولكنه ضبط نفسه بسرعة، وقال: لقد علمت الآن، فإنه يعالج روسيا يدعى الكونت أرتوف. - هو ما تقول يا سيدي، فقد ذكرت اسمه الآن.
فتركه روكامبول وذهب، فلما وصل إلى الشارع تراكمت عليه الهموم، فاشتدت هواجسه ووهنت قواه حتى أوشك أن يسقط.
واتفق مرور مركبة في ذلك الحين، فركب بها وأمر السائق أن يذهب به إلى شارع سيرسنس، فسارت به إلى حيث يريد وهو ضائع الرشد مشتت الحواس.
غير أن مدة يأسه لم تطل، فلم تسر به المركبة مسافة قصيرة حتى ثاب إليه رشده، وتمثلت له تلك الأخطار المحيطة به، فقال في نفسه: لقد أصاب أندريا فيما أنذرني به من أفول نجم سعدي حين يموت.
والآن فإن الكونت أرتوف الذي سقيته ذلك السم فذهب بعقله، يعالجه الطبيب صموئيل الذي سرقت منه ذلك السم، وعلى ذلك فلا بد لهذا الطبيب أن يعلم كيف أصيب الكونت بالجنون، ومن يدري فقد يعلم أني أنا الذي سرقت منه السم.
ثم إن الطبيب الذي يعالج زوج باكارا قد يكون علم منها جميع تاريخي، واتفق معها على هلاكي.
وعندما خطر له هذا الخاطر المخيف جمد الدم في عروقه من الرعب، ونادى السائق، فقال له: توجه بي إلى منزل الكونت أرتوف في شارع بيبينيار.
وقد خطر له ما يخطر للقانطين في موقف الخطر الأكيد، فقال في نفسه: سأذهب إلى باكارا فأقرأ ما في نفسها من عينيها، وأعلم كيف يجب أن أنهج في القتال، وأتخذ حجة في ذهابي إليها، إني آت من قبل صهري صديق الكونت أرتوف للسؤال عن صحة زوجها والاطمئنان عنه.
وعند ذلك دخلت المركبة إلى ساحة منزل الكونت أرتوف، فحكم روكامبول لأول وهلة أن أصحابه غائبون عنه؛ لأنه رأى النوافذ في الدور الأول مقفلة جميعها.
ولما وقفت المركبة نزل منها روكامبول وتقدم إلى الباب، فدنا منه البواب وقال له: بماذا يأمر مولاي؟ - إني أرى النوافذ مقفلة، فهل أسيادك غائبون عن المنزل؟ - نعم يا سيدي. - متى برحوه؟
فبدت ملامح التردد على البواب، غير أن روكامبول تكلف من هيئة النبل جهد ما استطاع، وقال له: إني أدعى البارون دي كيروف وأنا ضابط روسي أتيت من بطرسبرج إلى باريس لأرى فيها خالي الكونت أرتوف.
فوقف البواب موقف الاحترام حين علم أنه قريب مولاه، وأجاب: إذن فإن سيدي يعلم المصيبة التي فاجأت سيدي الكونت. - نعم علمت أنه أصيب في عقله، ولكنهم يرجون له الشفاء العاجل، كذلك فقد كتبت لي الكونتس أن الذي يتولى علاجه هو الدكتور صموئيل إليوت. - نعم يا سيدي وهو من أشهر الأطباء. - وأسيادك غائبون كما تقول؟ - إن سيدتي أمرتني بالكتمان، ولكني لا أظنها تريد كتمان هذا الأمر عنك. - ذلك لا ريب فيه، وهي تعلم أني آت خاصة من بطرسبرج لأراهم. - إن سيدي الكونت مقيم الآن في أرض له في فونتيناي. - مع الطبيب صموئيل؟ - كلا، بل صحبه أحد تلامذة هذا الطبيب الذي عهد إليه العناية به مدة غيابه. - إذن، فإن الطبيب غائب؟ - نعم يا سيدي فقد سافر مع الكونتس منذ 10 أيام. - إلى أين ذهبا؟ - لا أعلم وليس من يعلم وجهتهما، فإنهما لم يخبرا أحدا. - سأعلم ذلك في فونتيناي.
ثم ترك البواب وركب مركبته وانصرف.
ولم يذهب روكامبول إلى فونتيناي - كما قال - فإن ما قاله له البواب، وهو أن الطبيب سافر مع باكارا منذ عشرة أيام قد أرشده إلى معرفة شيء من هذه الحقيقة الهائلة، وذكره بما قال له خادمه في الأورنجراي، وهو أن الفتى الذي اتهم بسرقة الصورة لم يكن غلاما، بل كان امرأة متنكرة بزي الغلمان، ثم إنه كان يصحبه رجل بصفة مؤدب، ذكر له من أوصافه ما ينطبق على أوصاف الطبيب صموئيل، وخادم تشبه أوصافه أوصاف زامبا، فلما انتهى روكامبول بذكراه إلى هذا الحد قال في نفسه: لم يبق ريب الآن أن الدكتور صموئيل وزامبا كانا يصحبان باكارا، وأنهم قد اشتركوا في سرقة الصورة ...
وبعد حين وصلت المركبة به إلى منزله في شارع فرنيل، فدخل إلى غرفته وكتب إلى خطيبته ابنة الدوق الكتاب الآتي:
خطيبتي العزيزة ...
لم أر ولم أقرأ غير شيء واحد في كتابك، وهو أن ساعة السعادة قد دنت، ولست أبالي بالدوقية، ولا يسرني أن أكون من عظماء الإسبان، وسفيرا لإسبانيا إذ لا مطمع لي بسواك، وإذ كنت لا أستطيع أن أنالك إلا بعد نيل هذه الألقاب، فأنا أقبلها امتثالا لك.
توسعي في لومي أيتها الحبيبة كما تشائين، فإن كتابك إلي وصل باريس منذ خمسة أيام، ولكني لم أفتحه إلا في صباح اليوم وإليك بيان السبب: إني كنت غائبا عن باريس، فقد ذهبت مع صهري فابيان لزيارة أرض لنا في التورين لإقامة عشرة أيام في قصر الأورانجري، والعودة إلى باريس، وقد فاتني أن آمر بإرسال رسائلي إلى الأورانجري.
فأقمنا في ذلك القصر ثمانية أيام بين اضطرابات شديدة؛ وذلك أننا حين وصولنا وجدنا خدام القصر مضطربين مسلحين تأهبا للطوارئ، وعلمنا أن وكيل القصر قد سافر مسرعا إلى المدينة المجاورة.
وذلك لأن القصر قد سرق، ولكنها سرقة غريبة لا تخطر في بال، والحكاية أن مركبة بريد سقطت في حفرة قرب باب بستان القصر فكسر دولابها، وكان فيها شاب طلب الضيافة إلى أن يتم إصلاح مركبته، فأضافه الخدم لقوله إنه من أصحابي، وفي الصباح أصلحت مركبته فسافر، ولكن أتعلمين ماذا سرق؟
إن ذلك لا يخطر لي في بال، فإنه سرق صورة تمثلني حين كان لي من العمر تسعة أعوام، وكانت هذه الصورة معلقة في جوار القاعة الكبرى.
أما السبب في سرقة هذه الصورة، فلم أقف عليه إلا حين عودتي إلى باريس، ويمكنك أن تعرفيه بالتلميح عنه، والرجوع إلى حياتي السابقة في زمن لم أكن أحلم فيه بسعادتي المستقبلة، أيام كان يدفعني غرور الصبا وخلو الفؤاد من الحب الطاهر الشريف إلى الاندفاع في حلبة الملاهي.
وما زلت على هذا الطيش إلى أن لقيتك في غابات بولونيا، فعلمت كيف يكون الحب الصحيح، ولكني كنت قد غادرت امرأة شقراء، وتخلفت عنها دون أن تتخلف عني.
وقد سألتني هذه المرأة أن أهبها تذكارا مني، فكنت أرفض طلبها، إلى أن أعياها الأمر فسرقت رسمي كما علمت الآن.
وفي هذا المقام ألتمس منك العذر أيتها الحبيبة لجسارتي لهذا الإقرار، ولكني لم أجد بدا منه إذ يجب أن أحذرك؛ كي لا تستطيع تلك المرأة أن تتخذ تلك الصورة سلاحا تحاربني به أمامك، فإني أحبك ولا أريد أن يدخل إلى قلبك شيء من الشك بصدق حبي.
والآن فاسمعي ما جرته هذه السرقة من المصائب، فإن وكيلي في قصر الأورانجري، وهو شيخ عجوز كان يخلص لي أشد الإخلاص هالته سرقة الصورة، وأثرت عليه تأثيرا عظيما، فمات - رحمه الله - موتا فجائيا، فأسفت لموته أسفا شديدا؛ لأنه مات بسببي، وبقيت مع صهري في القصر إلى أن شيعت الجنازة، ووري هذا الخادم الأمين في التراب.
هذه هي الأسباب التي منعتني أيتها الحبيبة عن الاطلاع على كتابك قبل صباح اليوم.
ولمثل تلك الأسباب سيطول زمن سفري إلى أربعة أو خمسة أيام، إلى أن أتمكن من الحصول على جوازات السفر، والتجنس بالجنسية الإسبانية، وإنهاء جميع شئوني الخاصة، وفي كل حال فسأكون بعد ثمانية أيام جاثيا على قدميك.
محبك
ألبرت
وكان يرمي بهذا الكتاب إلى غرضين، أحدهما أن يهيئ ابنة الدوق لما ستجريه باكارا بشأن الصورة فيضعف تأثيرها، والثاني أن تمكنه من السفر إلى قاديس، والإقامة فيها متنكرا أربعة أو خمسة أيام؛ لأن ابنة الدوق لا تنتظر قدومه بعد ذلك الكتاب إلا بعد ثمانية أيام على الأقل.
وقد قال في نفسه: إني قد قتلت الدوق دي مايلي، والدون جوزيف، وأندريا، وجميع الذين كان وجودهم مثقلا علي، ولكني إذا لم أقتل السجين في سجن قاديس، فلا أكون قد فعلت شيئا وأغدو من الهالكين.
ثم إنه لما شعر بحرج موقفه وما يحيط به من الأخطار هبت إليه قوة عظيمة، ورجعت له جرأته النادرة، وإقدامه الغريب وفظاعته الوحشية، وتلك السكينة الفطرية فيه الدالة على مبلغ قوته.
وقضى بقية ذلك اليوم بين صهره فابيان وأخته بلانش إلى أن حان موعد السفر، فركب المركبة وشيعه إليها صهره النبيل، فصافحه مصافحة الإخوان وتلك المرأة الطاهرة، فقبلته قبلة صادقة وهي تحسبه أخاها فقبلها روكامبول، وقد أحس بدموعها تنفجر على خده فتأثر لحنوها، وقال في نفسه: لا شك أني خلقت لأكون نبيلا؛ إذ لا أجد أشهى إلي من العواطف الصادقة.
ولكنه ما لبث أن اندفعت به المركبة، وبعد عن ذلك الموقف حتى ابتسم تلك الابتسامة الجهنمية، التي تعلمها من أستاذه القديم وقال: لقد سرت في طريق القتال، فإما الفوز وإما الموت، وإما أن أكون دوقا إسبانيا أو أزج في ظلمات سجن قاديس.
18
في اليوم التالي لتلك الحفلة الراقصة، التي أحياها المجلس البلدي، وجرت فيها تلك الحوادث التي يعلمها القراء كانت مركبة بريد يجرها أربعة بغال، تدخل في الساعة الثامنة من المساء إلى ساحة فندق السحرة.
وهو الفندق الذي يقيم فيه فرناند روشي وزوجته.
ولم يكن في هذه المركبة سوى سيد واحد عليه مظاهر النبلاء، وبين يديه أربعة من الخدم كانوا في المركبة بين جالس أمامه، وبين جالس في مؤخر المركبة، وبين جالس بجانب السائق.
فنزل هذا السيد من المركبة، وأسرع إليه الخدم، فجعلوا يمشون أمامه إلى الفندق بين صفوف مستخدميه، الذين كانوا واقفين بملء الاحترام؛ لما رأوه من ملامح ضيفهم الدالة على العظمة.
وهو رجل يظهر من وجهه أنه في الخمسين من سنه، ربعة القوام، هزيل، أصفر الوجه، مجعد الجبين، وكان لابسا ثوبا طويلا فوق ثيابه مبطنا بالفرو الأشقر، وله لحية شقراء تشبه بلونها لون ذلك الفرو.
أما عيناه فكانتا تتقدان، وترسلان أشعة تدل على ما في نفس صاحبهما من الهمة والإقدام.
وكان أحد خدامه يتكلم جميع اللغات الحية خلافا للثلاثة الآخرين، فإن كلا منهم لم يكن يتكلم غير لغة واحدة، ومجموع لغاتهم الثلاث الروسية والبولونية والألمانية؛ ولذلك كان الأول عليهم وقد تشرف بمهمة الترجمة لمولاه؛ لأنه لم يكن يعرف اللغة الإسبانية، فأخبر صاحب الفندق وزوجته أن مولاه عظيم من عظماء بولونيا، يدعى البارون ونسلاس بولاسكي، وهو من الأغنياء العظام، فقد زوجته دون أن يلد له منها بنون، وقد فقدها منذ عشرين عاما، ولكنه لا يزال يندبها وهو يسيح في جميع أنحاء الأرض بغية نسيانها.
فبينما كان صاحب الفندق يسمع حديث هذا الترجمان معجبا به، كانت زوجته قد سمعت بعضه، فأسرعت إلى ذلك السيد البولوني وذهبت به إلى خير محل في الفندق.
وكان فندق السحرة هذا قائما في محل مجاور للميناء، فأعطته صاحبته محلا فيه يطل على البحر؛ كي يسر بمناظره الجميلة، ثم تركته وانصرفت ، وصعد الخدم يحملون إليه أمتعته.
أما البارون فلم يكترث بهم، بل إنه خرج إلى المشرف، وجعل ينظر منه إلى ما حول الفندق نظر الباحث المستطلع.
وكانت أشعة الشفق لا تزال تملأ الكون نورا، وتصبغ السماء بأنوارها الذهبية، فأشار البارون إلى أحد خدمه، وأمره أن يفتح أحد الصناديق وأخرج منه نظارة مكبرة، وعاد إلى موقفه في المشرف، فجعل ينظر في المنظار إلى ما حوله وهو يعرف قاديس قبل اليوم.
فكان أول ما أصاب نظره بناية ضخمة، فعلم أنها سراي الحكومة، ثم حول منظاره إلى مكان آخر، فرأى بناية أضخم من الأولى جدرانها مائلة إلى السواد، فاستلفتت أنظاره وتأملها طويلا، وقد كانت هذه البناية دار السجن.
ثم أدار منظاره إلى الجهة اليمنى كأنما منظر السجن قد أثقل عليه، فرأى قصرا جميلا مبنيا فوق قمة على شاطئ البحر المتوسط يحيط به بستان كبير، مزروع بأشجار الليمون والرمان، فاستوقف منظر هذا القصر الجميل انتباهه، ففحصه فحصا مليا، ثم نظر إلى ترجمانه وكلمه باللغة الإنكليزية.
فخرج ترجمانه وعاد بعد حين وجيز مع صاحب الفندق، فقال الترجمان: إن مولاي البارون يريد أن يعرف صاحب هذا القصر الجميل، المبني فوق هذه القمة على شاطئ البحر، فأجابه صاحب الفندق: إنه لأسقف غرناطة غير أن الأسقف لا يقيم فيه الآن، فقد تخلى عنه للدوقة سالاندريرا وابنتها، وهما تقيمان فيه الآن.
انحنى البارون احتراما لهما، وكان هذا جميع ما يريد أن يعرفه، ثم أخذ من جيبه محفظة، فأخرج منها رقعة زيارة عليها اسمه وتاج البارونية، فكتب عليها بقلم من الرصاص اسم الفندق النازل فيه، وبعد ذلك أخرج من جيب آخر محفظة كبرى، ففتحها بحيث ظهرت فيها الأوراق المالية مكدسة، ثم أخرج منها كتابا كان عليه عنوان السنيور بادرو قومندان الميناء في قاديس، فوضع الكتاب ورقعة الزيارة على الطاولة، وأشار لصاحب الفندق بيده إليها.
فأخبره الترجمان أن مولاه يريد إيصال هذا الكتاب إلى قومندان الموقع، فإنه مرسل من ابن عمه الجنرال، وهذه الرقعة من البارون.
فانحنى صاحب الفندق بملء الاحترام، ثم أخذ الرقعة والكتاب ومضى.
وعند ذلك أشعل البارون سيجارا، وجعل يتفقد الفندق وصعد يطوف في رواقاته بحجة الرياضة، والتنزة إلى أن يتهيأ طعام العشاء.
وفيما هو يجتاز رواقا قرب غرفته رأى امرأة تتأبط ذراع رجل، فأجفل لمنظرهما، ولكنه لم يستطع أن يتحقق أمرهما لعدم وجود نور في ذلك الرواق، أما الرجل والمرأة فإنهما استمرا في سيرهما دون أن ينتبها إلى هذا البارون البولوني.
فنزل البارون من الباب الخارجي، وبعد نصف ساعة صعد إلى غرفته، وتناول طعام العشاء فيها وأكل بشهية فائقة.
ولما فرغ من الطعام دخل إليه صاحب الفندق يحمل بيده دفترا ضخما، وهو سجل يقيد فيه أسماء النازلين في فندقه، فيكتب كل مسافر فيه اسمه بخطه، ويذكر تحت اسمه نوع أعماله وتبعته والبلد التي جاء منها.
فنظر البارون إلى هذا الدفتر بيد صاحب الفندق، وظهر عليه أنه لم يفهم المراد منه، فوضع صاحب الفندق الدفتر على الطاولة، وقال للترجمان بعض كلمات ترجمها للبارون، فهز رأسه إشارة إلى المصادقة، وأخذ الدفتر فجعل يقلب صفحاته ويقرأ الأسماء المكتوبة فيه منتظرا أن يأتيه صاحب الفندق بأدوات الكتابة.
وفيما هو يقلب الصفحات إذ قرأ اسما ارتجف له، وذكر في الحال الرجل والمرأة اللذين رآهما في الرواق قبل العشاء؛ لأن هذا الرجل البولوني كان يعرفهما كما يظهر، أما الاسم الذي قرأه فهو فرناند روشي من باريس.
وكان هذا الشريف البولوني قد اضطرب اضطرابا شديدا حين قرأ هذا الاسم، غير أنه تمالك نفسه فلم يظهر عليه شيء من ملامح اضطرابه الداخلي، وكتب اسمه في السجل بأتم البرود والسكينة.
وبعد ذلك خرج الجميع فلم يبق في الغرفة غير هذا الشريف البولوني، فجلس على كرسي طويل، وجعل يناجي نفسه بهذا الحديث ويقول: أي روكامبول إنك في موقف شديد، فإما أن تكون بلغت منك البساطة حد البلاهة، أو أنه يجب أن تعلم أمورا كثيرة من وجود فرناند وامرأته في قاديس، فإنهم لا بد أن يكون لهما علاقة بالدون بادرو قومندان الموقع، ولا بد لهذا القومندان أن يكون أخبرهما بأمر السجين الذي يدعي أنه المركيز دي شمري الحقيقي، ولا بد أيضا أن يكونا قد كتبا إلى باريس، وأرجح أنهما كتبا إلى الكونتس أرتوف، فإذا لم تكن باكارا في قاديس، فهي ستحضر إليها دون شك.
وفيما كان البولوني يناجي نفسه بهذه الأحاديث؛ إذ سمع أنهم يطرقون باب غرفته بلطف فأذن للطارق بالدخول.
وكان روكامبول عند ذلك جالسا على كرسي طويل وراء الطاولة، التي أكل عليها وفوقها المصباح، بحيث إن الداخل عليه لا يرى وجهه من الباب لعدم وقوع نور المصباح على وجهه خلافا للداخل، فإن وجهه يكون معرضا لهذه الأشعة، بحيث إذا التفت روكامبول يراه.
فدخل الترجمان وكان هو الطارق، فقال: إن خادم غرفة قومندان الميناء في الباب.
وكان هذا القومندان قد تلقى كتاب روكامبول، فأسرع إلى إجابته أنه ينتظر زيارته في الغد، وعهد بإرسال الجواب إلى رجل أدخلته باكارا في خدمته في الليلة التالية لتلك الحفلة الراقصة.
فلما أخبر الترجمان روكامبول أن الخادم واقف بالباب التفت إليه، ثم حول وجهه عنه بسرعة وقد ذعر ذعرا شديدا؛ لأنه علم أن هذا الخادم كان زامبا.
ومن غريب الاتفاق، أن اللباس الذي كان متنكرا به روكامبول في قاديس، كان نفس اللباس الذي كان يتنكر به حين كان يقابل زامبا في باريس.
ولكن لحسن حظه لم ير زامبا وجهه؛ لأنه كان في الظل كما قدمنا، أما روكامبول فإنه أشار في الحال إشارة خفية للترجمان فخرج، وبعد خروجه دخل زامبا فأخذ منه الكتاب دون اكتراث، وهو واضع منديله على وجهه كي يستره ووضعه على الطاولة، ثم رجع خطوتين إلى الوراء، ودخل إلى غرفة صغيرة كانت ضمن الغرفة الكبيرة، وبعد أن لبث فيها برهة قصيرة خرج منها وعرض وجهه للنور أمام زامبا، فتراجع منذعرا إلى الوراء وقد عرف أنه الرجل الذي كان يستعبده في باريس.
وكان روكامبول يحمل بيده مسدسا، فصوبه إلى قلب زامبا ووضع أصبعه على شفتيه إشارة إلى الصمت، وقال له باللغة الفرنسية الفصحى وليس باللغة الإنكليزية كما كان يكلمه من قبل: يظهر أننا صديقان من عهد بعيد.
فاضطرب زامبا من المسدس، وقال: نعم فقد عرفتك من عهد بعيد ... - إذن فأصغ إلي واجلس أمامي لنتحدث؛ إذ لدينا كثير من المهمات التي يجب النظر فيها ...
فجعل زامبا يرتجف ارتجافا شديدا حتى كاد يقع، وقال له: ليكن ما تريد. - اجلس وسكن روعك فإني أراك ترتعش ارتعاش النساء، ثم شفع قوله بضحكة عالية، وأسرع إلى الباب فأقفله من الداخل وعاد إلى زامبا، وجلس أمامه فجعل يضحك ويلعب بالمسدس وهو يصوبه إليه.
19
لقد تركنا ابنة الدوق سالاندريرا تفض أختام الكتاب الذي ورد إليها من باريس، وقد عرفته للحال من خطه أنه من خطيبها.
ومثل هذا الكتاب يرد إليها من خطيب تهواه يشغلها بالطبع عن سواه، ويطرد من مخيلتها تلك المؤثرات التي شغلتها في الحفلة الراقصة ولو إلى حين، فقرأت الكتاب وأعادت تلاوته ثلاث مرات، فكان المركيز دي شمري يتمثل لها في خلال السطور.
أما الكتاب فهو الذي كتبه روكامبول يوم سفره إلى ابنة الدوق، فأخبرها فيه عن سرقة الصورة بالشكل الذي أراده، ثم أخبرها أنه لا يستطيع مبارحة باريس قبل ثمانية أيام لإعداد مهماته.
ولكنه سافر في اليوم نفسه مع ذلك الكتاب متنكرا باسم البارون ونسلاس كما علمناه، ونزل في الفندق الذي كان ينزل فيه فرناند روشي وزوجته.
فلما شفت ابنة الدوق غلها من تلاوة كتاب خطيبها دفعته إلى أمها، فقرأته وقالت معجبة: لا أدري كيف يقول: إنه لا يحضر قبل ثمانية أيام، ألا يعلم أن جلالة الملكة لا تقيم إلى الأبد في قاديس، وأنها قد تبرحها قبل مجيئه وأنه لا بد أن يقدم لها وللملك بصفة رسمية.
فتمتمت الفتاة تقول: ثمانية أيام ... إنها دهر طويل فما أصعب الانتظار!
فابتسمت الدوقة، وقالت: إذن أنت تحبينه حبا شديدا يا ابنتي.
فعبق خداها بالاحمرار وأطرقت بنظرها مستحيية، فكان استحياؤها أبلغ جواب.
ثم عادت إلى التأمل بمياه البحر، فكانت فرحة القلب بما كانت ترجوه من قرب حضور المركيز، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى الحوادث التي مرت بها في الليلة الراقصة حتى تولاها الانقباض، وبدت على وجهها الجميل ملامح الكآبة والانكماش.
وكانت كلما أرادت طرد هذه الأفكار من مخيلتها بالإفكار بروكامبول، غالبتها تلك الحوادث، وتمثل لها ذلك السجين بمظاهر رجل شريف نكبه القضاء وحاربته الأقدار، فحنت لمصابه ورثت لبلواه إلى أن أعياها أمره، ولم تجد سبيلا لإبعاده عن تصورها، فقالت في نفسها: هب أن الرجل كان صادقا فيما يقول، فأي دخل لي في شأنه؟ أليس من الحمق والشين أن أفتكر به أكثر مما أفتكر بخطيبي، وما هذا السر بحنيني إليه؟
ثم وضعت يدها على جبينها تحاول طرد ذاك الفكر، كأنها لم تتجاسر على إتمامه.
وانقضى النهار، فذكرت ابنة الدوق الموعد الذي اتفقت عليه مع الكونتس أرتوف، فكانت كلما قربت ساعة الموعد يزيد سأمها ويفرغ صبرها، فقد كان يتنازعها عاملان من شوق إلى معرفة تلك المعميات، ومن رعب كان مستوليا عليها وهي لا تعلم السبب فيه.
غير أنها حملته على ما جاء في رسالة باكارا التي كتبتها إليه في مقدمة الدفتر، من أنها لها دخل في حوادث تلك الرواية الهائلة التي قرأتها، ولكن الذي كان يدهشها أنها لم تكن تعرف أحدا من الأشخاص الذين ورد ذكرهم فيها.
فصرفت جانبا من الليل مع أمها إلى أن تركتها الدوقة، ودخلت إلى غرفتها لتنام، فعادت الفتاة إلى موقفها السابق في الرواق المشرف على البحر؛ وذلك لأن باكارا قالت لها في الحفلة: قفي على الرواق عند انتصاف الليل وانتظري.
وكان جميع من في القصر نياما، ولم يبق للموعد المضروب غير نصف ساعة، فوقفت ابنة الدوق في ذلك الرواق مسندة كوعها إلى الرخام، وجعلت تنتظر وتتأمل ذلك الفضاء الواسع، فلا ترى غير النجوم لاشتداد الظلام، فجزعت وجعلت تعد الدقائق كما تعد الساعات، وتصغي إلى كل حركة تسمعها من البحر؛ لعلمها أن الكونتس ستحضر في سفينة، ولكنها على جزعها وخوفها لم تتمالك عن الافتكار بذلك المجرم السجين.
ثم خيل لها أنها تسمع صوت حركات متشابهة، فعلمت أنها أصوات المجاذيف، وجعل قلبها ينبض نبضا شديدا، فأطلت إلى الجهة التي خرج منها الصوت، فشاهدت شبحا يدنو مسرعا إلى جهة القصر، فما شكت أنها سفينة الكونتس أرتوف التي تنتظرها على أحر من الجمر.
ووصلت السفينة إلى الشاطئ، فخرج أحد بحارتها فربطها بحبل إلى حلقة من الحديد في الشاطئ، ثم خرجت امرأة من السفينة، وصعدت سلم الرواق الذي كانت تقيم فيه ابنة الدوق، فتراجعت الفتاة إلى آخر الرواق كأنها خشيت أن تستقبل تلك الزائرة.
فأسرعت إليها باكارا، وقالت لها بعد التحية: ألعلك وحدك؟ - نعم فإن أمي قد نامت. - وأنا أيضا قد أتيت وحدي.
فارتعشت ابنة الدوق، وسألت: من الرجل الباقي في السفينة؟ - بحري من بحارة الميناء.
فبدت على ابنة الدوق ملامح الاكتئاب، كأنها كانت تتوقع أن يكون هذا الرجل المجرم الذي لم يكن يبرح من بالها، فأخذت باكارا بيدها وقالت لها: إني كنت عازمة على إحضار زامبا معي. - ألعلك تعرفينه؟ - كيف لا أعرفه، وقد اتفقت وإياه على أن يأتي إلي الليلة؟ ولكني انتظرته إلى الساعة الحادية عشرة فلم يأت، فاضطررت إلى الحضور وحدي. - ألعلك كنت محتاجة إلى زامبا؟ - نعم وذلك؛ لأنه يعرف كثيرا من الأمور التي يهمك شأنها، وهو يستطيع أن ينقلها إليك أحسن مما أنقلها أنا.
فارتعشت الفتاة وأجابت: ألعلك تريدين مباحثتي أيضا بشأن الدوق دي مايلي؟ - ربما. - أتأذنين لي يا سيدتي بكلمة؟ - تفضلي. - يظهر أن الدوق دي مايلي قد مات مسموما، وأنا مشفقة عليه غاية الإشفاق، غير أني لا أراني مضطرة أن أسكب الدموع الغزيرة عليه، بعد أن كاد المكائد في سبيل الحصول على رضى أبي، لتزويجه بي. - العفو يا سيدتي، فإني ما أردت أن أصحب معي زامبا إليك إلا لجلاء الغامض من هذه المكائد، فإن ذلك الرجل قد خدم الدون جوزيف والدوق دي مايلي، وهو يعرف كل شيء.
فذكرت ابنة الدوق أن الكونتس أرتوف كانت تذكر الدوق دي مايلي بالخير أمام أبيها.
فقالت: إني أعلم يا سيدتي أن الدوق كان من أصحابك، وكنت تحاولين مرات كثيرة أن تبرهني عن فضله أمام المرحوم أبي. - إني لم أكن أبرهن إلا عن الحقيقة. - أية حقيقة تعنين يا سيدتي؟ - هي أن الدوق دي مايلي كان من أسرة سالاندريرا. - إن هذا ما كان يدعيه، وليس هو من الحقيقة في شيء. - بل هو الحقيقة بعينها، فأصغي إلي يا سيدتي كي أكشف لك النقاب عما تجهلين، إن هذا الكولونيل الروسي الذي هو من أسرة دي مايلي لا يزال حيا موجودا في أودسا، وكان لديه أوراق حقيقية لا ريب فيها تثبت أن الدوق دي مايلي من أسرة سالاندريرا. - إذا كان ذلك أكيدا، فلماذا لم يظهر هذه الأوراق؟ - إنه أرسلها إلى قريبة الدوق. - وهي لم تصل إليه؟ - كلا فإن الرسول الذي كان يحملها قتل في غابات فنسان. - وسرقت منه الأوراق، أليس كذلك؟ - نعم يا سيدتي. - إن لهجتك يا سيدتي تدل على أنك واثقة كل الوثوق من صدق هذه الأقوال، ولكني أؤكد أنهم خدعوك كما خدعوني. - ومن تظنين أنه خدعني؟ - الدوق دي مايلي.
فهزت باكارا رأسها، وقالت: كلا يا سيدتي بل إنهم خدعوك بشكل هائل، ولا يزالون يخدعونك إلى الآن. - أتظنين أن الأوراق كانت موجودة؟ - بل أؤكد وهذا لا ريب فيه عندي. - إذن؛ فكيف اتفق أن الدوق دي مايلي قد خلا بي مرة، واعترف لي ولا أنكر أنه لم يعترف اعترافا جليا، ولكنني علمت منه كل شيء؟! - ماذا علمت يا سيدتي؟ وبماذا اعترف لك؟ - بأن الأوراق لا أثر لها. - إني أعلم أن الدوق قد تمتم بعض الكلمات حين اضطررته إلى الإجابة. - كيف تعرفين ذلك وقد كنت وإياه دون ثالث بيننا؟ - كلا يا سيدتي، فقد كان أبوك في غرفة مجاورة يراكما ويسمع كل ما تقولين. - غير أن الدوق كان يحسب أنه منفرد بي. - إنك منخدعة أيضا يا سيدتي، فقد وصل إليه كتاب منك في ذلك الصباح، وكان في الكتاب أنه سيوجد في خلوتكما من يسمع حديثكما. - كلا إن هذا محال لا صحة له في شيء. - إن كتابك لا يزال موجودا. - لا صحة لذلك، فإني لم أكتب شيئا من هذا. - إن الكتاب عندي فادخلي معي يا سيدتي إلى غرفتك. - لماذا ؟ - كي أريك الكتاب؛ إذ لا يوجد نور في هذا المشرف. - هلمي بنا يا سيدتي، وأظن أن واحدة منا قد فقدت صوابها.
ثم أخذتها بيدها، وقالت لها: هلمي معي، إنما أرجوك أن تخفضي الصوت ما استطعت؛ كي لا تستيقظ أمي؛ إذ لا أحب أن تعلم شيئا من هذه الأحاديث.
ودخلت الاثنتان إلى الغرفة، فأنارت ابنة الدوق مصباحا، وعند ذلك أخرجت باكارا من صدرها ملفا من الورق مربوطا بخيط من الحرير وقالت لها: خذي هذه هي رسائلك إلى الدوق دي مايلي. - رسائلي إلى الدوق؟! إذن فأنت التي فقدت صوابها يا سيدتي؛ لأني لم أكتب إلى الدوق غير رسالة واحدة في حياتي.
ثم نظرت نظرة الفاحص إلى تلك الرسائل، فما تبينت الخط حتى صاحت مجفلة منذعرة: إن الخط خطي لا سبيل إلى إنكاره، ولكني لم أراسل الدوق.
وقد أصابها في هذه الحادثة نفس ما أصاب باكارا منذ بضعة أشهر حين عرض عليها زوجها الكونت أرتوف تلك الكتابة، التي كانت تشبه خطها أتم الشبه إنها نفسها خدعت بها، ولم تجد سبيلا لإنكاره.
وعند ذلك أسرعت ابنة الدوق إلى فض الرسائل، ودنت من المصباح، فلما تلتها صاحت قائلة: لا شك أني مجنونة أو قد مثل لي حلم رهيب. - إنك غير حالمة يا سيدتي، بل إنك تسمعين الحقيقة كما هي دون زيادة ولا نقصان. - إذن، فقد كتبت أنا هذه الرسائل؟ - كلا، ولكنهم قلدوا خطك أتم تقليد.
فوضعت الفتاة يدها على جبينها، وقالت: أوصلت جميع هذه الرسائل إلى الدوق؟ - كلها. - وكان يظن أنها مني؟ - بل كان واثقا يا سيدتي، وقد نزل معه هذا الاعتقاد إلى القبر. - رباه إن هذا تزوير هائل! - لا أنكر عليك ما تجدينه من فظاعة هذا التزوير، فاقرئي يا سيدتي إلى النهاية.
فامتثلت الفتاة، وجعلت تقرأ تلك الرسائل التي خطتها يد روكامبول، وكان يرسلها بواسطة زامبا إلى الدوق مايلي، كما عرف القراء في رواية الغادة الإسبانية أي: الجزء الثالث من هذه القصة.
فلما توغلت في قراءتها قالت: رباه! ماذا أرى؟! لقد انجلت الغمامة عن عيني وفهمت الآن. - تقولين: إنك فهمت؟ - نعم؛ فإن الدوق كان يحسب أني أحبه. - ذلك لا ريب فيه. - وإنه كان يحسب أنه يوجد عدو له يحول دون زواجنا. - كان يظن أن ذاك العدو هو أمك، فإنه مات وهو يعتقد أن أمك كانت الحائل الوحيد دون زواجك به. - ومن كان يحمل إليه تلك الرسائل؟ - زامبا. - تبا له من شقي خائن. - ولكنه لم يكن غير آلة بيد سواه. - أليس هو الذي كان يقلد خطي؟ - كلا. - من عسى أن يكون هذا المزور الجريء؟ - سيقول لك زامبا عن اسمه. - ولكن زامبا يقول إنه هو الذي سمم الدوق. - هذا أكيد أيضا، غير أنه لم يكن غير آلة كما قلت لك، ويجب البحث عن الدافع له إلى هذه الجناية الخفية.
فجعل العرق البارد ينصب من جبين ابنة الدوق لما تولاها من الذعر، وقالت: رباه! ما هذه الألغاز ألا تكشفين لي الحجاب عنها؟ - لا أستطيع الآن وسأجلو لك كل شيء فيما بعد، وفي كل حال فلا بد من وجود زامبا؛ لأنه هو وحده يستطيع أن يقول كل شيء. - أيقول لي اسم الشخص الذي دفعه إلى قتل الدوق دي مايلي؟ - نعم، أما هذا الشخص فهو كهل ذو لحية شقراء وشعر أحمر، وقد كان واقفا على أسرار زامبا، وهو يستطيع في كل حين أن يرسله إلى المشنقة. - ألعل زامبا فعل ما فعله خوفا منه؟ - إنه ارتكب الجريمة لخوفه ولأمله بالمكافأة. - ألا تقولين لي - على الأقل - السبب الذي قتل من أجله الدوق؟ - إن الذي قتله كان يخشى أن يتزوج بك. - إذن فإن خصمه كان راغبا بزواجي؟ - هي الحقيقة التي خرجت من فمك. - احذري يا سيدتي فقد قلت كلمة كبيرة؛ لأنه لا يوجد غير اثنين طلبا الزواج بي. - أعلم ذلك حق العلم. - وأن أحد الخطيبين هو الدون جوزيف. - لقد مات قبل موت الدوق. - وأن الثاني يدعى ... - إني لا أشكو أحدا.
فقالت الفتاة بكبرياء: إن الثاني يا حضرة الكونتس يدعى المركيز دي شمري وكلامك يدل ... - قلت لك يا سيدتي: إني لا أشكو أحدا ، وفوق ذلك فإن المركيز دي شمري لا يزال في عهد الشباب، ولقد قلت لك: إن الشخص الذي دفع زامبا إلى قتل الدوق تجاوز حد الصبى، ثم أخبرتك أن هذا الشخص أشقر اللحية أحمر الشعر، وليس للمركيز شيء من هذه الأوصاف.
فتنهدت ابنة الدوق تنهد المنفرح؛ لأن كلام باكارا الأخير نفى التهمة عن خطيبها المركيز، وقالت لها: غير أني أرى أنه لا يزال يوجد من يحبني حبا خفيا؟ - ربما. - ومن هو هذا المحب الخفي؟ - ألم تقرئي الدفتر الذي أرسلته إليك؟ - قرأته كله. - ولكنك لم تفهمي شيئا؟ - إن الذي أشكل علي فهمه في هذه الحكاية هو أني لم أعلم أية علاقة بيني وبين أشخاصها الذين لا أعرف منهم أحدا. - ذلك لأن الحكاية لم تتم بعد. - ماذا تعنين بذلك؟ - أعني أنها لا تزال في حاجة إلى الخاتمة. - وأية خاتمة تعنين، فقد قرأت فيها أن السير فيليام شقيق الكونت إرمان دي كركاز قد مات. - كلا فإنه لم يمت إلا منذ أربعة أشهر. - مهما يكن من أمره فهو بعيد عن أوروبا. - إنه عاد إلى باريس منذ عام.
وكانت باكارا قد مثلت أندريا في تلك الحكاية أفظع تمثيل، بحيث لم تتمالك ابنة الدوق عن إظهار رعبها عندما سمعت باكارا تخبرها بعودته، فلما رأت باكارا أنها ذعرت أسرعت إلى تطمينها، فقالت لها: لا تخافي؛ فقد مات موتا حقيقيا منذ أربعة أشهر دون أن يسر قلبه بنجاح المكيدة الهائلة، التي خطتها قريحته الجهنمية. - ما هي هذه المكيدة؟ - كان الغرض منها زواجك.
فصاحت الفتاة صيحة رعب منكرة، وقالت: تزويجي أنا ... أكان يريد أن يتزوجني. - كلا، لم يكن يريد أن يجعلك زوجته، بل كان يحاول أن يزوجك تلميذه. - ومن هو تلميذه هذا؟ - إنه شاب شديد المكر يدعونه روكامبول. - روكامبول؟ أليس هو هذا اللص الذي كان يحاول إغراء الكونتس دي كركاز؟ - هو بعينه. - وهذا اللص كان يريد أن يتزوج بي؟ - نعم يا سيدتي. - رباه! ماذا أسمع؟ - إنه كان يريد أن يتزوج بك، وقد ضمن له أستاذه أندريا الفوز.
فجعلت ابنة الدوق تضطرب، وتقول: ما هذه الجسارة النادرة؟ - ولكن روكامبول كان ناكرا لجميل أستاذه، فإنه قتل السير فيليام، وخسر بموته كل أمل من الفوز.
ولما اتضح ذلك لابنة الدوق لبثت حينا واجمة منصعقة بما سمعته من تلك الأخبار الهائلة، وقد ثارت في هذا البدء عاصفة كبريائها حين علمت أن لصا سفاكا مثل روكامبول تجاسر على الطمع بزواجها، ثم تلا هذه العاصفة سكون حزن، وبلاهة يصعب وصفهما، إلى أن ثابت من المؤثرات فنظرت إلى باكارا، وقالت لها بكبرياء: إن جميع ما تقولينه لي يا سيدتي هائل وحشي، ولا شك أني قد أصبت بعقلي فسمعت الحديث إلى آخره، بل لا شك أني قد أصبت بالبلاهة لما بدا علي من ظواهر تصديق الحديث. - سيدتي؟ - ولكني أفترض أن ما تقولينه أكيد، وتفترض أيضا أنه اتفق وجود لص في باريس يدعى السير فيليام، وشقي يدعى روكامبول، وأن هذين الاثنين قد اتفقا وتجاسرا على تزويجي بأحدهما. - هذه هي الحقيقة بعينها ولا ريب فيها. - قلت لك: إني أفترض ومع ذلك فلو سلمت بهذه الحقيقة وأتى روكامبول يخطبني. - تريدين أن تقولي إنك ترفضينه.
فلم تتنازل ابنة الدوق إلى إجابتها.
أما باكارا فإنها لم تتكدر لكبرياء الفتاة، وما بدا عليها من مظاهر الاستهزاء والاستخفاف، بل قالت لها: لقد سبق وعدك لي يا سيدتي أن تصغي لحديثي إلى النهاية. - وسأحافظ على هذا الوعد فقولي ما تشائين. - إنه منذ عهد بعيد يا سيدتي أي: منذ ثلاثين عاما حين عودة الملكية إلى فرنسا قدم رجل إلى باريس، ودعى نفسه الكونت سانت هيلانة، وقد عينه الملك كولونيلا في الجيش، ففتحت له قاعات باريس الكبرى أبوابها، وكان الأعيان يستقبلونه بإجلال يوافق مقامه.
فبينما كان ذاك الكولونيل عائدا يوما من حفلة استعراض الجيش، وهو في ملابسه الرسمية الباهرة اصطدم كتفه بكتف شحاذ متسول كان واقفا مع المتفرجين، فمد هذا الشحاذ يده إليه يصافحه، وناداه باسم بسيط خلو من كل لقب أو رتبة، فصده الكولونيل ودفعه باشمئزاز وأنفة، فارتفع صوت الشحاذ، وكثر اللغط وكان بين الاثنين خصام شديد حكم فيه المجلس بعد بضعة أشهر. - لقد عرفت هذا الحكاية، ولكني لا أجد لها علاقة بما أنا فيه. - ذلك لأنك لا تعلمين يا سيدتي، أن أندريا قد هذب تلميذه روكامبول أتم تهذيب، وألبسه خير لباس يتمكن من أن يجعله زوجك.
فابتسمت الفتاة وقاطعتها، فقالت: إن من كانت مثلي لا تنخدع بمن يقلد الأعيان تقليدا وهو ليس منهم.
فأجابتها باكارا بتهكم: أتحسبين يا سيدتي أنك لا تنخدعين؟! - بل أؤكد، حتى ولو قدموا لي المسيو روكامبول باسم جنرال، فلا أنخذع به. - ليكن ما تريدين، والآن فاسمحي لي قبل أن أندفع إلى الحد الذي رسمته لنفسي، أن أكلمك عن رجل أظن أنه استلفت بعض انتباهك في الليلة الماضية.
فصبغ الدم وجنتيها، وقالت وهي ترتعش: ألعلك تريدين أن تحدثيني بشأن هذا الشاب الذي كان مرتديا بملابس المجرمين؟ - هو ما تقولين يا سيدتي.
فزادت دقات قلبها، وقالت: ألعلك تريدين أن تقولي لي أيضا إن له علاقة بي. - نعم يا سيدتي. - كيف ذلك؟ - ذلك أن الكونت سانت هيلانة الذي اختصم مع الشحاذ كان مجرما سفاكا، فقتل الكونت الحقيقي وتسمى باسمه. - وبعد ذلك؟ - وأن روكامبول تلميذ أندريا قد اقتدى بذلك السفاك؛ كي يكون له مقام في الهيئة يتمكن به من البلوغ إلى العائلات الكبرى. - ماذا تقولين؟ - أقول إن روكامبول كان يحسب أنه قتل ذلك الرجل الذي رأيتيه أمس في الحفلة الراقصة، وكان بملابس المجرمين، ولكن هذا المسكين لم يمت كما يظن بل احتجب عنه لوجوده في السجن. - الرجل الذي رأيته أمس؟ - هو بعينه! ألم يقل لك في الليلة الماضية إن العاصفة أغرقت السفينة التي كان فيها، فالتجأ إلى جزيرة صغيرة، وأغمي عليه فلم يجد نفسه إلا في سفينة عبيد أسوجية؟ - نعم أخبرني كل هذا. - ثم إنه أخبرك بكل ما جرى له بعد ذلك، ولكنه لم يقل لك إنه حين نجا وسبح إلى الجزيرة كان يصحبه رجل آخر نجا مثله بالسباحة. - وماذا فعل به هذا الرجل؟ - تركه ملقى في الحفرة، وهو واثق من أنه سيموت فيها إلى أن أنقذه رجال السفينة الأسوجية. - وما كان غرض هذا الرجل؟ ولماذا تخلى عنه بالحفرة؟
فهزت باكارا كتفيها، وأجابت: إن الرجل تخلى عنه؛ لأنه كان يدعى روكامبول، وقد تركه بعد أن استولى على أوراقه وجوازه وملابسه. - لقد فهمت الآن أليس أن روكامبول قد تسمى باسم هذا المنكود حين كان يريد أن يخطبني؟ - هو ما تقولين، فإنه لم يتداخل مع العائلات إلا بعد تنكره بهذا الاسم، وقد استولى بهذا التنكر الغريب على جميع ثروة ذلك المسكين، وصار من الأغنياء الشرفاء، حتى إنه بات يؤمل أن يتزوج بك. - إن ما أسمعه غريب يا سيدتي، فإني عاشرت جميع الأعيان في باريس، وعرفت معظم أسراتها ورأيت كثيرين من شبانها، فلم أجد بينهم من تحمل هيئته وأحاديثه على شيء من الريب. - تذكري جيدا يا سيدتي. - لماذا تريدين أن أجهد نفسي بالتذكر، وأنت تستطيعين بكلمة واحدة إماطة الحجاب، فتذكرين اسم المجرم الذي يدعى روكامبول، وقد سرق اسم هذا البحار المنكود وثروته وألقابه؟
وكانت باكارا تكلمها إلى ذلك العهد ببساطة، كمن يقص حكايته في مجلس، ولكنها عندما رأت أن ابنة الدوق تلح عليها بمعرفة الاسم الذي ادعاه روكامبول، ارتسمت على وجهها علائم الجد والكآبة، وقالت: إنك يا سيدتي من أشرف العائلات الإسبانية، وتجول في عروقك أطهر الدماء، فأنت بمقام أسرتك العظيمة تشبهين تلك الشجرة الضخمة، التي تهزها الرياح الشديدة ولكنها لا تقتلعها؛ ولهذا تجاسرت وأتيت إليك، وأنا أعلم بأن الحقيقة سيكون وقعها شديدا هائلا عليك، وعزائي بإبلاغك هذا الخطب الشديد أنك ستكونين بعد ملاقاته آمنة من كل طارئ.
فوقفت ابنة الدوق مضطربة مصفرة الوجه، وقالت: أنا مهددة بهذا الخطر؟ رباه! ماذا حدث وما عسى أن يكون أصابني؟ - إني أتيت لإنقاذك أيتها الفتاة المنكودة. - ماذا أسمع ... تكلمي أوضحي ما تقولين، فإني لم أعد أطيق الصبر تكلمي ...
فترددت باكارا هنيهة، ثم قالت: إن الرجل الذي رأيتيه بملابس المجرمين في الحفلة الراقصة، هذا الرجل الذي سرقوا اسمه ولقبه، وثروته أتعلمين ماذا يدعى؟ إنه يدعى المركيز فريدريك ألبرت أنوريه دي شمري، وهو المركيز الحقيقي أما أنت فإنك ما أحببت إلا روكامبول! ...
أما ابنة الدوق، فإنها لم تصح صيحة ولم تقل كلمة، ولكنها تراجعت خطوتين إلى الوراء، ثم انقلبت على ظهرها مغميا عليها.
وعند ذلك فتح باب الغرفة، ودخلت منه الدوقة، فلما رأت ابنتها دون حراك وباكارا بجانبها صاحت: أواه! لقد قتلت ابنتي؛ فإني سمعت كل شيء.
20
مر على هذا المشهد المتقدم بضع ثوان كانت المرأتان تخالهما دهرا، ولكنهما بعد أن جعلت كل واحدة منهما تنظر إلى الأخرى هنيهة، وأسرعتا بعدها إلى الفتاة المنطرحة أمامهما، فحملتاها ووضعتاها على السرير الذي كان في الغرفة.
ثم دنت باكارا من جرس موضوع على المائدة، وحاولت أن تقرعه كي تستدعي الخدم غير أن الدوقة منعتها، وقالت لها: لا تفعلي؛ فلا أحب أن يعلم الخدم شيئا من هذا.
وأسرعت إلى غرفة، فأحضرت زجاجة رائحة منعشة وزجاجة خل، فوضعت الرائحة قرب أنفها، وجعلت تفرك صدغيها بالخل، فلم يمر ربع ساعة حتى استفاقت من إغمائها وفتحت عينيها.
وقد نظرت أولا إلى أمها، ثم إلى باكارا وهي منذهلة لاتفاق وجودهما معا، ثم ضربت جبهتها بيدها بغتة، وقالت بلهجة غريبة: لقد تذكرت أيتها الكونتس.
ولم تكد تتم كلامها حتى وثبت من سريرها، ودنت من باكارا التي تراجعت خطوتين؛ كي تدع الدوقة تدنو من ابنتها، فقالت بسكينة تامة: خشيت المرأتان أن تكون مقدمة الجنون: سيدتي انظري إلي جيدا، فإني أدعى كونسبسيون دي سالاندريرا.
فعلمت أمها أنه سيجري بين ابنتها وبين باكارا أمور هائلة، غير أنها لم تجسر على المداخلة، بل لبثت بعيدة عنهما ساكتة تنظر إلى ابنتها نظرات الخوف والإشفاق.
فقالت لها باكارا: إني أعلم يا سيدتي اسمك، وقد اضطرب صوتها؛ لأنها أدركت صعوبة موقفها. - إنك متى عرفت اسمي يا سيدتي تعرفين أيضا أني إسبانية أي: إني أعرف أن أكره وأن أحب إلى أبعد مدى الحب والكره، ولما كنت آخر من بقي من أسرة سالاندريرا، فإني أشعر أن دماء آبائي تجتمع كلها في عروقي.
وبرقت عيناها على أثر كلامها، ثم تابعت: إني قد أغمي علي لأول وهلة، ولكني أذكر الآن كل ما تقدم حادثة إغمائي، وإن جميع كلامك قد طبع في ذاكرتي بحروف دهرية لا تمحى.
وقد أرادت باكارا أن تجيبها غير أنها قاطعتها بإشارة ملؤها الكبرياء، وتابعت: إنك أخبرتني قبل إغمائي أن الرجل الذي أحببته، وكاد يكون زوجي لم يكن المركيز دي شمري أليس كذلك؟
فأحنت رأسها بكآبة إشارة إلى الإيجاب. - وأنت تقولين: إن المركيز دي شمري الحقيقي هو في سجن قاديس. - نعم يا سيدتي. - وأن الرجل الذي تسمى باسمه في باريس هو لص سفاك، وقد كتبت حكايته خاصة؛ كي تطلعيني عليها. - نعم وهذا اللص هو روكامبول. - انظري يا سيدتي إلى سريري ألا تجدين قربه صليبا؟ - نعم ... - إذن فاسمعي يمين إسبانية من أسرة سالاندريرا، التي يتصل شرف نسبها منذ ألف عام، إني أقسم لك بهذا الصليب المقدس إنه إذا كان ما تقولينه أكيدا، وكان هذا الرجل الذي أحببته اللص روكامبول فإنه سيعاقب، وإن حبي له يستحيل إلى كره عجيب ينطبق على جسارته النادرة برفع أنظاره إلي، ولمس يده ليدي، فأعذبه عذابا لا يخطر في بال أحد من أهل هذا الجيل، ولم يحدث مثله إلا في القرون الوسطى المظلمة.
وكانت ابنة الدوق تتكلم بصوت منخفض وبلهجة شديدة تدل على مبلغ انفعالها، فإن عينيها كانتا تتقدان وتنفذ منهما الأشعة كوميض البرق، وقد اصفر جبينها وبدت بأعظم مظاهر الجلال والعظمة والكبرياء، فكان يظهر أن دماء جميع أجدادها قد تسربت بجملتها إلى عروقها.
ثم توقفت هنيهة عن الكلام، ونظرت إلى أمها فرأت عينيها تغرورقان بالدموع، وإلى الكونتس أرتوف فرأتها مطرقة بنظرها إلى الأرض تفكر بنكبتها، فعادت إلى الكلام ووجهته إلى باكارا فقالت: وأما إذا كنت كاذبة فيما تقولين، أو كنت منخدعة، أو كان جميع ما بدر منك زورا وبهتانا، وكان هذا الرجل الذي أحببته أهلا لحبي، فإني أقسم بشرف أجدادي إني لا أشكوك إلى المحاكم انتقاما منك، بل إني أنتقم لنفسي، ثم أخذت بيدها خنجرا كان على الطاولة وتابعت: إذا كنت كاذبة فلا تموتين إلا من يدي بهذا الخنجر.
فرفعت باكارا رأسها وأجابت ببرود: اعلمي يا سيدتي أني لم أنهج هذا النهج، ولم أخبرك بهذا الخطر الهائل الذي كان ينذرك إلا وتوقعت أن أسمع منك ما سمعت، ولو لم تكن لدي البراهين الكافية المسببة لما قلته لك لما تجاسرت على إبراز هذه الحقيقة؛ لعلمي بمقدار تأثيرها عليك، أما وقد تحملت هذه النكبة التي لا يقوى عليها سواك بمثل ما بدا منك من الأنفة، فلا أجد الآن ما يمنعني عن تتمة الحديث فأصغي إلي.
إنه منذ عامين توفيت المركيزة دي شمري في قصرها في سانت جرمين، وكانت آخر لفظة خرجت من فمها اسم ولدها.
وكان بالقرب من سريرها عند نزاعها فتاة وفتى، وهما راكعان يبكيان فدخل رجل لا قلب له، فأخذ الشاب بيده وطرده من المنزل، وعاد إلى الفتاة، فقال لها: بلانش، إني أخوك. ثم ركع أمام سرير المركيزة، وهي جثة باردة وجعل يبكي بكاء شديدا، كأنما هو ابن المركيزة الحقيقي وقد فجع بفقدها.
وفي اليوم التالي تبارز مع ذلك الرجل انتقاما لأمه، فارتفع شأنه في العائلات وأيقن الناس أنه المركيز دي شمري لا ريب فيه.
فقالت الفتاة: إلى أين تريدين البلوغ بحديثك وأنا أنتظر البراهين؟ - سأظهر لك يا سيدتي إنما يجب قبل ذلك أن تعلمي كيف كنت، وكيف كان مركزي حين كشفت سر هذا المنافق، وعلمت أنه روكامبول يتنكر باسم المركيز. - كلا، إني أريد البرهان. - ما هذا الإلحاح والتقاطع؟! هو ذا الأبواب أمامك، فأقفليها إذا كنت تخشين أن أهرب، فإنك أنذرتيني بالقتل إذا كنت كاذبة، وأنا أفتح صدري لخنجرك متى يئست من إقناعك غير أنه لا بد لك من الإصغاء إلي.
فشعرت ابنة الدوق أنها مخطئة بإلحاحها، وقالت لها: تكلمي يا سيدتي وها أنا مصغية إليك. - إن ذلك اليوم الذي هتكت فيه أسرار ذلك الماكر كنت أرى فيه فتاتين أمامي، إحداهما يا سيدتي أنت، فقد كنت معرضة لخطر الزواج بهذا السافل، ولكن الخطر كان يمكن ملافاته، والثانية يا سيدتي هي تلك المرأة التي قضى عليها نكد الطالع أن تكون أقل حظا منك، فإنها منذ عهد بعيد تنادي ذلك السفاك بأخيها، فتصافحه وتعانقه وتحبه كما تحب الأخت أخاها، وهي لا تعلم أن يدها كانت تصافح تلك اليد الملطخة بدم أخيها الحقيقي. - يا للهول! - وقد علمت يا سيدتي أنك شديدة صبورة، فإذا أخبرتك بالحقيقة تستطيعين الصبر عليها خلافا لبلانش دي أسمول، فإنها إذا علمتها مني تموت لا محالة. - ماذا تعنين أيتها الكونتس، ألعلك تريدين أن أتولى أنا إخبارها بالحقيقة؟! - كلا ... فإن السر سيبقى مكتوما عنها، أما البرهان الذي تطلبينه بإلحاح، فهو الصورة التي تمثل المركيز الحقيقي، فإن الرجل المقيم الآن في السجن يشبهه شبها غريبا حين كان في عهد الطفولة، ولما كنت قد رأيته أمس، وعرفت هيئته فإنك تعلمين أنه هو المركيز الحقيقي حين تنظرين إلى صورته وهو صغير.
ثم عرضت عليها الصورة، فما لبثت ابنة الدوق أن تأملتها حتى صاحت صيحة دهش؛ لأنها رأت أن الصورة تشبه السجين بالعينين والفم والابتسام، وتلك الهيئة الدالة على التفكير، وقالت: كيف عثرت على هذه الصورة؟ - إن زامبا سرقها. - من أين؟ - من قصر الأورانجري في التورين.
فذكرت ابنة الدوق للحال ذلك الكتاب الذي ورد إليها من روكامبول، وما كتبه لها عن الصورة، فدنت من باكارا فهزتها بعنف، وقالت: أعطيني برهانا واحدا يدل على أن الصورة هي صورة المركيز دي شمري، وأنها أخذت من قصر الأورانجري أصدق كل شيء.
فوضعت باكارا أصبعها في آخر الصورة وقالت لها: إنك خبيرة يا سيدتي في فن التصوير فاقرئي هذه الكلمات المكتوبة المخطوطة بالدهان الأحمر؛ تعلمي من ذلك اللون أنها بعيدة العهد.
فقرأت ابنة الدوق تلك الكلمات، وهي توقيع المصور واسم المركيز واسم القصر، وفحصت ذلك الدهان فعلمت أنه قديم منذ عشرين عاما على الأقل، وذكرت أن روكامبول كتب لها أن الصورة سرقت من قصر الأورانجري، ورأت أن الرسم يشابه السجين أتم مشابهة، فلم يبق لديها ريب بصدق أقوال باكارا، فمدت لها يدها تصافحها، وقالت: أرجوك الصفح أيتها الكونتس؛ فقد أسأت بك الظن.
ثم تلاشت قواها بعد أن ثبتت لديها تلك الحقيقة الهائلة، فسقطت على كرسي طويل، وهي تقول: رباه! ما أشهى الموت!
فأسرعت إليها باكارا والدوقة وجعلتا تعزيانها.
بعد ذلك بساعة كان الفجر قد بدأ ينبثق، فبرحت باكارا القصر ونزلت من المشرف إلى السفينة، فذهبت بها إلى الميناء.
وكان فرناند روشي ينتظرها، فقال لها - وهو منشغل البال: ما وراءك؟ - لقد قضي الأمر ... - أعلمت كل شيء؟ - كما أعلم أنا وأنت بحيث لم يعد يفوتها شيء؟ - ألم تمت لذلك الخبر الشديد؟ - لقد تركتها بين يدي والدتها، وهي مصابة بحمى شديدة، ولكنها باتت آمنة من كل خطر. - أتحسبين أنه لم يبق خوف عليها؟ - هذا لا ريب فيه، فإن تنازع الحب والكره سينقذها ... - ما تعنين؟ - أريد أنها أحبت ذلك اللص السفاك روكامبول حبا شديدا، ولا بد لذلك الحب أن يتحول إلى بغض أشد. - هذا لا ريب فيه، ولكن أي حب سيتنازع مع البغض؟
فابتسمت باكارا، وقالت: إنها لا يمر بها أسبوع حتى تتولع بحب المركيز دي شمري الحقيقي.
فارتعش فرناند، وقال: إذا حدث ذلك، فما نصنع؟ - كن مطمئنا؛ فإن لدي خطة لا أستطيع إظهارها لك الآن.
ثم تأبطت ذراعه، وقالت له: سر بي الآن إلى الفندق ثم اذهب إلى قومندان الميناء واسأل عن زامبا؛ فإني انتظرته أكثر من ساعة فلم يحضر، وقد بت منشغلة البال في أمره؛ فإني لا أزال أخشى الخيانة.
وسار الاثنان فأوصلها فرناند إلى الفندق الذي كانت مقيمة فيه مع خادمتها، والطبيب صموئيل في شارع معتزل بعيد عن الفندق الذي يقيم فيه فرناند وروكامبول.
ولما وصلت إلى باب الفندق رأت رجلا مقيما على بابه، فاندهشت اندهاشا عظيما حين رأته؛ لأنه كان زامبا.
21
ولنعد الآن إلى البارون بولاسكي، أي: روكامبول الذي تركناه مشهرا مسدسه على زامبا، الذي كاد يجن من رعبه، فإنه لم ينس بعد هول هذا الرجل وسلطانه السابق عليه.
ولم يكن يخطر له في بال أنه سيلقى هذا الداهية؛ ولذلك أتى برسالة قومندان الميناء آمنا مطمئنا، وهو موطد النفس بعد إيصال الرسالة على الذهاب إلى باكارا ، التي كانت عازمة على أن تصحبه معها إلى ابنة الدوق؛ كي يخبرها بحقيقة أمر روكامبول.
فلما رأى أن البارون الألماني لم يكن غير روكامبول، وأن هذا الشيطان المريد يشهر عليه المسدس علم أنه لم يبق حائلا بينه وبين الموت فتراجع إلى الوراء، والذعر ملء قلبه، وقال له ببساطة الأطفال: ألعلك تريد قتلي مرة ثانية؟
فضحك روكامبول ضحكا عاليا، وقال له: إن من لا ينجح في المرة الأولى، فلا بد له من أن ينجح في الثانية غير أني لا أريد قتلك اليوم، بل قد سررت جدا بلقياك.
وكان زامبا قد عادت إليه جرأته لما رآه من بشاشة روكامبول، فقال له: ولكني أنا لم أسر بهذا اللقاء.
فجلس روكامبول على كرسي، وصوب المسدس إلى زامبا، وقال له: إن الأبالسة لم تنقذك من الموت في المرة الأولى إلا خدمة لي؛ لأنها علمت بأني لا أزال محتاجا إليك ... - ربما تكون الأبالسة قد أصابت، غير أني أخشى أن ينطلق المسدس، فتخسر انتفاعك بي. - كلا ... فأصغي إلي الآن ... إني قد تسرعت بإرادة قتلك في ذلك القبو، غير أنك لو كنت في موقفي لفعلت فعلي دون شك، فإني سمعت حركة من خارج الغرفة، فاضطررت إلى قتلك وإقفال القبو. - ليس هذا يا سيدي، ولكنك كنت واثقا من أني علمت اسمك الحقيقي، ونحن في تلك الغرفة فلم تجد بدا من قتلي ...
فارتعش روكامبول وقال: كيف عرفت اسمي؟ - لأن مدام فيبار دعتك أمامي باسم روكامبول. - إنه اسم مختلق أريد به التنكر. - ولكنه اسم مشهور كما يظهر، كما أني أعلم أيضا اسمك الآخر ... - أي اسم تعني؟! - الاسم الذي تسمى به أمام العائلات.
فاصفر وجه روكامبول اصفرارا خفيفا لم يخف عن زامبا مما زاد في جرأته، فقال: أرجوك العفو يا سيدي؛ فقد رأيت أني أسأت إليك بهذه الأخبار، حتى بت أخشى أن ينطلق المسدس الذي بيدك. - أهذا الذي يخيفك؟ - لا أنكر عليك الحقيقة يا سيدي، غير أني لا أخاف على نفسي بل عليك ... - كيف ذلك؟ - ذلك أنه إذا خرجت الرصاصة من المسدس خرج معها دوي شديد، فيسرع إليك رجال الفندق، وينزعون عن وجهك هذه اللحية الحمراء، وعن رأسك الشعر المستعار، وعن خديك ذلك اللون الأصفر، وعن جبينك تلك الغضون المصنوعة، فتبرز للعيون شابا من مشاهير باريس، وعضوا في أعظم منتدياتها. - اسكت أيها الوقح ... - إذن فقد رجعت عن قتلي اليوم؛ لأني عارف حقيقة أمرك يا حضرة المركيز دي شمري؟ - أتعلم اسمي الحقيقي أيضا؟ - أعلم أكثر من هذا، فدع المسدس إذا أردت أن تعلم الحقيقة.
وقد تغير موقف اللصين بعد هذا الإقرار، فبعد أن كان روكامبول صاحب السلطة والسيادة على زامبا، أصبحت تلك السيادة لزامبا بعد أن برهن له أنه يعرف أسراره.
فقال له روكامبول بصوت يتهدج من الاضطراب: إذن فأنت تعلم اسمي؟ - بل أعلم أيضا أنك عازم على الاقتران بابنة الدوق سالاندريرا.
فصوب روكامبول مسدسه إلى زامبا، وقال له: وبعد ذلك؟ - إنك تستطيع قتلي يا سيدي المركيز غير أنك إذا علمت كل ما أعلمه، وعلمت بأني قادر على نفعك لرجعت عن هذا القصد السيئ. - ليكن ما تريد، فقد عفوت عنك، فقل الآن ما تعلم.
فابتسم زامبا ابتسام الساخر، وأجاب: إنك كريم الأخلاق يا سيدي المركيز، ولكني لا أريد أن أبيعك أسراري بحياتي بل بثروتك.
فراع روكامبول ما رآه من سكينة زامبا، وأجابه: حسنا فسأعطيك من هذه الثروة ما يكفيك. - إني لا أقنع بالقليل. - سأعطيك ما تشاء بعد أن أتزوج بابنة الدوق.
فضحك زامبا بدوره ضحكة تقطع لها فؤاد روكامبول من الغيظ، ثم أجابه: لقد كان من حسن طالعك أنك أتيت في هذا المساء. - لماذا؟ - لأنك لو أتيت في الغد لفات الأوان دون شك. - كيف يفوت الأوان؟ وماذا تعني؟ - أعني أنك لو لم تأت في هذا المساء لكانت علمت ابنة الدوق غدا كل شيء؛ أي إنها علمت أنك أنت روكامبول، وأن المركيز دي شمري الحقيقي ... ثم توقف عن الكلام وتراجع خطوة إلى الوراء.
فقال له روكامبول: يا ويحك! أتعرف هذا أيضا؟ - أعرف أن المركيز دي شمري في سجن قاديس.
فنظر إليه روكامبول نظرة من أصيب بالبله لما كان من شدة وقع هذا الكلام عليه، غير أن زامبا لم يعد يحفل به، فقال له: أترى كيف أصبحنا صديقين، وكيف أصبحت في مأمن منك؟ - قل ماذا تعلم أيضا ... - اجلس أمامي ولنتحدث، فإني واثق من أننا سنتفق. - وأنا واثق كل الثقة. - إن الذين يحترفون حرفتنا يتفاهمون بالإشارة، فإذا شئت أن نتفق، فدع الآن مركيزيتك ودعني أكلمك بغير إضافة ألقاب السيادة، التي لا فائدة منها غير تطويل الجمل.
فأن روكامبول من غيظه، وقال: تكلم كيف شئت، وقل ما تعلم. - إذن فاعلم أنه يوجد امرأة تقتفي آثارك، وقد عهدت إلي أن أبحث عنك. - ما اسمها؟ - الكونتس أرتوف. - إني أعرف ذلك. - وقد سرقوا صورة من قصرك في الأورانجري. - من الذي سرقها؟ - أنا. - أنت؟ وماذا صنعت بها؟ - أعطيتها للكونتس أرتوف. - تبا لك من خائن. - كيف تعد ذلك خيانة، فإني خدمتك فجازيتني بالقتل، وخدمتها فجازتني خير جزاء وهي تعلم حقيقة أمري كما تعلمه أنت. - وأين هي الآن هذه الكونتس؟ - هنا في كاديس. - يا للشقاء! - ومعها الصورة وهي ستعرضها على خطيبتك العزيزة، ثم تقدم لها المركيز دي شمري؛ أي المركيز الحقيقي وليس أنت. - إذن لقد دنت ساعتي وخسرت كل شيء. - إلا إذا تداخلت أنا في أمرك. - كيف تتداخل في أمري؟ وماذا تستطيع أن تفعل؟ - إني أستطيع أن أزوجك ابنة الدوق، وأعبث بباكارا، وأغرق المركيز الحقيقي وأصيرك دوقا من عظماء الإسبان إذا أردت.
وكان زامبا يتكلم بلهجة الواثق من الفوز فيما يقول، فجعل روكامبول ينظر إليه، وقد علق به كل رجائه.
ساد السكوت مدة بين هذين اللصين، غير أن عيونهما كانت تتكلم بأفصح لسان، وقد خفض جانب روكامبول، وذل بعد عزته، وأطرق برأسه إطراق المغلوب الخاسر، ثم أيقن أن زامبا يصلح أن يكون شريكه في آرائه، فأعاد النظر إليه، وسأله: إذن فأنت تريد المساومة؟ - ربما. - ما هي شروطك؟ - إن شروطي مسهبة، كثيرة التفاصيل، أيها الصديق العزيز.
قال هذا وجلس على الكرسي الذي تركه روكامبول.
وكان روكامبول قد وضع مسدسه على الطاولة حين أيقن أنه لا فائدة له من قتل زامبا أو إنذاره؛ فمد زامبا يده بسكينة وأخذ المسدس.
فلما رآه روكامبول ذعر ذعرا شديدا، وأسرع إلى زامبا كي يغتصب منه المسدس، غير أن زامبا صوبه إلى رأسه، وقال له: خير لك أن تبقى مكانك مطمئنا، فإني أعرف أن أدير المسدس كما تعرف أن تديره أنت، ويكفي أقل كلمة منك لقتلك، فقد ينطلق من يدي إذا بدر أقل بادرة منك، فلا يكون حظك غير الموت العاجل.
ولما رأى زامبا أن كلامه قد أثر على روكامبول أمره بالجلوس فامتثل، فقال له متهكما: أي يا حضرة المركيز ... أكنت تعاملني في باريس حين كنت صاحب السلطان المطلق خيرا مما أعاملك الآن، بعد أن خلعت عنك تلك السلطة؟ - وبعد ... ماذا تريد؟ - أريد أن أعرض عليك شروطي. - وأنا مستعد لسماعها ... - أولا إني أريد أن أكون وكيل قصرك وأملاكك، بعد أن تصير زوج ابنة الدوق سلاندريرا كما كان اتفاقنا من قبل ... - لقد قبلت ... - ثم إني أرجو مولاي الدوق سالاندريرا شمري أن يعقد معي اتفاقا ... - على أي شيء؟ - لا تخف فسأملي عليك صورة الاتفاق، ولكني لا بد لي قبل ذلك أن أشرح لك الحالة بتفاصيلها. - تكلم. - إن الكونتس أرتوف في قاديس. - لقد قلت لي ذلك ... - ولديها صورة المركيز الحقيقي، وهي عازمة على أن تعرضها على ابنة الدوق، ثم تقدم لها المركيز.
فقال له روكامبول وقد تمكن منه الرعب: اسكت. - كلا لا يجب الصمت يا سيدي، فإني إذا لزمت الصمت فلا تعلم شيئا، اعلم الآن أنه يوجد أمر لا ينبغي أن تنسى خطارته. - ما هو؟ - هو أنه إذا اجتمعت الكونتس أرتوف بابنة الدوق تقضي بإهلاكك، وتخسر كل شيء. - ولكن باكارا ليس لديها برهان. - إن لديها الصورة وفوق ذلك أخبرتها بكل شيء.
وكأن روكامبول قد نسي أنه أصبح في قبضة زامبا وقف وصاح به، وهو يزبد من الغيظ: ويحك أيها الشقي الخائن! كيف أطلعتها على كل شيء؟!
غير أن زامبا لم يحفل بغضبه، فاكتفى بتصويب المسدس إليه، وقال له بملء السكينة: إني لم أكتف بأني حكيت لها كل شيء بالتفصيل منذ موت الدون جوزيف إلى موت الدوق دي مايلي، بل وعدتها أن أبوح بكل شيء أيضا إلى ابنة الدوق سالاندريرا، وأن أعطيها تلك الرسائل التي كنتم سيادتكم توقعون عليها باسمها بعد تزوير خطها، وكنت أنا أحملها إلى الدوق دي مايلي، فأخبره أنها من ابنة الدوق. - كيف وصلت إليك هذه الرسائل. - إنها لم تصل إلي، ولكني أنا وصلت إليها؛ وذلك أني سرقتها من خزانة الدوق المرحوم بعد وفاته. - وستراها ابنة الدوق؟ - لا يمكن أن تراها إذا تم اتفاقنا، وإذا لم يحدث بيننا مصاعب في هذا الاتفاق، فإني أخدع الكونتس أرتوف، وأحضر لك صورة المركيز الحقيقي فتتلفها، ثم تفتك بهذا المركيز المسجون في سجن قاديس، فتلبث ابنة الدوق مقيمة على هواك وتقترن بها بعد أسبوعين.
فارتعش فؤاد روكامبول، وبرقت عيناه بأشعة الأمل، فقال له: قل إذن ما هذا الاتفاق الذي تريد أن نتعاقد عليه؟ - إنه لا يزيد عن أربعة سطور. - وما هو؟ - اجلس على هذا الكرسي أمام مائدة الكتابة، فأملي عليك ما يجب أن تكتبه.
وكان زامبا يلقي إليه هذه الأوامر، وهو يلعب بالمسدس إرهابا لروكامبول وتقليدا له فيما كان يفعله من قبل، فعلم روكامبول أنه بات بجملته في قبضة هذا الرجل يعبث به كما يريد، فلم يسعه إلا الامتثال وجلس على مائدة الكتابة، ثم أخذ القلم بيده وجعل ينتظر، فأملى عليه زامبا ما يأتي:
في اليوم الواقع في ... كنت في قاديس في فندق السحرة وحدي مع زامبا خادم غرفة الدوق دي مايلي سابقا، وخادم غرفة السنيور بادرو قومندان ميناء قاديس الآن، فصرحت لزامبا المتقدم ذكره بما يأتي: إني لست المركيز ألبرت فردريك أونوريه دي شمري، كما يظن الناس بل إني أدعى روكامبول، وقد سرقت أوراق المركيز دي شمري الحقيقي.
وهنا توقف زامبا عن الإملاء؛ لأن روكامبول توقف بعد أن كسر القلم مغضبا، وقال: إذا كان يخطر في بالك أني أعترف كتابة مثل هذا الاعتراف، فلا شك أنك أصبحت من المجانين. - ربما كان ذلك غير أن إمضاءك على ما كتبته الآن لا بد منه. - لا أمضي ولو فقدت يميني. - إذن فإنك لا تتزوج ابنة الدوق، وتذهب إلى سجن قاديس مؤقتا إلى أن ترسل إلى سجون فرنسا.
فاهتز روكامبول اهتزازا عصبيا، واحمرت حدقتاه من الغيظ، وأوشك أن يبطش بزامبا، ولكنه تراجع عن هذا القصد لخوفه من المسدس، ولحذره من عاقبة الطيش.
22
وساد السكوت هنيهة بين الاثنين اللذين بات أحدهما محكوما من الآخر، بعد أن كان الحاكم المطلق عليه، ثم ضرب روكامبول الأرض برجله، وقال: إذن فأنت تريد إعدامي أيها الشقي؟
فضحك زامبا ضحك التهكم، وأجاب: أية فائدة لي من إعدامك؟ فلو كنت أريد ذلك لما احتجت إلى أن أستكتبك هذه السطور، بل كنت أطلق عليك المسدس وأبلغ هذا المراد، غير أنه لا فائدة لي من قتلك، ومتى أخبرتك بالسبب الذي دفعني إلى حملك على كتابة هذا التقرير تذعن لي، وتنقطع عن المقاومة.
فنظر إليه روكامبول نظراته السابقة كأنه يأمره بالإيضاح.
فقال زامبا: إني خدمتك بضعة أشهر بأكثر مما كنت تطمع به من الإخلاص، فإذا كنت أخلصت لك لخوفي منك، فقد كان معظم إخلاصي لما وعدتني به من الوعود الصالحة. - ولا أزال مستعدا للوفاء بهذه الوعود. - إنك أكدت لي مثل هذا التأكيد قبل أن تلقيني في القبو، وتطعنني تلك الطعنة النجلاء. - هذا أكيد وأنا أقر بخطئي. - أما أنا فقد استكتبتك هذه السطور؛ لأني أخاف أن يحلو لك هذا الخطأ مرة ثانية فتعود إليه. - وماذا تريد أن تصنع بهذه السطور؟ - إني أضعها في غلاف وأختمه بالشمع، ثم أذهب به إلى أحد رجال القضاء فأدفعه إليه، وأقول له: هذه وصيتي قد أودعتها هذا الغلاف، وسأزورك في كل شهر، فإذا مر شهر ولم ترني فافترض أنني مت، وافتح الغلاف فتجد الوصية أفهمت الآن يا حضرة المركيز؟
فهز روكامبول رأسه إشارة إلى المصادقة، وهو مشتت البال.
فقال زامبا: إن هذه السطور ستضمن لي طول البقاء يا سيدي روكامبول، أليس كذلك؟ كفاك ذهولا ... تشجع ووقع عليها فتتزوج ابنة الدوق.
غير أن روكامبول بالرغم من الاسم الذي كان يجذب فؤاده بقي يتردد، وهو ينظر محدقا إلى زامبا كأنه يريد أن يخترق حجاب نفسه، ويعلم ما في أعماقها من الأسرار ثم سأله: أهذا كل ما تطلبه ... - نعم ... وليس لي مأرب آخر. - أصحيح ما تقول؟ - إني أعجب كيف ترتاب بصحة قولي، وأية فائدة لي من خدمة المركيز الحقيقي؟! ألعله يعينني وكيلا لأملاك سالاندريرا؟! - إذا كان حقا ما تقول فإنك لا ترفض أن تكتب بضعة سطور، كالسطور التي كتبتها أنا فخذ القلم كي أملي عليك ...
ثم أملى عليه ما يأتي:
إنهم يدعوننى زامبا، ولكن اسمي الحقيقي هو «جان الكانثا»، وأنا برتغالي وقد حكم علي بالإعدام لارتكابي جريمة القتل في ... إلخ.
فقال له زامبا: إذا كان هذا كل ما تبغيه فهو سهل ميسور.
ثم كتب جميع ما أملاه عليه بوضوح، وجاء ووقع على ما كتبه باسمه الحقيقي؛ أي: جان الكاتثا.
وعندها مد روكامبول يده يريد أخذ الورقة، فأسرع زامبا إلى تصويب المسدس، وقال له: إني لا أسلمك الورقة إلا متى كتبت أنت أيضا ما أمليته عليك، ووقعت عليها باسمك الصحيح فنتبادل الورقتين. - ليكن ما تريد.
ثم أخذ القلم فوقع على السطور التي كان زامبا أملاها عليه من قبل، وأخذ كل منهما ورقة الآخر فوضعها بجيبه.
وبعد ذلك نهض زامبا، وقال: إني ذاهب الآن. - إلى أين؟ - للاهتمام بأشغالك؛ فإنك ستنال الصورة غدا. - قبل أن تراها ابنة الدوق؟ - دون شك. - وسجين قاديس؟ - نقتله ... - متى؟ - غدا مساء، غير أني أرجوك أن تجيبني إلى سؤال، وهو أنك أتيت إلى قاديس؛ كي تتزوج فإذا كان هذا قصدك، فلماذا أتيت متنكرا باسم البارون بولاسكي؟ - ذلك لأني أردت أن أرى المركيز. - المركيز الحقيقي. - نعم ... - إذن كنت عارفا بأمره من قبل. - بجميع تفاصيله. - إن تنكرك لا يفيدك بشيء، وكان من حسن حظك أنك لقيتني فلا ينفعك غير خدمتي في هذه المهمة، والآن فاقرأ هذا الكتاب الذي جئتك به من عند القومندان، فقد شغلت عنه بي.
ففض روكامبول الكتاب وقرأه، فلما أتم تلاوته قال له زامبا: لقد فاتني أن أقول: إن سيدي القومندان يدعوك غدا إلى العشاء، وستجد عنده دون شك المركيز دي شمري.
فانتهره روكامبول، وأجاب: اسكت أيها الوقح أيوجد غيري من يسمى باسم المركيز دي شمري؟ - لم يحن الوقت بعد، إنما غدا ترتاح منه الراحة الأخيرة، ثم وضع المسدس في جيبه. - لماذا أخذت المسدس؟ - لأني أحتاج إليه وسأرده إليك في الغد.
ثم ودعه وانصرف دون أن يزيد كلمة على ما قال: فلما انتهى إلى الشارع قال في نفسه: إن الكونتس أرتوف تنتظرني منذ ساعة في الميناء، وهي لا بد أن تكون اتهمتني بالخيانة لتأخري عن موافاتها.
وعندما لفظ لفظة الخيانة توقف، وجعل يقول في نفسه: إن الانتقام مسرة الآلهة كما يقال، وأنا أراه مسرة الإنسان أيضا، فإني عندما يخطر لي خاطر الانتقام من روكامبول، الذي أراد قتلي، أشعر بارتياح عظيم، ولكن العاقل من يرجو الفائدة بالانتقام، وأية فائدة لي إذا خنت روكامبول؟
ولا تزال الوسائط ميسورة لجعله دوقا إسبانيا وتزويجه بابنة الدوق الإسباني، فإذا فعلت ذلك فإني أنال منه ثروة أصبح بعدها من الأغنياء، وأكون في مأمن من غدره بفضل هذا الإقرار الذي استكتبته إياه، وكنت قبل خروجي من غرفته أهزأ به وأضمر له كل شر، أما الآن فلا بد لي من الانتباه بينه وبين أعدائه، وبين انتقامي وفائدتي، فماذا أصنع؟ وإلى أي الأمرين أميل؟
إني إذا أنقذت روكامبول من موقفه الشديد أكون خادعا لنفسي، خادما لرجل لا أرجو له غير الشر مخالفا لعواطف انتقامي.
غير أني إذا أنقذته أصبح من الأغنياء، ولا أتوقع بعد مثل تلك الفرصة بعد بلوغي حد الشيب إذن، فإن إنقاذه أفضل لي من إعدامه.
ولأبحث الآن لأرى إذا كان إنقاذه ممكنا، فإن ابنة الدوق خطيبته لا تعلم إلى الآن شيئا من حقيقة أمره، فإني قد اتفقت مع باكارا على أن لا تعلم هذه الحقيقة إلا مني، وهذه الكونتس تنتظرني الآن في الميناء؛ كي نذهب معا إلى ابنة الدوق، فإذا ذهبت وإياها في قارب صغير، فلا أسهل علي من إغراقها في الطريق، وهو خير ما يجب أن أعول عليه.
ثم ابتسم ابتسام الرضى لرجائه بالفوز في هذه الخطة الهائلة، واندفع يسرع الخطى إلى الميناء؛ كي يلتقي بباكارا حيث كانت تنتظره. •••
وكانت الساعة تدق عندما وصل إلى الميناء مؤذنة بانتصاف الليل، فلم يجد باكارا، ولكنه سمع أصوات المجاذيف ورأى خيال قارب صغير يبتعد، فخشي أن تكون باكارا سبقته.
ورأى قاربا صغيرا راسيا في الميناء وفيه بحار يدخن بغليونه، وهو يتأمل النجوم، فدنا وسأله: أتعلم أيها الصديق من الذي يسير إلى الصيد عند انتصاف الليل في هذا القارب؟
وأشار إلى الجهة التي سمع منها صوت المجاذيف.
فأجابه النوتي: ليس الذي ذهب فيه بصياد. - من هو إذن؟ - سيدة تريد التنزه مغتنمة سكون البحر.
فامتقع وجه زامبا، وقال في نفسه: لقد فسد كل حساب، فإن هذه المرأة هي الكونتس أرتوف، وهي ذاهبة دون شك إلى ابنة الدوق لتريها الصورة، وتطلعها على كل شيء، إذن فإن روكامبول سيئ الطالع ولا بد لي من التخلي عنه.
ثم ترك الصياد وجعل يطوف في شوارع المدينة إلى الساعة الثالثة، وتوجه إلى الفندق المقيمة فيه باكارا، وجلس على بابه ينتظر عودتها.
فلما عادت باكارا عند بزوغ الفجر رأته جالسا على باب الفندق كما تقدم، فأسرع زامبا إليها وحياها بملء الاحترام، فقالت: لقد دعوتني إلى انتظارك ساعة، فما معنى هذا الإبطاء؟
فأشار زامبا بيده إلى فرناند، وأجاب: متى خلوت بك يا سيدتي أخبرتك بكل شيء. - تكلم أمامه. - أرجوك المعذرة يا سيدتي، وأسأل سيدي الصفح فإن ما أريد أن أقوله لك سر عظيم لا يقال أمام اثنين. - لا بأس، اتبعني.
ثم ودعت فرناند وصعدت إلى الغرفة المعدة لها في الفندق، فتبعها زامبا حتى إذا خلا بهما المكان دار بينهما الحديث الآتي، فقالت باكارا: إني أرى على وجهك ملامح الجد والاهتمام. - ذلك لأن الأمر خطير. - لماذا؟ - لأنه يتعلق بروكامبول.
فارتعشت باكارا، وقالت: ما وراءك من أخباره؟ - كل أمر خطير؛ فقد لقيته الليلة. - ماذا تقول؟! ألقيت روكامبول؟ ألعله هنا؟! - نعم؛ فهو في قاديس. - متى أتى إليها؟ - منذ بضع ساعات، وقد جاءها متنكرا باسم البارون بولاسكي. - لا شك أنك مجنون. - كلا يا سيدتي، بل إن ما قلته هو الحقيقة. - أرأيته بعينك؟ - بل كلمته أيضا، وهو الذي دعاني إلى التأخر عن موافاتك في الوقت المعين، فقد كنت عنده. - ولكن أية غاية له بالقدوم إلى قاديس متنكرا؟! - إنه أتى لتغيير الهواء فيها أولا، ثم لقتل المركيز دي شمري. - كيف عرف أن المركيز حي؟ - إنه يعرف كل شيء، فقد عرف نصف هذه الخفايا في باريس. - والنصف الآخر؟ - عرفه مني. - إذن فلم يعد بد له من الفرار وسينجو من قبضتنا. - كلا، فإنه ينام الآن آمنا مطمئنا، وهو يحلم دون شك بزواجه بابنة الدوق. - قل إذن ما حدث بالتفصيل. - ليكن ما تريدين يا سيدتي.
ثم أخبرها بجميع ما كان بينه وبين روكامبول، وأراها الورقة التي خط عليها اعترافه بخطه وتوقيعه باسمه الصحيح، ثم قال لها: أظن أننا نستطيع بهذا الإقرار أن نفعل به ما نشاء. - نعم؛ فلا بد من إرساله إلى السجن المؤبد، أو إلى ساحة الإعدام.
وأقامت باكارا مع زامبا نحو ساعة يتحادثان، فلم يعد يعلم أحد ما جرى بينهما، ولكنه عندما خرج زامبا ذهب إلى فندق السحرة حيث يقيم روكامبول، ودخل إليه فقال له: هذه هي صورة المركيز التى وعدتك بإحضارها.
ثم فتحها وأراه البقعة الظاهرة بها.
فأخذها روكامبول بيد مرتجفة، وقال: ما أصنع بها؟
قال زامبا: أحرقها، فإنه إذا ذهبت آثارها زالت الموانع بينك وبين ابنة الدوق.
وكان زامبا يقول هذا القول بلهجة المتهكم، غير أن روكامبول لم ينتبه إليه لانشغاله بالصورة، ولأن السير فيليام قد مات.
23
بعد يومين مرا على اجتماع زامبا وروكامبول كانت مركبة خارجة في الليل من قاديس متوجهة إلى قصر أسقف غرناطة، الذي تقيم فيه الدوقة سالاندريرا وابنتها.
وكان يوجد في هذه المركبة رجل وامرأة، أما الرجل فكان فرناند روشي، وأما المرأة فكانت باكارا، ولكنها متنكرة بملابس الرجال كما أتت من باريس.
فكان فرناند يقول لها: ألم يحن الوقت بعد لإطلاعي على هذه الأسرار الغامضة؟
فابتسمت له باكارا، وقالت: نعم فسأوقفك على بعضها فسلني أجبك، أو أنا أبدأ بسؤالك فإنك قد أشكل عليك دون شك، كيف أني أريد أن تحب ابنة الدوق المركيز دي شمري الحقيقي؟ - نعم؛ ولكنك قلت لي إنك لا تريدين أن تسوقي روكامبول إلى المحاكمة؛ لأن مدام دي أسمول تعتقد أنه أخوها، وقد أحبته حبا أخويا. - هذا أكيد. - غير أن الذي لم أفهمه هو أنه لو تحققت أمانيك وأحبت ابنة الدوق المركيز الحقيقي، ثم تزوجت به بدلا من هذا الجسور روكامبول، ألا تخشى ابنة الدوق أن تظهر الحقيقة في مستقبل الأيام؟ - لا أظن. - ألا تعلم الفيكونتس دي أسمول هذه الحقيقة؟ - كلا! - غير أني لا أرى ما ترينه، أو أني لا أفهم ما تقصدين. - إذن فأصغ إلي؛ فإني سأطلعلك على خطتي بتفاصيلها، فاعلم أن المركيز دي شمري قد أثر بلطفه وكآبته تأثيرا شديدا على ابنة الدوق، التي لم تكترث له في بدء الأمر لتعلقها بحب روكامبول، فلم تفهم سر ذلك التأثير، ولكنها ستفهمه الآن. - وبعد ذلك؟ - سأبذل الجهد بإدخال الحب إلى هذين القلبين، فإذا نجحت فيما أقصده وأنا واثقة من النجاح، فلا أسهل من أن يحل المركيز في محل المركيز الكاذب. - أتظنين؟ - بل أؤكد؛ فإنهم ينتظرون في باريس الذي يحسبون أنه المركيز الحقيقي، وكل شيء مهيأ لعقد الزواج الذي سيكون قرانا بسيطا في كنيسة قصر سالاندريرا، لا يحضره أحد بسبب الحداد، وبعد عقد القران يسافر العروسان إلى مدريد، وهناك يأخذ المركيز أوراق تعيينه من جلالة الملك سفيرا لدى البرازيل، ويسافر مع زوجته في اليوم نفسه. - إلى البرازيل؟ - دون شك. - لم أفهم بعد ... - هب أن هذه الاستحالة قد تمت، وأن المركيز دي شمري نال ما كان يطمع بنيله روكامبول، فتزوج ابنة الدوق وعين سفيرا في البرازيل، فإنه سيقيم في تلك البلاد عشرة أعوام. - لقد بدأت أفهم. - وإن روكامبول يشبه المركيز بقوامه أتم الشبه، ويشبه ذلك اللص في ملامحه بعض الشبه، فإذا مضت عشرة أعوام، فإن تلك الملامح تتغير، فإذا رأته أخته الفيكونتس دي أسمول بعد ذلك العهد الطويل في باريس، فلا تشك بأنها ترى أخاها.
لقد فهمت الآن كل شيء، غير أن الذي أراه أنه يوجد كثير من المصاعب في سبيل هذه الأمنية. - لا شك أننا سنلقى مصاعب لا تقاوم، غير أننا نسعى من وراء هذا القصد، ويد الله من ورائنا. - وبعد ذلك، فماذا تصنعين بهذا اللص روكامبول؟
فبرقت عيناها، وقالت: سأؤدب به رجال الشر، وسترى. - بقي أمر لا يزال مشكلا علي فهمه، وهو أنه ما زال روكامبول موجودا هنا متنكرا، فلماذا لا تقبضين عليه؟ - إني سأكتم عنك هذا السر ثلاثة أيام ثم أخبرك بكل شيء.
وعند ذلك وصلت المركبة إلى قصر الأسقف، فنزلت باكارا وفرناند ودخلا، فكان أول من قابلهما الدوقة، فإنها حين رأت باكارا أسرعت إليها وصافحتها بلهف، كأنها كانت تنتظر قدومها، فسألتها باكارا عن ابنتها، فأخبرتها أنها بكت بكاءا شديدا غير أنها عادت بعد ذلك البكاء إلى سكينتها، ثم قالت لها: إنها سألت عنك مرات كثيرة، وهي ترغب أن تراك. - أين هي الآن؟ - إنها في غرفتها منذ الصباح، جالسة أمام نافذة مشرفة على البحر، وهي تنظر إليه بشرود بت أخاف عاقبته. - إني لا أرى ما ترين يا سيدتي، بل إني بت أرجو كل خير. - عسى أن يحقق الله رجاءك. - أتأذنين لي أن أدخل إليها وحدي؟ - كما تشائين.
وتأبط فرناند ذراع الدوقة، وسار بها إلى قاعة الاستقبال، بينما كانت باكارا ذاهبة إلى غرفة ابنة الدوق، فلما بلغت إليها قرعت بابها ثلاث مرات فلم يجبها أحد، ففتحت باكارا الباب ودخلت فرأت ابنة الدوق مستندة على النافذة تنظر إلى البحر، كما قالت أمها وهي غارقة ببحار الهواجس.
فأغلقت باكارا الباب وتقدمت إليها حتى دنت منها، وهي لا تنتبه حتى لمستها بكفها، فانتبهت من ذهولها والتفتت إليها، فقالت باضطراب: أهذا أنت يا سيدتي الكونتس؟
فضمتها باكارا إليها وعانقتها بحنو شديد، وهي تقول: مسكينة فلا بد أن تكوني قد تألمت كثيرا.
وكأن تلك الكلمات قد أثارت كبرياء الفتاة، فنظرت إلى باكارا نظرة إنكار، وقالت : أخطأت يا سيدتي الكونتس، فإني لم أعد أفتكر إلا بالانتقام. - سننتقم لك في وقت قريب. - بل أريد أن يكون الانتقام اليوم؛ إذ لا صبر لي على الانتظار، غير أني أشعر أني أحتقر ذاك الشقي احتقارا شديدا، حتى إنني أخشى أن أرجع عن انتقامي منه؛ لأنه غير أهل لانتقامي. - سيدتي، إنه غير أهل لانتقامك، ولكنك إذا كنت تستنكفين الانتقام من ذاك اللص، فإنه يحق لك معاقبته، والمعاقبة غير الانتقام، حتى إنني أتجاسر وأقول: إنه لا يحق لك أن تصفحي عنه، فإن ذلك الرجل قتل وارتكب جميع الموبقات، أفلا يجب أن يسحق كما تسحق الحية القاتلة؟ - إذن، اكشفي أمره وسلميه للشرع. - كلا ... فلم يحن الوقت بعد. - ماذا تريدين أن تصنعي قبل تسليمه؟ - يجب أن نفتكر قبل عقاب هذا اللص. - لقد علمت ما تقصدين، فإنني كنت أفتكر طول ليلي هذا الفكر؛ إذ يجب قبل كل شيء أن يخرج المركيز دي ... شمري ... من السجن. - نعم ... لقد أصبت. - سأكتب للملكة وإذا دعت الأحوال ذهبت إليها.
فأوقفتها باكارا عن الحديث، وقالت: إنني أريد قبل أن أسدي إليك نصيحة أن ألتمس منك أمرا. - تفضلي يا سيدتي وسلي ما تشائين. - أسألك أن تأذني للمركيز دي شمري بمقابلة.
فاصفر وجه ابنة الدوق، وكادت تسقط على الأرض، غير أن باكارا أسرعت إليها فأخذتها بيدها، وقالت لها: هلمي بنا إلى الرواق المشرف على البحر.
وكان القمر ساطعا ترقص أشعته على الأمواج، وتظهر القوارب فيه كما تظهر في ضوء النهار، فأشارت باكارا بيدها إلى جهة الميناء، وقالت لها: انظري ألا ترين قاربا صغيرا يدنو من القصر، ألا ترين فيه رجلين؟ إن أحدهما هو المركيز.
فاتكأت ابنة الدوق على كتف باكارا، وجعل فؤادها يخفق خفوقا شديدا، فلم تعد تشكك باكارا أنها تهواه.
وجعلت كلتاهما تنظر إلى ذلك القارب يدنو من القصر، وكل منهما تفكر في شأن، إلى أن دنا منهما فرأت ابنة الدوق فيه رجلين أحدهما كان منحنيا على المجاذيف، والآخر واقفا في مؤخر القارب، فما أوشكت أن ترى ذلك الرجل الواقف حتى توردت وجنتاها لما تولاها من التأثير.
ثم وصل القارب إلى الشاطئ، فألقى المرسى ونزل منه ذلك الشاب الذي كان واقفا فيه إلى الرصيف، وجعل يصعد السلم المؤدي إلى الرواق.
وكان هذا الرجل المركيز دي شمري الحقيقي، غير أنه لم يكن بملابس المجرمين كما رأته ابنة الدوق في الحفلة الراقصة، بل كان مرتديا بملابس ضابط في البحرية، فزادت تلك الملابس ثقة ابنة الدوق به حتى لم يبق لديها أقل شك فيه، وجعلت تسائل نفسها بعد أن رأته في تلك الملابس، كيف أنها فضلت تلميذ السير فيليام على هذا الشاب الجميل النبيل.
على أن المركيز دي شمري لم يكن أقل اضطرابا منها؛ ولذلك حين سلم عليها مقبلا يدها لم يكن يعرف كيف يكلمها لتلعثم لسانه واضطرابه.
أما ابنة الدوق فإنها ابتسمت له ألطف ابتسام، ثم دنت من باكارا، وقالت لها همسا: أرجوك يا سيدتي أن تذهبي إلى القاعة حيث تجدين أمي، وأن تدعيني هنيهة مع المركيز.
فضغطت باكارا على يدها إشارة إلى أنها عالمة بما سيجري بينهما، وخرجت دون أن تجيب بكلمة.
فلما خلا المكان بالمركيز وابنة الدوق، ولم يكن يحيط بهما غير سكون الليل الهادئ، وتحت أقدامهما مياه البحر وفوق رأسيهما تلك القبة الزرقاء المرصعة بالنجوم جعل كل منهما ينظر إلى الآخر بضع دقائق، فلا هو يجسر على أن يسأل كيف أنها طلبت أن تنفرد به، ولا هي تجسر على مفاتحته بالحديث إلى أن تغلبت على نفسها، ونظرت إليه نظرة الحزين المكتئب، وقالت له: لقد عرفت الآن يا سيدي اسمك وتاريخك، وعلمت أنهم سرقوا أوراقك كما أنك قد علمت أنت أيضا أن الذي تجاسر على سرقتها ...
فقاطعها المركيز، وقال لها: إني أعلم يا سيدتي أنك من أشرف النساء وأسوأهن حظا. - كلا يا سيدي إني لا أريد أن أكلمك عن نفسي، بل عن سواي فإن رجلا لصا سفاكا تنكر باسم رجل شريف، وتعرض لي وقد تجاسر ذاك الشقي أن يرفع نظره إلي، فخدعت باسمه الذي اختلسه حتى أحسب أنني أحببته، وأنا مستعدة أن أتحمل كل عقاب وأن أسمع الناس يقولون من حولي: إن ابنة الدوق سالاندريرا أوشكت أن تتزوج برجل سفاك. غير أنه يا سيدي يوجد بالقرب مني ومنك سيدتان شريفتان قد تتحملان مثل عقابي، وهما أمي وأختك. - لقد فهمت يا سيدتي ما تريدين، فإني إذا أظهرت نفسي ظهر مكر ذلك السفاك، فكانت تلك الفضيحة داعية إلى قتل أمك وقتل أختي، ومعاذ الله أن أدعهما يتحملان أقل سوء من أجلي! فأجلي يا سيدتي زواجك بهذا الشقي إلى أجل غير محدود، وأنا أتنازل عن اسمي وعن ثروتي، ثم أقتل ذاك الرجل فتتظاهرين أنت بالبكاء على خطيبك، وتبكي أختي ذلك الذي كانت تحسبه أخاها، فيسلم شرفنا جميعنا من الأذى، ولا يقول أحد إن لصا أثيما تجاسر على أن يسرق اسمي، وأن يلمس يد أشرف فتاة، وإني أكتفي أن تنقذيني من السجن، فلعلي أرى ولو مرة في حياتي تلك الأخت العزيزة.
وكان المركيز يتكلم بلهجة المكتئب، وقد هاجت عواطف حنوه، فسقطت دمعة من عينه على خده، ثم انسكبت على يد ابنة الدوق التي كانت بين يديه، فأثرت بها تأثيرا شديدا، وقالت له: لقد كنت يا سيدي منخدعة، ولكن بين جنبي قلبا نبيلا لا يعرف البهتان، فأنا أنفق حياتي كلها على قدمي ذلك الرجل الذي يمد إلي يده في حين الشدة.
فلم يجسر المركيز على أن يتظاهر بإدراك قصدها، فقال: ماذا تقولين يا سيدتي؟ - أقول: يا سيدي المركيز إنك رجل كريم نبيل، فهل تريد أن تخلصني من العار، وتنجي أمي من القنوط، وتنقذ أختك التي تحبها حب العبادة؟ - مري يا سيدتي أطع.
فقالت بصوت ثابت أجش: أتريد يا سيدي المركيز أن تتزوجني؟
فصاح المركيز صيحة فرح وركع أمامها، وهو يقول: نعم ... نعم ... لأني أحبك.
فأجابته الفتاة بصوت يتهدج من التأثير: وأنا أيضا، فإني أشعر بأني سأحبك.
24
بينما كان فرناند روشي وباكارا ذاهبين إلى القصر، الذي تقيم فيه الدوقة وابنتها كان البارون بولاسكي، أي: روكامبول يسير في مركبته إلى قصر قومندان الميناء.
وذلك أن القومندان زار روكامبول في الفندق النازل فيه، فدعاه إلى مناولة الطعام عنده في المساء.
فلما كان المساء ذهب روكامبول في الموعد المعين، فاستقبله القومندان باحتفال عظيم على الباب الخارجي، ودخل به إلى القاعة الكبرى فأقام معه هنيهة، ثم اعتذر منه فخرج إلى غرفة ثانية لقضاء بعض الشئون.
وعند ذلك دخل زامبا، وهو خادم القومندان - كما يذكر القراء، فدنا من روكامبول باحتراس، وبعد أن التفت حواليه التفات المتحذر قال له: إن لي كلمتين أقولهما لك ثم أمضي، فقل لي أوصلتك رسائلي؟ - نعم؛ فقد قلت لي فيها أن أبقى في الفندق طول النهار. - ألم تخرج منه أبدا؟ - كلا ... - إذن فكل شيء يجري على ما تريد. - ماذا تعني بهذا القول؟ - أريد أن أحدثك بأمور كثيرة غير أن الوقت لا يسمح لي الآن، فاعلم أن الأمر سيتم في هذا المساء. - أي أمر؟ - قتل المركيز دي شمري، فقد دبرت كل شيء، وفي هذه الليلة لا يبقى في الوجود غير مركيز واحد.
فاضطرب روكامبول، وقال: أحقا ما تقول؟ - كل الحق، فاسمع الآن، إنك بعد العشاء يجب أن تظهر أمام القومندان أنك ترغب التنزه في البحر لصفاء الجو، وسكون البحر أو غير ذلك من الحجج. - سأجد حجة لهذه النزهة، وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك يضع القومندان في خدمتك قاربا صغيرا يقوده خادمه وأحد المجرمين. - ومن يكون هذا المجرم؟ - المركيز دي شمري. - أتظن أنه يرسل معي المركيز؟ - بل إنني واثق. - والخادم؟ - اصمت فسأخبرك بكل شيء؛ إذ لا بد لي الآن من الذهاب.
وبعد ما خرج زامبا دخل القومندان ومعه امرأته، فعرفه بها وأقاموا في تلك القاعة هنيهة، ثم فتح باب قاعة الطعام، وأقبل زامبا يدعوهم إلى المائدة، فخرجوا جميعهم من قاعة الاستقبال إلى قاعة الطعام، وجعل روكامبول يتحفهم بخير أحاديث الموائد مما تعلمه من أستاذه أندريا، ومن ألفته لعشرة الأعيان والظرفاء.
وقد فرغوا من الطعام في الساعة الثامنة ونصف، فدعا القومندان ضيفه إلى شرب القهوة في الرواق المشرف على البحر، فجعل روكامبول يتغزل بالنجوم السابحة في الفضاء، وبصفاء السماء تغزل الشاعر حتى استطرد في أوصافه البحر، وأشار إلى رغبته بالتنزه فيه، فأسرع القومندان ونادى زامبا، فقال له: قل لأحد المجرمين ليعد قاربا لنزهة البارون واذهب أنت مع المجرم في خدمته، فامتثل زامبا وخرج.
أما روكامبول فإنه تظاهر بالانقباض حين ذكر المجرم، وكان القومندان قد شعر بمخاوفه، فقال له: لا تخش؛ فإن المجرم الذي سنرسله معك من أفضل الذين لدي من المجرمين، وفوق ذلك فسأرسل معه خادم غرفتي الخاص.
وبعد ذلك قدم زامبا، وأخبر مولاه أن القارب قد أعد لركوب البارون، فودع روكامبول القومندان وسار مع زامبا إلى البحر.
فقال له زامبا على الطريق: إننا نستطيع الآن أن نتكلم فأصغ إلي، إننا سنذهب ومعنا المركيز إلى عرض البحر، ونخرج من الميناء فنحتجب وراء صخورها عن الأنظار. - وأية فائدة من هذا الحذر والظلام كاف لسترنا عن العيون؟ - لست من رأيك؛ فإن إطلاق النار على الرجل كاف لفضيحتنا. - إذن نقتله بالخنجر، فهو أقرب إلى الغاية. - كلا ... لأن الطعن بالخنجر لا يضمن الموت السريع، ولا بد أن تذكر ذلك. - كفى ما مضى ولا تعد إلى مثل هذا التلميح. - كما تريد، إن رصاصة المسدس تضمن هذا القتل، وها أنا الآن أرد إليك مسدسك فخذه واقتله به على غرة، فإنه قوي نشيط، فإذا علم بقصدك تضطر معه إلى عراك عنيف.
فأخذ روكامبول المسدس ووضعه في جيبه.
وسار الاثنان حتى بلغا إلى الشاطئ الراسي فيه القارب، وكان فيه المركيز دي شمري بملابس المجرمين.
فدنا زامبا من روكامبول، وقال له همسا: لا تقتله إلا حين أقول لك كلمة خاصة تكون الإشارة بيننا إلى وجوب قتله. - وهذه الكلمة؟ - هي أن أقول حين بلوغنا عرض البحر: «أيها المركيز أخبرنا بقصتك، فإنك مركيز حقيقي كما يقال.» - وعند ذلك أطلق عليه؟ - نعم؛ فإنه يوجد في مسدسك ست رصاصات، فإذا اضطررت فأطلقها عليه كلها إلى أن يموت. - كن واثقا، فسأقتله برصاصة واحدة.
ثم نزلا إلى القارب، فارتعش روكامبول حين رأى ذلك المركيز بملابس المجرمين، وقد كان رآه في تلك الباخرة قبيل غرقها منذ عامين بملابس الضباط، ولا يمكن اللص أن يرى الرجل الذي سلبه إلا أن يصاب بمثل هذا الاضطراب، غير أن اضطراب روكامبول كان شديدا، حتى إنه أوشك أن يسمع دقات قلبه، ثم اصفر وجهه كأنه قد نسي أنه متنكر، فلا خوف من أن يعرفه المركيز.
ولكن هذا الاضطراب لا يطول في قلب مثل قلب روكامبول، فما لبث أن عاد إلى السكينة، وذهب فجلس في مؤخر القارب وأدار ظهره للمركيز، فجعل هذا السجين يجذف وانطلقت السفينة.
وكان زامبا جالسا أمام روكامبول، فقال له بصوت منخفض: إن المركيز يعرف الإنكليزية، فكلمه بها.
فهز روكامبول يده مشيرا إشارة نفي، ثم قال له همسا: إنه قد يعرفني من صوتي.
وعند ذلك دنا زامبا فجلس بقرب المركيز، وأخذ مجذافا فساعده بالتجذيف حتى خرج بهم القارب، فقال له المركيز: إننا نستطيع الآن نشر الشراع.
فأجابه زامبا: كما تشاء يا حضرة المركيز.
ثم نهض المركيز فنشر الشراع، ولما أتم مهمته سأل زامبا قائلا: إلى أين تريد أن نسير؟ - إلى عرض البحر. - وبعد ذلك؟ - تسير بالقارب إلى ذلك الصخر البعيد الذي يبدو لنا بشكل نقطة سوداء.
فامتثل المركيز ودفع القارب إلى حيث أمره.
وعند ذلك دنا زامبا من روكامبول، وقال له: أليس من الغريب أن أصدر أوامري للمركيز دي شمري، وأن أقف أمامك في مواقف الاحترام.
فضغط روكامبول عليه ضغطا شديدا، وقال له همسا: كفى، فلا تعد إلى هذه الأبحاث.
أما ذلك المركيز الحقيقي، الذي مدت إليه ابنة سالاندريرا يدها تسأله الزواج، فإنه كان يصدع بأوامر زامبا، ويسير بالسفينة كما يريد دون أن يظهر عليه شيء من الاكتراث بما كان يتحدث به زامبا وروكامبول بأصوات منخفضة.
وكانت السفينة تسير بسرعة عظيمة إلى أن بلغت القصر، الذي تقيم فيه الدوقة سالاندريرا وابنتها، فقال زامبا بلهجة المتهكم للسجين: أتعرف يا حضرة المركيز صاحب هذا القصر؟ - نعم؛ فهو لأسقف غرناطة ... - أهنا تقيم خطيبة سميك؟
فأجابه المركيز بعظمة: ليس لي سمي.
فالتفت زامبا إلى روكامبول، وقال له بصوت منخفض: انتبه؛ فقد آن الأوان.
وكان القارب قد اجتاز أسوار القصر، فبات خارجا عن الميناء والمركيز جالس فيه أمام مصباح خلافا لزامبا وروكامبول، فقد كانا مقيمين في مؤخر القارب لا تصل إليهما أشعة ذلك النور.
فعاد زامبا إلى محادثته، فقال له: كيف تقول إنه ليس لك سمي؟ - ذلك لأني أقول الحقيقة. - ومن هو المركيز دي شمري؟ - هو أنا! - والذي يقيم في باريس؟ - هو مزور محتال.
وكان روكامبول في ذلك الحين أخرج المسدس من جيبه، وحمله بيده متأهبا للإطلاق حين صدور الإشارة المتفق عليها.
أما زامبا، فإنه قال للمركيز: إذن فأنت مركيز حقيقي! فإذا كان ذلك فقص علينا حكايتك؛ فلا بد أن تكون غريبة.
غير أن المركيز لم يجد مجالا للجواب، فإن روكامبول أطلق عليه المسدس، فانقلب المركيز في السفينة، وصاح صيحة شديدة، فأطلق روكامبول عليه ثلاث رصاصات من مسدسه، فصاح المركيز صياحا مؤلما، وحاول أن ينقض على روكامبول غير أنه انقلب على ظهره، وسقط في البحر فوارته الأمواج عن الأبصار.
وعند ذلك أسرع زامبا إلى تولي أمر الشراع، وهو يقول لروكامبول: أهنئك الآن؛ فقد أصبحت مركيزا حقيقيا لا ريب فيه.
25
وقد فرح روكامبول في بدء الأمر فرحا وحشيا لا يوصف لتخلصه من هذا المركيز، وأطل من القارب كي يرى جثة المركيز المقتول، فلم ير لها أثرا، وأيقن أن الأمواج قد ابتلعتها.
وساد السكون هنيهة بين هذين اللصين، ثم قال زامبا لروكامبول: تول أنت أمر الدفة وأنا أتولى أمر الشراع؛ إذ لا بد أن تكون خبيرا في هذه المهنة. - نعم؛ فلقد كنت في حداثتي بحارا في بوجيفال. - إذن سر بنا. - إلى أين؟ - إلى حيث ننام. - أتعود إلى قاديس؟ - إلى أين إذن تريد أن تعود إذا لم نعد إليها؟ - والقتيل؟ - إنه مات. - أعرف أنه مات، ولكن كيف نوضح سبب اختفائه. - إن أمره منوط بي فلا تخف؛ لأني سأقول للقومندان إنك قتلته. - ويحك! أجننت؟! - كلا، فإن القومندان سيشكرك لقتله أجمل الشكر.
وكان زامبا قد نال السيادة المطلقة على روكامبول في هذين اليومين، فلم يسع روكامبول غير الامتثال له؛ لأنه بات واثقا به أتم ثقة، وسار بالسفينة عائدا إلى قاديس.
فلما سارت السفينة في الخطة التي رسمها قال له زامبا: والآن يا حضرة الدوق دي شمري سالاندريرا والنبيل المختلط، اسمح لي أن أوقفك على حقيقة حالتنا، فلقد قلت لك إني سأخبرك بأمور كثيرة. - قل؛ فإني مصغ إليك. - لقد قلت لك قبلا إنه لم يعد سبيل للخوف من الكونتس أرتوف. - أتظن؟ - بل أؤكد؛ فإنها برحت قاديس في هذا المساء. - لماذا؟ - كي تعود إلى زوجها، فإنه بات في حالة النزع. - وابنة الدوق؟ - لم تر الصورة، وقد سافرت باكارا وهي تعتقد أن ابنة الدوق عالمة بكل شيء، وأنها لم تعد تخفى عليها خافية من حقيقة أمرك. - كيف ذلك؟! فإني لا أفهم شيئا من هذه الألغاز. - ذلك لأنني خدعت الجميع من أجلك فاسمع: إن باكارا خافت في بدء الأمر أن تفاجئ ابنة الدوق بالحقيقة؛ حذرا عليها من سوء العاقبة، فأرادت أن تتلطف بإطلاعها على الحقيقة بالتدريج، فبدأت بأن قدمت لها المركيز دي شمري. - ماذا تقول؟ - لا تخف؛ فإن المركيز قد حكى حكايته لابنة الدوق، ولكن باكارا منعته عن أن يبوح باسمه إلى أن يحين الوقت اللازم، وقد عهدت إلي باكارا أن أقدم الصورة، وأن أنبهها إلى اسم المكتوب فيها؛ كي ترى بعد ذلك الشبه بينها وبين المركيز، وتعلم من تاريخها أنها قديمة لا ريب فيها وأنك خداع محتال.
ثم إنه ورد إلى باكارا تلغراف يفيد أن زوجها بعد أن تماثل إلى الشفاء أصيب فجأة بالفالج، وأنهم ينتظرون موته في القريب العاجل، فلم تجد بدا من الرحيل إلى زوجها، فعهد إلي بقضاء المهمة، وأعطتني الصورة فأعطيتك إياها. - دون أن تراها ابنة الدوق؟ - هذا لا ريب فيه. - وهي لا تعلم أن هذا السجين الذي رأته المركيز الحقيقي؟ - إنها لا تعلم شيئا على الإطلاق، فإني ذهبت إليها بحجة تقديم احترامي لها، والتماسي منها أن تدخلني في خدمتها. - وماذا أجابتك؟ - أجابتني أنه يجب أن ألتمس منك هذا الالتماس بعد بضعة أيام؛ أي: بعد عقد الزواج؛ فإن كل شيء قد أعد لحفلة القران.
فبرقت أسرة روكامبول، وقال: أقالت - حقيقة - هذا القول؟
فابتسم زامبا ابتسامة هزء لم يرها روكامبول لاشتداد الظلام، وقال: لماذا تعجب من قولها ألا تعلم أنها تحبك؟ ثم إنها واثقة من أنك لا تزال في باريس، ودليل ذلك أنها أعطتني كتابا لك كي أضعه في البوستة. - كتابا لي؟ - نعم؛ وهو معنون باسمك في شارع فرنيل في باريس. - وهل وضعته في البوستة؟ - ما هذا القول؟! أتحسبني أبله إلى هذا الحد؟! - إذن؛ ماذا صنعت به. - إنه معي، ثم مد يده إلى جيبه، وأخرج الكتاب ودفعه إليه. - ماذا أرى؟! أفتحته أيها الذميم؟! - كيف لا أفتحه؟! ألسنا الآن شريكين، ويجب أن أعلم من أمورك ما تعلمه؟! - لا أعلم الآن ما يصدني عن أن أسيل دماغك، فإنه لا يزال بمسدسي رصاصتان. - يمنعك عن قتلي الحكمة. - لماذا؟ - لأنك إذا قتلتني يفتضح أمرك، ألعلك نسيت ذلك الإقرار الذي كتبته بخطك؟ - وماذا صنعت به؟ - إني أودعته أمس عند أحد القضاة مختوما، وقلت له: إذا مضى أسبوع دون أن تراني فافتحه. - يسرني أنك أهل لي وأنني أهل لك، وسنتفق إلى آخر العمر، والآن خذ عني هذه الدفة ودعني أقرأ كتاب ابنة الدوق.
فامتثل زامبا وأدنى روكامبول المصباح منه، ففتح الكتاب وقرأ ما يلي:
أيها الحبيب
سأبرح مع أمي مدينة قاديس صباح غد، وقد تعجب لهذا السفر غير أن سببا لا بد من ذكره لك، وهو أن الملكة غادرت قاديس بعد أن قالت لي: «الوداع أيتها المركيزة، إنني أنتظرك مع زوجك في مدريد بعد خمسة عشر يوما، وأريد أن تصيري دوقة، فابرحي قاديس الآن إذ يجب أن يعقد قرانك في سالاندريرا، كما يقتضيه واجب الحداد.»
هذا هو السبب الذي دعانا إلى السفر، ونحن ننتظرك في قصر سالاندريرا، وسيعقد قراننا قربي أسقف غرناطة، فإنك تعلم أن الزواج المدني غير موجود في إسبانيا، وليس فيها غير الزواج الديني.
ثم لا أكتمك أنني أخبرت قريبي الأسقف بجميع ما كان بيني وبينك من حين تصادفنا إلى حين الخطبة، وما كتمت عنه غير مسألة الدون جوزيف، فلامني أشد اللوم لاندفاعي معك، وقال لي: إنه لا يجب أن تنظري المركيز قبل الزواج، فليحضر إلى سالاندريرا متى شاء غير أنه لا يحق له أن يراك، إلا في ساعة عقد القران، ولا يحق لك أن تخرجي من غرفتك قبل ذلك العهد.
وهذا آخر ما سأحتمله من الظلم أيها الحبيب، ولكن لا سبيل إلى مخالفة هذا القريب، فإنه شيخ شديد المحافظة على التقاليد القديمة، التي كانت سائدة في إسبانيا منذ قرنين، وهي أن الخطيب لا يحق له أن يرى خطيبته إلا في الكنيسة حين عقد القران، فيدخل كل منهما من باب، ويلتقيان أمام الهيكل.
فلنمتثل له إذ لا سبيل لمخالفته، وعلى ذلك فإنني أنتظرك في سالاندريرا بعد ثمانية أيام؛ لأن زواجنا سيعقد في 14 من الشهر الجاري، وهو تاريخ تتفاءل به عائلتنا خيرا، فاحضر في 13 أو في صباح 14 الجاري، فإذا حضرت في 12 فلا تصعد إلى القصر إرضاء للأسقف، بل أقم في منزل الصيد، وقد صدر الأمر إلى وكيل هذا القصر لاستقبالك.
إلى اللقاء أيها الحبيب، فاصبر على التقاليد القديمة التي لا بد من رعايتها، فإن ساعة الهناء آتية وكل آت قريب.
خطيبتك
كونسبسيون
وقد تلا روكامبول الكتاب بإمعان شديد، فلما أتم تلاوته قال لزامبا: إنك فتحت الكتاب فلا بد أن تكون قرأته؟ - قرأته دون شك. - ما رأيك فيه؟ - أرى أننا في اليوم السابع من الشهر، وفي اليوم الرابع عشر منه تصبح زوجا لابنة الدوق. - لا أنكر ذلك ولكني أسألك عن رأيك في هذا الزواج الغريب. - وما وجه الغرابة فيه؟ - إنني لا أستطيع أن أرى خطيبتي إلا ساعة عقد الزفاف.
فابتسم زامبا، وقال: يظهر أنك لا تعرف أسقف غرناطة، فإنه رجل بسيط القلب إلى حد البله شديد التمسك بالتقاليد، حتى إنه يحسب في كل أحواله أنه لا يزال في عهد شارلكان. - أتعرف أنت سالاندريرا؟ - نعم؛ فقد أقمت فيها ثلاثة أشهر مع الدون جوزيف. - صف لي منزل الصيد الذي ذكرته لي ابنة الدوق في كتابها. - إنه منزل جميل ستكون فيه على ما تريد. - وما رأيك الآن؟ - أرى أنه يجب أن تبقى في قاديس متنكرا بزيك هذا خمسة أيام. - وبعد ذلك؟ - نذهب كلانا إلى سالاندريرا، وفي الطريق تغير زيك، وتستبدل البارون بولاسكي بالمركيز دي شمري الكاذب. - قل: الحقيقي، أيها الوقح؛ إذ لا يوجد الآن مركيزان. - لا تؤاخذني فقد نسيت أنك قتلته، ثم جعل يضحك ضحكا شديدا لم يحمله روكامبول على شيء من محامل الريب.
وبعد ذلك بعدة دقائق دخل القارب إلى الميناء، فطوى زامبا الشراع، وجعل يجذف حتى وصل إلى الشاطئ المبني عليه منزل القومندان.
وكان القومندان يتنزه في الرواق، فقال روكامبول لزامبا. - ماذا عزمت أن تصنع بشأن المركيز؟ - كن مطمئنا ودعني أتكلم.
ثم نزل زامبا إلى الشاطئ، فتبعه روكامبول حتى وصلا إلى القومندان، فقال القومندان لزامبا باللغة الإسبانية: لماذا أسرعت بالرجوع؟ ألعل حضرة البارون أصيب بالدوار؟ - كلا يا سيدي، بل إن المركيز أصيب به. - أي مركيز تعني؟ - المجرم السجين. - فانذهل القومندان، وقال له: أين هو الآن؟ - لقد مات يا سيدي؛ فإن البارون قتله.
وكان روكامبول يتظاهر أنه لا يفهم شيئا من هذا الحديث؛ لأنه أخبر القومندان أنه لا يعرف اللغة الإسبانية.
أما القومندان فإنه انذهل انذهالا عظيما لما حدثه به زامبا، وقال له: ويحك! ألعلك تمزح فيما تقول؟! - كلا يا سيدي، فإن هذا الذي كان يدعو نفسه مركيزا كان يظهر بأنه يحاول الفرار منذ عهد بعيد، وذلك أنه حين بلغ بنا إلى عرض البحر قال لنا: «إنكما تعرفان أن تديرا القارب، أما أنا فإني أعرف أن أسبح.» ثم ترك الدفة وألقى نفسه في البحر، وعند ذلك عامله البارون معاملة بولونية. - كيف ذلك؟ - ذلك أنه كان معه مسدس فأخرجه من جيبه، وأطلقه على الهارب بسكينة الإنكليز فقتله للحال.
فأسرع القومندان إلى روكامبول، وقال له بالإنكليزية: لقد أحسنت يا سيدي غاية الإحسان بما فعلت، فإن قتل الهاربين من السجون مأثرة عندنا تستحق كل ثناء.
فقال له روكامبول: إني عملت ما يجب علي؛ إذ لم أطق أن تتحمل من أجلي تبعة فرار هذا المجرم الذي أرسلته لخدمتي.
وفي اليوم التالي جاء زامبا إلى الفندق المقيم فيه روكامبول، وأعطاه نسخة من جريدة تطبع في مدريد، فقرأ فيها حكاية قتل المجرم السجين مشفوعة بالثناء العظيم على قاتله البارون بولاسكي، فقرأها روكامبول وهو يضحك من تغفل القومندان.
26
مضى على هذه الحادثة خمسة أيام كان روكامبول يزور في خلالها القومندان، وقد أعد لضيفه حفلة راقصة حضرها روكامبول بزي البارون بولاسكي، فكانت الفتيات يتهافتن على مراقصته لاشتهاره بقتل السجين، الذي كان يحاول الهرب، على ما كان عليه من القبح بزيه الذي كان متنكرا فيه، فإن للشهرة لدى أكثر النساء مقاما فوق مقام الجمال.
وكان زامبا يأتي إليه في كل يوم، وقد أخبره بأن باكارا قد سافرت إلى باريس، وأن الدوقة وابنتها قد سافرتا إلى سالاندريرا، فصرف روكامبول تلك الأيام الخمسة بالتنزة في حدائق تلك المدينة ومينائها.
وفي اليوم الخامس جاء زامبا، وقال له: لقد حان زمن الرحيل إلى سالاندريرا.
فقال روكامبول: إني متأهب للسفر فقد سئمت الانتظار، ألا ترافقني في هذه السفرة؟ - كيف لا أصحبك؟! ألا يجب أن أحضر قران أسيادي؟ - ماذا تعني بأسيادك؟ - ألعلك نسيت أنك عينتني وكيلا لثروتك بعد الزواج؟ - لقد أصبت، فلنسافر.
وذهب روكامبول إلى منزل القومندان، فودعه مدعيا أنه وردت إليه أنباء خطيرة تدعوه إلى سرعة العودة إلى بلاده، وعاد إلى زامبا فركب وإياه مركبة، وانطلقت بهما إلى برسلونه.
وقد برح قاديس وهو متنكر بزي البارون، فلما وصل إلى برسلونه ذهب إلى أحد فنادقها للاستراحة، فاختلى مع زامبا في غرفة وهناك خلع رداء التنكر، وعاد إلى الشكل الذي عرف به في باريس، وهو شكل المركيز دي شمري.
وفي المساء برحا برسلونه وسافرا إلى بمبلين فأقاما فيها، وذهب زامبا يبحث عن جوادين للسفر عليهما إلى سالاندريرا؛ لأن الطريق إليها لا تصلح لسير المركبات، ثم عاد بعد أن قضى هذه المهمة، وجلسا حول مائدة معتزلة في الفندق يتعشيان.
فلما فرغا من العشاء اقترح زامبا على روكامبول أن يشرب زجاجة من الخمر، فقال له روكامبول: ألم تشرب على المائدة؟ - نعم، ولكني ظمآن وقد أعجبني خمر هذا الفندق، ثم إني أريد أن أشرب أيضا لقصد آخر، وهو أننا سنجتاز مسافة طويلة لا بد لنا فيها من المسامرة على الطريق، وقد تعودت أن لا ينطلق لساني إلا متى ارتويت من الشراب؛ ولذلك فسأكون لك خير نديم ينسيك مشاق السفر الطويل.
ثم تركه هنيهة؛ كي يضع العلف للجوادين وعاد يطلب زجاجة، فجعل يكرع منها الكأس في أثر الكأس حتى فرغت، فطلب زجاجة أخرى وصب منها كأسا فشربه، وقال: إن الشرب يفرح قلبي، ومتى كنت فرحا أحب جميع الناس.
فكان روكامبول يضحك منه، ولكنه كان يخشى عاقبة شربه؛ لأنه رأى أن أعطافه تترنح من السكر.
ثم جعل لسانه ينعقد وأصبحت حركاته بطيئة فزاد خوف روكامبول، غير أنه لم يجد بدا من مسالمته، فصب له كأسا، فشربها زامبا، وقال: الحق أنك تعجبني يا سيدي الدوق، وغدا سيكون فرحي عظيما لا يوصف. - لماذا؟ - لأنك ستتزوج غدا ابنة الدوق، وثق يا سيدي أنني لا أفرح من أجل تعييني وكيلا لأملاكك، بل إني أحبك. - إذن، فلا يهمك أن تكون وكيلي. - لا أحب هذا المنصب، إلا لأني سأكون دائما بقربك، أتحسب أن الصداقة لا تكون إلا حيث تكون الفائدة؟ - إذن فأنت صديقي؟ - إلى آخر العمر. - أتبرهن لي عن هذه الصداقة؟ - عندما تريد. - أحب أن أعرف ما يكون برهانك. - لقد طرأ لي خاطر بديع. - ما هو هذا الخاطر؟ - أتقول يا سيدي الدوق: إني لست صديقا؟ - أنا لم أقل ذلك، ولكني أقول: إن الذي دعاك إلى هذه الصداقة هو أنك ستغدو وكيلي و...
فضحك زامبا ضحكا عاليا، وقال: إنك تريد أن تشير إلى هذه الورقة التي استكتبتك إياها؟ - نعم. - ألعلك خائف منها؟ - كلا ... ولكنها لو لم تكن موجودة لما أخللت بوعدي، وسيان كانت لديك أو فقدتها، فإنك ستكون وكيلي وصديقي في حين واحد. - أحق ما تقول؟ - أقسم لك خير الأقسام إنني لا أنكث بوعدي لك، وأية فائدة لي من الغدر بك، فإذا لم أعينك وكيلا فلا بد من تعيين سواك. - إذا كانت هذه الورقة تسيئك؟
فقاطعه روكامبول، وقال: ليس أنها تسيئني فقط، بل إنها تنغص عيشي، وأنا أعلم علم اليقين أنك لا تستخدمها ما زلت حيا؛ إذ لا فائدة لك من فضيحتي، ولكن أليس الإنسان معرضا للموت الفجائي، فإذا أصبت - لا سمح الله - بهذا المكروه، أفلا يفتح القاضي الغلاف الموجود فيه إقراري كما أوصيتك ويطلع على كل شيء؟
فقهقه زامبا ضاحكا، وقال: ألعلك صدقتني؟ - بماذا؟ - بأنني أودعت إقرارك عند أحد القضاة إلى آخر ما لفقته من هذا الحديث. - الحق أنني صدقتك، ولا أنكر عليك، فماذا صنعت به؟ - إنني أودعته جيبي وهو معي الآن. - إنك تمزح دون شك. - كلا ... وسأطلعك عليه.
ثم مد يده إلى جيبه، وأخرج منه تلك الورقة التي استكتبها روكامبول، فلما رآها روكامبول اضطرب اضطرابا شديدا، ونظر إلى المائدة فرأى سكينا فهم أن يقبض عليه، ويطعن زامبا التماسا لهذه الورقة، غير أن زامبا لم يمهله فإنه قال: إنك تريد برهانا عن صداقتي فانظر إلى هذا البرهان.
ثم أخذ الورقة فأدناها من المصباح، وجعل يحرقها إلى أن أصبحت رمادا.
فجن روكامبول من فرحه، وقال: ماذا تصنع؟ - إنني أحرق ما كتبته لثقتي بك، فإنني ضامن أنك لا تخدعني وأنك ستفي بما وعدت.
فسر روكامبول سرورا عظيما، وقام إلى زامبا فضمه إلى صدره، وقال له: ستكون خير صديق لي ما حييت فلا يفرق بيننا جاه وتباين ثروة ومقام.
وكان يظهر من زامبا أنه قد ضاع رشده من السكر غير أنه ما لبث أن نهض، وقال: هلم بنا إلى السفر، فإن ركوب الجياد وصفاء الهواء يذهبان عني ثقل هذه النشاة.
غير أنه بقي يترنح، فقال له روكامبول: توكأ علي ...
ففعل وخرج الاثنان من الفندق، فأسرجا الجوادين.
ثم دنا زامبا من جواد روكامبول، ففحص سرجه، وقال له: لقد وضعت لك في عيني السرج مسدسين محشوين، فإن الطريق التي سنجتازها مقفرة وعرة حتى لقد يقتل السالك فيها دون أن يعلم أحد بخبره.
فاختلج فؤاد روكامبول، وقال في نفسه: لقد أخطأت أيها الصديق بإحراقك الورقة، فإنها كانت خير واق لك من الموت.
27
وركب الاثنان جواديهما فكانت أعراض السكر لا تزال بادية على زامبا، غير أنه جعل يشتد بالتدريج، فلما بعدا عن المدينة قال له روكامبول: سر أمامي كي تهديني إلى الطريق.
فأبى وقال له: إن الطريق لا تزال متسعة، بحيث نستطيع أن نسير فيها جنبا إلى جنب.
ثم دنا منه وجعلا يتحدثان.
وكان الطقس صافيا والهواء بليلا، ونور القمر ساطعا، فما زالا يسيران حتى ظهرت أمامهما سلسلة جبال، فانعطف زامبا في منعرج، وسار في طريق تلك الجبال وهو يقول: هذه هي الطريق إلى سالاندريرا.
فلحق به روكامبول وسار بجانبه، فدار بينهما الحديث الآتي فقال زامبا: إننا سنخترق هذه الجبال، وأنا واثق من أننا لا نلقى في طريقنا أحدا من الناس، إلا بعض اللصوص الذين يكمنون للمسافرين. - ألعلك خائف منهم؟ - كلا؛ فإن الذئاب لا تأكل بعضها بعضا، ثم إننا بعد أن نخترق هذه الجبال سنمر بطريق ضيقة تشرف على هوة سحيقة لا حد لعمقها كما يقال. - وماذا تهمنا هذه الهوة؟ - لا يهمنا أمرها، ولكني أحببت أن أبين لك الطريق التي نسلكها. - وأين هي هذه الهوة؟ ألعلها بعيدة من هنا؟ - كلا ... فإنها قريبة جدا، وقد ذكرتها لك؛ لأنه ما مر أحد بها إلا انكمش قلبه وتولاه الخوف والذعر. - لماذا؟ - لأن اللصوص يكمنون بالقرب منها، فإن قتلوا من يقع بأيديهم من المسافرين ألقوه فيها إخفاء لأثره، حتى باتت تلقب بمقبرة المسافرين، ومن أخطارها ضيق الطريق المشرفة عليها، فلا يستطيع فارسان أن يمرا بها - جنبا إلى جنب - لضيقها، بل يضطر أحدهما أن يسير أمام الآخر، فإذا بوغت المسافر سقط بجواده إلى الهوة، فلا يعلم به غير الله. - أحقيقة ما تقول عن عمق هذه الهوة؟ - لقد رأيتها بعيني في رائعة النهار، فما استطعت أن أرى عمقها، حتى إنك إذا ألقيت فيها حجرا ضخما لم تسمع صوت هبوطه؛ إذ يستقر في غور بعيد من ذلك ما أرويه لك عن حادثة جرت أمامي، حين كنت في خدمة الدون جوزيف، وهي أنه خرج يوما من سالاندريرا لصيد الذئاب، فجعلنا نطارد ذئبا حتى بلغ إلى تلك الطريق الضيقة، فأطلق عليه الدون جوزيف رصاصة أصابت منه مقتلا، فسقط يهوي إلى تلك الهوة السحيقة، فأسرعنا لنرى أين سقط فلم نر له أثرا. - ألعل فم الهوة متسع؟ - يبلغ اتساعه نحو مترين بحيث يسقط فيها الفرس والفارس.
فارتعش روكامبول، وقال: ألا تزال بعيدة عنا؟ - كلا، فقد قربنا منها جدا، وها نحن قد دخلنا في الوادي فلا يمر بنا ربع ساعة حتى نبلغ إليها، ولكنك لا تستطيع أن تراها لنكد الطالع، فإن القمر قد احتجب عن الأفق وبتنا في ظلام دامس. - لا بأس، فسنأتي إليها مرة في النهار، ثم لكز بطن جواده فسار حثيثا يتبعه زامبا، وكان روكامبول يفتقد المسدسين من حين إلى حين.
ثم وصلا إلى الطريق الضيقة، فتقدم زامبا من روكامبول؛ كي يرشده إلى الطريق وجعل يسير أمامه ساكتا، وهو غارق في لجج التصورات فلم يزعجه روكامبول، وجعل هو أيضا يفتكر، ويتمعن في خطة رسمها لنفسه.
وبعد ربع ساعة صحا زامبا من ذهوله، وقال لروكامبول: هو ذا الهوة فقد بلغنا إليها. - إني لا أرى شيئا؛ فإن الظلام دامس.
فترجل زامبا عن جواده، وقال له: اصبر فسترى.
ثم أخذ حجرا ودنا من الهوة فألقاه فيها، وقال له بعد حين: أسمعت صوت سقوطه؟ - كلا، ولا بد أن تكون شديدة العمق، فإني سمعت صوت احتكاك الحجر بالعشب على جدرانها، ولكني لم أسمع صوت بلوغه إلى الأرض. - إنها أعمق مما تظن.
ثم بحث عن حجر أضخم من الأول، فحمله بيديه وحاول أن يلقيه في الهوة، غير أنه قبل أن يتمكن من إلقائه أخرج روكامبول المسدس وأطلق عليه النار.
فصاح زامبا صيحة هائلة، وانقلب إلى الأرض ثم هوى إلى الهوة دون أن يسمع روكامبول صوت سقوطه، فضحك ضحك المنتصر، وقال: لا شك أن الأبالسة أخذت بناصري، فلقد تخلصت من أشد عدو لي.
وعندما بزغ الصباح وصل بالمركيز فردريك ألبرت دي شمري الذي لم يبق سواه يسمى بهذا الاسم إلى قرية صغيرة، فكان أول كلمة قالها سؤال أحد القرويين عن قصر سالاندريرا، فأرشدوه إلى الطريق، وأخبروه أنها تبعد خمس ساعات عن هذه القرية، فذهب إلى أحد الفنادق، فأكل ثم نام فيه إلى غروب الشمس، فركب جواده وسار إلى سلاندريرا، وهو يناجي نفسه بأماني السعادة، ويبني القصور في إسبانيا.
28
وفي الساعة العاشرة وصل فسأل عن قصر الصيد، كما أمرته ابنة الدوق وذهب إليه فاستقبله الوكيل استقبالا حافلا، وأعد له مائدة فاخرة.
فأكل روكامبول بشهية عظيمة، وقد وجد على المائدة زجاجة من الخمر أيقن أن ابنة الدوق أرسلتها إليه خاصة من القصر، فشربها بجملتها ووجد بها لذة عظيمة، ولكنه بعد فراغه من الطعام شعر بأن الخمر أثر عليه تأثيرا عظيما على فرط إدمانه على شرب الخمور، فحسب أن الغرفة تدور، ولم يعد يستطيع القيام.
فأسرع إليه وكيل القصر، وقال: لا بد أن يكون أثر عليك هذا الخمر؛ لأنه عتيق فتوكأ علي كي أوصلك إلى الغرفة التي تنام فيها.
فاتكأ روكامبول عليه، وسار معه حتى أوصله إلى غرفة مفروشة بأفخر الرياش، فقال في نفسه: لا بد أن تكون كونسبسيون قد أمرته بإعداد هذه الغرفة والمبالغة بإتقان فرشها، فإني أجد ما فيها يدل على حسن الذوق.
ولكنه ما لبث أن صعد إلى السرير، حتى أطبق عينيه ونام نوما عميقا تمثلت له السعادة في أحلامه بأبدع مظاهرها، فرأى نفسه دوقا إسبانيا وزوجا لأشرف وأغنى فتاة، ثم انتقل بأحلامه إلى البرازيل حيث عين سفيرا إسبانيا لدى إمبراطورها، وما زال يتنقل فوق قنن هذه الأماني الجميلة إلى أن بلغت الثامنة من الصباح، فشعر أن يدا تهزه ففتح عينيه منذعرا وهو يود أن تبقى له تلك الأحلام، فرأى وكيل القصر واقفا أمامه وقفة الاحترام، وقد حمل قبعته بيده، وقال: ليعذرني مولاي إذا تجاسرت على إيقاظه، فقد بلغت الساعة الثامنة وأزف الوقت.
ففرك روكامبول عينيه، ووضع يده على جبينه كمن يتذكر، وقال: لقد أصبت؛ فإن موعد الزفاف في الساعة التاسعة.
ثم وثب عن سريره إلى الأرض، وهو يقول: أليس من العار أن أنام يوم زفافي إلى مثل هذه الساعة المتأخرة.
فقال له الوكيل: ليأذن لي مولاي المركيز أن أخبره ببعض التفاصيل. - عن أي شيء؟ - عن حفلة الزفاف.
فنظر إليه روكامبول دون أن يفهم ما يريد، وقال له: قل ما تشاء. - إنه في إسبانيا يجب على كل نبيل أن يتزوج حسب التقاليد، التي كانت جارية في القرون الوسطى. - ألعلهم يريدون أن ألبس خوذة ودرعا؟ - كلا، ولكنهم سيلبسونك قبعة تستر جميع وجهك، ويكون معك فريق من الرهبان. - ما شأن هؤلاء الرهبان؟ - إنهم يقبضون عليك وتكون خاضعا لأوامرهم. - إلى متى؟ - إلى حين انتهاء حفلة القداس. - أهذا كل ما يطلبونه مني؟ - نعم، وقد حضر الرهبان وهم هنا الآن. - ماذا يريدون؟ - يريدون أخذ سيادتكم إلى الكنيسة.
فأطل روكامبول من نافذة الغرفة المقيم فيها، فرأى الكنيسة تحيط بها أشجار باسقة، ولم ير أحدا من الناس، وكل شيء حولها يدل على الكآبة، فانقبض صدره وقال في نفسه: ما هذا العرس الذي يشبه الجنازة؟!
أما الوكيل فإنه عاد إلى حديثه، فقال: إن الرهبان ينتظرونكم يا مولاي. - لماذا ينتظرونني فهذه الكنيسة أمامي، وأنا أعرف الطريق وحدي. - إنك لا تدخل إليها من هذا الباب الذي تراه يا سيدي، بل من باب آخر عينه أسقف غرناطة. - إن هذا الأسقف مجنون كما يظهر. - إنه شديد التمسك بالتقاليد يا سيدي، وهو يريد أن يشبه زواجك بابنة الدوق بزواج المدموازيل كينا جوند دي سالاندريرا، الذي جرى من أربعمائة عام مع السنيور لورانزو دي ألفيمار في ملك فرديناند الكاثوليكي. - كيف جرى ذلك الزواج؟ - إن هذا القصر الذي نحن فيه الآن كان كنيسة في ذلك العهد، فقدم إليها الزواج ليلة زفافه كما قدمت أنت، وبقي فيها طول ليلته منعكفا على الصلاة، ثم جاء إليه أربعة من الرهبان فعصبوا عينيه، وألبسوه ملابس العرس، وهي قميص بسيط من الكتان يلبس فوقها ثوب راهب.
فقاطعه روكامبول، وقال: إن هذه التقاليد لا تطاق، ولم يعد لدي شك أن أسقف غرناطة من أعظم المجانين. - وأنا من رأيكم يا سيدي، وأظن أن المدموازيل كنسبسيون تشترك معنا بهذا الحكم، فإني سمعتها أمس تقول لهذا الأسقف: «إن هذه التقاليد لا تحتمل في عصرنا الحاضر.» - وماذا أجابها الأسقف؟
قطب حاجبيه وسكت فلم تجد ابنة الدوق بدا من السكوت؛ لأن هذا الأسقف شيخ عجوز وثروته تعد بالملايين، وهو لا وارث له سواها.
فهان عند روكامبول ما يلقاه من الضجر عند ذكر الملايين، فقال له الوكيل: وفوق ذلك فإن سيدتي قد أعطتني كتابا؛ كي أسلمه لكم وهذا هو.
فأخذ روكامبول الكتاب وفضه مسرعا، فوجده خاليا من التوقيع، ولكنه عرف أنه خط خطيبته ولم يكن يتضمن غير هذين السطرين:
صبرا أيها الحبيب فلم يبق غير بضع ساعات؛ كي يغدو المركيز دي شمري زوجا لكونسبسيون دي سالاندريرا.
فلما أتم تلاوته قال في نفسه: سأصبر كما تشاء، فإن كل عذاب يعرف أجله يخف وقعه.
ثم قال للوكيل: إذن فإنهم سيعصبون عيني؟ - نعم؛ إذ لا بد من ذلك. - وفي أية طريق يسيرون بي إلى الكنيسة؟ - بدهليز تحت الأرض يصل بين هذا القصر وبين الكنيسة. - وأسير به معصوب العينين؟ - ويحيط بك الرهبان. - ما أشبه هذا الزواج بزواج العميان! أيريدون أن أتزوج وأنا معصوب العينين؟! - كلا؛ فإنهم يزيحون العصابة عن عينيك في الكنيسة.
وعند ذلك طرق الباب، فقال الوكيل: هو ذا الرهبان قد حضروا.
ثم ذهب ففتح لهم الباب.
ودخل الرهبان الأربعة فذعر روكامبول لمرآهم، وخرج الوكيل بعد أن انحنى أمامهم باحترام.
فدنا أحدهم من روكامبول، وقال له باللغة الإسبانية: هل أنت مستعد أيها الأخ؟
فقال روكامبول في نفسه: ماذا أرى ألعلهم يحتفلون بإدخالي في الماسونية، ثم ضحك وقال: نعم؛ إني مستعد.
فاقترب أحدهم وعصب عينيه بعصابة سوداء، فلم يعد يرى بعد ذلك شيئا، ولكنه بقي له حاستا السمع والإحساس، فسمع أولئك الرهبان يتلون صلاة لاتينية ارتعشت أعضاؤه حين سماعها، فإنها كانت صلاة العصر التي تتلى عن نفوس الأموات، وأحس أن أحدهم دنا منه، وجعل ينزع عنه ثيابه، ثم ألبسه بعد ذلك ثوبا لم يستطع أن يعرف لونه.
ولكنه عندما لمسه علم أنه ذلك الكتاني الذي أخبره عنه الوكيل، ثم شعر أنهم ألبسوه فوق القميص ثوبا أثقل منه، فعلم أنه ثوب الرهبان الذي أخبره عنه الوكيل أيضا.
وبعد ذلك تأبط أحدهم، وقال له: هلم بنا.
فسار معهم وهو لا يعلم أين يسير، ولكنه ما لبث أن مشى حتى عاد الرهبان إلى الصلاة اللاتينية، فعاد صدره إلى الانقباض.
وأحس روكامبول في البدء أنهم ينزلون به درجات سلم، ثم انتهت تلك الدرجات، فسار في طريق مبلطة بضع دقائق، فشعر أن الهواء قد زادت رطوبته، وعلم أنه يخترق ذلك الدهليز تحت الأرض الذي أخبره عنه الوكيل.
وبعد حين قال له أحد الرهبان: ارفع رجلك واصعد.
فامتثل روكامبول، وجعل يمشي معهم مدة ساعة لم تكن تنقطع فيها صلاة الرهبان الخاصة بالأموات.
ثم شعر فجأة أن الهواء قد تغير، وتبدلت رطوبته بحرارة، فعلم أنه ترك الدهليز.
ثم سمع أصوات أبواب تفتح وتغلق، فما زالوا يمشون به حتى شعر أنه يمشي على بلاط من الرخام، فأوقفوه وقال له أحد الرهبان: ارفع العصابة عن عينيك.
فما صدق روكامبول أن سمع هذه الكلمة حتى أزاح العصابة، وجعل ينظر إلى ما حوله نظرا مضطربا، فرأى أنه واقف في مكان يبلغ عرضه ستة أقدام تحت قبة مرتفعة مثل قباب الكنائس، ورأى أمامه صورة كبيرة تمثل المسيح، وعلى يساره صورة كبيرة تمثل زواج إحدى بنات سالاندريرا مع الدون ألفامير، وعلى يمينه صورة أخرى كبيرة استلفتت أنظاره، وهي تمثل العقابات الفظيعة المختلفة التي كانت تجري في العصور الوسطى، وقد كتب تحتها تاريخ هذه العقابات وأسبابها.
غير أن روكامبول اضطرب لمنظرها، ولم يستطع أن يقرأ الكتابة، فأدار نظره إلى الرهبان الذين كانوا يصحبونه، فوجد أن ثلاثة منهم قد احتجبوا، ولم يبق غير واحد كان واقفا وراءه ساكتا لا يتكلم.
وفيما هو ينظر حوله مندهشا مما يراه فتح أمامه ستار ظهر من ورائه أولئك الرهبان الثلاثة، الذين كانوا يرافقونه وهو معصوب العينين، وكان أمامهم أتون كبير تتأجج فيه النار الموقد، وفي وسط النار حلقة من الحديد.
فذعر روكامبول لمرأى النار، وما كان يحيط بها من الكلابات والمطارق على أن جميع ذلك مر أمام عينيه بسرعة، ثم نزل الستار.
وعقب نزول هذا الستار فتح ستار آخر أمام صورة المسيح ظهر من ورائه هيكل تتقد فيه آلاف من الشموع، وفيه كاهن يصلي، فردت إلى روكامبول روحه، وقال في نفسه: لا شك أن هذا الكاهن ينتظر قدوم الخطيبين.
ثم نزل الستار وفتح ستار ثالث، وكان قلب روكامبول يدق دقات شديدة، فرأى امرأة مرتدية بملابس بيضاء تقدم، وهي ماسكة بيد فتاة أخرى متشحة بملابس السواد.
فعرف روكامبول للحال أن تلك الفتاة هي خطيبته ابنة الدوق، غير أنه بينما كانت المرأتان تتقدمان إلى الهيكل نزل الستار، فاحتجبا عن نظره، واحتجب الهيكل وشموعه، ولم يجد روكامبول أمامه غير ذلك الراهب الذي بقي معه، فنظر إليه كأنه يستطلع كنه هذه الأسرار، ولكنه ما لبث أن نظر إليه حتى نزع الراهب القبعة عن رأسه، فصاح روكامبول صيحة منكرة، وتراجع منذعرا إلى الوراء.
29
إن هذا الراهب الذي ذعر منه روكامبول، وخافه هذا الخوف كان زامبا بعينه الذي رآه روكامبول يسقط أمامه في تلك الهوة الهائلة، وكان يحسب منذ لحظة أنه من الأموات.
فلم يصدق عينيه حين رآه، وحسب أن خياله قد تمثل له ثم ما لبث أن تيقن منه حتى أخذ يتراجع إلى الوراء، وقد جحظت عيناه من الرعب، وأخذ يبحث عن منفذ يهرب منه، ولكن الأبواب كانت مقفلة جميعها، فأسند ظهره إلى الحائط وعيناه محدقتان بزامبا.
أما زامبا فإنه كان ينظر إلى روكامبول نظر الساخر حين تراجعه، ثم ضحك ضحكا شديدا، وقال: كيف رأيت الآن يا حضرة المركيز ألا أجيد الاحتيال كما تجيده أنت؟
فلم يجب روكامبول وظل ينظر إليه مرعوبا.
فقال زامبا: لقد حسبتني أيها الأبله ميتا من السكر، فظننت أني أحرقت اعترافك لمجرد إرضائك.
ثم جعل يضحك ضحكا عاليا هازئا به، أما روكامبول فلبث جامدا لا يتحرك كالأصنام.
وعاد زامبا إلى حديثه، فقال: لقد علمت منك أنك لست لصا صادقا، فإن اللصوص حسب مبادئهم لا يخون بعضهم بعضا، ولكنك سافل دنيء لا تجازي من يخدمك بغير القتل، فلقد حاولت المرة الأولى أن تقتلني في باريس، فطعنتني من الوراء شأن الخائنين الجبناء، ثم حسبت بعد ذلك أني أصفح عن خيانتك، وأنسى لذة الانتقام ... ثم لما رأيت أنك أصبحت في قبضتي عرضت علي المال الوفير، وأنت تحسبني راضيا بتلك الوعود، ولكنك أخطأت يا حضرة الدوق، فلو عرض علي تاج إسبانيا، ومملكة الهند لما تخليت عن الانتقام من عدو يخونني، أعلمت الآن؟
ثم قل لي بعيشك فقد عهدتك خبيرا بأساليب الاحتيال، ألم يكن حديث الهوة التي لفقته لك متقنا لا شك فيه؟ وكيف يخطر لك في بال أن عمق هذه الهوة لا يبلغ عدة أقدام، وأن أرضها مفروشة بالعشب الأخضر؛ كي لا يسمع صوت الحجر الذي إذا ألقي فيها فتحسبها عميقة؛ وكي لا يرض جسمي إذا سقطت فيها؟ ثم كيف يخطر في بالك أن المسدس لم يكن محشوا بالرصاص، بل بالبارود وحده وقد وضع في سرج جوادك بعد نزع الرصاص؟
ولكني أعذرك لانخداعك، فقد أطلقت علي مسدسك، فتظاهرت أن الرصاصة وقعت في صدري، وصحت صياح المتألمين وسقطت في الهوة، ألم أمثل دوري خير تمثيل أيها المركيز؟
ثم جعل يضحك غير أن روكامبول ثاب من دهشته، وذكر أنه رأى خطيبته، وأنه لا يفصل بينه وبينها غير ستار رقيق، فوضع أصبعه على فمه، وقال: اسكت أو اخفض صوتك ... إنني سأعطيك جميع ما تطلبه ... قل أتريد ثروتي بجملتها؟ - لماذا تريد أن أخفض صوتي؟ - لأن خطيبتي وراء الستار تنتظرني. - أتظن أنها تنتظرك؟
فجعل العرق البارد ينصب من جبين روكامبول، وقال: أما هي الآن وراء الستار أمام الهيكل؟ - نعم؛ إنها هناك ولكني نسيت أنك ستتزوج، وأنهم قد ألبسوك ملابس العرس، أتعلم يا حضرة المركيز ما هو هذا القميص الذي ألبسك إياه أسقف غرناطة تحت ملابس الرهبان؟
ثم دنا منه ونزع عنه ثوب الراهب، بحيث ظهر القميص لروكامبول فما لبث أن رآه حتى صاح صيحة منكرة؛ لأنه كان ذلك القميص الأحمر، الذي يلبسه المجرمون في السجون.
وعند ذلك دنا زامبا من الجدار، وأدار لولبا فيه، فارتفع ستار آخر وظهرت كنيسة غاصة بالناس، فرأى روكامبول رجلا جاثيا أمام الهيكل، وبجانبه كونسبسيون والأسقف أمامهما يعقد عقد القران.
أما الرجل فكان المركيز دي شمري الحقيقي، الذي حسب روكامبول أنه قتله وجعله طعما للأسماك.
وفي الحال أدار اللولب ثانية، فنزل الستار ودنا من روكامبول الذي كان مستندا إلى الجدار حذرا من أن يقع، وقال له: لا يخلق بنا أن نكدر على المحتفلين حفلتهم، وأصغ إلي الآن فقد تعلمت مما كنت أراه في مسارح التمثيل أنه لا بد لكل رواية من ظهور خفاياها في آخر فصل منها.
وإذ قد بلغنا إلى الفصل الأخير من روايتنا، فلا بد لي من إظهار غوامضها؛ كي لا يفوتك شيء من أسرارها، فاعلم الآن أن المركيز دي شمري الحقيقي وليس أنت، أي المركيز الذي تعقد الآن حفلة زواجه بابنة الدوق سالاندريرا لم يمت كما توهمت، ولم يفعل به رصاص مسدسك إلا كما فعل بي، وذلك أني نزعت الرصاص من المسدس، ولم يبق فيه غير البارود، فلما أطلقت مسدسك عليه تظاهر أنه أصيب برصاصة، وألقى نفسه في البحر كما ألقيت نفسي في الهوة، فغاص تحت المياه، وكان الظلام شديدا فلم تره حين بلغ الشاطئ تحت منزل ابنة الدوق.
ثم بأنه عندما تهان ابنة نبيلة كابنة سالاندريرا من مجرم سفاك مثلك، فهي تنتزع من قلبها كل رحمة وإشفاق في سبيل الانتقام؛ ولذلك فإني عندما سألتها أن تكتب إليك ذلك الكتاب الذي ألقاك في الفخ لم تتأخر هنيهة عن الكتابة.
فعلم روكامبول عند ذلك كل شيء، وأيقن أنه لم يخسر ابنة سالاندريرا ودوقيتها وملايينها ومركيزيته ومقامه، والأموال التي اغتصبها، بل إنه قد خسر أيضا حياته؛ لأنه رأى نفسه محاطا بأعدائه من كل جانب.
وكأنما هذا الموقف الشديد الذي بات فيه قد زاده جرأة لما تولاه من القنوط، فلم يحفل بما قاله زامبا، وابتسم له ابتسام الهازئ المستخف بالموت، فأجابه زامبا بأن ضغط على زر آخر ، ففتح ستار ظهر من ورائه أولئك الرهبان الثلاثة يوقدون النار، التي تقدم لنا وصفها، فأيقن روكامبول أنهم الجلاد ومساعداه.
ثم رأى وراءهم شخصا رابعا، فهلع قلبه لمنظره، وذكر ذلك الشعر الذي قاله دانتي أبو الشعراء الإيطالي، وهو «هنا يقطع كل رجاء».
أما هذا الشخص فكان امرأة لابسة ملابس سوداء، كما يلبس القضاة وكانت هذه المرأة باكارا ...
كثيرا ما يتفق للمجرمين أن تخور قواهم، ويغمى عليهم في مقاعدهم حين يسمعون صدور الأحكام من أفواه القضاة، غير أن روكامبول لم يكن من أولئك المجرمين، فإنه كلما زاد موقفه حرجا زاد جرأة بقدر ازدياد قنوطه يزيد إقدامه.
غير أنه لم يجد سبيلا للإقدام في تلك الساعة الرهيبة، فاكتفى بالجرأة وعدم المبالاة بالموت، وجعل ينظر إلى باكارا نظرات الاحتقار كمن يريد أن يموت موت الأبطال، ثم قال لها بلهجة المتهكم: لقد عرفت أنك كنت تسيرين من وراء زامبا وتدفعينه إلى ما فعل، فإن هذا الأبله ليس من رجالي.
فقالت له باكارا ببطء: لا تشتم ولا تتهكم؛ فإن ساعتك قد دنت.
فشتمها شتما قبيحا، وقال لها: إني أهزأ بك وبكل ما فعلتيه، ونعم إنك تستطيعين قتلي، غير أني لا أكترث للموت؛ لأني لم أكن مركيزا ولكن ابنة أعظم عائلة في إسبانيا أحبتني، والكونتس دي أسمول دعتني أخاها.
ثم ضحك ضحك الهازئ، وقال: ثم إني هتكت عرضك، وجعلتك مضغة في الأفواه بعد أن أصبحت مثال التوبة الصادقة، وذهبت بعقل زوجك، فاقتليني الآن كما تشائين فقد انتقمت لموتي قبل أن أموت.
ثم برقت عيناه ببريق من الإنذار الجهنمي، كأنما روح أستاذه السير فيليام قد مرت بعينيه.
غير أن باكارا قالت له بهدوء: إنك منخدع يا روكامبول، فإننا لا نريد قتلك! - إذن، فماذا تريدين مني؟ - انظر إلى ثوبك فإنه من ملابس المجرمين، وانظر إلى هذه الحلقة التي تحمى في النار المتأججة، فإنها ستطوق ساقك ويربط بها قيدك، فإن من كان مثلك لا يكفيه عقاب الموت؛ لأنه راحة لك، بل إن عقابك ينبغي أن يكون بالسجن المؤبد، حيث يندفع السجان بالسياط على كتفيك، ولا تلقى أثناء الليل وأطراف النهار غير الذل والشقاء والقنوط، وذكرى أيامك السابقة في باريس، أليس هذا العقاب أشد من الموت؟
ثم أشارت إلى الرهبان، فهجموا عليه وألقوه على الأرض وهو يصيح، ويقاوم دون جدوى، فلما تمكنوا منه رفع الجلاد ساقه إلى السندان، وأخرج آخر تلك الحلقة المحمية من النار، فأطفأها بالماء ووضعها على ساقه والدخان يتصاعد منها، ثم طواها وطرق بها الساق.
ولما انتهوا من وضعها تركوه ملقى على الأرض، وهو لا يستطيع حراكا لما ناله من الألم.
ودنت منه باكارا، فقالت له: إنك أرسلت المركيز دي شمري إلى السجن، فمن العدل أن تحل محله فيه، وأردت أن تتزوج ابنة الدوق باسمه، فمن العدل أن يحل محلك منها، وإنما عاملناك دون إشفاق؛ لأنك لم تشفق على أحد.
فصاح روكامبول يقول: لقد ساء فألك فإني سأتظلم أمام القضاة، وسأخبرهم بأنكم كنتم قضاتي، فلا أريد أن يحكم علي إلا في المحاكم. - إنك منخدع أيضا، فإن الحكم عليك قانوني، وقد وقع عليه في المراجع العالية، فإذا كان قد نفذ فيك العقاب داخل هذا الدير دون أن يقف على أمرك أحد، فما ذلك إلا صيانة لشرف أسرتين نبيلتين، وسيبقى سرهما مكتوما بالرغم عنك في سجن قاديس إلى الأبد، فإنك ستكون باسم ذلك الرجل الذي كان يدعي أنه المركيز دي شمري، فلا يصدقه أحد أفهمت الآن؟ - لا! فإن هذا المركيز لا يشبهني بشيء، وسيرى السجانون والمسجونون أنني غير ذلك المركيز. - إنك لا تزال منخدعا، فاعلم أنه قد يتسنى لبعض المسجونين أنهم يحاولون الفرار، فيشوهون وجوههم كي لا يعرفهم أحد متى باتوا خارج السجن، ويأمنون مطاردة الجنود.
فصاح روكامبول صيحة رعب؛ لأنه علم كل شيء ولكن الصيحة كانت آخر ما قاله، فإن يدا شديدة ضغطت على عنقه، وربض آخر على صدره كي يمنعه من الحركة، ثم أخذ راهب ثالث زجاجة، وصب ما فيها بإناء، بل به خرقة من الكتان، ثم وضعها على وجهه من الأنف إلى الذقن.
فأحس روكامبول بألم شديد لا يطاق، ولم يستطع أن يصيح أو يتخلص.
وقد فعلوا ذلك به بسرعة زائدة، ثم رفعوا عن وجهه الخرقة، ودنا زامبا منه فأخرج مرآة من جيبه وقال له: انظر إلى وجهك.
فنظر روكامبول إلى تلك المرآة، وأن أنينا شديدا؛ لأنه رأى أن وجهه قد تشوه أتم تشويه، بحيث لم يعد يعرف نفسه؛ لأنهم شوهوا وجهه بسائل الزاج.
وفي ذلك الوقت كانت أجراس كنيسة سالاندريرا تقرع، وكان المركيز دي شمري خارجا مع امرأته ابنة الدوق سالاندريرا.
30
بعد ذلك بخمسة أيام كان الفيكونت فابيان دي أسمول جالسا مع امرأته، وهي ظاهرة عليها علائم الانقباض، تشكو إلى زوجها انقطاع أخبار أخيها روكامبول عنها منذ سفره إلى إسبانيا، وهو يلاطفها ويعزو هذا الانقطاع إلى انهماكه في شئون زواجه.
وفيما هما على ذلك دخل خادم يحمل رسالة من إسبانيا، فأسرع الاثنان إليها وفضها فابيان فقرأ ما يأتي:
شقيقتي العزيزة بلانش
إنني أكتب إليك وزوجي العزيز مقيم بجانبي في مدريد ينظر ما أكتب، وإني أحب أن أكتب إليك كثيرا من الأمور، فلا أعرف كيف أبدأ، ولكن لا بد لي من القول قبل كل شيء أن أخاك أصبح زوجي، وأني بهذا الزواج من أسعد النساء.
إن عقد زواجنا قد تم أمس، وقد عقده لنا أسقف غرناطة في قصرنا في سالاندريرا بحضور أمي والموظفين عندنا.
وكان ينتظرنا على باب الكنيسة مركبة للسفر، وفيها أحد أركان حرب جلالة الملك، فسافرت فيها مع ألبرت إلى مدريد، وقدمت زوجي بنفسي إلى الملكة، فاستقبلته خير استقبال وقالت له: إني يا حضرة الدوق دي شمري سالاندريرا قد وقعت اليوم على الأوراق القاضية بنقل جميع ألقاب الدوق دي سالاندريرا إليك، وكنت عزمت من قبل على تعيينك سفيرا لمملكتي في البرازيل، غير أني خشيت عليك وعلى امرأتك مناخ تلك البلاد، فعينتك لمثل هذا المنصب في الصين، حيث تغيب عن أوروبا أربعة أعوام على الأقل، وأنا أعلم بأن هذه المهمة شاقة صعبة عليك، ولكني أؤمل أن يخفف عنك حبك لامرأتك أثقالها.
ولما فرغت من إلقاء أوامرها قدمت له يدها، فقبلتها ثم دعتنا إلى العشاء على مائدتها الخاصة.
ويسوءني أيتها الحبيبة أننا سنفترق عنك أربعة أعوام، غير أن عزائي أن ألبرت قد دخل في سلك السياسة، فبدأ بالمنصب الذي ينتهي إليه أمل الطامعين أي: إنه بدأ بمنصب سفير، وهو خير ما يطمع به رجال السياسة بعد الصبر الطويل.
والآن فإننا سنسافر بعد يومين، وستبقى أمي في إسبانيا، ولكنها ستحضر إلى باريس في الشتاء القادم، فتحدثيها عنها بما تشتهين.
إن ألبرت يحب أن يكتب لكم بالرغم عما هو فيه، ولا يزعجك هذا القول، فإنه بينما كان يفتح أمس زجاجة كسرت، ودخلت قطعة من زجاجة في سبابة يده اليمنى فجرحتها، بحيث لا يستطيع الكتابة بيده اليمنى عدة أيام؛ ولذلك فهو يكتب لك باليد اليسرى.
الوداع أيتها الحبيبة، وعسى أن نلتقي في باريس قريبا بإذن الله، والسلام عليك وعلى زوجك العزيز فابيان.
كونسبسيون
وقد أضاف المركيز دي شمري الحقيقي بضعة أسطر على هذا الكتاب بيده اليسرى، وإنما اختلقوا حكاية جرح يده؛ كي لا تنتبه الفيكونتس دي أسمول إلى تغير الخط؛ لأنها تعرف خط روكامبول.
وبعد أن اطمأن خاطر الفيكونتس على أخيها تركها زوجها فابيان، وذهب إلى النادي فوجد فيه العديد من أصحابه وأصحاب روكامبول، ولم يكن حديثهم غير زواج المركيز دي شمري بابنة الدوق، وليس بينهم من يعرف شيئا من حقيقة حال روكامبول.
وبينما فابيان جالس بينهم إذ دخل رولاند دي كايلت، فعجب أعضاء النادي لقدومه بعد طول احتجابه عنهم، وكان معظم عجبهم مما رأوه من دلائل الرزانة بعد ما عهدوا به من الطيش والنزق.
غير أن رولاند لم يحفل بعجبهم، فحياهم بوقار إلى أن وصل إلى فابيان فسلم عليه، وقال له: أتأذن لي يا سيدي الفيكونت بمقابلة؛ فإني قادم من منزلك ولم أرك؟
فعجب فابيان، وقال له: إن العلائق مقطوعة بيننا، فما يدعوك إلى هذه المقابلة؟
وكان فابيان يكلمه بلهجة تشف عن الاحتقار، فلم يحفل به رولاند، وقال له: لا أنكر عليك حقك بهذا الاحتقار، غير أني ألتمس منك أن تأذن لي بهذه المقابلة. - وماذا تريد مني؟ - لا أطلب إليك أن ترجع عن اعتقادك السابق بي، ولكني أسألك أن تزورني هذا المساء في منزلي. - لأي قصد؟ - لا أستطيع أن أقول لك شيئا الآن، غير أني ألتمس منك مقابلة باسم الصداقة القديمة المؤسسة بين عائلتينا. - حسنا فسأذهب، ففي أية ساعة تريد أن يكون اللقاء؟ - في الساعة التاسعة من المساء.
31
قبل أن نتبع الفيكونت دي أسمول إلى منزل رولاند، نذهب بالقارئ إلى قصر الكونت إرمان دي كركاز، فنقول: كان هذا الكونت جالسا في غرفته قبل هذه الحادثة المتقدمة ببضع ساعات، وكان يقرأ في جريدة إسبانية حادثة فرار المركيز دي شمري من سجن قاديس وتشويه وجهه، والقبض عليه على ما مثلته باكارا، وهو لا يفهم شيئا من هذه الألغاز.
وبينما هو مضطرب في أمره إذ دخل عليه فرناند روشي، فسر بلقياه سرورا عظيما وبعد أن جلس أمامه أخبره الكونت بخلاصة ما قرأه في الجريدة، وأنه لم يعلم شيئا من هذه المعميات، فقال له فرناند: إني أتيت الآن من إسبانيا، وسأخبرك بكل شيء. - قل إذن ماذا حدث؟ - تم كل شيء. - كيف ذلك؟ - تزوج المركيز بابنة الدوق. - أي مركيز؟ - المركيز الحقيقي الذي كان في سجن قاديس. - إذن فما هذه الجريدة، وأي مركيز تعني بتفاصيلها؟
فابتسم فرناند، وقال: ذلك من صنع باكارا، فإنها أخرجت من السجن المركيز الحقيقي، ووضعت بدلا منه روكامبول باسم ذلك المركيز، بعد أن شوهت وجهه أبشع تشويه؛ كي لا يعرف السجان والمسجونون وجهه.
ثم أخبره بجميع تلك الحيلة بالتفصيل كما قدمناه.
فأعجب الكونت إرمان بدهاء باكارا، وقال له: أين هي الآن تلك الكونتس العزيزة؟ - لقد تقدمتني بساعة ولا بد أن تكون الآن في باريس.
وبينما الاثنان يتحدثان بحديثهما إذ دخل خادم يحمل إلى الكونت رسالة منها، فعضها وقرأ فيها ما يأتي:
أيها الكونت العزيز
لقد عهدت إلى فرناند أن يخبرك بكل ما جرى، وأنا أكتب إليك الآن على عجل؛ كي أخبرك أن عدونا العام قد قص جناحاه، ولم يبق علينا غير الاهتمام بتبرئتي من تلك الوصمة الشائنة، التي وصمني بها قبل الانتقام منه؛ ولذلك فإني أنتظر قدومك إلي في هذا المساء في منزل المسيو رولاند دي كايلت.
الكونتس أرتوف
أما باكارا فإنها وصلت إلى باريس قبل أن يصل إليها فرناند بساعة، فذهبت توا إلى أختها سريز، وسألتها عن زوجها الكونت، فأخبرتها أنه بخير، وأن حالته قد تحسنت تحسنا عظيما، بحيث عاد إليه بعض صوابه وصار يعرف أنه الكونت أرتوف، وليس رولاند دي كايلت كما كان يعتقد في بدء جنونه.
فسرت باكارا سرورا لا يوصف؛ لأنها عدت ذلك خير مقدمة لشفائه، ثم ذهبت بأختها سريز إلى أختها ريبيكا.
فسارت الأخوات الثلاث إلى منزل باكارا، فوجدت فيه رسالة من رولاند، ففضتها بلهف وقرأت فيها ما يأتي:
وصلتني رسالتك من مدريد أول أمس، وأنا في كايلت فامتثلت لأمرك، وأسرعت إلى باريس وها أنا الآن فيها أنتظر أوامرك.
فأخذت باكارا ورقة في الحال وأجابته قائلة: «إني مرسلة إليك أختي ريبيكا، فهي تخبرك بما أريده منك، والآن أسرع إلى الفيكونت دي أسمول، واطلب إليه أن يكون في منزلك في الساعة التاسعة، وسأكون أنا أيضا فيه في تلك الساعة.»
ثم كتبت إلى إرمان دي كركاز الرسالة التي تقدم شرحها، وبعد أن أرسلت ريبيكا إلى رولاند قالت لأختها سريز: هلمي بنا الآن إلى حيث يقيم زوجي، فقد سبقني الطبيب صموئيل إليه؛ ليعلم إذا كانت حالته العقلية تسمح له أن يراني.
32
في الساعة التاسعة من مساء اليوم نفسه جاء الفيكونت فابيان إلى منزل رولاند، حسب الاتفاق فوجد رولاند بانتظاره، وبعد أن احتفل به خير احتفال دار بينهما الحديث الآتي، فقال فابيان: أرأيت كيف أني كنت حريصا على اللقاء على ما بيننا من النفور؛ وإنما أتيت لأنك طلبت إلي هذا اللقاء باسم عائلتينا؛ ولأرى شؤونك الخطيرة التي دعوتني إليها. - إني قادم يا سيدي من قرية فرانش كونته، حيث كنت فيها لتسوية إرث عمي. - لقد عرفت هذا.
وقد كنت أنت أيضا في تلك الجهة في قصر هوتبا، حين توفي الدوق دي سالاندريرا فجأة، وكنت أود مقابلتك هناك، فما تيسرت لي المقابلة، والآن فإني ما طلبت إليك هذا اللقاء، إلا لأطلب منك الإيضاح عن الخطة التي نهجتها معي. - إني كنت صديقك، بل إني كنت أعد نفسي بمثابة أخيك الكبير، فأنظر إليك بعين الإخاء وأقوم ما اعوج من مناهجك، وأصلح ما فسد من أمورك بيد الإخلاص إلى أن علمت يوما ...
فقاطعه رولاند وقال: إني أعلم ما تريد أن تقوله لي: فإنك تريد أن تقول: بأني تجاسرت يوما على إهانة امرأة، ووصمتها بوصمة عار لا تمحى فلم تجد بدا من احتقاري؛ لأني ما جريت مجرى النبلاء أليس هذا الذي تريد أن تقوله لي يا سيدي؟
فسكت فابيان وكان سكوته أبلغ جواب.
غير أن رولاند لم يحفل بهذا السكوت، ومضى في حديثه فقال: إني لم ألتمس منك يا سيدي هذه المقابلة؛ كي أرجعك عن سابق اعتقادك بي، وأنا أحتمل احتقارك لي؛ لأن مهمة اجتماعي بك غير خاصة بي. - بمن؟ - بتلك المرأة الطاهرة التي دنست سمعته أي: الكونتس أرتوف.
فابتسم فابيان ابتسامة هزء، وقال له: ألعلك تريد أن ترجع لها شرفها المفقود؟ - ذلك لا ريب فيه. - أمام من؟ - أمامك قبل كل الناس.
فاستاء فابيان وقال: إنك تعلم بأننا لم يعد بيننا ذلك الوداد القديم، الذي يؤذن لك بممازحتي إلى هذا الحد. - إني لا أمزح بل أقول الجد. - أي جد هذا؟! ألعلك نسيت أني رأيتها من ثقب باب غرفتك في تلك الغرفة، وسمعت ما كان يدور بينكما من الحديث؟ - يحق لك يا سيدي أن تقول لي جميع هذا القول، ويسوءني أني لا أستطيع أن أجيبك الآن، ولكني سأبرهن لك بعد بضع دقائق بأصدق البراهين.
فجعل ينظر إليه نظر الفاحص، وهو يحسب أنه فقد صوابه، ثم قال له: أتنتظر قدوم زائر؟
وعند ذلك طرق الباب فتركه رولاند، وذهب ففتح ودخل يصحبه الكونت إرمان دي كركاز.
فزاد عجب فابيان؛ لأنه كان يعلم أن رولاند لا علاقة له مع إرمان، وبعد أن عرف رولاند كلا من زائريه بالآخر، قال له فابيان: ألعلك كنت تنتظر حضرة الكونت؟ - نعم ... ولكني أنتظر شخصا ثالثا أيضا وهو الكونتس أرتوف. - أفي عزم الكونتس أن تحضر إلى هنا؟
فلم يجبه رولاند؛ لأنه سمع طرق الباب وخرج ليفتح.
وفي خلال ذلك دار الحديث الآتي بين فابيان وإرمان، فقال له إرمان: أتعرف يا سيدي الفيكونت الكونتس أرتوف حق المعرفة؟ - نعم؛ فإن زوجها كان من أخلص إخواني. - أتظن أنها مذنبة كما يقولون؟ - وا أسفاه! يا سيدي إني واثق كل الثقة؛ لأن لدي برهانا لا يدحض. - أما أنا فإني أعتقد أنها بريئة خلافا لما يعتقده الناس.
فابتسم فابيان ابتسام الحزين، وقال: يظهر يا سيدي الكونت أنك دعيت إلى هذا المنزل لنفس السبب الذي دعيت أنا من أجله؟ - ربما كان ذلك كما تقول. - إن المسيو دي كايلت كان من أصدقائي، ثم قطعت بيننا العلائق لسوء سلوكه مع الكونتس، ولكنه أقبل يسألني أن أوافيه اليوم في الساعة التاسعة إلى منزله. - وأنا وردني كتاب من الكونتس بهذا المعنى. - ولست أعلم كيف يستطيع رولاند أو الكونتس أن يبرهنا لنا عن خطأ الناس فيما يعتقدون. - أما أنا فإن ثقتي شديدة. - إذن فإنك لا تعلم ما أعلمه، فإني كنت ليلة مختبئا في هذا البيت ورأيتها فيه. - رأيت من؟ - الكونتس أرتوف، وقد رأيت رولاند على ركبتيها، وسمعت حديث الغرام بينهما.
فقاطعه إرمان وقال: أرأيتها بعينك؟ أأنت واثق مما تقول؟ - وا أسفاه! نعم يا سيدي، وليس لدي بتهتكهما أقل شك.
وقد حاول إرمان أن يجيب، ولكنه لم يجد سبيلا فإن الباب فتح عند ذلك، ودخلت منه امرأة فأزاحت البرقع عن وجهها، وسلمت على إرمان وفابيان فانحنيا أمامها بملء الاحترام فإنها كانت باكارا.
غير أنه في الوقت نفسه فتح باب مشرف على القاعة ودخلت منه امرأة، فما أوشكت أن تزيح قناعها حتى تراجع إرمان وفابيان منذعرين؛ ذلك أنهما رأيا أن تلك الداخلة كانت باكارا نفسها، وقد وجدا في تلك القاعة اثنتين لم يعلما أيتهما الكونتس أرتوف من شدة ما كان بينهما من الشبه.
وساد السكوت بين الأشخاص الخمسة، الذين ضمتهم تلك الغرفة، فكان فابيان يقلب طرفه بين تينك الامرأتين، وهو لا يعلم أيتهما الكونتس أرتوف الحقيقية.
أما إرمان دي كركاز، فلم يطل تردده ونظر إلى الاثنتين نظر الفاحص، ثم دنا من باكارا فوضع يده بيدها، وقال: أنت هي الكونتس.
أما فابيان فقد ظهرت بين ثناياه علائم البله، وجعل يقول: لا شك أني حالم.
غير أن إرمان قال له: كلا يا سيدي فإنني قد علمت كل شيء، وأن تلك المرأة التي رأيتها ...
وعند ذلك دنت ريبيكا من فابيان، وقالت له: إني أنا تلك المرأة التي رأيتها في هذا المنزل يا رولاند.
وكانت باكارا تنظر إلى هذا المشهد، وتبتسم ابتسام الحزين، ثم قالت تخاطب إرمان وفابيان: أسألكما العفو يا سيدي، فإني ما دعوتكما إلى هذا المنزل إلا لأبرئ نفسي من تلك الوصمة التي وصمني بها رجال المكر والدهاء، فلاقوا جزاء ما كانوا يصنعونه، ولا بد لي أن أبرأ أمامكما؛ كي أبرأ أمام جميع الناس.
فقال فابيان مشيرا بيده إلى ريبيكا اليهودية، التي كانت مطرقة بنظرها استحياء إلى الأرض: من هي هذه المرأة؟
فأجابته باكارا: إنها أختي من أمي، وقد كانت تكرهني كرها شديدا، فسول لها هذا الكره أن تكون آلة صماء بيد عدو لي هائل.
فأجفل فابيان لذكر العدو، وقد حسب أن باكارا تعني به رولاند، فنظر إليه نظرة احتقار شديد.
غير أن باكارا علمت ما كان يجول بنفسه فقالت له: لقد أخطأت يا سيدي فليس رولاند ذلك العدو، بل إنه نفسه كان آلة صماء.
ثم مدت يدها إلى رولاند، وقالت له: لقد دفعك نزق الشباب إلى فعل ما فعلت، وها أنا صافحة عنك، بل إني سأبرهن للفيكونت أنك أهل لصداقتي.
وعند ذلك قصت باكارا على الحاضرين جميع تلك الحكاية، التي ذكرناها دون أن تذكر اسم روكامبول.
فقال إرمان: عرفت الآن ذلك العدو.
أما فابيان فإنه لم يعلم شيئا، وقال: من عسى يكون هذا الرجل الجهنمي، الذي يجسر على ارتكاب مثل هذه الذنوب الهائلة؟
فقالت باكارا: عفوك يا سيدي ائذن لي كتمان اسمه، فإن أمره سيبقى مكتوما إلى الأبد، ولكني لا أكتمك أنه نال فوق ما يستحق.
فقال الفيكونت: ألعله عوقب؟ - نعم؛ إنه زج في السجن وسيموت فيه ...
وبعد ذلك بساعتين دخل الفيكونت فابيان ورولاند دي كايلت إلى النادي، الذي أهين فيه اسم الكونت أرتوف منذ بضعة أشهر، وبات أعضاؤه واثقين من أن الكونتس كانت تحب رولاند، وقد خانت زوجها من أجل هواه.
وكان جميع الأعضاء مجتمعين في تلك الساعة يتقامرون على طاولة واحدة.
فوقف فابيان بينهم، وقال لهم بصوت جهوري: أسألكم أيها السادة أن تدعوا اللعب هنيهة، فإني محدثكم بشأن خطير.
ولما رأى فابيان أن الأنظار اتجهت إليه قال لهم: إني أدعوكم جميعا إلى الأوبرا يوم الجمعة القادم.
فقال بعضهم: ألعلهم سيمثلون رواية جديدة؟ - كلا بل إني أدعوكم؛ لتنظروا فيها امرأة لفحتها نار النميمة وهي الكونتس أرتوف، وتروا بجانبها امرأة أخرى تشبهها شبها غريبا، بحيث يستحيل على الناظر إليهما أن يعلم أيتهما الكونتس، وإني أقسم لكم بالشرف المقدس أن صديقي رولاند قد خدعته تلك المرأة التي تشبه الكونتس، وأن الكونتس أرتوف من أطهر النساء.
فذهل الجميع لهذا النبأ الخطير، غير أنهم وثقوا كل الثقة من كلام فابيان، وزالت عن باكارا وصمة العار.
33
ولنعد الآن إلى باكارا، فإنها ذهبت مع أختها سريز إلى حيث يقيم زوجها والطبيب صموئيل، فلما وصلت إلى المنزل فتح لها الباب الطبيب نفسه، فنظرت باكارا إليه محدقة تستطلع من هيئته ما تريد معرفته عن صحة زوجها، فأخذ يدها وقال: اطمئني يا سيدتي فإن أمل الشفاء قريب.
ثم أخذ بيدها وصعد تتبعه سريز إلى القصر، وأقامها في غرفة خاصة غير أن باكارا فرغ صبرها، وقالت له: إني أريد أن أراه. - كلا يا سيدتي فلم يحن الوقت بعد، غير أني أعود إلى تطمينك، فإن كل خطر زال عنه. - إذن فلماذا تمنعني عن رؤياه؟ ألعل يوجد ما يحول دون هذا اللقاء؟ - كلا يا سيدتي، إنما أطلب منك أن تسمحي لي أن أسألك سؤالا واحدا؟ - تكلم وأسرع. - إذا خيروك بين أن تنظري زوجك في الحال، فتؤخري شفاءه وبين أن لا تنظريه إلا بعد بضع ساعات، ويكون شفاؤه قريبا فأي الأمرين تختارين؟ - أوضح يا سيدي الطبيب ما تقول، فلقد شغلت بالي. - إذن فأصغي إلي، إن الدواء الذي عالجت به الكونت قد فعل به فعلا شديدا، وسار به سيرا سريعا إلى الشفاء، وهو لا يزال مجنونا غير أن شكل جنونه قد تغير، فهو يعرف الآن أنه الكونت أرتوف، ولم يعد ينكر نفسه كما كان يفعل من قبل؛ ولهذا يا سيدتي أخشى إذا أذنت له برؤياك أن ينتكس. - لماذا؟ - لأنه إذا رآك تعود إليه الذكرى القديمة.
فأطرقت باكارا برأسها، وقالت: اشفه يا سيدي فإني أؤثر شفاءه، ولو قضي علي أن لا أراه إلى الأبد. - كلا يا سيدتي إنك تبالغين في مخاوفك، فإني لا أسألك أن تحتجبي عنه غير بضع ساعات فقط.
وما زال بها حتى اطمأنت لوعوده، فقال لها: عودي الآن إلى المنزل، واجتهدي أن ترسلي إلي الفيكونت فابيان في صباح الغد.
فخرجت باكارا والدموع ملء عينيها، وعادت مع أختها سريز، وهي لا تعلم شيئا من مقاصد الطبيب، فاجتمعت بالفيكونت فابيان، وأخبرته بما يطلب إليه الطبيب.
وفي اليوم التالي ذهب فابيان إلى القرية التي يقيم فيها الكونت أرتوف، فاستقبله الطبيب صموئيل وخلا به مدة طويلة علمه خلالها ما يجب أن يصنع.
وبعد أن فرغ من حديثه تركه، ودخل إلى غرفة الكونت أرتوف، وكان لا يزال نائما فإن الطبيب كان خدره تلك الليلة، وعالجه المعالجة الأخيرة فاستيقظ الكونت، وجعل يدير في الغرفة نظرا مضطربا حتى استقر نظره على الطبيب، فقلب طرفه فيه مرارا، وقال له: من أنت؟
فقال الطبيب: أنا طبيبك يا سيدي. - وما شأن الطبيب عندي؟ هل أنا مريض؟ - لقد كنت مريضا يا سيدي الكونت واليوم شفيت بإذن الله. - أطالت مدة مرضي؟ - ثلاثة أشهر. - ما هذا النبأ الغريب، إني لا أذكر شيئا من هذا وأين أنا الآن؟ - إنك في منزلك في قرية فونتيناي. - ألعلك تهزأ بي؛ فإني لا أذكر أن لي قصورا في هذه القرية؟! - كلا يا سيدي وسأقدم لك صديقا إذا نظرته تذكر كل شيء، ثم صفق بيديه ففتح الباب ودخل فابيان.
فلما رآه الكونت ضرب جبينه بيده، وصاح صيحة يأس وهو يقول: لقد ذكرت كل شيء. ثم تراجع إلى الوراء حتى لصق بالجدار، وهو ينظر إلى فابيان نظرة المنذعر: أأنا في يقظة أم أنا في حلم؟ كلا، بل أنا في يقظة فإني نمت في منزلك ليلة المبارزة ... ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟
فدنا منه فابيان، وقال له: إني سأخبرك بكل شيء.
وعند ذلك خرج الطبيب من الغرفة، وبقي الكونت وفابيان منفردين.
34
وأخذ فابيان يد الكونت، وقال له: سكن روعك واجلس بجانبي، فسأخبرك بكل شيء كما وعدتك. - قل فإني مصغ إليك. - إنك كنت مجنونا أيها الصديق. - ذلك أكيد كما يظهر لي؛ لأني لا أعلم كيف أتيت إلى هذا المنزل. - إنك هنا منذ شهر، ولكنك قبل أن تأتي إلى هذه القرية كنت في نيس. - ما هذه الغرائب التي لم أسمعها، فإني لا أذكر شيئا منها، وقبل ذلك أين كنت؟ - كنت في منزلك في باريس حيث كانوا يعالجونك فيه. - ومن أي حين ذهب عقلي؟ - منذ ثلاثة شهور.
فوضع الكونت يده على جبينه كي يتذكر، ثم قال بعد هنيهة: كيف كان جنوني؟ وفي أي حين؟ - في حين كنت عازما على مبارزة خصمك رولاند دي كايلت، وقد ذهب صوابك في ساحة المبارزة فجثوت أمام خصمك، ثم اختلط عقلك فحسبت خصمك الكونت أرتوف، وحسبت نفسك رولاند دي كايلت. - رباه! ماذا أسمع؟! أصحيح ما تقول؟ - أقسم لك بالشرف. - وبعد ذلك ماذا جرى؟ - ذهب الشهود بك إلى منزلك. - إلى منزلي أنا في شارع بيبينار؟ - نعم أيها الصديق. - ولكني أرجو أنها كانت غائبة على الأقل.
وقد أضمر عن زوجته باكارا؛ لأنه لم يجسر على أن يذكر اسمها. - بل كانت فيه. - وقد رأتني؟ - نعم، وهي التي كانت تتولى العناية بك، وهي التي ذهبت بك إلى نيس. - أواه! إنها خيانة لا تغتفر، ولا بد لي من الانتقام. - إني أتيت لأقترح عليك هذا الانتقام ؛ إذ يجب قتل رولاند والمرأة التي أحبته، فإنها لم تقف بخيانتها عند حد، وقد اغتنمت فرصة جنونك للتمادي في غيها.
فاصفر وجه الكونت من الغيظ، وقال: إن دور الجنون قد انقضى وقد بدأ دور الانتقام الرهيب، وسيرى الخائنان كيف تكون عواقب الإثم.
فأخذ فابيان رسالة من جيبه وقال له: خذ واقرأ أيها الصديق.
ثم أعطاه رسالة لا توقيع فيها، ولكن خطها يماثل خط باكارا.
وكانت هذه الرسالة إحدى الرسائل التي كانت ترسلها ريبيكا إلى رولاند، فيقلد فيها روكامبول خط باكارا تقليدا عجيبا، بحيث لا يشك عارف خطها أنها هي التي كتبته.
فأخذها الكونت أرتوف، وقرأها ولم تكن تتضمن غير هذا السطر وهو:
أنتظرك في الساعة الحادية عشرة في المنزل الصغير.
فلما قرأها الكونت قال له فابيان: أرأيت كيف أنها تنتظره؟
فاضطرب الكونت أرتوف، وقال له: أين هو هذا المنزل؟ - في باسي، وقد استأجرته خاصة لهذا الغرض. - ومتى يجتمعان؟ - اليوم ... - أتعرف المنزل؟ - نعم ... - إذن هلم بنا فإن صدري يكاد ينفجر.
فوافقه فابيان ونادى الكونت خادم غرفته، فألبسه ملابسه بسرعة عظيمة، وخرج الاثنان من القاعة ومرا بالحديقة، فجعل الكونت ينظر إلى ما يحيط به نظرة المنذهل، ثم قال لفابيان: تقول أني هنا منذ شهر؟! - نعم أيها الصديق. - أكنت أتنزه تحت هذه الأشجار؟ - كل يوم. - إني لا أذكر شيئا من هذا، ولا بد أن تكون رؤياك التي شفتني من جنوني. - كلا، بل إن الذي شفاك دواء هندي عالجك به الطبيب صموئيل، الذي رأيته في منزلك الآن. - كل ما سمعته غريب. - إنك سترى أغرب من جميع هذا عند رجوعك من باسي. - لماذا لا تقول لي الآن عن هذه الغرائب القادمة؟ - كلا، لا أقول شيئا إلا بعد أن تشفي غليلك من الانتقام.
ثم أخرج من جيبه الداخلي خنجرا، فأعطاه للكونت، وقال له: انتقم بهذا الخنجر فهو أسرع في قضاء الحاجات.
فأخذه الكونت، وقال له: كن واثقا؛ فإن يدي لا تضطرب.
وبلغ الاثنان وهما يتحادثان إلى باب الحديقة، وكانت مركبة فابيان تنتظر فركباها، وأمر فابيان السائق أن يسير إلى شارع باسي، وعين له نمرة المنزل، فسارت المركبة سيرا حثيثا حتى بلغت إلى المنزل المعين، فوقفت ونزل منها الاثنان، فقال الكونت أرتوف: انظر إلي، ألا ترى وجهي مصفرا؟ - نعم! - إن هذا الاصفرار دليل الغضب عندنا نحن الروسيين أهل الشمال، فإن كل روسي إذا أهين تذهب منه عواطف الإشفاق، ويذكر أنه تتري من أصل جنكيز خان.
فلم يجبه فابيان ودنا من باب ذلك المنزل الذي كانت ريبيكا تستقبل فيه رولاند، وطرقه ففتحت له خادمة، ولما رأت هذين الرجلين تظاهرت بالاضطراب، وقالت لهما: إن سيدتي ليست بالمنزل.
فقال فابيان: كلا بل إنها في منزلها ولا تجزعي منا فنحن أصدقاء رولاند.
ثم دخل وتبعه الكونت قبل أن يدع لها وقتا للاعتراض، فمشى أمام رفيقه حتى اجتاز الدور الأول، فنظر إلى الكونت فرآه يمشي بأقدام ثابتة، غير أن اصفرار وجهه كان يشبه اصفرار الأموات، وكانت عيناه تتقدان ويتطاير منهما اللهب.
فوضع فابيان أذنه على أحد الأبواب، وقال للكونت: تعال واسمع فإني أسمع صوتيهما، فأتى الكونت ووقف يصغي إلى تلك الأصوات فاضطرب وهاج هياجا شديدا؛ لأنه سمع صوتا يعرف صاحبه.
ثم نظر من ثقب قفل ذلك الباب، فرأى الكونتس أرتوف جالسة على مقعد، وبجانبها رولاند ماسكا يديها، وهي تنظر إليه نظرات العشاق، وتقول له بغنج ودلال: إذن فإنك لا تزال تهواني.
فقال لها رولاند: أحبك حبا لا يفنى و...
ولكن الكونت لم يدعه يتم حديثه، فإنه دفع الباب برجله فانكسر، ودخل وهو يزأر زئير الأسود والخنجر مشهر بيده.
وفي الوقت نفسه وبسرعة البرق فتح باب آخر مقابل للباب الذي كسره، ودخلت امرأة فحالت بين الكونت وبين العاشقين، فما أوشك الكونت أن ينظر إليها حتى وقف وقفة الأبله، وسقط الخنجر من يده، فإن تلك المرأة التي دخلت كانت الكونتس أرتوف أيضا، ولكنها كانت أكثر جمالا وأنضر شبابا من الكونتس أرتوف الأخرى.
فلما رأت ما كان من سقوط الخنجر من يد الكونت وانذهاله دنت منه بمظاهر الكبرياء، ووضعت يدها على كتفه، وقالت: أية هاتين المرأتين الكونتس أرتوف أيها الزوج العزيز؟
فصاح الكونت صيحة فرح، وقد عرف كل شيء، ثم جثا أمام باكارا يلتمس منها العفو فلم يستطع أن يقول كلمة وسقط مغميا عليه.
وعند ذلك دخل الطبيب وقال لباكارا: اطمئني يا سيدتي؛ فإن هذه الحادثة الأخيرة أنقذته.
وفي المساء كان الكونت أرتوف لا يزال منحط القوى إثر إغمائه، وكان جالسا على كرسي كبير في منزل باسي، وأمامه باكارا والطبيب صموئيل ورولاند دي كايلت الذي صافحه الكونت مصافحة الإخوان، فزال ما بينهما من الأحقاد؛ لأنه أخبره بجميع ما حدث له من مكايد روكامبول، وبعد حين انصرف الجميع ولم يبق أمامه غير باكارا، فطوقت عنقه بذراعها وجعلت تعانقه ودموع الفرح تنهل من عينيها، وهي تقول: لقد زال الآن كل خطر، فإن أندريا هوى إلى ظلمات الأبد وروكامبول زج في أعماق السجون، فلأنس شقائي بقربك؛ إذ ليس ما يمنعني الآن أن أعيش لك وبك.
ودارت قبلات الحنو بين الزوجين، فلم يقطعها غير كلمة «أحبك».
أما روكامبول فإنه بقي في سجن إسبانيا نحو عام، ثم أرسل إلى سجن طولون في فرنسا.
وقد اتفق أنه بعد خمسة أعوام مرت بهذه الحوادث كان الفيكونت فابيان وامرأته بلانش في طولون، فخطر لهما أن يزورا سجنها الرهيب، وفيما هما يطوفان فيه ومعهما رئيس ذاك السجن؛ إذ رأيا أحد أولئك المجرمين المنكودين ممددا على الأرض، كأنما التعب أضنى جسمه فلم يستطع حراكا، فلما رأى هذا المجرم الرئيس هم أن يقف كي يحييه، ولكنه ما لبث أن وقف حتى سقط لضعفه وأن أنين المتألم.
فأشفقت عليه بلانش، وقالت للرئيس: ما شأن هذا المسكين؟ - إنه مركيز يا سيدتي وقد صدعت رجله في هذا الصباح، وسينقل إلى المستشفى في المساء.
فعجبت بلانش لكلامه، وقالت: كيف يكون مركيزا ويكون في السجن؟ - إنه مركيز وغاية ما أعلمه من أمره أنه حاول الفرار منذ خمسة أعوام، فشوه وجهه كي لا يعرفه من يطارده، ولكنه قبض عليه ورد إلى مكانه في السجن.
وعند ذلك صرخ هذا المركيز متألما، فدنت منه بلانش وزوجها وهي راثية لحاله، فلما رآهما روكامبول صاح صيحة منكرة، فحسبت بلانش أنه يصيح من الألم، فتوجعت لمصابه وأخذت من جيبها عدة فرنكات، فأعطته إياها وقالت له: استعن بهذه الفرنكات على حالك ولا تقنط من رحمة الله.
ثم احتجبت عنه مع زوجها دون أن تعرفه لتشوه وجهه، غير أن روكامبول عرفها وتمثلت له باريس وزخارفها، وسابق أيامه فيها فأن ذاك الأنين، ثم سقطت دمعتان على خديه وقال: كل ما لقيته من العذاب لم يكن شيئا مذكورا، والآن قد بدأ العذاب الصحيح.
مقدمة
أنطوانيت
مقدمة
أنطوانيت
سجن طولون
سجن طولون
روكامبول (الجزء الخامس)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
مقدمة
1
انتصفت الشمس في السماء ودقت الساعات مؤذنة بحلول الظهر، فقرع جرس السجن يبشر بوقت الراحة المباحة للأشقياء المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وكان التعب الشديد قد أضنك أجسامهم فجعلوا يتراكضون إلى حيث يوجد الظل؛ لأن شمس يونيو كانت تبسط على طولون شعاعا محرقا، فالتجأ بعضهم إلى ظل مركب قديم العهد قد لعبت به يد التلف ولم يبق منه غير الوسط الأسفل، وجلس البعض تحت ظلال الأخشاب التي تعد لبناء المراكب، وتوسد آخرون الرمال متعرضين لحرارة الشمس المؤثرة بإزاء دار الأسلحة، وجعل آخرون يتنزهون كل اثنين معا، فيتمشون ذهابا وإيابا يشملهم الهدوء، وتصوب عليهم الشمس شعاعا لم يكترثوا له وإن كان محرقا.
ومن عادة المسجونين أن يسمى كل منهم بنمرة خاصة، وكان الشقي الذي نمرته 117 جالسا مع آخر على انفراد، فخطر لرفيقه هذا أن يتركه ويأتي إلى الجماعة القائمين في ظل المركب القديم ليسمع القصة التي يتحدثون بها، فنظر إلى المائة وسبعة عشر فرأى عينيه تكادان تغمضان من شدة نعاسه، فقال له: إذا كنت تريد النوم فأنا أريد الذهاب إلى ظل المركب لأسمع الأخبار التي يروونها فهلم نذهب معا، وإذا كنت تريد البقاء هنا لتمتع عينيك بلذة الرقاد فأنا أدعك تنام على شرط أننا نلعب بالورق قبل افتراقنا، فإذا غلبتني فنم مطمئنا، وإلا فتذهب معي لنجلس مع رفاقنا في ظل المركب ، ونسمع قصة الكوكوديس كما يدعوه الرفقاء.
فاستعد الاثنان للعب وأخذ 117 من قبعته ورقا للعب كان يضعه فيها على رأسه، فلعبا المرة الأولى وكان هو الرابح، ولعبا دورا ثانيا فربح 117 أيضا وكان بارعا باللعب وله فيه تفنن وحيل كثيرة.
وكان الشقي الآخر في أول الدور يلوح له أنه سيكون ظافرا فلا يلبث 117 أن يقدح زناد الحيلة ويكون هو الظافر.
وبعد أن لعبا دورا ثالثا فرابعا وكان الربح في جميعها لل 117، نظر إلى رفيقه قائلا: وماذا تريد بعد ذلك؟
فكادت عين هذا الشقي تقدح شرارا وقد تجهم وجهه الوحشي، وابتسم ابتسامة استهزاء وقال لرفيقه 117: لا بأس فلنعلب أيضا.
فلعبا دورا جديدا فكان فيه خاسرا كعادته في الخسارة، فغضب عندئذ وقال: لم أعد أريد سماع قصة الكوكوديس فأنا أبقى هنا.
فترك 117 الورق وتوسد الأرض واستغرق في النوم. أما هذا الشقي الذي كان الخاسر فيدعى ميلون، وهو بعد أن نام الشقي الرابح الذي لم يكن يدعوه الرفقاء إلا باسم 117، جلس حائرا يرسل أبصاره إلى الجماعة الذين تحت ظل المركب وهم جالسون في خيمة تظلهم من الشمس، ولا تزال نفسه تناجيه بالذهاب إليهم، إنما أبى ذلك بعد خسارته كما أظهر لرفيقه النائم، فجعل يلاعب نفسه بالورق الذي لديه ويجري التجارب وضروب التفنن بغاية البراعة فيها.
أما الجماعة الذين كانوا جالسين في ظل المركب فكانوا يقولون فيما بينهم: أين الكو كوديس فإنا لم نره اليوم؟
فقال أحدهم: إنه لا يحضر اليوم إلينا. وماذا ترجون من حضوره؟ وأنتم تعلمون أن كل صاحب مال لا يهمه السجن كما يهمنا نحن الفقراء، فإنه كل يوم يتعلل بعلة كاذبة ويدعونه من أجل أمواله يذهب إلى المستشفى حيث يستريح من عناء السجن ويقيم متنعما وإن كانت علته كاذبة. وهكذا انطبع الناس على الظلم وقلة الإنصاف، فالفقير مظلوم حيثما كان والغني متنعم ولو كان في السجن، ولا يوجد على الأرض إنصاف حتى داخل السجون. وهكذا الكوكوديس فإن أباه مثر عظيم وهو صاحب بنك. وفي كل شهر يرسل له مائة فرنك، وقد أطلق له ناظر المستشفى الحرية فهو يذهب إلى المدينة متى شاء ويعود منها متى شاء.
فقال آخر من هؤلاء الجماعة: نعم. وقد عرفت أن امرأة جميلة من نساء باريس كانت تأتي عمدا إلى فندق فرنسا كي تلتقي به فيه. غير أن هذه الأخبار لا تهمني مطلقا، ولا يهمني غير أخبار أرى في نفسي ارتياحا شديدا إليها.
فقالوا: وما هي هذه الأخبار التي تريدها؟ - أخبار رفيقنا 117.
فقالوا: إن هذه الأخبار لا يعرفها أحد منا ونحن كلنا نريد معرفتها ولا نعلم واسطة إلى ذلك، فإذا كنت تستطيع أن تعرفها فتكون أكثر منا دهاء وأطول باعا في استطلاع الأمور الخفية.
وكان قد أتى إليهم شقي جديد فقال لهم: وكم من السنين لوجود 117 في هذا السجن؟
فقالوا: عشر سنوات. - من أين أتى؟
فقالوا: لا نعرف، فهو لا يخبر من أين أتى وما هي قصته.
فقال رجل آخر: إنه رجل عظيم أوقعه الدهر في حبائل الشقاء وهو منذ دخل هذا الليمان اتخذ ميلون رفيقا له فلا يكلم غيره.
ولم يلبث هؤلاء الجماعة أن رفعوا أبصارهم وإذا برجل مقبل عليهم وهو يدخن سيكارة رغما عن مشي القوانين، ويمشي مشية المتنزه المطمئن فتأملون فإذا به الكوكوديس فبادءوه بالتحية، فردها بصوت يدل على السرور والاطمئنان، فسأله أحدهم قائلا: يقولون إنك كنت مريضا فدخلت المستشفى من أجل ذلك. - نعم إنني مريض، وقد دخلت المستشفى في صباح هذا اليوم.
فقال المجرم: ولكن يقولون أيضا إن الطبيب لم يجد بك علة. - كلا فذلك غير صادق فإن الطبيب من أصدقائي وقد أمر لي بالراحة والتنزه في الصباح شفاء لعلتي.
ثم قال متهكما: ولنفرض أن مرضي خداع وحيلة لأستريح من عمل الليمان فلم يبق لي فيه غير أربع سنوات أجتهد بأن أقصر أيام بلائها بالحيلة والخداع بادعاء الأمراض.
فقال أحدهم: هنيئا لك فإن مدتك قد قصرت وأنت مستريح كأنك لست في ليمان فليت حظي كحظك.
فقال الكوكوديس: ولماذا لا تدبر واسطة يمكنك من الفرار فتنجو من عذابك الطويل؟ - وكيف أنجو وأنا قد فررت من هذا الليمان خمس مرات وكنت في كل مرة أضبط وأرجع إليه، وليس ذلك إلا من قلة دهائي فلا أجد واسطة تمكنني من الاختفاء عن الحكومة، ولكن الفقر هو بلائي الوحيد فلست ابن غني لأتزيا بأزياء كثيرة تخفيني عن الحكومة ولم أضبط في المرة الأخيرة إلا بسبب سرقة رغيف من الخبز مدت الحاجة إليه يدي فضبطت وعرفت وأرجعت إلى هذا الليمان.
فقال الكوكوديس: وما هي المهنة التي كنت تتعاطاها، قبل دخول الليمان؟ - كنت قبل ذلك حوذيا. - إذن أبشرك بالخير، فعندما تمضي الأربع سنوات أخرج من هذا السجن وأنت تخرج منه فرارا، فأجعلك عندي سائقا فلا يعرفك أحد من رجال الحكومة. - متى مضت أربعة أعوام نفكر في ذلك ونعقد الرأي عليه، أما الآن فارو لنا خبرا من الأخبار التي تسلي همومنا. - ماذا تريدون أن أخبركم؟ وأي خبر يسركم؟
فقال شقي باريسي: نريد قصة محزنة.
فقال آخر: أو قصة سارة، وأنت أدرى بما عندك من الأخبار التي تسر مثلنا. - إذن أخبركم قصة تطيب لكم خطرت لي الآن. فاسمعوا: إنني أولا كنت مع نيشات.
فقالوا: ومن هي نيشات؟ - هي المرأة التي وقعت من أجلها في شرك هذه المصيبة.
فقالوا: قد عرفناها فهي المرأة الجميلة التي في فندق فرنسا. - نعم. وهي تهيم بي دائما ويحق لي أن أتزوجها.
فقال الشقي الباريسي: ما بال الكوكوديس يروي لنا قصة نحن نود منه رواية غيرها.
فقال آخر: وقصة من تريد أن يرويها الكوكوديس؟ - روكامبول.
فقال الآخران: هذا الاسم اسم لص شهير.
وبينما كان هذا الحديث جاريا بين هؤلاء الجماعة كان ميلون رفيق 117 لا يزال يلاعب نفسه بالورق و117 غائص في نومه وهو يتوسد الأرض بجانب ميلون. فلما أفاق من رقاده نظر فرأى ميلون لا يزال بجانبه فقال له: ما بالك لا تزال جالسا ألم تعد تريد سماع أخبار الكوكوديس؟
قال ميلون: إن كنت تذهب معي لسماعها فأنا أهبك في هذا المساء قسمتي من العشاء. - فلنذهب ونسمعها معا فإنها تسرنا كلينا.
ونهض من مكانه فنهض ميلون وطوقا وسطهما بسلاسل الحديد التي يقيدان بها ومشيا إلى ظل المركب، فانضما إلى تلك الجماعة. وكان الكوكوديس يقول حينئذ: نعم إن قصة روكامبول مما ترتاح إليه عقولكم وتعجب به قلوبكم ولا سيما أنه يوجد منها فصل رابع يقع أعظم موقع من إعجابكم.
فقال 117 وقد لاحت عليه هيئة المتلهف إلى سماع هذه القصة: إذن ارو لنا هذه القصة التي نعجب بها.
2
فابتدأ الكوكوديس بالكلام، فقال: تنقسم قصة روكامبول إلى خمسة فصول يتقدمها فاتحة، وهذه الفاتحة جرت قبل ابتداء روكامبول بتمثيل الأدوار الخمسة بثلاث سنوات في بيت رجل عجوز ساذج يدعى المركيز دي شمري.
فهذا المركيز كان مثريا عظيما وكان له ولد ولكنه كان مفقودا، وقد قضى المركيز زمنا طويلا يظن أن هذا الولد ليس ولده.
وقد باع المركيز جميع أملاكه ولم يرد أن يورث ولده شيئا، ولكنه لما كان قد حان أجله ولم يبق له غير ساعات على فراش الموت إذ ورد إليه كتاب من صديق قديم يدعى الدوق دي سالاندريرا.
ويظهر أن المركيز دي شمري كان يعتقد في نفسه أن الدوق دي سالاندريرا كان في قديم الزمان عاشقا لامرأته.
فلما وصل له منه هذا الكتاب وهو على فراش الموت وجده يتضمن طلب الدوق إلى المركيز أن يتزوج ابنته أرمين لابن المركيز وهو الابن المفقود والذي يريد المركيز حرمانه من إرثه.
فزال حينئذ من نفس المركيز ما كان يتوهم من أن هذا الابن ليس ابنا حقيقيا له وطلب في الحال مسجلا ليوصي له بإرثه وليسلم هذا المسجل ثروته وأوراقه بعد أن يتعهد له بأنه يبحث عن ولده المفقود حتى يجده فيسلمه هذه الثروة التي لا تقل عن عشرة ملايين.
وقد كان يوجد في باريس، في ذلك العهد، جمعية سرية مؤلفة من جملة لصوص، ينهبون ويقتلون ويرتكبون الفظائع الخفية عن أبصار الحكومة. ولم يكن يحدث في مكان جريمة هائلة إلا كان مصدرها هذه الجمعية السرية.
وكان البوليس يجتهد في استظهار أسرار الجرائم الكثيرة. فلم يقف على أثر لهذه الجمعية الجهنمية، ولا سيما رئيسها أندريا، فلم يكن يعلم له سر أو يعرف له أثر.
فلما ذكر الكوكوديس اسم أندريا قال أحدهم متعجبا: ومن هو أندريا فقد ناجتني نفسي بأنني كنت أعرفه؟
فقال الكوكوديس: إن كنتم تسألونني مثل هذا السؤال في كل جملة، فهيهات أن تنتهي القصة التي أرويها لكم. فما بالكم تضيعون الوقت بالأسئلة!
فقالوا: كلنا نسمع ولم نعد نسأل فارو لنا. - إذن لنرجع إلى المركيز دي شمري. فقد دعي إليه مسجل فلما دخل إليه أوعز إلى الخادمة، وهي امرأة عجوز، أن تخرج من الغرفة فخرجت وبقي فيها مع المركيز والخادم، وكان هذا الخادم يعرف بفلانتين عند المركيز وبفانتير عند المسجل.
فقال الجماعة متعجبين: وكيف ذلك أيدعى هذا الخادم باسمين؟ - نعم. ولا عجب من ذلك، وهذا المسجل ما هو إلا أندريا رئيس الجمعية السرية.
فصاح هؤلاء الأشقياء صيحة استحسان.
فقال الكوكوديس: وفلانتين هو أحد أعضاء الجمعية السرية أيضا. أما المركيز دي شمري فقد قص قصته بتمامها على المسجل الكاذب وفتح له صندوق أوراقه وأراه أمواله. وبعد ذلك رجع المركيز إلى فراشه فأعانه فانتير على التوسد، وبينما المركيز يتوسد إذ قبض فانتير على المفتاح المعلق بعنقه ففكه من سلسلته وترك المركيز ينام.
وعندئذ جعل أندريا وفلانتير يهتمان بشغلهما في هذه الفرصة المغتنمة، ففتحا الصندوق وجعلا يخرجان ما فيه إلا أن الضجيج طرق أذني المركيز فانتبه إليهما وأجهد قوته في القيام وهو يصيح بهما.
فصاح الجماعة: يا لتعاسة المركيز.
فواصل الكوكوديس حديثه فقال: أما هما فانقضا عليه بعد إطفاء النور واشتغلا في قضاء أمره. وكان البيت خاليا والظلام منسدلا، إلا أنهما ما لبثا أن سمعا ضجيجا شديدا على نافذة الغرفة، وقد تكسر خشب النافذة ودخل إلى مسرح الفظاعة شاب يحتدم غضبا، فأخرج من جيبه عودا من الكبريت وأشعله فأضاء الغرفة فنظر الصندوق مفتوحا وقد خلا مما كان فيه، ولم يبق له قسمة من المال الذي إنما دخل الغرفة لأجله.
وكان أندريا قد انتهى من خنق المركيز، فلما رأى الشاب واقفا أمام الصندوق انقض عليه وألقاه على الأرض واستل خنجره يريد قتله فصاح به: مهلا فأنا روكامبول، فكف أندريا يده.
ولما انتهى الكوكوديس إلى هذا الكلام نظر ميلون إلى 117 قائلا: كيف ترى هذه القصة؟
فابتسم هذا اللص الكبير ببرود وقال: أراها قصة جميلة. ثم تولاه السكوت ولم ينطق شيئا.
فرجع الكوكوديس إلى تتمة حديثه فقال: قد تمت الفاتحة فابتدئ الآن بأول فصل من الخمسة. فقد كان في بلدة بلفيل مصور يدعى أرمان وكان يعلم فن التصوير لفتاة شريفة تدعى أرمين دي سالاندريرا وهي ابنة الدوق الإسباني الذي تقدم ذكره في الفاتحة.
وكان لهذا المصور صديق محام، ولهذا المحام فتاة حبيبة تدعى الفيروزة كانت له في كل وقت شغلا شاغلا، فكان المصور كلما ذهب لتعليم تلميذته يمر في طريقه على صديقه المحامي ويتحدث معه بأحاديث الغرام، ولم يكن يخطر على قلبيهما حب باكارا، وهي امرأة جميلة كانوا يرونها في الملاعب والملاهي.
ثم إنه كان يوجد في هذه البلدة أيضا مدام فيبار وابنة أختها سريز، ومدام فيبار هي امرأة عجوز كانت دائما ذات غم وهم؛ لأنها كان لها ولد يدعى جوزيف صار لصا كبيرا باسم روكامبول.
ولكن مدام فيبار وإن كانت على هذه الحالة من الغموم، فإن ابنة أختها سريز كانت على جانب عظيم من المسرة والحبور؛ لأنها كانت تنتظر الزواج بشاب جميل يدعى جان وكان لديها مهر يبلغ ستمائة فرنك.
وبينما كان أرمان يتحدث مع صديقه المحامي إذ دخل إنكليزي يدعى السير فيليام وهو يقصد أرمان ليطلعه على كنه أمر عظيم.
وكان أرمان يجهل اسمه الحقيقي وولادته، وكان عندئذ يريد الذهاب لتعليم تلميذته فلم يتمكن السير فيليام من محادثته مليا، فلما ذهب أرمان لقضاء واجبه تنهد الإنكليزي وقال إنه لا يعرف شيئا.
فقال الشقي الباريسي: لقد فهمت كل شيء فإن أرمان هو ابن المركيز دي شمري المفقود.
فقال الكوكوديس: هو ذلك.
وقال الباريسي: وقد فهمت أن السير فيليام هو أندريا، رئيس الجمعية السرية.
فقال الكوكوديس بلهجة الغضب: إن كنت فهمت كل شيء فلا حاجة إلي، ارو هذه القصة بدلا مني .
فغضب الجماعة وأمروا الباريسي بالصمت ورجوا من الكوكوديس تتمة القصة فقال: وبعد ذهاب أرمان لتعليم الفتاة، وذهاب المحامي لقضاء دعاويه، لم يكن بد للإنكليزي من الذهاب أيضا، ولكن سمع عندئذ وطأ أقدام ثم ظهرت باكارا وهي آتية لمشاهدة أرمان الذي تحبه وإن يكن لا يبالي بها؟
أما باكارا فساءها بأنها لم تر أرمان، فأودعت له كلمة عند أحد أهل ذلك البيت وذهبت لحضور السباق في فنسان يصحبها السير فيليام.
أما خطيب سيريز فذهب ليشتري لها قفازا، وفي ساعة غيابه أتى المحامي إلى مدام فيبار فأنذرها أن ابنها روكامبول قد ارتكب سرقة عظيمة ولا ينجو من العذاب إلا إذا نقدت هذا المحامي ستمائة فرنك كي يخلصه من شر السجن.
فلما رجع جان إلى سريز وجدها كئيبة فقالت له: لم نعد نقدر على الزواج فقد نقدت المحامي مهري البالغ ستمائة فرنك ليخلص ابن خالتي من السجن ولم يعد لي مهر.
فاستغرق جان في البكاء، ثم أخرج من جيبه كتابين أحدهما من روكامبول إلى أمه مدام فيبار يخبرها بأنه مسافر إلى الهند ليتعاطى فيها تجارة تصيره غنيا، والآخر إلى أرمان يتضمن أنه إذا سافر إلى مرسيليا يجد فيها صديقا من عائلته يدعى الدكتور جوردون وهو ينبئه عن اسمه الأصلي ويهديه إلى استلام ثروته.
فلما وصل هذا الكتاب إلى يد أرمان سر سرورا عظيما، بيد أن مدام فيبار أحزنها كتابها حزنا شديدا على فراق ولدها.
وعند هذا الكلام سمعوا جرس الليمان يقرع دلالة على انتهاء وقت الراحة وحلول وقت الشقاء.
فقام الأشقياء من مواضعهم ومشوا يجرون سلاسل الحديد وهي تقرع بعضها فترن رنين الأجراس.
أما الكوكوديس فقال لهم: هذا الفصل الأول أتممناه، وموعد الثاني غدا إن أردتم، وأنا الآن أرجع إلى المستشفى. فسار إلى الراحة وساروا إلى الشقاء.
3
مضى النهار فاستراح الأشقياء من عناء الأشغال المضنكة وقد حان وقت النوم، فدخلوا مكان المنامة وهناك التحفوا الأغطية التي هي من الأعشاب اليابسة وافترشوا الأعشاب في جوانب الليمان المظلمة.
ثم أمرهم الحرس بالنوم فشملتهم السكينة، إلا أن بعضهم كانوا متى رأوا الحارس قد بعد عنهم يبتدئون بالمناجاة والكلام بصوت منخفض لا يسمعه إلا المتخاطبان.
وكان ميلون ينام بجانب رفيقه 117، فكان يراه في تلك الليلة على غير ما تعود أن يراه في سائر الليالي الماضية؛ لأنه كان قبل هذه الليلة لا يحين وقت النوم إلا وعيناه تكادان تغمضان، فلا يلقي رأسه على وسادته حتى يستغرق في النوم ولا يستفيق حتى الصباح. وكذلك وقت الراحة المباحة عند الظهيرة، فبينما يكون الرفاق يتبادلون الأحاديث، التي هي شكوى قلوبهم، يكون 117 مستغرقا في نومه وهو متوسد الأرض لا يهمه غير النوم.
وكان ميلون يرى في نفسه أن لرفيقه 117 سيادة عليه، فكان يحترمه كثيرا، ولما رآه في هذه الليلة قلقا خلافا لعادته سأله قائلا: ما بالك أيها الرفيق أأنت مريض هذه الليلة؟ - لا لست مريضا ولكني منشغل الفكر. - وبماذا؟ - بما يخبره الكوكوديس. - وأنا أيضا قلق في هذه الليلة لأني أفتكر بهذه القصة وأنا متأكد أنها صحيحة وأن روكامبول وجد حقيقة. - أتؤكد ذلك؟ - نعم، فقد كنت في باريس أيام اشتهرت هذه الجمعية السرية وكانت حديث الناس في كل مكان.
فقال 117 متنهدا: نعم ذلك صحيح.
فأتم ميلون حديثه بصوت منخفض وقد أدنى فمه من أذن رفيقه: إن كنت تريد فإننا نتحدث مليا. - قل ما تشاء. - إنني أيها الرفيق أعد نفسي من ذوي البلاهة لأنني لا دربة لي، فأنا قوي الجسم متين الساعد، ولكنني مع شدة هذه القوى أرى الولد الصغير يفتك بي بدهائه، ولا تجديني القوة شيئا لأنني ساذج أبله، ولولا سذاجتي لما كنت أرسلت إلى هذا الليمان. - ومن هم الذين أرسلوك إليه؟ - قلت لك إنني كنت دائما ساذجا في جميع الأمور، وكان يجب علي أن أكون مترويا متبصرا في العواقب، ولو كنت كذلك لما تمكنوا من سلب الأولاد ولكن ربما تضجر من هذه القصة. - كلا، فإنني لا أمل منها فاروها لي. ولكن قل لي قبلا ما هي المهنة التي كنت تحترفها؟ - كنت خادما. - وبماذا اتهمت حتى أدخلت الليمان؟ - بسرقة جواهر. - ولماذا؟ - لأني أصررت على أن لا أقر أين يوجد مال الأولاد. - وأي أولاد؟ - أولاد السيدة التي خدمتها. - إذن هم الذين أدخلوك الليمان؟
فتنهد ميلون وقال: لا فليس هم، ولست أعني بالأولاد غير فتاتين في مقتبل العمر وهما توأمان ولهما اليوم من العمر عشر سنوات، ولا شك أن الشقاء ستحسهما يده القاسية.
وهنا سكت ميلون عن الكلام، فنظر إليه 117 فرآه على النور الضعيف الذي لا يزال ينبعث من القناديل إلى تلك الغرفة، يمسح على خديه دموعا سخينة.
فقال له: أتمم القصة.
فقال ميلون: وقد ظهر لي أن والدة هاتين الفتاتين تزوجت دون رضى عائلتها في وطنها لأنها لم تكن فرنسية، ولها أخوان شقيقان قد حاولا مرارا كثيرة أن يحرماها ابنتيها.
وقد مات زوجها منذ سنين طويلة ولم يكن لها أحد تستعين به على أمر سواي، ولكني كنت كما قلت ساذجا قليل الدربة وكانت هي لا تزال في ريعان العمر وهي جميلة للغاية.
وكانت تقول دائما عندما تنظر إلى ابنتيها وهما تتدرجان في النشأة، لا بد متى بلغتا الخامسة عشرة من عمرهما أن أزوجهما كي يكون لكل منهما من يصونها ويقوم بمعيشتها.
وكان لهذه السيدة ثروة عظيمة وهي تسكن في فندق قديم في سان جرمان، فكانت في كل ليلة تقفل الأبواب بكل دقة خوفا من حادث يطرأ وتقول لي دائما: إنني أخاف كل الخوف من إخوتي.
وقد اتفق أن الابنتين كانتا ذات مساء تلعبان في الحديقة فسمعتا طلق مسدس ودوي رصاصة فيها فارتعبتا، ولكن لحسن الحظ لم تصبهما الرصاصة التي كانت مصوبة إلى إحداهما.
فنبهنا البوليس واجتهد في معرفة الجاني إلا أنه لم يعرف له أثرا، واتفق مرة أخرى أن إحداهما أصيبت فجأة بعد تناول الطعام بألم الأحشاء والقيء، فدعونا الطبيب في الحال فحقق أن ذلك ناتج عن تسميم الطعام.
فعرفت هذه الأم المسكينة أنهم كانوا يريدون قتل ابنتيها بالسم، وعند ذلك أبعدتهما عن المنزل فأخذناهما سرا في ذات ليلة إلى أحد الأديرة، فدخلتا هذا الدير باسمين غير اسميهما الأصليين؛ لأن والدتهما أرادت أن تخفي حقيقة أمرهما.
وقد قالت لي وقت رجوعنا: إنني أعلم أنك رجل صالح وأرى أنني جديرة بالاتكال عليك وأنت تعلم أن أخوي يريدان قتل ابنتي وهما سيقتلاني لا شك عاجلا أو آجلا؛ ولذلك يجب أن أنظر في مستقبل ابنتي كي لا يمسهما الشقاء بعدي. قال ميلون: فكنت أصغي إليها ودمعي يهمي من شدة الإشفاق، ثم سلمتني محفظة من حديد وهي تقول لي: هذه نصف ثروتي فإن في هذه المحفظة ما يبلغ ريعه خمسة عشر ألف فرنك من ذهب وأوراق مالية فأخفها حيث لا يدري بها أحد، وهي مهر ابنتي الذي أعهد إليك به إذا أصبت بما أوجس خيفة منه.
فقال 117: هل خبأت المال؟ - نعم قد خبأته ولا يعلم غيري أين يوجد مكانه الخفي.
فتنهد 117 وأطرق وهو يفتكر.
أما ميلون فقد أتم كلامه فقال: كأن هذه السيدة المسكينة كانت تتكلم عن موتها وهي واثقة من أن أخويها سيميتانها إذ لم يمض بضعة أيام على ذلك العهد حتى ماتت مسممة.
فهب أخواها لوراثتها وكانت ابنتاها قد ولدتا في بلد غريبة ولم يكن بين يدي أوراق تثبت أنهما الوارثتان الشرعيتان.
ثم إنني كنت أخاف إن جاهرت بهما أن يعرفا بمكانهما ويحتالا بقتلهما، فاستولى الأخوان على ورثة هذه السيدة وكانا يظنان أنهما يجدان ثروة طائلة.
فلما خاب ظنهما جعلا يستخبراني وقد قال لي يوما أحدهما: إننا نعلم أنك خبأت كمية عظيمة من مال أختنا فأتنا به ونحن نهبك قسمتك.
فأنكرت ذلك ولم أقر به، وبعد ثمانية أيام بينما كنت نائما عند منتصف الليل طرق باب غرفتي اثنان من رجال البوليس وقبضا علي بدعوى أنني سرقت جواهر السيدة المذكورة.
وكان الأخوان المذكوران قد وضعا في محفظة تخصني بعض الحلي كالأساور والخواتم الثمينة، فلما فتحها الشرطيان وجدا فيها هذه الحلي المذكورة وثبتت علي السرقة، وقد دافعت عن نفسي كثيرا فلم أنجح وحكم علي بالليمان مدة عشر سنوات.
فقال 117: فهل لا تدري شيئا من أخبار تينك الفتاتين؟ - كلا، ولكن أظن أن هذين الشقيين لم يعلما مقرهما. - والمال الذي خبأته ؟ - ما زلت أعرف موضعه. - لا يبعد أن يكونا قد اكتشفاه وأخذا هذه الغنيمة. - كلا، فذلك من المحال. - ألست تحاول الفرار من هذا الليمان؟ - قد فررت مرتين فكنت أضبط وأرجع إليه.
فتبسم 117 وقرب رأسه من رفيقه ميلون وقال له بصوت منخفض جدا: إن كنت تريد الفرار فأنا أجد لك واسطة سهلة.
فأجابه ميلون: وأنت؟ - وأنا أيضا أهرب معك فهل لا تصدق أني أقدر على الفرار بأسهل طريقة؟ - لقد صدقت الآن. - وبعد الفرار نضرب في طول الأرض وعرضها فلا يعرف لنا أثر.
وعند ذلك أمال وجهه عن ميلون واستغرق الاثنان في النوم.
4
لما كان اليوم التالي في وقت الظهيرة اجتمع الأشقياء كعادتهم في ظل ذلك المركب القديم وكان الكوكوديس غائبا فلم يحضر إليهم ولم يكونوا يتذمرون من هذا الشقي، وإن كانوا يرونه ممتازا عنهم من جهة المعاملة لأنه كان كأنه حر يغيب ويحضر متى شاء.
وكان حرس الليمان يعاملونه معاملة حسنة ويلبون طلبه في كل شيء وذلك لأنه كان من الأغنياء وكان أهله يرسلون إليه مبلغا من المال في كل شهر فيكون للحرس النصيب الأكبر منه.
وكان الكوكوديس ينقد كل من رفاقه الأشقياء ليشتري به خمرا فكان الجميع يحترمونه ويفرحون به ولم يكن يعرفونه إلا باسم الكوكوديس وكان كل منهم يجهل اسمه الحقيقي.
وقد كان بينهم ميلون و117 فلما لم يحضر الكوكوديس جعلوا يتحدثون فقال أحدهم: إنه سعيد الحظ وأما نحن فإن الشقاء لا يفارقنا ساعة في هذا الليمان الذي هو جهنم الأرض، وإنني أنا أكثركم شقاء وتعاسة وقد بلغ من تعاستي أنني عندما دخلت هذا الليمان جيء بي إليه مقيدا بالسلاسل وأنتم جيء بكم إليه على المركبات.
فقال أحدهم: وأنا مثلك في الشقاء وقد دخلت مكبلا بالقيود وكان دخولي إليه على عهد تياري.
فقال آخر: ومن هو تياري؟ - هو مأمور الليمان القديم وكان يحسن معاملتنا جدا فكنا نوده كثيرا.
فقال العجوز أقدمهم عهدا في الليمان: إنك دخلت مثلي في هذا المكان مقيدا في ذلك العهد ولكنك لم تسم بالنار وأما أنا فإنهم يوم وسموني كنت كأنني أذوق الموت الزؤام.
ثم جعل هذا العجوز يسرح أبصاره في الجماعة الذين حوله وقال وهو يتنهد تنهد اليأس: إنني أراكم تحزنون إن لم يحضر إليكم هذا الشاب الذي تسمونه الكوكوديس، فأني أروي لكم قصتي فإذا وجدتموها أغرب من حكاياته اغتنيتم بي عنه، فلما سمعوا هذا الكلام قالوا: إذن ارو لنا قصتك فإننا مصغون إليها.
فقال العجوز: إن لي من العمر تسعا وستين سنة قضيت منها أربعة وثلاثين عاما في الليمان، وأنا منذ هذه المدة الطويلة شقي النفس ميت الآمال، حتى كأنني جسم بلا روح.
أتعلمون ماذا كنت في حياتي؟ فإنني كنت من أصحاب البنوكة وذا ثروة طائلة ومن عائلة شريفة، وقد تزوجت بامرأة نبيلة كنت من فرط محبتي لها كأنني أعبدها عبادة، وقد قضيت معها عدة سنين وأنا كأنني في النعيم، إلا أن تلك السنين كانت كأنها حلما لم يبق له في اليقظة أثر، وقد عقبتها سنوات الشقاء التي ما زالت تتوالى علي حتى اليوم، وقد كان مفتاح باب شقائي المقامرة الوخيمة، ولولاها لم أدخل هذا الليمان؛ فإن المقامر يبدأ بخسارة ماله وبعد هذا يخسر جميع ما له من الممتلكات، ومتى رأى يده فارغة من كل شيء يرجع إلى زوجته فيسرق ما تمتلك عليه ثم إلى أصدقائه، حتى إلى والديه فإنه يسرق مالهما ويضيعه في سبيل المقامرة.
وقد جرى لي كل ذلك حتى إنني لم أدع لامرأتي شيئا تمتلكه، حتى إني بعت أثوابها في سوق المقامرة.
ولما خلت يدي يوما من كل شيء ولم أر شيئا أحصل عليه من الأقارب والأصدقاء عمدت إلى تزوير ونجحت به بواسطة بعض أصدقائي، وبعد ذلك صرت أزيف النقود وأقلد أوراق البنوكة، ولم تكن امرأتي تعلم من هذا السر شيئا ولم تكن تدري إلا خرابنا.
وقد تركت امرأتي وانفردت في ضواحي باريس عند جدة طاعنة في السن، فكانت امرأتي تظن أنني في البلاد الأميركية أسعى وراء الثروة، فكانت تصلي دائما لأجل نجاحي. وبما أنه لا بد لكل ذنب من العقاب فقد ظهر سري للحكومة وقبض علي، فأقررت بكل شيء، وكان القانون في تلك الأيام يقضي بإعدام كل مزيف، ولكن العفو الملوكي خفف عقابي فأبدل الإعدام بالأشغال الشاقة المؤبدة.
جرى كل ذلك ولا تعلم امرأتي شيئا من أمري، وكان قد حان وقت أصبحت فيه على وشك أن تضع لي ابنا يدخل الحياة من باب الشقاء.
وهنا سكت الشقي هنيهة كأن ذكرى بلاياه قد أعيته من الكلام، وبقي سائر الأشقاء على أتم الإصغاء كأن كلا منهم يتأمل بلاياه في الأيام السالفة.
ثم عاد العجوز إلى الكلام فقال متنهدا: إنكم لم ترو السمة التي وسموني بها ولا تعلمون كيف يتم أمرها، فإنهم يعدون آلة الرسم ويأتون بالذي يراد سمته ويعلقونه بحبل يتدلى من أعلاها ويطوقون رأسه بطوق من حديد بحيث لا يستطيع الدوران، وتكون عيناه موجهتان إلى جهة الجموع الغفيرة. وبعد ذلك يأتي الجلاد ويضرم النار تحت هذا الشقي التعس حتى يكاد يشوي جسمه.
أما أنا فقد كنت عند ذلك أنظر إلى الجموع الشاخصة إلي بعين الوقاحة كأنني لا أبالي، وإذ ذاك سمعتهم ينادونني: يا صاحب البنك ورب الثروة، استهزاء بي.
ولكنني لم أكن أتأثر من ذلك بقدر ما كنت أتأثر من ذكر امرأتي المسكينة، فقد كانت في تلك الساعة تظنني حرا أجمع المال، وترجو أن تراني في الأيام القريبة.
وعندما تشتد النيران يرخي الجلاد حبل الشقي فيسقط بالقرب منه ويأخذ الجلاد حينئذ حديدة محمية في النار ويسم بها الشقي في كتفه.
وبينما كنت في قبضة الجلاد وهو يسمني هذه السمة القاتلة كنت كأنني لا أشعر لم ولا أكوى بنار، وما ذلك إلا لأن أميالي وعواطفي كانت جميعها متجهة إلى جهة الحضور، وقد صحت صيحة شديدة ارتجت لها تلك الساحة وقلت للجلاد بصوت قاس جدا: اكوني حتى الموت. وقد رغبت في الموت من نفسي عندما وقعت أبصاري على امرأة تصيح صياح اليأس وهي على مقربة من هذه الآلة الشنيعة، وما هي إلا امرأتي التعيسة، وقد آلمني منظرها فوق آلام النار.
قال العجوز هذا وجعلت الدموع تنهمر من عينيه كالمطر وساد السكون هنيهة بين الجماعة.
ثم عاد العجوز إلى الحديث فقال: ليس هذه بحكايتي كلها فاسمعوا البقية، وجعل يمسح الدمع عن خديه ثم قال:
5
عرفتم ما تقدم من أمر الوسم فاسمعوا ما جرى بعد ذلك فإن الشقي بعد وسمه يأتون بطوق من حديد ويطوقون به عنقه ويعلقون بهذا الطوق سلاسل الحديد الطويلة التي تثقل كاهله وتضنك جسمه، ثم تفتح أبواب الخروج من هذه الحفلة السيئة ويأخذ الجميع في الخروج وتعزف الموسيقى بألحان الحزن وقت خروج المذنب كأنها تندب حظه وأيام عمره، وبالحقيقة إن ما يفعل به الجلاد لا يؤثر عليه كما تؤثر رؤيته لتلك الجموع الغفيرة المحتشدة من أغنياء وفقراء ونساء وصبيان، ويكونون كلهم عيونا تنظر إلى هذا المذنب من كل جانب وأيدي تشير إليه وألسنة تذمه بكل كلمة فتشق جدا رؤيتهم حوله على هذه الشاكلة التي تريعه.
ولما خرجوا بي من تلك الحفلة حيث وسموني تلك الوسمة المشئومة، رأيت شرذمة من الجنود تنتظر خروجي على الباب لتذهب بي إلى الليمان، فسار بي هؤلاء الجنود، ولكن ليس على طريق برست، بل على طريق طولون، فممرنا فونتنابلو على بلدة شوزي لاروا، وفي البلدة التي دفنت فيها امرأتي التعيسة، وقد كان ذلك بفصل الصيف في شهر أغسطس.
ولما وصل بي الجنود إلى هذه البلدة كانت الساعة السادسة من الصباح، فلم نكد نسير فيها قليلا حتى رأينا أهلها يحتفلون بجنازة وهم يسيرون إلى المدافن، وكانت هذه المدافن قريبة من مكاننا، وكان الجمع يحمل نعشين كان أحدهما نعش شخص كبير والآخر نعش طفل صغير.
وكانت وراء النعشين عجوز قد اشتد صياحها وعلا بكاؤها، فتأملتها وإذا بها جدتي التي تركت لها امرأتي، ففهمت كل شيء وعلمت أنني ذاهب إلى الليمان بينما امرأتي وولدي ذاهبان إلى القبور، وقد بلغ من تحسري أن عيني لم تكن قد نظرت هذا الولد. وهنا جعل العجوز يبكي بكاء مرا ولبث الجماعة ساكتين.
وبعد هنيهة تقدم الجماعة إلى هذا العجوز لما رأوه قد استغرق في البكاء وجعلوا يعزونه، وأخذ أحدهم بيده ومشى به وهو يودع أذنه كلام التعزية والتسلية.
وبعد خروجه من بينهم لبثوا هنيهة صامتين يفتكرون به، ثم قال الشقي الباريسي: حقا لقد أثرت علينا هذه القصة ولو جاءنا الكوكوديس في هذا الوقت سرنا بقصته بعد هذا الحزن.
فقال 117 موجها كلامه إلى الباريسي: وهل أنت تصدق قصة الكوكوديس؟ - هي كقصة مندرين وكرتوش، وبما أن هذين كانا يوجدان فلا يبعد أن يكون روكامبول قد وجد أيضا، وإن كانت قصته على غاية من الغرابة.
فقال 117: إنني أحقق أن روكامبول قد وجد حقيقة وقد عرفته. - وهل أنت تعرف قصته؟ - نعم، أعرفها ...
وأضاف 117 إلى جوابه هذه الجملة: إنني لا أعلم قصته المزوقة التي يرويها الناس على المراسح، ولكن أعلم قصته الحقيقية.
فقال أحدهم: إذن يجب أن ترويها لنا. - إنني أرويها لكم مرة ثانية.
فقالوا: ولكن قصدنا الآن أن نعرف ما هو روكامبول.
فقال 117: إن روكامبول ولد وربي في باريس، وهو كما قال لكم الكوكوديس قد تسنى له أن يتزيا بزي المركيزية بعد رجوعه من الهند.
فقالوا: وهل كان هذا المركيز الذي تقمص به روكامبول غنيا؟ - كان له ملايين كثيرة.
فقالوا: وهل توصل إليها روكامبول كما توصل إلى المركيزية؟ - نعم، لمدة ثلاث سنوات. - إذن هذا المركيز كان قد مات؟ - كلا فقد كان حيا. - ألم يكن له أقارب أو أصدقاء؟ - كان له أم وأخت. - وهذه الأم؟ - قد انخدعت بروكامبول وكانت تحسبه ولدها. - وأخته؟
عند هذا السؤال الأخير وقف 117 لا يريد الجواب، ثم قال: إن هذه الأخت كانت تحب روكامبول كأخيها وهو كان يحبها كأخته. - أكان بينهما غرام؟ - كلا فقد قلت لكم إن المحبة كانت بينهما أخوية كأنهما كانا أخوين حقيقة. ثم امتقع لونه فحار الجماعة من نظرهم إليه فقالوا له: وماذا يؤثر عليك هذا الكلام حتى تبدي هذا الانزعاج منه؟
وقال ميلون: نريد أن نعلم هذا.
فأجاب 117: ليس لي طاقة الآن على الكلام.
فقال أحدهم: نريد أن نعلم فقط هل روكامبول لا يزال حيا أم لا؟ - إنني لا أعلم ذلك.
ثم نظر إلى ميلون نظرة خفية كأنه يقول له فيها لنذهب معا فقد ضجرت من هؤلاء الجماعة.
فقام ميلون وقد فهم مراده وقال له: أنا ذاهب فلنذهب معا.
فتركا الجماعة وسارا حتى إذا بعدا قال ميلون لل 117: إنك تخبرني قصة روكامبول أليس كذلك؟ - نعم بعد حين قريب.
ثم مشيا يتنزهان ذهابا وإيابا نحو ربع ساعة حتى رأيا من نفسيهما دافعا يدفعهما إلى حلقة الجماعة فانضما إليهم مرة ثانية.
وكان يتولى الكلام بين الجماعة في ذلك الحين أقدمهم عهدا في السجن هذا العجوز الذي تقدم ذكره، فكان يخبرهم قصته حينئذ قائلا: إنني كنت حوذيا في أول حياتي بين الرجال ولم أكن أحب من الدنيا سوى اثنين من الحيوان وهما حصان وكلب، وقد مات الحصان فرثيته وبكيته زمنا طويلا وكذلك الكلب ولكنني لم أبكه بدمع بل بدم، ولو أخبرتكم بقصته لنالت عندكم قبولا عظيما، فلا يخفى عليكم أن لي في هذا السجن عشرين عاما وأنا منذ عشر سنوات منها أبيت منشرح الصدر خلافا للسنين الأولى، وما ذلك إلا لأنني أتأمل أن يدي ستصل إلى الذي قتل كلبي فأقتله.
فقال الجماعة: ومن هو الذي قتله؟
فأجابهم: إنه أحد حرس السجن، وقد كان هنا في طولون غير أنهم شعروا بأنني أريد قتله فأرسلوه إلى بريست.
فقالوا: إن ليمان بريست قد أبطلوه فلا بد أن يعود يوما هذا الحارس إلى هنا. - وهذا الذي أنتظره.
فقال الباريسي: ارو لنا إذا أردت قصة هذا الكلب الذي كنت تحبه بهذا المقدار. وألح عليه الجماعة في معرفة هذه القصة، فقال: إني كنت في بادئ الأمر حوذيا أي حوذي أريد أني كنت ألبس لباسا رثا وأسوق عربة حقيرة ذات خيل ضعيفة، وكنت أنفق ما أكسبه على شرب الخمور فأسكر دائما، وإذا بقي معي شيء من المال تأخذه امرأتي فيقع بيننا النفور والقتال بشأنه.
وكان لي كلب جميل، فكنت أجد به سلوى لي وقت نفوري من زوجتي، ولولاه لكنت هلكت وحشة وجزعا، وكان الكلب لطيف الشعور خفيف الحركة، يشعر بحبي له فيحبني أيضا حبا شديدا، ولم يكن يفارق الإسطبل ساعة.
وكانت زوجتي تنفر دائما من هذا الكلب وتضربه في أكثر الأحيان، فكنت كلما ضربته أمامي لا أتمكن من كف يدي عنها فأضربها ضربا شديدا. وقد اتفق أن النفور اشتد بيننا ذات ليلة، فما كدت أضربها بعض ضربات حتى سقطت على الأرض سقوط من لا روح فيه، فظننت أولا أنها كانت سكرى، إذ كانت تشرب نظيري، ولكنني بعد أن تأملتها جيدا وجدتها جثة بلا روح فيها.
ولم يأت اليوم الثاني حتى قبضت الحكومة علي ووضعتني في السجن، ثم أخذت إلى محكمة الجنايات للمحاكمة، فدافع عني أحد المحامين دفاعا شديدا أنجاني به من الإعدام، ولكنني لم أنج من الليمان، فأرسلت إليه وها أنا ذا ما زلت فيه. ولما خرجت من المحكمة وكان الحرس يحيطون بي فلم نكد نسير مسافة قليلة حتى نظرت وإذا بكلب يسرع إلي وهو كلبي الذي أهيم به.
فجعل الحراس يطردونه عني وهو يعود إلي حتى خطر لأحدهم أن يمسكه، وكنا قد وصلنا إلى بينسيتر فأدخلت إلى سجنها وبقي الكلب مع هذا الحارس فلم تكن عيني تحرم من نظره كل يوم، إلا أنني كنت أخشى سفر هذا الحارس إلى مكان آخر فأحرم نظرة كلبي، وقد شعرت يوما بما كنت أخشاه فجعلت أبكي بكاء مرا.
فنظر إلي هذا الحارس وقال لي: أراك تخاف من الليمان خوفا شديدا يحملك على هذا البكاء. فأجبته: ليس ذلك بل أنا أبكي مخافة فراق كلبي. فقال لي: إننا مسافرون إلى ليمان طولون فنأخذ هذا الكلب معنا، وهناك ننظر في أمره.
وفي ثاني الأيام سافروا بنا إلى طولون يتبعنا الكلب حتى وصلنا إليها، وهنا في الليمان لا تدخل الكلاب، وكان هذا الحارس تياري المشهور بحسن المعاملة، فرجوت منه الاعتناء بالكلب فوضعه عند جزار بالقرب من الليمان فجعل الجزار يعتني به.
وكنت أراه في كل يوم يخرجون بنا للأشغال في موريلون أو في حصن أبو يرماك فيسرع إلي على الطريق فأمتع نظري بمرآه.
وكان الحارس يحسن معاملتي ، فكان يسمح لي بأخذه معي إلى حيث نشتغل، وكان عند المساء يمشي بجانبي حتى باب الليمان ويعود من نفسه إلى الجزار.
وقد دمت على هذه الحال مدة سنتين كنت في خلالهما متمتعا بمرآه، ولم تكن يدي تصل إلى الخمر لأشربه فأسكر وتضعف قوتي، فلذلك كنت دائما بصيرا ذا قوة شديدة أشتغل شغلا كثيرا وأطيع طاعة عظيمة، فكان الحرس مسرورين مني يعاملونني بالرفق والسماح.
وقد أعجب أحد الحراس بهذا الكلب فأدخله إلى الليمان، وجعل يطعمه والكلب ينام ليله بيننا تحت سرير الحارس، فكنت أراه دائما فتطيب به نفسي، إلا أن أحد رفاقي المسجونين تودد لي وقد جعله الحرس رفيقا لي نشتغل معا ونجلس معا، فكان هذا الرفيق قليل الطاعة عديم التدرب كثير الجهل.
فبينما كان الحارس يوما يكلمنا أظهر رفيقي نفورا شديدا، فغضب الحارس ورفع عصاه يريد أن يضربه.
وكان الكلب ينظر إلى الحارس فظن أنه يريد أن يضربني أنا فنبح نباحا شديدا وهجم عليه وعضه، ومن هذه الدقيقة استحال سروري غما وابتدأ زمان شقائي وأنذرني البلاء أنا والكلب معا، فإن هذا الحارس جعل يضرب الكلب في كل ساعة ويعاملني معاملة قاسية في كل وقت.
وقد أصبحنا ذات يوم فرأيت الكلب حزينا شديد الآلام لا يأكل شيئا، وإنما يشرب شربا كثيرا كأنما كان في قلبه جمر يضطرم. إلا أنه في هذا اليوم أكل شيئا قليلا، ولكنه في غد ذلك اليوم لم يذق الطعام مطلقا. وفي اليوم الثالث أصبح ميتا فكدت أموت عليه حسرة. وكنت أبكي بكاء شديدا نادبا هذا الكلب العزيز، فجعل هذا الحارس الذي يدعى موسوليت يستشفي بي ويضحك ضحكا شديدا يزيدني حسرة. وفي مساء ذلك اليوم جعل يخبر جميع المسجونين عن بكائي وأسفي شامتا بي أمامهم، فاشتد غضبي وحنقي.
وفي اليوم التالي خرجوا بنا للأشغال الشاقة، فعزمت كل العزم على قتله، فرفعت سلاسل الحديد على عاتقي بينما نحن نسير في الطريق، واستنهضت همتي وهجمت هجوم المنتقم. غير أن الحرس، أسرعوا إلى نجدته فلم أتمكن من نيل مرادي. وقد زيد عقابي على هذا الذنب الكبير ثلاث سنوات بالأشغال الشاقة.
ولما تحقق مأمور الليمان أنني موطن النفس على قتله أرسله إلى ليمان برست وقد علمت أنه فيها، وما زلت أؤمل أن يعود يوما إلى هذا الليمان فلا ينجو من قبضتي.
وقد بذلت قصارى جهدي ليرسلوني إلى ليمان برست فلم يقبل لي طلب، فما زلت هنا ملقيا كل اتكالي على تقلبات الظروف.
وهنا انقطع عن الكلام لما رأى الجماعة نظروا رجلا مقبلا عليهم كانوا ينتظرونه بفارغ صبر وهو الكوكوديس.
فصاح ميلون مرحبا به وقال: إنك لا تتم وعدك بالحضور في الميعاد المعين إلينا.
فقال الكوكوديس: لا بأس إذا تأخرت قليلا، فلا يفوتكم من قصة روكامبول شيء. - لم نعد بحاجة إليك فقد عرفناها. - ومن أخبركم بها؟ - أخبرونا عن شيء وسيخبرونا بجميع تفاصيلها.
فتعجب الكوكوديس وقال: ومن هذا الذي يعرفها ليخبركم بها؟
فأجاب 117: أنا الذي أعرفها!
ووقف يدير في الكوكوديس لحاظا حائرة ثم قال له: إنني حتى اليوم لم أطلب إليك قضاء أمر.
فأجابه الكوكوديس: اطلب فما تريد؟
فأشار إليه 117 وحاد به قليلا عن الجماعة وقال له: إنك أيها الصديق تذهب كل يوم إلى فندق فرنسا، وترى تلك السيدة التي تنتظرك فيه. أليس كذلك؟ - نعم. - وهي امرأة حسنة التدبير؟ - أظنها كذلك. - إنني أريد أن أعهد إليها برسالة توصلها إلى باريس. - أعطني إياها وأنا أوصلها إليها. - كلا فلا يسلمها سواي وأنا أعطها إياها يدا بيد.
فعجب الكوكوديس ودهش من كلامه وقال له: أين تراها أنت؟ - أراها في الفندق حيث تقيم.
فزاد الكوكوديس عجبا وقال له: هل تستطيع الخروج من الليمان؟ - ذلك ما لا يهمك أمره، وقل فقط ألا ترى اليوم هذه السيدة؟ - نعم. - إذن أخبرها بأني سأزورها هذه الليلة.
فنظر إليه الكوكوديس نظرة المتأمل وقد حسبه مجنونا.
6
مضى النهار وانسدلت حجب الليل ودخل الأشقياء إلى مكان النوم حسب عادتهم الجارية. وكان ميلون ينام بجانب 117، فقال له بصوت منخفض كما كانا يتناجيان قبلا: أظن أيها الصديق قد عاهدته معاهدة ثابتة.
أجاب 117: ومن ذا الذي تعنيه؟ - أعني الكوكوديس فماذا جرى بينكما حين تكلمتما سرا ألم تخبره بأنك تريد الذهاب إلى فندق فرنسا الساعة 11 من هذه الليلة؟ - نعم، وماذا ترى في ذلك؟ - كان ينبغي ألا تطلعه على ذلك فربما لا تستطيعه.
فضحك 117 ضحكا خفيفا وقال له: كيف لا أستطيع فأمهل حتى يذهب الحرس فترى.
وعند ذلك كان بعض الحرس يمرون على المسجونين ويتفقدونهم واحدا واحدا ولما انتهى أحدهم إلى 117 تبادلا نظرة خفية كان 117 بادئا بها.
فلما مضى الحارس قال 117 لرفيقه ميلون: كم الساعة الآن؟ - قد أذنت الساعة التاسعة. - إذن دعني أنام ساعة واحدة. - وبعد ذلك؟ - توقظني ولا تقتضي لي أكثر من ساعة في التأهب للذهاب. - لا أفهم شيئا من مرادك في هذه الليلة فبالله صرح لي بما تنويه. - أصغ إلي، إنك وحدك مصادق لي وقد اتفقنا قبلا على الفرار من هذا الليمان، فيجب أن نتمم قصدنا في هذه الليلة.
وسر ميلون سرورا عظيما وقال متحمسا: نعم ليكن فرارنا هذه الليلة. - إذن نخرج إلى العالم معا ولكن على شرطين لا بد منهما. - وما هما؟ - إن الشرط الأول هو أن نتفق اتفاقا ثابتا أن لا نفترق في الدنيا مطلقا! - وهل أنت تبحث معي عن الفتاتين اللتين ذكرتهما لك؟ - نعم. - وهل تساعدني أيضا حتى نرجع إليهما مالهما؟ - نعم.
فقال ميلون عند ذلك: إذن إني لا أفترق عنك مطلقا حسب شرطك الأول، فما هو الشرط الثاني؟ - أما الشرط الثاني إني أقوله لك بشرط أن لا تغضب منه، لقد قلت مرارا كثيرة إنك قليل التبصر والتدبير أليس كذلك؟ - نعم، لا أنكر أني عديم الرأي. - حينئذ إن الشرط الثاني هو أن ترضى كل الرضا بأن تبقى دائما اليد التي تطيع حيثما أكون أنا الرأس الذي يأمر. - إني راض بذلك. - إذن أصغ إلي واعلم أن لساني لا ينطق الكذب. - وأنا واثق مما تقول. - قلت لك إني ذاهب هذه الليلة إلى فندق فرنسا وإني سأخرج من هذا السجن بملء الحرية كما يخرج منه السجان نفسه. - أصحيح ما تقول؟ - اسكت هذا مفتش السجن قد حضر.
وكان المفتش والحداد قد أتما تفتيشهما وفحصا قيود المسجونين، ولما دنا من ميلون ورفيقه قال المائة وسبعة عشر للمفتش: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك كم الساعة الآن؟
أجابه المفتش: قد بلغت الساعة التاسعة.
ونظر المائة وسبعة عشر للحداد نظرة خفية وقال: كنت أحسب أن الساعة العاشرة الآن.
ثم ذهب المفتش دون أن ينتبه إلى ما جرى بين هذا السجين وبين الحداد من تبادل النظرات السرية، خلافا لميلون لأنه رأى جميع ما كان من رفيقه، ولما ابتعد عنهما المفتش قال ميلون لرفيقه: لماذا سألت المفتش عن الساعة وأنت خبير بمعرفة الأوقات؟ - ما سألته عنها إلا كي يعلم رفيقه ما أريد وهو من رجالي. - أي رفيق تعني؟ - رفيق المفتش وهو الحداد الذي كنت أنظر إليه.
ثم سكت وقال لميلون: أتعلم كم سنة بقيت لي في سجن طولون؟ - كلا. - عشر سنوات! وفي أول يوم دخلت فيه إلى هذا السجن عرض هذا الحداد أن يستخدم فيه، وقبل المدير طلبه بعد امتحانه لما لقيه من مهارته، وفي الحقيقة إنه حال دون فرار كثير من المسجونين حتى نال رضى رؤسائه عنه وثقتهم به، ولكن أتعلم لماذا قيد نفسه بهذه الخدمة الشاقة؟ - كلا. - إنه فعل ذلك من أجلي لأني سيده وهو ينتظر بفارغ الصبر اليوم الذي أظهر له فيه حاجتي إليه. - إذن هو خاضع لك؟ - حتى الموت وإني حينما قلت للمفتش «كنت أحسب أن الساعة العاشرة الآن» لم يكن سؤالي عن الساعة غير الإشارة إليه بأنها الموعد بيننا.
فدهش ميلون وقال له بسذاجة الأطفال: كيف حصلت على هذه السلطة وأي رجل أنت؟ - سأخبرك فيما بعد، ثم جعل يحل قيوده. - ماذا تفعل؟ - إني أحل قيودي لأنها سهلة الحل. - كيف ذلك ومتى كانت قيود المسجونين في طولون تحل حلا سهلا وهي من حديد؟ - ذلك لأن قيودي غير قيودك؛ لأن قيودك لا تنزع إلا بعد كسرها أو بردها.
وكانت العادة في هذا السجن أن كل سجين يربط ساقه بقيد خاص ثم يقرن بقيد آخر إلى رفيق من المسجونين بحيث يغدو كل اثنين بقيد واحد، وذلك مبالغة في الحذر من هربهم؛ لأن هروب الاثنين أصعب من هروب واحد.
وما أوشك 117 أن يتم حديثه مع رفيقه ميلون حتى انفصل عنه وأصبح كل منهما لا يربط إلا بقيده الخاص، فقال لميلون: لم يبق لي إلا أن يأتيني الحداد بالملابس التي طلبتها منه لأخرج من هذا السجن. - أتذهب وتدعني وحدي؟ - لا بد من ذلك لأني سأرجع فإن ساعة نجاتنا لم تحن بعد لأنه قبل أن نبرح هذا السجن الضيق يجب أن نعلم أي محل نقصد من ذلك السجن الواسع لأن الدنيا بأسرها سجن للمجرمين. - ولكننا نذهب إلى باريس لإرجاع المال إلى الفتاتين، ألم تعدني بهذا؟ - ذلك لا ريب فيه غير أني إذا خرجت من هذا السجن فلا أحب الرجوع إليه، ولا بد لي إذن من أن أخبر أصحابي في باريس بعزمي على الفرار كي يعدوا لي وسائل التنكر وإنما لا تخشى أيها الرفيق فلا يمر بنا أسبوع حتى نخرج من هذا المكان الرهيب على أن لا نعود إليه.
فحك ميلون أذنه إشارة إلى عدم ثقته من الفوز وقال: إن كل ذلك ممكن غير أني لا أزال أخشى أمرا واحدا. - ما هو؟ - هو أن مفتش هذا السجن يخطر له في أكثر الأيام أن يتفقد المسجونين عند انتصاف الليل. - وما تخشاه من تفتيشه في تلك الساعة؟ - أخشى أن يراني وحدي فيعلم فرارك. - ومن أخبرك أنك تكون وحدك؟
فانذهل ميلون وقال إني لم أكن أصدق بوجود الأبالسة، غير أني أجد الآن أنه لا بد لي من التصديق.
فضحك 117 وقال لرفيقه: إنك لم تر شيئا بعد، وسترى عجائب كثيرة فدعني الآن أنام ساعة إذ قد فرغت من جميع عملي ولم يبق علي غير انتظار الملابس التي سيأتيني بها الحداد.
ثم انقطع عن محادثته وغرق في لجج من الهواجس وميلون يحسبه نائما.
ولما دنت الساعة العاشرة سمع ميلون وقع أقدام خفيفة وكانت أصوات المسجونين قد خفتت وانقطعت شكاويهم وشتائمهم وسادت السكينة بهذا السجن، ثم رأى ميلون رجلا يمشي مشيا وئيدا إليهما.
وكان هذا الرجل حداد السجن فهز ميلون رفيقه وقال له همسا: قم لقد بلغت الساعة العاشرة.
فنهض 117 وقال: إني سمعت دقاتها.
وكان الحداد قد وصل إليهما فقال بصوت خافت: ها أنا ذا يا حضرة الرئيس وقد أتيت في الموعد. - حسنا فعلت فاخلع ثيابك ألعلك أحضرت ما أوصيتك به؟ - لقد أحضرت كل شيء.
ثم خلع ثيابه وخلع السجين ثيابه فلبس كل منهما ثياب الآخر، وأخذ السجين من الحداد علبة ففتحها وأخرج منها قبعة يغطيها الشعر المستعار بلون شعر الحداد، فلبسها إخفاء لحاله لأن المسجونين تحلق رءوسهم ثم أخرج منها لحية وشاربين فلبسهما ووضع على وجهه وجها مستعارا يشبه وجه الحداد كل الشبه. وبعد أن فرغ من جميع ذلك وضع قيده برجل الحداد وربطه إلى قيد ميلون ثم سأله عن كلمة المرور وودع الاثنين وانصرف.
7
وخرج من السجن دون أن يعترضه أحد من الحراس لأنهم حسبوه أنه نويل الحداد الذي كان مقيدا في مكانه، لا سيما وأنه كان عارفا كلمة المرور.
وبعد ذلك بربع ساعة كان يجتاز شوارع المدينة فوقف على دكان كان بابها مقفلا، غير أن نورا خفيفا كان ينبعث من نافذتها، فطرق الباب بلطف وبعد هنيهة سمع صوتا من الداخل يقول: من أنت؟
فأجابه: أنا نويل. - أليس لك اسم آخر؟ - نعم وهو كريكو.
ففتح الباب في الحال ورأى 117 نفسه في دكان بائع ملابس قديمة غير أن المرأة التي فتحت له تفرست به مليا ثم تراجعت منذعرة وقالت: لقد خدعتني فلست نويل. - صدقت ولكنني الرجل الذي تنتظرينه.
وكان يوجد رجل منزويا في زاوية الدكان فقال لها: دعيه يدخل، فإنه الرئيس. ثم قام إلى الباب وأقفله وقال للسجين: إننا ننتظرك يا سيدي منذ عهد بعيد. - ذلك أكيد غير أن الأمر لا ينقضي في هذه الليلة. - كيف ذلك ألا تريد الفرار؟ - كلا.
فجعل الرجل والمرأة ينظر كل منهما إلى الآخر بكآبة وانذهال.
أما السجين فإنه ابتسم ابتسام الحزين وقال: لماذا تستغربان فإني راض عن عيشة السجون.
فقالت المرأة: لا جدال في الذوق . - غير أني سأهرب من سجني قريبا، وقد خرجت منه الليلة كي أعد لوازم الفرار.
فأظهرت المرأة سرورها وقالت: هذا هو الكلام المفيد فلم يعد عليك إلا أن تأمر فتطاع.
فقال السجين: إني أطلب إليكما أن توجدا لي في هذه الأيام خادما يصلح أن يكون خادم غرفة.
فانبرى له الشاب وقال: ألا أصلح أنا لهذه الخادمة يا سيدي. - سوف نرى.
فقالت المرأة العجوز: ألست في حاجة إلى شيء الآن؟ ألا تريد أن أهيئ لك طعاما شهيا؟ - كلا، إني سأتعشى في المدينة. - أين؟ - في فندق فرنسا عند امرأة حسناء. - لا غرو في ذلك فإنك شاب جميل.
ونظر السجين إلى ساعة فضية تركها له نويل في جيبه فرأى أن الساعة بلغت العاشرة ونصفا فقال: لقد حان الموعد ويجب أن أغير ملابسي.
فقال الشاب: إن نويل قد ترك هنا صندوقا لك وفيه ملابس مختلفة. - أين هو؟ - في الغرفة العليا. - سر بي إليها.
فأنار الشاب شمعة وصعد أمامه إلى تلك الغرفة والسجين يتبعه، حتى أراه الصندوق فأطلق سبيله وفتح الصندوق، وأخرج منه ما يحتاج إليه من تلك الملابس.
أما الشاب فإنه عاد إلى أمه العجوز فقالت له: ألم أقل لك إنه سينتهي بالخروج من سجنه؟ - ولكنه بقي فيه عشرة أعوام. - لا بد أن يكون له مأرب من البقاء فيه. - لا ريب بما تقولين لأن من كان مثله لا يتعذر عليه الخروج من السجن. - هو الحق ما تقول ولكن الغريب أني ما عرفته عند دخوله. - كيف تستطيعين أن تعرفيه وقوته توشك أن تكون منحصرة في التنكر، حتى لقد بلغ من براعته في هذا الفن أنه لو تنكر بشكل أميرال بحري لاستحال على أركان حربه أن يعرفوه. - أما هذا الرجل فإنه سيعود دون شك مركيزا من أصحاب الملايين، غير أن الذي لا يزال يشغلني من أمره بقاؤه في السجن عشرة أعوام وهو قادر كل يوم على الخروج منه. - إني أرتاب بأمره يا أماه. - بأي شيء ترتاب؟ - أظن أنه مصاب بحزن شديد. - أتظنه كآبة غرام؟ - كلا ولكنه حزن يخترق القلب فقد أحب امرأة كانت تحسبه أخاها فانتهى به الأمر أنه بات يحسبها أخته. - لقد عرفت هذه الحكاية. - وهو يخشى إذا ذهب إلى باريس أن يراها أو تراه فيها ففضل البقاء في السجن؛ ولهذا أظن أنه اتصل به خبر وفاتها ولولا ذلك لما أراد الفرار. - هذا ممكن.
وفيما هما يتحادثان نزل السجين من الغرفة بملابسه الجديدة، فصاحت العجوز وابنها صيحة دهشة لأنهما لم يعرفاه وقد رأيا أمامهما بحارا جميلا مسرح الشعر لطيف الهندام ذا لحية قصيرة سوداء.
غير أن السجين لم يكترث لاندهاشهما وقال للعجوز: اذهبي أمامي إلى فندق فرنسا فقد أزف وقت اللقاء. ثم قال: إن نويل لا بد أن يكون ترك لي نقودا عندكم.
8
ولنسبق الآن ال 117 إلى هذا الفندق الذي تقيم فيه تلك الفتاة عشيقة كوكوديس.
كان كوكوديس يدعو هذه الفتاة باسم نيشات تحببا وكان أصحاب الفندق يدعونها مدام بريفوست.
وليس من يعلم ما جمع هذين العاشقين غير أنهما لقيا من حلو العيش ومره ما يلقاه جميع العشاق.
وكانت هذه الفتاة في الثلاثين من عمرها جميلة الوجه قوية العضل عصبية المزاج، وكانت جميع مظاهرها تدل على أنها أسمى أدبا وأرفع نفسا وأبعد همة من عشيقها، كما أن ملابسها كانت تدل على أنها قادمة من باريس.
غير أن اتصالها بكوكوديس وارتضاءها أن تعيش في طولون لا يزالان سرا من الأسرار.
أما عشيقها هذا فقد كان كثير النزق غير مجمل بصفة من الصفات الأدبية، وقد خسر يوما في البورصة خسائر لم يستطع وفاءها، فهتك شرفه بيده كي يصونه باليد الأخرى وزور سندا على أحد المصارف راجيا أن ينجده أبوه لطمعه بثروته. غير أن الحكومة علمت بتزويره قبل أبيه وحكمت عليه بالسجن الذي رأيناه فيه.
وقد جاء في صباح اليوم الذي نقص فيه هذا الحديث إلى فندق فرنسا وقال لخليلته: إنك ستعودين إلى باريس بعد ثلاثة أيام فهل تريدين أن تقضي حاجة فيها للسجين الذي نمرته 117؟
ثم أخبرها عن هذا السجين وعن طباعه وصمته الدائم مما شوقها إلى لقائه وقالت له : إني أحب أن أرى هذا الرجل الغريب الأحوال ولا بد أن يكون له شأن عجيب. - إنه سيحضر إليك ويتناول العشاء معك. - متى؟ - في الساعة 11 من هذا المساء. - ألعله مطلق السراح في السجن مثلك؟ - كلا بل إنه مقيد مع رفيق له في قيد واحد ومع ذلك إنه سيحضر لأني بدأت أصدقه في جميع ما يقول، وإن يكن خروجه من السجن من المستحيلات.
وبعد أن أقام عندها مدة برحها وعاد إلى السجن. ولم تكن تفتكر تلك المرأة طول نهارها إلا بهذا السجين وما نقله إليها عشيقها من مقدرته وغرابة أطواره.
ولما دقت الساعة 11 أتى إليها خادم الفندق وأخبرها أن ضابطا من ضباط البحرية قدم لزيارتها فما شكت أنه السجين وقالت للخادم: إني قد دعوته للعشاء ادخل به إلي وأعد لنا المائدة.
وبعد حين دخل ال 117 فأمرته بالجلوس وقالت له: أنت هو؟ - نعم.
وجعل كل منهما ينظر إلى الآخر نظر الغامض المستطلع، إلى أن بدأ السجين بالحديث فقال: إنك لست المرأة التي كنت أرجو أن أجدها.
فابتسمت له وقالت: ماذا تريد بذلك؟
ولم يجبها على سؤالها، وقال وهو يحدق بها: إنك لا بد أن تكوني تعذبت كثيرا؟
فارتجفت وقالت: ماذا يهمك عذابي؟
فنظر إليها نظرة غريبة دعتها إلى الإطراق بنظرها وقال لها: أريد أن أعرف. - نعم لقد تعذبت ولا أزال أتعذب. - ولكن عذابك لم يكن من أجله دون شك.
وأشار بذلك إلى عشيقها الكوكوديس، فأجابته بإشارة احتقار بدت من شفتيها.
فسر السجين لهذه الإشارة وقال لها: لقد أحسنت؛ لأنك إذا لم تكوني المرأة التي كنت أرجو أن أجدها فإنك المرأة التي أحتاج إليها. ثم نظر إليها نظرة شديدة تكهرب بها جسمها، فلم تستطع تحملها وأطرقت ببصرها وهي تقول: ما هذه النظرات الغريبة التي أخضع لها مكرهة. إني ما عرفت غير رجل يستطيع إخضاعي بهذه النظرات النارية. - ومن هذا الرجل؟ هو ... - نعم. - وماذا حدث له؟
فقالت بصوت أجش: إنه مات. - لا بأس فسنشترك في البكاء عليه.
ثم جلس بقربها وأخذ يدها فصاحت صيحة منكرة لم ينتبه لها وقال: أريد معرفة كل شيء.
وزاد اضطرابها وتمتمت قائلة: ما هذا الرجل وكيف أتاه هذا السلطان علي؟ - قلت لك إني أريد أن أعرف كل شيء. - سأمتثل لما تريد. - إن الكوكوديس يدعوك نيشات وأهل الفندق يدعونك مدام بريفوست، أما أنا فإني أريد أن أعرف اسمك الحقيقي. - ليس لي اسم غير هذين الاسمين. - ألم يكن لك اسم غيرهما من قبل؟ - نعم. - أريد أن أعرفه.
وتنازعتها عوامل التردد هنيهة غير أنها لم تلبث أن خضعت لنظراته فقالت: إني كنت من قبل سيدة عظيمة وكانوا يدعونني البارونة شركوف. - وهذا البارون كيف كان يدعوك؟ - فاندا. - إذن أنت روسية؟ - لقد كنت من قبل أما الآن فليس لي اسم ولا وطن. - وزوجك أهو ميت أم حي؟ - إنه لا يزال في قيد الحياة ولكنه يعتقد أنني ميتة.
فقال لها السجين بلهجة الاحترام: أرجوك يا سيدتي قبل أن تحكي حكايتك أن تأذني لي بكلمة أيضا. - قل ما تشاء.
ألم يكن الرجل الذي أحببته يشبه هذا الأبله كوكوديس الذي يحسب أنك تحبينه الآن.
فابتسمت ابتسام القانط وقالت: نعم يشبهه شبها غريبا. - ولكنك لا تحبين كوكوديس؟ - كيف يمكن أن أحبه وهو أبله لا عقل له؟ - إذن فلماذا غادرت باريس واقتفيت أثره في طولون؟ - لأني نذرت نذرا. - أظن أني عرفت بعض الأمر. - ربما فإن لك نظرا يخترق أعماق النفوس ويهتك حجب أسرارها. - إن الرجل الذي كنت تهوينه قد مات موتا رائعا. - اسكت. - بل موتا شائنا. - بربك كفى. - يجب أن أعلم كل شيء ألم يمت على المقصلة بعد أن حكم عليه بالإعدام؟ - إنك لم تعلم كل شيء. - إذن تكلمي فهكذا أريد. - نعم إن يد الجلاد قطعت رأسه ولكن أتعلم متى وكيف؟ - كلا. - إنه أعدم في السجن الذي أرسلته إليه بعد أن أنقذته قبل ذلك من الشنق أعلمت الآن؟ - أتمي حديثك إذ يجب أن أعلم كل شيء.
9
فقالت فاندا: إني كنت سيدة عظيمة وقد تعلقت بهوى رجل مجرم ثم أصبحت من النساء المبتذلات، ولكني قبل كل هذا كنت فتاة من عامة الناس وكان اسمي فاندا فقط.
وكنت أقيم مع أبي الشيخ في قرية صغيرة على حدود بولونيا الروسية وكان منزلنا مشرفا على سجن المدينة فإذا جلست إلى النافذة أرى المسجونين، وكنت في ذلك العهد في الثامنة عشرة من عمري، ولي فوق جمال الصبا جمال السلامة والطهارة.
ولم يكن يستطيع أبي العمل لعجزه فكنت أشتغل لأقوم بأوده، فأنهض من الفجر وأشتغل منذ الصباح إلى أن يخيم الظلام، فكلما نظر سجين إلى مبلغ انهماكي في العمل يتأوه ويرثي لحالي.
واتفق يوما أني رأيت بين أولئك المسجونين رجلا أبيض اللحية وهو مقيد بقيد من حديد خلافا لرفقائه، فسألت عنه فقيل لي إنه كونت من نبلاء بولونيا وإنه محكوم عليه بالإعدام، فأشفقت عليه إشفاقا عظيما منذ ذلك العهد وأصبحت كلما رأيته أبتسم له فيخال لي أنه يتعزى بابتسامي.
ومضى على ذلك عدة أيام إلى أن أصبحت يوما، وأحد خفراء السجن يطرق بابي فقال: إن الكونت البولوني سيشنق اليوم وقد طلب أن يراك قبل أن يموت والتمس من رئيس السجن أن يأذن له بالاختلاء معك بحيث لم يبق إلا أن تجيبي طلبه إذا أحببت.
فلم يسعني إلا تحقيق أمنية هذا المسكين وقلت للحرسي: سر أمامي وأنا في أثرك؟
فسار أمامي وتبعته إلى السجن، فأدخلني إلى غرفة الكونت وانصرف.
فلما انفردت بهذا الشيخ قال: اعلمي يا بنيتي أنه كان لي ثلاثة أولاد فقتلتهم جميعهم يد الجلاد، وكانت لي امرأة فأصابها ما أصاب أولادها بحيث لم يبق من أسرتي إلاي، ولكني بعد ساعة ينفذ بي حكم الإعدام.
فأجفلت لحكايته المفجعة وقلت لسلامة قلبي: عجبا كيف يحق للإنسان أن يقتل أخاه الإنسان وكيف تنهى الحكومة عن القتل وتعمل به؟
أما الشيخ فإنه مضى في حديثه فقال: وقد بقي لي في هذا السجن شهر، وأنا أراك في كل يوم من نافذة غرفتك عاكفة على العمل، فحن إليك قلبي حنوا أبويا لما رأيته من اجتهادك وعزمت على أن أجعلك وريثتي الوحيدة.
وقد ضبطت الحكومة جميع ما لي من العقار ، غير أني خبأت جميع أموالي في مكان خفي فإذا شئت أرشدتك إلى مكانها وصيرتك غنية عظيمة، ولكني أشترط عليك شرطا واحدا وهو أن تنفقي قسما من هذا المال في سبيل إنقاذ مجرم من الشنق كل عام وتبذلي جهدك في هذا السبيل.
فنظرت إلى ذاك الرجل النبيل نظرة الإعجاب وجثوت أمامه بملء الاحترام وقلت له: أقسم بالله أني سأفعل ما تريد. فأرشدني إلى كنزه المخبوء.
وبعد ساعة نفذ فيه حكم الإعدام، وبعد شهر مات أبي الشيخ فأصبحت وحيدة في هذا الوجود ولكني أصبحت غنية بعد الفقر وباتت ثروتي تعد بالملايين.
وما مضى عهد بعيد حتى ذاع أمر ثروتي، وكان من الذين حاموا حول هذه الثروة البارون شركوف فتزوجني بل تزوج أموالي، وجاء بي إلى باريس.
وبينما كنت يوما أقرأ جريدة عثرت فيها على نبأ هائل، وهو أنهم وجدوا امرأة قتيلة في منزلها مطعونة سبع عشرة طعنة، وقد وجدوا أنه لم يسرق شيء من أموالها ومجوهراتها، والبحث جار عن القاتل.
فذكرت في الحال وصية الكونت وقلت في نفسي إن الفرصة قد دنت للبر بيميني، وقد أعجبني من القاتل أنه لم يكن لصا ولم يرتكب جريمته طمعا بمال، فأوقفت نفسي من تلك الساعة على البحث عنه بغية إنقاذه، ولكني قرأت بعد حين أن القاتل أركن إلى الفرار، فأسفت أسفا شديدا لأني كنت أحب أن تكون نجاته على يدي.
أما زوجي البارون شركوف فقد كان وحشي الأخلاق مقامرا سكيرا يصرف نهاره بالنوم والعربدة وليله بالسكر والمقامرة، وقد قال لي مرة في غيبوبة سكره إنه ما تزوجني إلا لمالي، فكرهته بعد حبي له أشد الكره وكشفت له مرة في سكرة غرام سر ثروتي واليمين التي حلفتها، فهزأ بي، ولم يقف عند هذا الحد، بل أخبر بسري أصحابه، فانتشر أمري في جميع باريس.
وكان كما ذكرت لك يدعني في المنزل وحدي في الليل ويذهب إلى ناديه للمقامرة بأموالي.
فبينما أنا جالسة ليلة في غرفتي أفكر بمستقبل أمري مع هذا الزوج الفاسد وقد انتصف الليل ونام جميع الخدم، سمعت وقع أقدام خارج غرفتي ثم رأيت بابها قد انفتح ودخل علي شاب جميل الطلعة عليه ملامح الذعر فقال لي قبل أن أستغيث: أنقذيني بالله فأنا قاتل المرأة.
وكان لهذا الرجل عينان كعينيك لم أر أقدر منهما على التسلط وجذب القلوب، وكنت قد سئمت العيش مع زوجي فأشفقت على ذاك الجاني، بل جذب فؤادي مغناطيس عينيه وتذكرت اليمين التي حلفتها للكونت فقلت له: لبيك فسأنقذك.
وعند ذلك أسرعت إلى خادمة كانت مخلصة لي فأيقظتها وجمعت ما كان لدي من الأوراق المالية والمجوهرات وأخذت جواز السفر المكتوب باسم زوجي وقلت للمجرم هلم بنا فلنهرب جميعا وخذ الجواز فادع نفسك باسم صاحبه.
ثم هربنا جميعا بعد أن تركنا هذه الرسالة الموجزة وهي:
إني لا أحبك وأحتقرك فلا تبحث عني لأنك لن تراني.
10
فجعل ال 117 ينظر إلى فاندا نظر الطبيب يفحص عليلا ثم قال لها: أتمي حديثك يا سيدتي.
فقالت: خرجنا عند انتصاف الليل فبلغنا الهافر عند الصباح وبعد ذلك ببضع ساعات ركبنا سفينة مسافرة إلى أميركا فأقمنا في تلك القارة الجديدة ثلاثة أعوام أنفقنا في خلالها جميع ما كان باقيا لدي من المال والمجوهرات.
غير أنه كان يظهر لي أن ذاك الرجل غني فإنه كتب إلى أوروبا فأرسل إليه 20 ألف فرنك، وكان يحبني وكنت هائمة به فكانت حياتنا شبيهة بالحلم.
ثم جعلنا إقامتنا في نيويورك وكنا نعيش فيها عيشة بذخ وإسراف ولما فرغ المال الذي أتاه من أوروبا أظهرت له خوفي من الإفلاس، فقال لي: لا تخافي فإني أحصل على المال حينما تريدين، فما جسرت بعد ذلك على سؤاله، ولكن سكوته كان يخيفني.
وكان يأتي إلى منزلنا كثير من الأميركيين المشتبه بسيرتهم وكان هو نفسه يأتي متأخرا فلم أكن أستطيع اعتراضه لأنه كان سيدي وكنت أحبه حتى لو أمرني أن أتجرع السم لما خالفت له أمرا.
وبينما كنت ساهرة ذات ليلة أنتظر عودته وقد أوشك الفجر أن ينبثق إذ رأيته داخلا وهو مصفر الوجه وعليه علائم الاضطراب، فذعرت وقلت له: ما أصابك؟ قال : لا شيء فإني بارزت خصما لي فقتلته، غير أن البوليس الأميركي سيطاردني لأن المبارزة غير جائزة في البلاد، فهلمي بنا إلى الباخرة المسافرة الآن إلى الأنتيل.
وكانت يده مخضبة بالدم فغسلها وتهيأت للسفر ثم خرجنا قبل شروق الشمس إلى الميناء، فلما أراد السفر أخرج من جيبه محفظة فرأيتها غاصة بالأوراق المالية ورأيت عليها أثر الدم فعرفت كل شيء وعلمت أن الرجل الذي أحببته وتركت زوجي من أجله لم يكن قاتلا فقط بل كان لصا أيضا، ومع ذلك بقيت على حبه كأنما جرائمه زادته في نفسي إجلالا، وهذه إحدى غرائب النساء.
وأقمنا في جزائر الأنتيل ثلاثة أعوام فاشتاق إلى باريس ورأى أن جميع ملامحه قد تغيرت فلم يعد يخشى مطاردة بوليسها فرجعنا إلى تلك العاصمة واستأجرنا فيها منزلا جميلا واقتنينا جياد الخيل والمركبات، فمنح نفسه لقب كونت وامتزجنا مع عائلات باريس فكان ينفق عن سعة وما جسرت مرة على أن أسأله كيف يأتيه المال.
وكان يختلط بكثير من ذوي السيرة المشتبهة كما كان يفعل في نيويورك، غير أنهم جميعهم كانوا يخضعون له خضوع الخدم للأسياد، ثم علمت بعد حين أنه كان زعيم عصابة من اللصوص اشتهرت شرورها في باريس وجعل البوليس يترقبها دون أن يعثر برجل من رجالها.
إلى أن عاد إلي ذات ليلة وهو مخضب بالدم وقد اخترقت صدره رصاصتان، فانطرح على سريره دون أن يبالي.
وفي اليوم التالي ذاع في باريس أنه حدثت جناية هائلة قتل فيها غني عظيم من أصحاب المصارف في منزله الذي كان يعيش فيه منفردا مع خادم غرفته وقد قتل بعد أن دافع دفاعا شديدا لأن جثته وجدت في الحديقة حيث طارد اللصوص الذين حملوا صندوقه وأفرغوا جميع ما في مسدسه من الرصاص.
أما أولئك اللصوص فقد كانوا ثلاثة بينهم خادم غرفة صاحب المصرف كما دل عليه التحقيق، وبعد أسبوع تمكن البوليس من القبض على الخادم فاعترف بالجناية وأرشد الحكومة إلى شركائه فيها، فأقبل رجال الشرطة بعد ساعة إلى منزلنا وقبضوا على خليلي فيه وهو لا يزال طريح الفراش، فنظر إلي مبتسما وقال: لا تجزعي فإني لا أموت شنقا لأن جرحي لا يمهل الحكومة إلى حين إعدامي، فذكرت بلفظة الإعدام المشنقة التي ذكرتني بيميني للكونت فقلت في نفسي: لا بد من إنقاذه.
وسار به الجند إلى المستشفى ولكن فأله خاب لأنه لم يمت بل شفي من جراحه ونقل من المستشفى إلى السجن، وكان محكوما عليه بعشر جنايات وباحتراف السرقة بالاغتصاب مدة عشرة أعوام، فهو يستحق الإعدام ألف مرة، غير أني بذلت من المساعي ما يقف دون جهد المجاهدين وفزت بإنقاذه من الإعدام فحكم عليه بالسجن بالليمان.
وقد تمكنت من رؤياه قبل إرساله إلى الليمان فقال لي: احضري إلى طولون فإني سأنجو من السجن ونسافر معا إلى إيطاليا، وكنت لا أزال أحبه فامتثلت.
فقاطعها السجين 117 وقال لها: إني أعرف بقية الحكاية.
فاضطربت وقالت: ألعلك عرفته؟ - كلا ولكني وصلت إلى سجن طولون في اليوم التالي للحادثة. - إذن أنت تعرف كل شيء. - نعم فإنه أعد معدات فراره بمهارة فائقة وكنت أنت تنتظرينه في باخرة تجارية تعهد ربانها أن يحمله عليها.
غير أن رفيقه بالقيد خانه فإنه بعد أن قطع قيده قبضوا عليه وهو يحاول أن يلقي نفسه في البحر والبلوغ سباحة إلى السفينة، ولكنه تمكن قبل القبض عليه من قتل رفيقه الذي خانه.
ولما كان النظام يقضي بإعدام كل مجرم يقتل مجرما في السجن، فقد تقرر إعدامه بعد 24 ساعة. - ولكنك لا تعلم بعد ذلك ما حدث فإني تمكنت من الدخول إلى السجن بشكل عامل من عمال الميناء وكانوا قد ضاعفوا قيوده وبالغوا في خفارته ومع ذلك كنت لا أقطع رجائي فاسمع ما حدث.
11
إنه في كل مدينة كمدينة طولون يوجد فيها مجلس تنفيذي يوجد فيها منزل يبتعد عنه الناس ويخشون منه، وهو منزل ذلك القاضي الذي منحه القانون حق الإعدام.
وفي كل سجن كسجن طولون يوجد سجين يكرهه رفقائه وينظرون إليه نظر الازدراء وهو الجلاد.
ومثل هذا الجلاد في ذلك العهد يفعل بدرهم ما لا يفعله سواه بألف وقد اشتريت هذا الجلاد بالمال ووضعت له قبل تنفيذ الإعدام مخدرا في كأس شرابه، فلما دعي لتنفيذ الحكم صعق وسقط على الأرض كالقتيل.
وكنت أرجو بهذا المخدر أن أؤجل زمن الإعدام إلى أن تتم لي معدات إنقاذه، ولكني عندما أعددت كل شيء وبات إنقاذه مضمونا تقدم أحد المسجونين الأسافل في آخر لحظة وعرض على رئيس السجن أن ينوب عن الجلاد.
ثم وقفت مذعورة كأنما تلك الحادثة قد تمثلت لعينيها وقالت: وا أسفاه إني رأيت رأسه قد هوى أمامي.
ثم ضحكت ضحكا عاليا وقالت: إني لا أزال أحبه وقد أقسمت أمام خياله إني سأنقذ مجرما من الإعدام كما أقسمت للكونت من قبله. - إذن فإن إقامتك في باريس ليست إلا لهذا الغرض؟ - نعم.
فأخذ السجين يدها وقال لها: انظري إلي، وجعل ينظر إليها نظرات كانت تخترق أعماق قلبها.
فقالت له: ماذا تريد مني؟ - أريد أن أعقد معك عهدا، أتقبلين؟ - نعم؟ - إني سأنقذ لك مجرما من الإعدام وكل ما أريده أقدر عليه. - وما تطلب مني بعد ذلك؟ - إني في حاجة إلى امرأة تشاركني فيما سأمثله من الأدوار، وأريد أن تكون خاضعة لي خضوعا لا حد له. - سأكون كما تريد وأقسم لك على الوفاء بذلك الرأس الذي رأيته يسقط أمامي.
فنهض المائة وسبعة عشر وقال: إني أفارقك الآن فإن الساعة قد بلغت الثالثة من الصباح. - إلى أين تذهب؟ - إلى السجن. - أأراك قريبا؟ - ربما، ولكنك سترد إليك أخباري غدا، وفي كل حال فإني لا أريد أن تبقي في هذا الفندق. - سأذهب حينما تشاء. - ولا أن تجتمعي بكوكوديس. - سأمتثل لما تريد. - وسأرسل لك غدا نويل. - من هو نويل هذا؟ - هو أحد رجالي. ثم تركها ومضى. •••
بينما كان 117 يسمع حديث فاندا الروسية كان ميلون نائما بجانب نويل الذي كان مقيدا معه بدلا من المائة وسبعة عشر، وقد حاول أن يباحثه غير أنه لم يفلح فإن الرفيق الجديد لم يجبه بحرف ولم يجد عند ذلك بدا من النوم.
ولما دوى مدفع السجن عند الصباح وهو الموعد الذي يستيقظ فيه المجرمون شعر ميلون أن يدا تهزه، ففتح عينيه ورأى رفيقه المائة وسبعة عشر يؤنبه لاستغراقه في النوم، وقد تبدل ذلك الضابط الجميل بمجرم شقي محلوق الرأس والشاربين.
فانذهل ميلون لأنه لم يشعر به عند عودته ولم يعلم كيف حل القيد من رجله دون أن ينتبه.
أما 117 فإنه لم يحفل بانذهاله وجلس بجانبه دون أن يكلمه بحرف.
ثم أقبل وكيل السجن ومعه الخدم يحملون الطعام والشراب للمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، فلم يأكل 117 وقال للوكيل: إني أتخلف عن حصتي لرفيقي ميلون فقد حلم حلما مزعجا الليلة.
فقال الوكيل: ماذا حلم؟ - إني هربت من السجن. - قبح وقبح هذا الحلم فإن تحقيقه يدعو إلى إهلاكي وأنت لا بد أن تكون حلمت أيضا، فماذا حلمت؟ - إني تعشيت مع امرأة حسناء وشربت معها الشمبانيا المثلجة، ولهذا فإني لم آكل الآن لأني لا أزال متخوما من طعام الحلم.
فتركه الوكيل ضاحكا، وانصرف 117 وميلون ذاهبين إلى الأعمال الشاقة، وفيما هما سائران لقيا بونفير السجين صاحب حكاية الكلب التي تقدم ذكرها فدنا منه 117 وقال له بصوت منخفض: إن الوكيل الذي قتل كلبك تعين في سجن طولون وهو فيه منذ أمس.
فاضطرب بونفير واحمرت حدقتاه من الحقد وقال: إذن فلا بد له من الموت. - تبا لك من أبله فإن من يريد الانتقام يكتم قصده في صدره ولا يبوح به لأحد. - ولكني لا أستطيع أن أضبط نفسي. - أتعلم ما كنت أصنع لو كنت مكانك؟ - كلا! - كنت أحسن سلوكي عدة أيام لأكون في عيون الحرس كالحمل الوديع، إلى أن تحين الفرصة فأفعل ما أشاء. - سأمتثل لما تقول.
ثم ذكر كلبه وجعل يبكي.
وتركه ال 117 وسار مع ميلون إلى محل الشغل فلقي فيه نويل الحداد وقال له همسا: أظن أنك تستطيع الآن أن تبلغ تلك السيدة المقيمة في فندق فرنسا أنه سيصدر قريبا حكم الإعدام في سجن طولون.
فأشار نويل إشارة الامتثال ومضى كل في شأنه.
12
بعد يومين من هذه الحوادث المتقدمة وقفت مركبة بريد على باب سجن طولون، ونزل منها رجل وامرأة، وكانت ظواهرهما تدل على أنهما من النبلاء الإنكليز.
وكانت المرأة بارعة في الجمال، فدخلا إلى السجن وأبرزا لمديره ترخيصا قانونيا يبيح لهما الفرجة على السجن وتفقد حالة المسجونين فيه.
وقد كتبت هذه الرخصة باسم السير أرثير بمبروك أحد ضباط البحرية وزوجته الشرعية.
فاحتفل المدير باستقبالهما وكلف أحد الضباط بالدخول بهما إلى السجن وجعلا يطوفان بجميع المجرمين ويسألان عن كل مجرم وجريمته، ولا سيما تلك المرأة الحسناء التي لم يسع الضابط إلا إجابتها.
وكانت المرأة تبدو بمظاهر الغنى العظيم فتشتري كل ما يعرض للبيع في السجن وتدفع ثمنه بسخاء.
وكان مما اشترته جزدانا كبيرا من الصدف لوضع النقود فيه، فأخرجت من جيبها خمسين جنيها مزدوجا ووضعتهما في الجزدان دون اكتراث، ثم أعادته إلى جيبها ومشت مع زوجها وذلك الضابط الذي فتن بسحر عينيها إلى أن بلغت إلى بونفير صاحب حكاية الكلب ورأته مقيدا بأصفاد ثقيلة، فرثت لبلواه وسألته عن شأنه وعن السبب في المبالغة بالتضييق عليه.
فبكى وقال: إنني يا سيدتي لم أرتكب جريمة تستحق هذا العذاب الشديد وإنما قيدوني بهذا القيد الثقيل الذي لا تحتمله الحيوانات الضارية لأنهم يخشون أن أقتل وكيل السجن، ثم ذكر لها بملء البساطة حديث كلبه والدموع تنهل من عينيه، وختم كلامه بقوله: إنه صفح عن قاتله منذ زمن بعيد، ولكن الحكومة لا تزال تخشاه وتعاقبه بهذا القيد المتين.
فتأثرت الإنكليزية تأثرا غريبا وشفعت به إلى الضابط، فوعدها خيرا وتعهد لها بأن يحمل المدير على إنقاذه من قيده.
ثم سارت مع الضابط تتفقد المسجونين حتى أوشكت أن تقترب من 117 ورفيقه ميلون، فنظر إليها 117 وقال لرفيقه: - كيف تجد هذه المرأة؟ - أي امرأة؟ - هذه الإنكليزية القادمة إلينا. - إنها في غاية الحسن. - هذه هي بعينها. - كيف هي؟ ألم تقل لي إنها شقراء الشعر، فأصبح شعرها أسود؟ - سيعود إلى أصله غدا؛ لأن من يكون في خدمتي فلا بد له أن يكون ماهرا في التنكر.
وبينما كان الاثنان يتحدثان عنها بصوت منخفض دنت منهما وقالت إلى الضابط مشيرة إلى المائة وسبعة عشر: أي ذنب جناه هذا الشاب الجميل فاستحق هذا العقاب؟
قال: إنه يا سيدتي أشهر رجل بين المجرمين ولست أعلم حكايته فإن المدير يعرفها وهو يخبرك عنها دون شك، ولكننا مأمورون بالمحافظة عليه ومراقبته مراقبة شديدة، دون رفاقه، في حين أنه لم يحاول مرة الإفلات من سجنه.
فلم تجب الإنكليزية وتظاهرت بعدم الاهتمام بشأنه، ثم تأبطت ذراع زوجها، وبينما كان الضابط يسير أمامهما أخرجت الجزدان الذي وضعت فيه المائة فرنك وألقته حيث كان يشتغل السجين فوضع رجله فوقه وبعد حين التقطه.
أما الإنكليزية وزوجها فإنهما أتما دورتهما في السجن إلى أن فرغا مما أتيا لأجله، فودعت الإنكليزية الضابط بعد أن شفعت مرة ثانية بصاحب حكاية الكلب، ثم دعته إلى مناولة طعام المساء عندها في الفندق المقيمة به مع زوجها، فاحمر وجهه لاضطرابه وانحنى أمامها شاكرا، فابتسمت له خير ابتسام وخرجت مع زوجها من ذلك السجن.
وفي صباح اليوم التالي دعا مدير السجن بونفير وقال له أتحسن السلوك إذا أفرجت عنك، ولا تحاول الاعتداء على الوكيل؟
فبكى بونفير وقال له: بكل تأكيد يا سيدي لأني صفحت عنه كل الصفح وقد كفرت بما لقيته من العذاب عن ذنب عدواني القديم.
فأمر المدير أن تحل قيوده وأن يشتغل مع المحكوم عليهم بالسجن للموت.
13
في صباح اليوم التالي صحا ميلون من رقاده ونادى رفيقه بلقب السيادة كما يناديه نويل وقال له: ألم تحن ساعة الفرار بعد؟
أجابه 117: كلا، ولكنها باتت قريبة. - متى تكون هذه الساعة؟ - لا أدري فإن أمرهما متعلق بمجرى الحوادث.
فتنهد ميلون وقال: إني لا أحب الفرار من أجل نفسي بل من أجل هاتين الفتاتين القاصرتين. - كن ناعم البال لأن يوم الخلاص بات قريبا.
وعند ذلك دنا منهما الوكيل ووزع عليهما الطعام، وكان هذا الوكيل يدعى موسلت، وهو عدو بونفير الألد، غير أن بونفير أبر بوعده فإن الوكيل مر من أمامه عدة مرات، فلم يهجم عليه بونفير واكتفى بأن أدار له ظهره كي لا ينظر إليه.
ولما دنت فرصة الظهر ذهب أولئك المسجونون إلى ظهر باخرة كانوا يشتغلون بإصلاحها وأقاموا فيها يصرفون وقت الظهر بالمنادمة والمسامرة.
فقال أحدهم: إن الكوكوديس لم يحضر اليوم وستفوتنا حكايته اللطيفة.
وأجابه آخر: لا تطمع بحكايته بعد الآن لأنه منقبض الصدر لسفر خليلته.
فقال 117: إني أحكي لكم حكاية روكامبول أحسن مما يرويها الكوكوديس إذا شئتم أن تصغوا إلي.
فصاحوا جميعهم بصوت واحد: روكامبول، روكامبول.
وكان موسلت وكيل السجن مضطجعا بالقرب منهم فانزعج لصياحهم وقام إليهم بالسوط منهالا عليهم بالضرب، وكان أخص ضربه للمائة وسبعة عشر ولبونفير؛ لأنه كان يكرهما كرها شديدا، فأزبدت شفتا بونفير من الغيظ غير أن المائة وسبعة عشر نظر إليه نظرة سرية كانت كالبلسم لجراحه فعادت إليه مظاهر السكينة.
أما 117 فإنه قال لرفقائه بعد انصراف الوكيل: لا سبيل إلى قص حكاية روكامبول اليوم وسأرويها لكم في يوم آخر.
ثم انزوى مع رفيقه ميلون وجعل ينظر إلى سفينة حربية روسية كانت في الميناء، وقد نزل منها 12 جنديا وضابط وتلميذ فكان التلميذ ينظر إلى المسجونين نظر الفاحص.
فقال ال 117 لرفيقه ميلون همسا: انظر إلى هذا التلميذ البحري فإنه المرأة الإنكليزية التي زارتنا أمس.
ولما مر أولئك البحارة بالقرب من المسحونين حياهم ال 117 باللغة الروسية فعجب منه ميلون وقال: أتعرف اللغة الروسية؟ - إني أعرف جميع اللغات الشائعة.
أما التلميذ البحري فإنه اختلط بالمسجونين وجعل حديثه خاصة مع 117 فقال له أحد رفقائه في السجن: إذا كنت تعرف اللغة الروسية فسله عن أخبار سباستبول.
فسأله 117 باللغة الروسية قائلا: أأحضرت ما أوصيتك به؟
فأجاب بالروسية: نعم أيها الرئيس إنك أمرتني فأتيت.
فسأله السجين: ماذا يقول؟ - يقول إنه ما زال الذين يحاصرون سباستبول كسالى مثلك، فإنها لا تؤخذ.
ثم رجع 117 إلى التلميذ وقال له بالروسية: ألعل السفينة مهيأة؟
أجابه باضطراب في صوته: نعم، كل شيء قد تهيأ. - لماذا هذا الاضطراب ألعلك خائفة؟ - نعم لقد بت وجلة على هذا المسكين الذي سندفعه إلى ارتكاب الجريمة. - إنك مخطئة ونعم إن بونفير سيقتل الوكيل العاتي ويحكم عليه بالإعدام ولكني سأنقذه من الموت. - أأنت واثق مما تقول؟ - كل الثقة لأني كل ما أريده أقدر عليه.
وفيما هو يكلم فاندا إذ رجع منذعرا لأن الوكيل موسلون ضربه بسوطه ضربة شديدة أعادت الزبد إلى شدقي بونفير، وإنما ضربه لأنه كان يكلم رجال البحرية الروسية.
أما التلميذ البحري أي فاندا فإنه اعتذر إلى الوكيل وقال له: إني سررت به لأنه كلمني بلغة بلادي فذكرني أهلي ووطني.
ثم أكب على عنق 117 يعانقه ببساطة الأطفال، فانهال الوكيل على السجين بالضرب، ولكن التلميذ كان وضع في قميص السجين مدية طويلة وانصرف إلى رفقائه البحارة.
وبعد حين عاد المسجونون إلى العمل فأشار ال 117 إشارة خفية إلى بونفير فهم مرادها ودنا منه فقال 117: ألا تزال مصرا على قتله؟ - لا راحة لي بغير قتل هذا الشرير. - أتعلم ما وراء ذلك من المخاطر؟ فإنهم يقتلونك على أثر قتله. - إني راض بإعدامي لأن موتي خير لي من حياته.
وعند ذلك أعطاه 117 المدية فاتقدت عينا بونفير بشرر الانتقام الوحشي وقال: سأجد لهذه المدية خير غمد في صدر هذا الأثيم.
14
وفي الليل بينما كان المسجونون نياما كان ال 117 وميلون يتحادثان بصوت منخفض، فقال ميلون: إني لم أعلم شيئا من قصدك يا حضرة الرئيس. - لا بأس إذ ينبغي أن تتعود أن تخضع دون أن تعلم ولكني سأوضح لك قصدي في هذه المرة فقط، اعلم أني كنت محتاجا إلى امرأة تساعدني على تنفيذ خطتي وقد وجدتها. - إنها خير امرأة صالحة لخدمتك، لقد رأيت من جرأتها ومهارتها في التنكر ما أذهلني ولكني لا أزال محتارا في أمر دخولها إلى القلعة ووجودها في مركب روسي حربي. - إنه أمر سهل، وذلك أنها روسية المولد وتنكرت أول أمس بملابس الغلمان، وسافرت عند منتصف الليل إلى مرسيليا حيث وجدت فيها تلك السفينة الحربية.
أما طريقة اتصالها بها فهي أن نويل عثر بأوراق غلام روسي من البحارة توفي منذ شهرين في مستشفى طولون، فأخذت منه هذه الأوراق وذهبت بها إلى السفينة الروسية وطلبت إلى قومندانها أن يعيدها إلى وطنها، فأمرها القومندان وهو يحسبها غلاما أن تنضم إلى سلك البحارة، وعلى ذلك وصلت إلى طولون وتمكنت من مخابرة أصحابي في الميناء.
فانذهل ميلون وقال: ألك أصدقاء في الميناء؟ - نعم وهم في سفينة كبيرة سأكون ربانها. - إني لو لم أكن رأيتك بعيني خرجت من السجن لما كنت أصدق ما تقول، وكنت حسبت كلامك ضربا من الجنون. والآن فإني مؤمن بكلامك واثق من أن لك سفينة في الميناء، ولكن متى يكون فرارنا من هذا السجن؟ - أتظن أيها الرفيق أن النجاة من سجن طولون يكفي فيها قطع القيود ومغافلة الحراس. - إن جميع رفقائنا يهربون بهذه الطريقة. - وكلهم مخطئون لأن الرقباء عندما يشعرون بفرار السجين ينبهون المدينة بإطلاق مدفع، ثم ينتشر الرقباء والأرصاد في المدينة فلا يمسي المساء حتى يعثروا على الهارب ويعودوا به إلى السجن، وقد ندر أن ينجو أحد من قبضتهم بهذه الطريقة. أما أنا فإني أردت الخروج من السجن ولا أريد الرجوع إليه، ولهذا فإني أهيئ أسباب الفرار منذ خمسة أيام، وكن واثقا أننا متى بتنا خارج السجن لا يقف أحد على أثرنا. - ذلك قد يتفق لك وأما أنا ... - وكذلك أنت فقد جعلتك من رجالي الأخصاء وعولت على أن لا أفترق عنك، ومتى وعدت فلا أنكث.
فتنهد ميلون وقال: وا رحمتاه للفتاتين. - دع الآن الإصغاء للعواطف وأصغ إلي، فقد قلت لك إني كنت محتاجا إلى امرأة تعينني في قضاء مآربي وقد وجدتها وأريد أن تكون عبدة لي.
ثم حكى لميلون حكاية فاندا الروسية وكيف أنها جاءت إلى طولون بغية إنقاذ واحد من الذين حكم عليهم بالإعدام.
فعجب ميلون وقال: وماذا يهمها إنقاذه؟ - إنها نذرت نذرا أمام قبر رجل تحبه وهو إنقاذ رجل من الإعدام ولا سبيل إلى استعبادها إلا بعد وفاء النذر. - لقد بدأت أفهم الآن ولكن هل أنت واثق من إنقاذ بونفير؟ - لا شك عندي بذلك. - أتعلم أن نظام السجن يقضي على المجرم الذي يقتل موظفا بأن يتلى الحكم عليه بعد 24 ساعة. - هذا الذي أعتمد عليه في حسابي أليس اليوم الإثنين؟ - الإثنين مساء. - أظن أن الوكيل يقتل في هذه الليلة. - وبعد ذلك؟ - يصدر الحكم على بونفير يوم الأربعاء وتنصب المشنقة يوم الخميس، فلنفرض أنه حدث حادث في السجن يوم الخميس حال دون إنفاذ الحكم. - إذن الإعدام ينفذ الجمعة. - كلا إن يوم الجمعة لا ينفذ فيه إعدام لأنهم يعتبرون أن المسيح مات في يوم الجمعة فلا يقتل فيه المجرمون. - على ذلك إن الإعدام ينفذ يوم السبت. - ولكننا يوم السبت نكون قد بعدنا عن ساحة الإعدام. - أين نكون؟ - في عرض البحر على ظهر سفينتي، ولقد فاتني أن أقول لك إني نشأت بحريا، بحيث أستطيع أن أطوف جميع البحار دون أن تجنح السفينة التي أديرها. - أأكون معك؟ - دون شك. - وفاندا؟ - ستكون معنا. - وبونفير؟ - وبونفير أيضا لأني محتاج إليكم جميعا. - إني لا أفهم شيئا مما تقول. - ذلك خير لك إذ يجب أن تتعلم الامتثال دون أن تفهم كما قلت لك، ثم رجع 117 وجعل يتنصت.
فقال له ميلون: ماذا تصنع؟ - إني أصغي إلى صوت المبرد بيد بونفير لأنه يبرد قيده به. - ألعلك أعطيته مبردا؟ - نعم، فإن إحدى شفرتي المدية التي أعطيته إياها مبرد يصلح لكسر القيود.
وعند ذلك دقت الساعة العاشرة فقال 117 لرفيقه: دعني أنام الآن، وسأصحو حين قدوم المفتش. ثم أغمض جفنيه وانقطع عن الكلام.
وكانت العادة في سجن طولون أن المفتش والحداد يطوفان كل ليلة عند منتصف الليل فيفحصان قيود المسجونين حذرا من فرارهم، وكان المفتش موسلون عدو بونفير، والحداد نويل صنيعة 117.
فلما انتصف الليل أقبل المفتش يحمل مصباحا ونويل يحمل مطرقة، وجعلا يوقظان المساجين دون إشفاق فيطرق نويل قيد كل واحد منهم فيعلم من صوت الحديد إذا كان سالما أو مكسورا.
وما زالا على ذلك حتى انتهى الدور إلى بونفير، وكان نويل عارفا بالمكيدة فلما طرق قيد بونفير نهض وتراجع منذعرا إلى الوراء بحيث أصاب عن عمد مصباح المفتش، فسقط من يده وانكسر، وعند ذلك هب بونفير من مرقده والمدية بيده فانقض على موسلون، ولم يسمع في سكون ذلك الليل غير صوت نزاع تنبه له جميع المساجين.
ثم تلاه صياح ألم شديد عقبه صوت انتصار، وكان صياح الألم من المفتش وصياح الانتصار من بونفير، وقد طعنه في صدره عشر طعنات كانت القاضية عليه، وجعل يمشي في قاعة السجن ظافرا مختالا وهو يقول: أخذت بثأر كلبي الأمين.
فقال ميلون لل 117: إنه غير مكترث لشيء لفرط اعتماده عليك. - كلا، بل إنه غير مكترث للموت لأنه لم يعلم أني سأنقذه.
15
كان قتل بونفير للمفتش ليلة الإثنين، وفي صباح الثلاثاء وقف بونفير أمام القضاة لمحاكمته.
وكان ثلاثة يجتهدون في إنقاذه من الإعدام وإطلاقه من السجن، وهم ميلون ونويل الحداد و117.
غير أن بونفير كان يجهل هذه المساعي كلها، فكان يتوقع الموت مطمئنا غير خائف، ولما سأله القاضي عن سبب الجريمة، أخبرهم بحقده القديم على المفتش بملء السكينة والبساطة، فحكموا عليه بالإعدام وتقرر إنفاذ الحكم بعد أربع وعشرين ساعة.
وانتشر الخبر بين المجرمين فاستاءوا له استياء شديدا، وكانت علائم الانقباض بادية على وجوههم، ولما اجتمعوا في فرصة الظهر لم ينبس أحد منهم بكلمة لما نالهم من الغم والكآبة، فإن الإعدام كان يروع أولئك المجرمين الذين لم ينجوا منه إلا بالقدر والاتفاق.
وقد دار في خلد كثيرين منهم قتل الحراس والإفلات من السجن، ولما مثلت أمامهم تلك الحادثة برفيقهم بونفير وجفت قلوبهم وانكمشوا، إذ لا شيء يرهب المجرمين مثل الحكم بالإعدام.
والعادة في سجن طولون أن الآلة الخشبية التي توضع عليها آلة قطع الرأس يبنيها المساجين أنفسهم كي يكون ذلك أبلغ في الاعتبار، وكان الجلاد منهم، غير أن المساجين لم يكونوا يشيدون هذه الآلة إلا مكرهين بضرب العصي.
أما الجلاد، فقد كان شر هؤلاء المنكودين تعاسة لأنه يقضى عليه بعد توليه هذه المهنة، أن يعيش منعزلا منفردا عن رفقائه ولا يجد منهم غير الازدراء والاحتقار.
وهذا ما أصيب به جلاد السجن في عهد هذه الرواية، فإنه طالما توسل إلى مدير السجن أن يولي سواه مهمة الإعدام لما لقيه من احتقار إخوانه، فأبى عليه لأن قوانين السجون تقضي على الجلاد أن لا يعتزل منصبه حتى الموت .
فلما انتشر خبر الحكم على بونفير بالإعدام خرج هذا الجلاد عند فرصة الظهر وجلس واليأس ملء قلبه بمعزل عن إخوانه وقد جلس القرفصاء غير مكترث لحرارة الشمس، ووضع رأسه بين يديه يفكر بما يلقاه من متاعب السجن ومن احتقار رفقائه له.
وفيما هو على ذلك سمع صوت رجل يناديه فالتفت فإذا هو 117 يصحبه ميلون رفيقه بالقيد، فنظر إليه 117 نظرة انذهال وقال له: ماذا تصنع هنا أيها الرفيق وكيف أنت منعزل عن الرفقاء؟ - إني منعزل اليوم كما كنت منعزلا أمس وسأكون على ذلك إلى ما شاء نكد الطالع، غير أني أعجب لسؤالك ألعلك لا تعلم من أنا؟ - إنك تدعى جواني الجزار. - كلا، بل إني أدعى جواني الجلاد. - وقد قدر عليك أن تعيش منفردا. - ما زلت في هذا السجن وا أسفاه. - أحكم عليك بالسجن المؤبد؟ - نعم. - كم عمرك؟ - أربعون. - وأي ذنب جنيت فأصبحت من زمرتنا؟ - قتلت امرأتي في ساعة ذهب السكر بعقلي، فحكم علي بالسجن طول العمر وشتان بيني وبينكم فيه، فإنكم تجدون بعض السلوى بما تتجاذبونه من الأحاديث، أما أنا فإني مضطهد من الجميع فلا يكلمي أحد. - لماذا لا تهرب؟ - كيف أستطيع الهرب إذا لم يكن لي رفيق يساعدني عليه وقد قدر لي أن أموت في هذا السجن جلادا ممقوتا مغضوبا عليه من الله والناس؟ - لا تقنط فإن سجنك قد لا يكون أبديا.
فاضطرب الجلاد وقال له: ماذا تعني بذلك؟
فلم يجبه 117 على سؤاله وقال له: إنك تتألم كثيرا لندور الصديق فماذا تعطي صديقا يمد إليك يده ويصافحك. - أعطيه نصف دمي. - إذن هذه يدي أمدها لمصافحتك.
فاضطرب الجلاد وصافحه والدمع يجول في عينيه وهو يقول: من أنت أيها الرجل المشفق؟ - أنا الذي يسمونني مائة وسبعة عشر.
ثم جعل ينظر إليه تلك النظرات الغريبة التي أخضع بها فاندا الروسية وقال له: إني أتيت لألقي في نفسك القانطة بذور الرجاء. - وا أسفاه لقد فقدت كل أمل. - كلا، وسأجعلك حرا كما تشاء. - وماذا تطلب مني في مقابل ذلك. - أن تمتثل لي في كل ما أريد. - بل أكون لك عبدا ما حييت.
16
لم تكد تبلغ الساعة الثالثة بعد منتصف الليل حتى صاحت الأبواق في إحدى قاعات السجن، تدعو المجرمين فيها إلى بناء آلة الإعدام، فاضطرب المجرمون ولكن لم يسعهم إلا الامتثال مكرهين، وجعلوا يشتغلون متباطئين متوانين، وكانت السياط تبلغ من ظهورهم أكثر ما تبلغ أيديهم من الآلة.
وكان الجلاد واقفا بعيدا عنهم ينتظر فراغهم من العمل كي يضع تلك السكين الهائلة التي جعل يشتغل طول الليل مع أعوانه بشحذها.
ولما فرغوا من العمل وضع الجلاد السكين في موضعها وأراد تجربتها، فأتى بحزمة عظيمة من القش ووضعها حيث يوضع رأس المجرم، ثم أدار لولبا فهوت السكين وبرت تلك الحزمة بري القلم فسر بها وأظهر استحسانه.
وعند ذلك طلع الصباح فتفرق المجرمون وبقي الجلاد واقفا أمام الآلة يحرسها؛ لأن الإعدام تقرر أن يكون عند الظهر، وإنما هم ينصبون آلة الإعدام قبل حين كي يكون منظرها الهائل عبرة للمجرمين.
وبعد ساعتين جاءوا بجميع المجرمين وجعلوا يمرون بهم أمام تلك الآلة الرهيبة، فلما وصل إليها ميلون أدار وجهه كي لا يراها فتنبه له 117 وقال له: ألعلك خفت؟ - هو الحق ما تقول ومن لا يخاف هذه الآلة القاضية، ألم يتقرر الإعدام عند الظهر؟ - نعم، لم يبق لتنفيذه غير القليل فكيف ترجو إنقاذه بعد؟
فهز المائة وسبعة عشر كتفيه وقال له بعظمة وكبرياء: إني إذا وعدت وعدا أفي به دون شك. - غير أن بونفير لم يكن يؤمل النجاة من الموت وقد سمع تعزية الكاهن له بسكينة في البدء، ثم كان كلامه قد أثر عليه وزالت من قلبه تلك الأحقاد القديمة التي دعته إلى الانتقام وذكر جريمته الشنعاء فندم وجعل يبكي بكاء الأطفال، ثم هاجت به عاطفة الكبرياء فقال للكاهن: لا تحسب أني أبكي لخوفي من الموت، بل إن بكائي لإشفاقي على ذلك الرجل الذي قتلته انتقاما للكلب.
وعند ذلك دخل إليه في سجنه الجلاد واثنان من أعوانه وجردوه من ملابسه وألبسوه اللباس الخاص بموقف الإعدام، ثم أوثقوا يديه وراء ظهره وثاقا متينا وأوثقوا رجليه بقيد طويل بحيث يستطيع المسير، ولم يكن باقيا لموعد القتل غير سبع دقائق، فخرجوا به وهو يمشي متثاقلا والكاهن يتلو عليه أرق عبارات العزاء، حتى وصلوا به إلى تلك الآلة الرهيبة.
وكان جميع الموظفين في السجن، وجميع المجرمين راكعين حول المقصلة، وقد ساد السكوت في تلك الساعة الرهيبة، حتى لم يكن يسمع غير تردد الأنفاس، وقد نصبت أربع مدافع محشوة بالقنابل الضخمة في محلات مرتفعة من الجهات الأربع، فكانت أفواهها مصوبة إلى أولئك المجرمين الراكعين، وكان يحيط بهم فرقة من العساكر وبنادقهم مصوبة إليهم أيضا، وكان جميع ذلك مما يزيد في رهبة تلك الحفلة الهائلة.
وقد وضعوا بين المجرمين وبين الآلة تابوتا وقف حوله فريق من الرهبان لأخذ جثة المجرم بعد إعدامه.
فلما صعد بونفير الدرجة الأولى من درجات الآلة نظر إلى تلك المناظر الرهيبة نظرة واحدة هلع لها فؤاده وكاد يسقط لاضطرابه فساعده الكاهن على الصعود.
وكان اثنان من المجرمين راكعين قرب المقصلة وهما يتحدثان همسا، فنظر إليهما بونفير وعرف أنهما ال 117 وميلون وقال لهما: الوداع أيها الصديقان واذكراني خيرا بعد الموت.
ثم صعد درجة من تلقاء نفسه وقد أعاد إليه هذا الكلام بعد النشاط.
أما ميلون فكان شديد الاضطراب وكان يقول بصوت منخفض لل 117: ألا ترى أيها الرئيس أنه بلغ آخر درجات المقصلة فأي أمل ترجوه بعد؟
فقال له: اسكت.
غير أنه عندما نزل الكاهن وبقي المحكوم عليه اضطرب 117 اضطرابا خفيفا وحدق بنظره إلى السكين القاطعة التي كانت تتكسر عليها أشعة الشمس، وأدار الجلاد لولب تلك السكين.
17
وعند ذلك سقطت تلك السكين الهائلة تهوي على رقبة ذلك المسكين، فأغمض جميع الناظرين عيونهم كي لا يروا هذا المنظر الرهيب ولم يبق مفتح العينين غير المائة وسبعة عشر الذي كان ينظر محدقا إلى الآلة.
ومرت هذه الحادثة التي تكتب عنها المجلدات بثانية واحدة، ولما فتح المجرمون أعينهم رأوا أن السكين قد هوت ولكن الرأس لم يقطع، ذلك أنها لقيت حاجزا قبل بلوغها إلى رأس المجرم بنحو شبر فقط.
فأجفل الجميع لهذا السر الغريب الذي لم يدرك غوامضه غير ال 117 دون سواه.
وأعاد الجلاد السكين إلى موضعها القديم ثم أدار اللولب ثانية فلم يبلغ إلى الرأس ووقعت في موضعها الأول.
فأن بونفير أنين الرياح، واضطرب المجرمون وجعلوا يصيحون بأصوات مختلفة، وأسرع مدير السجن وأمر بإخراج بونفير إلى أن ينظروا في شأن الآلة والسبب في تعطيلها، وإنما فعل ذلك رفقا بهذا المسكين وحذرا من ثورة المجرمين.
وجعل 117 يمسح عن وجهه العرق البارد وقال لميلون: لقد عشت في دقيقة مائة عام وعسى أن يغفر لي الله يوما من الأيام.
أما بونفير فإنه أغمي عليه فحمله رفقاؤه إلى الغرفة المعدة لسجنه، ورجع المجرمون إلى زنزاناتهم.
وعاد موظفو السجن إلى فحص الآلة، فوجدوا أن العمال الذين صنعوها قد عطل أحدهم مسير السكين بما وضعه في سبيلها من العوائق، وقد وضعها بحذق وتدبير بحيث إنهم باتوا مضطرين إلى صنعها مرة ثانية لتعذر إصلاحها، وهذا ما كان يقصده 117 من تعطيلها؛ لأن ذلك كان من صنعه دون أن يشعر به أحد.
ولما خلا برفيقه ميلون قال له: إن بونفير بات واثقا من أنهم لا يعدمونه اليوم.
قال ميلون: ولكنهم يعدمونه غدا. - غدا الجمعة. - إذن يعدمونه السبت. - إذا وجدوه في السجن فليعدموه. •••
وذهبوا ببونفير إلى سجنه كما قدمنا، وهو سجن خاص بالمحكوم عليهم بالإعدام يبلغ عمقه 30 قدما في جوف الأرض.
ولما صحا من إغمائه جعل يفكر في أمره، وهو تارة يسر بنجاته من الإعدام ثم لا يلبث أن يفتكر أن ذلك إلى حين حتى يتولاه القنوط.
وبعد ساعة جاءه الحرسي بالطعام فعاد إليه السرور وقال في نفسه: سأعيش ساعة أيضا على الأقل، وجعلت الساعة تتلو الساعة حتى خيم الظلام وعاد إليه الحرسي بالطعام، فأكل بشهية وقال: إن الإعدام لا يجري في الليل وسأبقى حيا إلى الصباح.
وما زال يتقلب على فراشه الخشبي وهو لا يستطيع رقادا إلى أن انتصف الليل فسمع صوتا متصلا يشبه صوت المطرقة على السندان، فأصغى إلى الصوت فوجد أنه متصل وأنه يدنو منه.
ودام ذلك نحو ساعتين والصوت يدنو منه حتى أيقن أنهم يحفرون نفقا تحت غرفته.
وبعد حين سمع أن الصوت بلغ أرض المكان النائم فيه فنهض منذعرا، وما لبث أن رأى حجرا ضخما سقط من الأرض، فانفتحت هوة وبرز منها رأس إنسان.
18
وكان على هذا الرأس قبعة بحرية، وبعد الرأس ظهر الكتفان ثم اليدان ثم صعد الرجل بجملته فوضع مصباحه على الأرض ووقف أمام بونفير.
فصاح بونفير صيحة انذهال وقال: أهذا أنت وكيف أتيت؟ - نعم أنا هو الذي يدعونه 117 فإذا أردت أن تبقى حيا فاسكت واتبعني دون إمهال فإنهم بعد أربع ساعات يأتون للبحث عنك فإذا وجدوك أعدموك لأنهم أصلحوا الآلة، وليس لدي وقت لتعطيلها مرة أخرى، أعلمت الآن كيف نجوت؟
أما بونفير فلم يفهم شيئا لأن الهذيان تولاه فقال له: لا أعلم إلا أنني من الأموات، وكل ما أراه الآن فهو في العالم الأخير.
وعلم 117 أنه مصاب بالحمى والهذيان فقال له: إذا كنت قد أصبت بالجنون فذلك لسوء حظك ولكن لا بد لي من إنقاذك وسأنقذك.
ثم حمله وألقاه في الهوة فصاح متألما، غير أن سقوطه رد إليه صوابه فجعل ينظر إلى المكان الذي هوى فيه، فعلم أنه في نفق حفر حديثا، وكان المائة وسبعة عشر قد نزل إلى الهوة في أثره ورأى ما كان من فحصه فقال: أعرفت الآن؟ - نعم فإنك أتيت لإنقاذي. - إني واثق من إنقاذك إذا كنت تتبعني حيث أريد. - ولكن إلى أين أنت ذاهب بي؟ - تعال ولا تسل إنما أنظر إلى هذا النفق فإنه يقتضي لحفره خمسة أيام، ولا تضع الوقت عبثا. - وكل ذلك من أجلي؟
فلم يجبه المائة وسبعة عشر بل إنه كسر له قيوده. وقال له: لقد بت حرا الآن فاتبعني.
وجعل الاثنان يسيران في هذا النفق الطويل، وكلما مشيا بضع خطوات يقف 117 مصغيا، ثم يستأنف المسير فيسير بونفير في أثره، حتى رأيا أن طريق النفق أخذ بالارتفاع فقال له المائة وسبعة عشر: أتعلم أين نحن الآن إننا تحت أسوار القلعة.
وبعد أن مشيا عشرين دقيقة اتسع النفق وهب هواء بارد فأطفأ 117 المصباح والتفت إلى رفيقه وقال: أسرع بالسير فإن الهواء هذه الليلة موافق للفرار وقد فتحت أبواب السماء فانهالت منها الأمطار كعهد الطوفان.
وبعد بضع دقائق وقف 117 وأطل بونفير رأسه من ورائه فعلم أن هذا النفق ينتهي عند شاطئ البحر وسمع صوت تكسر الأمواج.
وكان الظلام حالكا والبحر هائجا والسماء تمطر مطرا غزيرا، فقال 117: أتعرف السباحة؟ - كنت تعلمتها في حداثتي. - إذن فاخلع ثيابك فإن السباحة لا تنسى وخير لك أن تموت غرقا من أن تموت بيد الجلاد ومع ذلك فسأعينك، لا تخف.
ثم التقط حبلا كان موضوعا على باب النفق فربط به وسطه وأعطى طرفه لبونفير وقال له: أمسك هذا الحبل، فما زال بيدك فلا تغرق.
وامتثل بونفير وألقى الاثنان نفسيهما في البحر العجاج وهما لا يعلمان كيف يسيران لشدة هياج الأمواج، وسواد الليل، فإن السفينة التي عزم 117 على الفرار بها كانت بعيدة عن الشاطئ حذرا من التطامها بالصخور، وكانت جميع أنوارها مطفأة مبالغة في التكتم.
غير أن 117 كان يسمع من حين إلى حين صفيرا يخرج من تلك السفينة، فيهتدي إليها ويسير إلى الجهة التي يخرج منها الصوت.
وما زال يصادم تلك الأمواج وتصادمه حتى وصل إلى قارب صغير بعد أن كاد يشرف مع رفيقه على الغرق.
وعند ذلك أنزلوا إليهما مجذافا فصعد عليه إلى الزورق، وكان فيه ميلون رفيق 117، وجواني الجلاد، فأجفل بونفير لمنظره وتراجع منذعرا إلى الوراء.
فطيب 117 خاطره وقال له: طب نفسا فإنه لم يأت إلى السفينة كي يقتلك فيها بل ليهرب معك عليها.
19
وجعل الزورق يسير إلى السفينة التي أعدها 117 للفرار حتى بلغ إليها وصعد جميع من في الزورق.
وكان أول من استقبل 117 فاندا الروسية وهي بملابس بحار صغير، فعانقته وهي تبكي من سرورها به وتقول: لقد نجوت بحمد الله.
فقال لها 117 بسكينة: بل نجونا جميعا. - إذن مر الربان بأن يقلع بالسفينة، فلم يعد لنا عمل بهذا الميناء الخطر. - هو ما تقولين، بل يجب علينا السرعة بالخروج منها قبل الصباح وقبل أن يعلموا بأمرنا.
ثم نادى الربان وأخبره كيف يجب أن يسير ونزل مع فاندا إلى غرفة كانت معدة له في السفينة وقال لها: كيف رأيت ألم أفي بوعدي؟
فركعت أمامه وقالت: نعم ولهذا فإني سأطيعك كما يطيع العبد مولاه. - أتعلمين أين نحن ذاهبون الآن؟ - سيان عندي فإني أتبعك أين سرت. - إننا ذاهبون إلى إيطاليا ومنها إلى باريس.
فأجفلت وقالت: إلى باريس؟ - ذلك لا بد منه فإن القدر يدفعني إلى تلك العاصمة.
فأحنت رأسها ثم نظرت إليه وقالت: أيها الرئيس إني حكيت لك قصتي أفلا تحكي لي قصتك؟ - وأية فائدة من ذلك؟
ثم رفع نظره إلى تلك السماء السوداء المتلبدة بالغيوم وجعل يتأملها كأنه يذكر بها ماضيه، ثم أخذ يد فاندا بين يديه وقال: إني كنت شرا من ذلك الرجل الذي كنت تبكينه فقد كنت لصا سفاكا، فارتكبت من المنكرات والموبقات ما أستحق لأجله ألف موت، غير أن هذا القلب الملطخ بالمآثم والعار، قد دخلت إليه عاطفة شريفة، بإذن الله، فأضاءت كما يضيء النجم في خلال العواصف.
أسمعت مرة بحديث ذلك الرجل المدعو كونيسار، ذلك الرجل الأثيم الذي دعا نفسه كونتا وهو من شر اللصوص، وكان يحمل على صدره أوسمة الشرف، وفي نفسه الخزي والعار؟ إني مثلت دور هذا الرجل ثلاثة أعوام فسرقت اسم رجل نبيل وتلقبت باسمه، فشغلت باريس بحديث ظرفي وبسالتي وكرم أخلاقي دهرا طويلا، حتى لقد أوشكت أن أكون من عظماء الإسبان.
وقد أحبني امرأتان طاهرتان وهما أم ذلك النبيل الذي سرقت اسمه وأخته فأفضى بي الأمر إلى حبهما كأمي وأختي، أما الأولى فقد انتقلت إلى رحمة الله، وأما الثانية فلا تزال عائشة في باريس، وإني مستعد لسفك دمي من أجلها.
فقالت فاندا: ألعلها علمت بعقابك؟ - كلا، فقد وجدوا أخاها ولكنها ما رأته، فإن الذين فضحوني وعاملوني بملء القسوة خافوا عليها من الفضيحة وعاملوها بملء الإشفاق، فأرسلوني إلى السجن، وأرسلوا شقيقها الحقيقي إلى الهند مع امرأته التي كنت عازما على الزواج بها ، وهي تعتقد الآن أني في الهند. - وهل رأيتها بعد ذلك؟ - نعم رأيتها في سجن قاديس قبل أن ينقلوني من سجن إسبانيا إلى سجن باريس فأشفقت على إشفاقا شديدا دون أن تعرفني لأني كنت مشوه الوجه، وقد مضى على ذلك عشرة أعوام. - وأنت تريد الرجوع إلى باريس لتراها؟ - أعندك شك في ذلك، فإني سأبالغ في التنكر كي لا تعرفني، وأقيم بجوارها فأراها كل يوم، لا سيما بعد أن عرفت بأن أخاها غير عازم على العودة من الهند. - ومتى عرفت ذلك؟ - منذ ثمانية أيام ولذا رضيت بالفرار بعد أن أقمت بالسجن عشرة أعوام، ولم يكن أسهل علي من الفرار منه، كما رأيت لأنني علمت الآن أنها لم تعرف الحقيقة، وأن أخاها لم تره ولن تراه.
وفيما هو يتكلم قدم إليه ميلون مسرعا وقال: أدركنا أيها الرئيس فإن السفينة عبثت بها الرياح وقد غلت أيدي البحارة وهلعت قلوبهم من الخوف.
فابتسم 117 وقال: لا تيأسوا فسأنقذكم بإذن الله.
ثم صعد إلى ظهر السفينة فأخذ الدفة من ربانها وجعل يصدر أوامره إلى البحارة، فسارت السفينة مطمئنة وبعد ساعة سكنت الزوبعة، وهدأت الرياح وسكنت الأمواج.
وعند ذلك سمعوا من طولون دوي أربعة مدافع فقال المائة وسبعة عشر: إن كل مدفع يشير إلى فرار واحد منا، ولكنهم تنبهوا بعد فوات الأوان، لقد آمنا كل خطر.
وكان الصباح قد بزغت أنواره وملأت الشمس الفضاء فتراقصت أشعتها على المياه، واجتمع حول المائة وسبعة عشرة أعوانه الذين فروا معه وكلهم معجب برئيسه منذهل مما رآه من أفعاله العجيبة.
وقال له ميلون: من أنت أيها الرجل الذي يوقف القضاء، ويمنع سيف الجلاد أن يبلغ إلى الرقاب؟
وقالت له فاندا، من أنت أيها الساحر الذي تخترق عيناه أعماق القلوب؟
وقال بونفير: من أنت أيها الرجل العظيم وماذا صنعت لك حتى أنقذتني من الإعدام؟
وقال له الجلاد: وأنا أيها الرئيس الذي تدانى إلى مصافحتي أتأذن لي أن أسألك من أنت؟
فابتسم 117 وقال: إذا كان لا بد لكم من معرفة اسمي فاعلموا أنني روكامبول .
فبهت الجميع وأطرقوا برءوسهم إطراق الخضوع وظلت السفينة سائرة إلى إيطاليا.
أنطوانيت
1
في الساعة الرابعة بعد منتصف ليلة من ليالي نوفمبر كان رجلان يسيران في شارع سيركس، وقد خلا ذلك الشارع من المارة والمركبات فلم يكن يسمع فيه غير صوت الرياح الباردة.
وكان هذان الرجلان متزملين وشاحيهما وأيديهما في جيوبهما، فجعلا يسيران في ذلك الشارع حتى انتهيا إلى منزل فيه نمرة 19، فوقف أحدهما وقال لرفيقه: سوف ترى أيها الصديق أنك لا تجد بين الفتيات الجميلات اللواتي رأيتهن الليلة في منزل ابنة عمي المركيزة من تقارب هذه الحسناء بجمالها. - إني أراك قد جننت يا أجينور. - لماذا؟ - لأني أحسب العشق والجنون اسمين مترادفين، فمن كان عاشقا كان مجنونا، وبعد فكم لك الآن من العمر؟ - ستة وعشرون عاما كما تعلم. - إن بلوغك هذا السن على تماديك في الغرام يؤيد قولي؛ لأن من بلغ ما بلغناه من الثروة تتوطد لديه أسباب اللهو فلا يشغل نفسه بمثل هذا الغرام ومتاعبه، ألعلك تعدم بين صبيحات الوجوه حسناء تنظر إليك بعين العطف وفتانة تتمنى رضاك؟ - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك فلا أعلم ما يدفعك إلى مكابدة هذه المشاق وأنت بغنى عنها بفضل مالك الكثير. - حسنا، اصبر وسترى أينا المخطئ وأينا المصيب.
وكان هذا المنزل الذي وقفا أمامه له نافذة تطل على الشارع وفي هذه النافذة مصباح يضيء فيدل على أن الذي أناره إنما يشتغل على نوره إذ ليس من يسهر في هذا الشارع إلى تلك الساعة المتأخرة من الليل.
فأخذ الشاب بيد صديقه ودله على النافذة المنبعث منها النور وقال له: انظر إلى هذا الوجه المشرق ولعلك تعذرني بعد النظر إليه.
فنظر رفيقه بإمعان إلى وجه تلك الفتاة التي كانت مكبة على شغلها، وبعد أن تفرس بها مليا قال له: الحق إنها من أجمل النساء. - أليس كذلك؟ - ولكن ماذا تريد أن تصنع بها؟ - إنها عندما تحبني، ولا بد لها من ذلك لأن من كان مثلي لا تكرهه النساء، فسأجعلها فتنة باريس وسلطانة النساء. - أراك تحتم أنها تحبك. - ذلك لأني علمت عنها ما جعلني أحتم هذا الحتم. - لنرى ماذا علمت، ولكن قل لي قبل ذلك ماذا تشتغل تلك الفتاة لأني أرى أمامها كتبا وأوراقا. - إنها تترجم الروايات عن اللغة الإنكليزية لأحد الطباعين فينقدها فرنكا عن كل صفحة ويبيعها بعشرة للجرائد. - إذن فهي أديبة؟ - نعم فقد كانت معلمة في مدرسة، غير أن ناظرة المدرسة مرضت فانقطع الطلبة عنها وباتت الفتاة المسكينة تشتغل هذا الشغل الشاق كي تقيت نفسها وتعالج تلك الناظرة لسابق فضلها عليها. - يظهر أنها يتيمة؟ - لا أعلم حقيقة أمرها غير أني أرسلت خادم غرفتي منذ يومين وعهدت إليه استطلاع أمرها، فرشا بواب منزلها وعلم منه أنها في أشد متاعب الفقر، وأنها تقاسي الآن عناء شديدا لأن ما تكسبه من الترجمة لا يكفي لنفقاتها ولمعالجة صديقتها الناظرة، وقد استحقت أجرة منزلها وهي عاجزة عن دفعها وليس في قلب صاحب المنزل أثر للرحمة، فإذا تقدمت لنجدتها وإنقاذها من شقائها قبلتني خير قبول. - لقد كنت أحسبك من قبل أبله نزقا، فكنت أعذرك بعض العذر. أما الآن فإنني أراك تسير في خطة لا تخلق بالأشراف، وإذا كنت تريد أن تستخدم لأغراضك الفاسدة شقاء هذه الصبية التي تشتغل في الليل والنهار للقيام بأشرف الواجبات فإني ألومك أشد اللوم ولا أوافقك على هذا السير المذموم، وإني لا أنكر عليك تزلقك إلى الحسان بشرط أن يندفعن مع تيار حبك من تلقاء أنفسهن، وأما أن تستغوي النساء وتغتنم فرصة شقاء مثل هذه الصبية الشريفة فهو ليس من الأمور التي يقدم عليها النبلاء، بل إن ذلك عار شائن تلطخ به جبهة الإنسانية وكل شريف على الأرض. - لقد قلت ذلك القول أيها الصديق في بدء أمري، ولكني قلت في نفسي أيضا إن هذه الفتاة بارعة في جمالها، فإذا لم أدفع عنها ذاك الشقاء دفعه سواي من المعجبين بجمالها فتكون النتيجة واحدة في الحالين، ثم إني إذا أصحبت هذه الفتاة فلا أتخلى عنها كما يفعل سواي بل أضمن لها هناءها في مستقبل أيامها، وفوق كل ذلك فإني أجد دافعا عظيما يدفعني إليها وهو دافع الغرام لأني شغفت بها شغفا لا حد له، حتى إني لا أجد صبرا عنها ولا أجد بدا من الوصول إليها في كل حال. - أتقبل مني نصيحة أيها الصديق؟ - قل وسوف نرى. - إنك بالغ سن الرشد من عدة سنين؛ أي إنك حر التصرف في أمورك الخاصة كما تريد. - ذاك لا ريب فيه. - إن الفتاة مهذبة أديبة، وهي من أفضل النساء وأطهرهن قلبا إذا صح ما رويته لي من أمورها، فإذا كان كما تقول فما يمنعك عن الزواج بها؟
فضحك أجينور ضحكا عاليا وقال: لا شك أنك فقدت صوابك ولو كان لك ذرة من العقل لما خطر لك ذاك الخاطر. - قل ما تشاء، وأما أنا فإني لو كنت مكانك لتزوجتها، وفي كل حال فإني أعد عملك جريمة لا أشاركك فيه؛ لذلك أدعك وشأنك وأذهب إلى منزلي لأنام بريئا من تلك الوصمة.
ثم تركه وانصرف وبقي أجينور وحده أمام منزل الفتاة إلى أن بزغ نور الصباح فأطفأت تلك الفتاة الفاضلة مصباحها.
2
وحكاية تلك الفتاة أن بواب المنزل وجيرانها لم يكونوا يعرفونها إلا باسم أنطوانيت، وأنها تقيم مع امرأة كهلة تدعى مدام رينود. ولكنهم كانوا يحترمونها احتراما شديدا لما يرونه من حسن اجتهادها، فإنها كانت تشتغل إلى ما بعد منتصف الليل بترجمة الروايات الإنكليزية، وتشتغل في النهار بالتدريس، غير أن جميع ما كانت تكسبه من أشغالها لم يكن يكفي لنفقاتها لا سيما بعد مرض مدام رينود؛ لأن معظم إيرادها كان ينفق على الأدوية وأجرة الأطباء، حتى إن تلك العجوز كانت تتمنى لنفسها الموت إشفاقا على الفتاة فإذا سمعتها أنطوانيت تقول مثل ذاك القول تعانقها باكية وتقول: إذا مت فعلى من تتركيني بعدك يا أماه؟
فتبكي اثنتاهما وتعود الفتاة إلى العمل والعجوز إلى التألم والقنوط.
وأصل اتصال أنطوانيت بمدام رينود أنه منذ عشرة أعوام أرسلت إليها إحدى السيدات فتاتين وهما أنطوانيت وأختها مدلين، وعهد إليها بتربيتهما مقابل راتب كان يدفع لها بسخاء في السنة الأولى، وفي العالم التالي انقطع الراتب وانقطعت زيارة تلك السيدة. فجعلت مدام رينود تنفق عليهما من مالها وقد تبنتهما إلى أن أصيبت بمرض عضال فانقطعت موارد رزقها.
وكانت الابنتان توأمين، وقد بلغت كل منهما الثامنة عشرة من عمرها فجعلتا تشتغلان بالترجمة والتدريس مكافأة لتلك المريضة التي كانت لهما بمثابة أم.
وقد اتفق منذ عام أن مدلين إحدى الأختين لقيتها سيدة من أغنياء الروسيين في باريس فاتفقت معها على أن تصحبها إلى روسيا مرشدة لأولادها ورفيقة لها، فسافرت الفتاة وبقيت أختها أنطوانيت مع مدام رينود في باريس، فكانت تلاقي أعظم المشاق في سبيل القيام بأودها.
وفي تلك الليلة التي شاهدها أجينور وهي تشتغل في الساعة الرابعة بعد منتصف الليل كانت تكتب لأختها الرسالة التي تدل على لمعة من حكايتها وحقيقة شقائها وهي:
يا أختي العزيزة
لم أكن أريد أن أحزنك ولكن الداء أصبح لا دواء له، فلم أجد بدا من كشف حقيقة أمري لك، فإن مدام رينود أوشكت أن تموت وقد ذهب بصرها وعقلها كما ذهب جميع الأموال التي اقتصدتها في سبيل علاجها لأني كرهت أن أعالجها مجانا في المستشفيات كي لا أكدرها في شيء.
ومما زاد في نفقاتي أني اضطررت أن أنقطع عن الشغل شهرا للاعتناء بها بحيث أصبحت الآن مدينة لصاحب المنزل بأربعمائة فرنك لا أدري كيف أحصل عليها، فإن صاحب المنزل مسافر الآن، ولولا رأفة البواب بي وإمهاله إياي لكنت من الهالكين فإن البواب الصالح قال لي: إني أمهلك ما زال صاحب المنزل مسافرا، ولكن هذا الرجل العاتي سيحضر غدا وا أسفاه ولا أعلم كيف أدفع له، ويلاه إن العرق البارد ينصب من جبيني حين أفتكر أنه سيحجز على أثاث المنزل فما أشد شقاء العائلات الشريفة.
على أن قلبي يحدثني بأني سألقى مخرجا من هذا الضيق.
ومما يزيد في شقائنا أننا إلى الساعة لا نعرف اسم عائلتنا، فأمنا لم نرها منذ حداثتنا، ولا أزال أبحث في جميع أنحاء باريس عن ميلون ذلك الخادم الأمين دون الوقوف له على أثر.
لا تقنطي أيتها الحبيبة لأني سأشتغل الليل والنهار كي لا يصبح لصاحب المنزل علي حق، واكتبي لي عن حالك، أما أنا فسأكتب لك أيضا غدا أو بعد غد لأخبرك بما يصير.
وعندما وصلت بكتابها إلى هذا الحد دخل إليها بواب المنزل وعلى وجهه ملامح الاكتئاب، فعلمت سبب حزنه وقالت له: ألعل صاحب المنزل قد عاد من رحلته؟
فقال: نعم يا سيدتي، وقد أوشك أن يطردني حين علم أنك لم تدفعي أجرة المنزل بعد، وهو سيحجز بعد ظهر اليوم على الأثاث.
فأجفلت الصبية وقالت: ويلاه ألا يمهلني إلى آخر الشهر فأقبض أجرتي من الذين أعلمهم في منازلهم، فإنه ليس لدي الآن غير مائة فرنك قبضتها من تاجر الترجمات، وأجرة المنزل أربعمائة فرنك.
أدمعت عينا البواب حنوا وقال: إن هذا الرجل يا سيدتي لا يعرف الرحمة، ولكن لدى امرأتي مائة فرنك تقرضك إياها فإذا ذهبت بالمئتين إلى صاحب المنزل ودفعتها له واستمهليته إلى آخر الشهر فقد يجيب سؤالك، وإذا أبى فإن الأثاث لا يباع إلا بعد ثمانية أيام من إلقاء الحجز، وقد يتيسر لنا الحصول على بقية مطلوبه في هذه المدة.
فكبر ذلك على أنطوانيت غير أنها لم تجد بدا من الامتثال فأخذت من البواب المائة فرنك وذهبت إلى صاحب المنزل وهي تسير سير الخائفة الخجلة.
ولم تكد تسير بضع خطوات حتى رأت شابا يقفو أثرها، فأسرعت خطاها فاقتدى بها ولكنها سبقته ووصلت إلى المنزل دون أن يدركها، فدخلت إليه وهي تفتكر بهذا الشاب وتعجب من لحاقه بها واقتفائه أثرها على فرط ما كان يبدو منه من مظاهر الحشمة.
3
وكان لها مع صاحب المنزل حديث طويل توسلت إليه في خلاله أن يقبل منها نصف الأجرة ويمهلها بدفع الباقي ثلاثة أيام، غير أن قلبه الصخري لم يلن لتوسلها فخرجت من عنده واليأس ملء قلبها وقد مسحت دموعها مرتين قبل أن تخرج من الباب إلى الشارع العام.
غير أنها لم تلبث أن سارت حتى رأت ذلك الشاب الذي رأته عند قدومها، وقد اعترضها في سبيلها فرفع قبعته بملء الاحترام وقال: إني أدعى يا سيدتي الفيكونت أجينور دي مورليكس، وإنما بدأت بذكر اسمي كي يزال ما رأيته من اضطرابك لتعرضي لك في الطريق فإن النبلاء لا يقدمون على ما أقدمت عليه إلا لقصد شريف.
فسكن جأشها بعض السكون ولا سيما وقد رأت من لهجة احترامه ما دلها على صدق مدعاه في قصده، ثم نظرت إليه برهة وقالت له: ما عسى تريد مني يا سيدي وأنا لا أعرفك قبل الآن؟ - هو ما تقولين يا سيدتي ولكني إذا لم أتشرف بمعرفتك فقد عرفت أمك. - أحقيقة أنك عرفت أمي؟ - نعم يا سيدتي بل أعرف جميع حكايتك وما تعرضت للقائك إلا لقضاء واجب مقدس. - واجب مقدس؟ - نعم يا سيدتي فلقد قلت لك إني أدعى الفيكونت أجينور دي مورليكس وأنا بريتوني المولد غير أني نشأت في باريس مع قريبة لي تدعى المدموازل دي بزفورت. - إني أعرفها فقد كنت أتلقى الدروس معها في مدرسة مدام رينود وقد خرجت من المدرسة سنة 1850. - هو ما تقولين يا سيدتي وأنا أرجو أن لا تنكري على تعرضي لك في الطريق لأني دفعت مكرها إلى ذلك. - قل يا سيدي ما تريد أن تقول. - إن قريبتي التي كانت رفيقة لك في المدرسة قد تزوجت وهي الآن وافرة الثروة وقد عهدت إلي أن أبحث لها عن مدام رينود، فإن قريبتي هذه عندما كانت في المدرسة كانت يتيمة ليس لها من ينفق عليها غير عمة فقيرة، فلما خرجت من المدرسة كانت مدينة لمدام رينود بألف فرنك.
فاضطرب فؤاد أنطوانيت وشعرت أن الله فتح لها باب الفرج بعد الضيق.
فقال أجينور: وقد بحثت كثيرا يا سيدتي عن مدام رينود فلم أجدها، غير أنه وردني أمس كتاب من قريبتي أرشدتني فيه إلى محلها وأخبرتني أن هذه السيدة في أشد حالة من الضيق، فأسرعت اليوم إلى منزلها ولكني علمت من امرأة البواب أن هذه السيدة في حالة النزع، وعلمت اتصالك بها فكرهت أن أزورها على هذه الحالة وجعلت أنتظر خروجك من المنزل كي أدفع لك المال، فلما رأيتك خرجت رأيت على وجهك ملامح الحزن الشديد، فما تجاسرت على اعتراضك وما زلت أقتفي أثرك حتى دخلت إلى هذا المنزل، فلما خرجت منه لقيتك وجها لوجه.
وكان أجينور يتكلم بلهجة صادقة فخيل للفتاة أن الله أرسل لها مساعدا من السماء فحكت له وهما يسيران إلى منزل مدام رينود ما تكابده هذه المرأة من ضروب الشقاء وكيف أنها تشتغل آناء الليل وأطراف النهار لتخفيف شقائها، ثم رأت دمعة سقطت من عين أجينور فما شككت بسلامة قلبه وحكت له جميع حكايتها حتى أخبرته بعدها أن المال الذي ستقبضه منه سيفرج عنها كل ضيق.
ولما وصل الاثنان إلى المنزل ودعها أجينور معتذرا وأعطاها ورقة مالية بألف فرنك، فأخذتها شاكرة وصعدت إلى مدام رينود وهي تكاد تطير سرورا، فقالت لها: أتذكرين يا أماه مدموازيل دي بوفرت التي كنت أدرس وإياها في مدرستك؟
فقالت مدام رينود: مسكينة هذه الفتاة فإني لا أزال أذكرها إلى الآن.
فقالت أنطوانيت: ولماذا ترثين لها ألعلها كانت فقيرة؟ - كلا بل إنها كانت غنية.
وقالت في نفسها: ولعل هذه الفتاة علمت بشقاء مدام رينود فلفقت لقريبها هذه الحكاية، ولكن الاضطراب عاودها فقالت لمدام رينود: لماذا قلت يا أماه مسكينة هذه الفتاة؟ - لأنها ماتت في الليلة الثانية لزواجها في التاسعة عشرة من عمرها.
وأدركت الفتاة عند ذلك حيلة أجينور وصاحت صيحة يأس وسقطت مغميا عليها.
4
ولنعد الآن إلى 117؛ أي إلى روكامبول، بطل هذه الرواية فنقول إنه برح مياه طولون على تلك السفينة بأصحابه وفاندا الروسية، وذهب إلى البلاد الإيطالية، وأقام متنكرا مع رفاقه ستة أشهر، ثم ذهب إلى باريس بتلك العصابة وقد تنكر باسم الماجور أفاتار الروسي، فاتخذ منزلا في شارع معتزل، تكتنفه حديقة فيحاء، وكانت فاندا امرأته في عيون مجاوريه.
وبعد أن ألقى عصا التيسار في باريس تحصل بدهائه المعروف وبمساعدة فاندا على أوراق تثبت أنه نفس الماجور أفاتار، ودخل عضوا في ذلك النادي القديم، الذي كان أحد أعضائه منذ عشرة أعوام أيام كان معروفا في باريس باسم المركيز دي شمري.
وقد عاد في ليلة من ذلك النادي إلى منزله، فقالت له فاندا: أقبلوك في النادي؟ - نعم، وقد عرفت فيه جميع أصحابي القدماء دون أن يعرفني أحد، وتعرفت بهم من جديد باسم الماجور أفاتار.
وسرت فاندا بنجاحه وقالت له: إن ميلون قد عاد من سفره وهو ينتظرك منذ ساعة بفارغ الصبر. - سأراه ولكننا لا نستطيع أن نبحث في هذه الليلة عن الصندوق المخبوء.
وكان ميلون قد تنكر أيضا باسم غريب، وحصل على أوراق تثبت اسمه الجديد بفضل روكامبول الذي فعل مثل هذا الفعل مع جميع رجال عصابته وغير هيئاتهم حذرا من مطاردة الشرطة لهم. ولما دخل لمقابلة ميلون الذي كان ينتظره قبل يده باحترام ووقف أمامه وقوف التابع للمتبوع، فأمره روكامبول بالجلوس وقال له: لنتحدث الآن. أبقي معك شيء من النقود؟
فأجاب ميلون: كلا فقد أصبحت صفر اليدين، ولكني أعلم أين يوجد الصندوق؟ - أتظن أننا نهتدي إلى مكانه بسهولة؟ - نعم، فقد قلت لك إني خبأته بيدي وإني أعرف مكانه. - وأين خبأته؟ - في قبو المنزل الذي كانت تقيم فيه والدة أنطوانيت ومدلين، فانتزعت حجرا من جدران القبو ووضعت الصندوق ثم أرجعت الحجر إلى ما كان عليه بحيث لا يهتدي أحد سواي إلى مكانه. - ولكن باريس قد تغيرت منذ عشرة أعوام، فقد يتفق أنهم هدموا المنزل أو أصلحوه واهتدوا إلى كنزك المخبوء. - لا تخش يا سيدي فقد مررت بذلك المنزل وهو لا يزال على ما كان عليه من عشرة أعوام.
فتنهد روكامبول تنهد المنفرج وقال: سوف ننظر في أمره غدا والآن أصغ إلي ألعلك مشفق على أحوال الأختين؟ - لماذا تسألني هذا السؤال؟ - لأني لا أريد أن أرجع لهاتين اليتيمتين ذلك الصندوق فقط بل أحب أن أرجع لهما ثروة أمهما بجملتها التي اختلسها أخواها.
فاغرورقت عينا ميلون بالدموع وقال: أتفعل ذلك أيضا يا سيدي؟ - نعم، وسأجعل هاتين الابنتين من أسعد النساء.
ففرح ميلون فرحا لا يوصف وغسل يد روكامبول بدموعه وهو يقول: ليبارك الله مساعيك يا سيدي فقد أحييت آمالي.
5
لقد تركنا أنطوانيت مغميا عليها عندما علمت أن أجينور مورليكس كانت حكايته كاذبة وأن المال الذي دفعه لها لم يكن من قريبته لمدام رينود، بل كان منه لها.
فلما صحت من إغمائها كتمت أمرها أشد الكتمان وقالت في نفسها: إني سأدفع نصف تلك القيمة لصاحب المنزل وأشتغل ليلي ونهاري، ومتى تكامل عندي ماله أرجعته له وصرفته عني متلطفة، إذ قد يكون علم ضيقي اتفاقا ودفعته عواطف الرحمة إلى ما فعل.
وكانت تتراوح بين استهجان فعله واستحسانه فتنفر منه تارة وتميل إليه طورا، ولكنها أقرب إلى الميل لانطباع قلبها على السلامة، فقد رأت من مظاهر احتشامه ما دفعها إلى الظن خيرا به، وكان عزاؤها أنها ستجد وتشتغل وتفيه المال ولا تعود مدينة له بغير الجميل.
ومضى على تلك الحادثة عدة أيام وهي لا تراه، ولكن خياله لم يكن يبرح عن بالها. وكانت لا تزال كاتمة أمرها إلى أن أعياها الكتمان ونحل جسمها، فكاشفت بما اتفق لها امرأة البواب وهي ترجو أن تجد بها معزية لها في مصابها.
غير أن امرأة البواب أظهرت من السرور لتلك الخادمة ما أدهش الفتاة، وذلك أنها أملت لها كل خير من هذا الاتفاق وقالت لها: إن الشاب شريف واسع الثروة ولا بد أن يكون أحبك لأدبك وجمالك، فإذا كان ذلك فهو سيتزوج بك لا محالة.
فهزت أنطوانيت رأسها إشارة إلى الاستغراب وقالت لها: أيمكن أن يتزوج هذا الغني فقيرة مثلي، ومتى كان الأغنياء يتزوجون الفقيرات؟ - متى ألف الحب بين قلبيهما لأني عندما تزوجت كنت غنية إذ كان لي خمارة لحسابي الخاص فأحببت زوجي وهو ليس له غير يديه وأسنانه يستعملها للأكل فما أنفت من فقره وتزوجته.
ثم احترقت الخمارة فاحترفت معه هذه الحرفة ودخلنا بوابين في هذا المنزل، وإن قلبي يحدثني بأن هذا الرجل سيكون زوجك.
وفيما هما على ذلك إذ دخل البواب وأعطى أنطوانيت كتابين رأت على إحداهما طوابع رسمية فعلمت أنه من أختها مدلين، ورأت على الآخر تاج الكونتية، فعلمت أنه من أجينور دي مورليكس، فاضطربت الفتاة اضطرابا شديدا.
وعند ذلك خرج البواب وامرأته فألقت كتاب أختها على المنضدة فبدأت بفتح الكتاب الآخر وأسرعت بنظرها إلى التوقيع وقرأت اسم الفيكونت.
وجعلت تقرأ كتابه الطويل وهو يتضمن أشرف عبارات الحب وأجمل الوعود والأماني الطاهرة، وقد ذكر لها في ختامه أن حكاية قريبته كانت من مخترعاته وإنما فعل ذلك كي يحملها على قبول المال الذي أعطاها إياه على سبيل الإعانة؛ لأنه وقف على مجمل حالتها بالتدقيق، ثم ختمه معتذرا عن تلك الحيلة التي لم يدفعه إليها غير محض الإخلاص.
ولما فرغت أنطوانيت من تلاوة الكتاب احمرت وجنتاها وجعل قلبها يخفق خفوقا شديدا فإنها ما رأت أجينور دي مورليكس غير مرة واحدة ولكنها حنت إليه لما رأته من لطفه واحتشامه.
ثم إن لهجة كتابه كانت متلبسة بلباس من مظاهر صدق تجوز على من ألف خوض معارك الحياة، فهي تجوز بالطبع على تلك الفتاة العذراء، فوضعت رأسها بين يديها وقالت في نفسها: ما يمنع أن يكون هذا الشاب شريفا وأن يكون صادقا في أقواله؟
وعادت إلى الكتابة فقرأته مرة ثانية وكلما أمعنت في تلاوته اندفعت في مجال الهواجس والتفكير.
وفيما هي على ذلك نظرت كتاب أختها وقالت: تبا لي من ناكرة لحب الإخاء فقد شغلت بكتاب هذا الرجل عن كتاب أحب الناس عندي.
ثم أخذت كتاب أختها وما لبثت أن فضت غلافه حتى سقط منه على الطاولة ورقة مالية قيمتها ألف فرنك، فدهشت دهشا عظيما وقالت: هو ذا سر جديد فإن أختي لم تر هذا المبلغ الضخم في حياتها فكيف يتفق أنها ترسله إلي.
وقد انقبض صدرها بدلا من السرور كأنها أوجست شرا وأسرعت إلى قراءة كتاب أختها وخلاصته: إن تلك الأسرة الروسية التي كانت بينها أطلقت سراحها بعد أن كافأتها بعشرين ألف فرنك تعويضا لها، وإنما عجلت بإبعادها لأن ابن ذلك الكونت الروسي الذي كانت في منزله هام بها وهامت به، ولما علم أبوه بغرامهما عزم على إرحال ابنه إلى بطرسبرج كي يتزوج فيها بقريبة له من ذوات الثروة الطائلة ، وأرجعها إلى بلادها لأنه رأى أن ابنه قد تمادى في حبها وعاهدها على الزواج.
ومما قالته في كتابها أنها ستبرح موسكو بعد يوم من إرسال كتابها إلى الحدود البولونية وهناك يستقبلها وكيل الكونت الروسي فيوصلها إلى بلادها، وأنها أرسلت إليها ألف فرنك لأنها علمت بحالتها.
وكان الكتاب بجملته يدل على الحزن الشديد لشدة ولوعها بالفتى الروسي.
وحزنت أنطوانيت لحال أختها ولكنها قالت في نفسها: إن الفيكونت الروسي لا بد أن يكون أراد خداع أختي بوعوده لها بالزواج، كما يحاول الفيكونت الفرنسي أن يخدعني، ومن كان مثل هؤلاء الأغنياء فكيف يخطر له الزواج بأمثالنا، على أني أحمد الله لورود المدد إلي من أختي فقد أنقذتني من أحرج المواقف.
ثم أخذت قلما وكتبت إلى أجينور دي مورليكس رد كتابه وأظهرت له شدة ما بينهما من تباين المقام، وأنه من الأسرات الشريفة، في حين أنها لا تعرف لها اسما غير أنطوانيت وشكرته لمساعدته إياها ثم وضعت الورقة المالية التي أرسلتها إليها أختها في طي الكتاب.
وبعد أن ختمته نادت امرأة البواب وقالت لها: أيستطيع زوجك أن يرسل لي هذا الكتاب إلى شارع سيرسنس. - لمن ألعله لذلك الشاب الجميل الذي كلمك في الطريق؟ - نعم ولكن كيف عرفت أنه جميل؟ - ذلك لأني رأيته، فقد جاء إلينا وعلمت منه أنه مجنون بهواك وأنه سيتزوج بك لا محالة. - لقد أخطأت إذ كان يجب أن تخبريني بذلك ولكني في كل حال لا أستطيع الزواج بهذا البارون. - لماذا؟ - لسببين أولهما أنه ليس لي مهر. - وما حاجته بمهرك وهو من الأغنياء؟ - والثاني أنه ليس لي اسم حتى إني لا أعلم اسم أمي، ولا بد أن تكون ماتت فإننا لم نرها منذ عهد الحداثة فاذهبي وادعي لي زوجك.
ولم يسع امرأة البواب غير الامتثال، فذهبت وعادت بزوجها وكتبت على الغلاف عنوان البارون أجينور دي مورليكس وأعطته إياه فانصرف به دون أن يسألها سؤالا واحدا.
غير أن امرأته كانت أشد منه جرأة فإنها افتتحت الحديث مع أنطوانيت وقالت لها: أواثقة يا سيدتي من أن أمك قد ماتت؟ - إن آخر مرة رأيتها فيها أنا وأختي كان عمر الواحدة منا ثمانية أعوام، وكانت تقبلنا بحنو شديد كأنها كانت تعلم أنها تنظرنا النظرة الأخيرة، وغاية ما نعلمه أنها وضعتنا في عهد الطفولية عند مدام رينود دون أن نعرف السبب. - ألم تعرفي اسمها؟ - كلا فإننا كنا ندعوها بأسماء الأمومة وكان الخدم ينادونها سيدتي البارونة وهذا كل ما أذكره؟ - أتذكرين المنزل الذي كنتم تقيمون فيه؟ - إنه كان منزلا كبيرا تكتنفه حديقة واسعة.
وجعلت امرأة البواب تفكر كأنها تذكرت أمرا ثم قالت لها: لا بد أنه كان عندكم كثير من الخدم. - كلا، بل كانوا ثلاثة فقط، وهم امرأتان ورجل وقد نسيت اسم المرأتين، أما الرجل فلم أنس اسمه؛ لأنه كان يحبني حبا شديدا ويدعى ميلون.
ولم تكد أنطوانيت تلفظ الاسم حتى اضطربت امرأة البواب وقالت: تقولين إنه كان يدعى ميلون؟ - نعم. - أهو ضخم الجثة يتكلم بلهجة القرويين؟
فاضطربت أنطوانيت وقالت: هذه هي أوصافه ألعلك تعرفينه؟ - كيف لا أعرفه وهو ابن عمي؟ - ميلون ابن عمك؟ - نعم يا سيدتي كما أنك أنت ابنة بارونة. - ماذا تقولين وكيف تعرفين ذلك؟ - لأني ذهبت مرة لزيارة ابن عمي ميلون في منزلكم وكنت أنت طفلة، أما أمك فهي ألمانية وهي تدعى البارونة ميلر. - رباه ماذا أسمع هو الحق ما تقولين فقد ذكرت الآن أن أحد الزائرين دعاها أمامي بهذا الاسم، ثم أطرقت برأسها وقالت: إنها ماتت أليس كذلك؟ - نعم وا أسفاه.
فسقطت دمعة من عين أنطوانيت وساد السكوت بينهما.
وبعد هنيهة سألتها أنطوانيت قائلة: ماذا حدث بثروة أمي؟ - لا أعلم وليس من يعلم أمرها غير ميلون. - وماذا جرى لميلون ألعله مات أيضا؟ - كلا، ولكنه أصيب بما هو أشر من الموت فإنه في سجن طولون منذ عشرة أعوام. - أية جناية ارتكبها فاستحق هذا العقاب؟ - إنه سرق مجوهرات أمك يا سيدتي؟
فتراجعت أنطوانيت منذعرة وقالت: كلا إن ميلون بريء؟ - وا أسفاه يا سيدتي فإني كنت أعتقد من قبل ما تعتقدين الآن، ولكن السرقة ثابتة. - مهما يكن من ثبوتها فإني أقسم أغلظ الأيمان أن الرجل بريء وأن هناك يدا شريرة دفعته إلى هوة السجن، ولقد كنت من قبل لا اسم لي ولا عائلة، أما وقد عرفت عائلتي فسأذهب مع أختي إلى القضاء ونضمن لهم براءة هذا المسكين فإنه كان لنا خيرا من أب.
وعند ذلك دخل البواب يحمل إلى أنطوانيت جواب الكتاب الذي أرسلته إلى البارون دي مورليكس، ففضته أنطوانيت بلهف وقرأت فيه عبارة استدلت منها أن هذا الفتى قد تدله بغرامها وقنط منها، وعول على أن يهجر أوطانه بغية نسيانها وأن يهيم على وجهه.
وأثر فيها الكتاب تأثيرا شديدا وقالت: لقد أحسنت فيما كتبت قبل الآن فقد بتنا أكفاء بعد أن عرفت أني من أسرة ولا بد لنا صديق يعيننا على إنقاذ ميلون من سجنه.
ثم أخذت ورقة وكتبت إلى أجينور ما يأتي:
سيدي البارون
كنت منذ ساعة فتاة فقيرة لا أهل لها ولا صديق فكتبت إليك ما أملته علي الواجبات، أما الآن فقد تبدلت حالي وكشف النقاب عن أسرار حياتي فإذا شئت أن تكون لي صديقا مخلصا فلا تسافر وتفضل بزيارة مدام رينود الليلة.
وبعد أن وقعت على الرسالة وختمتها أعطتها للبواب وقالت له: أسرع بإيصالها إلى البارون. •••
ولنعد الآن إلى روكامبول فلقد تركناه مع ميلون وقد اتفقا على أن يبحثا عن الصندوق في الغد ثم ذهبا إلى المنزل الذي كان يقيم فيه ميلون فلم تطل إقامتهما حتى وافاهما نويل الحداد، فسر روكامبول لقدومه وقال: أقضيت ما أمرتك به وذهبت إلى شارع سيرسنس؟ - نعم يا سيدي فرأيت المنزل الذي وصفته لي باقيا على حاله. - ألم تتمكن من رؤيتها؟ - كلا ولكني رأيت طفلها.
فارتعش روكامبول وقال: أرزقت غلاما؟ - نعم يا سيدي وهو من أجمل ما تراه العيون يشبه أباه شبها غريبا وقد رأيته يلعب في الحديقة.
فمسح روكامبول دمعة سقطت من عينه ثم غير الحديث فقال له: هلم بنا الآن إلى المنزل الذي تقيم فيه لأني أحب أن أغير تنكري. - إني أسكن في غرفة مرتفعة في الدور السادس ولكن صندوق ملابسك موجود فيها. - إذن هلم بنا.
وسار الثلاثة حتى بلغوا إلى تلك الغرفة، فقال روكامبول لنويل: من يجاورك في غرفتك؟ - لا يجاورني فيها غير المجنون. - أي مجنون تعني؟ - هو طبيب يلقبه أهل هذا المنزل بالمجنون على طول باعه بالمعلوم وشدة تضلعه في صناعته، وذلك لأنه يتكلم مع نفسه طول الليل حتى إنه لا يكاد ينام. - ألعله فقير ليس له زبائن؟ - إنه على عكس ما تقول، فلقد أخبرتني صاحبة المنزل أنه من أشهر الأطباء وأنه ينفق جميع دخله في سبيل الخير، ولكنه يناجي نفسه طول الليل كما تقول تلك المرأة، أما أنا فإني ما سمعته يتكلم. - لقد شغل هذا الطبيب بالي وهاج بي عاطفة الفضول ولا بد لي من كشف سره فأين غرفته؟ - هي هذه المتصل جدارها بجدار غرفتي.
فنظر روكامبول إلى الجدار فرأى به عدة ثقوب في أعلاه لتقادم عهده ولأنه كان من الخشب الرقيق، فوضع منضدة وأراد الصعود عليها فقال له نويل: لقد فاتني أن أقول لك يا سيدي إن هذا الطبيب يقيم في الغرفة نفسها منذ عهد بعيد أي منذ كان تلميذا. - كم عمره؟ - لم يتجاوز الأربعين ولكن ثنايا وجهه وشعوره البيضاء تدل على أنه قد تجاوز الستين.
وبينما هما يتحادثان إذ سمعا من غرفة الطبيب تنهدا عميقا يشبه الأنين ثم سمعوه يقول: أف لليالي الشتاء ما أشد طولها، فمتى تطلع الشمس وتطرد عني هذا الخيال؟
فدنا روكامبول من أذن نويل وقال له: اخرج أنت الآن من الغرفة ودعني فيها مع ميلون.
فامتثل نويل وأقفل روكامبول الباب وراءه ثم قال لميلون: اخلع ملابسك هذه والبس ملابس التنكر الإيطالي أما أنا فسأنظر هذا الرجل.
ثم صعد على المنضدة وجعل ينظر من ثقوب الخشب إلى داخل غرفة الطبيب فرأى فيها سريرا من الحديد وكرسيين وطاولة عليها أكداس الكتب والأوراق ولم يكن في تلك الغرفة من الأثاث غير ما تقدم.
وقد رأى الطبيب مضجعا على السرير وهو في الهيئة التي وصفها له نويل وكان ينظر نظرا مضطربا إلى الجدار ويقول : نعم إنك أنت هي يا سيدتي لا تزالين كما كنت حين دفعتني الأبالسة إلى سريرك. نعم إنك كنت لابسة ثوبا أسود، وهو نفس الثوب الذي تلبسينه الآن، ولا يزال لك ذلك الجمال الذي كنت تفتنين به النساك، وا أسفاه إني لو كنت من الوحوش الضارية لأشفقت على جمالك وشبابك ولكني كنت أقسى قلبا من تلك الوحوش.
ثم أن أنينا مزعجا وعاد إلى مخاطبة الخيال فقال: لقد مر يا سيدتي عشرة أعوام على هذه الحادثة وأنا أراك كل ليلة كما أراك الآن صفراء صامتة كالأموات، ولو علمت أني أستحق العفو لالتمست منك الرحمة، ولكني أعلم أني وحش أثيم جرعتك السم بيد جانية كان الأولى بها أن تقطع فأنا لا ألتمس منك رحمة لا أستحقها بل أطلب موتا أستحقه وأستريح فيه، أيقنعك يا سيدتي البارونة أن يهدر هذا الطبيب الذي يجله الناس دمه كما هدر دمك؟
فلما وصل بمحادثة نفسه إلى هذا الحد أسرع روكامبول إلى ميلون وقال له: أجبني بسرعة أكانت سيدتك والدة الابنتين بارونة؟ - نعم؟ - كيف ماتت؟ - شعرت يوما أنها متوعكة فأحضروا لها الطبيب ولما عادها قال لي إنها لا تعيش. - أتظن أنها ماتت مسمومة؟ - نعم. - أتريد أن تنظر قاتلها؟ تعال وانظر.
فصعد ميلون مكان روكامبول وجعل يحدق نظره بهذا الطبيب فرأى أنه شديد البعد عن ذلك الطبيب القاتل فإنه كان في عنفوان الشباب منذ عشرة أعوام وهو الآن قد بلغ حد الهرم.
وبينما هو يحاول النزول لاعتقاده أن الطبيب هو غير الذي قتل البارونة رفع الطبيب نظره بعد إطراقه.
وارتعش ميلون وعرفه للحال من عينيه فنزل إلى الأرض وقال لروكامبول: إنه هو بنفسه يا سيدي ليس لدي فيه أقل ريب.
فقال روكامبول: أصغ إذن لما سأحدثك به، بينما أغير تنكري، واعلم أني عندما كنت شقيا سفاكا لصا كنت موفقا في تلك المهنة الشنعاء، وكنت أستطلع الأسرار وأستكشف الغوامض بلحظة في حين أن سواي من أهل المهنة كان يقضي السنين الطوال لاستجلائها.
وكأنما ذلك التوفيق الذي كان يعينني في تلك الأيام لا يزال عائد أعمالي إلى الآن فإنه خدمني اليوم باكتشاف قاتل مولاتك.
غير أنه لا يزال يشغلني أمر واحد وهو أنه كيف يدعون للبارونة مولاتك مثل هذا الطبيب الساكن في أحقر المنازل ولم يكن له شيء من الشهرة منذ عشرة أعوام؟
فقال ميلون: لقد تذكرت الآن فإنهم أرسلوني إلى طبيب بيتهم بالليل، وهو من الأطباء المشاهير فقيل لي إنه كان مسافرا، وفي صباح اليوم التالي عدت إليه ولقيت هذا الطبيب على باب منزله فقال لي إن طبيبكم لم يعد بعد من سفره، وقد كلفني بعيادة مرضاه لأني من تلامذته فجئت به وكأني أنا القاتل لسيدتي وا أسفاه.
فقال روكامبول: ليس المقام مقام أسف الآن بل مقام انتقام وسنكسر الآن باب غرفته وندخل إليه.
ففرح ميلون فرحا وحشيا وقال: سأقتله بضربة واحدة. - إياك أن تفعل شيئا فإن الطبيب لم يكن غير آلة بيد سواه ويجب علينا معاقبة الرأس الآمر بالقتل ثم ننظر في شأن اليد المنفذة.
وفيما هما على ذلك إذ سمعا طرق الباب الخارجي ثم سمعا أنه فتح وأن الطارق يسأل عن الطبيب ويطلب أن يذهب حالا إلى منزل البارون مورليكس، وصعدت صاحبة المنزل إلى غرفة الطبيب وأخبرته بما كان فقال: قولي له أن ينتظرني فإني ذاهب معه.
ثم أسرع يلبس ملابسه، وعاد وجهه إلى البشاشة الفطرية بعد ذلك القنوط وخرج من غرفته فقال روكامبول لميلون: هلم بنا نتبعه فإني أحب أن أقتفي أثره إلى ذلك المنزل الذاهب إليه.
6
ليس البارون دي مورليكس الذي ذهب الطبيب لمعالجته نفس ذلك البارون الذي يحاول إغواء أنطوانيت بل هو أبوه، وقد كان عائدا في الليل من النادي، وفيما هو ينزل من المركبة زلت قدمه فسقط وكسرت رجله.
ولما بلغ الطبيب إلى غرفته أبعد عنه الناس وجعل يجبر رجله غير مكترث لآلامه بتلك القسوة التي عرف بها الجراحون، وكان لا ينظر في خلال العمل إلا إلى تلك الرجل التي كان يجبرها.
ولما فرغ من عمله جلس بإزاء سرير المريض يحادثه ، ولم يكد يتبين وجهه وعينيه حتى اضطرب وانذعر، فنظر إلى الخادم الذي كان واقفا في الغرفة وأمره بالخروج.
ثم نظر إلى البارون وقال له: يخال لي يا سيدي البارون أني رأيتك قبل الآن؟ - ربما كان ذلك أما أنا فإني ما رأيتك من قبل. - كلا فإنك لو تذكرت قليلا لعلمت أنك رأيتني ورأيتك.
فاصفر وجه البارون وقال: أظن أنك مخطئ يا حضرة الطبيب. - لا يمكن أن أكون مخطئا فإن شعوري لم تبيض إلا بسبب هذه المعرفة. فزاد اضطراب البارون وقال: أين تظن أني رأيتك؟ - نعم إني كلما زدت إليك نظرا زدت اعتقادا فقد كان أصل هذه المعرفة أنك أتيت إلي في منزلي. - لا أذكر شيئا. - بل تذكر كما يدل عليك اضطرابك فقد زرتني وأنا تلميذ طب، وكنت أقيم يومها في غرفة حقيرة في شارع سيرسنس ولا أزال أقيم فيها إلى الآن.
وكنت في ذلك العهد فقيرا أشتغل الليل والنهار كي أكون يوما في عداد الأطباء الماهرين، فاغتنمت فرصة فقري ونفحتني بكيس مملوء بالذهب كي أعلمك طريقة القتل إذ طلبت إلي سما قاتلا لا يترك بعد الموت أقل أثر للجناية.
فانذعر البارون ولم يعد يسعه الإنكار ونظر إلى ما حواليه نظرة الخائف وقال: بربك كفى قد يسمعك الخدم. - أرأيت الآن كيف أني أعرفك أنت الذي تنكر باسم كاذب وخدعني مغتنما فرصة طيش صباي وشدة فقري، غير أن الله لم يعاقبك وأنت الرأس المدبر لهذه الجناية بل عاقبتني أنا اليد المنفذة لها. - اسكت كفى بالله. - إنك غني سعيد تتكنى بأشرف الألقاب ولكنك قاتل سفاك. - ما عسى تريد أيها التعس أتريد أن تفضحني وتفضح نفسك؟
وكأن الطبيب لم يسمع كلامه وقال: أما أنا فإن الفقراء يدعون لي في خلواتهم، والعلماء يستشهدون بأعمالي في مجتمعاتهم، وكل دواعي المجد تحيط بي، ولكني لو كنت في جهنم لكنت خيرا مما أنا فيه، وحسبي عذابا أن خيال تلك الشهيدة لا يغيب عن عيني طول ليالي فأبيت منه بليلة الملسوع، وهذا شأني منذ دفعتني إلى ارتكاب تلك الجريمة الهائلة ، فإنها تظهر لي بملابس سوداء وترسل إلي من عينيها أشعة نارية تحرق جوارحي وتقول لي: كيف كان ندمك فلا عفو لك عند الله أيها السفاك، أما أنت أيها البارون فإن عقاب الله لم ينقض عليك بعد ولا تزال معدودا في زمرة السعداء، ولكن ثق بأن الله لا يتغاضى عن المجرمين أمثالك وسيأتيك يوم تتمنى لو لم تخلق.
ثم تركه مغضبا وانصرف دون أن يتدانى إلى وداعه أو النظر إليه، ولما خرج من قصر البارون كان مضطربا اضطرابا شديدا فلم ينتبه أقل انتباه إلى رجلين كانا يترصدانه، ومر بهما دون أن يراهما فاقتفيا أثره حتى وصل إلى منزله فدخل إليه، ودخلا بعده، وكان هذان الرجلان روكامبول وميلون.
7
فصعد روكامبول إلى غرفة نويل وطلب إليه أن يأتيه بحبل رفيع، ثم تنكر بملابس رجال البوليس وقال لميلون: إني سأخاطر من أجل الفتاتين بالعودة إلى السجن فإني لا أريد الانتقام من الطبيب وحده بل من أخوي سيدتك البارونة ميلر؛ أي من البارون مورليكس وأخيه.
ثم قال لنويل: سر بنا الآن إلى غرفة الطبيب.
وسار نويل أمامهما وطرق الباب فقال الطبيب: من أنت؟ - أنا البواب وقد قدم اثنان يريدان أن يرياك. - العيادة طبية؟
فقال نويل: كلا، بعد أن استشار روكامبول بالنظر.
وأبى الطبيب أن يفتح بابه وقال: ليعودا إلي في الصباح فإني لا أقابل أحدا بعد انتصاف الليل إلا المرضى.
وعند ذلك قرع روكامبول الباب وقال له: افتح باسم الشرع.
ولم يجسر الطبيب بعد ذلك على العصيان وفتح الباب ودخل إلى غرفته روكامبول يتبعه نويل وميلون وهما متنكران أيضا.
فدنا منه روكامبول وقال له: ألست أنت الطبيب فنسلت؟ - نعم!
وأشار روكامبول إلى ميلون أن يخرج إلى غرفة أخرى وقال لنويل بلهجة الآمر: اذهب وأتنا بمركبة. فامتثل الاثنان.
ولما أصبح روكامبول منفردا مع الطبيب قال له: يعز علي يا سيدي الطبيب أن أقبض على عالم مثلك ولكني آلة بيد الشرع.
فخاف الطبيب وقال: كيف تقبض علي وبأية تهمة تتهمني؟ - إنهم يتهمونك يا سيدي بتسميم البارونة ميلر منذ عشرة أعوام بالاشتراك مع البارون دي مورليكس وأخيه.
فوهت رجلا الطبيب وسقط على كرسي خائر القوى.
وعند ذلك عاد نويل وقال إن المركبة على الباب.
ثم خرج وتولى خفارة الباب.
أما الطبيب فقد كان يتنازعه عاملان، وهما عامل كان يمثل له جريمته بأقبح مثال فيحني رأسه صاغرا ذليلا، وعامل يمثل له ندامته وما فعل من الخير تكفيرا عن ذلك الذنب الذي لم يدفعه إليه غير نزق الشباب، ويرفع رأسه شامخا واثقا من عفو الله.
ولما ذهب نويل نظر الطبيب إلى روكامبول وقال له: إنك لست يا سيدي قاضي التحقيق كما يظهر ولست أنت الذي سيتولى التحقيق في أمري. - هو ما تقول يا سيدي فإني أحد مفتشي البوليس. - إذن أنا مستعد للذهاب معك غير أنهم لا يسألونني حين وصولي كما أظن، فأرجو أن تأذن لي بكتابة بضعة أسطر إلى زميل لي أسأله فيها أن ينوب عني في عيادة زبائني. - افعل ما تشاء.
وقام الطبيب إلى منضدة فكتب رسالته ووضعها في غلاف ثم قال دون اكتراث إني أرى هذا الغلاف لا صمغ فيه ولا بد لي من ختمه بالشمع، وعند ذلك أخرج من درجه قطعة من الشمع الأسود وأدناها من الشمعة المنارة.
وكان روكامبول ينظر إليه نظر المراقب، ولم تكد تلك الشمعة السوداء تحترق ويظهر دخانها حتى هجم عليه من ورائه وضربه على يده، فسقطت الشمعة السوداء وانطفأت.
ثم أسرع إلى النافذة ففتحها كي يخرج منها ذلك الدخان وقال: لقد علمت قصدك يا حضرة الطبيب فإن هذه الشمعة سم نقيع إذا بلغ دخانها إلى الرئتين قتل للحال.
وعند ذلك قبض عليه ونادى ميلون كي يستعين به، وأسرع ميلون وتعاون الاثنان على ربط فمه بمنديل كي لا يصيح وحملاه بمساعدة نويل إلى المركبة الواقفة على الباب، وأمر روكامبول السائق أن يذهب بالمركبة إلى إدارة البوليس.
ولكنه قبل أن يصل إليها بعدة أمتار أوقف المركبة وقال للسائق: قف قليلا هنا إلى أن أعلم أوامر المدير.
ثم مشى إلى منعطف في الطريق وهو يوهم السائق أنه ذهب إلى إدارة البوليس وأقام مختبئا إلى أن انتهى من تدخين سيكارته وعاد وقال: إن المدير يحب أن يسمع أقوالك في منزله. وأمر السائق أن يسير إلى منزله؛ أي إلى منزل روكامبول الذي يقيم فيه مع فاندا، ولما وصل إليه أخرجوا الطبيب وصعدوا به إلى المنزل وأطلقوا سراح السائق.
8
وكان الطبيب قد سكن روعه بعض السكون لطول المسافة، وخلا به روكامبول في غرفة، بعد أن أقفل بابها وجلس بإزائه وقال: والآن لنتحدث يا حضرة الطبيب. - بماذا نتحدث، ألعلك أنت الذي تتولى التحقيق بأمري؟ - نعم! - إذن من أنت؟ - أنا رجل يعمل أعمالا عظيمة، فإن العدالة يا سيدي من أخص الأمور المقدسة، وما أنا من الشرطة ولا من القضاة كما تتوهم، بل أنا رسول العدل وقد أصبحت في قبضتي خاضعا لسلطاني؟
فذعر الطبيب وقال: زدني إيضاحا أيها الشقي فمن أنت؟ - أنا رجل من كبار المجرمين وقد أرسله الله لعقاب كبار الآثمين. - إذا كنت كما تقول فقد وجب عليك احترام القوانين والشرائع المقدسة، ومن كان يريد عقاب المجرمين لا يرتكب جرائمهم ويقلد رجال الشرطة ويسرق الناس من منازلهم، دعني أخرج أيها الشقي.
وأخرج روكامبول مسدسا من جيبه وقال: إني كنت أدعى في السجن مائة وسبعة عشر وكنت أدعى قبل أن أسجن روكامبول، وأنا الآن أدعى الماجور أفاتار، فأنا أقسم لك بهذه الأسماء الثلاثة إنني أقتلك شر قتل إذا لم تصغ إلي وتطيعني فيما أريد. - ماذا تريد؟ - أريد أن تعترف لي. - إني لا أعترف إلا لله. - ولرسول العدل. - إنك لست بإله وما أنت برسول العدل بل أنت شقي هارب من الليمان أستطيع أن أرجعك إليه إذا ذكرت اسمك. - ولكننا نعود سوية يا سيدي الطبيب فإن السجون أعدت للقتلة المجرمين، وسواء كان القتل بالخنجر أو بالسم فإن الجريمة واحدة، ثم إن هناك أمرا آخر وهو أني كنت في السجن فلا أخاف العودة إليه، وما أنا برسول العدل، ولكني الآلة التي أرسلها الله للقضاء على الآثمين، فإذا لم أنل منك ما أريد قتلتك في الحال.
وقال له الطبيب باحتقار: ماذا تريد مني ألعلك طامع بمال؟ - لو كنت لصا عاديا لنهبت ما لقيته في منزلك، ثم إنك لست غنيا فإنك تهب جميع ما تكسبه للفقراء. - إذن ماذا تريد؟ - أريد أن أتحدث معك. - قل فإني مصغ إليك. - أول ما أبدأ به يا حضرة الطبيب هو أنه عندما يرتكب المرء جريمة، لا يخلق به أن يحدث نفسه بها طول ليله على مسمع من الناس. - أتظن أني ارتكبت جريمة؟ - لا أظن بل أؤكد ولو كنت على شيء من الشك فإن عزمك على الانتحار بدخان تلك الشمعة السوداء أزال مني كل ريب، ولكني أعلم أنك سممت امرأة لم تكن تتجاوز الثلاثين من عمرها وهي غنية حسناء، وأن هذه المرأة تدعى البارونة ميلر. - أتعرف اسمها أيضا؟ - أعرف كل شيء، أما إذا كنت تريد أن تعرف ما أريد منك فاسمع، إنك قبل أن ترتكب تلك الجريمة بيوم واحد لم تكن تعرف البارونة ولم يدفعك إلى قتلها عامل من حقد أو طمع بإرث، بل لأنهم أعطوك أجرة هذا القتل عشرة آلاف فرنك.
وكانت هذه الأقوال صادقة صحيحة فلم يسع الطبيب إنكارها بل غطى وجهه بيديه وقال له إذن سلمني إلى القضاء بدل تعذيبي. - لم يحن الوقت بعد فإن من يجسر على أن يفعل ما فعلته معك لا يقنع بعقاب اليد المنفذة للجريمة بل يرجو سحق الرأس المدبر لها أفهمت الآن؟ إني أريد أن أعرف شريكيك لأنهما اثنان.
فذعر الطبيب ذعرا شديدا وقال: إذن أنت تعرف كل شيء؟ - أصغ إلي فإن البارونة ميلر قد قتلت منذ عشرة أعوام وإن الحكومة لا تعرف شيئا عن جريمتك، على أنك إذا كنت قد استحقيت العفو عن جريمتك لحسن توبتك وصالح أعمالك، فإن شريكيك الذين اغتنما فقرك ونزق شبابك لا يزال يتمتعان بأموال أختهما التي قتلاها. - ماذا تقول؟ أختهما؟ - نعم أختهما قتلاها بيدك كي يسرقا أموالها وأنت لا تعلم. - رباه ماذا أسمع ويا ويحي كيف ألقاك يا ربي بعد هذه الجريمة الشنعاء؟ - وليس هذا كل ما فعلاه فإن أختهما كان لها بنتان فجرداهما من أموالهما وهما طفلتان يتيمتان، وليس من يعلم الآن مصيرهما فاختر الآن بين أمرين وهما إما أن أسلمك للشرطة وأسلم نفسي معك أو أنك تساعدني على الانتقام من هذين الأثيمين اللذين أغرياك على قتل أختهما فتكون لي أطوع من البنان.
فتنهد الطبيب وقال: رباه إذا لم تصفح عني لقتل تلك الأم المنكودة فأفسح في أجلي كي أنفق حياتي في خدمة ابنتيها. ثم جعل يبكي.
فأخذ روكامبول يده وقال: لقد وثقت منك الآن فإن دموعك تدلني على صدق نيتك في مساعدتي. - وا أسفاه إني سأشتغل الليل والنهار لمساعدة هاتين اليتيمتين. - يجب أن تصنع أكثر من ذلك أيها الطبيب؛ أي يجب أن تساعدني على إرجاع تلك الثروة المسروقة. - لقد أصبت وسأكون لك أطوع من العبيد فقل ماذا يجب أن أصنع. - سأقول لك بعد حين والآن فما عليك إلا أن ترجع لعيادة مرضاك. - كيف ذلك أتطلق سراحي؟ - نعم فقد وثقت من ندمك وإخلاصك في خدمتي. - أقسم لك بتربة تلك الضحية التي يزورني خيالها كل ليلة إني سأفعل كل ما تريد، قل ماذا أفعل اليوم؟ - لا حاجة لي بك اليوم، وغدا سأزورك في منزلك أو أكتب لك فأعين موعدا آخر.
ثم نادى ميلون وقال: أحضر مركبة للطبيب. فامتثل ميلون وهو منذهل، وهو لا يجسر على سؤاله وبعد عشر دقائق ركب الطبيب بها ومضى فقال روكامبول لميلون: الآن يجب البحث عن الصندوق المودعة فيه أموال البنتين فاتبعني.
وسار روكامبول وميلون إلى ذلك المنزل الذي كان مخبوءا في أحد أقبيته الصندوق، فاستأجره ميلون وقد ادعى أنه تاجر خمر قسما من ذلك المنزل مشترطا أن يكون له قبو، وبعد أن تفقد الأقبية اختار واحدا منها وهو القبو الموجود فيه الصندوق.
وفي اليوم الثاني أحضر الأدوات اللازمة للحفر وجعل يبحث مع روكامبول عن الحجر المخبوء وراءه الصندوق حتى إذا عثر عليه أخذ روكامبول يشتغل بنزع الحجر، وبعد ساعة تمكن من نزعه وأخرج ذلك الصندوق الصغير من مخبئه، فصاح ميلون صيحة فرح لأنه عرف الصندوق.
وحمل روكامبول الصندوق بيديه فوجده خفيف الوزن فقال له: كيف تقول إنه يوجد فيه مليون فرنك فإن خفته لا تدل على شيء من ذلك؟ - ذلك لأنه يحتوي على أوراق مالية.
فاصفر وجه روكامبول، فقال له ميلون: بأي شيء تفتكر؟ - أفتكر أني كنت أدعى روكامبول ولو وجدت وإياك منفردين من قبل وأمامنا هذا المليون لكنت قتلتك كي يكون المال لي وحدي.
فاضطرب ميلون وقال: إن هذا المال ليس لي بل إنه مال اليتيمتين.
وأدرك روكامبول معنى اضطرابه وقال له: اطمئن فإني نزعت من نفسي ذلك المبدأ القديم فهلم بنا إذن لنرى ما في الصندوق.
9
ولندع الآن روكامبول يفحص ذلك الصندوق مع ميلون، ونعود بالقارئ إلى عاشق أنطوانيت، فإنه لما وصل إليه كتاب أنطوانيت الأخير الذي تمنعه فيه عن السفر فرح فرحا لا يوصف، وقد وجد من أدب هذه الفتاة ما غير نيته بشأنها فما صدق أن دنا الموعد المعين حتى أسرع إلى منزلها فلقيها مع مدام رينود.
وقد رأى في ذلك المنزل آثار الفقر والشقاء، غير أنه ما لبث أن حادث هاتين المرأتين حتى علم أن في نفسيهما خير ما يغرس من الفضائل والآداب، واندفعت أنطوانيت في حديثها معه فأخبرته بما كانت تجهله من أمر ماضيها، إلى أن قيضت لها الصدفة أن تعرف أنها ابنة البارونة ميلر وأن أمها كانت غنية، ثم طلبت إليه ببساطة الأطفال أن يساعدها في سبيل إيجاد ثروة أمها إذ ليس لها من تعتمد عليه في هذا الوجود إلاه.
فتأثر أجينور من حديثها تأثيرا عظيما حتى إنه نسي غرامه فلم يكاشفها بكلمة حب وانصرف إلى تطمينها، فوعدهما وعدا صادقا أن يكون لها خير خادم وصديق وأظهر لها ما لأبيه البارون دي مورليكس من الوجاهة والكلمة النافذة، وأنه سيستعين به على إيجاد هذه الثروة الضائعة. ثم ودعها بعد أن التمس منها أن تأذن له بالعودة مرة ثانية. وانصرف وقد عزم عزما أكيدا على الزواج بها لا سيما بعد أن علم أنها من النبلاء، وأن أباه لا يعارضه بزواجه ابنة بارون.
وذهب توا إلى أبيه وهو في فراشه لانكسار رجله كما تقدم فأخبره بجميع حكاية تلك الفتاة وهو لا يخطر له في بال أن أباه وعمه هما سارقا ثروة والدة الفتاة، وأن تلك الفتاة التي يهواها هي أقرب قريبة له.
أما والده البارون فقد وقع هذا النبأ وقع الصاعقة عليه فتظاهر بألم رجله، وهو إنما يشكو حقيقة من ظهور تلك الفتاة وظهور ذلك الطبيب، ثم طيب خاطر ابنه ووعده خيرا، وكتب في الحال رسالة إلى أخيه الأكبر يطلب إليه فيها أن يحضر سريعا لأمر خطير، وأمر ابنه أن يذهب بالرسالة إلى عمه بعد أن أوصاه بكتمان أمر الفتاة وأن لا يذكر شيئا من أمرها لأحد من أصدقائه. فامتثل أجينور وذهب بالرسالة إلى عمه.
وبعد ساعة قدم أخوه الفيكونت كارل دي مورليكس ودخل إليه فقال له البارون: أقفل باب الغرفة!
ففعل وهو يعجب لهذا التحفظ الشديد. ولما جلس بإزائه، ورأى اضطراب أخيه، علم أن الأمر جلل فقال له: ماذا دهاك؟ وما هذا الاضطراب؟ - لقد فضح أمرنا يا كارل! - كيف ذلك وأي أمر تعني؟ - لقد حلت ساعة العقاب! - قيل لي إنك كسرت رجلك فهل أصبت بالهذيان؟ - كلا ولكنك لا تعلم من هو هذا الطبيب الذي جبر كسر رجلي. إنه هو ذلك التلميذ الطبي الذي كان يقيم في شارع سرسنس. - ما هذا الاتفاق الغريب ألعله عرفك؟ - نعم، وأشار علي بالندامة والاستغفار. وليس هذا كل السبب في اضطرابي، فإن ولدي أجينور يريد أن يتزوج فتاة تدعى أنطوانيت ميلر أعلمت الآن؟
فقطب كارل جبينه وقال: وبعد ذلك؟ - إنها تعرف اسمها وتعرف أن ثروة أمها قد سرقت وأن ميلون الخادم في السجن، وقد جاءني ولدي يسألني أن أساعده في إخراج ميلون من السجن، أفهمت الآن؟ - فهمت كل شيء وأخص ما فهمته أن ولدك أبله؛ لأنه قص عليك جميع هذه الأمور، فوضع نفسه في أحرج المواقف. ثم جعل يضحك ضحك الساخر.
10
أما روكامبول فإنه عالج الصندوق الحديدي وفتحه فوجد فيه قيمة ميلون فرنك أوراقا مالية، ووجد كتابا بخط البارونة ميلر، فأخذ الكتاب ودفع الصندوق باشمئزاز إلى ميلون، كأنه خشي أن يؤثر عليه منظر ذلك المال الكثير. ثم جعل يقرأ ذلك الكتاب المسهب على مسمع ميلون.
والكتاب معنون باسم أنطوانيت ومدلين ابنتي البارونة ميلر. وهو يتضمن حكاية تلك البارونة وخلاصتها أنها لم تكن أخت الفيكونت كارل والبارون دي مورليكس لأمهما وأبيهما بل لأمهما فقط، ولدتها حراما وكتمت أمرها عن جميع الناس حتى مات زوجها فعرف والدها بأمرها وأشارا عليها أن تتبناها وأن تقيم في باريس بصفة قريبة.
ولم يكن ذلك من قبيل الرأفة بتلك الأم بل طمعا بأموال ابنتها، فإنها تزوجت البارون ميلر وبعد ولادة ابنتيه أنطوانيت ومدلين توفي عن ثروة تبلغ عشرة ملايين فرنك، وإنما طلبا إلى أمهما أن تتبناها شرعيا كي يحق لهما الإرث منها بعد وفاتها، ولذلك لم يكن أحد من الناس يعلم أن البارونة ميلر هي شقيقة البارون والفيكونت دي مورليكس.
وبعد أن تم عقد التبني وقدمت البارونة بابنتيها إلى باريس توفيت أمها. وقد اتضح فيما بعد ذلك أن ولديها قتلاها بالسم، ثم جعلا يطاردانها ويحاولان قتلها بطرق مختلفة خفية ويظهران الأنس والبشاشة فدسا لها السم مرة في برلين فنجت منه، وأحرقا المنزل بها مرة في فيينا فسلمت مع ابنتيها. ولما كانت في باريس أتاها أحد خدم أخيها الفيكونت كارل، فأخبرها بجميع مكائد أخيها وأنه عازم على قتلها وقتل ابنتيها كي يرثها. فجمعت ما استطاعت جمعه من المال وأعطته لخادمها ميلون وأوصته أن يخبئه كي يكون مهرا لبنتيها ثم وضعت هاتين البنتين في مدرسة مدام رينود دون أن تذكر لهما اسم عائلتيهما ومكثت في باريس بعد أن اطمأنت على ابنتيها.
هذه خلاصة الكتاب الذي يظهر منه كيف أن أجينور دي مورليكس لم يعلم أن أنطوانيت ابنة البارون ميلر قريبة له لأن سر ولادة البارونة كان مكتوما عن جميع الناس ولم يعرفه غير الفيكونت وأخيه البارون.
ولما فرغ روكامبول من تلاوة الكتاب قال لميلون: إننا قد وجدنا الصندوق وعرفنا أمورا كثيرة من هذا الكتاب فماذا تريد أن تعمل الآن؟ - نبحث عن أنطوانيت ومدلين ونرد لهما المال. - حسنا غير أن المليون لا يكفي البنتين؛ لأن مالهما عشرة ملايين لا مليونا واحدا. - سنطالب بالباقي. - تطالب من؟ - الحكومة!
فضحك روكامبول وقال له إنك لا تزال على بلاهتك. أنسيت أنك هارب من السجن وأنك كل يوم تتنكر في زي فكيف يصح أن يكون لك علاقة بالحكومة؟ - إذن كيف نعمل؟ - سوف ترى ماذا أعمل. غير أن عملا عظيما كهذا يقتضي له المال الكثير وقد رأيت ما صنعت من قبل ولا بد أن تثق بما سأصنع في المستقبل.
فقال ميلون بإعجاب: لا ريب عندي بأن عقلك أسمى من عقول البشر.
وأجاب روكامبول بسكينة: إني سأجد البنتين وأرد لهما كل ثروتهما وأنتقم لأمهما. غير أنه لا بد لي من المال لتحقيق هذه الآمال.
وكان ميلون يثق ثقة عظيمة برفيقه في السجن فدفع إليه الصندوق وقال: خذ ما تشاء. - إني أحتاج إلى مائة ألف فرنك على الأقل. - خذ ما تشاء.
فأخذ روكامبول مائة ألف وقال: هلم بنا إذن، فقد آن أوان العمل ولك أن تدعوني منذ الآن بروكامبول.
11
بينما كان روكامبول منهمكا مع ميلون بفتح الصندوق وتلاوة الكتاب كان الفيكونت كارل مورليكس جالسا على كرسي أمام سرير أخيه وهو يباحثه في جنايتهما القديمة.
وكان كارل هذا شديد الدهاء لا ترهبه الصعاب ولا يقف بجرأته عند حد خلافا لأخيه والد أجينور، فقد هاله ثبات أخيه وعدم ظهور شيء من علائم الاضطراب عليه فقال له: ألست بنادم على تلك الجناية؟ - إن من تجاسر على سرقة ثروة، يجب عليه أن يتجاسر أيضا على حفظها. - ولكننا لا نستطيع الاحتفاظ بها أمدا طويلا، ما زالت الفتاتان في قيد الحياة.
فهز كارل كتفيه إشارة إلى عدم الاكتراث وقال: كيف حصلنا على ثروة أختنا بعد وفاتها. - بفضل عقد التبني الذي ظهر فيه أن البارونة ميلر أختنا، وأنه يحق لنا إرثها. - نعم ولكنه كان للبارونة ابنتان فلم يكن يحق لنا إرثها إلا بعد إثبات وفاة ابنتيها، وقد أثبت وفاة أنطوانيت ومدلين ميلر يوم وفاة أختنا ولولا ذلك لما حق لنا أن نرث شيئا وقد كان صك وفاتهما مذيلا بتواقيع كثيرة لا تدع أقل مجال للريب ولا يمكن نقضها. - وإذا ظهرت البنتان؟ - لا يفيد ظهورهما شيئا. - كيف ذلك؟ - لأن الحكومة لا تصدقهما إذ ليس لديهما ما يثبت نسبهما. - ولكن ميلون يثبت هذا النسب. - إنه مسجون. - ومتى خرج من سجنه فإن سجنه غير مؤبد؟ - لا يجد هاتين الفتاتين أو يجدهما غير صالحتين لهذا النسب.
فأجفل البارون وقال: لقد أدركت قصدك ولكنه قصد هائل لا أوافقك عليه، فقد كفى ما فعلناه. - إذن، فاختر بين أمرين: إما أن تبقى متمتعا بثروتك وجاهك بالقضاء على هاتين الأختين، أو تمتعهما بها بالقضاء على نفسك وقضاء الحكومة عليك. - رباه! كلاهما شديد ولكني أختار أهون الويلين فافعل ما تشاء. - سأفعل إنما يجب أن تعلم بأني سأستخدم ابنك أجينور آلة وسأتعب قلبه، غير أن أمراض الحب سريعة الشفاء وسأزوجه خير فتاة ترضية له.
فقال البارون ببلاهة: لم أفهم إلى الآن كيف أنك ستستعين بولدي كي تصم تلك الفتاة التي يهواها بوصمة عار. - كن مطمئنا فلا خوف على ولدك لأنه ولدي. أما طريقة استعانتي به فستعلمها بعد حين، إنما لا بد لي الآن من إخبارك أني أعرف رجلا في باريس أحيل من ثعلب، تقلب في جميع أنواع الشرور وتمرس بجميع الأعمال، فقد كان لصا شريرا ثم رأى رئيس البوليس ما كان من حذقه فجعله بوليسا سريا ثم عزله لأنه لم ينقطع عن السرقة ومشاركة اللصوص، وهو الآن يعتزل في منزله يأتيه رزقه من العصابات الشهيرة لخوفها من كيده. فإذا أعطيته ثلاثين أو أربعين ألف فرنك فعل لي ما أريد. - كل ذلك سافل مكروه. - ولكنه واجب ولا بد منه، إذا كنت تخشى السجن والإقامة فيه بدلا من ميلون.
فلم يجب البارون بشيء. ولما رآه أخوه مطرقا يفكر خشي أن تتغلب عليه عاطفة الشهامة فنهض وقال: إني ذاهب إلى هذا الرجل وسأعود إليك بعد أن أراه. - ولكن ولدي أجينور سيعود الآن فماذا أقول له؟ - طيب خاطره ما استطعت، وقل له إني ذهبت للسعي فيما يريد.
ثم ودعه وركب مركبته وانطلق بها إلى شارع سانت جرمين، فأوقفها عند باب منزل وصعد إلى الدور الثالث، فطرق الباب وسمع صوتا يقول له: ادخل ففتح الباب ودخل، فوجد رجلا يناهز الخمسين فحياه وناداه باسم تيميلون.
12
وكان أول من افتتح الحديث الفيكونت فقال لتيميلون: أعرفتني؟
فنظر إليه تيميلون نظرة عدم اكتراث، وقال له: إن ذلك يتعلق بالأحوال. - كيف ذلك؟ إني لا أفهم ما تريد. - ذلك لأننا نحن معاشر رجال الأعمال السرية ننظر إلى من يزورنا لقضاء مهمة من المهمات، فإذا شاء أن نعرفه عرفناه، وإذا رأينا أنه لا يريد أن نعرفه أنكرناه.
فابتسم الفيكونت وقال له: إني أريد أن تعرفني. - إذن أنت الفيكونت كارل مورليكس ومنزلك في شارع بيبينار وأنا مستعد لخدمتك. - سأحكي لك أمري بكلمتين فاعلم أن لي أخا. - إنه يدعى البارون دي مورليكس ويقيم في شارع أوكاليه. - ولي ابن أخ. - إنه يدعى أجينور ويقيم في شارع سيرسنس منفصلا عن أبيه. - يسرني أنك تعرفنا جميعا بهذا التدقيق. اعلم الآن أن أجينور هذا يريد أن يتزوج زواجا لا يوافقنا. - وإنك تريد أن تمنع هذا الزواج أليس كذلك؟ - هو ما تقول. - كل شيء ممكن متى وجد المال. - المال موجود. - إذن فلنتحدث: من هي هذه الفتاة؟ - هي فتاة فقيرة تعلم الموسيقى في البيوت، طاهرة السريرة بديعة الجمال ليس لها أهل وهي تقيم مع معلمة عجوز.
وكان تيميلون يسمع ما يقول كارل ويكتب مذكرات بأقواله بلغة اصطلاحية لا يعلمها سواه فلما فرغ من استعلامه عن أنطوانيت قال له: لدي طريقتان إحداهما سهلة ميسورة وهي أن أنصب شركا للصبية وأقودها إلى محل شائن ثم نبرهن لأجينور أنها غير خليقة به.
فأبى كارل هذه الطريقة وقال إن أجينور شاب متفلسف يحسب نفسه خلق لإصلاح خطأ الناس وأن المرء ضعيف لا يؤاخذ بخطأ، فقد يحمله إيلام عرضها على الزواج بها سترا لشرفها. - إذن فلنبحث في الطريقة الثانية؛ لأنها أكثر مشقة وأغلى ثمنا، وهي أن نلقي تلك الفتاة في مشاكل تدعو إلى مداخلة البوليس وإرسالها مؤقتا إلى سجن بنات الهوى. - إنها خير من الطريقة الأولى ولكني لا أريد أن يكون السجن مؤقتا.
فنظر إليه تيميلون محدقا مستكشفا وقال له: إذن أنت مستعد لدفع الأجرة الباهظة التي يقتضيها المشروع. - كم تريد؟ - خمسين ألف فرنك وليس ذلك بكثير إزاء هذه المهمة الصعبة. - ليكن لك ما تريد.
ففكر تيميلون هنيهة وقال: إن الأمر سهل وهو أننا نستطيع أخذها بالحيلة إلى منزل ترتكب فيه جريمة سرقة فيحضر البوليس ويقبض عليها مع اللصوص فيعترفون أنها شريكة لهم وأنها داخلة في عصابتهم. - إنه فكر مصيب ولكن أين تجد أولئك اللصوص؟ - إن لدي منهم من أثق به. - ولكني أخشى أن تتمكن الصبية من إثبات براءتها بإثبات اسمها. - ألم تقل لي إنها لا أم لها وإنها تخرج وحدها لإعطاء الدروس. - إنها تخرج كل يوم في أوقات معينة. - إذن، سأجد لها أما تلتمس إخراجها من السجن، وتحاول تبرئتها فتزيد بها الظنون، وتؤيد الجريمة. إنما قل لي اسمها، واسم الشارع الذي تقيم فيه. - إنها تقيم في شارع سانت أونوريه واسمها أنطوانيت، إذ لا عائلة لها، غير أنها لفقت حديثا لابن أخي فادعت أنها ابنة بارونة.
فأدرك تيميلون أن في الأمر سرا ونظر إلى كارل نظرة المشكك من صدق كلامه فطمع وقال له: إذا وجدت أما فاسدة السيرة لهذه الفتاة فسجنتها وأبطلت دعواها وأفسدت جميع براهين نسبها الذي يخال لي أنك تخشى ظهوره أتدفع لي مائة ألف فرنك؟
فاصفر وجه كارل وعلم أن كل إنكار مع الرجل محال وكل مساومة لا تفيد فقال: سأدفع لك المال. - إذن فاذهب الآن في شأنك وسأخبرك غدا بجميع ما أجريته.
فنهض كارل ومضى حتى إذا بلغ الباب عاد وقال: أتعلم شيئا من أخبار سجن طولون؟ - إني أعرف جميع المسجونين فيه وأعرف من فر منهم ومن بقي، فسلني عمن تريد. - أتعرف مجرما سارقا يدعى ميلون.
فأخذ تيميلون دفترا ضخما فقلب في صفحاته هنيهة وهو ينظر فيها ثم قال : نعم، إن الرجل قد فر من سجن طولون منذ ستة أشهر.
فاصفر وجه كارل اصفرارا شديدا لم يخف على تيميلون فقال له: ألعلك تخاف منه؟ - أخافه أكثر مما أخاف أنطوانيت، ولم يعد سبيل معك إلى الإنكار بعد اتفاقنا. - إذن، فاعلم أن ميلون هذا قد فر مع رجل هائل، لا نستطيع أن نجاريه في مضمار، وكفى وصفا له أنه يدعى روكامبول. واعلم يا سيدي الفيكونت أن كل مال ضائع في مقاومة هذا الداهية. وإذا كان متفقا مع ميلون فأيقن أن مساعينا خائبة، وإني أتنازل لك الآن عن المائة ألف فرنك وأشير عليك أن تدع ابن أخيك يتزوج أنطوانيت، فذلك خير لنا جميعنا وأبقى إلا إذا أخبرتني بجميع أمرك دون أن تكتم عني شيئا وأطلقت يدي في الاتفاق. - سأخبرك بكل شيء. - وأنا سأخاطر مع هذا الداهية فإذا ظفرت به بلغت أقصى درجات المجد والشهرة في مهنتنا.
13
في اليوم التالي لزيارة أجينور لأنطوانيت، كانت أنطوانيت راجعة من أحد المنازل التي تدرس فيها الموسيقى وهي تسرع خطاها وتخترق الجماهير المزدحمة في الشوارع وتفتكر تارة بأجينور وتارة بميلون وآونة بذلك الاتفاق الذي عرفت به اسم عائلتها، فتستطرد منها إلى أجينور ولا تجسر أن تتم تصورها.
وفيما هي تسير إذ رأت رجلا خارجا من باب ناد كبير، فوجف قلبها واضطرب سيرها لأن ذاك الرجل كان أجينور، وقد رآها فأسرع إليها ورفع قبعته بملء الاحترام وحياها فردت له التحية، وحاولت أن تتم سيرها فاستوقفها بافتتاحه الحديث معها وقال لها: اسمحي يا سيدتي إذ قد لقيتك أن أقول لك في الحال؛ لأني منذ الصباح أعد الدقائق وأنتظر المساء بفارغ الصبر. - الحق يا سيدي أني أذنت لك بزيارتي في هذا المساء وأنا أنتظرك ثم حاولت أن تسير.
فقال لها: يا سيدتي إن الأمر يتعلق بميلون.
وكأن الاسم قد سحرها فوقفت في مكانها وقالت: ميلون؟ - نعم يا سيدتي لقد خابرت عمي بشأنه فقبل التماسي وذهب في الحال إلى دار الحكومة فعلم أن الرجل محمود السيرة في السجن وأن اسمه وضع في لائحة الذين سينعم عليهم بالعفو.
فسرت أنطوانيت سرورا لا يوصف وقالت: متى يكون هذا العفو الكريم؟ - لا أعلم، غير أن عمي وعدني أن يبذل جميع ما لديه من النفوذ في سبيل الإسراع بالإفراج عنه، ثم إن هناك أمرا آخر أحب أن أقوله لك وهو أني قابلت أبي أيضا وكلمته عنك، وعن فضائلك، وعن حبي. فأجابني أبي يا سيدتي أنه سيلتمس منك بنفسه.
فاحمر وجه الصبية وتلعثم لسانها فلم تعلم ماذا تجيب، فزادت جرأة أجينور فأخذ يدها وقال: أيتها الآنسة المحبوبة إن أبي سيلتمس منك بنفسه، لا تقضي علي قضاء مبرما وتجعليني شقيا في غرامي إلى الأبد.
فاضطربت الفتاة اضطرابا شديدا وحاولت الإفلات منه وهي تقول: إلى المساء يا سيدي إلى المساء.
وفيما هي تحاول المسير رأت رجلين يسيران في مركبة سيرا حثيثا فصاحت صيحة دهشة عظيمة وقالت: هو هو بعينه ومحال أن لا أعرفه!
فأسرع إليها أجينور وسألها: من هو؟ - هو ميلون بذاته ذو اللحية البيضاء يسير بهذه المركبة.
ولم يمهلها أجينور وكانت مركبة معدة للأجرة واقفة في الشارع فأصعدها إليها وقال: سندركه يا سيدتي قبل أن يتوارى.
ثم جلس بجانبها وقال للسائق: إني أعطيك مائة فرنك إذا أدركت تلك المركبة.
وأشار إليها فضرب السائق جواد مركبته بالسوط فانطلق ينهب الأرض نهبا، غير أن المركبة التي كان ميلون فيها حقيقة كانت ذات جوادين، فلم تستطع إدراكها ثم اضطرت إلى الوقوف لازدحام المركبات في الطريق فلم تستطع مركبة أجينور وأنطوانيت إدراكها فتوارت عن الأنظار.
وعند ذلك عاد أجينور بالفتاة وهو يبسط لها في الطريق أجمل الأماني وأشرفها، ولما بلغ بها إلى منزلها نزلت من المركبة وهي تضطرب فودعته والتمست منه أن لا يزورها في الليل لكثرة اضطرابها ولاحتياجها إلى الراحة فوعدها بالامتثال وانصرف.
أما أنطوانيت فإنها دخلت إلى المنزل فرحة بوجود ميلون في باريس منقبضة لعدم تمكنها من إدراكه، فلما دخلت إلى غرفتها وجدت فيها رسالة ففضتها وأسرعت بنظرها إلى التوقيع فقرأت البارون دي مورليكس.
14
وكانت الرسالة من والد أجينور وهي كما يأتي :
يا ابنتي العزيزة
لقد أخبرني اليوم ولدي بما كان بينكما وذكر لي عن فضائلك ما جعلني قرير البال على مستقبله، فأرجوك أن تغفري لي كتابتي إليك خفية عن أجينور وأن تكتمي عنه هذا الكتاب.
إن ولدي يحبك حبا لا يوصف ويرجو أن يعرف طريق قلبك بإرشاد غرامه الصادق.
وكنت أود أن أزورك بدلا من أن أكتب إليك، غير أني عثرت أمس فكسرت رجلي واضطررت إلى ملازمة الفراش، وإني لا أجد بدا يا ابنتي العزيزة من أن أراك وأحادثك مليا في شأن ولدي محادثة لا يسمعها سوانا دون أن يعرف أجينور شيئا من هذا اللقاء. فهل ترفضين لأبيه مثل هذا الطلب؟
إني واثق من أنك لا ترفضين، ولو كنت أستطيع الانتقال من سريري لأسرعت إليك، فلا بد لي من العبث بجميع المعاملات والعادات المألوفة وألتمس منك أن تزوريني، فإذا تفضلت يا ابنتي العزيزة بإجابة ملتمسي تجدين مركبة على باب منزلك في الساعة التاسعة من هذا المساء. وأختم كتابي بتقبيل يدك الجميلة التي يبحث عنها ولدي بملء الاحترام.
البارون دي مورليكس
ولما اطلعت أنطوانيت على هذا الكتاب وهي حائرة مبهوتة لا تدري كيف تحكم عليه فلم تجد مرشدا في هذا المقام أفضل من مدام رينود، فأخبرتها بجميع ما اتفق لها مع أجينور وتلت عليها الكتاب.
فظهرت علائم الفرح الشديد على وجه العجوز وقالت لها: إن السعادة قد فتحت لك أبوابها يا ابنتي لأن كل كلمة في الكتاب تدل على نبل كاتبها وإياك أن تتخلفي عن الموعد فإن شرف هذا البارون لا ريب فيه.
وتركتها أنطوانيت وذهبت إلى غرفتها فجعلت تتجمل على غير عادتها لأنها على فرط جمالها أحبت أن تزيد جمالا كي تروق للأب كما راقت لابنه.
ولكنها، مع سرورها لهذه السعادة المفاجئة، كانت تشعر بانقباض في صدرها كأنها تتوجس شرا، ثم تحمل هذه العوارض على محمل الرهبة فتطمئن.
وما زالت تتنازعها هذه العوامل إلى أن أذنت الساعة التاسعة فودعت مدام رينود ونزلت إلى الشارع فرأت مركبة جميلة واقفة على باب المنزل ، ولكنها ترددت في ركوبها فرفع السائق قبعته وفتح لها باب المركبة فقالت: أهذه مركبة البارون مورليكس؟ - نعم يا سيدتي.
فصعدت إليها وأقفل السائق بابها ثم صعد إلى مكانه وانطلقت المركبة تجري بتلك الفتاة إلى حيث يريد السائق.
وكانت أنطوانيت تعرف جميع شوارع باريس غير أنها لم تنتبه إلى مسير المركبة لأن الخيانة لم تخطر لها في بال، ولأنها كانت مضطربة منشغلة بالتفكير في مقابلة البارون.
ولكنها بعد أن سارت المركبة سيرا طويلا استيقظت من سبات تصورها ونظرت في زجاج النافذة فعلمت أنها تسير في شارع مقفر تكتنفه الأشجار من الجانبين وأنها باتت في ضواحي باريس، فشغل قلبها ونادت السائق فلم يجبها وحاولت فتح باب المركبة فرأت أنه محكم الإقفال من الخارج فوجف قلبها ولكنه لم يكلمها، بل إنه انتظر رجلا صعد من الطريق إلى المركبة وجلس بجانبه وعادت المركبة إلى سيرها الحثيث.
ولما رأت أنطوانيت أنها محبوسة في تلك المركبة وأيقنت أنها منخطفة جعلت تستغيث حتى ملأ صوت صراخها الفضاء، ولكن صراخها لم يفدها لأن المركبة كانت تسير في مكان قفر لا يمر به أحد من الناس.
وما زالت حتى وقفت عند منزل يكتنفه شبه غابة فنزل الذي كان جالسا بجانب السائق وفتح باب المركبة ثم قال لأنطوانيت بأدب: انزلي يا سيدتي ولا تخشي أمرا وكفي عن الصياح لأن الصياح لا يفيد.
غير أن أنطوانيت لم تكترث لإنذاره وجعلت تصيح وتستغيث راجية أن يسمعها أحد.
ولما قنط الرجل من إسكاتها جرد خنجره وأنذرها بالقتل فقالت: اقتلني أيها الشرير لأن الموت أحب إلي من حياة العار.
ثم عادت إلى الصياح فضغط على عنقها حتى أوشك أن يخنقها، فكانت تعود إلى الاستغاثة كلما أفرج عنها، حتى أعياه أمرها، فقال لها: إنك إذا استمررت على هذا الصياح، عرضت حياتك وحياة أجينور للأخطار.
وكأن هذه الكلمة سحرتها فسكتت فجأة وبدت على وجهها علائم الذعر الشديد وقالت: أي خطر على أجينور وإلى أين أتيتم بي وماذا تريدون مني؟ - خففي جزعك يا سيدتي فإننا لا نريد لك إلا الخير وما أتينا بك إلى هذا المكان إلا لدفع خطر عظيم عن خطيبك أجينور، وما هي إلا ساعة ويزول عنك ذلك الخطر الذي لا أعلمه فأبوح لك به فهلمي معي إلى هذا المنزل ولا يروعك هيئة المقيمين فيه وأخلاقهم فإنها ساعة وتنقضي ثم تعودين إلى مقابلة والد أجينور الذي بات يحبك كما يحب ولده.
فاطمأن خاطرها بعض الاطمئنان للهجة هذا الرجل لا سيما وقد علمت أن لا سبيل لها إلى المقاومة ومشت معه إلى ذلك البيت.
وكان هذا البيت مأوى لعصابة من اللصوص يجتمعون فيه نساء ورجالا، فكلما حدثت في المدينة سرقة أو جناية خفي أمرها عن الحكومة باغت البوليس هذه العصابة وقبض على أفرادها فأودعهم السجن إلى أن تنجلي الحقيقة.
ولما دخلت أنطوانيت ذعرت لمرأى تلك العصابة، فقد كانت مؤلفة من عشرة لصوص من الجنسين وهم جالسون حول مائدة عليها آنية كبيرة من الخمر يشربون ويقهقهون ولا يكترثون لمن يدخل إليهم أو يخرج من بينهم.
ولما رأوا أنطوانيت داخلة وهي تقدم رجلا وتؤخر أخرى صاحوا جميعهم صياح الفرح والاستبشار وتكلموا بلغتهم الخاصة قائلين: إن الطير وقع في القفص وقد حان زمن الكسب بعد العطلة.
ولكن أنطوانيت لم تكن تفهم شيئا منهم فأقبلوا إليها وجعل بعضهم يمازحها وآخرون يتهكمون عليها وبعضهم يتظاهر بالغرام بها والغيرة عليها، وهي كلما حاولت الفرار أو الاستغاثة قال لها ذلك الرجل الذي صحبها: احذري أن تفوهي بكلمة إذا كنت تشفقين على أجينور.
وطال بها هذا الموقف الشديد حتى استولى عليها اليأس وجعلت تبحث بعينيها على تلك المائدة عن سكين تحفظها وتنتحر بها.
وفيما هي على هذا القنوط إذ علت صيحة من الخارج وسمعت أصوات السيوف تطرق على السلم فعلم اللصوص أن الشرطة فاجأتهم وقالوا: لا سبيل لنا إلى الدفاع فإنهم لا يهاجموننا إلا بعدد أكثر من عددنا وإذا دافعنا كبرت جريمتنا والتسليم خير لنا في كل حال.
وعند ذلك دخلت شرذمة من البوليس يتقدمها قائدها فأمر رجاله أن يوثقوا جميع الحضور.
وقبل أن يمتثلوا أسرعت أنطوانيت إلى القائد وقالت له بلهجة تبين الصدق عنها بأجلى مظاهره: إن الله أرسلك يا مولاي كي تنقذني من هؤلاء الأشقياء.
وبهت القائد لكلامها وهو يحسب أنها تريد التخلص من السجن بمثل هذه الحيل وقال لها: من أنت؟ - أنا يا سيدي أدعى أنطوانيت ابنة البارونة دي ميلر وقد ...
غير أن أولئك اللصوص المتفقين على المكيدة لم يكادوا يسمعون قولها إنها ابنة بارون حتى ضحكوا جميعهم ضحكا عاليا فقال أحدهم: لله درك ما أسرع تقمصك بالبارونة.
وقال آخر: كفى عصابتنا شرفا أن فيها النبلاء.
وقالت أخرى: أنا يا سيدي القائد، ابنة مركيز وقد اختطفني هؤلاء الأشقياء.
ودنت إحداهن منها وقالت لها همسا على مسمع من رجال البوليس: بالله لا تنسي أني إحدى وصيفاتك.
وقال غيرها غير ذلك حتى علمت أنطوانيت أنه قضي عليها وأيقن قائد البوليس أنها من العصابة فقال لها: هلمي بنا يا حضرة البارونة فإن القضاء لا يخفى عليه مقام أمثالك. ثم أمر رجاله أن يخفروا العصابة ويطوقوها وساروا بهم وبينهم أنطوانيت تسير مطرقة وهي تود لو تبتلعها الأرض أو تصعقها السماء إذ لم يعد لها رجاء إلا أمام القضاء.
15
أما قبض الحكومة على العصابة فكان بتدبير تيميلون، فإنه أرسل أحد أعوانه فادعى حدوث سرقة في منزله، وأرسل آخر إلى إدارة البوليس فوشى بالعصابة، واختطف أنطوانيت بالاتفاق مع كارل مورليكس، فأتى بها إلى هذا المنزل، وعلم رجال العصابة ما يصنعون مقابل أجرة معينة فامتثلوا له فيما أراد.
فلما مثلت أنطوانيت أمام رئيس البوليس جعلت تبكي بكاء متقطعا يفتت الأكباد فحكت حكايتها بملء البساطة، فتوجع لها المدير ولكن محضر كل واحد من أولئك المتهمين كان أمامه، وقد تعود مثل هذه الأقوال فقال لها: تقولين إن اسمك أنطوانيت دي ميلر وإنك تقيمين في شارع سانت أونوريه فكيف خرجت من منزلك؟
قالت: بكتاب أرسله إلي البارون دي مورليكس. - إذن أنت تعرفين هذا البارون؟
فحكت له أنطوانيت كل علاقتها مع أجينور.
فقال لها: أتعتقدين أن سائق مركبة البارون قد اختطفك؟ - نعم ، ثم ذكرت له ما قال لها الرجل الذي كان يصحب السائق واسمه ميلون عن أجينور وتعرضه للخطر، فسأل رئيس البوليس هذا اللص فأنكر قولها وقال: إنه يعرفها منذ عهد قريب وإنها هي التي تبعته إلى ذلك المنزل من تلقاء نفسها دون أن يختطفها. ثم قال: إنها قد يكون لها معرفة بأجينور دي مورليكس فإنه شاب جميل واسع الثروة كثير الإنفاق.
فغطت أنطوانيت وجهها بيدها وقالت: كذب هذا المنافق فإني ما رأيته في حياتي.
فقال لها المدير: أتعلمين أين يقيم أجينور دي مورليكس؟ - نعم، في شارع سيرسنس.
فنادى أحد رجاله وقال له: اذهب في الحال إلى منزل أجينور دي مورليكس فأيقظه من رقاده وقل له: إن فتاة تدعي أن اسمها أنطوانيت دي ميلر وجدها البوليس الليلة بين عصابة لصوص متهمة بسرقة، وأنها تدعي معرفته. ثم قل له إني لا أجد بدا من أن أضعها هذه الليلة في السجن.
فصاحت الصبية منكرة وقالت: رباه أنا أبيت في السجون؟
فجعل رجال العصابة يضحكون ضحكا معنويا ويكلم بعضهم بعضا على مسمع من البوليس فيقولون ما معناه: إن هذه الفتاة تفضلنا جميعا ولو احترفت صناعة التمثيل بدلا من صناعتنا لبلغت أقصى درجات الشهرة.
وبعد حين عاد البوليس الذي أرسله المدير إلى منزل أجينور فقال: إنه سافر مساء أمس إلى بريطانيا وإن بواب منزله حمل له أمتعته إلى السكة الحديدية.
فلما سمعت أنطوانيت كلامه هلع قلبها وقالت: رباه لقد ضاع كل رجاء.
فقال لها المدير: إذا لم يكن لديك غير هذا البرهان فإني مضطر إلى إرسالك إلى السجن.
فذعرت وقالت: أرسل من تشاء إلى منزلي فإن البواب وامرأته ومدام رينود يعرفونني.
وقبل أن تتم كلامها دخلت امرأة عجوز إلى غرفة المدير فدنت من ميلون وقالت له مغضبة: تبا لك من شقي فإنك أنت الذي أفسد أخلاق ابنتي.
فما صبر ميلون عن مجاوبتها وقال: إنها فاسدة قبل أن أعرفها حين كانت في أحضانك.
أما العجوز فلم تجبه وأقبلت إلى أنطوانيت تؤنبها بالنظر ثم قالت لمدير البوليس: أرجوك يا سيدي أن ترد لي ابنتي وأنا أقسم لك إني أردعها عن عشرة هؤلاء الأشقياء.
ثم جعلت تقبل أنطوانيت وتضغط عليها ضغطا شديدا يمنعها عن الكلام فقال لها المدير: كفى فإني لا أستطيع الليلة إطلاق سراح هذه الفتاة وستنظر المحكمة في أمركم غدا.
ثم أمر رجاله بإيداعهم السجن وخرج، أما أنطوانيت فإنها أغمي عليها ولما استفاقت وجدت نفسها في السجن مع أسافل اللصوص والمجرمين.
16
ولنوضح الآن كيف أن أجينور برح باريس فجأة وما حمله على هذا السفر السريع، دون أن يبلغ أنطوانيت وذلك أن عمه كارل مدبر هذه المكيدة بالاتفاق مع تيميلون كان يديرها بحذق شديد بحيث رأى أنه ليس من الحكمة أن يبقى أجينور في باريس بعد اختطاف حبيبته لأنه يشكل خطرا عظيما على مشروعاته الهائلة.
وكان من عادة أجينور أن يذهب في الساعة السادسة من كل مساء إلى منزله في شارع سيرسنس فيأخذ رسائله ويذهب إلى النادي فيتعشى ويسهر فيه.
ولما أوصل أنطوانيت إلى منزلها بعد يأسه من إدراكه مركبة ميلون عاد إلى منزله حسب عادته فدهش لأنه رأى على الباب مركبة عمه كارل وقال له البواب: إن عمه ينتظره في المنزل منذ ساعة.
فصعد مسرعا إليه فاستقبله عمه ببشاشة وقال له: إنك لم تكن تتوقع أن تراني في منزلك أيها العاشق المفتون فلا تعلم السبب في وجودي. - هو الحق ما تقول يا عماه فقد شغلت بالي. - ليس ما يشغل البال فقد جئت لأحادثك بشأن زواجك. - أقال لك أبي كل شيء؟ - إن أباك لا يكتم عني أمرا وأنا مسرور جدا لزواجك فإنه غاية ما تتوق إليه نفسي. - إذن فأنت راض عن زواجي بتلك الفتاة الطاهرة. - كل الرضى فقد ذكر لي أبوك عن فضائلها ما يجب أن يكون زينة كل امرأة طاهرة ولولا رضاه لما كنت بدأت بخدمتك. - كيف ذلك؟ - ألم يخبرك أبوك عن اهتمامي بأمر ميلون؟ - نعم ولكن تعليماتك كانت مخطئة بشأنه ولم يعد سبيل لالتماس العفو عنه وإخراجه من السجن فقد عفا عن نفسه كما يظهر وبرح السجن من تلقاء ذاته.
فاضطرب كارل وسأله كيف ذلك فأخبره أجينور بجميع ما اتفق له وكيف أنه اقتفى أثره مع أنطوانيت فلم يتمكنا من إدراكه، فشعر كارل بالخطر وأحب الإيهام على ابن أخيه وقال له: لا شك أن خطيبتك قد رأت رجلا يشبه ميلون لأنه قد يصح أن يتمكن من الفرار من سجن طولون ولكنه لا يعقل أن الحكومة لا تعلم بأمر فراره ولو كان فراره حقيقة لكنت عرفت ذلك أمس وفي كل حال فسنبحث في هذا الأمر بعد رجوعك.
فأجفل أجينور وقال: ماذا تريد برجوعي ألعلي مسافر؟ - نعم يا بني فستسافر بعد ساعة إلى بريطانيا وهو سفر لا بد منه، فإن عمتك على فراش النزاع وهي تطلب أن تراك في الحال فتقيم عندها يوما أو يومين ثم تعود.
فذعر أجينور لهذا السفر الفجائي وبعد جدال طويل اضطر إلى الاقتناع لا سيما وأنه سيرث ثروة عظيمة من عمته فقال له: ألا أرى أبي قبل سفري؟ - لا حاجة إلى ذلك فهو يعلم أنك مسافر الليلة وقد حان سفر القطار. - ألا أكتب كلمة على الأقل لأنطوانيت؟ - اكتب ما تشاء وأنا سأحمل كتابك إلى ابنتنا الجديدة فيكون وسيلة معرفتي بها.
فسر أجينور من تلطف عمه وكتب الكتاب وأعطاه إياه ثم ذهب معه إلى المحطة ولم يفارقه لحظة حتى رأى القطار قد سافر وهو فيه.
وبعد أن وثق كارل من سفر ابن أخيه عاد إلى منزله فوجد تيميلون ينتظره فيه فنظر تيميلون ساعته وقال: لقد دنت الساعة العاشرة فلا بد أن يكون قضي الأمر، ومع ذلك فهلم بنا نتحقق الأمر بأنفسنا كي تعلم أني لم آخذ مالك من غير حق.
فذهبا إلى منزل أنطوانيت ووجدا أن المركبة المعدة لاختطافها برحت المكان الواقفة فيه فعلما أنها سارت بالفتاة ثم قال له: هلم بنا الآن إلى إدارة البوليس حيث تعلم منها الحقيقة وتطمئن.
17
بعد أن وجد روكامبول الصندوق وقرأ أسرار البارونة قال لميلون: هلم بنا الآن للبحث عن الأختين فقد آن الآوان فقد قلت لي إنهما كانتا مقيمتين في مدرسة وإن أمهما عهدت إلى ناظرتها بتربيتهما أتذكر أين كانت تلك المدرسة؟ - نعم. - إذن لنذهب إليها.
وسار الاثنان إلى الشارع الذي كانت فيه تلك المدرسة فرأيا أنها قد تحولت إلى منزل مأجور ونظر ميلون في ذلك الشارع فرأى كل شيء قد تغير ولكنه رأى دكانا لبائع دخان لا يزال في موضعه على حاله ورأى صاحب الدكان واقفا على بابه فعرفه وأخبر روكامبول بأمره فجاء روكامبول واشترى منه لفافة من التبغ وحادثه بشأن هذا الشارع وسأله عن المدرسة فعلم منه أن ناظرتها تدعى مدام رينود وأنها أفلست منذ عهد طويل فضبط أثاثها وبيع بالمزاد وهو لا يعلم أين تقيم الآن.
فقال له روكامبول: أتعرف المحضر الذي ضبط الأثاث؟ - نعم وهو يقيم في آخر عطفة من هذا الشارع.
فتركه روكامبول وذهب مع ميلون إلى منزل هذا المحضر فعلما منه أين تقيم مدام رينود.
وبعد ساعة كان روكامبول وميلون واقفين عند باب منزل أنطوانيت فنادى روكامبول البواب وقال له: أليس هنا منزل مدام رينود؟ - نعم. - قل لي في أي دار تقيم فإني أريد أن أراها في الحال. - لا سبيل إلى مقابلتها الآن يا سيدي فإنها لا تزال في فراشها إلا إذا ... - قلت لك إنه يجب أن أراها في الحال. - ألعلك قادم بأخبار من المدموازيل أنطوانيت؟ - وأين هي تلك السيدة؟ - إنها خرجت من المنزل في الساعة التاسعة من المساء ولم تعد إلى الآن وقد بحثنا عنها في كل مكان فلم نجدها، حتى إننا جميعا لم ننم ليلة أمس، وفي الصباح ذهبت امرأتي إلى منزل البارون الذي يظهر أنه كتب إلى المدموازيل أنطوانيت وأرسل لها مركبته. - من هذا البارون؟ - هو والد أجينور دي مورليكس وهو شاب غني يحب أنطوانيت حبا شديدا.
فأن ميلون أنين الموجوع غير أن روكامبول ضغط يديه ضغطا شديدا وقال له: اسكت.
وعند ذلك دخلت امرأة كانت امرأة البواب وقالت بصوت مضطرب: لم أجدها.
فلما رآها ميلون صاح صيحة دهش: ابنة عمي!
فانذهلت امرأة البواب أشد من انذهاله وقالت : ميلون!
ثم جعل الاثنان يتعانقان.
فبهت الزوج لهذا العناق ولكنه اطمأن لكلمة القرابة التي كانا يتبادلانها.
أما روكامبول فإنه خشي أن يفتضح أمر ميلون فدخل بهم جميعا إلى الداخل وأقفل الباب.
ثم قال لامرأة البواب: سنخبرك فيما بعد كيف عاد ابن عمك من السجن، أما الآن فإننا ما جئنا إلى هنا إلا كي نرى مدام رينود والأختين المقيمتين معها. - لا يقيم هنا غير أنطوانيت، أما أختها مدلين فإنها سافرت إلى روسيا، وحكاية هذه المسكينة أن ابن البارون دي مورليكس فتن بها وأراد الزواج منها، وقد جاءها أمس كتاب من والده وأنا قادمة من عنده. - ماذا قال لك والده عن هذا الكتاب! - قال إنه كتاب زور وإن مركبته لم تخرج من اصطبله أمس وإنه يظن بأن ابنه احتال على الصبية واختطفها.
غير أني أعتقد أن أجينور يحب أنطوانيت حبا شريفا وأنه لم يحتل عليها في شيء. - أعرف أحد من الجيران بهذه الحادثة؟ - كلا غير أن زوجي في نيته إخبار البوليس.
فقال روكامبول: احذروا أن تخبروا البوليس بشيء وإياكم إطلاع أحد على هذه الحادثة.
ثم التفت إلى ميلون وقال: لقد أتينا متأخرين فإن الفتاة أصبحت في قبضة أعدائنا.
فقال ميلون وهو يضطرب: على ماذا عولت؟ - لا أعلم بعد، ولكني سأعلم ما أريد بعد ساعة. - ألا تريد أن ترى مدام رينود؟ - لم يعد لنا بها حاجة الآن.
ثم التفت إلى امرأة البواب وقال لها: إنك تعلمين دون شك أن ابن عمك ميلون يحب هاتين الأختين حبا شديدا فاعلمي الآن أني صديقه وأني لا بد لي من إيجاد الصبية، ولكن لا بد لي أيضا في هذا السبيل من إخلاصك في طاعتي. - قل ما تشاء. - يجب بعد ذهابنا أن تعودي إلى مدام رينود وتخبريها أن أنطوانيت لم تصب بسوء، وأن البارون دي مورليكس نفسه هو الذي قال لك هذا القول أما أنطوانيت فستعود قريبا. - ولكن يا سيدي كيف يمكن أن أقول لها هذا القول إذا لم أكن واثقة من عودتها. - كوني واثقة فإني أعرف مكانها ، وإذا عصيتني فيما أوصيتك به أفسدت علي جميع أمري فطمئنيها كما أخبرتك واطمئني أنت أيضا فإذا لم تعد أنطوانيت اليوم فهي ستعود قريبا إذ لا بد لي من إيجادها. ثم أشار إلى ميلون وقال له: هلم بنا إلى الطبيب فنسانت ولم يعد لنا ما نعمله في هذا المكان.
ثم ودعا البواب وامرأته بعد إعادة الوصايا عليهما وركبا مركبة وذهبا بها إلى منزل نويل وهناك تنكر روكامبول بلباس عمال المستشفيات وتنكر ميلون بزي آخر ودخلا كلاهما إلى غرفة الطبيب المجاورة لغرفة نويل كما يذكر القراء.
فلما رأى الطبيب روكامبول بزيه الجديد أنكره وسأله من أنت وماذا تريد؟ - أنا صاحبك بالأمس فاجلس على مائدة الكتابة لأخبرك بما أريد.
فعرفه الطبيب من صوته وامتثل له فأخذ القلم بيده وأملا عليه روكامبول ما يأتي:
سيدي البارون
أغتنم فرصة علائقنا السابقة فأسألك قضاء مهمة لا أظنك تبخل علي قضاءها، وهي أني في عسر مالي شديد، فأرجو أن تبعث لي مع رسولي بعشرين ألف فرنك.
فقال له الطبيب: ما هذا السؤال؟ فإنه شبيه بالنصب، بل هو النصب بذاته.
قال روكامبول: كلا ولكنها حيلة تذرعت بها للدخول إلى منزل البارون، وسوف ترى ما يكون.
فامتثل الطبيب وأتم كتابة الكتاب دون اعتراض.
18
كان البارون دي مورليكس ينتظر عودة أخيه الفيكونت كارل. أما كارل فإنه توقع حدوث ما حدث؛ أي إنه توقع أن مدام رينود ستسأل أخاه البارون عن أنطوانيت. فعلمه ما يجب أن يصنع، فلما جاءت إليه امرأة البواب أنكر الكتاب أتم الإنكار وكان صادقا في إنكاره؛ لأن ذلك الكتاب لم يكتبه عن لسانه إلا تيميلون بالاتفاق مع كارل.
غير أنه قبل أن يحضر كارل لعيادة أخيه حضر إليه رجل آخر فقال لخادمه: إني قادم من قبل الطبيب للسؤال عن صحة مولاك، وإني أحب أن أراه.
فأدخله الخادم إلى غرفة البارون.
وكان هذا الرجل روكامبول وهو لا يزال متنكرا بزي رجال المستشفيات فلما مثل أمام البارون قال له: إني يا سيدي أحد تلامذة الطبيب فنسانت وقد أرسلني إليك أستاذي للاطمئنان عن صحتك، ولأرفع إليك هذا الكتاب.
فمد البارون إلى الرسالة يدا مرتجفة وفضها فلما قرأ ما فيها قال لروكامبول: إن الطبيب فنسانت من أصدقائي المخلصين فلا يسعني التغاضي عما يطلبه غير أني مهما كنت غنيا ...
فقطاعه روكامبول وقال: نعم، فإنه لا يمكن أن يوجد في منزلك عشرون ألف فرنك. - هو ما تقول. ولهذا فلا بد لي من أن أحملك على الانتظار ساعة إلى أن أحضر هذا المبلغ من عند عميلي. - لا بأس فسأنتظرك.
ثم جلس على كرسي وجعل البارون يكتب إلى عميله، فلما أتم كتابته نادى أحد الخدم وأمره أن يذهب بالكتاب إلى عميله.
وقد حاول البارون أن يعلم إذا كان روكامبول واقفا على شيء من أمر الطبيب، فكان روكامبول يجيبه على أسئلته ببلاهة اطمأن لها خاطر البارون.
وعند ذلك سمع صوت مركبة وقفت على الباب وكان روكامبول جالسا أمام النافذة فأطل منها فرأى اثنين قد نزلا من المركبة ودخلا إلى ردهة المنزل وكان هذان الرجلان الفيكونت كارل وتيميلون.
وبعد هنيهة دخل كارل وجلس على جانب سرير أخيه ثم كلمه بلغة حسب أن روكامبول يجهلها فقال له: من هذا الرجل؟
فأخبره البارون بأمره بنفس اللغة قائلا: لقد بدأ بالنصب فإذا كان قد بدأ بعشرين ألف فرنك فأنا لا أعلم كيف ينتهي؟ - لا بأس ادفع له وسترى بعد ذلك في أمره، والآن قل لهذا الرجل أن يدخل إلى الغرفة المجاورة.
فقال البارون لروكامبول: يسوءني أني سأدعوك إلى الانتظار ساعة فقد تدركك السآمة فإذا شئت فإن في الغرفة المجاورة كثيرا من جرائد الصباح تتسلى بقراءتها إلى أن يعود الخادم.
فشكره روكامبول ودخل إلى الغرفة وأخذ جريدة كبيرة وغطى بها وجهه وهو يوهمهما أنه يقرأ ويصغي إلى حديثهما أتم الإصغاء.
وكان الحديث بين الأخوين دائرا على أنطوانيت. فأخبره كارل كيف أنهم قبضوا عليها وهي بين جماعة اللصوص وكيف ثبت عليها اشتراكها مع العصابة بالرغم عن دفاعها وكيف أنهم اخترعوا لها تلك الأم التي جاءت إلى إدارة البوليس تطيبها فنقضت جميع أقوالها إلى آخر ما عرفه القراء.
كل ذلك وروكامبول مصغ إلى الحديث أتم الإصغاء بحيث لم يفته كلمة منه إلى أن قال كارل لأخيه اصبر إلى أن ينصرف هذا الأبله - مشيرا إلى روكامبول - فأدخل عليك تيميلون لأن هذا الداهية قد وضع خطة هائلة تضمن لنا بقاء أنطوانيت في سجن لازار إلى آخر العمر فتعلم أن الرجل يخدمنا أجل خدمة ولا يختلس مالنا دون حق.
فلما سمع روكامبول اسم تيميلون عض على شفته من الغيظ لأنه كان يعرف ذاك اللص ويعلم أنه لا يقف بجرائمه عند حد.
وعند ذلك عاد الخادم الذي أرسله البارون إلى عميله ودفع ليده غلافا يحتوي على أوراق مالية قيمتها عشرون ألف فرنك، فنادى البارون روكامبول وأعطاه المال فأخذه وخرج.
وقبل أن يبلغ الردهة العمومية رأى تيميلون جالسا فخشي أن يعرفه إذا رآه، فأخذ منديلا من جيبه وعطس عطسا متتاليا بحيث اضطر إلى إخفاء وجهه بالمنديل فمر دون أن يتمكن من النظر إليه.
ولكن تيميلون لم يخطر له التنقيب عنه؛ لأن ملابسه كانت تدل على اشتغاله بالطب، ووجود مثل ذاك الرجل عند البارون العليل لا يحمل على شيء من الشبهة.
أما روكامبول فإنه بعد أن اجتاز تيميلون جعل يبحث بنظره عن ذلك الخادم الذي أحضر الأوراق المالية، فرآه واقفا عند باب الردهة. ولما خرج أشار إليه أن يتبعه فتبعه حتى وصلا إلى باب المنزل الخارجي فخلا به روكامبول ثم نظر إليه تلك النظرات الساحرة وقال له: أتعلم ماذا حملت لمولاك من عند عميله؟ إنك قد حملت إليه ثروة طائلة لو علمت بأمرها لما دفعتها إليه بل كنت هربت بها إلى مكان تعيش فيه سعيدا بفضلها.
ثم أخرج من جيبه تلك الأوراق المالية وجعل يقلبها أمامه حتى بهر ناظريه ثم قال له: ولكن هذه الثروة التي كنت تستطيع أن تستولي عليها خلسة وحراما أدفعها لك بجملتها إذا طاوعتني فيما أريد دون أن تقع عليك تبعة أو يطالبك أحد بشيء.
ولما رأى أن الخادم المسكين قد ضغطت الأوراق على صوابه أخرج منها ورقة قيمتها ألف فرنك وقال له: خذ هذا المال الآن عربون اتفاقنا وإذا طاوعتني أعطيتك جميع ما في هذه الحقيبة.
فاندهش الخادم وقال له: قل ماذا تريد مني؟ - لا أريد الآن إلا أن أسمع حديث سيدك مع أخيه دون أن يراني أحد من سكان المنزل فإذا بلغتني مرادي كان لك مني خير عظيم.
فبرقت أسرة الخادم وقال: إذا لم تكن تريد مني غير هذا فهو سهل ميسور ثم قال له: اتبعني.
فسار روكامبول في أثره إلى غرفة متسعة ففتح بابا فيها يتصل بغرفة صغيرة فأدخله إليها وقال له همسا: إن هذه الغرفة ملاصقة لغرفة نوم البارون المقيم فيها الآن لا يفصل بينهما غير الحائط الخشبي الرقيق وانظر إلى النافذة المفتوحة فيها فإنها تطل على سرير البارون فإذا وقفت على كرسي وأطللت منها رأيت وسمعت كل شيء.
فصرفه روكامبول بالإشارة ووضع كرسيا تحت النافذة وصعد عليها فرأى الأخوين وتيميلون يتحادثون وظهورهم إلى النافذة، وكان تيميلون يشرح للأخوين الخطة الهائلة التي اختطها لسجن الصبية، فعرف روكامبول جميع ما يريد معرفته وأسرع بالخروج من هذا المنزل الجهنمي، فرأى الخادم ينتظره على الباب فأعطاه ألف فرنك أيضا وقال له: سأراك فيما بعد.
ثم مشى عطفة في الطريق حيث كان ميلون ينتظره بمركبته، فركب بجانبه وأمر السائق أن يسير بمركبته إلى منزل أنطوانيت.
وكانت علائم الاضطراب بادية على وجهه فقال له ميلون: أعلمت أين هي أنطوانيت؟ - نعم، وليتني لم أعلم. فإنها وقعت في قبضة أعدائها وقد توفق هذان الأخوان إلى لقاء شريك قد يشابهني بالدهاء. ولكني لا بد لي من الفوز عليهم بإذن الله، فإني أقصد منزلها، غير أني أخشى أن أصل قبل فوات الأوان.
وما زالت المركبة تسير بهما حتى وصلت إلى منزل أنطوانيت. وكان روكامبول قد خلع ثوب تنكره في الطريق فاستقبلهما البواب فرحا مسرورا وقال لقد وجدنا أنطوانيت.
ففرح ميلون فرحا لا يوصف خلافا روكامبول فقد اصفر وجهه وسأل البواب: كيف وجدتموها؟ - إنها أرسلت تطلب إليها مدام رينود وقد جاءت برسالة منها امرأة عجوز قالت إنها في خدمة عمة أجينور، فلما اطلعت مدام رينود على رسالة أنطوانيت ذهبت بمركبة تلك العجوز لموافاة أنطوانيت تصحبها امرأتي.
فاضطرب روكامبول وسأله: والعجوز؟ - إنها أقامت في منزل مدام رينود ثم رجاء رجلان فصعدا إليها وأقاما عندها هنيهة ثم نزلا ونزلت معهما وقالت لي: كن مطمئنا فسأعود قريبا، وركبت مع الرجلين في مركبة واحدة. - إنك لا تعلم أين ذهبت ولكني أنا أعلم فإنها ذهبت إلى دائرة البوليس ومنها إلى المحكمة وسيزجون أنطوانيت في سجن لازار.
فاضطرب ميلون حتى أوشك أن يذهب صوابه وقال: أمثل هذه الفتاة الطاهرة يزج في السجون؟
فقال له روكامبول: احذر من أن تذكر حرفا عنها بعد الآن فإننا لا نستطيع التداخل بشأنها لدى الحكومة لأننا هاربون من السجن وإن تيميلون قد نال الفوز الأول ولكن الفوز سيكون لي في النهاية.
19
أما هذه المرأة العجوز فقد أرسلها تيميلون إلى منزل مدام رينود لتحل محلها لدى القضاء. فقد عرف القراء أن إدارة البوليس إذا كانت اكتفت بشهادة اللصوص على أنطوانيت فحكمت بإيقافها توقيفا تدعو إليه الظواهر الأولية، فإن المحكمة لا تنظر في قضيتها نظرا عارضا، وأنها لا بد أن تخبرها على محل إقامتها وعن مدام رينود فإذا عرفت من مدام رينود حقيقة أمرها أطلقت سراحها في الحال. ولذلك فقد جعل همه إبعاد مدام رينود عن المنزل، وإقامة تلك المرأة العجوز مكانها فيه، حتى إذا جاءها البوليس وسار بها إلى المحكمة كانت لدى القضاة مدام رينود نفسها، فتبني حكمها على أقوالها.
ويذكر القراء أن أنطوانيت كتبت مرة إلى أجينور وقد وقع الكتاب بيد عمه كارل فأعطاه لتيميلون فقلد خطها تقليدا غريبا وكتب بلسانها إلى مدام رينود تخبرها فيه أن والد أجينور معارض بعض المعارضة في زواجه وأنها مقيمة عند عمة أجينور وترجوه الحضور إليها.
ولما وصل هذا الكتاب فرحت به فرحا لا يوصف لأنها رأت أن الخط خط أنطوانيت وأن مظاهر تلك العجوز تدل على النبل والشهامة فأسرعت إلى موافاتها.
وقد قالت لها العجوز : إن عم أجينور يريد أن يقابلها في هذا المنزل مقابلة سرية للبحث في شئون زواج ابن أخيه وسألها أن تسمح لها بالبقاء في منزلها إلى أن يحضر الفيكونت كارل.
فقبلت مدام رينود بملء الارتياح وركبت المركبة مع امرأة البواب التي اضطرت إلى مرافقتها لأنها كانت مريضة.
ومما أجراه تيميلون إتماما لمكيدته أنه أرسل اثنين من عماله لاستئجار غرفة في ذلك المنزل الذي تقيم فيه أنطوانيت. فصعد أحدهما مع البواب لمشاهدة الغرف الفارغة واختيار واحدة منها وبقي رفيقه في المكان الذي يقيم فيه البواب.
وعند ذلك حضر اثنان من رجال البوليس السري وسألا هذا البواب الكاذب قائلين: أهنا تقيم مدام رينود؟ - نعم في الدور الثالث نمرة 19.
فصعدا إليها وبعد حين نزلا بها وهما واثقان أنها مدام رينود بعينها، كل ذلك والبواب لا يعلم شيئا لانشغاله مع المستأجر الجديد.
أما روكامبول فإنه بعد أن علم هذه التفاصيل من البواب صعد إلى غرفة مدام رينود فرأى كتاب أنطوانيت المزور على الطاولة فقال بعد قراءته: إن خصمنا قوي ولكني أنا قوي أيضا.
أما ميلون فكان ينتف شعوره من الغيظ، فطيب روكامبول خاطره وقال له: لقد رأيت من أعمالي ما استدللت منه على قوتي ودهائي، فإذا كنت تشكك بي ولا تطيعني كما أريد، تخلفت عنك وتركت الصبية لأعدائها.
فأجفل ميلون وقال: بل أطيعك فمر بما تشاء. - اذهب الآن إلى السكة الحديدية وسافر بأول قطار إلى الرين، حيث يقيم هناك أجينور دي مورليكس، فابحث عنه حتى تجده، ومتى وجدته قل له إنك ميلون وإن أنطوانيت في خطر شديد وقدومه إلى باريس لا بد منه.
ثم خرج الاثنان، فذهب ميلون إلى المحطة، وذهب روكامبول في أمر آخر.
أما تلك المنكودة أنطوانيت فإنها دافعت عن نفسها دفاع القانطين أمام المحكمة، وطلبت إلى القضاة أن يسألوا عنها مدام رينود، فأمر القاضي اثنين من البوليس بإحضارها وأعيدت أنطوانيت إلى مكانها في محل التوقيف. وبعد ساعة عاد البوليس بتلك المرأة العجوز صنيعة تيميلون وهم يحسبونها مدام رينود، فاختلقت عن أنطوانيت أمورا تفسد جميع أقوالها السابقة. فحكمت المحكمة عليها بالسجن في سانت لازار مع السارقات والمومسات، فحملت معهن بمركبة السجون الخاصة إلى ذلك السجن الرهيب وهي مغمى عليها. فلم تعي على نفسها إلا وهي في السجن بين أولئك الفتيات الآثمات اللواتي تعودن العيش في السجن، فلم يؤثر عليهن وجودهن فيه، بل كن يضحكن لبكاء أنطوانيت. وقد انقسمن إلى حزبين: حزب رثى لبلواها، وحزب ساءه كبرياؤها فاندفع في عدائها وزيادة بلائها، حتى أوشكت أن تجن لهذا المصاب. •••
ولنعد الآن إلى فاندا الروسية التي بسطنا تاريخها في مقدمة هذه الرواية فإنها أصبحت عبدة لروكامبول بعد إنقاذه بونفير من الإعدام وكانت تقول له في كل يوم: متى تحتاج إلي؟
فيقول لها: لم يحن الوقت بعد.
وكان روكامبول معروفا لدى الهيئة الباريسية باسم الماجور أفاتار وأن فاندا الروسية امرأته، فلم يكن يشكل من أمرهما على خدم المنزل غير تأخر الماجور أفاتار بعودته إلى المنزل، فكانوا يعللون تأخره بميله إلى المقامرة مثل أكثر أغنياء الروسيين.
وقد عاد إلى المنزل بعد الحوادث المتقدمة عند الظهر، فدخل توا إلى غرفة فاندا، فوجدها جالسة تنتظره فقالت له: ألعلك عرفت شيئا عن الأختين؟ - نعم، عرفت كل شيء. وأنا محتاج إليك لأني سأبعث بك إلى السجن.
فبرقت أسرة فاندا من الفرح وقالت بإخلاص لا حد له: ابعث بي إلى الموت إذا شئت. - كلا بل سأرسلك إلى سجن سانت لازار. - لأي قصد؟ - لإنقاذ أنطوانيت ميلر منه وهي إحدى الأختين.
ثم حكى لها جميع ما قدمناه من التفاصيل من حين عثوره على الصندوق إلى النهاية وقال لها: إني أحاول أن تبقى فضيحة هذه الفتاة مكتومة لا تحول دون زواجها بأجينور. - كيف يمكن ذلك، وهي ستحاكم أمام المجالس وينشر الحكم عليها في الجرائد؟ - إنها لم تحاكم بعد المحاكمة النهائية، وهي مقيمة مؤقتا في السجن إلى أن يصدر الحكم النهائي، وسترد إليك تعليماتي وأنت في السجن، فخذي هذا الدبوس الذهبي وخبئيه بين شعورك، واحذري من أن يضيع لأن كل السر فيه وإذا فقد منك فلا يعود لنا رجاء بإنقاذ الصبية من السجن، ثم تهيئي للدخول إلى السجن فالبسي غدا ملابس الفتيات الماجنات واحضري إلي في القهوة الإنكليزية بعد العشاء حيث تجدينني أنتظرك فيها فأخبرك بما يجب أن تصنعيه.
وبعد أن اتفقا على ذلك تركها روكامبول وذهب إلى حيث يقيم نويل فقال له: لقد بدأ دور عملك فإني أريد أن تبحث لي عن امرأة تعرف جميع خفايا سجن سانت لازار. - إن ذلك ميسور فإني أعرف فتاة تدعى شيفيوت من مشاهير السارقات بحيث إنها تقيم معظم أيامها في هذا السجن، وربما كانت مقيمة فيه الآن وهي كثيرة المهارة وافرة الذكاء حسنة الإخلاص.
وسار الاثنان إلى بيت تلك الفتاة وسألا صاحبة المنزل عنها فقالت لهما: إنها لم تعد منذ يومين.
فسألها نويل عن عشيقها جوزيف فقالت له: إنه في هذه القهوة القريبة.
فتركها نويل وذهب مع روكامبول فرأى جوزيف جالسا معتزلا في تلك القهوة فجلس بالقرب منه مع روكامبول ودعاه إليه، فلبى الدعوة مسرعا وسلم عليه سلام الأحباب لأنهما كانا في عصابة واحدة منذ أعوام.
وبعد أن سأل كل منهما الآخر عن حاله قال له جوزيف: في أية عصابة تشتغل اليوم وهل أستطيع أن أفيدك في شيء؟ - نعم، إني أتيتك لأمر خطير قد يكون لك منه فائدة إذا اتفقنا. - حبذا ذاك؛ لأن أشغالنا باتت في كساد ولو لم تكسب خليلتي شيفيوت أمس ألف فرنك لكنت اليوم في مصاف القانطين. - كيف كسبت هذا المبلغ ألعلها سرقته حسب العادة؟ - كلا بل كسبته بطريقة أفضل من السرقة فإننا نشتعل اليوم لحساب أبناء العائلات الكبرى تحت أوامر تيميلون.
فأصغى روكامبول إصغاء تاما لذكر تيميلون، وجعل جوزيف يقص عليهما جميع ما علمناه من أمر تلك المكيدة التي كادها لأنطوانيت، وكيف أن شيفيوت سجنت معها في سجن سانت لازار بعد أن قبضت من تيميلون ألف فرنك.
ولما انتهى من حكايته قال له: والآن، أية خدمة أستطيع أن أخدمك إياها؟
وكان روكامبول نظر نظرة خفية إلى نويل، فقال نويل: إن خطتنا لم يتم وضعها بعد، أفلست تقيم كل يوم في هذه القهوة؟ - نعم. - إذن سأمر بك غدا وسترى.
ثم ودعه وانصرف.
فلما صارا خارج القهوة قال له روكامبول: يجب أن تراقب هذا الرجل في الليل والنهار لأني سأحتاج إليه.
وما سارا بضعة خطوات حتى وقفا على بائعة تبغ فقال له روكامبول: أهذه هي المرأة التي قلت لي عنها. - نعم. - إذن ادخل إليها واتفق معها أن تقبض غدا على فاندا حين تمر بها وتدعي أنها سرقتها، وادفع لها نصف الأجرة مقدما ثم قل لها إن الحادثة ستجري قرب القهوة الإنكليزية، فلتحضر إليها غدا بعد العشاء بحجة أنها تحضر لي صندوقا من السيجار.
فامتثل نويل، وبعد ربع ساعة عاد إلى رئيسه وقال له: قضي الأمر وتم الاتفاق.
20
وفي اليوم الثاني كان روكامبول مع نويل في القهوة الإنكليزية يتناولان طعام العشاء مع فاندا الروسية، ثم أقبلت بائعة التبغ حسب الاتفاق فعلمها روكامبول ما يجب أن يصنعاه وافترق عنهما بعد أن أوصى بالاحتراس على الدبوس الذهبي.
وعند منتصف الليل انطلقت فاندا في أحد الشوارع الكبيرة تمشي فيها مشية تحمل على الريبة فكان الشباب يستوقفونها على الطريق.
وفيما هي تكلم أحدهم أقبل البوليس فتظاهرت بالخوف الشديد وحاولت الفرار غير أنه قبض عليها وسألها إلى أين أنت ذاهبة، فلم تجبه بل كانت تتظاهر بالرعب وتلتمس منه أن يطلق سراحها.
ولما أوشك البوليس أن يطلقها لتأثره من مظاهر خوفها أقبلت بائعة الدخان وتظاهرت أنها تنظر إلى تلك المرأة نظرة المتفرج مع الواقفين ولكنها ما لبثت أن دنت منها وتبينت وجهها حتى علقت بأردائها وصاحت بالبوليس قائلة: إياك أن تطلق سراحها لأنها سارقة وقد سرقتني أمس فما عثرت بها إلا هذه الليلة وأنا بائعة دخان وهذه رخصتي النظامية.
فلما رآها البوليس لم يعد لديه شك بجريمة فاندا فقبض عليها وساقها إلى إدارة البوليس تصحبها بائعة الدخان، وبعد استنطاقها وسماع أقوال البائعة فتشوا جيوبها فوجدوا معها ورقا للعب ومائتي فرنك وكانت فاندا تدافع عن نفسها دفاعا ضعيفا لا يثبت التهمة عليها ولا ينفيها، فأمر مدير البوليس بإرسالها مؤقتا إلى سجن سانت لازار، فأخذت إليه وسجنت في سجن التوقيف مع أنطوانيت وبقية العصابة التي لم يصدر عليها الحكم النهائي.
وهناك أخذت الراهبات ما كان معها من المال فأخذت فاندا مشطا ذهبيا من رأسها فأعطته لإحداهن والتمست منها أن تبيعه كي تستعين بثمنه وهي في السجن إلى أن يخرجوها منه، فأخذت الراهبة المشط منها ووعدتها خيرا دون أن تنظر إلى ذلك الدبوس الذي خبأته في شعرها الكثيف.
ولقد تقدم لنا القول أن بنات السجن انقسمن إلى قسمين قسم كان مشفقا على أنطوانيت راثيا لبلواها لأن تلك العصابة كانت عارفة بأنها ضحية تيميلون، وكان في طليعة هذا القسم فتاة تدعى مرتون الحسناء، وقسم كان مغضبا عليها مستاء منها لكبريائها، في طليعة هذا القسم شيفيوت خليلة ذلك الرجل الذي قابله روكامبول وطلب إلى نويل أن يراقبه، فكانت شيفيوت تعذبها بقوارص كلامها السافل، وكانت مرتون تعزيها لمصابها وتتولى خدمتها والدفاع عنها حتى أنست بها أنطوانيت وطلبت إليها أن تعينها على إرسال رسالة إلى أجينور، فوعدتها خيرا وقالت لها: اكتبي رسالتك وأنا أتولى إرسالها فقد ألفت عيشة السجون حتى تعلمت كل خفاياها.
ولما وصلت فاندا إلى السجن أقبل عليها جميعهن ولم يطل فحصهن لها حتى جعل حزب شيفيوت يعاملها معاملة أنطوانيت لما رأوه من مظاهر عظمتها، فكن يدعونها بالبارونة والدوقة والأميرة تهكما عليها، فصبرت فاندا على تهكمهن صبر الكرام وأنست شيفيوت منها الضعف لسكوتها وصبرها، وجعلت تتمادى في احتقارها حتى أحرجتها وأثارت سخطها فهجمت عليها هجوم الكواسر وهشمت جسمها تهشيما.
ولما انجلت تلك المعركة عن فوز فاندا مال أولئك الساخطات إليها شأن الإنسان بميله إلى الغالب وتقهقرت شيفيوت بغير انتظام وهي تتوعدها بخليلها حين خروجهما من السجن.
ثم تفرق عنها الفتيات ولم يبق أمامها غير مرتون، فوقفت أمامها باحترام وقالت لها: لقد أصابك يا سيدتي من اضطهاد هذه الفاجرة ما أصاب تلك الفتاة البائسة التي دخلت معنا إلى السجن منذ ثلاثة أيام.
ثم حكت لها حكاية أنطوانيت وما لقيته من جور شيفيوت وكيف أنها تدافع عنها وتحميها.
فوثقت فاندا من ميلها إليها وقالت لها: أأنت التي يلقبونك مرتون الحسناء؟ - نعم. - أترين أنطوانيت كل يوم؟ - بل كل ساعة لأني توليت خدمتها وحمايتها. - إذن اعلمي أني ما دخلت السجن إلا لإنقاذها.
فأكبت مرتون على يدي فاندا تقبلهما باكية من الفرح، فسارت بها فاندا إلى زاوية السجن وقالت لها: قلت لك إني ما دخلت هذا السجن إلا طائعة مختارة بغية إنقاذ أنطوانيت. - إن هذا محال لأن سجن سانت لازار لا يمكن الهرب منه. - كل شيء ممكن لأن لكل قاعدة شواذا، ولذلك لا بد لي من أن أرى أنطوانيت. - سأجمعك بها في الحال، قولي لي اسمك. - لا حاجة إلى معرفة اسمي، قولي لها فقط إنني آتية من قبل ميلون.
أسرعت مرتون إلى أنطوانيت وقالت لها: بشراك يا سيدتي. - ماذا ألعلك أرسلتي رسالتي إلى أجينور؟ - نعم ولكني ما أتيت إليك من أجل هذا.
ثم قصت عليها حكاية فاندا فسرت سرورا لا يوصف بنجاة ميلون وأسرعت لمقابلة فاندا ودار بينهما الحديث الآتي: قالت فاندا: إنك لم ترينني في حياتك يا سيدتي ولكني ما قدمت إلى هذا السجن إلا من أجلك. - أأنت آتية من قبل ميلون كما قيل لي؟ - نعم. - إذن فقد صدق نظري إني رأيته في باريس منذ ثلاثة أيام. - ولكنه ليس مقيما فيها الآن لقد سافر إلى بريطانيا لمقابلة أجينور دي مورليكس.
فاحمر وجه أنطوانيت وقالت: أتعرفينه أيضا؟
ولم تجبها فاندا على هذا السؤال واستطردت في حديثها قائلة: إنهم أخبروك الحقيقة في إدارة البوليس بأنهم رموك في الفخ بينما كان أجينور مسافرا في طريق بريطانيا. - رباه ماذا أسمع إذن يوجد من يسعى بمنع زواجنا؟ - هذا لا ريب فيه. - أبمثل هذه الوسائل السافلة؟ ولكني لا أبالي لأن ميلون سيعود مع أجينور ويخرجانني من السجن.
فهزت فاندا رأسها وقالت: كلا ليس هو الذي سيخرجك منه بل أنا فأصغي إلي الآن إن أمك قد سلبت ثروتها. - علمت ذلك. - غير أنك لست في السجن بسبب زواجك مع أجينور؛ بل لأن الذين سرقوا ثروة أمك باتوا يخشون مطالبتك بها، فهم يحاولون إبقاءك في هذا السجن الرهيب إلى الأبد؛ ولذلك يجب أن تخرجي من هذا السجن دون أن يعلم بأمرك أحد، ولا يجب أن يقفوا على أثرك متى خرجت منه. - ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ - إني سأنقذك من السجن وإن كل شيء ممكن لي وللذين أخدمهم.
فنظرت إليها أنطوانيت بانذهال وقالت لها: من أنت يا سيدتي؟ - أنا صديقة رجل أخرج ميلون من السجن وأقسم أن يرد إليك ثروتك، وهو رجل لا تعرفينه أنت ولكنه أحب مساعدتك لحبه لميلون. - إذا كان هذا الرجل قادرا كما تقولين ألا يستطيع إخراجي من السجن بدلا من الفرار منه؟ - نعم ولكنه يريد أن يخفي أثرك عن عيون مضطهديك فإن ساعة فضيحة القتلة السارقين لم تحن بعد. - وأي قتلة تعنين يا سيدتي؟ - قتلة أمك فإنها ماتت مسمومة؛ ولهذا فإننا لا نسعى إلى إنقاذك فقط بل للانتقام أيضا. - أواه يا سيدتي إن الانتقام ليس على شرائع المسيح. - ولكنه ينطبق على شريعة الإنسان، فإن الهيئة الاجتماعية لا تصفح عن الإخوان إذا قتلوا إخوانهم، وبعد فإني أراك ذكية الفؤاد وأرى بين عينيك دلائل الهمة والنشاط، فأصغي إلي إن المجرمين يخونون أنفسهم حين يحسبون أنهم باتوا في مأمن من الخطر. - لا ريب فيما تقولين يا سيدتي ولكني لا أعلم إلى أين تريدين أن تصلي بحديثك هذا. - أريد أن تعلمي أن من تجاسر على أن يلقيك بمثل هذه الهوة الهائلة فهو أهل لكل إثم فإذا أردنا إطلاق سراحك بقوة القضاء لوجب علينا إظهار أسماء أولئك القتلة الآثمين وفضيحة أمرهم، ولكن مركزهم في الهيئة الاجتماعية عظيم فلا تبلغ إليه يدي ولا يد ميلون ولا يد ذلك الرجل الذي يقودنا. - لقد فهمت ما تريدين غير أني زججت في هذا السجن بصفة مجرمة أثيمة فإذا هربت أفلا تثبت علي الجريمة؟ - وماذا تهمك ثبوتها؟ - إنهم يقبضون علي مرة ثانية ويحكمون علي في الحال بدليل فراري، أما الآن فإن الحكم النهائي لم يصدر بعد وأنا لا أزال أرجو البراءة. - أعدك قبل كل شيء أنك متى خرجت من السجن لا يقبض عليك أحد، ثم إنك لم تسجني باسم أنطوانيت دي ميلر فإنك ادعيت أنك ابنة البارون ميلر فلم يصدقوك، وهم يحسبون أنك ابنة ماريوت تلك العجوز التي جاءت تطلبك مدعية أنها أمك. - هذا أكيد غير أنه بقي بين هذه المشاكل المعقدة مشكل لم أستطع حله، وهو أن القاضي الذي كان يحقق في قضيتي كان يظهر عليه أنه واثق من براءتي وأرسل يدعو إليه مدام رينود فكيف اتفق أنها لم تحضر.
فابتسمت فاندا بحزن وقالت: إنها حضرت وقالت للقاضي إنك ابنة ماريوت وخليلة ذلك اللص الشقي بوليت.
فوهت رجلا أنطوانيت وقالت: إن هذا محال. - بل هي الحقيقة. ثم قصت عليها كيف أنهم خدعوا مدام رينود فاختطفوها وأرسلوا إلى المحكمة امرأة من أتباعهم ادعت أنها مدام رينود، وأثبتت أمام القضاء ما عرفه القراء.
ولما فرغت من حديثها قالت لها: أعرفت الآن شدة دهاء هؤلاء المجرمين ولكن يد الله فوق يدهم، وإنك عندما تهربين من سجن لازار تهربين منه باسم أنطوانيت السارقة، وليس باسم أنطوانيت دي ميلر، ومن يجسر بعد ذلك على أن يحب امرأة البارون دي مورليكس تلك الفتاة السافلة عشيرة اللصوص والمجرمين.
فارتعشت أنطوانيت وقالت: ماذا عسى أن يكون أصاب مدام رينود؟ - إن أصحابنا سيريحون بالها والآن فلنهتم بأمر إنقاذها فإننا لا ننجو من هذا السجن إلا إذا نقلنا إلى المستشفى. - ولكني لست مريضة. - يجب أن تكوني مريضة. - تريدين أنه يجب أن أتظاهر بالمرض؟ ولكني لا أستطيع الكذب. - كلا، بل ستكونين مريضة في الحقيقة.
فزاد انذهال أنطوانيت وقالت لها: كيف ذلك؟
فأخرجت فاندا من شعرها هذا الدبوس الطويل الذي أعطاها إياه روكامبول، فانتزعت قمعه وأخرجت من ذلك القمع أربعة حبوب صغيرة ذات لونين، فقالت لها: إن هذه الحبوب تتضمن الداء والدواء، فإذا ابتلعت الحبة السوداء أصبت بقيء وإسهال، ولكن ذلك لا يحمل على الخوف فإن العاقبة محمودة ولا خطر من ابتلاع هذه الحبة. - والحبة البيضاء؟ - إنها مفتاح هذا السجن فإذا ابتلعتيها بعد أربع وعشرين ساعة فتحت لك أبواب السجن.
فنظرت أنطوانيت إليها نظر الحائر المرتاب وقالت لها: أصادقة فيما تقولين أم أنت تخدعينني؟
فابتسمت فاندا وقالت: إني كنت أتوقع مثل هذا السؤال ولكنني سأجيبك عنه خير جواب.
ثم أخذت حبة سوداء وابتلعتها.
فقالت لها أنطوانيت باضطراب: ماذا فعلت؟ - إني ابتلعت هذه الحبة كي أكون مريضة مثلك وأذهب معك إلى المستشفى كي أنقذك. - عفوك يا سيدتي فلقد شككت بإخلاصك لأن هذه الأيام الثلاثة وما لقيت فيها من ضروب المكر فتحت لقلبي سبل الريب بكل إنسان، والآن هاتي الحبة الثانية.
ثم أخذتها وابتلعتها.
وعند ذلك قرع جرس السجن فافترقتا وذهبت كل منهما إلى محبسها.
وفي الساعة الثامنة من المساء بينما كان طبيب السجن جالسا في غرفته إذ أسرع إليه الخدم يصيحون أسرع فإن الهواء الأصفر قد انتشر في السجن.
فهرول الطبيب منذعرا في أثر الخدم فساروا به إلى محبس أنطوانيت فلما فحصها ورأى أنها مصابة بالقيء والإسهال قال: ليس هذا الداء بالهواء الأصفر ولكنه مرض هندي يشبهه.
وقبل أن يتم كلامه أقبل عليه خادم يقول إن امرأة أخرى أصيبت بهذه الأعراض نفسها وهي ذاهبة إلى غرفتها.
فاضطرب الطبيب وزاد خوفه فأخذ يد أنطوانيت وأجلسها أمامه وجعل يفحصها باعتناء عظيم.
21
بينما كانت أنطوانيت يفحصها الطبيب وهو لا يدري كيف يشخص هذا الداء الذي رماها به روكامبول، كان كتابها الذي أرسلته إلى أجينور يسير به أوغست إلى منزل أجينور.
وأوغست هذا رجل في مقتبل الشباب كان يهوى مرتون المدافعة عن أنطوانيت بملء جوارحه، وكان كثيرا ما يؤنب مرتون على سيرتها الفاسدة، ولكنه على طول عشرته لها واختلاطه مع أمثالها لم ينزع منازع أولئك اللصوص ولم يقف مرة في مواقف القضاء، ذلك لأن الحب قد طهر نفسه ونزهها عن الآثام، وهو ابن أخ جواني الجلاد الذي أنقذه روكامبول من السجن وأتى به باريس.
وكان أوغست قد تعود من حبيبته أن تنفق معظم أيامها في السجن، فكان يزورها كل يوم في سجنها حتى علمته التجارب جميع مكائد السجون، فلما اجتمع بها أخيرا أعطته رسالة أنطوانيت سرا وقالت له: إنها للبارون أجينور دي مورليكس المقيم في شارع سيرسنس نمرة 17 فأعطيه إياها يدا بيد واحذر من أن يخدعوك.
وقد تعود أن لا يخالف لها أمرا لفرط هيامه بها، فخبأ الرسالة في جيبه وانطلق يهرول إلى ذلك الشارع وهو يعجب أشد العجب لأن هذا الشارع لا يقيم فيه عادة غير الأغنياء الذين لا علاقة لهم بفتيات السجون، ولكنه قال في نفسه: لعل في الأمر سرا لا يهمني معرفته وقد تعهدت بإيصال الرسالة فلا بد لي من الوفاء.
وما زال يسير حتى وصل إلى منزل أجينور، فهاله ما رآه من الفخامة ومظاهر العظمة، ونادى البواب فقال له: أهنا منزل البارون أجينور دي مورليكس؟ - نعم، ماذا تريد منه؟ - إني أحمل رسالة إليه. - إنه مسافر فدع الرسالة هنا يأخذها عند رجوعه. - كلا، فإن مرتون أمرتني أن أسلمها إليه يدا بيد.
فحملق البواب بعينه وجعل ينظر إليه نظرات الشك وقال له: من هي مرتون هذه؟ - إنها خليلة لي.
فقال البواب باحتقار: إن مولاي البارون لا علاقة له مع أمثال خليلتك. - وأنا من رأيك ولكن هذه الرسالة من امرأة سواها مقيمة معها بالسجن.
فلم يطق البواب سماع حديثه وقال له بجفاء: اعلم أنك هنا في منزل شريف وأنا أرجوك أن تنصرف وحدك برسالتك.
ولم يستأ أوغست من كلامه وقال له: إني ذاهب ولكني سأعود متى عاد سيدك، إذ لا بد لي من إيصال الرسالة.
ثم انصرف يمشي الهويناء دون أن ينتبه إلى رجل خرج بعده وجعل يقتفي أثره.
وكان هذا الرجل سائقا يتجول أمام منزل أجينور كل يوم بعد هذه الحوادث الأخيرة، فلما جاء أوغست يسأل البواب عن أجينور كان هذا السائق واقفا بالقرب منهما فسمع جميع ما دار بينهما من الحديث.
وبينما كان السائق يسير في أثره التقى بسائق آخر من أصحابه وسار وإياه في اقتفاء أوغست، أما أوغست فإنه ما زال يسير على مهل حتى انتهى إلى قهوة فدخل إليها وجلس على مائدة الطعام يشرب كأسا من الخمر، فدخل السائقان بعده، وجلسا بالقرب منه بحيث إنه كان يسمع حديثهما فقال أحدهما للآخر: أتشاركني بشرب زجاجة خمر أيها البارون؟
فأجابه الآخر: كما تريد أيها الفيكونت.
ثم دعا أحدهما الآخر أجينور وهما يشربان ويتحادثان وأوغست لا تفوته كلمة من حديثهما إلى أن سمع السائق يقول لرفيقه: كيف حال زميلنا المركيز في خدمة مولاه؟
فأجابه رفيقه: إنه لم يعد مركيزا وهو الآن فيكونت لأنه لا يثبت في منزله.
فتنبه أوغست وقال في نفسه: تبا لي من أبله لقد نسيت أن الخدم يتسمون بأسماء أسيادهم، فإذا كان أحدهم خادما عند كونت أطلقوا عليه في خلواتهم لقب كونت، وقد سمعت هذا الرجل يدعو رفيقه بارونا، ثم ناداه باسم أجينور فلا بد أن يكون هو أجينور دي مورليكس وأنه صاحب الرسالة وإلا فأي اتصال بين فتاة في السجن وبين بارون حقيقي.
ثم جعل يسمع حديثهما بإصغاء فعلم من خلاله أن هذا السائق في خدمة البارون أجينور، وأن له خليلة مسجونة في سانت لازار، ولم يعد لديه شك أنه هو صاحب الرسالة، فنهض من مكانه ودنا منهما فقال إلى الذي كان يدعى أجينور: ألعلك من خدم البارون دي مورليكس؟ - نعم أيها الرفيق.
فأحب أوغست أن يستوثق منه فقال له: أين يسكن البارون؟ - في شارع سيرسنس نمرة 17. - إني كنت أود أن أكون سائسا في اصطبله فقد قيل لي إنه محتاج إلى سائس. - إن هذا الأمر خاص بي، فتعال غدا صباحا فإذا كنت ماهرا في مهنتك اتفقنا. - في أية ساعة؟ - بين التاسعة والعاشرة والآن أتريد أن تشرب كأسا من الخمر؟
فجلس بينهما وقال: حبا وكرامة.
وعاد السائق إلى إتمام حديثه مع رفيقه وقال له: إن لها صديقة في السجن تدعى مرتون يستطيع الناس مقابلتها في السجن، وهي لا بد لها أن ترى أنطوانيت وتساعدها على إرسال رسائلها لي.
وعند ذلك ذهب كل شك من فؤاد أوغست فقال له: أتعرف مرتون؟ - أعرفها أتم المعرفة بواسطة خليلتي أنطوانيت، ولكن قل لي لماذا سألتني هذا السؤال؟ - دعني قبل ذلك أن أسألك سؤالا آخر قبل أن أجيبك وهو كيف كانت تدعوك أنطوانيت؟ - أجينور، وأنت تعلم بصفتك سائسا أن المحترفين حرفتنا يدعون أنفسهم بأسماء أسيادهم. - لست بسائس ولكني أيقنت الآن أن الرسالة لك.
ثم أخرج الرسالة من جيبه وحاول إعطاءه إياها، فمد السائق يده بلهف إليها، فتنبه أوغست وقال: كلا لا أسلمك إياها هنا فإني وعدت مرتون أن أسلم الرسالة يدا بيد لأجينور المقيم في شارع سيرسنس نمرة 17. - إذن فلنذهب إلى المنزل كي لا تخل بوعدك ونشرب كأسا أيضا قبل أن نذهب. وعند ذلك استأذن السائق الآخر وانصرف.
وبعد هنيهة خرج أوغست والسائق في طريق منزل أجينور حتى إذا مرا بمنزل عمه قال له السائق: أرجوك أن تنتظرني قليلا عند بواب هذا المنزل إلى أن أكلم أحد خدامه في شأن خاص.
فامتثل أوغست وجلس مع البواب لينتظره، أما السائق فإنه صعد إلى المنزل حيث كان فيه الفيكونت كارل.
ولما رآه الفيكونت اندهش لمرآه إذ عرف أنه تيميلون متنكرا بشكل سائق، فأخبره تيميلون بما حدث وقال له: لا بد لي أن أحصل على هذه الرسالة لكي أتمكن من الدخول إلى منزل أجينور. - إن ذلك سهل ميسور، فأرسل معك خادم غرفتي فتصل إلى المنزل دون أن يعترضك أحد فتجوز حيلتك على هذا الرجل.
ثم قرع الجرس فأسرع إليه الخادم فأمره بالذهاب مع تيميلون والخضوع له ونزل الاثنان.
ومن الغريب أن أوغست لم يكن حيث تركه تيميلون فاضطرب وسأل عنه البواب فقال له: إنه بينما كان جالسا ينظر إلى الشارع إذ صادف نظره رجلا من المارة فصاح صياح الدهشة والفرح قائلا: «خالي.» ثم خرج مهرولا إلى هذا الرجل فلم أعد أراه.
فتهدد تيميلون السماء بقبضتيه وجعل يتوعد ويقذف الشتايم واللعنات.
22
أما أوغست فإنه حين خرج من غرفة البواب للقاء خاله فرح به فرحا لا يوصف وكان خاله هذا جواني الجلاد، وقد جعله روكامبول يراقب منزل الفيكونت كارل كما كان تيميلون يراقب منزل أجينور.
ولم يكن أوغست قد رآه بعد خروجه من السجن فجعل يعانقه ويناديه باسمه، فقال له: كفى تناديني باسمي فإنك ستنبه إلي البوليس لأني هربت من السجن.
فسكت أوغست وابتعد وإياه وقال له: ماذا تصنع هنا؟ - إني أراقب الداخلين والخارجين إلى هذا المنزل وأشار بيده إلى منزل كارل.
فقال له أوغست: إني كنت فيه حين رأيتك. ثم أخبره بأمر الرسالة، وكيف اتفق قدومه إلى هذا المنزل.
وكان جواني يسمع حكايته بأتم الانتباه، فلما فرغ منها قال له: إذا لم يكن رئيسنا مخطئا بمزاعمه، وهو لا يخطئ، فما هذا السائق إلا تيميلون. - من هو رئيسكم ومن هو تيميلون؟
فأخبره خاله بأمر روكامبول وتيميلون ثم قال له: هلم بنا الآن لنرى الرئيس قبل أن يخرج تيميلون فيقبض علي دون شك.
وركب الاثنان مركبة وانطلقت بهما إلى المكان الموجود فيه روكامبول فأخبره جواني بجميع ما اتفق، فسر روكامبول لهذا الاتفاق وأخذ الرسالة من أوغست بعد أن أقنعه خاله على تسليمه إياها، ففضها وقرأها، ثم كتب رسالة غيرها قلد بها خلد أنطوانيت تقليدا غريبا وقال لأوغست: يجب أن تسلم الرسالة إلى ذلك السائق الذي ادعى أنه أجينور دي مورليكس ولا بد أنه ينتظرك الآن في المنزل، واحذر أن يعلم شيئا من الحقيقة.
ثم حكى له حكاية أنطوانيت دون أن يذكر له اسمها، ووصف له حب أجينور لها، وكيف أن عائلته احتالت على تلك الفتاة الشريفة فزجتها في السجن، إلى غير ذلك من حكايتها. ولكي لا يبقى في فؤاده أثر للريبة أعطاه الكتابين وقال له: سلم هذا الكتاب الحقيقي؛ أي كتاب أنطوانيت، إلى أجينور عند عودته من السفر، وأعط هذا الكتاب المقلد؛ أي الذي كتبته أنا مقلدا فيه خط أنطوانيت لذلك السائق الذي ادعى أنه أجينور، وإنما كتبته تقليدا لأعدائنا.
فأخذ أوغست الكتابين فخبأ كتاب أنطوانيت وذهب بالآخر إلى منزل أجينور، فرأى ذلك السائق فيه أي تيميلون فاعتذر إليه لخروجه من عند البواب وأعطاه الرسالة ثم قال له: إذا أحببت أن تجيب عليها فإني مستعد لخدمتك بإيصال الرسالة.
فشكره تيميلون وقال: أين أجدك مساء الغد؟
فذكر له اسم قهوة يجلس فيها وذهب.
وبعد خروجه فتح تيميلون نافذة الغرفة وصفر بصفارة فأقبل رجل كان واقفا في الطريق فأشار له بيده إلى أوغست حين خروجه من الباب ثم أغلق النافذة. وبعد ساعة ذهب تيميلون إلى منزل الفيكونت كارل وأخبره باستيلائه على الرسالة ثم قال بلهجة المتهكم: ولكني أرسلت جاسوسا يقتفي أثر حامل الرسالة.
فعجب كارل وسأله: لماذا؟ - لأنهم قد عبثوا بنا يا سيدي ونحن غافلون. - ماذا تعني بذلك؟ - أعني أن هذه الرسالة التي قرأتها لم تكن بخط أنطوانيت. - إنك مخطئ فقد عرفت أنه خطها بعينه لم يتغير. - إن الخط مقلد أبرع تقليد وعندي أنه لا يحسن هذا التقليد إلا رجل واحد. - من هو؟ - إن الرجل يدعى روكامبول وكنت أخشى من قبل أن يكون له دخل في أمرنا، أما الآن فقد أصبحت واثقا من تداخله كوثوقي من حبوط مساعينا مع هذا الداهية، فإذا لم نتخذ طريقة ناجعة لإرجاعه إلى السجن في هذه الليلة فقد قضي علينا جميعا، أما أنا فلا أستطيع أن أصنع شيئا خلافا لك فإنك تستطيع صنع كل شيء.
فذعر كارل لما رآه من اضطراب تيميلون وسأله: كيف ذلك وماذا تريد أن أصنع؟ - إن الأبواب مفتوحة لديك فإذا ذهبت إلى إدارة البوليس وقلت له: إنك تعرف مكان روكامبول الهارب من سجن طولون فإنه يرسل معك ثلة من الجند فتقبض عليه في الحال، وإذا لم تفعل ذلك فإن التبعة تقع عليك وحدك ولا أكون مسئولا بشيء. - ويحك وأين تريد أن أجد هذا الرجل؟ - لا أعلم الآن ولكني أرجو أن أعرف مقره في هذا المساء؛ ولذلك أرسلت جاسوسا في أثر أوغست الذي حمل إلينا كتاب أنطوانيت المزور. - وأنا لا أعلم أيضا، كيف خطر لك أن تحسب ذلك من صنع روكامبول؟ - ذلك أنه عندما كان أوغست ينتظرني عند الباب رأى رجلا في الطريق فخرج إليه مهرولا وهو يناديه: يا خالي. ثم لما ذهبت مع خادم غرفتك إلى منزل أجينور جاءني أحد رجالي وقال لي: إنك لو كنت باقيا في خدمة البوليس لكنت نلت جائزة حسنة. قلت: كيف ذلك؟ أجاب: إني رأيت من ساعة جواني الجزار وهو الذي كان جلادا في سجن طولون وفر منه، فلو أرشدت الحكومة عليه لنلت الجزاء الحسن. ثم ذكر لي أنه رآه مع شاب تنطبق أوصافه على أوصاف أوغست فعلمت أنه خاله.
وقد علمت بالامتحان الكيماوي لحل الرسالة أنها كتبت منذ ساعتين، ولما كان جواني هرب من السجن مع روكامبول والتقى بابن أخته حامل هذه الرسالة فلم يعد لدي شك أن لروكامبول يدا في أمر أنطوانيت لا سيما وأن ميلون قد هرب معه أيضا في يوم واحد.
فاقتنع كارل بهذا البرهان، وقال: إذن، إن روكامبول هذا رجل شديد الخطر. - إنك إذا لم ترجعه إلى السجن ذهبت أنت إليه، وقتلت أنا بضربة خنجر، وتزوج أجينور أنطوانيت، فتدبر. - إذن سأذهب إلى إدارة البوليس وأخبرها بأمره. - كلا لم يحن الوقت بعد، إذ يجب أن نعرف مقر روكامبول لأن البوليس لا يستطيع أن يهتدي إليه، وسأعرف مقره بواسطة الجاسوس الذي أرسلته في أثر أوغست. والآن لا بد لي من الخروج من منزلك متنكرا لأنه إذا كان جواني الجلاد وجد أمام منزلك فهو يخفره بأمر روكامبول دون شك ولا أحب أن يراني. - وكيف تتنكر؟ - أتزيا بزي أحد خدامك وأركب أمام السائق في مركبتك حين ذهابك إلى النادي، فلا يعرفني بهذا التنكر غير روكامبول. - إذن فلنذهب الآن فهذا الوقت الذي أذهب فيه إلى النادي.
ثم غير تيميلون زيه وخرج مع الفيكونت كارل. فسارت بهما المركبة إلى نادي أسبرج، وهو النادي الذي كان مشتركا فيه روكامبول باسم الماجور أفاتار.
وقد اتفق أنه حين وصول المركبة إلى النادي وقفت عند بابه مركبة أخرى فخرج منها الماجور أفاتار وحيا الفيكونت كارل ودخل قلبه.
وعند ذلك أسرع تيميلون إلى كارل وقال له وهو يضطرب منذعرا: هذا هو بعينه.
فانذهل الفيكونت وقال: من هو؟ - إن هذا الرجل الذي سلم عليك هو روكامبول بعينه، عرفته وأرجو أن لا يكون قد عرفني .
فقهقه كارل ضاحكا وقال: لقد بلغ منك الوهم مبلغا عظيما لأن هذا الرجل روسي يعرفه جميع أعضاء النادي. - سترى أني لست واهما، والآن إني ذاهب للنظر في أمرنا فانتظر مني رسالة. ثم تركه وانصرف.
أما كارل فإنه دخل إلى النادي فوجد الماجور أفاتار جالسا بين حلقة من أصدقائه يحدثهم بالأخبار الروسية، فخلا بأحد أصحابه المخلصين وقال له: أتعرف هذا الماجور؟ - نعم، وأنا الذي قدمته إلى أعضاء النادي. - أتعرفه حق المعرفة؟ - كيف لا أعرفه، وقد أقمت ستة أسابيع في ضيافة أبيه، في بلاد القوقاز.
فرجع كارل عنه، وقد وثق أتم الوثوق من أن تيميلون كان واهما فيما ادعاه.
ولكنه لم يطل بقاءه في النادي حتى وردت إليه رسالة من تيميلون يقول فيها: «عثرت بهم فاحضر في الحال.»
23
وكان السبب الذي دعا تيميلون من أجله كارل، هو أن الجاسوس الذي أرسله في أثر أوغست عاد إليه وأخبره أنه تعقبه حتى رآه دخل إلى خمارة، فاجتمع فيها بخاله جواني الجلاد، فدخل إلى الخمارة وجلس إلى جانبهما وهو يتظاهر بالسكر الشديد بحيث إنهما لم يكترثا له، وجعلا يتحدثان أمامه بحرية فعلم منهما أين تقيم عصابة روكامبول بجملتها. ثم علم أن روكامبول سيكون معهم في الليلة القادمة فذهب مع ذلك الجاسوس إلى ذلك المنزل وعرف أن العصابة تقيم في غرفة منه عند رجل يدعى ريكولو، كان في بدء أمره من كبار اللصوص ثم تاب من اللصوصية إلى السكر، ولكنه منذ ستة أشهر لم يذق الشراب لانشغال باله بامرأته؛ لأنها كانت محبوسة في سجن سانت لازار وهي حبلى، فنغص سجنها عيشه. ولكنه كان يتعزى بإقامة بعض رجال روكامبول عنده.
ثم علم تيميلون أيضا أن لصا من الذين كانوا يشتغلون تحت رئاسته مقيم في غرفة هذا المنزل، فاجتمع به واتفق معه على ما سيعرفه القراء.
ولما عرف جميع ذلك وأيقن من القبض على روكامبول وعصابته ذهب إلى النادي وأرسل تيميلون التذكرة المتقدمة.
فلما وصلت التذكرة إلى كارل خرج مسرعا إلى تيميلون وعرف منه جميع ما تقدم وأظهر له ثقته من أن الماجور أفاتار غير روكامبول.
فلم يكترث تيميلون لكلامه وقال له: يخلق بنا الآن أن لا نضيع الوقت إذ يجب التأهب لإبلاغ البوليس وإهدائه إلى مكان اجتماع العصابة. - هو ما أراه أيضا، إنما يجب أن نتخذ ذريعة لإبلاغ البوليس لأني لست من الجواسيس. - إني أعددت تلك الذريعة وهي أننا ندخل إلى منزلك من جهة الحديقة فنكسر إحدى الخزائن ونأخذ محفظة ونكتب عليها اسمك، فأخبئها بواسطة أحد رجالي في الغرفة التي تجتمع فيها العصابة، ثم تدعي عند البوليس بأنك عرفت من بعض رجالك أن الذين سرقوا منزلك هم فلان وفلان وأنهم يقيمون في منزل كذا، ومتى عرف البوليس تلك الأسماء وأن أصحابها هم الهاربون من سجن طولون يرسل إليهم في الساعة التي تعينها ثلة من الجند تحيط بالبيت من جهاته الأربع فلا يعود سبيل للفرار.
فوافق كارل تيميلون وقال له: متى يجب أن أبلغ البوليس؟ - في صباح غد، والآن هلم بنا إلى منزلك لكسر الخزانة كي لا يبقى في السرقة شك.
وسار الاثنان إلى المنزل فكسرا الخزانة وأخذ تيميلون محفظة عليها اسم الفيكونت كارل.
ثم افترقا وعاد كارل إلى النادي وذهب تيميلون إلى جاسوسه الذي كان يقيم في إحدى غرف المنزل الذي تقيم فيه العصابة، فتربص وإياه حتى أيقنا أنه لا يوجد أحد في غرفة العصابة. فعالج تيميلون بابها بما كان لديه من المفاتيح حتى فتحه، ثم أخذ المحفظة ووضعها بين فراشي السرير، ثم خرج من الغرفة وأقفل بابها، وعاد إلى منزله وهو مطمئن البال، واثق من القبض على روكامبول في الغد، وقبض المائة ألف فرنك من كارل.
وكان السبب في عزم روكامبول على زيارة الغرفة التي تقيم فيها عصابته بضيافة ريكولو أن نويل تمكن من ضم هذا الرجل إلى العصابة، وقد علم منه أنه يوجد تحت غرفته قبو وأن هذا القبو يخرج منه بدهليز سري يتصل بمقابر مونمارتر، فأراد روكامبول أن يرى هذا الدهليز وضرب له ذلك الموعد. •••
ولنعد الآن إلى روكامبول فإنه ذهب في صباح اليوم التالي إلى منزل الطبيب فأخبره بجميع ما فعله.
وفيما هو جالس عنده إذ جاء رسول من البارون دي مورليكس يدعوه لمعالجة رجله.
فخطر لروكامبول أن يذهب مكان الطبيب وقال له: أجبه أنك مريض وأنك سترسل له حالا طبيبا إنكليزيا من أصحابك يعالجه عنك، فامتثل الطبيب وأخبر الرسول ما عمله إياه روكامبول.
وما لبث أن ذهب الرسول حتى دخل روكامبول إلى غرفة نويل المجاورة لغرفة الطبيب، كما يذكر القراء، فتنكر ومضى إلى منزل البارون دي مورليكس فلقي عنده أخاه كارل، وكانا يتحدثان بتلك اللغة الريفية وهما يحسبان هذا الطبيب الإنكليزي يجهلها، فعلم منهما أن البوليس سيقبض عليه مع عصابته في هذه الليلة.
ثم خرج كارل من عند أخيه وجعل روكامبول يعالج رجل البارون بعنف بحيث جعله يصيح من الألم صياح الأطفال.
وبعد أن مل من عذابه ربط له رجله وانصرف في شأنه فما صدق البارون خروجه لفرط ما لقيه من العذاب.
24
يوجد تجاه المنزل الذي تقيم فيه عصابة روكامبول خمارة قديمة العهد ليس لها غير باب واحد يشرف على الطريق بحيث إن المقيم فيها يشاهد كل من يمر بذلك الشارع.
وكان يوجد فوقها غرفة خاصة ممتازة لها نوافذ تطل على الطريق، فيرى الجالس فيها المارة دون أن يروه.
ففي الساعة الثامنة من مساء تلك الليلة التي تقرر القبض فيها على روكامبول وعصابته، كان الفيكونت كارل دي مورليكس وتيميلون جالسين في الغرفة الممتازة يراقبان المارة من نافذتها، وذلك المنزل الذي تقيم فيه العصابة.
ولم يطل جلوسهما حتى مر رجل ودخل إلى المنزل، فقال له كارل: من هذا؟
فأجابه تيميلون: إنه يدعى بونفير، وهو أحد الهاربين من السجن. ثم حكى له حكايته.
وبعد حين أتى جواني الجلاد فأضاف تيميلون هو ذا خال أوغست الذي حمل إلينا رسالة أنطوانيت.
ثم جاء في أثره ريكولو فقال له تيميلون: هو ذا صاحب الغرفة التي تقيم فيها العصابة بضيافته وسيذهب ضحية هذه الضيافة. والآن إن معظم رجال روكامبول قد وقعوا في الفخ.
فأجاب الفيكونت: وماذا يفيدنا وقوعها إذا لم يقع الرئيس فإني أراه قد أبطأ وأخشى أن يأتي الجنود فيكبسون المكان قبل حضوره.
وبقي تيميلون والفيكونت على أحر من الجمر، إلى أن أذنت الساعة، فبرقت أسرة تيميلون، ونظر الفيكونت إليه وقال له: ما هذا الاستبشار في وجهك؟
فأجابه تيميلون: انظر إلى هذا الرجل الهزيل المصفر الوجه الذي يدنو من المنزل. - إنه رجل هندي كما يدل عليه لونه ولباسه. - كلا، بل إنه رجل روسي يدعى الماجور أفاتار، بل رجل باريس يدعى روكامبول.
وما لبث أن أتم كلامه حتى دخل هذا الرجل إلى المنزل، وكان روكامبول بعينه، وقد تنكر بملابس الهنود. وبعد هنيهة يسيرة جاء الجنود وكانوا أربعين جنديا.
فأمرهم قائدهم بتطويق المنزل ثم جعل يطرق الباب الخارجي قائلا: افتحوا باسم الشرع.
فطار فؤاد تيميلون فرحا وقال: هو ذا روكامبول قد سقط ولا بد لي من قبض النقود. •••
ولندخل الآن إلى هذا المنزل للنظر في أمور هذه العصابة فنقول: إن بونفير كان أول الداخلين إليه فلم يجد أحدا، ثم جاء جواني فعجب لوجود بونفير وحده فسأله: أين ريكولو؟ - إنه لم يحضر بعد كما أن الرئيس لم يحضر أيضا. - إنه قادم في أثري فقد أمرني أن أتقدمه بضع خطوات.
ثم جاء ريكولو فقال: إني موجس شرا، فقد رأيت الجنود ترود قرب البيت.
فرد بونفير: لا تخف. إن الرئيس لا يخاف أحدا وقد قلت إن لديك قبوا ولكني لا أرى أثرا للأقبية في هذه الغرفة. - سوف ترى متى جاء الرئيس.
وعند ذلك فتح باب الغرفة ودخل روكامبول وأوصد الباب من الداخل، وأسرع إلى السرير الذي ينام فيه بونفير فقلب فراشه ومد يده فأخرج تلك المحفظة التي وضعها عامل تيميلون إثباتا للسرقة التي اتهمت بها العصابة.
فبهت بونفير وقال: ماذا تصنع يا سيدي وما هذا الذي أخرجته؟ - أخرجت ما يثبت عليكما جريمة السرقة ويرجعكما إلى الليمان، ولكني وصلت بحمد الله، في حين يجب أن أصل لأن المحفظة التي ترونها بيدي سرقها تيميلون من بيت الفيكونت كارل دي مورليكس برضاه وخبأها في هذه الغرفة كي تكون التهمة ثابتة عليكم.
ثم التفت إلى ريكولو وسأله لقد قلت لي إن لديك قبوا أليس كذلك؟ - نعم أيها الرئيس، ومدخله في هذه الخزانة.
ولكنه قبل أن يتم كلامه سمعوا قرع الباب الخارجي وأصوات رجال ينادون: افتحوا باسم الشرع.
فأخذ روكامبول مسدسين من جيبه وحملهما بيديه واستل بونفير خنجرا وأسرع جواني إلى منضدة فجعلها متراسا وراء الباب.
أما ريكولو فقد كان ساكن الجأش فنظر إلى روكامبول وقال له إننا سننجو من هذا القبو قبل أن يخلعوا الباب ويدركونا. - أين هو هذا القبو؟
فأسرع ريكولو وفتح مصراعي خزانة كبيرة ثم جلس على أحد لوحاتها الداخلية فهبطت به وظهر وراءها منفذ كبير يستطيع المرء أن يمر به.
ثم هوى من المنفذ وهو يقول اقتدوا بي وعادت اللوحة إلى مكانها.
فقال بونفير لروكامبول: انج يا مولاي. - كلا؛ لأن قائد السفينة، عند غرقها، لا يكون إلا آخر من ينجو منها.
فدخل بونفير الخزانة وجلس على اللوحة مقتديا بريكولو فهوى ثم اقتدى جواني ولم يفضل غير الرئيس.
وعند ذلك سمع روكامبول أن الجند يصعدون السلم وقد كسروا الباب الخارجي، فذهب بملء السكينة إلى المنضدة فأعادها إلى موضعها الأول وأصلح فراش السرير الذي أخذ من تحته المحفظة.
وبينما كانت الجنود تعالج باب الغرفة، دخل إلى تلك الخزانة المتسعة فأغلقها من الداخل، وجلس على اللوحة فهوى إلى أرض ذلك القبو الخفي وكسر الجنود باب الغرفة ودخلوا حين احتجابه في وقت واحد فلم يروا شيئا مما كان.
وقد سقط روكامبول في قبو مظلم يبلغ ارتفاعه ستة أقدام، فلما بلغ إلى الأرض صاح الجميع بصوت واحد: لقد نجونا!
أما روكامبول فإنه بعد أن ثاب إلى رشده من أثر السقوط ورأى أن الظلام يكتنفه أخرج من جيبه كبريتا وشمعة فأنارها وظهر له قبو واسع، تحيط به الخوابي والبراميل من جميع جهاته، وبدأ يفحص جدرانه فقال مخاطبا ريكولو: أيوجد في هذا القبو منفذ للمقبرة كما أخبر نويل؟ - نعم. - من أين؟ ألعله من هذا الباب؟ مشيرا إلى باب القبو.
فابتسم ريكولو وقال: كلا ؛ لأن هذا الباب يؤدي إلى سلم ثم إلى رواق طويل، ولا بد للبوليس أن يهتدي إلى الخزانة ثم القبو فلا يجد أمامه غير هذا الباب. - إذن كيف نخرج؟ - نخرج من الطريق المؤدية إلى المقبرة وهي طريق وعرة ولكنها تؤثر دون شك على الوقوع في شرك الجند انظر إلى هذا البرميل الضخم المستند إلى الجدار إن طريقنا ستكون من قلبه.
ثم رفس هذا البرميل فانفتح فيه باب يستطيع المرء أن يمر به.
فاقترب روكامبول وأدنى الشمعة فظهر له سرداب طويل عميق فقال لهم ريكولو: سيروا أمامي في هذا السرداب إذ لا بد لي من التأخر بعدكم كي أقفل باب البرميل. •••
هذا ما كان من أمر روكامبول وعصابته. وأما الجنود فإنهم بعد أن كسروا باب الغرفة جعلوا يترددون في الدخول إليها لخوفهم من روكامبول وعصابته إلى أن تحمس قائدهم فهجم ومسدسه بيده وهجم الجنود في أثره، ولكنهم لم يلبثوا أن دخلوا الغرفة حتى انذعروا ووقفوا حائرين مبهوتين لأنهم لم يروا فيها أحدا.
ومما زاد في انذهالهم أنهم رأوا رجال العصابة قد دخلوا ولم يروا منفذا في الغرفة فجعلوا يفعلون ما فعله روكامبول قبلهم فيفتشون الغرفة ويقلبون فرش أسرتها ويبحثون في أرضها وسقفها ويقرعون جدرانها فلا يسمعون صوتا يدل على وجود منفذ.
وكان في هذا البيت كثير من الغرف المعدة للإيجار فخطر لهم أن العصابة مختبئة في أحدها وذهب بعضهم لتفتيشها فلم يقفوا على أثرها، ولكنهم علموا أن لهذا البيت أقبية فاهتدوا إلى مداخلها من الجيران وفتشوها ولم يفطنوا لسر البرميل ولم يخطر في بالهم هذا الخاطر.
أما الفيكونت دي مورلكيس وتيميلون فإنهما لما رأيا ازدحام الناس دخلا مع الداخلين وعلما ما كان من أمر فرار العصابة وعدم وجود آثار السرقة، فاصفر وجه تيميلون وانصب العرق البارد من جبينه ودنا من ذلك الرجل الذي عهد إليه أن يدس المحفظة بين فراش السرير وقال له: ماذا فعلت؟
فأقسم له أنه وضعها في المكان الذي أمره أن يضعها فيه.
أما الفيكونت فإنه لم يفهم شيئا من هذه الألغاز فدنا من تيميلون وسأله: ما هذا الذي أراه وما هذه الألغاز؟ - تعال معي لأخبرك.
ثم خرجا حتى إذا أصبحا على الطريق العام قال تيميلون: إن الذي تراه هو أننا وقعنا في الفخ الذي نصبناه لروكامبول وأنا هارب من باريس وكن أنت على حذر من هذا الداهية.
25
وقد استولى الرعب العظيم على تيميلون فجعل يسير مسرعا كأنما روكامبول يطارده، فاضطر الفيكونت إلى اللحاق به حتى أدركه فوضع يده على كتفه وقال له: ماذا تفعل أجننت؟ - كلا، ولكني خائف فاتبعني. - ومما هذا الخوف وإلى أين تريد أن أتبعك ألعلك تريد القبض عليه؟ - كلا، اركب معي هذه المركبة وهلم بنا.
وسارت بهما المركبة فسأله تيميلون: ألم تر كما رأيت أنا روكامبول وعصابته دخلوا إلى الغرفة ولم يخرجوا منها؟ - نعم رأيت ذلك وأنا أعجب لخروجهم. - أما أنا فلا أعجب لفراره، بل أعجب لخطئي لأن هذا الرجل لا يؤخذ إلا مباغتة وهو نائم ولكنه متى نجا لا يدركه أحد، ثم ألم تقل لي إن ذلك الطبيب الذي كان يعالج أخاك أرسل إليه مرة أحد رجال المستشفيات وأرسل إليه اليوم حكيما إنكليزيا؟ - نعم. - أكنتما تتحدثان أمام هذين الشخصين بشأن أنطوانيت. - نعم ولكن حديثنا بلغة خاصة. - لا يوجد لغة تخفى على روكامبول، وإن هذين الشخصين واحد وهو روكامبول، وقد عرف حديثكما فأنت الذي فضحت سرنا. فليهرب الآن من يستطيع الهرب. - ولكن إلى أين نحن متوجهون؟ - إلى منزلي لأن روكامبول لا بد أن يكون فيه بعد ساعة.
فاستاء الفيكونت لما أظهره تيميلون من الخوف وقال له: كيف علمت أنهم لا يقبضون عليه؟ ألم تر أن المكان مطوق بالجند ولا منفذ له؟ - لا بد أن يكون فيه منفذ سري تحت الأرض يتصل بمقابر مونتمارتر. - لا شك أنك فقدت صوابك. - سوف تراني غير مخطئ في مزاعمي، وإن روكامبول نجا على ما وصفت لك. - وإذا كان ذلك فما نعمل في منزلك؟ - إني ذاهب لأخلص أوراقي وأموالي من قبضته. - إذن لا تزال تزعم أنه سيأتي إلى منزلك. - بل أنا واثق. وإذا كنت لا أحب أن أموت مطعونا بخنجر فلا بد لي من الفرار منه، وإذا كنت تضمن لي السلامة من كيده فإني أتخلى لك عن المائة ألف فرنك التي وعدتني بها.
وعند ذلك أوقف تيميلون المركبة وقال للفيكونت: انتظرني هنا ربع ساعة وسأعود إليك وأخبرك بما صنعت.
ثم ترجل من المركبة فمشى بضع خطوات في الشارع، وعطف منه على شارع مهجور فمشى فيه حتى انتهى إلى بيت مرتفع فصعد سلالمه إلى الدور الخامس منه، وأخرج مفتاحا من جيبه وفتح الباب وولج منه إلى غرفة كان فيها امرأتان: إحداهما عجوز والثانية صبية نادرة الجمال.
فلما رأته الصبية داخلا صاحت صيحة فرح وأسرعت إليه تعانقه قائلة: أين كنت يا أبي فإنك لم تحضر منذ يومين وقد شغلت بالي.
فقبل تيميلون جبينها وابتسم لها ابتسام الحنو فإن هذا الإنسان الجهنمي ما لبث أن رأى ابنته حتى استحالت أخلاقه وأصبح إنسانا يشعر بحنو الوالد ثم اعتذر عن غيابه بكثرة مشاغله.
وبعد أن لاطفها وآنسها قال لها: ألا تذكرين يا ابنتي العزيزة أنني وعدتك بالسفر إلى نورمانديا والإقامة فيها مع عمتك؟
فانتعش فؤاد الفتاة وقالت: نعم، فقد طالما وعدتني هذا الوعد وكانت مشاغلك تحول دون وفائك بعد فهل كتب لنا السفر على لوح المقدور. - نعم يا ابنتي وسنسافر في هذه الليلة عند انتصاف الليل فتأهبي له وأنا سأعود إليك في الساعة الحادية عشرة. - ولكنك لم تقل لي شيئا من ذلك أول أمس. - لأني لم أكن حاضرا للسفر فأسرعي بالتأهب لأن القطار يسافر عند منتصف الليل. - ثم دخل إلى إحدى الغرف فأقام فيها هنيهة وعاد إلى ابنته فعانقها وخرج إلى حيث كان الفيكونت ينتظره في المركبة فركب بجانبه، وبعد أن سارت بهما أخبره: إني سأبرح باريس بعد ساعتين.
فاضطرب الفيكونت وسأله: كيف ذلك أتتخلى عني؟ - ذلك لا بد منه. على أنك إذا كنت تريد أن تموت أنطوانيت فإنها تموت غدا مساء، ولا يكلفك موتها غير خمسين ألف فرنك، تدفعها لي مقابل هذه الجريمة الجديدة، ولا تخف فإنك لا تدفع هذه النقود إلا بعد ثبوت الوفاة.
ولبث الفيكونت هنيهة ساكتا لا يجد جوابا، وهو يتأمل موقفه الحرج، حتى أخرجه تيميلون من هذا الموقف بقوله: ما بالك ساكتا؟ فإذا كان قتل هذه الفتاة يروعك فإني لا ألح عليك، وأنت شخص ذكي الفؤاد قادر على مقاومة الصعاب وحدك، وأما أنا فلا أنكر عليك أن لا قبل لي بمقاومة روكامبول. - كيف تتخلى عني؟ - إني سأبرح باريس عند منتصف الليل فأكون في الساعة السادسة صباحا في الهافر وبعد ذلك بساعة أسافر. - إلى أين؟ - إذا رضيت باقتراحي سافرت إلى إنكلترا، وإذا رفضته سافرت توا إلى أمريكا. - هب أني قبلت اقتراحك فكيف تستطيع تنفيذه إذا كنت مسافرا بعد ساعة كما أخبرتني؟ - ذلك لأن أنطوانيت لم تدخل إلى السجن وحدها بل دخلت معها امرأة من أتباعي تدعى شيفيوت. - وما عسى أن تصنع هذه المرأة؟ - إنها تستطيع أن تضع في صحن أنطوانيت أو كأس شرابها سما زعافا يقتل في التو. - متى تفعل ذلك؟ - غدا. - كيف يمكن ذلك وأنت مسافر الآن؟ - إني أعطي هذا السم قبل سفري لرجل من أتباعي وهو يسلمه غدا إلى شيفيوت. - وهل أنت الذي تسلمه السم؟ - كلا. بل أنت تسلم السم إلى هذا الرجل.
فجعل العرق ينصب من جبين كارل، وكانت المركبة قد وصلت إلى مكتب تيميلون فأوقفها ونزل منها وقال لكارل: إني أمهلك ربع ساعة للتفكير بأمرك وسأعود إليك فإذا وجدتك باقيا في المركبة تنتظرني علمت أنك رضيت باقتراحي فأعطيك السم المذكور، وإذا لم أجدك علمت أنك غير محتاج إلى خدمتي. فافترقنا وكتمنا هذا السر في أعماق قلبينا.
ثم تركه تيميلون وصعد إلى مكتبه فأخذ منه جميع ما يهمه حفظه من أوراق وأتلف الباقي، وأخذ رشاش السم وعاد إلى المكان الذي ترك فيه كارل فوجد أنه باق بانتظاره، فقال له وهو يبسم ابتسامة المتهكم: أراك راضيا باقتراحي؟ - نعم. - لا جرم فإن من يكسب عدة ملايين لا يبالي بدفع خمسين ألف فرنك، إن أنطوانيت ستموت لا محالة.
ثم صعد إلى جانبه قائلا: لنتحدث الآن فاعلم أني حين أعطيك السم وأرشدك إلى طريقة استعماله تدفع لي الخمسين ألف فرنك. - ألعلك تشكك بكلامي؟ - إني أشك بكل ما لا تخطه اليد ولا بد لي كي أكون واثقا من دفع المبلغ أن أفيدك بعهد. - كيف ذلك؟ - ذلك أن تنزع من دفترك ورقة وتكتب فوقها ما يأتي:
عزيزي تيميلون
يجب التخلص من أنطوانيت ابنة أختي فافعل ما تشاء وإذا احتجت فاستعمل الخنجر أو السم.
ولما رأى تيميلون أنه يتردد تابع: إن الوقت قصير وركامبول في أثرنا ولا بد لي من السفر عند انتصاف الليل فكفى ترددا وأسرع بالاختيار. - إني إذا كتبت ما تمليه علي تصبح شريكي في الجريمة فتكون قيدت نفسك وأنت تريد تقييدي. - إنك مخطئ في زعمك فإني مسافر إلى إنكلترا وسيأتيك رجل بعد موت أنطوانيت يحمل إليك هذه الرسالة التي أمليتها عليك، فإذا دفعت له خمسين ألف فرنك أعطاك الرسالة فتفعل بها ما تشاء، وإذا أبيت الدفع وضعها في غلاف وكتب فوقه عنوان نظارة الحقانية، ثم يضعه في صندوق البريد، ومتى اطلعت عليها الحكومة قبضت عليك، أما أنا فأكون في طريقي إلى أميركا.
فأذعن كارل له وكتب الرسالة ثم وقع عليها ودفعها لتيميلون، فأخذها وأعطاه غلافا مختوما قائلا له: تجد في هذا الغلاف السم والتعليمات اللازمة له. - ولكنك لم ترشدني إلى طريقة إيصاله إلى السجن. - اذهب غدا في الساعة الثامنة من الصباح إلى شارع سانت أوبوتين نمرة 7 واطلب أن ترى رجلا اسمه لولو، ومتى لقيته أعطه هذا الغلاف وقل له: إنه مرسل من قبلي إلى شيفوت في سانت لازار فيوصله في الحال.
وعند ذلك وصلت المركبة إلى بيت تيميلون فودع الفيكونت ومشى في عطفة الشارع، قائلا في نفسه: لا بد أن تكون ابنتي قد أعدت جميع معدات السفر وهي تحسب أني مسافر بها إلى نورمانديا ولكننا متى وصلنا إلى الهافر فلا بد لها من السفر معي إلى حيث أريد.
وجعل يصعد سلالم هذا البيت العالي، ولم يكن فيه أثر للنور، فشعر بانقباض خفي لم يدرك له سرا. ولما انتهى إلى الدور الرابع رأى في البيت الذي فوقه نورا فاستنتج منه أن ابنته لا تزال في انتظاره.
وصعد حتى وصل إلى منزلها فطرق الباب فلم يجبه أحد وقد دهش حين رأى المفتاح في القفل.
فاضطرب فؤاد تيميلون وفتح الباب ودخل إلى أول غرفة، فرأى مصباحا موضوعا على منضدة عليها زجاجة فارغة وكأسان.
فنادى ابنته باسمها فلم تجبه فأعاد النداء فلم يجبه غير الصدى، فدخل وهو مضطرب إلى غرفة نومها فرأى مصباحا آخر على المستوقد ووجد ابنته نائمة في سريرها، فناداها محاولا إيقاظها فلم تجبه، فاقترب منها وهو يكرر النداء.
ولكنه قبل أن يصل إلى سريرها انشق سجف أمام السرير وبرز منه رجل يحمل بيديه مسدسين فقال له: إن صحت أقل صياح فإن ابنتك مائتة لا محالة.
فجمد الدم في عروق تيميلون ووقف شعر رأسه من الرعب وتراجع منذعرا إلى الوراء.
أما هذا الرجل فكان روكامبول.
26
ولم يسع قلم كاتب وصف ما لقيه تيميلون من الخوف على ابنته وعلى نفسه، وما أصابه من الاضطراب حين برز له هذا العدو الشديد، وخرج من وراء السجف خروج الشيطان الرجيم وبيديه آلات الموت ينذره فيها بالقتل الذريع، فمرت به دقيقة كانت دهرا لا حد له وجعل يرتجف أمام روكامبول حتى تمكن منه الضعف وسقط على ركبتيه.
فقال له روكامبول: لا تخف فإن ابنتك لم تمت ولكنها نائمة وهي ستظل نائمة عدة ساعات.
فجعل تيميلون ينظر إلى ابنته نظرات الإشفاق والحنو وينظر إلى روكامبول نظرات التوسل والرجاء. فقال له روكامبول: إن من كان مثلك لا يخلو من سلاح فألق سلاحك إلى الأرض.
وكأنما تيميلون أراد أن يحنن قلب روكامبول على ابنته فأراد أن يطيعه طاعة عمياء، ولذلك لم يلبث أن أمره بإلقاء السلاح حتى فك أزرار سترته فأخرج من منطقته خنجرا وألقاه أمامه.
فسأله روكامبول: أهذا كل ما لديك من السلاح؟ - أقسم بالله إني لا أحمل غير هذا الخنجر. - إذن فابعد عني قليلا.
فامتثل تيميلون، والتقط روكامبول الخنجر عن الأرض ، ثم أخذ كرسيا فوضعه أمام السرير وبعد أن جلس عليه قال له: لنتحدث الآن فإنك أردت أن تلقيني بقبضة الشرطة فقل لماذا وأي ثأر لك علي؟
إلا أن لسان تيميلون التصق بحلقه من الرعب فلم يستطع أن يجيب فسأله روكامبول: إني أراك مضطربا وأرى الرعب يعقد لسانك وسأقول لك عما فعلت أنا إلى أن تحل عقدة لسانك فتخبرني عما فعلت أنت، فاعلم أيها الأبله أني حين ذهبت إلى الشارع الذي تقيم فيه عصابتي كنت أعلم أنك أقمت البوليس يترقبني وأنك كنت جالسا مع الكونت كارل دي مورليكس في خمارة تجاه البيت حين دخلت إليه أليس كذلك؟
فهز تيميلون رأسه إشارة إلى الموافقة، فتابع روكامبول: وبينما كانت الجنود تبحث عني في ذلك البيت وهي منذهلة لفراري جئت أنا إلى منزلك بملء السكينة فأغريت خادمتك على أن تضع في كأس شراب ابنتك مخدرا، فما لبثت أن شربته حتى تخدر جسمها فنامت كما تراها، ومن كان مثل روكامبول وقد تخرج في مدرسة السير فيليام فلا يصعب عليه إغراء خادمة وإيجاد مخدر.
أما ابنتك فلو لعلعت الرعود وقصفت المدافع لما تنبهت قبل ست ساعات وهذا ما أحتاج إليه من الوقت.
فتغلبت عواطف الحنو الأبوي على فؤاد هذا الرجل العاتي، فسقطت دمعة من عينه وأجاب: رحماك إن ابنتي لم تسئ إليك بشيء وليس من المروءة أن تنتقم منها فإذا شئت الانتقام فها أنا بين يديك وكل الإساءة مني.
فابتسم روكامبول وأجاب: إنك لا تعرفني الآن ولو اتفق مثل هذا الحادث منذ عشرة أعوام لكنت كمنت لك عند باب منزلك وطعنتك عند خروجك طعنة قاضية، ولا أبالي فإنك لا تزيد في حساب الذين سفكت دماءهم غير واحد.
أما اليوم فهو غير الأمس وقد عاهدت ربي أن لا أسفك دما بشريا إلا حين تفرغ جعبتي من وسائل السلم، ولهذا استخدمت ابنتك للانتقام منك أتدري لماذا أريد هذا الانتقام؟ إني أنتقم منك لأنك تخدم الفيكونت والبارون دي مورليكس. - أتعرف هذا؟ - بل أعرف أيضا أنك سجنت في سانت لازار فتاة طاهرة تدعى أنطوانيت. - إذن أنت تعرف كل شيء؟
فهز روكامبول كتفيه قائلا: إنك نهجت في هذه الجريمة مناهج كبار اللصوص والأذكياء، ولكن الفرق لا يزال بعيدا بيني وبينك، إذ لست من أكفائي في هذا المضمار.
فأطرق تيميلون برأسه وقال: والآن ماذا تريد مني؟ - سترى.
ثم دنا من النافذة وصفر صفيرا خاصا وعاد إلى تيميلون فقال: إذا كان يهم الفيكونت والبارون دي مورليكس سجن أنطوانيت فأنا يهمني إنقاذها وقد وقعت في قبضتي لسوء حظك فلا بد لي من إزالتك عن طريقي.
وبينما كان روكامبول يكلمه كان يسمع وقع أقدام على السلم فأتم حديثه بقوله: إنك أخطأت خطأ عظيما بإقامة ابنتك في هذا البيت وبتعيين مثل هذه الخادمة لخدمتها فإنها باعتك بأبخس الأثمان، وإن البيت معتزل أتم العزلة فلم يحل دون ما أبغيه.
وعند ذلك طرق الباب فقال له روكامبول: افتح للداخلين.
فامتثل تيميلون صاغرا وفتح الباب فظهر له بونفير وجواني الجلاد، فدفعاه إلى الداخل ودخلا ثم أوصدا الباب.
فقال له روكامبول ضاحكا: أرأيت كيف استحال الأمر إلى ضده وكيف أنك وقعت في الفخ الذي نصبته.
ثم التفت إلى بونفير وسأله: هل المركبة مهيأة. - نعم؟ - إذن أسرعوا إلى العمل.
فأجفل تيميلون وأجاب: ماذا تريد أن تصنع بي؟ - ليس لي مأرب بك بل بابنتك. - ابنتي، رباه وما عسى أن تصنع بها.
ثم أسرع إلى السرير كي يحول بينها وبينهم.
فصوب روكامبول مسدسه عليها وسأله: قل أين تريد أن أصيبها؟ في القلب أم في الرأس؟
فتراجع تيميلون وجثا على ركبتيه وجعل يتوسل إليه: عفوا ومرحمة فليس لهذه الفتاة ذنب. - دعني أفعل ما أشاء وأصغ إلي. - ابنتي ابنتي. - قلت لك أصغ إلي فإن ابنتك ستكون رهينة عندي وأنت تعرفني، بل إنك عرفتني حين كنت تشتغل برئاستي في الجمعية السرية القديمة، أريد بذلك أنك تعلم شدة حرصي على الوفاء حينما أتعهد به فاعلم أن ابنتك ستكون رهينة عندي وأن حياتها موقوفة على حياة أنطوانيت، فإذا ماتت أنطوانيت فليس لابنتك مطمع في الحياة .
فطاش تيميلون من يأسه وقال: ما يريد هذان الرجلان؟ - سترى ما يريدان، ثم أشار لهما إشارة خفية، فدنا بونفير وجواني من السرير فكفناها بغطائه كما يكفن الميت، ثم حملها أحدهما على ظهره وخرجا بها.
فصاح تيميلون: اقتلني ولا تختطف ابنتي. وحاول أن يلحق بهما فأوقفه روكامبول وقال له: لا حاجة لي بموتك بل كل حاجتي إلى حياتك. - ولكنهما ذهبا بابنتي. - إنها سترد إليك حين تخرج أنطوانيت من سانت لازار وتتزوج أجينور دي مورليكس. - وفي انتظار ذلك؟ - أقسم لك بكل مقدس عندي أني سأحرص عليها أكثر مما تحرص عليها أنت.
فجعل تيميلون يفرك يديه من اليأس ثم سمع روكامبول يأمرهما بالذهاب بالفتاة، فأجفل تيميلون وقال له: كيف ألا تذهب معهما أنت وكيف تضمن الحرص عليها من لصين؟ - إني واثق منهما كل الثقة فلا تخف.
وعند ذلك خرج بونفير وجواني بالفتاة، فكان تيميلون يسمع وقع أقدامهما على السلالم، ثم سمع صوت سير المركبة، فصاح صيحة يأس وأوشك أن يسقط على الأرض لأنه تذكر في تلك الساعة الرهيبة أنه أعطى السم للفيكونت كي يسمم به أنطوانيت وقال بلهجة الجنون: رباه، أخشى أن يفوت الأوان. - ماذا تعني بما قلت؟ - أعني أنه إذا كانت حياة ابنتي موقوفة على حياة أنطوانيت فلا أحب أن تموت أنطوانيت.
فذعر روكامبول بدوره وأصابه من الرعب ما أصاب تيميلون.
27
كان الفيكونت دي مورليكس رجلا ثابت العزيمة قوي الإرادة رابط الجأش وقد تأثر هنيهة مما رآه من رعب تيميلون، ثم ذهب عنه هذا التأثير بعد افتراقهما فقال في نفسه: وما عساه يصنع روكامبول بعد موت أنطوانيت فإنه لا يستطيع إحياءها بعد الموت.
وقد قال لي تيميلون أن أذهب إلى لولو في الساعة الثامنة من الصباح فأعطيه السم، غير أن هذا الرجل إذا كان يوجد في منزله في هذه الساعة من الصباح فلا بد أنه يوجد فيه الآن، وقد أوشك أن ينتصف الليل، وخير لي أن أذهب إليه الآن فأنام مستريح البال بعد إعطائه هذا السم الفتاك الذي يحرق جوانبي وهو في جيبي.
وكان تيميلون قد أرشده إلى منزل لولو فذهب توا إليه وسأل البواب عنه فقال إنه لم يعد بعد، غير أنك إذا كنت شديد الاحتياج إليه تجده في هذه الخمارة القريبة منك يعاقر المدام مع إخوته، فشكره وذهب إلى تلك الخمارة فسأل صاحبها عن لولو فقال له: إنه في الزاوية مع رفيقين له.
فذهب إليهم الفيكونت وقال لهم: من منكم يدعى لولو؟ فانبرى له رجل شديد العضل ضخم الجثة ظاهر بين عينيه أثر الشراب وقال له: أنا هو فماذا تريد؟ - أريد أن أحدثك على انفراد. - قل ما تشاء أمام إخواني فليس بيننا أسرار تكتم. - كلا فإني قادم إليك من قبل تيميلون.
فأثر هذا الاسم على الجماعة وقام لولو في الحال فاعتذر من الجماعة وخرج مع كارل إلى الشارع.
وكان الشارع مقفرا فرأى لولو مركبة واقفة أمام الخمارة فقال للفيكونت: أهذه المركبة لك؟ - نعم. - يظهر أن تيميلون يحب الإسراع في المهمة التي ينتدبني لها. - إنه يريد أن ترسل رسالة مستعجلة إلى شيفيوت في سجن لازار.
فغضب لولو وشتم وألقى سيكارته إلى الأرض قائلا: إني أبحث منذ ثلاثة أيام عن تيميلون فلا أجده ولو وجدته لما انتدبني إلى هذه المهمة. - لماذا؟ - لأني تخاصمت مع أحد مفتشي هذا السجن فأراد الانتقام مني ومنعني عن الدخول إليه. - والآن ماذا نعمل، وكيف السبيل لنوصل هذه الرسالة المستعجلة؟
فأطرق لولو هنيهة يتمعن ثم أجاب: إذا كان تيميلون يدفع مائتي فرنك لا أعدم وسيلة لإيصالها. - إنه يدفع دون شك. - ولكن الدفع يجب أن يكون الآن إذا أراد أن تصل رسالته في الصباح. - إنه عهد إلي أن أدفع لك مثل هذه النفقة والمال معي، فقل لي بأية طريقة تريد إيصالها؟ - إني أعرف فتاة إذا أعطيتها هذا المبلغ ترضى أن تزج نفسها في السجن طائعة مختارة فتوصل الرسالة إلى شيفيوت، فإذا شئت هلم معي إليها قبل أن يفوت الأوان.
وذهب الاثنان إلى المكان الذي توجد فيه تلك الفتاة فاجتمع بها لولو وأعطاها نصف المبلغ، فأخذت منه الرسالة وذهبت لفورها إلى الشارع فارتكبت جريمة سرقة في أحد المخازن فقبض البوليس عليها، وعاد الفيكونت إلى منزله وهو واثق أن السم في طريق السجن.
ودخل إلى غرفته فغير ملابسه وتأهب للذهاب إلى النادي وهو يتساءل في نفسه: سوف أعلم إذا كان الماجور أفاتار وروكامبول واحدا فإن الماجور يذهب كل ليلة إلى النادي، فإذا كان الآن موجودا فهو روسي دون شك لا علاقة له بروكامبول؛ لأن هذا اللص منهمك الآن بفراره من الجند.
ثم خرج إلى النادي فلما بلغ إليه لقي اثنين من أصحابه وهما خارجان منه فسلم عليهما وأراد الدخول، فاستوقفه أحدهما وسأله ما وراءك من أخبار أجينور ابن أخيك؟ - ليس لدي شيء من أخباره فإنه لم يذهب إلى عمته فيما أعلم. - إذن إنك لا تعلم شيئا من أخباره فإنه لم يذهب إلى عمته وقد توقف في مدينة لافال وهي في منتصف الطريق وهو فيها إلى الآن. - وماذا يعمل فيها؟ - إنه أوصاني في كتابه أن لا أخبر أباه وعمه بشيء من أحواله، ولكني أخبرك بكل شيء فإن أجينور برح باريس مكرها؛ لأنه اضطر إلى مغادرة عشيقته للإقامة مع عمته وهو مصيب في استيائه كل الإصابة، ولكنه اضطر إلى السفر لأمور عائلية لم يجد بدا من قضائها.
وقد سافر وهو مضطرب الحواس فساءت أخلاقه حتى إذا وصل إلى شارته لقي ضابطا مسافرا إلى لافال فجلس بجانبه وكان أجينور يدخن والضابط يغني فاستاء الضابط من سيكارة أجينور، واستاء أجينور من غناء الضابط وبدأ بإظهار استيائه بالنظرات، ثم بالكلام المعمى إلى أن ضاق صدر أجينور فقال له: إن صوتك مزعج يثقل علي، فأجابه الضابط بكلام أشد وانتهى الأمر إلى المبارزة فأعطى كلاهما رقعة زيارته للآخر واتفقا على المبارزة في لافال.
ولما وصلا إليها تبارزا فأصيب أجينور بما اضطره إلى ملازمة الفراش ثمانية أيام، ولكنه بالرغم عما أصابه لا يزال يفتكر بعشيقته أنطوانيت وقد كتب إليها ثلاث رسائل فلم تجبه عليها حتى تولاه اليأس فعهد إلي بالذهاب إلى منزلها والسؤال عنها.
فاضطرب الفيكونت اضطرابا شديدا وقال له: ألعلك رأيت الفتاة؟ - كلا، فإن كتاب أجينور لم يصلني إلا في هذا المساء، ولكني سأراها في صباح الغد، ألعل في ذلك ما يسوءك؟ - كلا فإن ابن أخي قد تجاوز سن الرشد بمراحل، فهو حر أن يفعل ما يشاء. - أتعلم أنه يريد أن يتزوجها؟ - نعم وهو زواج لا يقدم عليه غير المجانين، ولكنه أدرى بشئون نفسه، ثم ودعهما وصعد إلى النادي وذهب الاثنان في شأنيهما.
وكان كارل يقول في نفسه: غدا سيعلم هذا الرجل أن أنطوانيت قد اختطفت، فيرجع أجينور مسرعا ولكن رجوعه لا يفيدها لأنها ستلقى حتفها في الغد.
وظل صاعدا حتى بلغ النادي ودخل إلى قاعة البلياردو فانذهل انذهالا غريبا لأنه رأى الماجور أفاتار يلعب مع أحد أعضاء النادي.
أما الماجور أفاتار؛ أي روكامبول، فقد تظاهر أنه منهمك في اللعب وأنه لم ير الفيكونت.
غير أن كارل نظر إلى الساعة فوجد أنها بلغت الأولى بعد منتصف الليل، فدنا من المركيز الذي كان يلاعب روكامبول وقال له: أين أنتما من اللعب؟ - في الدور الثالث فقد كسب مرة وكسبت مرة فمن كسب في هذه المرة كان له الفوز.
فحسب الفيكونت أن كل دور يقتضي له ساعة، فإذا كانا يلعبان الدور الثالث وهما الآن في آخره فلا بد أن يكون الماجور أفاتار هنا منذ ثلاث ساعات وفي ذلك ما يثبت أتم الثبوت أنه غير روكامبول.
وهو تعليل وجيه غير أن رفيق أفاتار لم يقل للفيكونت أن الدورين الأولين قد لعباهما أمس، فيكون الماجور قد حضر إلى النادي منذ أقل من ساعة.
أما روكامبول فإنه بقي في النادي إلى الفجر وعند خروجه لقي أوغست ينتظره على الباب فأعطاه رسالة قائلا له: يجب أن ترسل هذه الرسالة إلى مرتون في السجن وتعطيها لفاندا، فأخذها أوغست وسار إلى السجن.
وكانت هذه الرسالة إلى فاندا الروسية وقد كتب لها فيها: لقد تم كل شيء فافعلي ما أوصيتك به.
وبعد ذلك سار روكامبول إلى منزله وهو يمشي الهويناء مشي المطرق المفكر، وفيما هو على ذلك إذ رأى تيميلون يركض إليه منذعرا وعلائم الرعب بادية على وجهه، فلما وصل إليه دق يدا بيد وقال بلهجة القانطين: ويلاه إن السم قد وصل إلى السجن. فاهتزت أعصاب روكامبول وأدرك حرج الموقف.
28
ولنعد الآن إلى سجن سانت لازار فإنه في الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم الذي أرسل فيه روكامبول الرسالة إلى فاندا دخلت مجرمة جديدة إلى سجن سانت لازار، وهي التي أرسلها لولو إليه تحمل السم إلى شيفيوت كي تسمم به أنطوانيت.
وكانت شيفيوت تكره أنطوانيت كرها شديدا لا سيما وأنها صنيعة تيميلون وهي لم تدخل السجن إلا للحط من قدرها والتنكيل بها، وقد زاد في كرهها لها ما رأته من فضائلها وحسن أدبها وإجماع المسجونات على احترامها وعناية الراهبات بها، فأصبحت عداوتها لها شخصية حتى باتت تتمنى لها الموت بعد انخذالها في معركتها مع فاندا.
ولما جاءتها تلك المرأة برسالة تيميلون وبالسم المعد لأنطوانيت فرحت فرحا وحشيا لا يوصف ووطدت النفس على قتلها في ذلك اليوم.
وكانت أنطوانيت منفصلة عنها لأنها نقلت بعد مرضها إلى مستشفى فأقامت فيه مع فاندا التي كانت مصابة بمثل مرضها وامرأة ريكولو التي بقيت في السجن بسبب ولادتها وقد لبثت في المستشفى على انتهاء مدة سجنها إلى أن تبرأ من النفاس، فلم يكن الحراس يمنعون زوجها ريكولو من عيادتها والاعتناء بأمرها.
أما شيفيوت فإنها لما وصلت إليها رسالة تيميلون أخذت ذلك الرشاش الذي يتضمن السم الزعاف وجعلت تفكر في طريقة تجمعها بأنطوانيت في المستشفى، فأرشدها الحقد إلى حالة فأخذت إبرة طويلة ووخزت بها أعصاب أنفها من الداخل وخزات كثيرة غير مكترثة بما وجدته من الألم، فتدفق الدم من أنفها بغزارة وانطرحت على الأرض وصبغت ثيابها بذلك الدم وجعلت تصيح وتعول وتتظاهر بالإغماء حتى اجتمع حواليها الراهبات والمسجونات وحملنها إلى صيدلية المستشفى لمداواتها والنظر في أمرها.
ولم يكن حينئذ في الصيدلية غير أحد الموظفين فيها، فأسرعت الراهبة إلى مناداة الحكيم وعند ذلك دخلت مرتون إلى تلك الصيدلية تحمل إناء وقالت للصيدلي: املأ لي هذا الإناء شرابا لأنطوانيت .
وكانت مرتون قد التمست من الرئيسة أن تتولى خدمة أنطوانيت، وساعدتها أنطوانيت على هذا الالتماس فأجابتها الرئيسة إشفاقا على أنطوانيت.
أما مرتون فقد كانت طاهرة القلب سليمة النية، فلما دخلت إلى الصيدلية طلبت إلى الصيدلي الشراب لأنطوانيت على مسمع من شيفيوت، ثم نظرت فرأت عدوتها اللدودة مضرجة بدمائها، فأشفقت عليها وقالت لها: ماذا تريدين أن أصنع لك؟
فجعلت تستغيث بها وبالصيدلي وتطلب إليهما الإسراع بإحضار الطبيب، فحن قلبيهما وأسرع الاثنان إلى الباب يستحثان الطبيب على الإسراع.
وكانت مرتون قد تركت إناء الشراب على طاولة الصيدلي، فلما رأت شيفيوت أنهما خرجا أسرعت وأخرجت رشاش السم من جيبها وألقته بسرعة البرق في الإناء ثم عادت إلى العويل والصياح.
وبعد دقيقة حضر الدكتور وعالج شيفيوت وقرر أن أمرها بسيط وأمر أن تبقى في الصيدلية إلى أن ينقطع الدم، وذهبت مرتون بإناء الشراب إلى أنطوانيت وهي لا تدري أن فيه السم الزعاف. •••
وفي الوقت نفسه الذي دخلت فيه المرأة إلى السجن بالسم كان تيميلون يطوف باحثا عن روكامبول، وقد كاد يفقد صوابه فإن هذا الرجل على فظاعة قلبه كان يحب ابنته حبا شديدا وكان يعلم أن روكامبول لا يحنث بوعده وأنه لا بد له من فقدها إذا ماتت أنطوانيت.
فلما خرجوا بابنته من منزله وغادره روكامبول لم يكن همه إلا بالبحث عن لولو لأخذ السم منه قبل أن يرسله إلى السجن.
غير أنه كان مرتاحا بعض الارتياح لأمرين: أحدهما أن الفيكونت كارل دي مورليكس لا يجد لولو إلا في الساعة الثامنة من الصباح، والثاني أنه مهما أسرع لولو فلا يستطيع إيصال السم إلى السجن قبل الظهر؛ أي إن الوقت يظل فسيحا لديه لملاقاة هذه الجريمة وإنقاذ ابنته وأنطوانيت من الموت.
ومع ذلك فإنه ذهب توا حين تركه روكامبول إلى منزل لولو فقيل له إنه في الخمارة، فذهب إلى الخمارة فأخبروه أنه خرج منها مع رجل علم من أوصافه أنه الفيكونت، فأوشك أن يجن من يأسه وخرج هائما يبحث عن لولو في كل مكان فلا يجده ثم يعود إلى منزله فيخبروه أنه لم يعد.
وبقي هذا دأبه إلى أن أشرق الفجر، وفيما هو عائد إلى بيت لولو رآه قرب الباب وهو يترنح سكرا، فقبض عليه وقال له: ماذا فعلت؟ وأين الرسالة؟
فأخبره باتفاقه مع تلك الفتاة وكيف أنها ارتكبت جريمة السرقة خاصة للولوج إلى السجن بالرسالة.
وقد أخبره هذا الخبر وهو مشير عليه، ويفتخر بإسراعه في تنفيذ أوامره.
أما تيميلون فلم يجبه بحرف بل تركه منذعرا وجعل يركض في الشوارع هائما وهو يصيح: ويح لي أنا الشقي! سأقتل ابنتي بيدي!
وقد لقي روكامبول حين خروجه من النادي كما تقدم وهو على هذه الحالة وكان متنكرا بزي الماجور أفاتار.
غير أن تيميلون لم يكترث لتنكره وجاءه وهو ينتف شعوره قائلا: ماذا أعمل إن السم بات في السجن؟
فاضطرب روكامبول هنيهة ثم عادت إليه سكينته فقال: إنك أبله لا خير فيك فلا تعمل شيئا. - ولكن ابنتي تموت إذا ماتت أنطوانيت والسم في السجن. - إذا كنت تحرص على حياة ابنتك، فاذهب إلى منزلك ولا تتداخل في شيء.
فأخذ تيميلون يده فقبلها وأجاب: لقد أخطأت بعدوانك لأني لست من أكفائك. - وأنا رضيت باعتذارك فاذهب بأمان واحذر من أن تلحقني.
وتركه روكامبول وركب مركبة وانطلق بها إلى حيث يختبئ ريكولو مع العصابة، وكتب له رسالة إلى فاندا وقال له: اذهب حالا إلى السجن واطلب مقابلة امرأتك، فإذا دخلت إليها أعط الرسالة إلى المرأة الروسية المقيمة مع امرأتك في المستشفى، واحذر أن يراك أحد، واعلم أنه إذا لم تصل الرسالة إلى فاندا قبل الظهر ماتت أنطوانيت في المساء.
فأخذ ريكولو الرسالة وأخفاها وركب مركبة سارت تنهب به الأرض إلى السجن.
أما روكامبول فإنه أقام مع بونفير ينتظر عودة ريكولو على أحر من الجمر، وقد امتقع لون وجهه لشدة اضطرابه. فسأله بونفير: ما بالك؟ - أتذكر تلك الدقيقة الهائلة التي كان رأسك فيها تحت آلة الإعدام؟ - إني أذكرها، ولم أجد في حياتي أشد منها. - ولكنها دقيقة واحدة يسرع انقضاؤها، أما أنا فلا بد لي من البقاء إلى المساء في أشد من هذا الموقف.
ثم حمل رأسه بين يديه واستند إلى طاولة أمامه وقال: رباه! إن ما ألقاه من الانفعال في فعل الخير لم أكن أجد بعضه في صنع الشر، فشتان بين الحالين!
ثم غاص في هواجسه، فاحترمت العصابة سكوته ولم يكلمه أحد.
29
أما ريكولو فإنه انطلق إلى السجن لا يلوي على شيء، وكان كلما افتكر بما أخبره به روكامبول عن الخطر المحدق بأنطوانيت يود لو كان له أجنحة ليطير بها إلى فاندا.
ولما وصل إلى مستشفى السجن أذن له بالدخول، لا سيما وأن امرأته باتت قادرة على الخروج، ولا بد له من أخذها لأن مدة عقابها قد انتهت ولم يؤخرها في السجن غير الولادة.
ولما دخل ريكولو لم يكن في الغرفة غير امرأته وولدها وأنطوانيت وفاندا والراهبة، فجعل يقبل ولده ويؤانس امرأته.
ثم دنا من سرير أنطوانيت وجعل يسألها عن صحتها، ودنا بعد ذلك من سرير فاندا وأشار إليها إشارة خفية ودس رسالة روكامبول تحت مخدتها وعاد إلى امرأته وولده.
وعند ذلك دخل الطبيب فأخبره أن امرأته باتت في حالة من الصحة تستطيع معها الذهاب إلى منزلها.
فشكره ريكولو وأخذ امرأته وولده وذهب بعد أن ودع أنطوانيت، فنظرت إليه فاندا نظرة سرية علم منها أنها قرأت الرسالة، وانصرف مطمئنا آمنا.
وبعد ذهابهم خلا المكان لأنطوانيت وفاندا ومرتون التي كانت تخدمهما، فقالت أنطوانيت لفاندا: ماذا ترين ألعلي أبرأ قريبا من هذا الداء؟ - اطمئني أيتها العزيزة لأن ساعة الخلاص قد دنت. - أتبقى هذه اللطخ السوداء على وجهي؟ - إننا ابتلعنا حبوبا واحدة وأصبنا بداء واحد واسود وجهي كما اسود وجهك فانظري إلى وجهي أترين فيه شيئا من أثر السواد؟ - كلا ولا بد أن تكون هذه الآثار قد زالت من وجهي، ولكني أشعر بظمأ شديد.
فلما سمعت مرتون ذلك أسرعت إلى إناء وقالت لها: إني ذاهبة إلى الصيدلية لأحضر لك شرابا. ثم أخذت الإناء وخرجت.
وبعد هنيهة سمعتا صراخا من الصيدلية، ثم سمعتا صوت مرتون تنادي الطبيب ، وبعد ربع ساعة عادت مرتون تحمل الإناء من ذلك الشراب، فسألتها فاندا قبل أن تعطي الشراب لأنطوانيت عن سبب الصراخ في الصيدلية، فقالت لها: إني دخلت إلى الصيدلية لإملاء الإناء فرأيت شيفيوت تصيح وتستغيث، فوضعت الإناء على طاولة الصيدلي وخرجت معه لمناداة الطبيب ثم عدت وأخذت الإناء ملآن وعدت إليكم.
ثم قدمت الإناء لأنطوانيت ولكن قبل أن تمد يدها إليه انتزعته فاندا ورمت به إلى الأرض، فعجبت أنطوانيت ومرتون من ذلك وقالتا لها: ماذا تفعلين؟ - إني أنقذتك من موت هائل بفضل رئيسنا الذي يحميك.
أما الكتاب الذي أرسله روكامبول إلى فاندا فهو كما يأتي:
إن تيميلون اليد العاملة في اضطهاد أنطوانيت أرسل سما قاتلا إلى امرأة معكم في السجن تدعى شيفيوت كي تسمم به أنطوانيت، فاحرصي عليها ولا تدعيها تأكل شيئا ولا تشرب شيئا، واعملي بما قلته لك قبل دخولك إلى السجن فقد آن الأوان وتمت المعدات.
وكتمت فاندا الرسالة ولكنها لم تتمالك عن الكلام أمام أنطوانيت ومرتون أن شيفيوت وضعت السم في الإناء، فهاجت مرتون هياجا شديدا وقالت: لا بد لي من قتل هذه الماكرة.
وهمت بالخروج إليها فأوقفتها فاندا وقالت لها: ارجعي عن قصدك لأن الله لا يرضى الانتقام. - ولكني أنا أرضاه ولا بد لي من قتلها.
فدنت منها أنطوانيت وقالت لها: إنك حديثة العهد بعيشة الصلاح، فلا تجعلي القتل بدء أعمالك، واغفري لهذه المرأة كما غفرت لها أنا، يغفر لنا الله.
فاضطربت مرتون إذ لا يسعها مخالفة أنطوانيت وقالت لها: إنك تشبهين الملائكة يا سيدتي بصفاء نيتك وطهارة قلبك، ولكني لا أريد قتل هذه الماكرة لمجرد الانتقام بل لحذري من أن تعود إلى تسميمك لأنها لا تقف بجرائمها عند حد ولا بد لها غدا من العود إلى ما فعلته اليوم.
فقالت لها فاندا: لا تخافي، في الغد يفوت الأوان.
فنظرت إليها مرتون كأنما تسألها بالنظر فقالت لها فاندا: ألم أقل لك حين قدومي إني دخلت السجن بغية إخراج أنطوانيت منه؟ - نعم قلت ذلك وإني متعجبة منه! - إذن فاعلمي أن أنطوانيت لا تخشى شيئا في الغد، ولا تبالي بمكائد شيفيوت أيضا. - ألعلها تخرج غدا من السجن؟ - ربما.
فلم تقتنع مرتون بهذه الأقوال وقالت: ربما صدق ظنك ولكن جميع ذلك لا يمنعني عن قتل تلك الخائنة. - إذا فعلت شيئا من ذلك نفقد كل أمل بإنقاذ أنطوانيت. - كيف ذلك؟ - ذلك أنك إذا تخاصمت مع شيفيوت ظهر أمر هذا التسمم فأبعدونا عن أنطوانيت ووضعوها في مكان منعزل للمبالغة بالحرص عليها، وإذا أبعدونا عنها فكيف نستطيع إنقاذها؟
فاقتنعت مرتون بهذا البرهان السديد وقالت: ولكن تلك الأثيمة أتظل آمنة لا تنالها يد الانتقام؟
فاتقدت عينا فاندا بنار حقد كمين وقالت: كلا بل إنها ستعاقب عقابا هائلا، ولا يقتصر العقاب عليها بل يشتمل الذين دفعوها إلى الجريمة. - أحق ما تقولين؟ - أقسم لك بالذي أرسلني إلى هنا أن العقاب سيكون هائلا شديدا. - إذن لا تدعيني أخرج من هذه الغرفة لأني أخشى أن ألتقي بشيفيوت ولا أملك نفسي. - كلا بل يجب أن تريها وتحدثيها. - لماذا؟ - ذلك لأن هذه المجرمة إذا بقيت مرتابة بتنفيذ جريمتها عادت إليها بما لديها من الدهاء والحيلة، ولكنها إذا علمت أن أنطوانيت شربت ما في الإناء وثقت من تسميمها وامتنعت عن كيدها. - وكيف أستطيع أن أخبرها؟ - إنها طريقة بسيطة، وهي أن تعودي بالإناء إلى الصيدلية وتطلبي إلى الصيدلي أن يملأه أيضا، وتقولي له على مسمع من شيفيوت، إذ لا بد أن تكون باقية فيها، إن أنطوانيت وجدت فائدة بهذا الشراب، فتعلم شيفيوت أنها شربته.
فامتثلت مرتون مكرهة وذهبت بالإناء.
ولما خلت فاندا بأنطوانيت قالت لها: إنك تستطيعين الآن أن تشربي آمنة أولئك الأعداء الذين لا يردعهم ضمير من قتلك. - ولكني لم أسئ إلى أحد منهم بشيء. - إنك أسأت إليهم بهذه الثروة التي اختلسوها منك، وإنهم لا يريدون ردها إليك. - ليحفظوها قدر ما يشاءون ويعيدوا إلي حياتي الماضية لأني كنت أعد نفسي على فقري من أسعد النساء. - كلا لأن الرئيس يريد أن يرد إليك النقود.
وكانت فاندا قد قصت على أنطوانيت لمحة من سيرة هذا الرئيس المدهشة، فكانت تعجب لهذا الرجل الذي يخافه البعض، ويحبه البعض حب عبادة. وقد اختلفت أسماؤه فدعي جوزيف بيبار والمركيز دي شمري ونمرة 117 والماجور أفاتار، وأنقذ ميلون من السجن. فكانت أنطوانيت تعجب به أشد العجب، لا سيما وأن فاندا قد مثلته لها خير تمثيل، حتى باتت تثق به كثقة فاندا.
وبعد أن ساد السكوت هنيهة بينهما قالت لها أنطوانيت: أصحيح ما قلتيه لمرتون عن خروجي غدا من السجن؟ - نعم، فموعد إنقاذك قد دنا. - ولكن كيف نخترق هذه الأبواب المقفلة وتلك الأسوار العالية؟ - بإرادة الرئيس وبثقتك بي وبروكامبول وبميلون فهل لك بنا ثقة؟ - أعندك شك بذلك؟ - اعلمي أنه لا بد لخروجك أن تطيعيني طاعة لا حد لها وتقبلي بما أطلبه إليك وباسمي وباسم روكامبول وباسم ميلون. - إني مستعدة للطاعة. - إذا أصغي إلي.
ثم ضمتها إلى صدرها وقبلت جبينها وبسطت لها خطة إنقاذها من السجن كما سيجيء.
أما مرتون فإنها ذهبت إلى الصيدلية تحمل الإناء فارغا، فبرقت عين شيفيوت لما رأتها، ولما سمعتها تخبر الصيدلي أن أنطوانيت استلذت الشراب ظهرت على وجهها ملامح الفرح الوحشي.
فلم تكترث لها مرتون عملا بوصية فاندا وحملت إناء الشراب وعادت به إلى أنطوانيت فأخذته منها فاندا، وبعد هنيهة قدمته لأنطوانيت فشربت ما فيه جرعة واحدة.
ولم تمض فترة وجيزة حتى صاحت أنطوانيت صيحة مزعجة منكرة موضعة يدها على قلبها، ثم انطرحت على سريرها لا تعي.
فأسرعت مرتون إليها، ولما رأت أنها لا حراك فيها جعلت تلطم خديها وتصيح قائلة: إنها مسمومة دون شك لأني لم أغسل الإناء.
ثم أتى الطبيب وبعد أن جس نبضها وفحص قلبها، قرر أنها ميتة وأن وفاتها كانت بذلك الداء الهندي.
30
ولنعد الآن إلى تيميلون، فقد تركناه ذاهبا إلى منزله بأمر روكامبول منفطر القلب وقد برح به اليأس، ولم يطمئن فؤاده لكلام روكامبول، فذهب إلى منزله وأقام فيه إلى الظهر على أحر من الجمر، ثم خرج هائما على وجهه لا يعلم أين يستقر حتى بلغ إلى كنيسة . فذكر عندما رآها مصيبته بابنته، وأذكرته تلك المصيبة بخالقه، فجثا أمام بابها يصلي، وهي أول مرة في حياته الأثيمة عرف قلبه الخشوع وذكرت شفتاه اسم الله.
وبعد أن فرغ من صلاته جعل يسير حزينا مطرقا، فيطوف شوارع باريس طواف الهائم، حتى أقبل الليل وعضه الجوع، فدخل إلى فندق طعام، وفيما هو داخل سمع باعة الجرائد ينادون - جريدة المساء، حادثة سجن سانت لازار - فهلع فؤاده واشترى نسخة من تلك الجريدة، وقرأ في صفحتها الثانية ما يأتي:
حادثة سجن سانت لازار
حدث في سجن سانت لازار حادثة غريبة، اضطربت لها المسجونات وكادت تفضي إلى الثورة. وهي أن إحدى الفتيات التي قبض عليها البوليس مع عصابة لصوص لاتهامها بسرقة، ماتت في السجن اليوم ميتة غريبة.
وقد ادعت هذه الفتاة حين قبض عليها أنها من بنات الأشراف وأنها وجدت بين اللصوص بمكيدة، ثم أثبت التحقيق أنها على غير ما تقول إذ عرف القضاة أمها.
أما هذه الفتاة فقد دخلت إلى السجن منذ خمسة أيام، وفي اليوم التالي لدخولها أصيبت بمرض نادر في أوروبا ولكنه معروف في الهند واليابان، فاسود جلدها وظهرت بثور فوق لسانها، وهو مرض قتال ولكن الأطباء يثبتون أنه لا يعدي.
غير أنه من غرائب الاتفاق أن امرأة أخرى أصيبت في ذلك السجن بالداء نفسه وفي الساعة نفسها التي أصيبت بها الفتاة، فنقلت الاثنتان إلى مستشفى السجن في غرفة واحدة.
وقد كانت المسجونات يحترمن تلك الفتاة احتراما شديدا، لجمالها ومكارم أخلاقها وظواهر آدابها ولتشيع فتاة لها تدعى مرتون كانت تغالي أمام المسجونات في مدح صفاتها، ولكنها على إجماع المسجونات على حبها كان لها عدوة لدودة تدعى شيفيوت.
وقد أدخلوا إلى المستشفى مع تلك الفتاة امرأة ولدت فيه، فأصيب طفلها بمرض أشرف فيه على الموت، فأشفقت الفتاة عليه وركعت أمام مهده تصلي، فما أوشكت أن تفرغ من صلاتها حتى نفض الطفل عنه غبار الموت وشفي بأعجوبة من السماء. وانتشرت هذه الحادثة في السجن وأطلق المسجونات على الفتاة لقب قديسة.
وقد كان موتها فجائيا إثر شراب شربته ، فاختلفت الأقوال في سبب موتها، ولكن صديقتها مرتون اتهمت شيفيوت بأنها وضعت لها السم في الشراب لاشتهارها بعدائها، فثارت الفتيات على تلك المجرمة وضربنها ضربا مبرحا، فنقلت إلى المستشفى وهي في حالة خطرة ولكنهم يرجون إنقاذها.
وقد علمنا عند طبع الجريدة أن الفتيات لم يرجعن عن ثورتهن إلا حين أذنت لهن إدارة السجن بتقبيل تلك الفتاة المائتة التي يلقبنها بالقديسة وهي ستدفن غدا، وقد أذن بدفنها دون تشريح بناء على التماس المسجونات وحذرا من عودتهن إلى الثورة.
وقد اكتتبن جميعهن وجمعن مبلغا من المال كي يشترى لها به أرض خاصة في المدفن كي لا تدفن في المدافن العمومية. وسنذكر غدا ما نعلمه من التفاصيل.
ولما انتهى تيميلون من قراءة الجريمة سقطت الجريدة من يده ووهت رجلاه وقال: ويح لي! لقد قتلت ابنتي بيدي وكيف السبيل إلى خلاصها ولكن لا بد لي منه.
وقبل أن يتم كلامه أحس بيد وضعت على كتفه فالتفت ثم رجع منذعرا؛ لأن هذه اليد كانت يد روكامبول.
أما روكامبول فإنه أخذ يده وسار به إلى منعطف في الشارع، فقال له تيميلون بلهجة القانط المتوسل: رحماك أنقذ ابنتي فلا ذنب لها. - نعم، سأنقذها إذا كنت تطيعني. - أواه إني أكون أطوع من بنانك، فمر أطعك في كل ما تريد. - ألم تجعل لأنطوانيت والدة تدعى مارلوت إثباتا لجريمتها؟
فأطرق برأسه مستحيا وقال: نعم. - إذن، يجب على هذه الأم أن تطلب جثة ابنتها وأصغ إلي الآن لأني أمهلك إلى ظهر غد، فإذا لم تذهب غدا تلك المرأة التي تدعى مارلوت إلى سجن سانت لازار وتطلب جثة أنطوانيت مدعية أنها ابنتها وتدفنها في مقبرة مونتمارتر بأرض خاصة تختارها أنت حسب إرشادي فإنك لا ترى ابنتك.
فبرقت عينا تيميلون بأشعة الأمل، وقال: سأعمل جميع ذلك في الوقت المعين.
فأعطاه روكامبول ألف فرنك لشراء الأرض الخاصة وقال له: يجب عليك أيضا أن تدعي أنك عم أنطوانيت فتسير مع أمها في مشهدها، وإذا بلغتم بها المقبرة تضعها في قبر خاص يرشدك إليه ريكولو. ثم تركه وانصرف.
31
كان كل ما نشرته تلك الجريدة التي قرأتها تيميلون عن ثورة الفتيات صحيحا، فإن ثائرهن لم يهدأ حتى وعدهن رئيس السجن بالإذن لهن بتوديعها وعدم تشريح جثتها.
وفي صباح اليوم التالي كانت أنطوانيت مسجاة على سريرها، فجعل المسجونات يدخلن إليها واحدة إثر واحدة، فيقبلن يدها تبركا لاعتقادهن أنها قديسة حتى فرغن من توديعها، ولم يفضل في الغرفة غير فاندا ومرتون، فكانت مرتون تبكي البكاء الشديد وكانت علائم الحزن والسكينة بادية في وجه فاندا.
ولما خلا بهما المكان قالت لها فاندا: لماذا تبكين هذا البكاء؟
فنظرت إليها مرتون نظرة إنكار وقالت: أترينها مائتة لا حراك فيها ثم تسأليني عن سبب بكائي؟ - ألم تقولي مع القائلات في هذا السجن إن الله صنع أعجوبة على يدها حين إنقاذ الطفل؟ - نعم ولا أزال أعتقد هذا الاعتقاد. - إذن لماذا تيأسين من رحمة الله ألعله لا يستطيع أعجوبة ثانية؟
فارتعشت مرتون وقالت: ماذا تعنين بهذا القول؟ - أعني به أن الله الذي أنقذ الطفل من الموت لا يصعب عليه أن يرد الحياة إلى أنطوانيت. - رباه! ماذا أسمع؟! ألعل ذلك من الممكنات؟ - إن الله على كل شيء قدير ولا تقنطي من رحمته.
ورفعت مرتون عينيها إلى السماء وقالت: رباه من يستطيع إنكار سلطانك إذا أنقذتها من الموت.
ثم انقطعت عن البكاء وجعلت تنظر إلى أنطوانيت وتغوص في بحار التأملات.
وبعد حين دخلت الراهبة وقالت لفاندا ومرتون: إن والدة أنطوانيت أتت تطلب جثتها.
فأجفلت مرتون بلهجة الاستنكار: أية أم هذه؟
وحاولت أن تكشف النقاب عن حقيقة تلك الأم الكاذبة لو لم تبادرها فاندا بنظرة سرية ألجمت لسانها عن الكلام، فوقفت حائرة مدهوشة لا تعلم ماذا تقول.
وبعد حين أتت تلك الأم واعترفت أن أنطوانيت ابنتها ووقعت على صك الوفاة.
ثم جاءوا بالتابوت، ولما رأته مرتون اضطربت اضطرابا شديدا وقالت لفاندا: أرأيت أنهم سيحملونها أين عجيبة الله؟ - قلت لك لا تيأسي واصبري لأن الله مع الصابرين.
ثم حملوا أنطوانيت إلى الكنيسة، وصلي عليها بحضور جميع المسجونات وخرجوا بها .
وكانت مرتون راكعة بجانب فاندا، ولما رأتهم ساروا بها علا نحيبها وقالت: أي رجاء لي بعد وقد حملوها؟ - قلت لك: لا تقنطي من رحمة الله، والآن انظري إلى الذين يحملون النعش ألا ترين بينهم ريكولو؟ - نعم. - أترينه يبكي أو يظهر عليه شيء من ملامح الكآبة؟ - كلا. - ذلك لأنه يثق برحمة الله أكثر من ثقتك، فاقتدي به.
وبينما كانت مرتون تنظر إلى النعش ومن حوله صاحت صيحة رعب قائلة: هو ذا تيميلون!
فضغطت فاندا على يدها ضغطا شديدا وقالت لها: اسكتي!
فسكتت مرتون وهي لا تعلم شيئا من هذه الألغاز وتوارى النعش عن الأنظار.
وفي الساعة السابعة من المساء كانت فاندا ومرتون مختبئتين في المستشفى، وعادت مرتون إلى البكاء واليأس فقالت لها فاندا: ما بالك لا تقتدين بي وتثقين وثوقي، ألا ترينني ساكنة آمنة، وأنا إنما أتيت إلى هذا السجن لإنقاذها منه؟ - ولكني أراك لا تزالين سجينة فيه. - سأبقى فيه ساعتين أيضا. - ألعلهم قادمون لإنقاذك؟ - كلا بل سأنقذ نفسي.
ونظرت إليها بانذهال عجيب وقالت: ستنقذين نفسك وكيف ذلك؟ - سوف تعلمين كيف أنقذ نفسي وإذا أنقذتك أيضا معي أتعدينني بالرجوع عن سيرتك السابقة والسير في مناهج الصلاح. - إني كنت آليت على نفسي أن أعيش في خدمة أنطوانيت ما حييت، وكنت أرجو أن يغفر لي الله ذنوبي السابقة. - وإذا ردت إليها الحياة؟ - بالله لا تعيدي علي هذه الأقوال فقد كاد يذهب صوابي. - ليكن ما تريدين والآن هل تريدين أن تخرجي معي من السجن؟ - كيف لا أريد ولكني لا أعلم كيف تريدين الخروج من هذا السجن؟ - ستعلمين كيف أخرج، قولي لي: ألا تعرفين الطريق المؤدية إلى باب الخفر العام في هذا السجن؟ - أعرفه ولكن الخروج من هذا الباب مستحيل. - إن كلمة المستحيل لا توجد في قاموس روكامبول.
وعند ذلك سمعتا صوت وقع أقدام فهمست فاندا في أذن مرتون وقالت: هو ذا الراهبة قادمة إلي بالدواء، فمهما سمعت ومهما رأيت احذري أن تقولي كلمة.
وبعد هنيهة دخلت تلك الراهبة ووجدت فاندا مضطجعة في سريرها فسألتها عن صحتها فأنت وتوجعت وقالت لها بصوت ضعيف: إن لساني يلتهب التهابا شديدا.
فقالت لها الراهبة: أريني لسانك.
ثم وضعت المصباح الذي كان بيدها على منضدة صغيرة أمام السرير ودنت منها، ولكنها ما لبثت أن اقتربت منها حتى نفخت فاندا نفخة شديدة أطفأت المصباح وهجمت على الراهبة فضغطت على عنقها بيد من حديد وألقتها فوق السرير وهي تقول: إذا فهت بكلمة خنقتك في الحال.
وكانت هذه الراهبة تشبه فاندا بقوامها ونحولها، وهي على طعنها في السن لم يكن يوجد في وجهها أثر للتجعيد والغضون لم تستطع دفاعا لضعفها، فما زالت بها فاندا حتى تغلبت عليها وربطت فمها بمنديل كي لا تستطيع الصراخ، وأوثقت رجليها وربطتها إلى السرير ثم جردتها من ثوبها ولبسته فوق ثيابها ووضعت على رأسها القبعة التي كانت تستر معظم وجهها وأخذت المفاتيح التي كانت في جيبها.
وبعد أن فرغت من ذلك قالت لمرتون: سألبسك قريبا مثل هذا الثوب فاكمني وراء الباب.
وفيما هما كامنتان إذ سمعتا وقع أقدام معاونة تلك الراهبة فنادتها فاندا باسمها مقلدة صوت تلك الراهبة وقالت لها: ائتني بمصباح فقد أطفأ الهواء مصباحي.
ورجعت المعاونة على أعقابها ثم عادت تحمل مصباحا، ولكنها لم تلبث أن دخلت إلى الغرفة حتى انقضت عليها فاندا ومرتون وفعلتا بها ما فعلتاه بالراهبة، فجردتاها من ملابسها وقيدتاها بجانب رفيقتها ولبست مرتون ثيابها.
وعند ذلك قالت لها فاندا: هلمي بنا الآن وسيري أمامي في الطريق المؤدية إلى باب الخفر العام.
فسارت أمامها وتبعتها فاندا فجعلتا تخرجان من دهليز إلى رواق وكل من رآهما من الحراس يحسب أنهما من الراهبات، حتى انتهتا إلى فسحة متسعة تكتنفها أسوار السجن المشرفة على الشارع، فوقفت مرتون وقالت لها: انظري إلى هذا النور الضعيف المنبعث من آخر الفسحة المتسعة، فإن هناك الباب العمومي وهناك فرقة من الحراس يتناوب رجالها السهر ولا يمكن لأحد أن يخرج من بينهم. - لا بأس فإننا لا ندنو منهم وهم لا يروننا لبعد المسافة واشتداد الظلام.
ثم عادت إلى الباب الذي خرجت منه إلى تلك الفسحة فمشت وهي تعد خطواتها ومرتون تتبعها حتى عدت عشرين خطوة ودنت من ذلك الجدار المرتفع وجعلت تبحث بيديها على سطحه حتى عثرت يدها على حبل رفيع متين، فمشت خطوة ثانية فلقيت حبلا آخر.
وكان في أسفل الحبلين عقدتان ضخمتان، فحلتهما فإذا بهما قد تحولتا إلى زنبيلين من الحرير الدقيق المتين، فأمرت مرتون أن تجلس في إحداهما وجلست هي في الآخر ثم شدت الحبل ثلاث مرات متوالية وصبرت هنيهة، وشدته أيضا أربع مرات وصعد الزنبيلان في الحال يحملان هاتين الأسيرتين إلى أرض الحرية.
32
ولنعد الآن إلى أجينور دي مورلكيس، فقد تقدم لنا القول أن عمه أرسله إلى الرين عند عمته كي يبعده عن باريس، فاختصم وهو مسافر مع أحد الضباط، فتبارز معه وجرحه الضابط جرحا خفيفا قضى عليه بملازمة الفراش أسبوعا.
وقد عرف القراء أن روكامبول أرسل ميلون إلى الرين كي يعود بأجينور إلى باريس، فذهب ميلون في اليوم الثاني لسفر أجينور.
وكانت القرية التي حدثت فيها تلك المبارزة قرية صغيرة، ومثل هذه المبارزة تحدث بين بارون وضابط تشتهر فيها اشتهارا عظيما حتى تدور على جميع الألسن ويتحدث بها العموم.
ولما وصل ميلون إلى تلك المحطة سمع الناس يتحدثون ويذكرون اسم البارون دي مورليكس ويشرحون المبارزة، فعلم منهم أنه جريح وأنه مقيم في الفندق، فنزل حالا من القطار وأسرع إلى ذلك الفندق.
وكان أجينور قد رآه مرة حين كان يقفو أثر مركبته مع أنطوانيت، فلما رآه انذهل فقال له ميلون: أعرفتني يا سيدي؟ - كلا، ولكني أذكر أني رأيتك أو رأيت رجلا يشبهك فماذا تدعى؟ - إني أدعى يا سيدي ميلون.
وظهرت دلائل الفرح على وجه أجينور وقال: إنك ميلون مربي أنطوانيت؟ - أرى من ملامح عينيك أنك تحبها حبا أكيدا. - أهي التي أرسلتك إلي؟ - كلا، ولكني آت إليك من أجلها فقل بالله أتحبها حقيقة؟ - إني أحبها حبا بل أعبدها عبادة. - وإذا كانت معرضة لخطر؟ - أنطوانيت معرضة لخطر، وأي خطر هذا؟ - خطر الموت يا سيدي.
وكان أجينور لا يزال ضعيفا مما نزف من دمائه ولكنه حين سمع ميلون يذكر أن حبيبته معرضة لخطر الموت اشتد واضطرب وقال: أتكون أنطوانيت في مثل هذا الموقف وأقيم في فراشي؟ هلم بنا نعود إلى باريس فلا أطيق البقاء دقيقة هنا.
وخرج الاثنان من الفندق توا إلى المحطة، فأرسل ميلون إلى روكامبول هذا التلغراف بتوقيع مستعار:
إلى الماجور أفاتار
إننا مسافران إلى شارتر بالقطار نمرة 16، فنصل إليها في الساعة الحادية عشرة وأنا أنتظر الجواب في الشارتر كي أعلم أين يجب أن أذهب.
ديراند
ولم يفه ميلون بكلمة عن أنطوانيت في الطريق، ولكنه لما رأى أجينور يلح عليه بالكلام عنها قال له: أتعلم أن أنطوانيت من أسرة عظيمة؟ - نعم. - وأنهم سرقوا ثروتها؟ - نعم، ولكني سأرد لها الثروة المسروقة. - إنهم لم يكتفوا بسرقة ثروتها، بل إنهم يريدون سلب شرفها، بل سلب حياتها. - قل لي بربك من هذا المجرم الأثيم؟ - لا أستطيع أن أبوح بحرف وسيخبرك الرئيس بكل شيء. - أي رئيس هذا؟ - هو رجل يقدر على إجراء كل ما يريد، وهو الذي أنقذني من السجن وتولى حماية أنطوانيت ولا بد متى اجتمعت به أن تبلغا المراد من إنقاذها.
ولما وصل القطار إلى الشارتر أسرع ميلون إلى إدارة التلغراف فتلقى منها هذا التلغراف:
إلى المسيو ديراند المسافر بالقطار نمرة 16 «أنا في انتظارك في محطة باريس.»
أفاتار
وعاد ميلون إلى القطار وسار بهما إلى باريس، وكان أجينور مدة السفر في أشد حالة من الهياج؛ لأنه بات يحب أنطوانيت حبا شديدا مبرحا.
وقد زاد في غرامه موقف أنطوانيت الخطر وما اعترضه في سبيل حبها من العقبات، حتى بات يود أن يسفك في سبيل إنقاذها آخر نقطة من دمه.
ولما وصل القطار إلى محطة باريس أشار ميلون بيده إلى روكامبول الذي كان ينتظر في المحطة وقال لأجينور: هذا هو الرئيس.
فارتعش أجينور لأنه رأى أمامه الماجور أفاتار، وقد كان تعرف عليه في النادي فإنه من أعضائه.
أما روكامبول فإنه دنا منه وقال له بعد السلام عليه: لا يشغلك الآن أمري ولا تهتم أن تعرف من أنا وماذا أستطيع أن أصنع، فإن الوقت يضيق بي الآن عن إخبارك بحقيقة سيرتي، ولا يسعني أن أهتم إلا بأنطوانيت.
ثم ركب الثلاثة مركبة وقال روكامبول لميلون: أرشد السائق إلى منزلك فإننا ذاهبون إليه.
ولما وصلوا إلى منزل ميلون فتح روكامبول الصندوق الذي خبأته والدة أنطوانيت في القبو وأخرج منه رسائلها التي تفضح أخويها الفيكونت كارل والبارون دي مورليكس وعرضها على أجينور.
ولما أتم أجينور قراءتها تراجع إلى الوراء منذعرا وسقطت الرسائل من يده لاضطرابه وجعل يقول: أيمكن أن يفعل أبي هذا المنكر؟
33
وكان أجينور يحب أباه حبا بالغا ويحترمه احتراما شديدا، فانقضت عليه هذه الرسائل انقضاض الصاعقة ذاتها، وكانت مكتوبة بخط البارونة ميلر، فعلم بعد قراءتها أن أنطوانيت ابنة عمته وأن أباه وعمه قد سرقا ثروتها وأن ذنبهما لم يكن قاصرا على السرقة، فإن البارونة اعترفت في رسائلها أنها ماتت مسمومة وقد أثبت قولها كتاب بخط الدكتور فانسانت تحصل عليه روكامبول واطلع أجينور عليه.
ولما وقف أجينور على جميع هذه الجرائم ولم يعد لديه شك بآثام عمه وأبيه وقف وقد بدت عليه ملامح الأنفة، فقال لروكامبول: لا أريد الآن أن أعرف من أنت، ويكفيني أن تكون واقفا على هذه الأسرار الهائلة فأطلعك على قصدي، فاعلم أني سأتزوج أنطوانيت وسأرد لها ثروتها.
فقال روكامبول بسكينة: أظن يا سيدي أن ميلون أخبرك عن اختطاف أنطوانيت. - اختطاف أنطوانيت؟ - نعم إنها اختطفت ولكننا وقفنا على أثرها.
فكاد أجينور يفقد صوابه وجعل يقول: كيف اختطفت ومن الذي اختطفها؟
فقام روكامبول إلى خزانة فأخرج منها عدة أوراق وعرض على أجينور في البدء كتاب أبيه دي مورليكس إلى أنطوانيت، فقرأه أجينور وقال: إن هذا الكتاب زور وليس الخط خط أبي. - نعم، ولكنك تذكر أن عمك ودعك في المحطة في الساعة نفسها التي اختطفت فيها أنطوانيت.
فأن أجينور أنين الموجع وقال: نعم، إنه أهل لكل شيء. ثم عرض عليه روكامبول نسخة من صورة الحكم على أنطوانيت، فما قرأها أجينور حتى طاش عقله، فغطى رأسه بيديه وقال: أمثل أنطوانيت تزج في السجن؟! - إنهم ألقوها فيه مع السارقات الآثمات دون أن يردعهم رادع من ضمائرهم الأثيمة.
ثم عرض عليه رسالة تضمنت اعتراف تيميلون بجميع المكيدة اعترافا تاما مفصلا، فكانت النكبات تتوالى على فؤاد أجينور، وكأنما تواليها قد أعاد إليه رشده وهاله ثبوت الجرائم على عمه وأبيه ثبوتا لا ينقض، فوثب من مكانه إلى الباب وقال: إني لا أقيم دقيقة في هذا المكان.
غير أن روكامبول أسرع فقبض عليه وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ - إلى سجن لازار. - وماذا تصنع بهذا السجن؟ - إن أبوابه تفتح أمامي ومديره يسمع كلامي، والكنيسة تفتح أبوابها لي وتحتفل بعقد زواجي على أنطوانيت؛ إذ لا بد لي من إرضائها ترضية تناسب ما أصابها من الإهانة، بل أريد أن يعرف العالم بأسره أن البارون دي مورليكس تزوج امرأته في سانت لازار.
فابتسم روكامبول وقال: يسرني أن تبلغ منك الشهامة هذا الحد، غير أن مثل هذه الأفعال التي تريد الإقدام عليها لا تجري إلا في الروايات، ولو تأملت هنيهة لعلمت أن ذهابك إلى سجن سانت لازار يجعل بينك وبين أنطوانيت هوة عميقة، وأن الاصطلاحات العالمية لا تؤذن لك بالزواج بأنطوانيت حين ترسل بسببها أباك إلى المشنقة.
فانجلت الحقيقة بتمامها لأجينور وأدرك كنه موقفه الحرج وتجلت له تلك المشنقة كأنما هي ماثلة أمامه، فأدار في جوانب الغرفة نظرا هائما وقد تولاه اليأس، فرأى على طاولة مسدس روكامبول فأسرع إليه واختطفه، غير أن روكامبول كان أسرع في تجريده منه، فقال له: دعني أموت فلم يبق لي خير في الحياة بعد هذه المصائب. - وأنطوانيت؟
فعاد أجينور إلى رشده حين ذكر اسمها وقال: رباه ماذا يجب أن أصنع؟ - يجب أن تصبر كي تقوى على قراءة كل شيء. ثم أطلعه على تلك الرسالة التي كتبها الفيكونت كارل إلى تيميلون، وهي التي قال له فيها: «يجب أن تموت أنطوانيت ابنة أختي في هذا المساء وإذا احتجت فاستعمل الخنجر أو السم.»
فضرب أجينور رأسه بيده ضربة شديدة وقال: أماتت أنطوانيت ؟ - لا أعلم إذا كان السم قد وصل إلى السجن، إنما أرجوك أن تتبعني. - إلى أين تريد أن أتبعك؟ - حيث ترى أنطوانيت. - أرأيت إذن كيف يجب أن نذهب إلى سجن سانت لازار؟ - كلا إنها ليست بهذا السجن. - إذن أين هي؟ - هلم معي تعلم.
ثم أخذه بيده ومسك ميلون بيده الأخرى وسارا لأنهما رأيا أن قواه قد تلاشت بحيث لم يعد يستطيع أن يمشي وحده.
وكان روكامبول قد أخذ مسدسيه من قبيل الاحتياط فوضعهما في جيبه وركب المركبة مع أجينور وميلون وقال للسائق: سر بنا إلى شارع مونتمارتر. وسارت بهم المركبة سيرا حثيثا حتى بلغت إلى منزل ريكولو، وهو المنزل الذي كبسته الجنود حين تفتيشها على روكامبول وعصابته، فنزل الجميع منها يتقدمهم روكامبول وطرق الباب، ففتح له ريكولو فدخل وتبعه أجينور وميلون.
وكان يوجد في المنزل حين دخولهم ثلاث نساء، وهن: فاندا الروسية، ومرتون وامرأة ريكولو، وكان باب الغرفة الثانية مقفلا فجعل أجينور ينظر إلى أولئك النساء دون اكتراث ثم قال لروكامبول: أين أنطوانيت؟ - إنها قريبة من هنا. - إنك لا تجسر أن تقول لي الحقيقة فإنها ماتت.
فلم يجبه روكامبول ولكنه ذهب إلى طاولة فأخذ عنها تلك الجريدة التي نشرت وفاة أنطوانيت في السجن وأطلعه عليها.
ولما تلا أجينور تلك المقالة لم يعد يشكك بموت أنطوانيت فخابت أمانيه واختل عقله، فجعل يتوسل إلى روكامبول ويسأله أن يعطيه مسدسه كي ينتحر.
فقال له روكامبول: مهلا أيها الصديق فإن هذه الجريدة تدل على أن أنطوانيت ماتت وأن جثتها قد نقلت إلى مقبرة مونتمارتر التي لا يفصل بيننا وبينها غير حائط هذه الغرفة، إلا أنها لم تدفن بعد، بل إنها وضعت في قبو مؤقتا إلى أن يتم بناء القبر الخاص، أفلا تريد أن تنظر التي تحبها نظرة الوداع؟ - نعم، نعم! أريد أن أودعها هذا الوداع، بل أودع نفسي على ذاك الضريح!
فأخذه روكامبول بيده وقال له: تعال معي.
ثم أشار إشارة خفية إلى ميلون وريكولو.
وسار روكامبول بأجينور إلى خارج المنزل فتبعه أجينور وهو واهي العزيمة منحط القوى، وميلون يمشي في أثرهما مطرق الرأس، وهو يخشى على أنطوانيت بقدر ما يثق بروكامبول.
وما زالوا سائرين حتى بلغوال إلى جدار متهدم في مقبرة مونتمارتر فولجوا منه يسترهم ظلام الليل، وكان يقودهم ريكولو في تلك الظلمات الحالكة ويسير بهم في دهاليز المقبرة بين الأموات، وكانت الدموع تنهل على وجه أجينور كما كان يتساقط المطر على سائر العصابة.
وما زالوا يسيرون حتى وصلوا إلى قبة مرتفعة تفصل المقبرة القديمة عن الجديدة، فقال أجينور لروكامبول: ألا تعطيني مسدسك حين نصل إليها؟
فقال روكامبول: لا شك أنك جننت وأن الحزن الشديد يدفعك إلى هذه الأقوال؟ - لا أنكر حزني وبأسي، وكنت أود لو ذهب صوابي غير أن عقلي لا يزال سليما لنكد طالعي. - إن موت أنطوانيت خير لك ولها، وهو خير لها دون شك فإنها إذا عاشت تعيش ملطخة بذلك العار الذي وصمها به أبوك وعمك. - إبي، نعم إن أبي الذي قتلها. - كلا، فإن أباك ضعيف الإرادة وهو لم يرتكب تلك الجريمة إلا حين دفعه إليها عمك. - لقد أصبت فإنه من أعظم رجال الكيد والشر، خلافا لأبي فقد انطوى قلبه على السلام. - ثم إنه لو عاشت أنطوانيت لوجب علي وعلى ميلون حمايتها ورد ثروتها والانتقام من أعدائها.
فصاح أجينور صيحة يأس وقال: أنا الذي سينتقم لها. - أتنتقم لها من أبيك؟ - كلا، فإنك أنت نفسك تعترف معي أن أبي رجل ضعيف شريف، ولكني أنتقم من عمي فليس بين الشرائع الاصطلاحية ما يمنع القتال بين الرجل وابن أخيه، وسأقتل هذا العم الماكر بالسيف أو بالمسدس، إذ لا بد لي من قتله.
وفيما هم يتحدثون ويسيرون وقف ريكولو وقال: قد وصلنا.
فنظر روكامبول وأجينور وميلون فوجدوا أمامهم حفرة عميقة، وهي أشبه بهوة عميقة، فأنار ريكولو شمعة، فظهر لهم سلم ينزل بها إلى تلك الهوة فنزل أمامهم قائلا لهم: اتبعوني.
ولما رأى ميلون تلك الحفرة جعل ينتحب ويقول: وا أسفاه إنها مائتة حقيقة.
فانتهره روكامبول وقال له: أعن البارون في النزول.
ثم نزل أمامهما في أثر ريكولو، وتبعه ميلون وهو يحمل أجينور كما يحملون الأطفال، حتى إذا بلغوا إلى أسفل الحفرة سار بهم ريكولو في منعطف انتهوا منه إلى سرداب طويل، كان على يمينه وعلى يساره كثير من التوابيت.
وكانت هذه الحفرة خاصة بالأموات الذين يوضعون فيها مؤقتا إلى أن تبنى لهم المدافن الخاصة، وكان روكامبول عابس الوجه مقطب الحاجبين، وريكولو يبحث بشمعته عن نعش أنطوانيت حتى انتهى إلى نعش أبيض وقال: هذا هو.
فأفلت أجينور عند ذلك من ميلون وأسرع إلى ذلك النعش وفتحه وجعل ينادي: أنطوانيت، أنطوانيت، أنت امرأتي أمام الله أهناك ألقاك.
واختنق صوته وتفجرت الدموع من عينيه وعض كفيه من اليأس، ثم نظر إلى روكامبول وقال له: بالله أشفق علي واقتلني، أو دعني أموت بجانبها.
ولم يجبه روكامبول وأشار إلى ميلون بإبعاده عن النعش، فأبعده مكرها وهو لا يقل اضطرابا عن أجينور.
ثم أشار إشارة ثانية إلى ريكولو فدنا من النعش وكشف عنه الكفن، فظهرت من تحته أنطوانيت بملابس المسجونات في سجن سانت لازار.
فصاح أجينور صيحة مزعجة حين رأى وجهها ولكنه ما لبث أن تفرس فيه حتى قال: إن هيئتها لا تدل على الموت ومن يراها على هذه الحالة يحسب أنها نائمة.
وعند ذلك دنا منه روكامبول وأبعده عن النعش ونظر إليه النظرات التي تتكهرب لها الأجسام والتي بها دعي رئيسا وقال له: وإذا صدق قولك ولم تكن أنطوانيت قد ماتت حقيقة؟
فاضطرب أجينور وقال: إنك ستذهب بصوابي. - لا بأس وسأعيد عليك السؤال فأقول إذا كانت أنطوانيت لم تمت حقيقة وكان موتها الظاهر رقادا بفعل شراب مخدر فماذا تصنع؟ - أتسألني ماذا أصنع، إني أتزوجها. - وثروتها؟ - يجب أن ترد إليها. - أتنتقم لأمها المقتولة؟
فصاح أجينور بصوت مختنق متهدج: ويلاه أأنتقم من أبي؟ - إن أنطوانيت قد تعفو عن أبيك. - إذن سأقتل عمي. - كلا، لست أنت الذي يتولى قتله. - إذا لم أكن أنا قاتله فمن يقتله؟ - أنا. - أواه أن جميع ما تقوله أحلام، فإن أنطوانيت مائتة.
ثم ركع قرب نعشها وعاد إلى البكاء . - نعم إن الجرائد ودفاتر السجن سجلت وفاة تلك الفتاة التي تدعى أنطوانيت ابنة مرلوت، ولكن أنطوانيت دي ميلر ابنة عمك. - تمم حديثك. - إن أنطوانيت دي ميلر يمكنها الخروج من هذا النعش وهي تستطيع أن تفتح عينيها وتعيش وتضع يدها بيدك إذا كنت أريد.
فانصب العرق البارد من جبين ميلون، وسمعت دقات قلب ريكولو، وقال أجينور: وماذا يمنعك عن أن تريد؟ - لا أمتنع عن ذلك إلا إذا كنت تقاومني. - كيف أقاومك وماذا تريد مني؟ - أريد بأن تقسم لي بشرفك أمام هذا النعش أنك تطيعني طاعة لا حد لها مهما طلبت إليك ومهما رأيت مني. - أقسم لك بشرفي وبكل عزيز على الأرض ومقدس في السماء أني أكون لك أطوع من العبيد ما حييت إذا كنت ترد لي أنطوانيت. - إذن سأردها لك ولكن ليس في هذا المكان، إذ لا يجمل أن تفيق فتجد نفسها بين الأموات.
ثم أمر ميلون أن يخرج أنطوانيت من النعش ويحملها، وأمر ريكولو أن يسير أمامهم، فتقدم ريكولو أمامهم بذلك السرداب الطويل المؤدي إلى منزل ريكولو، وتبعه ميلون يحمل أنطوانيت، وسار في أثرهما روكامبول وهو يتأبط ذراع أجينور، حتى بلغوا المنزل فوضعوا أنطوانيت على سرير امرأة ريكولو.
وأخذ روكامبول بيد أجينور وقال له: أصغ إلي الآن، لقد كان في وسعي أن أخرج أنطوانيت حية من السجن كما أخرجت فاندا ومرتون، وهما هاتان المرأتان اللتان تراهما أمامك، ولكني لم أرد ذلك إذ لا يجب أن يشك أحد بأن الفتاة التي ستغدو امرأتك كانت في السجن مع السارقات وبنات الهوى، ثم إنه لا أحب أن يستطيع هذا الخائن مطاردتها، وأريد به عمك الذي دنس اسم عائلتكم الشريف، والذي ستنكره دون شك، بل إني أريد أن لا يبقى لديه شيء من الشك بوفاتها وأنها ماتت في سجن سانت لازار.
وقال أجينور: نعم، لقد أصبت ولكنك لا تزال تطمعني بحياتها وهي لا تزال دون حراك. - إني سأرد لها الحياة.
فساد السكون بين الحاضرين حتى كادت تسمع دقات قلوبهم، وانقطعت مرتون عن البكاء وبرقت عيناها بأشعة الأمل.
أما روكامبول فإنه نظر إلى أجينور وقال: أصغ إلي إني لست طبيبا ولا عالما، ولا دجالا ولا ساحرا، وإن حالة أنطوانيت الآن حالة من نام بتأثير مخدر.
وقد عرفت فيما مضى من أيامي طبيبا هنديا يشتغل أشغالا خاصة بالسموم، وكان لي معه مودة وصحبة، فتعلمت منه طرق التخدير وأخذت منه مخدرا يجعل من يشربه على ما هي عليه أنطوانيت الآن.
وقد ابتلعت أنطوانيت حبة من هذا المخدر لا يزيد حجمها على حجم رأس الدبوس فسكنت دقات قلبها في الحال ووقفت دورتها الدموية، وبردت جثتها واصفرت بشرتها، حتى لم يعد يشك من يراها بأنها من الأموات، كما تراها الآن.
فصاح ميلون: بربك يا سيدي أسرع ورد إليها حياتها، فقد فقد منا الصبر. - اصبر إلى أن أتم حديثي.
ثم عاد إلى أجينور وقال: إن هذا المخدر الذي يميت هذا الموت الظاهري بمدة عشر ثوان لا يميت الموت الحقيقي إلا إذا مضى زمن طويل على شاربه، فإذا أسقي ضده شفي في الحال وردت إليه الحياة.
ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة ومبضعا، وكان في الزجاجة سائل أبيض، وقال: إن هذا السائل هو ترياق ذلك السم، وسأغمس به رأس هذا المبضع وأوخز ذراع الصبية، فتختلج على الفور ويعود قلبها إلى الاشتغال، ثم لا يمضي عليها دقيقة حتى تفتح عينيها وتعود إلى ما كانت عليه من العافية.
فصاح ميلون: أسرع يا مولاي.
والتف الجميع حول السرير ودنا روكامبول من الفتاة فشمر عن ذراعها ثم فض ختم الزجاجة وغمس المشراط بسائلها، وبحث عن عرق تجري به الدماء أكثر من سواه، فوخز العرق بالمشراط وجعل ينتظر.
وبعد دقيقة مرت بأولئك الصابرين مرورا لم تتحرك أنطوانيت؛ فاصفر وجه روكامبول، ودق ميلون يدا بيد وهو يقول: إنها لم تتحرك وقد قضي عليها.
وقال أجينور بلهجة الحزن الشديد: ألعلها ماتت؟
فاضطرب روكامبول اضطرابا شديدا وقال: رباه ألعلي انتظرت أكثر من المدة اللازمة؟
ثم جحظت عيناه وبدت على وجهه علائم اليأس.
وظل ينتظر ثلاث دقائق ، فكان ريكولو ممسكا بأجينور وميلون جاثيا أمام أنطوانيت يبكي بدموع غزيرة ويقول بصوت مختنق: ماتت وا أسفاه.
وكان أجينور يرثيها بأشجى العبارات وقد حاول الإفلات من ريكولو والدنو منها.
فأوقفه روكامبول وعاود تجربته الأولى ولكنه وخز في هذه المرة ذراعها الأيمن، فعاد إلى الحضور بعض الأمل وجعلوا ينتظرون، فكانوا كلهم ينظرون إلى أنطوانيت ما خلا فاندا فإنها كانت تنظر إلى روكامبول تستطلع الحقيقة من عينيه.
ومضت دقيقة أيضا وأنطوانيت لا تزال في غيبوبة الموت.
ولما رأى روكامبول أنه أخفق في سعيه أخذ من جيبه مسدسا فأعطاه لأجينور وقال له: إني أسألك مهلة دقيقتين أيضا فأجرب تجربة ثالثة فإذا لم تر بعد آثار الحياة تبدو على خطيبتك تكون قد ماتت موتا لا ريب فيه، وعند ذلك فإني أتوسل إليك أن تقتلني قبل أن تقتل نفسك.
فأخذ أجينور المسدس دون أن يجيب حتى إن ميلون نفسه الذي كان يعبد روكامبول عبادة لم ينتزع المسدس منه.
ودنا روكامبول من أنطوانيت فكشف عن صدرها ووخزها مرة ثالثة ثم وضع إحدى يديه على قلبها وحمل باليد الثانية ساعته وجعل ينظر عقربها؛ فإن حياته كانت موقوفة على نجاح التجربة، أما فاندا فكانت لا تزال ناظرة إليه.
ورفع روكامبول يده عن قلب أنطوانيت ووضع أذنه عليه ثم رفع رأسه فجأة وصاح صيحة المنتصر: لقد ردت إليها الحياة فإني سمعت بأذني دقات قلبها.
وحدث عند ذلك ما يصعب وصفه من تأثر الحاضرين، فأخذ روكامبول أجينور وأدناه من أنطوانيت فوضع أذنه على صدرها وقال: وأنا أسمع أيضا دقات قلبها.
ثم أقبلت بعده فاندا ومرتون وميلون وكل من حضر، وسمعوا جميعهم ما سمعه روكامبول فكان فرحهم لا يحيط به وصف.
ثم تراجعوا عنها وفتحوا النافذة التماسا للهواء، فقال لهم روكامبول: لقد زال عنها الآن كل خطر، ولكن المخدر قد أثر بجسمها اللطيف تأثيرا شديدا فلو تأخرت ساعة عن إيقاظها لقضي عليها ولم ينفع الدواء، أما الآن فإن يقظتها لا ريب فيها.
فقال له أجينور: متى تفتح عينيها؟ - بعد ربع ساعة على الأقل، والآن فلا يجب أن نبقى هنا فلنخرج جميعنا ما عدا النساء.
ثم خرج أمامهم فتبعه الجميع، فلما توغلوا في الشارع لقي روكامبول تيميلون قادما إلى منزل العصابة فدعاه باسمه، وسمع أجينور هذا الاسم فقال: أهذا الذي كان يساعد عمي في أغراضه السافلة؟ - نعم، ولكني سحقته.
ودنا تيميلون من روكامبول وقال له بصوت يضطرب: لقد وفيت بوعدي يا حضرة الرئيس ألا تفي أنت بوعدك؟ - نعم فاذهب غدا في الساعة السادسة صباحا إلى المحطة تجد فيها جواني الجلاد. - أهو يرشدني عن ابنتي؟ - كلا بل إنها ستكون معه وهو سيعطيك تذكرة سفر إلى لندرا لأنك ستسافر إليها. - أتنفيني من باريس؟ - كلا ولكني أنصحك أن تنفي نفسك فإن البوليس يبحث عنك، وإذا بقيت في باريس إلى مساء غد قبض عليك. - بأي تهمة يتهموني؟ - بسرقة مائة ألف فرنك من منزل الفيكونت كارل دي مورليكس، وهي التهمة التي كنت تريد أن تصمنا بها فقد كنت أشد منك دهاء، وأنا أنصحك الآن أن تهرب؛ فإن لدى البوليس برهانا لا يدحض على أنك أنت السارق. - أين وجد هذا البرهان؟ - وجد في منزلك، فإن تلك المحفظة المكتوب عليها اسم كارل التي وضعتها في منزل ريكولو كي تثبت علينا التهمة أخذتها أنا ووضعتها في منزلك وأرشدت البوليس إليها فكبس البوليس منزلك وأخذ المحفظة.
فلما سمع تيميلون هذا البرهان الصريح صاح صيحة منكرة وهرب متعوذا من مكر روكامبول. •••
وبعد ساعة عاد روكامبول وأجينور وميلون وريكولو إلى المنزل فأقاموا خارج الغرفة ينتظرون أن تصحو أنطوانيت.
فلم يطل وقوفهم حتى خرجت إليهم مرتون تقول بصوت يتهدج من الفرح: ادخلوا، ادخلوا فقد صحت من رقادها.
فدخلوا يتقدمهم أجينور وحاول أن يدنو من أنطوانيت فمنعته فاندا وأجلسته على كرسي بأمر روكامبول، وعند ذلك حركت أنطوانيت ذراعها وتمتمت شفتاها كلمات لا تفهم، فأسرع جميع الحاضرين إليها، فما مر بها دقيقة حتى جعلت تفسر كلامها وكان أول ما فاهت به قولها: أين أنا أفي الفردوس؟
فصاح ميلون يقول بملء الفرح: إني أسمع صوت أمها فهو هو بعينه.
وركع أجينور أمامها وجعل يقبل يديها ودموع السرور تسقط من عينيه عليها.
وعادت إلى قولها: أين أنا؟ أين أنا؟
ولكن عينيها كانتا مغلقتين فلم تستطع فتحهما.
وعادت إلى الكلام وقالت: نعم. نعم.
لقد ذكرت أني مائتة ولكني طاهرة لم أرتكب أثما فلا بد أن أكون الآن في السماء.
وجعل أجينور يناديها باسمها ويتلو عليها أعذب الألفاظ.
ففتحت عينيها فجأة ونظرت إلى أجينور أمامها فارتعدت وقالت: أهذا أنت؟ - نعم أيتها الحبيبة، فإن الفردوس هبط إلى الأرض.
فقال روكامبول: كلا بل إن الفردوس هو الحب الشريف.
ثم تراجع جميعهم عن العاشقين ولم تكن أنطوانيت تسمع غير حديث حبيبها أجينور.
روكامبول في سيبيريا
روكامبول في سيبيريا
روكامبول في سيبريا
روكامبول في سيبريا
روكامبول (الجزء السادس)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
روكامبول في سيبيريا
1
ومضى ثلاثة أيام على البارون فيليب دي مورلكيس دون أن يرى أخاه الفيكونت كارل، ومضى خمسة أيام دون أن يرى ولده أجينور.
غير أن هذا البارون كان (كما يعرفه قراء رواية سجن طولون) منخلع القلب ضعيف الإرادة؛ فكان يخشى حدوث مصيبة من انقطاع أخبار أخيه وولده، فلم يجرأ على السؤال عنهما.
وكان لا يزال في فراشه يشكو صدع رجله، فلما كان اليوم الرابع جاءه خادم غرفته بالجرائد، ففتح إحداها وقرأ فيها تلك المقالة التي عرفها القراء بعنوان حادثة سجن لازار.
فلما وقف على موت أنطوانيت اضطرب اضطرابا شديدا، وكبرت عليه جريمة قتلها، وتمثل له خيال الطبيب فنسانت يعيد عليه قوله السابق: اندم كما ندمت عسى يغفر لك الله، وذكر أن ابنه يهوى الصبية؛ فخشي أن تقتله مصيبته فيها.
وفيما هو على هذا الاضطراب دخل عليه أخوه الفيكونت كارل، فلما رآه زاد اضطرابه فقال له بلهجة القانطين: أماتت الفتاة؟
فأجابه كارل ببرود: كيف عرفت موتها؟ - من الجرائد؟ - تبا لهذه الجرائد! فإنها تتداخل في كل شأن ولا تخفاها خافية، وبعد فما هذا الاستياء من موتها؟ ألعلك لم تكن تتوقعه؟ - وأنت فما هذه السكينة؟ ألعل موت الفتاة لم يؤثر عليك؟ - كيف يؤثر علي موتها ولا راحة لنا إلا بهذا الموت؟! ولكنك إذا رأيتني اليوم ساكنا فقد كان لي بالأمس موقف شديد ترتعد له الفرائص. - كيف ذلك؟ - ذلك أن تيميلون الذي يدبر تلك المكيدة أوشك أن يخوننا أمس. - أمن أجل المال؟ - كلا، بل لخوفه من رجل شقي هرب من سجن طولون وهو يدعى روكامبول، ألم تسمع بهذا الاسم؟ - نعم، فهو اسم لص شهير. - هو ذاك، وقد خافه تيميلون خوفا شديدا حتى بات يتمثل له بكل مخيل؛ لاعتقاده أنه عارف بأمرنا وهو مصيب في اعتقاده، ألا تذكر أنه عادك يوما طبيب إنكليزي؟ - نعم. - فلم يكن هذا الطبيب غير روكامبول، جاءك متنكرا للوقوف على أسرارنا.
ثم قص على أخيه جميع حوادث الليلة الماضية.
ولما فرغ من حديثه قال له البارون: إني أخشى أن يكون ظن تيميلون صادقا، وأن يكون روكامبول هذا واقفا على دخائل أسرارنا. - وهبه كان صادقا في ظنونه، وكان روكامبول متداخلا في شئوننا؛ فإن ذلك يدل على ضعفه لأننا كنا نسعى إلى إخفاء أنطوانيت، وقد فزنا بكل ما نريد.
فقال البارون: أواثق أنت من موت أنطوانيت؟ (اقرأ رواية سجن طولون قبل هذه).
فضحك كارل وقال: أتحسب أن إدارة السجون تمزح بنقل الأخبار الكاذبة وتسجيل الوفيات الكاذبة؟ - أماتت حقيقة مسمومة كأمها؟ - نعم، لأن تيميلون تعهد بتسميمها مقابل خمسين ألف فرنك ستدفعها له أو لمن يرسله، لأني سأبرح باريس بعد ساعة. - أنت تسافر بعد ساعة؟! وإلى أين؟ - إلى روسيا، وإن المركبة تنتظرني على بابك، وأنا بملابس السفر كما تراني.
فزاد عجب البارون وقال: ماذا يدعوك إلى السفر إلى روسيا؟ - يظهر أن التعب قد أضعف ذاكرتك، أنسيت أن لأنطوانيت أختا تدعى مدلين، وإنها معلمة في روسيا، كما أخبرني ابنك أجينور.
فاضطرب البارون وأدرك قصد أخيه الهائل؛ فقال له: بربك يا أخي كفانا آثاما، وحسبك قتل أنطوانيت، فدع أختها، ألا تخشى العقاب؟ - لا يخشى العقاب غير البلهاء الذين يدعون البوليس يقبض عليهم. - أما أنا فخوفي شديد. - ممن؟ - من الله.
فهز كارل كتفيه وقال: أما أنا فلا أخاف إلا من المشنقة، وقد اتخذت ما ينبغي من الاحتياط؛ بحيث بت في مأمن من الشرع. - ولكنك قتلت أنطوانيت لأنها عرفت اسم أمها، وأما مدلين فكيف تخافها وهي لا علم لها بشيء؟ - بل إنها تعلم كل شيء، وهي عائدة من روسيا إلى فرنسا، وأنا ذاهب للقائهم في الطريق. - أتقتل كل يوم نفسا بشرية؟ وترتكب كل يوم جريمة احتفاظا بهذه الثروة؟ وما هي بثروتنا لأنها مسروقة! رباه إن هذا الأمر شديد لا تحتمله النفوس. - بل إنك ضعيف أبله، فلا تغمس يدك بالجريمة، فإني أتكفل بها وحدي، ولا تنس أن تدفع لتيميلون ما وعدته به من المال.
ثم ودعه ومضى، وبعد ساعة ركب القطار وهو يقول: فرغنا من أنطوانيت، فلننظر الآن في شأن مدلين.
2
ولنعد الآن إلى خمسة عشر يوما مضت ولنبرح فرنسا إلى روسيا.
قبل تلك الحوادث بأسبوعين كانت مركبة بريد يجرها ثلاثة جياد تقطع تلك السهول التي يغمرها الثلج في أقسام روسيا، وهي تسير إلى موسكو بين الغابات الكثيفة، فكلما بلغت محطة أبدلت الجياد بسواها، واستأنفت السير.
وكانت السماء مدلهمة والثلوج تمطر منها، فكانت تنهمر وتجتمع أكداسا على الأرض وفوق سطوح المنازل وقباب الكنائس وفي كل مكان.
وكان في هذه المركبة رجل ملتف برداء مبطن بفراء السمور، بينما السائق يحث الجياد على السير بصوته وسوطه.
وكان هذا الرجل أبيض الشعر يناهز الستين من عمره، وقد ارتسمت على وجهه علائم الاهتمام، وهو يدعى الكونت بونتيف، من نبلاء الروسيين، وكان يتفقد أراضيه، فوصل إليه من امرأته في موسكو الكتاب الآتي:
إن ولدنا إيفان انتهت مدة إجازته كما تعلم، ولكنه لم يذهب إلى بطرسبرج، بل بقي في موسكو، وقد أخطأنا لعدم مراقبته، فقد صرح لي اليوم أنه يهوى المدموازيل مدلين الفرنسية، معلمة ابنتنا، وأنه يريد أن يتزوجها، فوقع هذا القول وقع الصاعقة على رأسي، ولا أدري ماذا أصنع، فاحضر.
فاضطرب الكونت لهذا الكتاب الوجيز؛ لأنه كان شديد الطمع، وقد فقد جانبا عظيما من ثروته، فجعل يسعى لزواج ابنه بالكونتس فاسيليكا، وهي من أعظم غنيات بطرسبرج، فأحبط عشق ولده لمدلين جميع أمانيه، ولهذا فإنه أسرع بالقدوم من أراضيه إلى موسكو كي يتلافى هذا الخطر.
وفي اليوم الثامن من سفره وصل إلى الكرملين، ولكن موسكو كانت لا تزال بعيدة، وقد أنهكت قوى الجياد، فطلب من المحطة تغيير الجياد فأمر ناظرها بإعدادها، وبعد ربع ساعة خرج سائق من الاصطبل وشد الجياد على المركبة، فقال له الكونت: إني أكافئك خير مكافأة إذا كنت تسرع بي إلى موسكو، ولو هلكت الجياد فإني أدفع ثمنها.
فأجابه السائق بالفرنسية قائلا: سأمتثل لأمركم خير امتثال.
فارتعش الكونت عندما سمع صوت السائق، وجعل ينظر إليه نظر الفاحص.
وكان هذا السائق قصير القامة طويل الوجه غائر العينين، تدل سحنته على المكر والشر، فسأله الكونت بعد أن تأمله مليا: من أنت؟ - إني أدعى بطرس. - أأنت روسي؟ - نعم. - كيف اتفق أنك تتكلم الفرنسية؟ - كنت سائقا عند البرنس دولو غوسكي، فلما ذهب لفرنسا صحبني معه، فتعلمت هذه اللغة فيها.
فقال الكونت في نفسه: ما هذا التشابه الغريب في الأصوات؟ فقد خيل لي أني أسمع صوت ولدي إيفان، ثم قال له: لماذا امتهنت هذه المهنة؟ - لأني لا مورد لي سواها. - ألعلك مرتاح إلى هذه المهنة؟ - كلا، لأني أؤثر أن أكون سائقا خاصا في أحد المنازل لا سائقا عموميا كما أنا الآن، غير أن هذا مستحيل لنكد طالعي. - لماذا؟
فأطرق السائق برأسه مستحييا وقال: لأني ارتكبت جريمة قتل في عنفوان شبابي، وحكم علي بالنفي إلى مناجم سيبيريا.
فارتعش الكونت أيضا، وقال له: سر بنا وأسرع كما قلت لك.
وكان في أثناء سيره لا يفكر إلا بهذا السائق وما وجده من التشابه بين صوته وصوت ولده إيفان، ولما وصل إلى موسكو خرج الكونت من المركبة فنفحه بمكافأة حسنة، وقال له: إذا أحببت أن تكون في خدمتي فاحفظ ما أقوله لك.
فبرقت أسرة وجهه سرورا، وقال: مر يا مولاي بما تشاء. - أريد منذ الآن أن تمثل لدى جميع سكان هذا القصر وسائر الناس أنك مصاب بالخرس، فإذا رضيت أن تمثل هذا الدور لقيت عندي كل ما تطمع به وكنت من الرابحين.
ولما رأى منه حسن الامتثال تركه وصعد إلى امرأته فقصت له ما كان بين تلك الفتاة الفرنسية اليتيمة وبين ابنها، وكيف أن أشعة غرامها قد نفذت إلى قلبه حتى بات لا يجد بدا من زواجها.
فقال لها الكونت: أهي تحبه أيضا؟ - الحب بينهما متبادل على السواء. - إذن، هي التي أوحت إليه هذا الغرام لدهائها طمعا بمقامه وجاهه. - كلا، لأنه كان البادئ، وقد أنكرت عليه غرامه زمنا طويلا حتى سقطت في شراكه. - يجب إطلاق سراحها وإرجاعها إلى بلادها. - ولكني أخشى على إيفان أن يتبعها، وأخشى عليها أن تموت حزنا لفراقه.
ففتح الكونت نافذة الغرفة المشرفة على ردهة المنزل ونادى بطرس السائق الذي كان ينتظره فيها، فصعد السائق إليه، وجعل يقلد أشائر الخرس، فقال له الكونت: تكلم.
فقال السائق: إذن، بماذا يأمر مولاي؟
ولكنه ما لبث أن قال هذا القول حتى اضطربت والدة إيفان، وقالت: إن هذا الصوت صوت ولدي، فما هذا التشابه الغريب؟
وأشار الكونت إشارة إيجاب، وقال لبطرس: اذهب الآن إلى الإصطبل، ولا تنس أنك أخرس.
ولما ذهب بطرس قالت والدة إيفان لزوجها: قل لي ماذا تريد أن تصنع في هذا الرجل؟ - سأقول لك في الحال، والآن اصغي إلي، إنك تعرفين ثروتنا؟ - نعم، وا أسفاه! فإنها أوشكت أن تضمحل بعد الخسائر الأخيرة. - إذن، فقد وجب علينا تزويج إيفان بالكونتس فاسيليكا؛ لأنها تحبه كما علمت، وأموالها لا تحصى. - ولكن إيفان لا يرضى. - لا بد له من الرضى متى اختطفت مدلين. - أتظن ذلك ممكنا؟ - كل شيء ممكن، إنما يجب أن تعلمي مقاصدي وتشاركيني فيها. - إني تعودت طاعتك. - لي كلمة أقولها أيضا، وهي أنه: إذا علمت مدلين أن إيفان لا يحبها أتمتنع من العودة إلى فرنسا؟ - كلا، إلا إذا ماتت من الحزن. - ذلك ليس من شأننا، والآن لنبدأ بالعمل.
3
عندما عاد الكونت بونتيف إلى موسكو، كانت مدلين تناجي نفسها بأحلام السعادة وتفسح لديها المجال، فإن إيفان كان يحبها، وقد باح لها بغرامه، وهو جاث على ركبتيه أمامها، وأقسم لها: أنه لا يتزوج الكونتس فاسيليكا، وأنه لا يتخذ زوجة سوى حبيبته مدلين، ولم يكن إيفان كاذبا فيما قال؛ لأنه كان يحب مدلين حبا صادقا، وكان واثقا من موافقة أبويه على زواجه بها لشدة دلاله عليهما، ولفرط حنوهما عليه.
فلما علم بقدوم أبيه من أراضيه أسرع إليه وباح له بهيامه بمدلين كما باح لأمه، وأخبره عن عزمه على الاقتران بها، فأصغى إليه أبوه دون أن تبدو منه بادرة غضب، ولكنه قال له باكتئاب: إنك ستدفع بنا إلى هاوية الخراب إذا رفضت الزواج بالكونتس فاسيليكا.
غير أن إيفان كان يحب مدلين حبا مبرحا، فلم يكترث لحالة أبيه، وقد نزهه الغرام الصادق عن أن يبيع نفسه بيع السلع.
فلما رأى أبوه ما كان من عناده قال له: لا بأس إنما أستمهلك إلى الغد كي نبحث في هذا الشأن الخطير، وأباحث مدلين، فأعلم إذا كانت تحبك حقيقة كما تحبها أنت. - أتشك بذلك يا أبي؟ - إن شرطي بسيط كما يظهر، لا سبيل إلى رفضه. - إني لا أرفضه يا أبي فافعل ما تشاء. - تعدني أنك لا تقول كلمة لمدلين إلى الغد.
فأجابه إيفان بملء البساطة، سأجتهد أن أفي بهذا الوعد. - ما زلت تخاف أن لا تتمكن من الوفاء بوعدك، فإن لدي طريقة لحملك على الوفاء، فأين هي مدلين الآن؟ - إنها مع أختي. - إذن، فاركب مركبة وسر بها إلى منزل صديقي البرنس ك، فإنه يبعد مرحلتين عن موسكو فبلغه سلامي وقل له: إني عدت إلى موسكو، ولا شك أن البرنس سيدعوك إلى العشاء؛ بحيث إنك لا تسطيع العودة إلا بعد نصف الليل، أي بعد أن تنام مدلين، وعلى هذا: فإنك لا تستطيع أن تراها قبل غد، وأكون أنا قد رأيتها الليلة وحادثتها فيما أريد.
فلم يسع إيفان إلا الامتثال لاضطراره إلى إرضاء أبيه، فركب مركبة وذهب، وبعد ساعة كان في قصر هذا البرنس.
أما هذا البرنس فقد كان من قواد الجيش المعتزلين، وكان شديد التمسك بالمبادي القديمة، كثير السخط على المبادي الاصطلاحية الجديدة التي وضعها إسكندر الثاني، فكان يجتمع إليه في منزله كثيرون من الناقمين أمثاله، ويظهر كل منهم ما يعن له من أقوال السخط، ويتمنون المحافظة على القديم.
فلما جاءه إيفان برسالة أبيه انخرط بينهم، وتمكن منه الشراب فاندفع مثلهم في هذا المجال، فجعل يشكو شكوى مرة من بطء الترقي في الجيش.
وفي الساعة الأولى بعد منتصف الليل - حين انفض المجلس - برحه إيفان فركب مركبته، وحاول الرجوع إلى موسكو.
فلما بلغ باب المدينة المقدسة سأله ضابط الحرس عن اسمه فذكره له، فقال: أنت ابن الكونت بونتيف، ورتبتك ضابط في الحرس الإمبراطوري؟ - نعم. - أما كنت قادما من منزل البرنس ك؟ - نعم، وهل علي حرج بقدومي من عنده؟ - ولكني مأمور بالقبض عليك.
ثم أطلعه على الأمر وهو ممضي بتوقيع رئيس البوليس في موسكو.
فبذل إيفان جهده كي يأذن له بمقابلة أبيه، غير أن الضابط أبى عليه إجابة ملتمسه، فأنزله من مركبته وركب وإياه في مركبة أخرى، فسارت بهما في طريق بطرسبرج دون أن يستطيع كتابة كلمة إلى أبيه أو إلى مدلين.
ولا بد أن يكون عرف القراء بأن صدور الأمر بالقبض عليه وإرساله إلى بطرسبرج لم يكن إلا بإيعاز من أبيه؛ فإنه فضل مفارقة ابنه فراقا وقتيا على أن يراه زوجا لفتاة فرنسية لا تعرف اسم أبيها.
وفي اليوم التالي اجتمعت والدة إيفان بمدلين، وجعلت تمشي وإياها قرب غرفة ولدها، وهي تظهر لها من طباعه ما خفي عليها، وتذكر لها عن طيشه وقلة وفائه أمورا جعلتها شبه مقدمة لما سيجيء.
ولما وصلت إلى غرفة إيفان وقفت بها أمامها فسمعت مدلين صوت السيوف تقرع على الأرض، فعلمت أن إيفان مجتمع فيها بأصحابه.
ثم سمعت صوت إيفان يتكلم ويضحك فوقفت كي تسمع وتشاغلت الكونتس عنها، فسمعته يقول: إن أبي وأمي شديدا القسوة علي، فقد تداخلا في أمري مع هذه الفتاة الفرنسية، وأفسدا جميع المساعي التي بذلتها حين كدت أبلغ مرادي من إغوائها.
فقال له أحد الحاضرين: إذن، لا صحة لما أشيع من أنك ستتزوجها ؟
فسمعت مدلين صوت إيفان يضحك ويقول: ومتى صح أن يتزوج مثلي فتاة لا نسب لها؟! ولكني كنت أعدها هذه الوعود إلى أن حال والدي دون قصدي، وأنا مسافر إلى بطرسبرج للزواج بالكونتس فاسيليكا.
فلما سمعت كلامه هذا سقطت مغميا عليها، فأمرت الكونتس الخدم بحملها إلى غرفتها.
وفي اليوم التالي كتبت إلى أختها أنطوانيت ذلك الكتاب الذي تقدم ذكره في رواية سجن طولون.
ولم يكن الصوت الذي سمعته مدلين صوت إيفان، بل كان صوت السائق بطرس، وقد حمله الكونت وامرأته على تمثيل هذا الدور منعا لزواج ابنهما إيفان بمدلين.
ولم يكن يرضي الكونت الشرس أن تبرح مدلين من روسيا إلى فرنسا، بل كان يريد أن لا يدع سبيلا لابنه كي يتبعها بعدما عرفه من هيامه بها، كي لا يبقى حائل دون زواجه بفاسيليكا، فخط خطة جهنمية، وأمر في اليوم التالي أن تسافر مدلين وهي لا تزال تتلهب من الحمى.
فأرسلت في مركبة بريد كانت مسافرة فيها امرأة عجوز، وأرسل معها السائق بطرس، وقد تزيا بزي الخدم وجلس أمام السائق.
وكان الكونت قد عرف ما انطوى عليه هذا الرجل من الشر، ورآه ينظر إلى مدلين نظرة المعجب بجمالها فاختلى به، وقال له: أراك تنظر إلى هذه الفتاة بإعجاب فهل راقت لعينيك؟
فضحك بطرس وقد أدرك قصده، فقال له الكونت: إني لست بأبيها وما أنا بوصي عليها، ولكني نفحتها بعشرين ألف فرنك كي تكون مهرا لها، وهي تحمل هذا المال أوراقا مالية في جيبها.
فنظر كلاهما إلى الآخر نظرة تغني عن كل قول، وصعد بطرس إلى مكانه أمام السائق، وسارت بهما المركبة، تنهب تلك السهول الشاسعة ولسان حال مدلين يقول:
وتلفتت عيني فمذ بعدت
عني الديار تلفت القلب
4
وظلت تلك المركبة تجري بها 8 أيام لا تستريح إلا في المحطات حين تغيير الجياد، ولا أنيس لها غير تلك المرأة العجوز التي كانت منشغلة عنها بكلبها تداعبه وتضمه إلى صدرها وقاية من البرد.
وكانت مدلين لا تزال تحب إيفان بالرغم عما سمعته من حديثه، كأنما قلبها كان يناجيها أن الحديث زور، وكانت ترى أنها سوف تجتاز حدود بولونيا إلى ألمانيا ومنها إلى فرنسا، تلك البلاد العزيزة التي ربيت فيها بين أنطوانيت ومربيتها مدام رينود فيخفق قلبها، ولكنها لا تلبث أن تذكر إيفان حتى تنسى كل عزيز لديها في الوجود وتلتفت إلى ورائها كأنما تطمع أن ترى ذلك القصر وقد بعدت عنه 8 أيام.
أما بطرس فكان ينظر إليها نظرات الهائم ولا يتكلم إلا بالإشارات، وكان هذا الرجل وحشي الأخلاق، فاسد السريرة منطويا على الدهاء، وهو على هذه الأخلاق شديد الشراهة إلى المال، كثير التهور في مجاري الشهوات.
وقد قال له الكونت: إن مدلين لديها 20 ألف فرنك، فبات يطمع بمدلين وبمال مدلين، وكان يقول في نفسه: إن مدلين لا تستطيع الدفاع عن نفسها وهذه العجوز منشغلة بكلبها، فلا أخشى غير السائق، إذ قد يتفق أن يكون شريف القلب فلا يوافقني في أغراضي.
وما زال يبحث منذ 8 أيام عن طريقة تنيله إربه فلا يجدها، وما زالت مركبة البريد تسير والثلج من تحتها ومن فوقها حتى توارت الشمس في الحجاب في اليوم الثامن لمسيرها من موسكو، فوقفت أمام منزل معتزل وسط غابة كثيفة وهو إحدى المحطات.
وبينما كانوا يغيرون الجياد خرجت مدلين من المركبة وتبعتها العجوز إلى المحطة ليستريحا فيها، وخلا عند ذلك بطرس بالسائق الجديد الذي يقود المركبة، فقال له: ألا تريد أن تسرع بالسير؟ - أسرع بقدر المكافأة.
وكانت علائم البلاهة بادية في وجه السائق، فتمكن منه بطرس كل تمكن، وبينما هو يحادثه أقبلت مدلين والعجوز فسكت؛ لأنه كان يمثل دور الخرس، وصعد إلى مكانه بقرب السائق ...
وانطلقت بهم المركبة في ذلك الغاب.
وكانت الشمس قد توارت وتكاثف ظلام الليل، وقد أضنك التعب مدلين، فأغمضت عينيها ونامت نوما عميقا.
وكان بطرس يلتفت إليها من حين إلى آخر، ولما رأى أنها توغلت في رقادها دفع السائق بكوعه، وقال له: ألا يوجد قرية قريبة أو فندق معتزل ندركهما قبل طلوع الفجر. - إن هذه الغابة متسعة لا قرى فيها، إنما يوجد فندق معتزل يبعد قليلا عن هذا المكان الذي نحن فيه الآن. - صف لنا الفندق. - لا حاجة إلى وصفه، بل أقول لك عنه: إن من كان جائعا أو ظمآنا فلا يجب أن ينزل فيه. - لماذا؟ - لأن الشراب فيه سيء والطعام قليل. - إذن، فهو منعزل أتم الاعتزال فلا يقيم فيه أحد؟ - هو ما تقول لا سيما وأن لهذا الفندق سمعة سيئة تبعد المسافرين عنه، فقد حدثت فيه جرائم كثيرة على مرأى من صاحبته، فكانت تتغاضى عن المجرمين وتدعهم يفعلون ما يشاءون، وفوق ذلك فإن اسم ذلك الفندق ساوا، وهو اسم طائر يتشاءم به الروسيون ويتطيرون منه أشد التطير، وربما دعي بهذا الاسم لكثرة وجود هذا الطير في أكنافه، فإذا سمع الروسي صوته هرب منه كما يهرب من الخطر. - كم يبعد هذا الفندق؟ - يبعد مرحلتين، ولكنكم تستطيعون تجنب الإقامة فيه إذا واصلنا السير حتى نبلغ إلى محطة أمينة. - لا أجد سبيلا لذلك، فإن سيدتي أضنكها التعب، ولا بد لنا من الاستراحة في هذا الفندق، أما أنت، فتعود إلى المحطة أو تواصل سيرك كما تشاء. - إنك متفق معي على الوصول إلى بترهوف، ولا بد من أن تدفع لي الأجرة كاملة. - أدفعها وزيادة.
ففكر السائق هنيهة، وقال: لا بأس فإني أتشاءم كسواي ولا أخشى أن يصيبكم سوء في هذا الفندق، فأنا سأبقى معكم فيه، وعند الصباح أعود إلى المحطة. - كلا، بل إنك تعود في الحال عند وصولنا، وإني أدفع لك مقابل ذلك عشرة ريالات، إنما أطلب إليك الإسراع.
فأوشك السائق أن يجن سرورا بهذه الهبة، وضرب الخيل بالسوط، فاندفعت تمرق مروق السهم بين تلك الأشجار الكثيفة، حتى انتهت إلى ذلك الفندق، فوقفت عنده.
5
وكان منظر هذا الفندق مهيبا، يحمل على الخوف، فقد كان مصبوغا باللون الأحمر، وهو معتزل أتم العزلة، تكتنفه الأشجار الكثيفة من جميع جهاته بين غابة متسعة لا تحيط بها الأبصار.
ولما وقفت المركبة انتبهت مدلين من رقادها ونظرت وهي في المركبة إلى ما يحيط بها فوجف قلبها من الخوف ، ونادت بطرس وسألته لماذا وقفت المركبة أمام هذا الفندق؟ فأجابها بالإيماء أنه لا بد من المبيت في هذا الفندق إلى الصباح.
ولم تستطع أن تفهم منه، ونادت السائق وقد كان علمه بطرس ماذا يقول، فسألته عن السبب في وقوف المركبة عند هذا الفندق، فأخبرها: أن الذئاب تكثر في الليل في هذه الغابة وأن المسافرين فيها ليلا لا يسلمون من أنيابها.
وكانت مدلين تسمع حقيقة عواء الذئاب فلم تشكك بكلامه، ولكنها كانت تضطرب لمنظر هذا الفندق لا سيما حين فتح بابه على أثر وقوف المركبة، فبرزت منه امرأة عجوز ما رأت في حياتها أقبح من سحنتها ولا أدل منها على الشر.
غير أنها اضطرت مكرهة إلى التسليم، ودخلت إلى الفندق مع بطرس ورفيقتها العجوز، فكان أول ما رأته ردهة ضيقة بسطت فيها مائدة صغيرة وقد جلس حولها ثلاثة من القوزاق أعمى السكر بصائرهم وجعلوا ينظرون إلى الداخلين نظرات جامدة.
ورأت صاحبة الفندق ضيوفها الجدد وبينهم تلك الفتاة الحسناء، فعلمت أن في الأمر مكيدة، وتبودلت بينها وبين بطرس نظرة سرية باغتتها مدلين، فهلع فؤادها من الخوف، وهاجت ظنونها بهذا الخادم الذي يصحبها.
أما صاحبة الفندق فإنها طردت أولئك القوزاق من نزلها فامتثلوا مكرهين وخرجوا ما خلا واحدا منهم لم يستطع المسير، فصحبته العجوز إلى زاوية في الردهة وألقته فيها على الأرض، وهو لا يعي لسكره، ثم أشارت إشارة خفية لبطرس محصلها أن هذا الجندي بات أشبه بالأموات فهو لا يضايقك في شيء، فرأت مدلين أيضا تلك الإشارة وأيقنت أنها مقدمة على خطر عظيم.
ثم عادت صاحبة الفندق إلى مدلين فدخلت بها إلى غرفة وعرضت عليها طعاما وشرابا فأبت، وقالت: إني ألتف بردائي إلى الصباح.
فتركتها وعادت إلى العجوز التي كانت تصحبها فعرضت عليها ما عرضته على مدلين فقبلت شاكرة، وجلست إلى المائدة تأكل وتشرب، ولكنه لم يكد الشراب يستقر في جوفها حتى تثاقلت أجفانها ونامت ذلك النوم العميق الذي يصاب به من يشرب المخدرات.
أما مدلين فإنها أقامت في تلك الغرفة، وقد علمت أنها لا رجاء لها بتلك العجوز التي كانت تصحبها، فقامت إلى باب الغرفة فأوصدته من الداخل بالزلاج، وجعلت تفكر بموقفها، وبهذا الخادم الذي أرسله معها الكونت، وبتلك النظرات السرية التي رأته يتبادلها مع صاحبة الفندق، وذكرت أنها أقامت في منزل والد إيفان سنتين فلم تر وجه هذا الخادم، وزادت هواجسها وأيقنت أنه يريد منها شرا لا محالة، ولكنها وطنت النفس على الدفاع واستوثقت من متانة الباب، وقالت في نفسها: إن غاية ما يطمع به الخادم هو المال، فإذا قوي على كسر الباب أعطيته ما بيدي وأمنت شره.
ثم استرسلت إلى الافتكار بإيفان، وجعلت تناجيه بضميرها ألطف مناجاة، وتعيد ذكرى أيامها السابقة بقربه وما كانت تستشفه من حديثه من الغرام الصادق والحب الطاهر الشريف، فكذبت أذنيها وقالت: محال أن يكون إيفان من الخائنين، وقد تسرعت بسوء الظن به.
وفيما هي على هذا التناجي إذ سمعت وقع أقدام على الثلج خارج الغرفة ثم جعل الصوت يقرب ويتدانى حتى انتهى عند باب غرفتها، وسمعت طرق الباب، فهبت مذعورة، وقالت: من هذا؟
فأجابها صوت من الخارج: مدلين هذا أنا افتحي.
فصاحت صيحة فرح لا توصف، وقالت: إيفان أهذا أنت؟
ثم أسرعت وهي شبيهة بالمجانين ففتحت الباب.
6
ولما فتحت الباب رأت مدلين أمامها بطرس، فحسبت في البدء أن حبيبها إيفان واقف وراءه، فظلت واقفة تنتظر دخوله على العتبة، غير أن بطرس دفعها إلى داخل الغرفة فقالت له: أين إيفان؟ وما لي لا أراه وقد سمعته يناديني؟
فضحك بطرس ضحكا شديدا، وقال لها: عفوك يا سيدتي، فإن إيفان في بطرسبرج وهي بعيدة جدا عن هذا المكان.
فصاحت مدلين صيحة ذعر وقد علمت بلحظة كل شيء؛ لأنها سمعت هذا يتكلم وهي تعهده أخرس، وعلمت أن إيفان غير موجود، وأن صوت هذا السافل يشبه صوت إيفان، فتراجعت وهي تنظر إلى بطرس نظر القانط.
أما بطرس فإنه أقفل الباب وعاد إليها وقال: أكنت تحسبينني أخرس يا سيدتي؟
فنظرت إليه مدلين نظرة احتقار وقد عاد إليها شيء من بسالتها فقالت له: من أنت أيها الرجل الذي يقلد صوت إيفان إلى هذا الحد؟ - أنا كما ترينني خادم الكونت بونتيف، ولدت في ألمانيا، ولما دخلت في خدمة الكونت كنت سائق مركبات عمومية.
فعادت المخاوف إلى مدلين بعد هذا الإقرار وقالت: ماذا تريد؟
فقال وهو يتلعثم: إنما أتيت لأرى: إذا كنت في حاجة إلى شيء. - وكيف تجاسرت على أن تدعوني باسمي دون لقب، كما يتنادى الأخوان؟ - لأني خشيت أن لا تفتحي، وتفطني لأمري لو ناديتك بلقب السيادة.
فظهر الغضب في وجه مدلين، وأشارت بيدها إلى الباب وقالت له بعظمة: اخرج.
فأطرق بطرس نظره وقد أثرت فيه كبرياؤها وحاول الخروج ممتثلا، ولكنه لم يمش خطوة إلى الوراء حتى عادت جرأته فوقف وقال لها: إن لدي نبأ خطيرا يا سيدتي أحب اطلاعك عليه.
وكان قد عاد إلى المظاهرة بالخضوع والوقوف موقف الخدم، فخدعت مدلين بهذه الظواهر وقالت: ماذا تريد أن تقول لي؟ - أريد أن أكلم سيدتي عن الفيكونت إيفان.
فنسيت مدلين كل شيء وقالت: ماذا عهد إليك أن تقولي لي؟ - لم يعهد إلي بشيء ولكني أريد أن أكلمك عنه. - تكلم. - إني يا سيدتي لم أدخل في خدمة الكونت بونتيف إلا لما رآه من التشابه الغريب بين صوتي وصوت ولده. - أمن أجل هذا التشابه لم تكن تجسر على الكلام أمامي؟ - كلا، ولكن الكونت نفسه قد منعني عن الكلام؛ لأنه كان يخشى أن تعلمي الحقيقة.
فانقشع ضباب السر عن عيني مدلين، وقالت: أية حقيقة تعني؟ تكلم قل إني أريد أن أعرف كل شيء. - ولكن هذه الحقيقة سهل معرفتها يا سيدتي؛ لأن الكلام الذي سمعتيه من غرفة إيفان لم يكن قوله بل قولي.
فصاحت صيحة منكرة، وقالت: أهو أنت ... أنت الذي كان يذكر الكونتس فاسيليكا. - نعم يا سيدتي.
فاضطرب صوت مدلين وقالت: إذن، أين كان إيفان وقت حدوث هذه الجريمة؟ - إن أباه أوعز إلى البوليس كي يقبض عليه؛ لأنه خشي أن يحول دون سفرنا. - إذن، إن إيفان ما زال يحبني! فاذهب بالله، وقل للسائق أن يهيئ المركبة . - لماذا؟ - كي نرجع على أعقابنا؛ لأني لا أحب العودة إلى فرنسا، بل أريد العودة إلى بطرسبرج. - أظن أن سيدتي تمزح فيما تقول!
فحسبت مدلين أن هذا الرجل يطمع في مالها، فقالت: قلت لك إني أحب العودة إلى بطرسبرج، وإذا كنت تريد مالا، أعطيتك ما تريد.
ثم أخذت كيسها وأخرجت منه ورقة مالية وألقتها إليه.
غير أن بطرس لم يلتقطها، ولم يتدان إلى النظر إليها، بل قال: إن سيدتي كريمة الأخلاق ولكني لا أريد مالها. - إذن، ماذا تريد؟
فقال لها ببرود: أتعلمين أن هذا النزل يدعى باسم طائر يتشاءم منه الناس؟
فهزت كتفيها إشارة إلى عدم الاكتراث وقالت: وبعد ذلك؟ - إن هذا النزل بعيد عن كل مسكن، لا يزوره أحد من الناس ونحن في منتصف الليل.
فلم تفهم مراده وقالت: ماذا يهمنا اعتزال النزل؟ - إن هذه العجوز التي كانت تصحبك نامت فلا رجاء بصحوها، فقد شربت شراب ألقي فيه مخدر ولا تزال بقيته في الكأس على هذه المائدة، وهذا القوزاقي بات صريع سكره فهو يشبه الأموات. - وماذا يهمنا سكر القوزاقي، أما العجوز فإننا نتركها في النزل ونسافر. - ولا أريد أن أسافر.
ثم خطا خطوة إليها وهو يرمقها بنظر وحشي، فأدركت بعض قصده وتراجعت منذعرة إلى الطاولة التي كانت تأكل عليها العجوز، وقالت لا تريد أن نسافر؟ - ألم تعلمي بعد؟ - كلا. - إذن، فاعلمي أني لا أريد؛ لأني منذ ثمانية أيام أشعر أن دمائي تلتهب في عروقي، ولأني أصبحت معك في مكان منعزل لا أخشى فيه اعتراض أحد، ولأني أحبك، وقد أصبحت في قبضة يدي.
فصاحت مدلين صيحة منكرة، وقفزت مسرعة ووقفت وراء الطاولة تحتمي بها.
7
ولم يكن بين مدلين وهذا السائق السافل غير تلك الطاولة اتخذتها الفتاة متراسا لها فكان بينهما ما يكون بين الجلاد والضحية، فإن الجلاد يصمم على القتل والآخر يصمم على الدفاع، فكان المنظر هائلا إذ إنه كان يناديها بألفاظ التحبب، وهو يوشك أن يفترسها بأنظاره، وهي تصيح مستغيثة وتفر منه.
وجعلا يدوران حول تلك المائدة، وكلما أوشكت أن يدركها أسرعت بالفرار منه، حتى وقع بصرها على سيف ذلك القوزاقي السكران معلقا في الجدار فانتزعته بسرعة البرق وجردته من غمده، ووقفت وراء الطاولة تهدد بطرس به، وتقول: إذا دنوت مني خطوة قتلتك لا محالة.
وبينما كان بطرس واقفا وقفة التردد يدفعه خلقه الوحشي إلى الإقدام ويمنعه عن الهجوم، كانت مدلين تصيح وتستغيث وهي تنذره بالسيف ولا تغفل عنه طرفة عين.
ولبثت تصيح مدة طويلة دون أن يجيبها أحد، فهجم عليها بطرس، وقد خيل له أنه وجد الفرصة موافقة للهجوم فطعنته بالسيف وسالت دماؤه، ولكنه لم يتراجع عنها، بل هجم عليها هجوم القانطين.
ولم يكن غير هنيهة حتى قبض عليها وجردها من السيف فألقاه وراءه، وبدأ بينهما العراك العنيف وهي تستغيث وتصيح وتدفع عن نفسها بما بقي لها من القوة.
ودام هذا العراك بينهما نحو ربع ساعة، حتى أوشك أن يتغلب عليها، وشعرت أن قوتها قد تلاشت، وكادت تصبح فريسة هذا الفاجر.
وعند ذلك سمعت صيحة منكرة، وشعرت أن يدي هذا السائق الذي كان يحاول أن يلقيها على الأرض قد تخلتا عنها، ففتحت عينيها فرأته غارقا بالدماء، ورات وراءه ذلك الجندي القوزاقي.
وكان ذلك القوزاقي قد صحا من سكرته بعض الصحو وشعر بالبرد القارص فقام وهو يترنح من السكر إلى المائدة، فرأى عليها كأسا فيه بقية من ذلك الشراب الذي شربته العجوز فشربها بجملتها، وسمع الفتاة تستغيث فالتفت وهو لا يعي، ورأى سيفه على الأرض، ورأى بطرس، ثم رأى الدم يقطر من ذلك السائق فهاجه منظر الدماء وضربه بسيفه تلك الضربة الشديدة بين كتفيه، وهو إنما قتله رغبة في القتل وحده.
ولكنه كان لا يزال سكرانا فالتفت بعد مقتله إلى ما حوله فرأى عجوزا نائمة لا تعي، ورأى بطرس منطرحا على الأرض يئن أنين النزاع، ورأى مدلين واقفة تنظر إليه، وهي لا تعلم أترجوه أم تخشاه.
فما لبث أن تفرس فيها حتى جعل يضحك ويقول أقوالا لا تفهمها مدلين، فعلمت أنها أصيبت بخطر شديد.
وعاد القوزاقي إلى النظر إليها، ثم وطد النفس على أن ينوب معها مناب ذلك السائق.
وأدركت غرضه السافل من عينيه، فهربت من الغرفة، وجعلت تصيح، وجد في أثرها وهو يصخب ويلعن حتى خرجت من الفندق، وجعلت تركض هائمة على وجهها، وهي تعلم أنه إذا أدركها لا بد لها من الموت.
غير أن القوزاقي كان يركض في أثرها وهو بعيد عنها، ولكنها تسمع وقع أقدامه الغليظة على تلك الأرض المفروشة بالثلج، وتجن من ذعرها.
وما زالت تركض وهو يجد في أثرها إلى أن تلاشت قواها فسقطت على ذلك الثلج ثم شعرت بدنوه منها فهبت لديها قوة خفية، ونهضت من سقطتها، وجعلت تركض هائمة مذعورة لا تعلم كيف تسير في تلك الغابة الكثيفة والظلام الشديد.
غير أن القوزاقي كان أشد منها على الركض فكان يعثر مرات كثيرة لسكره ولكنه ينهض ويجد في مطاردتها حتى تمكن من إدراكها وقبض عليها بيد من حديد، فصاحت تلك المسكينة صياح القنوط، ووقعت في يده وقوع العصفور بين مخالب البازي، فتلاشت قواها ووهت ركبتاها وانطبقت مقلتاها، وقبل أن تسقط مغميا عليها شعرت أن يد ذلك الضاري أفلتتها ولم تعد تعي بعد ذلك على شيء، وكان آخر ما لفظته أنطوانيت وإيفان.
أما القوزاقي فإنه لم يفلتها إلا لأن دماغه قد تخدر بذلك الشراب الذي وجده في كأس ذلك العجوز، فانطرح أمام مدلين، وقد فقد رشاده وجعل يغط غطيط النائمين.
8
ولم يطل إغماء مدلين، ولكنه تحول إلى حمى شديدة محرقة، فلم تكن تشعر بقوارص البرد وهي منطرحة على الثلج، ولكنها كانت تحلم أحلاما مختلفة، وترى صورا غريبة تشترك في تمثيلها لها الحمى والحقيقة، فقد مثل لها أنها تسير مع إيفان في حديقة قصره في موسكو وجعلت تناجيه، ثم ذهب خياله عن بصيرتها فرأت مركبة قادمة إليها من مكان بعيد، وسمعت أجراس خيلها تقرع أذنيها، ثم رأت أنوارا كثيرة، ولكنها تختلف عن المصابيح الطبيعية.
وظلت هذه المرئيات تتعاقب على بصرها وهي بين النائمة والصاحية حتى فتحت عينيها فوجدت نفسها طريحة على الثلج.
ورأت مركبة قادمة إليها من مكان بعيد استدلت عليها من أجراسها ومن مصابيحها، ثم رأت أمامها نور ثلاثة مصابيح، ولكنها علمت أن هذه الأنوار لا تشبه أنوار المصابيح العادية، فنهضت، وحاولت أن تمشي، غير أنها ما خطت خطوة حتى رأت أن هذه الأنوار تضاعفت فجأة، ثم رأت أنها تضاعفت أيضا وجعلت تدنو منها، فكانت تشبه جمرة النار على الأرض.
فوقفت تلك المسكينة، وقد أخذ الرعب منها كل مأخذ، فنظرت إلى المصباحين البعيدين فأيقنت أنهما مصباحا مركبة، ولكنها تسير ببطء إليها، ونظرت إلى تلك الجمرات فرأت أنها لا تزال تتضاعف وتحدق بها، وقد باتت منها على بضعة أمتار، وهي لا تزال آخذة بالدنو، فعلمت في الحال أنها باتت قرب قطيع من الذئاب المفترسة.
ولم يطل بها الأمر حتى رأت أجسامها بعد أن كانت لا ترى إلا عيونها الملتهبة، ومع ذلك فإن المركبة كانت لا تزال بعيدة عنها غير أن الذئاب وقفت بالقرب منها، ولم تجسر على مهاجمتها.
وكانت مدلين في مدة إقامتها في روسيا سمعت أن بعض الفلاحين افترستهم الذئاب؛ لأنهم حاولوا الهرب منها، وأن من يريد السلامة من أنيابها ينبغي له أن يظل محدقا بها، ويتراجع ببطء، وما زال ناظرا إليها فلا تهاجمه لأنها تهاب نظرات الإنسان، فعلمت أنها إذا هربت أدركتها الذئاب، وإذا غفلت النظر إليها مزقتها، وجعلت تتراجع ببطء وهي لا تحول نظرها عن عيونها الهائلة ولا تنظر إلى الطريق التي تسير بها.
وفيما هي تسير والذئاب تتبعها على خوف عثرت بذلك القوزاقي فلم تلتفت إليه، ولم تصرخ، ولكنها علمت أن الذي عثرت به كان جسم القوزاقي الذي كان يطاردها.
وعند ذلك علا غطيط القوزاقي فوقفت الذئاب وقد رأت أن ذلك الرجل قد تحرك.
فتراجعت مدلين وهي لا تزال محدقة بالذئاب حتى ابتعدت عن القوزاقي.
أما الذئاب فإنها لما سمعت غطيط القوزاقي ورأته يتحرك وهو لا ينظر إليها هجمت عليه هجمة واحدة تمزقه تمزيقا وهو لا يستطيع دفاعا.
حتى إذا سمعت مدلين صوت تكسير عظامه تحت أنياب هذه الذئاب الضارية، اضمحلت قواها ولم تعد تستطيع الرجوع وقالت ويلاه لقد فرغت منه وستبدأ بي.
9
عندما وصلت مدلين مع بطرس والعجوز إلى فندق سيوا دخل في بترهوف رجلان، وهما الفيكونت كارل دي مورليكس، ورجل آخر من فرسوفوا يدعى هرتمن كان من أخص الذين عاونوا كارل على قتل أخته والدة أنطوانيت ومدلين، وهو الذي كان يطاردها في كل بلد ذهبت إليه فلم يفلح في قتلها، ولكن كارل كان يعتمد كل الاعتماد عليه في شئونه السرية.
ولما فرغ من أمر أنطوانيت وحسب نفسه أنه قتلها أراد أن يتفرغ لمدلين، فذكر عامله القديم وجاء إلى بلاده، حتى إذا أطلعه على حقيقة قصده واتفق معه على اختطاف مدلين من قصر الكونت بونتيف، سافر وإياه قاصدين موسكو، فبلغا بترهوف عند هجوم الليل في الساعة التي وصلت بها مدلين إلى فندق سيوا.
وقد أراد كارل استئناف السفر فمنعه هوتمن، وحذره من السفر ليلا؛ لكثرة الذئاب في تلك الغابة التي تمر بها، فأبى الكونت، وأصر على السفر لساعته.
فلم يجد هرتمن بدا من الإذعان، وركب وإياه في تلك المركبة التي كانت مدلين ترى مصابيحها تدنو منها وهي واقفة في ذلك الموقف الرهيب أمام الذئاب.
وانطلقت بهما المركبة من بترهوف، وهي لا تبعد غير مرحلتين عن فندق سيوا، فلما بلغت بهما المركبة إلى تلك الغابة الكثيفة صاح السائق يقول: هو ذا الذئاب مقبلة بأجمعها.
فنظر كارل فرأى أشباحا سوداء تتراكض خفافا على جانبي المركبة، فأخذ بندقيته وحاول أن يطلق النار، فأمسك هوتمن يده، وقال له: إياك أن تفعل.
وأطلق السائق العنان للجياد، فمرقت بين الذئاب مروق السهم، فكانت الذئاب تطاردها ولكنها لا تجسر أن تهجم عليها حذرا من نور المصابيح، فكانت تسير في أثرها محاذية لآخر حد تبلغ إليه الأشعة، وكان السائق يلتفت من حين إلى حين إلى الكونت ويحذره إطلاق النار.
غير أن الذئاب زادت في جرأتها، وتجاسر أحدها على الدخول في منطقة النور، فجعل كارل ينظر إليه بإعجاب، ثم هاجت به عاطفة الصيد؛ فلم يحفل برفيقه وإنذار السائق، وأطلق النار من بندقيته على الذئاب؛ فسقط الذئب ميتا على الثلج، وجمحت الجياد منذعرة، وجعل هرتمن والسائق يقذفان الشتائم، أما الذئاب فقد شغلت عن المركبة إلى حين، وأقبلت على رفيقها تنهشه بأنيابها، ولكن ذئبا واحدا لا يشبع قطيعا من الذئاب.
وظلت المركبة تجري والذئاب في أثرها، وقد زادت جرأتها ولم تعد تحفل بالأشعة، وكلما قتل كارل أو رفيقه ذئبا توقفت الذئاب هنيهة إلى أن تأكله ثم تعود إلى شأنها في مطاردة المركبة.
أما مدلين؛ فإنها لبثت واقفة تنظر تلك الوحوش الكاسرة تفترس القوزاقي، وتنتظر أن يجيء دورها، وقد ساد السكون في تلك الغابة المقفرة؛ فلم تكن تسمع غير قرقعة عظام ذلك المسكين تحت أنياب الوحوش، وأجراس تلك المركبة القادمة إليها، فإنها كانت تدنو منها بسرعة كثيرة، فلا تجسر أن تستغيث حذرا من تنبيه الذئاب حتى مرت المركبة بها مسرعة، فلم تتمالك عن الصياح، غير أن المركبة لم تقف، واستمرت في سيرها.
ولما سمعت الذئاب صوتها أقبلت عليها، فوقفت مدلين تحدق بها تحديقا كان يهولها؛ فلا تجسر على الهجوم، ثم صاحت مستغيثة صيحة يأس رن صداها في جوانب ذلك الفضاء، ونظرت إلى تلك المركبة فرأتها وقد رجعت إليها، ثم شعرت أن يدا قوية قد انتشلتها ووضعتها في المركبة، وكان هذا آخر عهدها بتلك المناظر الهائلة، وجهد ما تحملته قواها، فسقطت بين كارل وهرتمن لا تعي وقد أغمي عليها.
ولبث كارل وهرتمن يطلقان النار على تلك الذئاب الضارية، حتى تكاثرت عليهما، ونفذ ما عندهما من الذخيرة؛ فأيقنا بالموت.
وفيما هما حائران يتوقعان العراك بأيديهما؛ إذ قال السائق لهرتمن: لا تخشيا فقد دنونا من فندق سيوا، فانزع المصباح، وألقه بين الذئاب يتفرق شملها.
فامتثل هرتمن، وما لبث أن رماها بذلك المصباح ورأت أشعته المتلألئة تتدفق على ذلك الجليد حتى تفرقت منذعرة، ثم جمعت شملها وعادت إلى المطاردة، ولكن المركبة كانت وصلت إلى الفندق وأمنت كل شر.
10
ولندع الآن مدلين هنيهة بقبضة كارل، ولنذهب بالقارئ إلى قرية قريبة من فندق سيوا تدعى سنيديانكا، وهي قرية أصبحت تاريخية لإقامة نابليون ليلة فيها قبل عبوره نهر البريزينا، فإنه في نفس الليلة التي التقى فيها كارل بمدلين كان جمهور عظيم من الناس مجتمعين قرب فندق القرية للفرجة على فلاح محكوم عليه بالجلد.
وكان في هذا الفندق رجل ألماني وامرأته، فانذهلا لاحتشاد الناس، وسألا صاحب الفندق عن السبب، فأخبرهما، ولم يكن هذان الغريبان غير روكامبول وفاندا، وقد تنكر روكامبول بزي الألمان.
وجعل روكامبول يستقصي من صاحب الفندق عن تلك العادات الروسية، فعلم أن الفلاحين الروسيين عبيد لأسيادهم، يتصرفون بهم تصرفهم بالسلع، وذلك قبل أن يصدر أمر الإمبراطور إسكندر الثاني بإلغاء العبودية، ومما علم منه: أن هذا الفلاح - المحكوم عليه بالجلد - يشتغل في أراضي الكونت بونتيف، وأن الذي يصدر هذه الأوامر وكيله، وهو رجل عات شرير تتري يدعى نقولا أرسوف.
وفيما هم يتحدثون وقد وقفت الجنود حول المحكوم عليه؛ إذ أقبلت مركبة تجرها الجياد وفيها هذا الوكيل، فخف الناس لاستقباله، ووقف الفلاحون أمامه فوقف العبيد، فأصدر أمره بجلد المحكوم عليه، وصعد إلى الفندق بأبهة وإجلال، فكان الخدم يتسابقون إلى الامتثال لأوامره.
ووقف الوكيل في المشرف المطل على ساحة الحكم، وكان واقفا بإزائه روكامبول وفاندا ينظران إلى جلد هذا الفلاح المنكود وقلباهما يتقطعان من الإشفاق، خلافا لنقولا أرسوف؛ فإنه شغل عن ضحيته بالنظر إلى فاندا، وقد أعجب بجمالها غاية الإعجاب.
ولما فرغ الجلاد من جلد هذا المسكين، وتمت تلاوة الرواية الفظيعة نادى وكيل صاحب الفندق، وقال: من هذه المرأة؟ - هي زوجة هذا الألماني. - إذن، قل لهما: إني أدعوهما إلى التشرف بمناولة الطعام على مائدتي.
ولم يسع صاحب الفندق إلا الامتثال، وأبلغ روكامبول أوامره، فابتسم روكامبول وأجابه بالقبول.
وبعد ساعة كان روكامبول وفاندا وهذا التتري جالسين حول مائدة وضعت عليها أصناف الشراب والطعام، فأخذ نقولا كيسا من الجلد فأخرج منه كتابا عليه كثير من الطوابع فقرأه بإمعان، وهو يتشاغل به عن ضيفيه، ثم أخرج كتابا آخر وقرأه وأعاد الكتابين إلى الكيس وانعكف على الشراب.
وغمز روكامبول فاندا، فجعلت تسقي هذا الوكيل بيدها وتجامله خير مجاملة، ففتن بها وسألها إلى أين ذاهبة مع زوجك. - إلى موسكو لحضور الميلاد. - إن زمن هذا الاحتفال لم يحن بعد، فهلا ذهبت معي إلى قصري فأقمت أسبوعا في ضيافتي ثم تذهبين إلى موسكو. - إذا شاء زوجي بالذهاب إلى قصرك قبلت دعوتك بالشكر الجزيل.
وكان روكامبول متشاغلا عنهما، فلما عرضت عليه فاندا دعوة التتري أظهر سرورا عظيما، وقال: حبا وكرامة، فإن لنا بذلك غايتين عظيمتين؛ إحداهما التشرف بزيارة هذا الرجل العظيم، والثانية أنا إذا كنا بحمايته أمنا الأخطار على ما لدينا من المال، فقد قيل: إن الطريق غير آمنة.
فسر التتري وعاد إلى الشراب، فما زال يشرب، وكلما فرغت كأسه أملتها له فاندا، وروكامبول يحثها على أن تسقيه حتى ضاع رشده، وقام إلى فاندا يريد تقبيلها، فضعف ساقه عن حمله، وسقط صريعا من السكر.
فرفسه روكامبول برجله، وأسرع إلى كيسه، فأخرج منه الرسالتين اللتين قرأهما على المائدة قبل أن يصرعه السكر، وفتحهما فرأى أنهما مكتوبتان باللغة الروسية، ودفعهما إلى فاندا، وقال لها: انظري ما فيهما، فإن قلبي يحدثني أنهما كتبا بشأن مدلين.
وقد صدق ظن روكامبول، فإن أحد الكتابين كان من والد إيفان إلى وكيله التتري يخبره فيه أنه ستمر به فتاة فرنسية تدعى مدلين، ويأمره أن يعد وسائل السفر إلى خارج الحدود الروسية، والكتاب الثاني: من هرتمن يخبره فيه أنه قادم إليه مع الكونت دي مورليكس للمخابرة في شأن يعود عليه بالربح الجزيل، فإن الكونت من أهل الكرم الأغنياء.
ثم فحص روكامبول تاريخ الكتاب الأخير؛ فعلم أن كارل لم يصل بعد، فتنفس الصعداء، وعند ذلك دخل صاحب الفندق، ورأى التري منطرحا على الأرض، فقال: لا تعجبوا؛ فإنه ما أتى مرة إلى فندقي إلا صرعه السكر كما ترون.
فقال روكامبول: ألعل سكره يطول؟ - نعم، فإنه يلبث على هذه الحال عدة ساعات، فيحمل إلى مركبته، ويعود به السائق إلى بترهوف. - إذن، مر بإعداد هذه المركبة، فإننا سنذهب معه فيها، فقد دعانا إلى قصره كما تعلم.
فامتثل صاحب الفندق، وبعد حين نقل التتري إلى المركبة وهو لا يعي لفرط سكره، وركبت فاندا بإزائه، وركب روكامبول جنب السائق، فسارت بهما المركبة إلى بترهوف.
ولما وصلوا إلى هذه القرية التي تبتدئ منها أراضي الكونت بونتيف غيروا جياد المركبة في محطتها، ورأى روكامبول أثر عجلات مركبات فدخل إلى إدارة المحطة، وسأل مديرها عن الذين سافروا في المركبة التي تقدمت، فقال له: إن رجلا فرنسيا سافر بها مساء أمس، ولكن هذا الأثر الذي رأيته ليس من الأمس، بل هو من هذا الصباح، ذلك أن هذا الفرنسي لم يكد يتوسط الغابة حتى هاجمته الذئاب فلجأ إلى فندق سيوا، وقد عاد في هذا الصباح، فقال لي: إنه رجع عن السفر إلى موسكو لما لقيه من أخطار الذئاب.
فقال روكامبول: أهي مخطرة إلى هذا الحد؟ - نعم، فقد افترست أمس جنديا من القوزاق، وأوشكت أن تفترس فتاة فرنسية لو لم ينقذها هذا الفرنسي، ولكنها باتت شبيهة بالمجانين لما تولاها من الرعب، وقد سافرت معه في هذا الصباح بمركبة البريد.
فاكتفى روكامبول بما علمه، وخرج وهو يضطرب اضطرابا شديدا، فصعد إلى جانب السائق، وكانت فاندا مقيمة في المركبة والتتري بإزائها وهو لا يزال صريع سكره، فلما سارت بهما قال روكامبول للسائق: إني أود أن تدرك المركبة التي تقدمتنا في هذا الصباح. - إن هذا صعب علي.
فحشا روكامبول مسدسه أمام السائق وقال له: اختر بين أمرين؛ إما أن تدركها فأعطيك عشرين ريالا، وإما تعجز عن لحاقها فأقتلك بهذا المسدس.
11
قبل هذه الحادثة ببضع ساعات كان كارل عائدا إلى بترهوف من فندق سيوا يصحبه عامله هرتمن ومدلين.
وكانت مدلين جالسة بجانب كارل وهي تنظر إلى ما حواليها نظرات تائهة، وقد بدت عليها أعراض الجنون، فلم تكن تذكر شيئا مما جرى لها.
وكان الرجلان يتحدثان باللغة الألمانية، فقال هرتمن لكارل: أرى أنك أخطأت خطأ شديدا ... - لماذا؟ - ألم تحضر إلى روسيا بغية إخفاء آثار هذه الفتاة، فإذا كان هذا قصدك؛ فكيف أنقذتها من أنياب الذئاب؟ - هو الحق ما تقول، ولكني لو تركتها عرضة للذئاب فافترستها ؛ فأين أجد البرهان الثابت على موتها؟ أما وقد أصبحت في قبضة يدي فسوف أنظر في أمرها. - لقد أصبت أيضا؛ فإن غرضنا أن نقبض عليها ولا بد لنقولا أرسوف أن يساعدنا على إخفاء أثرها من الوجود.
فنظر كارل إلى مدلين وهي منشغلة عنهما بالنظر إلى تلك البراري الشاسعة، وقال إنها بارعة في الجمال.
فابتسم هرتمن حين سمعه يعجب بجمالها وقال: لا يحق لي أن أسديك نصيحة غير أنك إذا أذنت لي فعلت. - قل ما تشاء. - ماذا تبغي من القبض على هذه الفتاة أليس الاحتفاظ بثروتها؟ - دون شك ... - أيوجد غير فتاتين تنازعانك هذه الثروة؟ - كلا ... - ألم تمت إحداهما وهي أنطوانيت؟ - إنها ماتت في السجن. - إذن، لم يبق غير هذه الفتاة التي بقربك الآن؟ - ماذا تعني؟ - أعني أنك إذا تزوجت بها ألا تكون قنعت بجمالها الذي تعجب به، وأبقيت لنفسك ثروتها التي تحافظ عليها؟
فاضطرب كارل وقال: من أنبأك أنه لم يخطر لي هذا الخاطر؟
ثم ساد السكون بينهما حتى وصلت المركبة إلى بترهوف فأبدلت جيادها، وفي خلال ذلك أخبر هرتمن مدير المحطة ما جرى لهم مع الذئاب وإنقاذهم الفتاة الفرنسية.
وهو الحديث الذي نقله المدير إلى روكامبول.
وبعد مرور مركبة كارل بساعة كانت مركبة روكامبول سائرة في أثرها، وقد أوشك السائق أن يطير بها لا لطمعه بالمكافأة، بل لخوفه من القتل، ولما جرت بهم شوطا بعيدا نظر روكامبول إلى التتري، فإذا به لا يزال صريع سكره، فوثب من مكانه بجانب السائق إلى داخل المركبة وقال لفاندا: يجب أن يصحو هذا الأبله.
فهزته فاندا بيدها ففتح إحدى عينيه ثم أغمضها السكر، وعاد إلى ما كان عليه.
فأخرج عند ذلك روكامبول زجاجة فيها أمونياك وأدناها من أنفه، فما لبث أن شمها حتى صحا من سكرته، وفتح عينيه، ونظر إلى ما حواليه، فرأى فاندا تبتسم له، وركامبول يتكلف هيئة البلاهة، فقالت له فاندا: أرأيت كيف أننا قبلنا ضيافتك وجئنا معك إلى قصرك؟
فنظر إليها التتري نظرة إعجاب وقد هام بها، فشكرها شكرا جزيلا، وأخذ يدها غير مكترث يريد تقبيلها، ولكنه ما لبث أن أدناها من فمه حتى رأى مسدس روكامبول مصوبا إلى رأسه وهو يقول له: إذا جسرت على شيء من هذا بعد فإن رصاص هذا المسدس يخترق دماغك.
وكان هذا التتري جبانا، ولكنه كان قد خرج من رق العبودية منذ 20 عاما، وأصبح وكيلا مطلقا يحكم على كثير من العبيد دون أن يجسر أحد من الناس على اعتراضه فيما يفعل، فكبر عليه تهديد روكامبول، وقال له: من أنت أيها الرجل؟ - أنا سيدك ومولاك، بل أنا الذي ينبغي عليك أن تطيعني في كل ما آمرك به.
فنظر إليه نظرة الإنكار، وقال: إني أعرفك سيدا لي، ولا أمتثل لأوامرك.
فانبرت له فاندا عند ذلك، وقالت: إذن، تمتثل لأوامري.
فنظر إليها التتري فرأى أنها استحالت وتلبست بملابس العظمة والكبرياء.
فهاله منظرها، وكأنما قد جالت في خاطره ذكرى قديمة، فجعل ينظر إليها نظرة المتردد في أمره، إلى أن قالت له فاندا: لقد تغيرت عليك ملامحي كثيرا حتى إنك لم تعرفني.
فتلعثم لسانه وقال: أهذا أنت يا سيدتي؟ - نعم. أنسيت أنك قبل أن تكون في خدمة الكونت بونتيف كان لك سيد آخر يدعى البارون شركوف؟ - أأنت هي البارونة شاركوف. - نعم، أنا هي أيها العبد.
فركع التتري أمامها، وجعل يعتذر بكلام منقطع، فقالت له فاندا: اصغ إلي أيها العبد، واستعد لطاعتي. - إني مستعد للامتثال. - إن رجلا فرنسيا يسير الآن إلى قصرك. - أتعرفين هذا؟ - إن الفيكونت كارل دي مورليكس يصحبه رجل من أصحابك. - نعم، وهو هرتمن من فرصوفيا. - وإنك تنتظر قدوم فتاة فرنسية. - نعم، وهي مرشدة السيدة أولغا بونتيف. - إذن، فاعلم أن الفتاة والفيكونت سائران إلى قصرك، وقد تقدمتنا مركبتهما بنحو ساعة، ولكن أتعلم مقاصد هذا الرجل؟ - كلا! - إنه جاء إليك ليستعين بك على قتل الفتاة المسكينة أو تلويث شرفها.
فأطرق التتري برأسه دون أن يجيب، أما فاندا فإنها نظرت إليه نظرة ملؤها الكبرياء، وقالت له: أما وقد عرفت أني البارونة شركوف فاعلم أني لا أريد أن تحدث هذه الجريمة.
وقال له روكامبول: وهي لن تحدث ما زلت أدعى روكامبول.
12
في مساء ذلك اليوم اجتمع في قصر التتري روكامبول وفاندا وكارل وهرتمن ومدلين، وكانت مدلين قد ذهب ما بها، وأوشكت تلك الهموم أن تزول من قلبها لوثوقها من حب إيفان لها بعدما علمت حقيقة الخدعة من بطرس، وقد أمر التتري أن تخصص لها أجمل غرفة في القصر، وتولت فاندا حراستها، فلم تكن تفارقها متذرعة إلى ذلك أمام كارل بعامل الإشفاق، وهي في الحقيقة لا تريد إلا حراستها لخوفها عليها من أعدائها.
ولم يكن لكارل أقل شبهة في روكامبول لمبالغته في التنكر، فكان يحسب أنه ألماني وأن فاندا زوجته، لأنه لم يكن رآها من قبل، خلافا لعامله هرتمن؛ فقد ارتاب بأمر هذين الزوجين، وكان التتري حليفه وشريكه في الآثام كما تقدم، فلم يمض على إقامتهم في هذا القصر يومان حتى علم كل فريق حقيقة حال الآخر، فعلمت فاندا أن كارل يهوى مدلين، وعلم هرتمن من التتري أن فاندا هي امرأة البارون شركوف سيده القديم، وأن الرجل الذي يصحبها يدعى روكامبول.
وكان التتري يهوى فاندا ويخشاها، وقد لقي من احتقارها ما دفعه إلى الانتقام منها، فباح لصديقه هرتمن بحقيقة أمره عله يساعده برأي يجد فيه سبيلا إلى بلوغ مأربه منها.
ولما علم كارل من هرتمن حقيقة الأمر اضطرب فؤاده، ولكنه بقي مترددا في تصديقها، إذ لم يخطر في باله أن روكامبول يستطيع المبالغة إلى هذا الحد، وأن يتعقبه إلى هذه البلاد، ولكنه بقي مضطرب الخاطر، ونام تلك الليلة ويده على مسدسه.
وفي صباح اليوم التالي جاء بريدان؛ أحدهما للتري، والآخر للفيكونت كارل دي مورليكس، فصعد الخادم برسائل كارل إليه، فأخذ كارل رسالة منها عليها كثير من الطوابع، فأجفل حين رأى الخط، إذ عرف أنه خط تيميلون، وقال فيه نفسه: ألعل أخي لم يدفع له الخمسين ألف فرنك فأرسل يطالبني بها؟ ثم أسرع إلى فض الرسالة وقرأ فيها ما يأتي:
سيدي الفيكونت
ربما لا نلتقي إلى آخر العمر، فإني مسافر بعد ساعة إلى أميركا حذرا من روكامبول، وقد قبضت من أخيك البارون المال الذي اتفقنا عليه، وهو يكفيني مع ما كان عندي للعيش في العالم الجديد.
وإنما أنا هارب من روكامبول لاعتقادي أنه قد تغلب علينا، فإني حضرت جنازة أنطوانيت ورأيتها جثة هامدة في التابوت، ولكني أعتقد أنها لم تمت.
وبعد يومين من حادثة سجن سانت لازار كنت عبدا لروكامبول، فإن ابنتي كانت رهينة عنده، ولم يردها إلي إلا في الليلة التالية لدفن أنطوانيت.
ثم إن هذا الداهية وضع محفظته المسروقة في منزلي، ودفع البوليس إلى كبس منزله، فوجد المحفظة، وأصبحت أنا السارق، فلم أجد بدا من الفرار، ولكني إذا كنت لا أستطيع أن أنتقم من روكامبول بيدي فلا بد لي من الانتقام منه بواسطتك، فاعلم الآن أن أنطوانيت لم تكن ميتة حين دفنت، بل كانت مخدرة، فأخرجت بعد دفنها من النعش، أما ابن أخيك أجينور، فقد عاد إلى باريس، وهو له علاقة مع روكامبول.
ثم اعلم أننا حين طوقنا منزله ضحك علينا كما يضحك على الأطفال، وفر من ذلك المنزل من نفق تحت الأرض يتصل بالمقبرة.
وآخر ما أقوله عن روكامبول: إنه له شريكة تدعى فاندا، وقد كانت تدعى من قبل البارونة شركوف، وهي من أشد النساء خطورة، وقد اتهمتها الحكومة الروسية مرة بالمؤامرة مع البولونيين العصاة، ولا يزال البوليس يبحث عنها إلى الآن، فكن على حذر، وأرشد السفارة الروسية إليها كي تتخلص منها، فإنها خطر شديد عليك.
هذا ما أكتبه إليك، وأرجو أن تكون قيمة هذه الإفادات تعادل قيمة ما قبضته منك دون استحقاق أجرة عن قتلي لأنطوانيت؛ لأنها لم تمت.
تيميلون
فاضطرب كارل اضطرابا شديدا حين قراءة هذا الكتاب، ولكنه كان شديد العزم، قوي الإرادة، فعول على دخول المعركة مع روكامبول.
أما بريد نقولا أرسوف التتري؛ فقد كان بين رسائله رسالة من الحاكم العسكري في تلك المقاطعة يطلب إليه فيها أن يرسل 3 من الفلاحين عنده أصابتهم القرعة العسكرية، وأن يسرع بإرسالهم مخفورين.
وبعد ساعة اجتمع به كارل في القاعة العمومية، فرأى عليه ملامح الاضطراب، فسأله عن شأنه، فأجابه أن الحكومة طلبت إلي إرسال ثلاثة من الفلاحين، ولا أعلم من أختار، وقد وقع اختياري على اثنين؛ أحدهما الذي أمرت بجلده أمس، والآخر رجل سكير لا ينفعني بشيء والقيصر أولى به مني، ولا أعلم: أين أجد الثالث؟
فاضطرب كارل وقد خطر له خاطر هائل: أتقبل مني نصيحة؟ - قل. - ألعلك لا تزال تهوى امرأة هذا الألماني؟
فارتعش التتري وأجاب: لماذا تسألني هذا السؤال؟ - ذلك لأنه حلت فرصة مناسبة للتخلص من زوجها.
وانذهل التتري من هذا الفكر الغريب، وجعل كل من الاثنين ينظر إلى الآخر نظر لصين سيتفقان على جريمة هائلة.
ثم ساد السكون بينهما هنيهة، إلى أن افتتح كارل الحديث؛ فقال: لماذا هذا التردد ... ألا تحب امرأة هذا الرجل؟ - لم يعد حبي لها سرا من الأسرار. - ولكنك تخشاها لأنها امرأة مولاك السابق، ثم إنك تخشاها لشدة حذرك من الرجل الذي يصحبها. - الحق يقال: إنه رجل مخيف. - إذن، فلماذا لا تسرع إلى إرساله للخدمة في جيش القيصر بدلا من أحد الفلاحين الذين أصابتهم القرعة؟ - ذلك لأن المندوب الذي يرسله الحاكم العسكري لا ينخدع به، ولا يمكن أن يحسبه فلاحا، فإنه يصرح باسمه وينقضي كل إشكال. - إنك منخدع، لأن هذا الرجل لا يجسر على التصريح باسمه، بل هو يؤثر ألف مرة أن يكون جنديا في جيش القيصر على أن يذكر اسمه أمام الناس.
فقال التتري بلهجة المشكك: أحقا ما تقول؟ - ليس هذا كل شيء، بل إن تلك المرأة التي تخشاها لا يزال يبحث عنها البوليس السري إلى الآن.
ثم أطلعه على الفقرة التي تقدم ذكرها في كتاب تيميلون بشأن فاندا، فانتعش فؤاد التتري وقال: ما زال الأمر كذلك، فقد أصبحت تلك المرأة في قبضتي، لأني أدرى الناس بأهمية تهمة المؤامرات في الحكومة الروسية. - ولكنها لا تكون إلا إذا تخلصت من الرجل الذي يصحبها. - إذا صح ما تقول وكان يؤثر التجند على الإباحة فإن أمره مقضي. - نعم، ولكن ...
وظهرت على كارل علائم التردد ثم قال: إنك تحب فاندا ، وأنا أحب هذه الفتاة المريضة، فإذا أعنتني فيما أريد أعنتك أنا أيضا على بلوغ قصدك، إذ لا يمكن التسلط على مثل هذا الرجل الذي يدعونه روكامبول دون خطر شديد. - لدي من المسدسات ما يكفي ... - ولكن هذا الرجل لا تغني معه المسدسات، وإذا علم بشيء من مقاصدنا عبث بنا.
ففكر التتري هنيهة، ثم قال: لدي طريقة أغل بها يديه عدة ساعات. اصغ إلي: عندما نريد إخضاع فلاح عصي علينا، أو خشينا منه المقاومة، نضع معه من يخونه في منزله؛ فيضع هذا الرجل في شرابه أو طعامه شيئا من الأفيون.
فابتسم كارل وقال: إن هذه الأمور لا تجوز على روكامبول، ولا أحسب أن الأفيون يؤثر عليه. - إن الأفيون يؤثر على أشد الناس بنية، فيصعقه ويصيبه بالبلاهة عدة ساعات، بل عدة أيام حسب القدر الذي يشربه. - إني لا أعرف جميع هذه الحقائق، ولكني لا أدري كيف تدس له الأفيون في طعامه أو في شرابه؛ لأنه شديد الحذر. - إذا تعذر دسه في الطعام والشراب، فلا يتعذر دسه في السيكار التي يشربها، وقد رأيت أنه يخرج كل مساء بعد العشاء ست سكاير من علبة ويشربها بجملتها، وهو الآن قد خرج للصيد حسب عادته، فهلم معي إلى غرفته لترى ماذا أفعل.
ثم تركه هنيهة وعاد بعد حين بالأفيون ودخلا سوية غرفة روكامبول وفتحا صندوق السكاير، فجعل التتري يضع الأفيون في كل واحدة منها، حتى أتى على آخرها فرتبها حسب وضعها القديم، ثم خرج مع كارل وهو يقول: لقد قضي عليه، إذ لا بد له من شرب السكاير وإرساله إلى حاكم ستيديانكا.
13
قبل أن يضع التتري الأفيون في سكاير روكامبول خلا روكامبول بفاندا، وقال لها: لقد أدهشتك كيف إني لم أقتل كارل وأنا قادر على قتله، ولكن إذا قتلته فمن يرد لنا ثروة الأختين؟ - لقد أصبت، ولكني لا أعلم إلى الآن لماذا أتينا إلى هنا؟ - لإنقاذ مدلين. - كيف تستطيع إنقاذها إذا لم تتخلص من كارل؟ - اصغي إلي أتظنين مدلين تستطيع السفر؟ - إنها لا تزال ضعيفة ولكنها قوية الإرادة. - وهي لا تعلم من نحن إلى الآن أليس كذلك؟ - نعم، فإنها تحسب أن الأقدار أوصلتني إليها للعناية بها. - إذن، أخبريها بعزمنا فقد آن الأوان. - أتظن أنها تصدقني؟ - لا بد لها من تصديقك متى تكلمت معها عن ميلون وعرضت عليها كتاب أنطوانيت أختها، ويجب أن تخبريها الآن بكل شيء؛ لأننا سنسافر بها في المساء، وقد اتخذت جميع الاحتياطات، واتفقت مع هذا الفلاح الذي أمر التتري بجلده على الفرار مع امرأته، وهو سيوافينا بمركبة عند انتصاف الليل، فسنسافر كلنا بمدلين، فأخبريها بكل شيء واستعدوا.
ثم تركها ومضى إلى ذلك الفلاح، وأخبره أن الفرار قد تقرر في منتصف الليل، وبعد أن استوثق منه، وأعطاه التعليمات اللازمة، تركه وعاد إلى القصر.
أما فاندا؛ فإنها أخبرت مدلين بالحقيقة، وأطلعتها على كتاب أختها أنطوانيت، ففرحت فرحا شديدا، وعلمت شدة موقفها، ووافقت فاندا على الفرار، وقد ردت إليها العافية بهذا الخبر السار.
ولما اجتمعت فاندا بروكامبول عند المساء أخبرته بما كان فقال لها: تأهبي وموعدنا منتصف الليل.
ثم خلا بنفسه وجعل يدخن تلك السكاير التي دس فيها الأفيون.
وعند منتصف الليل كانت مركبة الفلاح واقفة خارج القصر، ومدلين متأهبة للرحيل، وفاندا تنتظر قدوم روكامبول؛ ولما رأته تأخر عن ميعاده ذهبت إلى غرفته، وكان بابها لا يزال مفتوحا، فدخلت ورأت روكامبول جالسا في كرسيه وهو نائم، فدنت منه ونادته باسمه بصوت منخفض فلم يرد عليها، فهزته هزا عنيفا فاستيقظ، ولكنه لم يبرح مكانه وجعل يقول: دعوني أنام!
فقالت له فاندا: قم ألا تزال حالما؟ - اذهبي لحاك الله!
وقام ومشى خطوتين، وهو يترنح كالسكارى، ويقول: لقد أصاب غوليلو بقوله إن الأرض التي تدور لا الشمس، لأني أشعر أنها تدور تحت قدمي، ثم جعل يضحك ضحك البلاهة.
فارتاعت فاندا، وقالت: رباه إنه سكران!
أما روكامبول فإنه عاد إلى الكرسي وجلس عليه وهو ينظر نظرات جامدة إلى فاندا، ثم ابتسم لها، وقال: من أنت أيتها الحسناء؟ فإنك بارعة في جمالك، ولكني ما رأيتك قبل الآن.
فصاحت فاندا صيحة يأس وقالت : رباه! ماذا أصابه ؟ إنه أصبح لا يعرفني.
ولكن روكامبول لم يكترث لها، بل جعل يضحك ضحك المجانين، ويقول: إنهم يتوهمون أني روكامبول، ولا شك أن الوهم قد أضاع رشدهم، وإذا أردت أن تعرفي أين هو روكامبول فاذهبي إلى سجن طولون، فإنه يدعى فيه مائة وسبعة عشر.
فصاحت به فاندا، تقول: اسكت سوف تفضحنا.
ثم أخذت يده تريد الخروج فانتزع يده وقال لها: تبا لك من شقية خائنة فإنك أنت التي قلت: إني أدعى روكامبول.
ثم تغيرت سحنته وهاج غضبه، وحاول أن يضربها، ولكنه تراجع، وقال: إني أعلم أنك تبتغين أن تعرفي من أنا، فإذا كان هذا قصدك فاعلمي أن أدعى الماجور أفاتار، وقد حاربت مع الجيش الفرنسي في حصار سباستبول.
وضاع رشد فاندا وقالت: ويحك أجننت؟
وكأنما هذه الإهانة قد هاجت روكامبول، فهجم عليها يريد أن يقتلها، ولكنه تراجع وقال: ويح لي أأكون الماجور أفاتار وأقتل امرأة؟
ثم جعل يبكي بكاء شديدا كبكاء الأطفال.
وفيما هي على ذلك سمعت فاندا وقع أقدام على السلم، ثم رأت الفيكونت كارل دي مورليكس داخلا إلى الغرفة بملابس النوم وبيده مصباح ووراءه مدلين وهرتمن وبعض الخدم.
فلما رآهم روكامبول مسح دموعه فتأملت فاندا أن يصحو من سكره الغريب حين يرى هذه الجموع.
ولكن روكامبول عاد إلى غضبه فوقف مشيرا بيده إلى فاندا، وقال: أترون هذه المرأة إنها علة شقائي وهي التي قادتني إلى الهاوية.
ثم وضع يده على لحيته المستعارة فانتزعها، وجعل يخلع ثيابه ويلقي بها ساخطا إلى الأرض.
فقطب كارل حاجبيه، واصفر وجه فاندا، وساد السكوت على جميع الحاضرين.
أما روكامبول فإنه بعدما خلع معظم ثيابه انطرح على مقعد طويل، وقال: ليقتلوني كما يشاءون ... إني مستعد وأعلم أني أستحق الموت.
فقال كارل: إنه مجنون.
وقالت فاندا: بل هو سكران.
وعند ذلك دخل نقولا أرسوف التتري، ولم يكن قد سكر تلك الليلة خلافا لعادته منذ 20 عاما.
ودخل في أثره 6 رجال بالملابس العسكرية فتظاهر التتري أنه لم ير فاندا، والتفت إلى رئيس أولئك الجنود، وقال له: هذا هو الرجل الذي قلت لك عنه.
وأشار إلى روكامبول وإلى لحيته المستعارة الملقاة على الأرض، ثم قال: إن هذا الرجل من عبيدنا، ولد في أرضنا، وهو يدعى جريجوار فرلوف، وقد هرب من عندنا وهو في مقتبل الشباب، وسافر إلى ألمانيا.
فصاحت فاندا تقول: لا تصغ إلى هذا الرجل فهو من الكاذبين.
ثم مشت إلى التتري وقالت له بلهجة الوعيد: إنك كاذب.
فلم يحفل بها التتري وقال لرئيس الجند: لا تصدقها فيما تقول؛ لأنها شريكة لهذا الشقي، وهو يطمع أن ينجو بتمثيله دور الجنون.
أما روكامبول فإنه لما رأى الجنود أمامه قال: لقد عرفت السبب بقدومكم إنكم قادمون لقتلي، نعم، إني أستحق الموت لانضمامي إلى الأعداء، افعلوا بي ما تشاءون.
ثم تقدم وانخرط بينهم.
فصاحت فاندا: ألا ترون أن هذا المسكين مصاب بالجنون؟
ولكن روكامبول لم يرض أن يتهم هذه التهمة، فقال: لا تصدقوا هذه المرأة، لأنها سبب شقائي وما أنا بمجنون.
فاضطربت فاندا ورفعت يدها فوق التتري وقالت: أيها العبد الذميم إذا لم تقل الحقيقة سحقتك مثل الزجاج.
فتراجع التتري خائفا ووقف حائرا لا يعلم ماذا يفعل، فقالت له فاندا: اركع أيها الوقح واعترف بالحقيقة.
وكان جميع الحاضرين قد اضطربوا حتى الجنود، لما رأوه من نظرات فاندا الملتهبة، وخشي كارل أن تضغط نظراتها على التتري فتحمله على الإقرار، فتداخل في الأمر، وقال لرئيس الجنود: أتعلم من هي هذه المرأة التي تتكلم بهذه اللهجة؟
فقالت بعظمة: إني البارونة شركوف.
فأجاب كارل: نعم ولكن البارونة شركوف جاسوسة بولونية، والبوليس مجد في البحث عنها.
فصاحت فاندا صيحة منكرة ونظرت إلى روكامبول نظرة يأس.
14
أما الضابط فإنه لم يحفل بهذه الوشاية، وقال لكارل: إني ما أتيت لمثل هذا، بل أنا قادم لأخذ الجنود الثلاثة.
فقال كارل: ولكني أشير عليك بالقبض عليها من باب النصيحة؛ لأن الحكومة عينت جائزة ألف ريال لمن يعثر بها.
فتغيرت ملامح الضابط وظهر عليه الطمع، وقال: لا بد للبارونة من أن تسير معنا إلى الحاكم العسكري.
ورأى التتري أن الأمر جاء على غير مرامه، وخشي أن تفلت فاندا منه، فقال للضابط: إذا صحت هذه الوشاية فإن السيدة موجودة في قصري، ولي الحق بنصف الجائزة، ولكني أتنازل لك عن حقي وأبقي المرأة عندي بحيث أكون مسئولا عنها إلى أن تتحقق جنايتها، فإذا ثبتت سلمتها للحكومة وكانت الجائزة كلها لك.
فرضي الضابط بالشرط، وقال: بقي علينا الآن أن نأخذ الفلاحين الثلاثة، فإني لا أجد منهم غير هذا الرجل. - إن ثانيهما عندي وقد ذهب الخدم يبحثون عن الثالث.
ولم يكد يتم حديثه حتى دخل الخدم يقودون ذلك الفلاح الذي وافق روكامبول على الهرب، وقد وجدوه في المركبة مع زوجته تحت نافذة مدلين، فأمر الضابط عند ذلك بالقبض على المزارعين، وعلى روكامبول، وسار بهم الجنود، فشيعهم التتري حتى تواروا عن الأبصار.
ولبثت فاندا واقفة مع كارل وهي توشك أن تجن من يأسها، فقال لها كارل ضاحكا: لقد كان النصر في هذه المرة لي يا سيدتي، أليس كذلك؟
فلم تجبه فاندا، فقال لها: ولكنك إذا أردت أن نتفق، كان اتفاقنا ميسورا! - ماذا تريد بذلك؟ - أريد أن أطلق لك السراح، بشرط أن لا تتداخلي بعد ذلك في شئوني.
فنظرت إليه بأنفة وكبرياء ولم تجبه بحرف، ثم خرجت من الغرفة، وركضت مسرعة إلى غرفة مدلين، وأقفلت بابها من الداخل، وقالت لها والرعب باد في وجهها: هلمي بنا إلى الهرب قبل أن يقضى علينا. - وركامبول؟ - لا أعلم ما جرى له، فقد أصيب بالجنون.
ثم حكت لها بإيجاز جميع ما مر، وقالت: إن الحبل لا يزال معلقا في النافذة وسنتدلى به؛ فإما نسلم ونبلغ إلى محل أمين، وإما تفترسنا الذئاب وهو خير لنا من الوقوع في قبضة هذين الأثيمين.
فوافقتها مدلين وهي تضطرب اضطراب الريشة في مهب الريح، وأقبلت فاندا إلى النافذة واعتصمت بالحبل وتدلت، ولكنها قبل أن تبلغ إلى منتصف الجدار رأت خيالين يسترهما الظلام، فحدقت بهما فرأت أنهما رجلان فذعرت؛ لأنها أيقنت أن كارل قد وضعهما في ذلك المكان حذرا من فرارها بمدلين، وعادت فصعدت إلى الغرفة واليأس ملء قلبها، وأخبرت مدلين بما رأته قائلة لها: لم يبق لنا رجاء إلا بالدفاع حتى الموت.
ثم وضعت جميع أثاث الغرفة أمام الباب وأخرجت خنجرا من صدرها، وقالت لمدلين: إنهم لن يصلوا إليك وبي رمق من الحياة.
وذرفت الدموع من عيني مدلين، وقالت: إن الله من ورائنا، غير أني أتوسل إليك أن تقتليني بخنجرك متى يئست من إنقاذي.
وبعد حين طرق باب الغرفة طرقا عنيفا، فوقفت فاندا وراء الباب في موقف الدفاع، ووقفت مدلين من ورائها، ولما يأس الذين يطرقون الباب من فتحه كسروه، فتبعثر الأثاث المكدس أمامه، ودخل الغرفة خلق كثير يتقدمهم كارل، فانقضت عليه بخنجرها وطعنته طعنتين أصابتا ذراعه، وحاولت أن تجهز عليه، ولكنها شعرت بيد من حديد قبضت على كتفها وألقتها إلى إلأرض، وكان الذي ألقاها إلى الأرض هو هرتمن عامل كارل، وركع فوق صدرها واستعان بالخدم على تقييد يديها ورجليها، وكل ذلك والتتري واقف خارج الغرفة لا يجسر على الدخول، ولما رأى ما كان من تقييد فاندا سر سرورا وحشيا لا يوصف.
أما كارل فإنه ألقاها في زاوية من الغرفة والدم يسيل من يدها، وقال للتتري: أرجو أن تنتقم لي من تلك المرأة بعد سفري.
أما مدلين فإنها سقطت على الأرض من الرعب، ولما رأت ما حل بفاندا، ويئست من النجاة سقطت مغميا عليها، فأمر كارل هرتمن أن يحملها إلى المركبة التي كانت معدة للسفر خارج القصر، فامتثل هرتمن وخرج كارل في أثره فوضع مدلين في المركبة وغطاها كارل بثوب كبير من الفرو وجلس بإزائها، ثم صعد هرتمن إلى مكانه أمام السائق، وسارت بهم المركبة تقطع تلك الفلوات الشاسعة ومدلين لا تعي على شيء.
وظلت تسير بهم حتى بلغت إلى تلك الغابة التي اجتازها كارل منذ أربعة أيام، وكارل يتفرس بها مندهشا بجمالها، وهي مغمي عليها إلى أن افتتح هرتمن الحديث قائلا: ألا تزال تحبها؟ - بل، لا أزال عازما على الزواج بها. - ولكنك مخطئ لسببين؛ الأول: أن أنطوانيت لم تمت كما كنا نحسب من قبل، والثاني : أنها تحب إيفان. - وماذا يهمني ذلك؟ - أتريد برهانا ثالثا؟ إذن، اسمع: إن مدلين لم توافق فاندا على الهرب إلا بعد أن علمت منها جميع أمرك، فهي تحتقرك وتكرهك ولا يعقل أن ترضى بك زوجا لها، على أنك إذا شئت أن تعمل بنصيحتي لنجوت من جميع المتاعب. - وما هي نصيحتك؟ - هي أن ترد للذئاب ما سلبته منها، وها هي محدقة بنا كما تراها، فارم إليها بالفتاة واخلص من المتاعب. - اسكت أيها الشقي؛ لأن هذا الخاطر الهائل لا يخطر في بال إنسان؟ - ولكنك مضطر إليه، وإذا لم تلقها فاتتك الفرصة ولا يبقى أثر للذئاب، وإذا كنت تشفق عليها، فأنا أتولى عنك الجريمة.
ثم هم أن ينزل إلى داخل المركبة ويلقيها فاعترضه كارل وقال له: مكانك أيها التعس ألا ترى جمالها الذي يدهش الأبصار؟ - نعم، ولكني أرى أيضا ما يكتنف حبك لها من الأخطار، فدع تلك الأوهام، وانتصح بما قلته لك، فهو خير لك وأبقى، وهب أن الذئاب افترستها منذ 4 أيام قبل أن تخلصها، وليس حبك لها غير عرض يزول كما جاء في حين قصير.
وما زال به حتى رأى من ملامحه أنه قد اقتنع فنظر حواليه، فإذا الذئاب لا تزال تطارد المركبة، وهي تخشى النور، ونزل إلى داخل المركبة وحاول أن يطرح مدلين وهي مغمى عليها إلى تلك الذئاب الضارية، فهال كارل ما رآه من شناعة تلك الجريمة وقال له: عد إلى مكانك، ودعني أقتلها على الأقل قبل أن ألقيها كي لا تفترسها الذئاب وهي في قيد الحياة، ثم أخذ المسدس من جيبه وصوبه إلى صدغها.
وأوشك أن يطلق النار على تلك الفتاة التي لم تتجاوز بعد عشرين عاما بحيث قضي عليها القضاء المبرم ولا ينقذها من الموت غير أعجوبة من عجائب الله، وقد جرت الأعجوبة، فإنه قبل أن يطلق النار عليها صحت من إغمائها وفتحت عينيها، فأرجع كارل يده، وجعل ينظر إليها وهو يضطرب.
أما مدلين فإنها أدركت لأول وهلة صعوبة موقفها فنظرت إلى كارل نظر المتوسل، وقالت له: رحماك أشفق علي!
فارتعش كارل حين سمع توسلها، وخاف هرتمن أن يرجع عن قصده، فجعل يحمسه باللغة الألمانية ويدعوه إلى قتلها، ولكن مدلين كانت تتغلب عليه بتوسلها وظواهر انكسارها إلى أن طال الحديث بينهما، فقالت له: إني أعرف يا سيدي من أنت؟ إنك أخو أمي، وإنك تريد قتلي وقتل أختي كي لا ترد لنا ثروتنا، ولكني أقسم لك بالله إذا أشفقت علي فإني وأختي لا نطالبك بشيء، ولا نذكر اسم أمنا مدى الحياة، ونعيش من أشغال يدنا بملء الطهارة والشرف.
فقاطعها كارل قائلا: إذا فعلت ما تريدين أتتزوجين بي؟
فصاحت صيحة ذعر وجعلت تنظر إليه مروعة مضطربة. - لا تنظري إلي هذه النظرات، إني أريد أن تكوني امرأتي.
فتراجعت إلى آخر المركبة، وقالت: كلا إن هذا لا يكون. - بل يكون، وسأرجع ثروتك وثروة أختك. - إن يدك لا تزال ملطخة بدم أمي فاقتلني.
وصاح به هرتمن يقول: أسرع يا سيدي لأن الذئاب سترجع، لأننا قربنا من المحطة.
وتحمس كارل وحاول أن يطلق عليها المسدس ولكنه رجع، وقال: كلا لقد عزمت على أن تكوني لي، ولا بد لي أن أنال منك ما أريد. - قلت لك: ذلك لا يكون، افعل بي ما تشاء لقد سئمت الحياة.
ودنا منها وحاول تقبيلها فدفعته عنها بعنف شديد حتى أوشك أن يسقط على قفاه فارتد إليها قائلا: لا بد أن تكوني لي كيفما اتفق. - اقتلني أيها الفاجر السفاك فهذا خير لي.
فتمكن منه الغضب وقال: سأقتلك كما تشائين.
ثم أخذ مسدسه وهم أن يطلقه عليها، ولكن هرتمن صاح به قائلا: قف لقد فات الأوان، وقد بلغنا المحطة.
فتوقف كارل عن قتلها وبعد دقيقة وقفت المركبة عند منزل صغير، وهو إحدى المحطات في تلك الغابة الكثيفة فغيروا الجياد والسائق.
أما مدلين؛ فكان لا يزال لها بقية رجاء برحمة هذا الضاري، فلبثت ساكنة ساكتة والدموع تنهمر من عينيها.
وخلا كارل بهرتمن فسأله: إن المركبة ستسير بنا فينبغي أن تعزم عزما أكيدا، فعلى ماذا عزمت؟ - إني عزمت على أن أتخذها حليلة لي وإذا أبت جعلتها خليلة.
فلم يجبه هرتمن بحرف، وصعد إلى مكانه بجانب السائق، وانطلقت بهم المركبة وسارت في أثرها الذئاب.
وجعل هرتمن يراقب السائق في الطريق، ويتأمل وجهه، فتعذر عليه أن يتبينه؛ لأنه كان لابسا قبعة نزلت إلى عينيه، وحاول أن يباحثه، فسأله: ألم تر جنودا تقود ثلاثة من الفلاحين الذين أصابتهم القرعة؟
فلم يجبه السائق، فكرر عليه السؤال بالفرنسية والألمانية والروسية، فلم يجب أيضا، بل ضرب الجياد بسوطه فاندفعت تجري.
فساء هرتمن هذا السكوت، والتفت إلى كارل، فرأى الزبد يخرج من شدقيه لشدة غضبه على مدلين، وكانت الذئاب قد بدأت تحيط بالمركبة، فقال له: كفاك يا سيدي ترددا. - لا سبيل إلى العزم الأكيد؛ لأني أحبها.
وكانا يتكلمان باللغة الألمانية كي لا تفهم مدلين، فقال له هرتمن: إنك لن تبلغ مرادا ما دامت على هذا العناد، فاجهز عليها، ولكن احذر من السائق، ولا تطلق عليها النار، ولا تحملها على الاستغاثة، بل ادفعها خارج المركبة؛ فتتولى الذئاب مهمة القضاء عليها، أسرع يا سيدي قبل أن تصل إلى بترهوف أو ستيديانكا، فتستعين عليك بالجند وتنجو منك.
فقال بغضب: كلا إذ يجب أن تكون لي. - قلت لك: أسرع لأن أنوار مدينة بترهوف قد بدت لنا.
فلما رأى كارل ذلك أعاد السؤال عليها، قائلا: أتتزوجين بي؟ - كلا، إني أؤثر ألف موت على الزواج بفاجر سفاك.
فهاج كارل هياجا شديدا واحتمل الصبية يريد إلقاءها على الذئاب، فصاحت صيحة عظيمة، ثم تلا صياحها صيحة أخرى هائلة، وكانت هذه الصيحة صيحة هرتمن؛ لأن سائق المركبة حمله بيده، وألقاه على الثلج فريسة للذئاب.
أما مدلين؛ فقد دافعت عن نفسها دفاع القانطين لا سيما حين سمعت صراخ هرتمن قد طبق أرجاء الفضاء، وسمعت صوت أنياب الذئاب تكسر عظامه.
15
ولنعد الآن إلى روكامبول؛ لقد تركناه في المركبة مع الجنود تسير به إلى الحاكم العسكري، وهو سكران من الأفيون ومقيد اليدين والرجلين، غير أن الأفيون لا يطول تأثيره بأصحاب الأمزجة العصبية، فإنه بعد أن ابتعدت المركبة ساعة عن قصر التتري صحا روكامبول من سكرته وعاد إليه كل صوابه، فأوشك أن يفقده ثانية حين رأى نفسه مقيد اليدين والرجلين يكتنفه الظلام الدامس في مركبة تسير به سيرا حثيثا.
ولو اتفق ما اتفق له لكل إنسان سواه، لصاح وحاول أن يتخلص من قيوده، غير أن روكامبول لم يكن رجلا عاديا، وقد تمرس في السجون، وعرف فائدة الصبر في مواقف الأخطار، فصبر وجعل يفتكر بما صار إليه بادئا بالرجوع إلى حوادث أمسه، فذكر أنه اتفق مع ألكسيس الفلاح على إعداد مركبة للفرار بها بمدلين عند منتصف الليل، وأنه عندما عاد إلى قصر التتري أخبر فاندا بما جرى، فأخبرته أن مدلين مستعدة للفرار فتعشى مع الحاضرين، وقام إلى غرفته فأشعل سيكارته وجعل يدخن فشعر بتثاقل أجفانه.
وهنا انقطع حبل تذكاره، وبعد أن فكر هنيهة أيقن أنه شرب مخدرا فغاب صوابه، ولم يعد لديه شك في أن ذلك من صنع كارل، وأن مدلين وفاندا وقعتا في قبضته، فاضطرب فؤاده، وجحظت عيناه من الخوف عليهما.
وكانت المركبة مقسمة إلى قسمين منفصلين؛ قسم يقيم فيه الجنود، وقسم وضع فيه روكامبول وألكسيس والفلاح الآخر يغط في نومه، فقد قبض وهو سكران، أما الجنود فكانوا يغنون ويضحكون.
وبينما كانت المركبة تسير سمع روكامبول رئيس الجنود يقول للسائق: ألا تميل بنا إلى الغرب، فنعرج على فندق سيوا، ونشرب فيه غيثا من العرق، لأن البرد شديد؟ - افعل ما تريد على أن تشاركني شرابك. - حبا وكرامة فعرج بنا.
وسمع روكامبول هذا الحديث، وكان قد عرف أخبار هذا الفندق، فقال في نفسه: إذا قام أولئك الجنود مدة في الفندق يشربون، فلا أعدم وسيلة للنجاة.
ثم جعل يفحص ما حواليه فسمع انتحاب ألكسيس وعرفه من صوته، فزحف إليه، وقال همسا: كفاك انتحابا وأنا روكامبول وسأنقذك.
فسكت ألكسيس، وقد اطمأن باله، ثم سأله روكامبول: قص علي ما جرى، فقد عاد إلي صوابي.
فحكى له الفلاح جميع ما عرفه، وكيف أن التتري اغتنم فرصة جنون روكامبول وادعى عليه أنه من عبيده الذي أصابتهم القرعات العسكرية ، فعلم روكامبول سر المكيدة، وقال لألكسيس: ألعلك موثق مثلي؟ - نعم. - إذن، نم على بطنك.
ففعل وكانت يداه مشدودتان بحبل إلى ظهره، فجعل روكامبول يعالج عقدة الحبل بأسنانه حتى فكها، ولما أطلقت يد ألكسيس قال له: أطلق يدي كما أطلقت يديك.
ففعل، ثم حل كل منهما قيوده وعادا إلى موضعيهما، بعد أن أشار روكامبول على رفيقه بالعودة إلى الانتحاب، وعند ذلك وصلت تلك المركبة المزدوجة إلى فندق سيوا، فنزل الجند ورئيسهم والسائق، ودخلوا إلى ذلك الفندق فرحين يترنحون، فوجدوا تلك العجوز الشمطاء، وبطرس السائق، وقد أوشك أن يشفى من مرضه، فطلبوا مداما وجلسوا يشربون.
أما ألكسيس؛ وقد حسب أن روكامبول سيفر من المركبة مغتنما فرصة غفلة الجنود فتأهب للوثوب منها.
غير أن روكامبول أمره أن يبقى في مكانه، وحمل الأسير الثالث السكران، وألقاه خارج المركبة، ثم صعد مكان السائق، وهو يخاطب ألكسيس: إني لا أحب الفرار على الأقدام؟
وضرب الجياد بالسياط، فاندفعت تجري في تلك الغابة، وتمر مرور السحاب.
ولما سمع السائق والجنود صوت مسير المركبة تراكضوا إليها، وهم يحسبون أن الجياد جمحت، فوجدوا الأسير السكران ملقيا على الأرض، والمركبة قد توارت، فجمدوا في أماكنهم جمود تلك الثلوج الواقفين عليها، وقد فطنوا للمكيدة، وعلموا: أن الأسيرين قد هربا.
وكان روكامبول يفتكر بفاندا ومدلين، فلما ابتعدت المركبة وأفاق ألكسيس من ذهوله، قال لروكامبول: إلى أين تسير بنا؟ - إلى قصر التتري. - أتعود إليه كي نقع في قبضته مرة أخرى؟ - كلا، بل هو الذي سيقع في قبضتنا هذه المرة، ثم لا يخلق بنا أن ندع امرأتك وتينك المرأتين في أسر ذلك الوحش. - أصبت، ولكننا لا نبلغ المحطة الأولى حتى تنهك جيادنا، ولا مال لنا لاستئجار سواها.
ويذكر القراء أن روكامبول حين اشتدت عليه عوارض الجنون جعل ينزع ثيابه ويرمي بها إلى الأرض، وحين قبض عليه الجنود أشفق عليه أحدهم من البرد فألبسه جميع ملابسه، فلما قال له ألكسيس لا نقود لنا مد روكامبول يده إلى جيبه فوجد فيها محفظة الأوراق المالية مكدسة، وقال: طب نفسا فسنجد ما نستأجر به خيلا جديدة.
ولبثت المركبة تجري وركامبول يفكر في كارل، ويضع لنفسه خطة يجري عليها، وقد علم أن كارل خصم شديد يكون كفؤا له فقال في نفسه: إما ان يكون هذا الرجل الآن في معركة شديدة مع فاندا؛ فإنها لا يمكن أن تتخلى عن مدلين وفيها رمق من القوة، وعلى هذا الافتراض فإن مدلين لم تسقط بعد في يد عدوها، وإما ان تكون فاندا غلبت ويكون كارل فر بمدلين، فإذا صدق الفرض الأول فإن الوقت لا يزال فسيحا لدي، وإذا صدق الفرض الثاني فلا بد لي أن ألتقي بكارل ومدلين في طريق بترهوف.
وقد صح حساب روكامبول كما سيجيء؛ فإن مركبته بعد أن سارت غاصة في تلك الغابة، وقفت في المحطة الأخيرة قبل بترهوف، فنزل روكامبول إلى مدير المحطة، فأخرج من جيبه بعض أوراق، وقال: إني أريد جيادا لمواصلة السفر. - ذلك محال يا سيدي، فإن الجياد التي عندنا محجوزة لأمر غريب سيمر بنا قريبا. - من أين هو آت هذا الرجل؟ - من قصر الكونت بونتيف.
فاضطرب روكامبول، وقال: كيف عرفت هذا؟
فأشار المدير بيده إلى رجل كان نائما قرب المستوقد، وقال: عرفت من هذا الرجل فقد أرسله إلي نقولا أرسوف منذ ساعة لحجز الجياد. - إذن، فسأضع جيادي في إصطبلك إلى أن تستريح فأستأنف السير. - لا بأس، وإن شئت أن تنام تجد فراشا من القش بجانب السائق الذي سيقود المركبة.
ثم أعطاه مصباحا ودخل إلى غرفته كي ينام فيها، ودخل روكامبول مع ألكسيس إلى الإصطبل، فقال له ألكسيس: على ماذا عولت؟ - سوف ترى.
16
من عادة السائق الروسي في تلك المحطة أن ينفق معظم فراغه في النوم، ولا يوقظه غير سائق المركبة التي يحل محله فيها، ويكون نائما بملابسه، فينهض من فراشه إلى خيله، فيشدها بالمركبة، ويسير بها إلى أول محطة.
ولما دخل روكامبول وجد هذا السائق نائما على فراش من القش، وهو متشح بوشاح من الفرو الغليظ، ولابس قبعة عظيمة تغطي أذنيه، فدنا منه روكامبول وأيقظه فلم يستفق ، فصفر بأذنه كما يفعل سواق المركبات فهب من رقاده في الحال، وأسرع إلى الخيل حسب المعتاد غير أن روكامبول هجم عليه وضغط على عنقه، وقال له: إذا فهت بكلمة قتلتك.
ثم ألقاه على فراشه وركع فوقه، وقال: لا تخف، فإني لا أريد بك شرا، بل إني أريد لك كل الخير، وإذا أطعتني فيما أريد أعطيك مائة ريال.
ومثل هذا المبلغ يعد ثروة عظيمة لدى سائق لا يكسب في يومه ربع ريال، فظهرت علائم الطمع بين عينيه، وسأله: ماذا تريد أن أصنع لك مقابل هذه المحبة؟ - أريد أن تطيعني. - مر بما تشاء، أتريد أن أشد جيادي إلى مركبتك؟
ونهض روكامبول عنه بعد وثوقه من حسن طاعته، وقال له: كلا، ليس هذا الذي أريده منك، بل أريد منك ثلاثة أشياء؛ وهي: سوطك وقبعتك ورداءك. - ألعلك تريد أن تسوق أنت المركبة؟ - نعم. - وأنا ماذا أصنع؟ - تعود، وتنام إلى أن يشرق الصباح. - ولكن إذا فعلت هذا الفعل أفقد مركزي. - إني أعوضك عنه بخير منه وهذه مقدمة هباتي لك.
ثم أخرج محفظته وأعطاه مائة روبل، فلم يصدق السائق ما يراه، وأسرع إلى خلع ردائه وقبعته وجزمته فأخذها روكامبول ولبسها جميعها، ثم قال للسائق: عد إلى فراشك.
فامتثل السائق وهو يوشك أن يجن من فرحه بهذه الثروة.
وعند ذلك سمع صوت قدوم مركبة فأخرج الجياد المرتاحة بمساعدة ألكسيس، وقال له: انتظرني هنا، فلا أعلم متى أعود إليك، ولكن لا بد لي من الرجوع قريبا فكن مطمئن الخاطر.
وقد عرف القراء الآن ماذا حدث، فإن السائق الذي ألقى هرتمن إلى الذئاب لم يكن إلا بطل هذه الرواية روكامبول؛ فإنه كان جالسا بإزاء هرتمن لا يهيم بمدلين، ولكنه كان يصغي إلى حديثه مع كارل، وحثه إياه على إلقاء مدلين، فأراد أن يعاقبه بنفس الموت الذي كان يتوقعه لتلك الفتاة الطاهرة التي آثرت الموت في سبيل الدفاع عن عرضها وشرفها.
ولما ألقي هرتمن إلى الذئاب وثب إلى داخل المركبة، فقبض على كارل بيد من حديد، وقال لمدلين: لا تخافي فقد سلمت من الموت، ثم نزع القبعة على رأسه، ونظر إلى كارل وقال: أعرفتني الآن يا حضرة الفيكونت؟
فذعر كارل وقال: روكامبول!
فانتزع روكامبول من يده ذلك المسدس الذي كان يتهدد به مدلين، وقال له: إنك يا حضرة الفيكونت قد ارتكبت كثيرا من الفظائع والآثام، ولكن الله قد يعفو عنك إذا تبت إليه توبة صادقة فاستغفر الله، إنك ستموت.
فركع كارل وقال مستغيثا: اصفح عني بالله.
وحسبت مدلين وقد رأت المسدس بيد روكامبول أنه سيطلق عليه النار، فقالت له: رحماك اشفق عليه ... - أتظنين يا سيدتي أنه يحق لك أن تصفحي عن قاتل أمك؟
فتنهدت مدلين وسكتت، أما كارل فإنه نظر إليه نظرة المتوسل وقال له: اصفح عني أرد كل شيء. - كلا أيها الشقي، بل سأميتك شر ميتة تكون بها عبرة لأمثالك.
ثم قبض عليه من وسطه، واحتمله كما يحمل الطفل، فألقاه على ذلك الجليد قرب هرتمن الذي كانت تأكله الذئاب، وألقى عليه مسدسه، وهو يقول: إني لا أريد لك أن تموت من غير دفاع، فهجمت عليه الذئاب المفترسة من كل جانب.
وعاد روكامبول إلى مدلين وهي توشك أن يغمى عليها لرعبها من هذا المنظر الهائل، وقال لها: اخبريني الآن، ماذا حدث لفاندا؟ - عندما أسرني هذان الشقيان كانت فاندا موثقة اليدين والرجلين، ولا بد أن تكون الآن في قبضة التتري.
فطاش رأس روكانبول من خوفه عليها فوثب في الحال إلى مقعد السائق، وضرب الجياد بالسوط، فاندفعت تجري إلى قصر التتري.
وبعد دقيقة سمعوا صوت إطلاق المسدس، فقال روكامبول: هو ذا قضاء الله قد بدأ ينفذ في ذلك الشقي.
17
لقد تركنا فاندا موثقة اليدين والرجلين ملقية في زاوية غرفة مدلين عندما اختطف كارل مورليكس مدلين وفر بها فبقيت فاندا تحت رحمة ذلك الوحش التتري.
وقد دخل إليها وعيناه تبرقان بأشعة الأمل، ولكن فاندا أجالت فيه نظرها فتوقف في وسط الغرفة، وأطرق وجلا مستحييا غير أنه تجلد وأتم مسيره إليها، فأضافت فاندا صوتها إلى نظراتها، وقالت له: قبحت من عبد يريد إتيان الموبقات ولا يجسر عليها ، ويحك! إنك أردت أن تحبك امرأة من النبلاء، ولكنك خشيت لفظاعة إثمك، وخفت أن تنطبق السماوات عليك، فأبقيت تلك المرأة موثقة اليدين والرجلين؛ إنك رجل وأنا امرأة، وأنت مطلق وأنا مقيدة، ومع ذلك فإنك لا تجسر على الدنو مني أيها النذل الجبان.
فأثر كلام فاندا عليه كما كانت تتوقع؛ لأنه توقف أيضا مترددا أكثر من قبل، فقالت له: ماذا تخشى مني؟ فإن الرجل الوحيد الذي يدافع عني أصبح بعيدا، وأنت رئيس هذا القصر الحاكم فيه، وكل من فيه يخضعون لأمرك، ألعلك خشيت أن أهرب؟ فاقفل هذا الباب وأنا ضامنة لك أني لا أفر.
فاضطرب التتري وقال: ألعلك تمزحين؟ - كلا، وأنا لا أفتكر بنفسي الآن، بل أفتكر بك أيها الأبله فإنك ستلقي النار بيدك في منزلك.
ولم يفهم مرادها، ولكنه توقف عن الدنو منها، وقالت له بصوت الهازئ: حل على الأقل قيد رجل كي أستطيع الوقوف، ألا تخجل أيها العبد أن تطمع بحب امرأة لك وهي على هذه الحال؟!
وكان خنجر فاندا الذي طعنت به مورليكس لا يزال على الأرض، فأخذه التتري وقطع به قيد رجليها، وهو يقول: إني أفعل لك ما تريدين، ولكنك إذا حاولت الفرار مني قتلتك لا محالة.
ووقفت فاندا وكانت يداها لا تزالان موثقتين وراء ظهرها ثم نظرت إليه تلك النظرات الساحرة وقالت: أحقيقة تحبني؟
فاضطرب التتري وأجابها بصوت يتهدج: أتسأليني هذا السؤال وقد ارتكبت الجرائم من أجلك؟!
وإذا أحببت ساعة - وأنا صاحبة الاسم النبيل - رجلا سافلا مثلك أتقتلني بعد ذلك؟
ثم قالت بلهجة العظمة والكبرياء: اصغ إلي فإني أحب أن أقص عليك تاريخي قبل كل شيء.
فانذهل التتري وأجاب: أي تاريخ تعنين؟ - أتظن - أيها الأبله - أنني لو كنت إلى الآن البارونة شركوف تلك السيدة الروسية العظيمة أكنت تراني هنا مع رجل أجنبي أخضع له كما كنت تخضع لي أنت من قبل؟ - وماذا حدث لك؟ وكيف أنت الآن؟ - قبل أن أخبرك بحالي أريد أن أعرف كيف بات مولاك الكونت بونتيف فقيرا بالنسبة إليك. أليس كذلك؟ - لا أعلم ... - بل أنا أعلم فإن صاحب الأرض بات فقيرا وبات وكيله عليها غنيا، قل: ألست بغني؟ - ربما! - وإذا أردت أن تجتاز إلى تلك الهوة العميقة التي تفصل بين الضفة والنيل فكيف تجتاز؟ - على جسر من الذهب. - ولكني أرجوك أن تحل قيد يدي فقد ضاقت أخلاقي.
ففعل التتري وهو غير موجس خوفا منها؛ لأن الخنجر كان بيده، فلما أفلتت يديها وضعتهما على كتفه وقالت له بدلال: هل ظننت أن قلوب النساء تشترى بالخناجر وتقييد الأيدي؟ فاجلس أمامي ولنتحدث، إنك قلت لي: إنك غني أليس كذلك؟
فاضطرب فؤاده لما رأى من دلالها، وأراد أن يظهر أمامها بمظهر العظمة؛ فأجاب: إن أموالي لا تحصى. - ولكني أريد أن أجعلك فقيرا.
وضحك ضحكا عاليا قائلا: إن هذا مستحيل ... - أين أودعت أموالك؟ - في محل أمين لا يصل إليه أحد. - إني أحب أن أعرف هذا المكان.
فاضطرب التتري وقال: يستحيل علي أن أخبرك عن مكانها فإني أعطيك كل ما تشائين ولكني ...
وقاطعته وقالت بغنج: إذن، أحب أن أكون الآمرة الناهية في قصرك هذا، وأن تطيعني في جميع ما أريد كما كنت تطيعني من قبل. - مري بما تشائين، فلا أخالف لك أمرا. - إني أريد أن تحتفل الآن حفلة لا مثيل لها، وتدعو إلى خدمتي خدمك ونشرب سوية من خير خمورك، فإني سأغدو منذ الآن ملكة هذا القصر، ثم طوقت بذراعها عنقه، فجن من اضطرابه، وجعل يدعو الخدم فيفدون إليه أفرادا وأزواجا، ويلقي إليهم الأوامر اللازمة لإعداد تلك الحفلة.
وكانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وفي الساعة الثامنة، أي بعد أن تمكن الشراب من التتري، أصبحت فاندا الحاكمة المطلقة عليه بعد أن كانت مقيدة، وكان الخدم يرقصون ويغنون من حوله حسب أمره وهم يقولون: لقد أصبح الآن عاشقا ولا بد أن يرق قلبه ويمنعه غرامه من عذابنا.
ولم يطل به الأمر حتى سكر، فأطلقت فاندا سراح الخدم؛ وعادت تسأله عن كنزه المخبوء فكان لا يزال مصرا على الكتمان بالرغم من سكره.
ونظرت فاندا ورأت خنجرها على المائدة واختطفته وصوبته إليه وهي تقول: قل أين خبأت أموالك؟
فخاف أن تقتله وحاول الهجوم عليها، ولكنها تراجعت وهي تقول والخنجر بيدها: قل أين خبأت المال؟
أما التتري فقد ذكر ما رآه من فاندا منذ ثلاث ساعات، حين انقضت بخنجرها انقضاض الصاعقة على كارل وكادت تبطش به لولا أن انقض عليها هرتمن من الوراء، وهلع قلبه لا سيما وأن السكر قد هد حيله وأضعف أعصابه، وجلس في مكانه وجعل يضحك قائلا: إنك تمزحين دون شك. - كلا، فإني أريد أن أعرف أين خبأت مالك؟! - ولماذا ... أتريدين أن تأخذيه؟ - ربما ... - كلا، فإني أعطيك ما تريدين، ولكني ... - وأنا أريد أن أعرف أين خبأت مالك، ثم ابتسمت له ألطف ابتسام، وطاب قلبه ودنا منها وهو يقول لها: أحبك ...
فابتسمت له فاندا ولكنها أشارت إليه بخنجرها أن يقف بعيدا، وقالت: أريد أن أعرف مكان هذا الكنز. - ولكني أعطيك منه ما تشائين. - كلا ... بل أريد أن آخذ منه بيدي ما أشاء؟ - أتريدين أخذ كل المال ... - كلا ... إنما أريد أن أعرف ذلك المكان لأعلم إذا كنت ماهرا في اختيار الأماكن الصالحة لدفن الكنوز.
فابتسم ابتسام الإعجاب وأجاب: إنها مخبوءة في مكان لا يخطر في بال إنسان وإنه يوجد من الذهب ما يملأ عشر مركبات. - إذا كان ذلك ما تقول فكيف تخشى أن أحمل هذا المال الكثير؟ ولكني لا أصدق ما تقول فإنك تحاول إغرائي.
وتغلب السكر والغرور على الحكمة، قائلا: كلا، بل ما قلته لك هو الحقيقة بعينها، فإذا كشفت لك هذه الخبايا أتحبينني؟ - أحبك دون شك، ولكني لا أحبك إلا متى عرفت مكان كنزك. - إذن، فاعلمي أنه ليس في القصر بل في الحديقة. - ألعله مدفون فيها؟ - كلا، بل هو معرض للهواء ولكنه لا تبصره العيون فهلم بنا إليه.
ثم خاصر فاندا وسار بها إلى الحديقة فكان يتعثر لسكره وهي تسنده والخنجر بيدها حتى انتهيا إلى حوض، وكانت جدران الحوض عالية مبنية بالرخام الأبيض، والقمر يتلألأ في السماء وجعل الليل نهارا، فوقف التتري مع فاندا أمام الحوض، وقال لها: انظري هذا الحوض فإنه لا يخلو من الماء غير ثلاثة أيام في العام وهي الأيام التي أجبي فيها المال من الفلاحين فإذا انقضت هذه الأيام الثلاثة فتحت تلك الحنفية الكبيرة المشرفة عليها وتنصب فيه المياه ويبقى الحوض ملآن كل العام. - وأية علاقة بالماء وجباية الضرائب؟ - ألا تنظري في أرض هذا الحوض حلقة سوداء؟
فحدقت فاندا وقالت: نعم. - إني إذا جذبت الحلقة انزاحت بلاطة كبيرة وظهر من تحتها كنزي المخبوء.
وتظاهرت فاندا بالانذهال الشديد، وقالت: إني أريد أن أرى كل شيء فافتح أمامي باب الكنز.
ولم يكن للحوض سلم ينزل إليه بها على عمقه، بل كان يوجد فيه حبل مربوط بتلك الحنفية الضخمة وهو ينتهي عند أسفل الحوض، فقال التتري: سمعا وطاعة، ثم تمسك بذلك الحبل ونزل إلى الحوض فاتقدت عند ذلك عينا فاندا بأشعة الحقد الدفين.
ولم يكد هذا التتري يمسك الحلقة بيده ويحاول جذبها حتى أحس برشاش الماء على رأسه، لأن فاندا فتحت حنفية الماء.
ولم يفطن التتري للأمر وقال لفاندا اقفلي الحنفية لقد أصابني ماؤها والبرد شديد.
غير أن فاندا لم تجب وظل الماء يسقط عليه فالتجأ إلى آخر الحوض وصاح بها قائلا: اقفلي اقفلي.
فضحكت ضحك المتهكم وقالت: لا شك أنك أبله.
فأسرع راكضا إلى الحبل المدلى من الحنفية وتمسك به يحاول الصعود، فلم تعترضه فاندا، وتركته يصعد والماء ينصب عليه من فم تلك الحنفية الواسعة كأفواه القرب.
وما زال يصعد وفاندا تضحك وهي جالسة على طرف الحوض قرب الحنفية حتى أوشك أن يدنو منها، فأسرعت وقطعت ذلك الحبل بخنجرها فاندفع يهوي إلى الأرض، وقد صاح صيحة شديدة أجابته عليها بضحك أشد، ثم قالت له: لقد نجا الناس من شرك أيها العبد الزنيم فلا أنت بضارب عبيدك، ولا أنت بسارق سيدك، ولا تجسر شفتاك على التصريح بالغرام للنساء الشريفات، فإذا كنت تؤمن بالله فاستغفره، فإن كنزك سيكون قبرك.
وجعل التتري يركض وهو يصيح ويستغيث فأجابته فاندا: مهما بلغ من صراخك فإنه لا يسمع وهب أنهم سمعوك فإني بإشارة أرجعهم ، ألم تجعلني السيدة المطلقة أمامهم في هذا القصر؟
وكان الماء لا يزال ينصب في الحوض، وكلما انصب ارتفع حتى بلغ ركب التتري وجعل يصيح بها ويقول: اقفلي الحنفية أيتها الخائنة ألعلك تريدين إغراقي؟
وكانت تجيبه هازئة وتقول: كنت أريد لك شرا من هذا الموت، فإنك تستحق أعظم منه، ولكن إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
وجعل هذا المسكين يصيح صياحا مؤلما، وهو كلما استقر هنيهة في الحوض يشعر أنه تجمد من حوله لشدة البرد؛ بحيث لم يعد يستطيع أن ينقل قدما، وقد ضغط عليه الماء المتجمد ضغط القيود، وكلما انصب قدر من الماء علا من حوله وتجمد، حتى بلغ إلى صدره وشعر بدنو أجله، فجعل تارة يشتم وطورا يتوسل ألطف توسل ويستعطف فاندا أن تقفل الحنفية وتغيثه، وهي تعبث به وتضحك عليه، وتقول: لو جسرت أيها الشقي أن تنظر إلي وأنا البارونة شركوف لقضيت عليك جلدا بالسياط، ولكنني ما تمكنت من قتلك إلا بالحيلة، والموت واحد مهما تنوعت الأسباب.
وظل الماء يصعد ويتجمد حتى بلغ إلى عنقه وضغط عليه ضغط الحديد، فلما رأته على هذه الحال قالت: سأفعل الآن ما تريد وأقفل الحنفية، ثم أقفلتها وانقطع الماء، ولكن لم يبق غير رأس التتري.
وكان الفجر قد بدأ ينفجر، فوقفت فاندا تراقب هذا الشقي غير مكترثة بذلك البرد الشديد الذي يهز جسمها حتى رأت علائم النزع بدأت تظهر من عينيه، ففتحت ساعتها، وجعلت تعد دقائق نزعه الهائل الأليم.
بينما كانت فاندا تعاقب ذلك التتري ذاك العقاب الشديد، كانت مركبة تنهب الأرض سائرة إلى قصر ذلك الرجل تنقل مدلين وركامبول، وهو يجهد الخيل بسوطه، ويكرر اسم فاندا، فلما بلغت روح التتري التراقي كانت المركبة قد وقفت عند باب القصر، وخرج منها روكامبول فاندفع في ردهة القصر اندفاع القانطين، قائلا: أين فاندا؟
فاستقبله أحد الخدم وقال له: إنها باتت الآن الحاكمة المطلقة على القصر وساكنيه.
ثم اجتمع من حوله جميع الخدم، فكان بعضهم يضحكون لاعتقادهم أن روكامبول زوج فاندا، وبعضهم يتمايلون من السكر، ولكن علائم السرور كانت بادية في تلك الوجوه.
ولما ألح عليهم روكامبول السؤال عن فاندا ذهبوا به إلى تلك الحديقة، فرأوا فاندا واقفة عند الحوض تراقب نزع ذلك الرجل الذي تجاسر على أن يكاشفها بغرامه بعد أن كان عبدا لها، فأسرع الخدم إلى ذلك الحوض وقد أوجسوا شرا من وقفة فاندا، فرأوا سيدهم محصورا بين الثلج فلم يقدم أحد على إنقاذه، بل إنهم أظهروا سرورا لا يوصف عندما أيقنوا أنه أسلم الروح لشدة ما يلقونه من مظالمه.
ثم التفتت فاندا فرأت بالقرب منها روكامبول ينظر إلى التتري وقد أدرك كل شيء، فصاحت صيحة الدهش وقالت: ومدلين؟ - لقد نجت.
فسرت فاندا، وقالت: لقد كنت أتوقع كل ذلك.
ثم انطرحت على ذراعيه تعانقه، فقال لها روكامبول: لقد فرغنا الآن من روسيا فهلمي بنا إلى فرنسا.
18
قبل أن نسير بالقارئ في أثر روكامبول وفاندا العائدين إلى فرنسا بمدلين، نعود إلى أحد أعضاء هذه الرواية، فقد تخلينا عنه منذ حين، وهو إيفان دي بونتيف عاشق مدلين، بعد أن تركناه في شر حالة، وقد قبض عليه بوليس موسكو وسار به إلى بطرسبرج.
ولا يوجد بين البلاد على اختلاف حكامها بلاد كالبلاد الروسية في خضوع شعبها للحكام والشرطة؛ لأن الطاعة واجبة ملزمة فيها من أحقر خادم إلى أشرف سيد، ولذلك فإن إيفان على علو منزلة أسرته لم يعترض بكلمة، ولم يداخله أقل ريب بأن نكبته إنما كانت من أبيه، بل كان مطمئن البال لكثرة أصدقائه في البلاط الروسي، ولاعتقاده أنه لم يخطئ خطأ يستوجب العقاب، فاجتاز تلك المسافة الشاسعة بين موسكو وبطرسبرج، وهو لا يفكر إلا بمدلين.
وقد أذن له الضابط الذي يصحبه إلى بطرسبرج أن يكتب إلى أبيه إذا شاء، فلما بلغا أول محطة كتب إلى أبيه وإلى مدلين، وقد رجا أباه في آخر كتابه أن يسرع بموافاته إلى بطرسبرج، حتى إذا كان ألقي القبض عليه بوشاية بعض أعدائه، يتمكن من إنقاذه بما له من النفوذ في تلك العاصمة.
وبعد خمسة أيام مرت به في هذا السفر الشاق وصل إلى بطرسبرج، فذهب به الضابط إلى القلعة المعدة لإيقاف الضباط، وأعطى حاكم القلعة التقرير المرسل إليه بشأنه، فلما اطلع عليه الحاكم قال له: إنك ستبقى ضيفي في هذه القلعة إلى أن يصدر أمر آخر بشأنك، إنما يسرني أن أخبرك أن أمرك غير خطير.
ثم أمر أن يوضع في غرفة خاصة، وأن يعين جندي لخدمته، فاستبشر إيفان خيرا بهذه الرعاية، وأقام في سجنه يومين دون أن يجيئه أحد؛ لأنه كان واثقا أن أباه سيسرع إليه لإنقاذه، فتوالت الأيام دون أن تتحقق ظنونه.
وكان الحاكم يتلطف معه ويدعوه كل يوم لمناولة الطعام على مائدته إلى أن طالت الأيام عليه في ذلك السجن الفسيح وهو يحسبها دهورا، فجعل يتضجر أمام الحاكم ويشكو من أن رسائله لا تصل إلى أبيه.
فقال له الحاكم: أتحسب أن أباك مهتم بك؟ - إذا لم يهتم بي فبمن يهتم؟ - يهتم بشئونه. - ماذا تعني بما تقول؟
فابتسم الحاكم وقال له: أيروق لك أيها الشاب أن نتحادث قليلا عنك؟ - كيف لا يروق لي حديثك عني وأنت تراني على أحر من الجمر. - قل لي: لأي ذنب قبض عليك؟ - لأنهم رأوني عائدا من منزل البرنس ك وفي هذا المنزل يبحثون المباحث السياسية. - وما دعاك إلى الذهاب إلى ذاك المنزل؟ - إنه صديق لعائلتنا، وقد أرسلني أبي إليه كي أخبره بعودته من أراضيه وإبلاغه سلامه.
فابتسم الحاكم وقال: أتظن أنه لو حسب بوليس موسكو أن وجودك خطر وأنك تجري في أعمالك على مناهج المقاومة وتمتثل لمبادئ ذلك البرنس أكان يحضر بك إلى بطرسبرج ويتكلف عناء الأسفار؟ - وماذا كان يصنع بي في مثل هذه الحال؟ - كان يزجك أولا في سجن من سجون موسكو. - وبعد ذلك؟ - ينتظر أول مركبة تسير بالمجرمين إلى سيبيريا فيوصلك معهم، ولكن بوليس موسكو لم يفعل شيئا من هذا، بل إنه جاء بك إلى هنا؛ حيث أصبحت تعامل بملء الرعاية والإكرام خلافا للمسجونين، أليس كذلك؟ - ذاك أكيد. - وليس ينقصك شيء في السجن؟
فابتسم إيفان وقال: ما عدا الخروج للنزهة في الشوارع العمومية. - إني آذن لك بالتنزه إذا كنت تعود إلى سجنك من تلقاء نفسك كل مساء وأن تتعهد لي بعدم الفرار. - أتعهد. - وأنا أرضى بتعهدك على ثلاثة شروط. - قل شروطك. - أولها أنك لا تدخل إلى السراي الإمبراطورية، ولا تطلب مقابلة أحد من رجال البلاط، ولا تعرض أمرك على البوليس أو سواه من كبار الموظفين. - رضيت بهذا الشرط فهات الثاني. - والثاني: أنك لا تكتب عريضة إلى الإمبراطور.
ثم ضحك وقال: لا بد لي من أن أقول لك الحقيقة، وهو أني مأمور بحجز عرائضك إلى الإمبراطور، ولهذا لم يصل إلى جلالته شيء من عرائضك السابقة.
فظهر الاستياء على ملامح إيفان وقال: إذا كان الأمر كذلك فأنا أستطيع القبول بهذا الشرط.
فأجاب الحاكم ببرود: لك أن تختار بين أمرين إما ان تمتثل لشروطي فتخرج من سجنك كل يوم إلى حيث تشاء وتعود إليه في المساء، وإما أن ترفضها فتبقى فيه سجينا كما كنت.
فتمعن إيفان هنيهة، وقال: قد رضيت بشرطك هذا، فلا أكتب إلى الإمبراطور. - إذن، اسمع شرطي الثالث. - ها أنا مصغ. - إنك لا بد أن تلتقي بكثير من أصحابك إذا خرجت من السجن، فإن كان ذلك فلا يحق لك أن تخبرهم بأنك سجين. - ولكن جميع ما تقوله يدل على أن في الأمر سرا لا يدرك. - بل يدرك إذا عرفت أن تزيح النقاب عنه، فابحث وفتش عن المرأة كما يقال.
ثم انصرف الحاكم وغادره عرضة للاندهاش والاضطراب.
وبعد ذلك بساعة دخل إليه الجندي الذي يخدمه، فأعطاه من قبل الحاكم محفظة، ففتحها ووجد فيها بعض أوراق مالية وكتابا من الحاكم يدل على أن المال أرسل من الكونت بونتيف.
فزاد انذهال إيفان، وقال: لا شك أن أبي في العاصمة.
ثم جعل يلبس ثيابه على عجل.
وكان ذلك الوقت ظهرا والجو صاف والشمس تسطع في قبة السماء، فخرج إيفان من محبسه وتيقن أن الحاكم لم يهزأ به، فإنه كلما بلغ بابا حياه الجندي الذي يحرسه ولم يعترضه في خروجه.
ولما انتهى إلى خارج القلعة ركب مركبة وقال لسائقها: سر بي إلى الجسر، وذلك لأن والد إيفان كان يقيم ضيفا حين قدومه إلى العاصمة في منزل الكونت كالوجين الكائن قرب ذلك الجسر.
وكان يفكر مدة سيره بكلام الحاكم وجعل يتمعن بما قاله، وهو أن يفتش عن المرأة، فلم يخطر في باله غير ابنة فاسيليكا.
ولم يكن يخطر لإيفان في بال أن يتهم أباه، فحصر تهمته بالكونتس فاسيليكا، وذلك لأنها كانت هائمة به وترغب في زواجه، ثم إنها هي التي سعت دون شك في القبض عليه كي تبعده عن حبيبته مدلين، فهاج غضبه هياج المجانين على تلك المرأة، وقال للسائق: سر بي إلى بوبورج. وهو شارع على ضفاف نهر نيفا.
وكانت تلك السيدة المثرية الحسناء تقيم في قصر لها في ذلك الشارع، وهي التي أراد والد إيفان أن يزوجه بها طمعا بثروتها، وأبى إيفان زواجها لشغفه بمدلين.
وبعد ساعة وقفت المركبة أمام باب قصرها، فنزل إيفان وهو يرغي ويزبد، قائلا: سوف نرى أيتها المرأة.
19
كانت الكونتس فاسيليكا واسرتوف أرملة، وهي في السادسة والعشرين من عمرها بارعة الجمال بيضاء كالزنبقة شقراء الشعر.
وكانت رشيقة القوام سوداء العينين، حادة النظر، تدل شفتها على احتقار ما يبدو لها، وجميع ملامحها تشير إلى إرادة ثابتة، وقوة عقلية كما يدل تركيب جسمها على القوة البدنية.
وكانت واسعة الثروة وهي مطلقة التصرف في جميع أموالها، وإنما شغفت بإيفان لأنه قبل أن يعرف مدلين كان يتزلف منها ويتصبب إليها حتى وثقت من غرامه بها، فهامت به وجلعت زواجه نصب عينيها ومحط آمالها.
ثم إن عائلتها وعائلة بونتيف كانت تربط بينهما صلات القربى وكانت تعلم أن زواجها بابن بونتيف ينقذ تلك العائلة من وهدة الخراب بعدما أصيبت به من الخسائر الفادحة.
وكان إيفان قد كتب إليها خمس مرات بعدما برح بطرسبرج، فكانت رسائله الأولى تشف عن غرام أكيد، ثم جعلت لهجتها تخف تباعا وذلك بعد هيامه بمدلين.
غير أن فاسيليكا كانت تحسب أنها محبوبة، فكانت تتمادى في حبها، وقد كتبت إلى والد إيفان تخبره أنها توافق على الزواج بابنه.
أما إيفان فإنه حين وصلت مركبته إلى قصرها، خرج منها خروج المجانين، ودخل إلى القصر مغضبا، فاعترضه أحد الخدم، وقال له: إن سيدتي منحرفة الصحة.
فلم يكترث له إيفان وقال: إني أريد أن أراها في الحال، ثم أبعد الخادم من طريقه ودخل.
وكانت فاسيليكا متمددة في مقعد شرقي مفروش عليه بساط من جلد النمر وحولها الزهور المختلفة النادرة، لأنها كانت شديدة الولوع بالأزهار.
فلما رأت إيفان داخلا إليها نهضت بتكاسل فمدت إليه يدها، وقالت: أهذا أنت؟ وحاولت أن تجلسه بقربها على المقعد.
غير أن إيفان كان مصفر الوجه تدل ملامحه على الاضطراب، فقالت له: من أين أتيت؟ أمن موسكو؟ ومتى أتيت؟
فهاج هذا السؤال غضب إيفان وكان قد استمر واقفا، فقال لها: إنك تعلمين أكثر مني.
فنظرت إليه بانذهال شديد كان يجب أن يقنعه، ولكن الغضب والاضطراب أعميا بصيرته فقال بلهجة الغضب: إني مسجون منذ عشرة أيام بسعيك وبأمرك.
فزادت دهشتها، وقالت: أأنت مسجون؟ - نعم، وقد قبض علي في موسكو منذ نصف شهر. - ولكن لماذا قبض عليك؟
فضحك إيفان ضحكا عاليا بدت منه علائم الهزء والاحتقار، وقال: تسأليني أيضا؟ - أسألك دون شك.
فضرب الأرض برجله مغضبا، وقال: إن النساء خائنات ماكرات.
فوقع هذا الكلام على فاسيليكا وقع الصاعقة، فنهضت كما تنهض الملكات حين الإهانة وأشارت بأصابعها إلى الباب، فقالت له: أخرج من هنا.
وعلم إيفان أنه جرى شوطا بعيدا فلفق بعض الأعذار، غير أن الكونتس أعادت إشارتها وأدارت له ظهرها.
فلما رأى إيفان أن اعتذاره لم يقبل، وأنها مست كبرياءه عاد إليه الغضب، فوقف في مكانه وقال: إني لا أخرج من منزلك قبل أن أقف منك على الحقيقة.
فنظرت إليه نظرا جامدا وقالت: أية حقيقة تعني؟ - أريد أن أعرف: لماذا سعيت في سجني؟ - أنا؟ - نعم، لأن ذلك كان بأمرك.
وكان يقول هذه الأقوال وهو يضطرب اضطراب الريشة في مهب الريح حتى خشيت أن يكون قد أصيب بالجنون، فعادت إلى محادثته بلطف ، قائلة: اصغ إلي ، وعد إلى رشدك، فلست أنت الذي يجب أن تسألني عن الحقيقة، بل أنا الذي ينبغي أن أسألك، فلقد قلت لي: إنهم قبضوا عليك في موسكو منذ 15 يوما، فقل لي الآن: بأية حجة؟ - إن اتخاذ الحجة للقبض علي سهل، فقد انتحلوا لذلك أسبابا سياسية. - إذا كان ذلك يا ابن عمي العزيز فثق أني لا شأن لي مع رجال البوليس ولا علاقة برئيسهم. - ولكن أليس لك علاقة مع أبي؟ - هذا لا ريب فيه لا سيما وأنه قد دار بيننا مرة حديث زواج.
فضاع صواب إيفان، وقال: نعم فإنك لم تسعي في القبض علي إلا لأني أرفض هذا الزواج.
ولما سمعت الكونتس هذه الإهانة فرغت جعبة صبرها، فأخذت جرسا عن الطاولة وقرعته قرعا شديدا، فأسرع إليها وكيل قصرها ومعه اثنان من الخدم، فقالت له: أرشد المسيو دي بونتيف إلى الباب.
ثم فتحت باب الغرفة فخرجت منها، وقد تركت إيفان لا يعي لفرط اضطرابه.
وما لبث إيفان أن ذهبت فاسيليكا حتى ذهب غضبه، وعلم أنه أهان ابنة عمه إهانة لا تغتفر؛ فأخذ عصاه وقبعته من يد الوكيل، وخرج إلى المركبة التي كانت تنتظره، فقال للسائق عد بي إلى القلعة.
وجعل إيفان يفكر أثناء سيره فيما فعل، وقنع لما رآه من فاسيليكا أنها كانت تقول الحق فعقب الغضب السكينة، وتلا السكينة الإمعان المرتب، فعلم أنه أتى منكرا لا يأتيه سواه، وأنه قد تجرأ على الكونتس جرأة نادرة.
فلما دخل إلى سجنه طلب مقابلة الحاكم، فقيل له: إنه خرج، فكتب إلى الكونتس فاسيليكا كتابا طويلا اعتذر فيه عن إساءته، ثم بسط لها الأسباب التي حملته على تصرفه المنكر، وباح لها بغرامه بمدلين بسلامة تدعو إلى الرأفة به، ثم التمس منها في ختام كتابه أن تسعى في سبيل إطلاق سراحه، وأرسل الكتاب إليها.
فما مرت ساعة حتى ورد منها الكتاب الآتي:
يا ابن عمي العزيز!
ما زلت أحسبك مجنونا بعد انصرافك من منزلي، حتى ورد إلي بريد موسكو يثبت جميع ما قلته لي في كتابك، وعلى ذلك فقد وثقت بجميع أقوالك وجميع ما كتبته لي عن شغفك بالآنسة مدلين، فأسرع يا ابن عمي العزيز إلى اللحاق بهذه الحسناء.
ولأجل ذلك أرجو أن تقبل نصحي وأن تثق بكلامي، فإن حبيبتك مدلين ليست في موسكو، فلا يجب أن تبحث عنها في تلك البلاد، لأن أباك الذي كان يطمع أن يسترد أملاكه المفقودة، بما كنت سأحمله إليك من المهر، أرسل تلك الفتاة إلى فرنسا، إذن، يجب أن تذهب إليها في بلادها.
وأنت تعلم يا ابن عمي العزيز أني أحترم القربى، وإني أود خدمة أهلي بكل ما استطعته، ولما كنت عالمة بأحوال أبيك الحاضرة، وأنه لا يستطيع أن يعطيك ما تحتاج إليه من النفقات في هذه الرحلة، فقد أرسلت إليك في طي هذا الكتاب حوالة على البنك الألماني بخمسين ألف ريال، وحوالة أخرى على بنك روتشيلد في باريس، وبالقيمة نفسها، وإنما أرسلت إليك هذا المال على سبيل الإعارة، وأنا أرجو لك ولمن تهواها كل خير.
فاسيليكا واسرتوف «حاشية»: لقد نسيت أنك سجين، وسأكتب إلى شقيقي، وهو من أركان حرب جلالة الإمبراطور فيسعى في إطلاق سراحك في الحال، أما أنا فإني سأبرح بطرسبرج بعد انتهاء هذا الكتاب لأتجول في أراضي.
فلما أتم إيفان تلاوة الكتاب دهش دهشا عظيما، وقال: ما هذه المرأة إنها ملك كريم، فقد أحسنت إلي غاية الإحسان بعد أن أسأت إليها كل الإساءة.
وبعد حين استدعاه الحاكم فقال له: لقد صدر إلي الأمر بإطلاق سراحك إنما يشترط عليك أن تبرج العاصمة هذه الليلة، وأن رئيس البوليس قد أرسل إليك جواز سفر؛ بحيث يمكنك أن تسافر مدة عامين.
فشكره إيفان وخرج، ولما برح القلعة لقي رجلا بملابس السفر دنا منه فحياه، وقال له باللغة الفرنسية: إني يا سيدي خادم الكونتس فاسيليكا، وقد رحلت رحلات كثيرة، وأتقنت الكلام بمعظم اللغات الأوروبية، وقد رأت سيدتي الكونتس أني قد أكون نافعا لخدمتك في سفرك، إذا تنازلت إلى قبول خدمتي والسفر في هذه المركبة التي أرسلتها إليك سيدتي، على سبيل التذكار .
فسر إيفان بما أظهرته فاسيليكا من العواطف الكريمة، وقال: إني أقبل هديتها شاكرا ممتنا وأقبل خدمتك أيضا.
فابتسم الخادم ابتسامة سرية وصعد إلى العربة إلى مكان السائق، وصعد إيفان في المركبة فسارت به وهو لا يعلم أن انتقام فاسيليكا يسير معه.
وواصل إيفان سفره هذا الليل والنهار، وهو لا رفيق له إلا خادم الكونتس فاسيليكا.
وكان هذا الرجل إيطالي الأصل، ولكنه كان يتكلم بجميع اللغات الأوروبية وقد طاف جميع البلاد، فكان يعرف جميع الفنادق وطرق السرعة في السفر، وهو ما كان يتمناه إيفان؛ لأنه كان يود لو كان له أجنحة ليطير إلى من يحب.
فكان يعطي النقود بسخاء كي لا يعيقه شيء عن قصده، وإنه خشي أن يدركه أبوه قبل وصوله فيتمكن من القبض عليه وإرجاعه عن قصده بما له من النفوذ.
ولبث ثمانية أيام يسير مع هذا الإيطالي، حتى وصل إلى ولاية لأبيه فيها أراض واسعة، ولكنها كانت مرهونة، فلم يكن يأسف عندما يرى تلك الثروة المتسعة آخذة بالخروج من يده، لأنه لم يكن يفكر إلا بحبيبته مدلين.
وقد خطر له أن يمر بوكيلهم نقولا أرسوف عساه يقبض منه شيئا لعلمه أن زمن الجباية قد حان، فأمر السائق أن يسير به إلى بترهوف كي يغير الجياد في محطتها؛ ويذهب منها إلى قصر ذلك الوكيل التتري.
فلما وصل إلى تلك المحطة دخل إلى غرفة وكيلها كي يصطلي بنار مستوقدها إلى أن يفرغوا من إعداد الجياد.
وكان في هذه الغرفة المتسعة كثيرون من المصطلين يتدفئون حول المستوقد، فيتحدثون ويتسامرون، وقد استرعى أسماعهم حديث سائق فانضم إيفان إليهم، وجعل يسمع معهم حديث هذا السائق الغريب، فسمعه يقول ما يأتي: إن البرنس ماروبولزف من أغنى أغنياء البلاد الروسية، وإن جميع المجاورين من الأغنياء أصحاب الأملاك الواسعة يحسبون بالنسبة إليه فقراء، فإن لديه في أراضيه مائة ألف فلاح، وله مناجم تستخرج منها الفضة في جبال أورال، فهو يستطيع عند الاقتضاء أن يجهز فرقة على نفقاته، وهو على هذه الثروة الواسعة لا يتجاوز الثلاثين من عمره وله في الصيد ولع شديد.
وقد صحب الإمبراطور إسكندر مرة إلى صيد الدب؛ حيث كان وليا للعهد، ولكنه لا يوجد دبب في هذه الأقاليم التي يقيم فيها الآن غير ذئاب كثيرة، كما تعلمون، وولعه في اقتناص الذئاب والمخاطرة في صيدها لا يحيط به وصف، فإنه ما كانت تتوارى الشمس في الحجاب ويسدل الظلام نقابه حتى يبرح قصره الفخيم على ضفاف البريزينا، ويذهب إلى الشمال أي إلى جهات موسكو، يصحبه 7 أو 8 من أصدقائه في العاصمة، فيركبون مركبة تجرها جياد لا يرى أشد منها، فيدفعها بسوطه وصوته فتندفع فوق الجليد اندفاع السيل.
ويكون خادم جالسا في مؤخرة العربة يحمل جديا صغيرا، فمتى توقفت المركبة في الغابات جعل الخادم يشد أذن الجدي، فيصيح، وتسارع الذئاب عند سماع صوته، فيطلق البرنس وأصحابه النار عليها دون انقطاع، ويلبثون على ذلك إلى أن يشرق الصباح، فيرون جثث الذئاب جامدة على الثلج، وهي أعظم ملذات هذا الأمير، فإنه عندما تشرق الشمس في الغابات ترجع الذئاب إلى أوكارها، فترجع مركبة البرنس في الطريق التي قدمت منها، والخدم يلتقطون الذئاب المقتولة، فإذا بلغوا بها القصر نزعوا جلودها وحفظوها فيه.
وقد اتفق أول أمس مساء أن البرنس أمر رجاله أن يشدوا المركبة، وقد خطر له صيد الذئاب، وعند غياب الشمس خرجت المركبة به وبأصحابه، وجلس خادم في مؤخرة المركبة وبيده الجدي، وجلس آخر بقربه، وقد تكدست أمامه البنادق والذخيرة، فكلما فرغت بندقية حشاها.
وتابع السائق: وكنت أنا الذي أسوق تلك المركبة، فلما انسدل الظلام، ودخلنا في الغاب صهلت الجياد وهجمت الذئاب، فأطلق البرنس وأصحابه النار، فكانت الذئاب تسقط فرادى وأزواجا، والمركبة سائرة في سيرها الحثيث، فما مرت ساعة حتى قتل من الذئاب مقدار كبير.
ثم خرجنا من الغابة إلى سهل منيع، ولكن الذئاب بقيت تطاردنا.
فما توغلنا في ذلك السهل حتى سمعنا صوت إطلاق النار، فاستاء البرنس، وقال: من هذا الذي يتجاسر ويصطاد في أرضي، في نفس اليوم الذي أصطاد أنا فيه؟
ثم أمرني أن أسرع إلى الجهة التي خرج منها الصوت ، فدفعت الجياد دفع التيار.
وبعد هنيهة سمعت البرنس يأمرني ويقول: أسرع ما استطعت لأني أرى رجلا في خطر الموت، وهو عرضة لأنياب الذئاب.
فامتثلت ثم سطع ضوء القمر على نحو ثلاثين ذئبا يأكلون ذئبين، ورأيت على مسافة عشر خطوات منها رجلا واقفا من غير حراك، وبيديه مسدسان فرغ رصاصهما دون شك.
فلما اقتربت المركبة من الذئاب لم تحفل بها، ولبثت تنهش الذئبين القتيلين بأنيابهما، غير أني رأيت ثلاثة ذئاب منها هجمت على ذاك الرجل ولم تبعد عنه غير مائة متر، فسمعنا صياحا شديدا، ثم رأينا أحد هذه الذئاب قد سقط على الأرض، وذلك أن الرجل صدعه بحديد مسدسه فهجم عليه ذئب آخر وتعلق في عنقه، وعند ذلك أطلق الرئيس بندقيته فسقط الذئب وسقط الرجل.
ثم رأينا الرجل قد نهض، فعلمنا أن الرصاصة قد أصابت الذئب دونه، فهجمت الذئاب عند ذلك بجملتها على ذلك الرجل، ولكن المركبة قد بلغت إليها لحسن حظه، فصلاها البرنس وأصحابه نيرانا حامية، وعقد دخان بارود البنادق ضبابا كثيفا حول الذئاب، وفوق الرجل.
ولما انقشع هذا الضباب رأينا الرجل لا زال واقفا وكان دامي الجسد، ساهي الطرف يوشك أن يجن من يأسه، فرمى إليه البرنس في الحال حبلا أمسك طرفه الآخر فتعلق به إلى المركبة وهي تجري، فسلم المسكين من الموت، ولكنه لم يسلم من الجنون.
ووقف السائق في حكايته عند هذا الحد، فاضطرب إيفان لهذه الحكاية، وسأله: من هو هذا الرجل؟ - لم أعرف اسمه، وكل ما عرفته عنه أنه فرنسي.
وكان رئيس المحطة واقفا فدنا من إيفان، وقال: أنا أعرفه.
20
فنظر إيفان إلى وكيل المحطة وسأله: ماذا تعرف من أمر هذا الرجل؟ - أعرف أنه فرنسي من النبلاء، وأنه كان مسافرا مع رجل ألماني فمرا من هنا منذ ستة أيام، وكانا ذاهبين إلى قصر الكونت بونتيف إلى لفروا، أتعرف هذا الكونت يا سيدي؟ - كيف لا أعرفه وهو أبي؟!
فحياه الوكيل باحترام وذهب به إلى الغرفة، وقال له: أحقيقة يا سيدي أنك ابن الكونت بونتيف ؟ - دون شك. - وأنت ذاهب الآن إلى قصر أبيك في لفروا؟ - نعم. - إذن، قد علمت بما جرى فيه حديثا.
فدهش إيفان وسأله: ماذا جرى؟ - إن وكيلك قد مات. - نقولا أرسوف؟ - نعم.
فذعر إيفان لهذا الخبر؛ لأنه كان يرجو أن يقبض مالا من وكيله، وسأله: كيف مات؟ - مات محصورا بالجليد وقد قتلته تلك المرأة الشقراء. - ماذا تقول؟ وعن أية امرأة تتكلم؟ - إني لا أعني بها تلك الآنسة الحسناء التي اختطفها الفرنسي، بل المرأة الأخرى.
فزاد ذهول إيفان، وقال: إني لا أفهم شيئا من هذه الألغاز. - سأوضح لك هذه الألغاز مبتدئا من البدء كما يقولون؛ وذلك أنه منذ ستة أيام عند هجوم الليل مر بهذه المحطة ذلك الرجل النبيل الفرنسي الذي قلت لك عنه، وطلب إلي أن يغير جياد مركبته في الحال، فإنه كان عازما على مواصلة السفر بالرغم عن اشتداد البرد.
فأعطيته الجياد وسافر، ولم يوشك أن يتوغل في الغابة حتى طلعت عليه الذئاب، فأطلق عليها النار كما يفعل البرنس مارزوبولوف، وقد تمكن من إنقاذ فتاة كادت تفترسها الذئاب لولا إسراعه إليها، وهي فتاة لم أر أجمل منها، وقد ظهر لي أنها فرنسية. - أهي شقراء الشعر؟ - نعم.
واضطرب إيفان وسأله: أتعرف اسمها؟ - أتذكر أني سمعت الرجل الفرنسي يدعوها مدلين.
وصاح إيفان صيحة شديدة، وقال: أعرفت من أين كانت قادمة؟ - نعم إنها قادمة من موسكو إلى فندق ساوا، ويظهر أن الخادم الذي كان يصحبها في رحلتها أراد الاعتداء عليها في ذلك الفندق، ثم أخذ يعاملها معاملة وحشية.
فاصفر وجه إيفان من الخوف، وسأله: وبعد ذلك؟ أسرع بالإجابة. - وبعد ذلك تمكنت تلك الفتاة الطاهرة من الفرار، ولحسن حظها سقطت منهوكة القوى على الجليد، واتفق مرور ذلك الفرنسي فأنقذها.
وفي اليوم التالي عاد الثلاثة فمروا بهذه المحطة، وهم: الفرنسي والألماني والفتاة، وذهبوا إلى قصركم في لفروا.
وزال عند ذلك كل ريب من فؤاد إيفان، وأيقن أن هذه الفتاة الفرنسية التي نكبت هذه النكبات هي مدلين نفسها، وأن أباه بونتيف أرسلها دون شك إلى وكيله نقولا أرسوف كي يرسلها إلى ألمانيا، ولكنه عاد إلى وكيل المحطة، وسأله: وماذا جرى بعد ذلك؟ - بعد أن سافر الفرنسي وأخبرنا كيف أنقذ الفتاة مر بهذه المحطة في أثره وكيلك نقولا أرسوف وكان عائدا من ستيديانكا؛ حيث كان يجلد فيها أحد الفلاحين، وكان يصحب معه رجلا ألمانيا وامرأة.
ويظهر أن نقولا أرسوف قد شغف بها؛ فإنه كان ينظر إليها نظرة تشف عن غرامه، ولا أعلم ما حدث في قصركم منذ خمسة أيام، ولكن الذي أعلمه أن الرجل الألماني والمرأة الشقراء والفتاة الفرنسية قد مروا بهذه المحطة صباح أمس وهم ذاهبون إلى الحدود الألمانية، وبعد سفرهم بساعة جاء أحد الفلاحين وأخبرنا أن وكيلكم نقولا أرسوف وجد في بركة في حديقة القصر محصورا بالجليد إلى عنقه، وهو ميت، فسافر رجال الشرطة في الحال ولا بد أن يكونوا الآن عندكم يحققون.
فلم يكترث إيفان لموت وكيله، بل قال له: وهي ماذا حدث لها؟ - لقد قلت لك يا سيدي إنها مرت بهذه المحطة أمس مع الألماني وامرأته ويظهر أنها غير خائفة، بل إنها كانت تبتسم.
وارتاح فؤاد إيفان وتنهد تنهد المنفرج بعد ضيق، فقال له ناظر المحطة: إنه لا بد لك يا سيدي من الذهاب إلى القصر، فإن كل شيء قد انقلب فيه بعد موت الوكيل، ويحسن بك بعد ذلك أن تعرج في طريقك على فندق ساوا. - لماذا؟ - لأن ذلك الخادم الذي حاول الإساءة إلى مدلين لا يزال جريحا في ذلك الفندق، فإذا لقيته وقفت منه على الحقيقة بتفاصيلها.
فاتقدت عينا إيفان بشرر الغيظ وقال: لقد أذكرتني هذا الشقي وكنت قد نسيته، وسأجعله عبرة لأمثاله.
وعند ذلك دخل الخادم الإيطالي الذي يصحبه إيفان في رحلته وقال له: إن الجياد شدت إلى المركبة وهي على أهبة السفر.
ووقف إيفان وقفة المتردد، وذلك أنه بات واثقا الآن كل الثقة أن حبيبته مدلين التي يسافر للبحث عنها قد سافرت إلى الحدود الألمانية، وهي ستسير منها إلى فرنسا، إذن، لا بد له من اللحاق بها، وماذا يهمه موت نقولا أرسوف؟ لأن الاهتمام به من شئون أبيه، ثم ماذا يهمه ما طرأ بعد موته من الحوادث بعد أن عرف الطريق التي سارت بها مدلين.
غير أنه تذكر أن ذلك الخادم الذي كان يصحب حبيبته قد تجاسر برفع نظره إليها فهاجت في فؤاده عوامل الانتقام.
ثم قال في نفسه: من هو هذا الرجل الذي يذكرون مرة أنه سائق، ويقولون عنه مرة: إنه خادم أرسله أبي مع مدلين؟ ألا يمكن أن يكون أبي علة هذه الموبقات وسبب هذه النكبات التي أصابت مدلين.
ولما دار في خاطره ذلك الخاطر قال: لا بد لي من أن أرى هذا الرجل.
ثم التفت إلى وكيل المحطة وسأله: أأنت واثق أن هذا الرجل لا يزال في الفندق؟ - نعم ...
ولم يشأ إيفان أن يعلم أكثر مما علم، وخرج يتبعه الإيطالي، فركب المركبة، وأمر السائق أن يسير به إلى فندق ساوا.
وبعد ساعتين وقفت المركبة عند باب الفندق، وكانت السكينة تكتنفه، ولا يسمع في جوانبه غير حفيف الأشجار، ويجاوب ذلك الطير الذي لقب الفندق باسمه، وكان كل شيء حوله يدل على أنه غير مأهول.
ولكنه كان لا يزال يوجد فيه ثلاثة أشخاص، وهم: تلك المرأة العجوز التي شربت المخدر، وتلك الداهية الشمطاء صاحبة الفندق، وذلك الخادم السافل الذي كان يصحب مدلين.
وكانت العجوز تبكي كلبها الذي شاركها في شرب المخدر فمات، وبطرس السائق يعالج جراحه ويأسف لإفلات مدلين من يده، وصاحبة الفندق تتوقع فرصة جديدة وإثما جديدا تبلغ به خير أمانيها من الكسب الشائن.
ودخل إيفان وكان أول من رآه رجلا نائما على مقعد بادية في وجهه علائم التألم، وهو بملابس الفلاحين الروسيين.
غير أن إيفان عرفه في الحال فانقض على عنقه انقضاض العقاب، وقال له: أيها الشقي ماذا فعلت بمدلين؟ إني سأقتلك شر قتل، ولكني أريد قبل ذلك أن تعلم أني أنا إيفان دي بونتيف.
ولم يكن بطرس يعرف إيفان لأنه لم يكن رآه من قبل فاصفر وجهه وارتعدت فرائصه وسقط جالسا على ركبتيه، ثم ضم يديه مستعطفا ، وقال له بلهجة المتوسل: رحماك لا تقتلني فإني لم أكن غير آلة بيد أبيك.
فأحدث هذا التصريح رد فعل لا يوصف في نفس إيفان، وقد زال غضبه، وجعل ينظر إلى ذلك الرجل المضطرب أمامه لضعفه وخوفه، وقال له: تكلم، إني أريد أن أعرف كل شيء.
وكان بريتو الخادم الإيطالي قد دخل مع إيفان، فانذهل انذهالا شديدا حين سمع صوت بطرس يتكلم لما رآه من التشابه بين الصوتين، خلافا لإيفان فقد كان منشغلا بما فيه عن الانتباه إلى هذا التشابه الغريب.
21
لا بد لنا قبل التوغل في الحديث من أن نبين حقيقة ما رواه السائس على البرنس مارسوبولف في محطة بترهوف.
لقد صدق فيما قاله عن ذهاب هذا البرنس إلى الصيد مع أربعة من أصحابه، وصدق في قوله إن البرنس أنقذ الرجل الفرنسي بحبل رماه إليه فاجتذبه والمركبة سائرة.
غير أن الذي أخطأ به السائق هو ما توهمه من جنون هذا الفرنسي، وهو الفيكونت كارل دي مورليكس، كما لا بد أن يكون قد تبادر إلى ذهن القراء.
وحكايته أن روكامبول حين ألقاه إلى الذئاب ورمى إليه مسدسه لم يكن يريد بذلك أن يعد له وسيلة للنجاة، فإن السلاح مع الذئاب يكون أدعى إلى قتله، بل إنه أراد أن يعد له موتا هائلا يعادله ذنوبه العظيمة.
ولكن كان يقول في نفسه: إنه إذا قدر له أن ينجو بعجيبة من أنياب الذئاب لا بد له أن يعود إلى باريس فأعاقبه عقابا هائلا لا يخطر في بال إنسان.
وكان كارل قد تعلق بالمركبة - كما تقدم - فاستمرت المركبة على سيرها الحثيث تجنبا للخطر الشديد الذي كان محدقا بها.
وذلك لأنه ما زالت المركبة تجري لا تجسر الذئاب على مهاجمتها، بل تطاردها مقتفية أثرها، فإذا قتل واحد منها توقفت هنيهة إلى أن تأكله ثم تعود إلى ما كانت عليه من مطاردة المركبة.
والويل لركابها إذا وقفت بهم والذئاب تطاردها فإنها تهجم عليهم وتمزقهم كل ممزق مهما بلغ من بسالتهم وعددهم وذخيرتهم.
ولذلك كانت حياة أولئك الصيادين موقوفة على الجياد والسائق؛ فكان البرنس يختار أشهر الجياد وأمهر السواق لهذا الغرض.
ولما أنقذوا الفيكونت كارل وضعوه في المركبة بينهم، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون العناية به لاهتمامهم بالذئاب وإطلاق النار المتواصل عليها.
أما كارل فقد كانت ثيابه ممزقة ملوثة بالدماء، فإن بعض تلك الذئاب نهشت ذراعه ويده، وكان الدم يتدفق منهما، وكان وجهه مصفرا يشبه لون الأموات، وعيناه ساهيتان ولم يكن يفرق في شيء من المجانين.
وكان أول من تنبه له أحد أصحاب البرنس، فإنه نظر إلى ملابسه ورأى أنها غير ملابس الفلاحين، وأنها تدل على أن لابسها من النبلاء.
ودنا منه وسأله باللغة الروسية: من أنت؟
وأجابه كارل: إنني فرنسي ...
ثم سقط في المركبة لضعفه، وقد سحق الخوف واليأس قوته، وظلت المركبة تجري.
وكان القمر قد توارى في السحاب، وغارت النجوم في سمائها، وبدت أشعة الفجر، وخرجت المركبة من مواقف الخطر بعد أن اجتازت تلك الغابة الكثيفة، وبعدت بعدا شاسعا عن نهر البريزينا، وعن قصر البرنس، وهبت الذئاب عند طلوع الصباح، ووصلت المركبة إلى المحطة.
وأمر البرنس السائق أن يعود بالمركبة إلى القصر، وقال لأصحابه: إننا لا نبعد الآن غير ستة فراسخ عن قصر صديقي الكونت كوروف، فهلم بنا نتغدى عنده، فإنه من أحب الناس إلي.
وتلقت الجماعة هذا الاقتراح بالقبول والاستحسان، وقال واحد منهم: لقد نسيتم أيها الرفاق أنه يجب علينا الاهتمام بهذا المنكود الذي أنقذناه من أنياب الوحوش.
ونظر البرنس إلى كارل فوجده نائما في المركبة، وهو لا يتحرك كأنما قد فاجأه الموت.
وكانت أشعة الشمس قد أنارت الفضاء فجعل البرنس يتأمل وجه كارل، ويقول: ما هذه الهيئة إنها لا تشبه وجوه الروس في شيء؟
فأجابه رفيق: إنه فرنسي.
ورد آخر: يظهر أنه من النبلاء، فإن آثار ملابسه تدل على أنه من كبار القوم.
وقال ثالث: هو ذا حقيبة معلقة في وسطه، ولا بد أن يكون فيها ما يدل على منزلته.
وكانت هذه الحقيبة محشوة بالأوراق المالية، وقد بالغ كارل بالحرص عليها، حتى إنه شدها إلى وسطه حذرا عليها من الضياع.
ثم أنهم رأوا في خنصره خاتما من الماس، ففحصه البرنس، وقال: يظهر أننا قد أنقذنا رجلا من كبار النبلاء أو هو من وجهاء قومه على الأقل.
فأجابه صديقه: ولكن كيف اتفق وجوده وحيدا في المكان المخيف الذي وجدناه فيه.
ورد البرنس: إن ذلك سر من الأسرار الغامضة لا نستطيع أن نعلمه إلا من فمه إذا قدر له أن يستفيق، فإني أرى عليه علائم الموت.
وأجاب آخر: وهبه استفاق، فلا بد أن يكون ذهب الذعر بصوابه، فإني رأيت عليه علائم الجنون.
وعند ذلك تحرك كارل، ولكنه لم يفتح عينيه، فغطوه بما لديهم من الفرو وقاية له من البرد، ثم تركوه وشأنه إلى أن يستفيق، وجعلوا يتحدثون بحوادث العاصمة وملذات الشتاء.
أما كارل دي مورليكس فإنه لم يكن نائما، ولم ينم منذ إنقاذه، وكان قد أصيب بذهول شديد بعد نجاته من ذلك الموقف الرهيب، حتى أوشك عقله أن يذهب، ولكن هذا الذهول لم يطل؛ فإنه ما لبث أن وثق من النجاة حتى جعل صوابه يعود إليه تباعا، فنفض عنه غبار الجنون كما نفض غبار الموت.
ولكنه كان يتظاهر بالنوم كي يتسنى له أن يفتكر كما يريد، وينظر في أمره وما صار إليه، ويضع الخطة اللازمة للمستقبل.
وكان أول ما خطر في باله روكامبول، فتمثل في خاطره بشكل هائل يحمل الرعب، وذكر في الحال ما كان يجده من اضطراب تيميلون عند ذكره ومخاوفه من هذا العدو الشديد.
ولم يكن في حاجة إلى الإمعان الكثير كي يذكر حالته وما مضى وما سوف يكون؛ فلقد أيقن أن روكامبول لا بد له من أن يعود إلى ليفروا لإنقاذ فاندا من قبضة التتري، وأنه - أي الفيكونت كارل - بينما هو نائم في تلك المركبة، لا بد أن يكون روكامبول سائرا في مركبة أخرى مع مدلين إلى فرنسا.
ولكنه كان إذا افتكر أن مدلين أفلتت من يده يلتهب من غيظه غير أنه لم يقنط من الفوز النهائي، وقال في نفسه: إنه مهما بلغ من انخذالي مع هذا الداهية روكامبول فقد يبقى لي أرجحية عظيمة عليه، وهي اعتقاده أني من المائتين، فمتى عدت إلى فرنسا حاربته متنكرا، وصببت عليه الويل، وهو لا يعلم من أين تأتيه هذه الكوارث.
وبينما كان كارل يناجي نفسه بمثل هذه الأماني كان البرنس وأصحابه يتحدثون، وكان البرنس يحدثهم عن صديقه الكونت كوروف فيقول: إنه خير رجل عرفته بدماثة الأخلاق ولين الطباع، فإنه رجل رحلات كثيرة، وأقام في باريس زمنا طويلا؛ فاكتسب لين أهلها، وظرف آدابها، وهو فوق ذلك ميال إلى الآداب، ولا يحيط به غير الكتاب والشعراء والمصورين والممثلين وكل من شغف بفن جميل.
فسأله أحد الحضور: ألعلك لم تره منذ عهد بعيد؟ - منذ ستة أشهر. - إذن، سيبدو لك بشكل لم تعهده فيه من قبل. - كيف ذلك ألعله أصيب بمكروه؟ - إنه بات منقبض الصدر حزين الفؤاد تبدو عليه آثار الكآبة فلا تفرح نفسه بشيء. - لماذا وكيف انقلب هذا الانقلاب؟ - لأن قلبه كان خاليا من الهوى فتمكن الغرام منه كل تمكن. - إنك تدهشني فيما تقول، ومن عسى تكون الفتاة التي شغف بها؟ - إنه يهوى امرأة لا تهواه وهي الكونتس فاسيليكا. - أهي مدام واسرنوف الحسناء؟ - هي بعينها. - ولماذا لا تريد الزواج به؟ ألعلها لا تزال طامعة بزواج ابن عمها إيفان دي بونتيف؟ - إنها لا ترضى سواه على فقره. - إني أشفق على هذا الشاب؛ فإنه سوف يجد عناء شديدا مع هذه الكونتس، فقد عرفت أخلاقها، وهي تشبه الفرس الجموح.
وأجاب آخر: إن إيفان لا يستطيع ترويض هذا الفرس.
ولما سمع كارل اسم إيفان، اضطرب وانتبه انتباها شديدا لما يجري من الحديث.
22
وعاد البرنس إلى افتتاح الحديث فقال: أحقا ما تقوله إن الكونت كولوف أصبح على هذه الحال؟ - هي الحقيقة، فقد تدله بغرامه. - إذن، فقد أخطأنا بما عزمنا عليه من الذهاب لزيارته؛ إذ لا يروق له وهو في هذه الحال أن يرى أنيسا، ولا أحب له من الاختلاء ومناجاة من يحب. - وأنا أرى عكس ما تراه؛ فإنه سوف يتعزى بقربنا عما هو فيه، وربما باح لنا بغرامه فآسيناه.
وعند ذلك تحرك كارل؛ فقال البرنس: هو ذا الرجل قد استفاق، فلننظر في مسألته.
وكان كارل قد فتح عينيه ونظر إلى حواليه نظرا حائرا وهو يتكلف الانذهال والدهشة، ثم نظر إلى الأشخاص المحدقين به، وقال: أين أنا؟
فأجابه البرنس باللغة الفرنسوية: إنك عندنا في محل أمين بعيد عن أنياب الذئاب، فوقف كارل عند ذلك وتكلف هيئة الذعر، وقال: نعم، نعم، فقد ذكرت كل شيء الآن.
فحياه البرنس التحية المألوفة في القاعات الكبرى، وقال له: إني أهنئك بنجاتك.
فرد كارل التحية بأحسن منها، وقال: لا بد لي أيها السادة قبل أن أشكركم عما أحسنتم به إلي من إنقاذي من الوحوش الضارية أن أستأذنكم وأتشرف بذكر اسمي لكم، فإني أدعى الفيكونت كارل دي مورليكس من أشراف الفرنسيين.
فانحنى الجميع أمامه باحترام، وجعل كل منهم يذكر اسمه وألقابه.
فلما تم التعارف حسب العادات المتبعة سأله البرنس: أتؤلمك كثيرا هذه الجراح التي أصابتك بها الذئاب؟ - كلا، فإنها قد خدشتني، ولولا ثخانة ملابسي لكانت افترستني قبل أن تتمكنوا من إنقاذي فقد كنت في معترك شديد. - أتأذن لي يا سيدي أن أسألك: كيف اتفق وجودك فردا في ذلك المكان الهائل الذي وجدناك فيه؟ - إنني كنت عائدا من موسكو؛ إذ كنت فيها لقضاء بعض أشغال خصوصية، وكنت راكبا في المركبة مع خادم غرفتي الذي كان جالسا بإزاء السائق، وقد طال بنا السير، فنمت ثم استفقت مرعوبا، وقد سمعت صراخا مزعجا وشعرت أن المركبة تسير بسرعة فائقة الحد.
فحسبت أننا معرضون لخطر السقوط في هوة من الجليد أو أن الخيل قد جمحت فأسرعت في الحال، ووثبت من المركبة بغية النجاة دون أن يشعر بي السائق وخادمي الجالس بجانبه.
أما الصراخ الذي كنت سمعته وإسراع المركبة بالسير فلم يكونا ناتجين عما توهمته من خطر السقوط في هوة أو جموح الجياد، بل كانا لخطر مخيف، وهو أن الجياد رأت عصابات الذئاب فتراكضت مذعورة تجر المركبة بسرعة البرق، وأما أنا فقد سقطت بين الذئاب، واستمرت المركبة في سيرها دون أن يشعر سائقها بسقوطي ويسمع ندائي.
وكانت حكاية كارل على تلفيقها ظاهرا الصدق فيها لا يستطيع أحد أن يحملها على شيء من محامل الريب.
واغتنم كارل تلك الفرصة، فجعل يحدث الجماعة بأرق الأحاديث، ويظهر من لطف آدابه وحسن تخريجه ورقة عشرته ما يدهش الحاضرين، حتى شغف البرنس بحديثه، وقال له: إني أرجوك يا سيدي الفيكونت أن تأذن لي بدعوتك إلى قصري فتقيم فيه أسبوعا قبل عودتك إلى فرنسا.
فانحنى كارل إشارة إلى الشكر والقبول، وأتم البرنس حديثه: سنذهب سوية قبل ذلك لزيارة صديقي الكونت كورولوف في قصره القريب من هنا، وهو كائن بين الأشجار الملتفة التي تراها.
وأشار البرنس بيده إلى مكانها، فرأى كارل قصرا عظيما أبيض بجدران عالية تحدق به الأشجار من كل جانب.
وبعد ساعة دخلت مركبة البرنس في ردهة ذلك القصر، يحف به الفيكونت دي مورليكس وبقية أصحابه، فأسرع الكونت كارولوف إلى ملاقاة ضيوفه.
وقد اندهش أصحاب البرنس حين رأوا هذا الكونت على غير ما كانوا يتوقعونه من انقباضه وانكماش نفسه مما ذكروه عن غرامه؛ فإنه كان باسم الثغر طلق المحيا ولا أثر في وجهه للحزن والكآبة.
وبعد أن نزلوا جميعهم من المركبة وجلسوا هنيهة يتحادثون ودخلوا إلى قاعة الطعام.
وفيما هم يأكلون ويتنادمون، قال البرنس لصديقه الكونت: أرجوك أن تقبل تهنئتي. - بماذا؟ - لأني أراك قد تعافيت وشفيت.
فأجابه منذهلا: كيف أني شفيت ومتى كنت مريضا؟ - لقد قيل لنا: إنك كنت مريضا بداء الغرام. - هل اتصل بك ذلك أيضا؟ - نعم، وهل مثل غرامك المبرح يخفى على أحد من أصدقائك؟ - إذن، اعلم إذا كنت لم أتنصل تماما من هذا الداء؛ فإنه معي على طريق الشفاء. - ألعلك رجعت عن حب الكونتس فاسيليكا؟ - كلا، بل إن حبي لها قد استحال إلى عبادة. - إذن، كيف تقول: إنك آخذ بالشفاء؟ - ذلك لأنه قد ترجح زواجي بها بعد شهرين. - وإيفان؟
فضحك الكونت وأجاب: إن رأيي في النساء هو أن كل من يجسر على القول بأنه يعرف قلب المرأة فهو أبله لا محالة.
فوافقه البرنس على الضحك وقال له: وأنا من رأيك أيضا؛ فإن النساء صناديق مقفلة. - إن الكونتس فاسيليكا قد غادرتني حليف اليأس في العام الماضي، فإذا شكوت لها غرامي هزأت بي، وإذا بكيت أمامها ضحكت علي.
وقد قلت لها يوما: إنك بالغت في الجور علي، فإذا قتلت نفسي، فماذا تصنعين؟ فضحكت وقالت: لا أعلم، ولكني أؤكد لك أني لا أنتحر.
فتركتها، وتركت بطرسبرج لأجلها، وجئت إلى هنا واليأس ملء قلبي، وكنت عازما عزما أكيدا على الانتحار.
ولكن وردني منها خطاب منذ يومين.
فصاح البرنس يقول: كتاب من الكونتس؟ - نعم، فإن الغيم يعقبه الشتاء، والظلمة يجيء في أثرها النور، ولا بد للأزمة متى اشتدت من الانفراج.
ثم فك أزرار سترته وأخرج من جيبه كتابا وقال للحاضرين: اسمعوا سأقرأ لكم هذا الكتاب.
وأصغى إليه الحاضرون كل الإصغاء، وقرأ لهم ما يأتي:
أيها الكونت العزيز
لا بد أن تكون قد أخطأت في حكمك علي، فإذا كان ذلك فإن الحيف واقع عليك، وإذا كان لا يزال في قلبك شيء من الأمل فقد يكون ذلك لخيرك وخيري؛ لأني أحبك وأرضى بك زوجا لي، وأعدك بالاتفاق على الزواج في الربيع إذا كنت لا تزال في قيد الحياة ولم يقتلك اليأس.
واسمح لي أن أقول لك أيها الصديق العزيز: إني ما أحببت إيفان بونتيف، ولكني كنت وعدت رجلا أن أتزوج به وهو الآن قد مات، فتخلصت من هذا الوعد، وهذا الذي كان يدعوني إلى ما كنت أعاملك به من الجفاء.
أما إيفان: فقد أصبح الآن من المجانين؛ لأنه يهوى فتاة فرنسية تدعى مدلين، وهو لا بد له من زواجها لفرط شغفه بها.
أما هذه الفتاة: فلا توجد إلا في مخيلته؛ لأنها غير كائنة في الوجود، إنما الجنون مثل له هذا الغرام وهذه الفتاة.
وقد سافر إلى باريس للبحث عن هذه الفتاة الوهمية، فأرسلت معه أحد خدمي للعناية به ولمراقبته طبقا لإرادة أبيه الذي أوشك أن يجن من يأسه وإشفاقا عليه.
أما جنون إيفان: فليس من نوع الجنون المطبق، ولكنه منحصر في أمرين؛ أحدهما: هيامه بتلك الفتاة الفرنسية وهي لم توجد في العالم، والثاني: اعتقاده أنهم سجنوه في قلعة بطرسبرج كي يكرهوه على الزواج بي، وفي ما خلا ذلك فهو عاقل؛ بحيث لا تظهر عليه أعراض الجنون إلا في هذين الأمرين.
فإذا كنت لا تزال تحبني - أيها الكونت العزيز - فتعال وقف قربي شهرا من شهور الشتاء في باريس عاصمة الفرنسيين، فإني مسافرة هذا المساء في طريق البحر.
فإذا أردت موافاتي إلى باريس فإنك تجدني في شارع بيبينيار؛ إذ أكون ضيفة في قصر الكونت أرتوف زوج باكارا.
والسلام عليك من التي تهواها وتهواك.
فاسيليكا واسرنوف
فلما فرغ من تلاوة الكتاب نظر إلى الحضور نظرة المستطلع، وقال: ما رأيكم في هذا الكتاب؟
فقال البرنس: إن الذي أراه أنا هو: أنه لولا جنون إيفان لما ورد إليك هذا الكتاب.
فابتسم الكونت ابتسام الحزين وأجاب: ربما، بل إني أرجح رأيك كل الترجيح. - وهل عزمت على السفر إلى فرنسا؟ - سأسافر بعد غد. - ولكن كيف جن هذا المسكين؟ - لا أعلم سبب جنونه وما علمت هذا الجنون إلا من الكونتس.
وقال أحد الحاضرين: لقد بلغني أنه كان يفرط من شرب الأبسنت، وكأنه كان يحب الكونتس حبا شديدا، ولكنها كانت تسيء إليه، وتعده مع ذلك، فيضطرب فؤاده بهذا التباين. - هذا نفس ما سيتفق لك.
فرد الكونت: أما أنا فإني أؤثر العبودية للنساء على السيادة عليهن، وأفضل أن أمتثل وأطيع على أن أنهى وأأمر.
وبينما كانوا يتحدثون بقصة هذه الكونتس وأطوارها كان الفيكونت كارل دي مورليكس يحدث نفسه فيقول: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وإن الشر قد ينتج منه الخير، ولو لم يلحقني روكامبول ويطرحني إلى أنياب الذئاب لما استطعت أن أعرف ما عرفته الآن، وهو أن إيفان دي بونتيف يسير إلى باريس في أثر مدلين، وأن الكونتس فاسيليكا يهمها أن يظهر إيفان بمظاهر الجنون.
إن هذه المرأة أعظم عون أرسلته إلي جهنم، وعاد الأمل فحل في فؤاده محل القنوط.
23
لقد تركنا إيفان في فندق ساوا يقول لبطرس السائق: إذا كنت تؤمن بالله واليوم الأخير فاستغفر الله؛ لأنك ستموت، وقل لي كل شيء.
وكان بطرس جبانا، منخلع القلب، فكانت نظرات إيفان إليه ومظاهر غضبه كافية لحمله على الإقرار بتفاصيل الجناية.
وكان إيفان يضطرب اضطرابا شديدا، وقد احمرت حدقتاه من الغضب، فنظر بهما إلى بطرس، وقال: إني أريد أن أعرف كل شيء، وقد أخذ مسدسه من جيبه ووضعه على الطاولة.
وارتجف بطرس من خوفه: سيدي لست أنا الجاني بل هو أبوك. - أبي؟ - نعم. - إذن، أوضح كل شيء بالتفصيل.
وقد تكلف اللطف حين قال له هذا الكلام، وعاد إلى بطرس بعض الأمل، وحسب أن إقراره ينجيه من الموت.
وكان خادم فاسيليكا الإيطالي قد دخل في أثر إيفان وسمع كل شيء، فإن بطرس السائق لم يكتم عن إيفان شيئا من جميع الحوادث المتقدمة دقيقها وجليلها، فذكر له كيف لقيه أبوه؟ وكيف استلفت أنظاره إليه تشابه الصوتين؟ وكيف أنه عهد إليه حين وصوله إلى موسكو أن يتظاهر بالخرس إلى أن عهد إليه بالذهاب مع مدلين؟ وإطلاق السراح له معها كيف شاء.
وكان إيفان واضعا يده فوق صدره وهو يسمع خيانة أبيه من فم هذا السائق، فيصفر وجهه ويصغر في عيني نفسه.
فلما أتم السائق حديثه قال لإيفان: اعلم يا سيدي أن أباك لم يكن يريد أن تنظر مدلين، فأبعدها عنك، ثم قدر أنه يتفق اجتماعك بها فأراد أن تجدها ساقطة إلى الحضيض؛ بحيث يستحيل عليك أن تجعلها امرأتك بعد سقوطها.
فرد إيفان ببرود: وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك رأيتها جميلة وراقت لعيني. - ويح لك أيها الشقي! ماذا تقول؟ - ألم تأمرني يا مولاي أن أعترف بكل شيء؟ - حسنا قل. - إن أباك يا سيدي قال لي حين سفرنا: إن هذه الفتاة لديها في كيسها عشرون ألف فرنك، وهذا المبلغ مهر لها، فقلت في نفسي: إنني قد أكون كفؤا لها كغيري من الأزواج.
فرشوت السائق وجاء بنا إلى فندق ساوا، وهنا اتفقت مع صاحبة الفندق، فوعدت أن تأذن لي بفعل ما أريد. - وبعد ذلك، قل وأسرع . - وبعد ذلك حاولت أن أغتصب الصبية بكل ما يبلغ إليه الجهد. - ويحك! قل، ألم تدافع عن نفسها؟ - إنها دافعت دفاعا لم يكن يخطر لي في بال، وهذا الجرح الذي تراه في صدري آثار دفاعها الهائل. - وهذه المرأة ماذا فعلت؟ - لم تفعل شيئا، بل كانت متناومة متشاغلة عنا.
فهاج إيفان هياج العواصف، وأخذ صاحبة الفندق من يدها فاجتذبها فوقعت على الأرض والذعر ملء قلبها، فسألها: أصحيح ما يقوله هذا الرجل؟
فلم تجب بحرف لما تولاها من الرعب، وجعلت تنظر إليه نظرات الخوف الشديد دون أن تستطيع الكلام لتلعثم لسانها.
فقال لها: إن ذنبك أشد من ذنب هذا الرجل، فيجب أن تعاقبي قبله.
ثم نظر في ساعته فوجد أنه لم يبق غير ساعة من النهار.
وكانت المركبة لا تزال واقفة على باب الفندق والسائق جالسا مكانه فيها، فنادى إيفان خادمه بيريتو، وقال له: اتبعني.
ثم احتمل تلك المرأة وهو يلتهب من الغضب، وسار بها إلى المركبة ووضعها فيها، والتفت إلى الخادم الإيطالي: إنك إذا أردت أن تبقى في خدمتي فما عليك إلا أن تنفذ أوامري، والذي آمرك به هو أن تركب المركبة بجانب هذه المرأة الأثيمة، وتسير بها في طريق موسكو، وعندما يهجم الظلام وتصل إلى غابة تلقيها وتعود؛ بحيث تموت من البرد والجوع أو تفترسها الذئاب.
فصاحت المرأة صياحا منكرا وجعلت تستغيث، غير أن الخادم لم يجد بدا من الامتثال، وركب بجانبها، وأمر إيفان السائق بالمسير، وسارت جياده تنهب الأرض.
أما إيفان؛ فإنه عاد إلى الفندق وجلس بسكينة قرب المستوقد.
وكان بطرس واقفا أمامه لا يجسر أن يفوه بكلمة، ولكن حسب أنه نجا من خطر القتل المحدق به؛ لأنه كان ينظر إلى إيفان فيجده غارقا في لجج تصوراته لا ينظر إليه ولا يفتكر فيه.
وما زال إيفان يدخن بسكينة وهو غير مكترث لشيء نحو ساعة، وكانت الشمس قد توارت في حجابها وساد الظلام.
وعند ذلك سمع أجراس مركبة قادمة إلى الفندق وهي المركبة التي سار بها بيريتو الخادم ، فوقف إيفان على عتبة الباب، وجعل ينتظر، ولما رأى بيريتو وحده أيقن أنه أنفذ أمره وألقى العجوز في الغابة.
وعند ذلك عاد الرجل إلى بطرس ونظر إليه نظرة هائلة ما شكك المسكين بعدها أنه من الهالكين، فقال له: استغفر الله، فإنك سوف تموت. - ولكن يا سيدي. - قلت لك استغفر الله، وصل إذا كنت تعرف الصلاة أيها الأثيم.
ثم أخرج المسدس ووضعه أمامه على المائدة.
وركع بطرس قائلا: اعف عني يا سيدي وارحمني يرحمك الله. - كلا، لا رحمة لك، ولا أمهلك غير عشر دقائق لإتمام الصلاة.
وجعل بطرس يستعطف ويتوسل، وإيفان يتشاغل عنه بفحص زناد مسدسه، والنظر من حين إلى حين في ساعته لمراقبة سير دقائقها.
وعند ذلك سمع صوت أجراس مركبة أخرى قادمة إلى الفندق، فاضطرب إيفان وبرقت أسرة بطرس بأشعة الأمل لرجائه أن ينقذه القادمون في المركبة من الموت.
غير أن إيفان أظهر أنه لم يحتفل بالقادمين فأعاد النظر في ساعته، فقال لبطرس: لم يعد لك غير سبع دقائق فاستعد للموت.
وعاد بطرس إلى التوسل والاستعطاف وعيناه تنظران المرة بعد الأخرى إلى الباب؛ لأنه سمع وقع خطوات أولئك القادمين في المركبة التي وققت على باب الفندق.
أما هذه المركبة فكانت مركبة البرنس مازوبولف ولما دخل مع أصحابه رأى إيفان فدنا منه وصافحه.
ولكن إيفان كان الغضب باديا في وجهه، ورد تحية البرنس بلطف متصنع قائلا له: أرجوك يا سيدي البرنس أن تعود من حيث أتيت.
غير أن البرنس لم يحتفل بكلامه وأجابه: ما هذا الاصفرار البادي في وجهك؟ ولماذا أرى هذا المسدس في يدك؟
فأشار إيفان بيده إلى بطرس وأجابه: أترى هذا الرجل؟ - نعم ... - إنه يجب أن يموت. - لماذا؟ - لارتكابه جريمة هائلة يقل في عقابها الموت. - وما هي هذه الجريمة؟
فأجابه إيفان بصوت يتهدج من الغضب: إنه أهان فتاة أنا أحبها تدعى مدلين وحاول تدنيسها.
فنظر البرنس عند ذكر اسم مدلين نظرة سرية إلى أصحابه تشير إلى أن الكونت كورلوف قد أصاب بما رواه عن جنون إيفان.
24
من البرنس ماربولوف إلى الكونت كورولوف في باريس:
صديقي العزيز
لا ريب عندي أنك قد سافرت إلى باريس في أقرب الطرق المؤدية إليها؛ لأننا غادرناك منذ ثلاثة أيام تتأهب للسفر، فإذا اضطررت إلى الكتابة إليك، فلا بد لي من إرسال كتابي إلى باريس.
ولا ريب عندي أنك ستصل إلى العاصمة الفرنسية قبل أن يصل كتابي إليها، فإن ذلك الفرس الكريم الذي تصفه شعراء العرب، وذلك البرق الخاطف الذي يخترق حجب الظلام، وتلك الرياح التي تمر مرور التصور في الخواطر لا تبلغ من السرعة ما يبلغه عاشق ولهان يجب في أثر من يحب.
والآن أتعلم لماذا أكتب إليك؟
إني لا أكتب إليك لأشكرك عما لقيناه في قصرك من حسن الضيافة، بل لأخبرك ببعض أمور تتعلق بمزاحمك المسكين إيفان دي بونتيف.
أرى بعين التصور إنك ستبدي إشارة دهش حين تقرأ اسم إيفان؛ إذ لا يخطر في بالك أنني رأيته، وحقيقة إنني لقيته؛ فاصغ إلى ما أقصه عليك من شأنه.
إننا برحنا قصرك منذ ثلاثة أيام في الساعة الحادية عشرة صباحا، بعد أن استرحنا عندك كل الليل، وبعد ذلك بخمس ساعات أصبحنا على مقربة من بترهوف.
وبينما كنا نسير بتلك السرعة التي تعهدها في أسفاري إذ لقينا مركبة تعدو أمامنا فأدركناها بعد ربع ساعة.
وكانت المركبة خالية، ولكنه كان قد صعد بجانب السائق رجل عرفه أحد أصدقائنا، وقال: إن هذا الرجل هو بيريتو خادم غرفة الكونتس فاسيليكا.
والتفت هذا الخادم فرأى صديقي وعرفه فحياه باحترام.
فسأله صديقي: إلى أين ذاهب؟ ومن أين آت؟
فوجه كلامه لنا جميعا قائلا: إنني لا شك، أتعس إنسان في هذا الوجود!
فسأله صديقي: ماذا دهاك؟ ألعل الكونتس طردتك من خدمتها؟ - كلا، ولكنها عينتني لخدمة رجل أكاد أبلغ معه حد القنوط؛ لأنه مجنون.
فذكرنا عند ذلك ما قرأته لنا في كتاب الكونتس من أنها عينت خادم غرفتها لخدمة إيفان في رحلته إلى فرنسا، واستزدنا الخادم من الحديث، فأخبرنا بكل ما قرأناه في كتاب الكونتس، وأن إيفان يعشق فتاة لا وجود لها ، وأن الوهم قد مثلها فتاة فرنسية بات يدعوها باسم مدلين.
ثم أخبرنا أنه سافر مع إيفان إلى بطرسبرج منذ ثمانية أيام، وأن إيفان يسأل عن أخبار مدلين كل راكب وفي كل محطة، وكلما رأى امرأة حسبها مدلين، فهي ممثلة له في كل مخيل.
وليس ذلك بشيء يذكر في جانب ما حدث لي معه منذ ساعتين، فإننا أوقفنا مركبتنا هنا أمام فندق منعزل يدعونه فندق ساوا.
فنزل إيفان فيه، وكان يوجد في ذلك الفندق امرأة عجوز ورجل، فلما نظر إليهما إيفان، صاح صيحة منكرة، وقال: هذان هما اللذان خدعا مدلين.
فجعل الرجل والمرأة ينظر كل منهما إلى الآخر نظرات الانذهال، فهاج ثائر إيفان وانقض في الحال على المرأة كما ينقض العقاب على فريسته، فحملها وذهب بها إلى المركبة، وأمرني أن أسير بها إلى الغابة فأطرحها فيها طعما للذئاب.
فصحنا جميعا منذعرين: ألعلك فعلت؟
فضحك الخادم وأجاب: قد امتثلت لأمره بالظاهر، ولكني في الحقيقة ذهبت بالعجوز إلى أول قرية مرت بها، وأعطيتها عشرة ريالات، وتركتها فيها، وها أنا عائد إلى سيدي المجنون.
غير أنه ليس هذا كل ما حدث له؛ لأني أخشى أن يكون قد قتل في مدة غيابي ذلك الرجل المسكين الذي تركته وإياه ينذره بالقتل.
فلما سمعنا حديث بيريتو تشاورنا في الأمر كي نهتدي إلى وسيلة نتمكن بها من إنقاذ ذلك الرجل، فاتفق رأينا على أن يتقدمنا بيريتو بمركبته إلى الفندق ببضع دقائق، فإذا كان إيفان لم يقتل الرجل بعد يحول بينه وبين قتله بما يستطيعه من الوسائل إلى أن نحضر إليه.
وتم ما اتفقنا عليه فتقدمنا بيريتو، وسرنا في أثره على مسافة غير بعيدة.
ولما وصلنا إلى الفندق رأينا أن الرجل لم يزل حيا، ولكن إيفان كان متقد العينين أصفر الوجه، منبوش الشعر والمسدس في يده.
ورأينا ذلك السائق المسكين المتهم بإهانة مدلين جاثيا أمامه يتوسل إليه ويستعطفه أن يبقى عليه، وكانت المهلة التي عينها له إيفان للاستغفار والصلاة قد انتهت، وهو عازم على أن يقتله.
وكان أول ما فعلناه أننا تألبنا عليه، وجردناه من سلاحه، فجرى بيننا جدال عنيف، ثم هاج علينا، واتهمنا بأننا نبالغ بالاعتداء عليه، وأن له الحق المطلق بقتل هذا الرجل حتى أوشك أن يقاتلنا جميعا.
ولكن خطر لأحد أصدقائي خاطر لطيف؛ تمكن من إقناع إيفان على وجوب الإبقاء على هذا السائق.
وذلك أن إيفان قص علينا تلك الحكاية التي حصر بها جنونه، فأخبرنا أن أباه يعترض عزمه على الزواج بمدلين، وأنه عهد إلى هذا السائق بقتلها أو تدنيسها.
وكان يتكلم بلهجة يتضح الصدق منها حتى أوشكنا أن نصدقه لو لم ينظر إلينا بيريتو ويبتسم ابتسام الحزين المشفق عليه فزعزع أركان ثقتنا، وعلمنا أن جنونه منحصر بمدلين.
وعند ذلك دنا منه صديقي كولوكين، ودار بينهما الحديث الآتي، فقال كولوكين: أهو أبوك يا صديقي إيفان الذي يأبى أن تتزوج مدلين؟ - هو دون سواه. - أهو أيضا الذي أمر الرجل أن يفعل ما فعل؟ - نعم. - إن ما تقوله واضح بأتم الجلاء. - إذن، ألا يكون هذا الرجل مذنبا؟ - دون شك. - ومثل ذنبه الفظيع ألا يجب أن يعاقب عليه بالموت؟ - بل هو يستحق أكثر من الموت.
فحاول إيفان أخذ مسدسه، وقال: إذن، لماذا تمنعوني عن قتله؟ - لأنك إذا قتلته لا يبقى لديك شهود على مدعاك. - كيف ذلك؟ - ذلك لا ريب فيه ألا تريد أن تجد مدلين؟ - نعم. - ألا تريد أن تتزوجها؟ - دون شك. - إذن، يجب مصادقة أبيك على زواجك لها. - أو مصادقة القيصر؛ لأن مثل هذه الأحوال تتقدم مصادقة القيصر على مصادقة الأب. - إن ذلك دليل آخر على وجوب الحرص على الرجل. - ولكن لماذا؟ إني لا أفهم شيئا. - لأنك عندما تجد مدلين لا بد لك من العودة بها إلى بطرسبرج وعرض أمرك على القيصر، وإذا لم يكن لديك مثل هذا الشاهد، فكيف تثبت ما تدعيه على أبيك؟
فاقتنع إيفان بهذا البرهان، وتمكن صديقي بهذه الخدعة من إنقاذ ذلك الرجل المسكين، الذي لا يزال لسانه معقودا إلى الآن، لفرط ما ناله من الرعب.
وبعد ذلك رجعنا جميعنا إلى قصري ومعنا إيفان ، فأبقيته عندي يومين ، ولكنه في اليوم الثالث سئم البقاء، وأصر على السفر.
فسافر وأنا مطمئن عليه كل الاطمئنان، إذ كان يتولى حراسته بيريتو خادم فاسيليكا، وذلك الرجل الفرنسي النبيل الذي يدعى مورليكس.
ومن غرائب الاتفاق أو غرائب الجنون أن إيفان بات يثق بهذا الرجل الفرنسي ثقة غريبة، وكان يؤثره علينا جميعنا بصداقته، فجعله مستودع سره ولم يكن يفارقه لحظة.
وقد سافروا جميعهم في هذا الصباح إلى فرصوفيا، فودعنا إيفان ونحن مشفقون عليه، لأن جنونه لا يظهر إلا حين الكلام عن مدلين، وفيما خلا ذلك فهو على أتم الظرف والعقل، وقد صفح عن بطرس السائق وجعله من خدمه.
أما الفيكونت دي مورليكس؛ فإنه يعرف في باريس طبيبا حاذقا بمداواة المجانين، وهو يرجو أن يتمكن من شفاء إيفان.
وقد كتبت إليك أيها الصديق العزيز جميع هذه التفاصيل لاعتقادي أنها تروق لك والكونتس فاسيليكا التي صرت عبدا لها، فاقبل تحياتي ودعائي لك بحسن التوفيق.
البرنس ماربولوف
وقد كتب البرنس هذا الكتاب وهو واثق كل الثقة من صحة ما كتب، فكانت ثقته داعية إلى انتصار مورليكس مرة ثانية.
وسافر الفيكونت كارل دي مورليكس مع إيفان كما ورد في كتاب البرنس ماروبولوف.
ولم يكن يجهل إيفان أنهم كانوا يحسبونه مجنونا، فكان لا ينفك عن محادثة كارل بغرامه، وهو يحسب هذا العدو الألد أصدق صديق له.
وكانت المركبة تسير بهما دون أن تقف إلا لتغيير الجياد، فاجتازت نهر البريزينا، ثم اجتازت الحدود الروسية وبلغت بولونيا، وفي اليوم الثالث وصلت إلى فرصوفيا.
فنزل كارل مع إيفان في أحد فنادق المدينة للاستراحة، ثم تركه كارل في الفندق، وذهب إلى إدارة البريد؛ لأنه كان يرجو أن يلقى رسائل واردة إليه من فرنسا.
فما أخطأ ظنه؛ لأنه وجد رسالتين، إحداهما من أخيه فلم تستلفت أنظاره، ولكنه لما قرأ عنوان الثانية اختلج؛ لأنه عرف أن الخط خط تيميلون.
وقد زاد عجبه لأن تيميلون أخبره في آخر رسالة أرسلها إليه أنه سافر إلى البلاد الأميركية، ولكنه عندما فحص الطوابع وجد أن الرسالة مرسلة من باريس .
ومع كل عجبه وضعها في جيبه، وبدأ بقراءة خطاب أخيه، فقرأ ما يأتي:
أخي العزيز
أكتب إليك إلى فرصوفيا، ولكن قلبي يحدثني أنك في باريس.
ولا أدري إذا كنت مخطئا بما أوحاه إلي تصويري، ولكن إن المخاوف قد عادت إلي فتمكنت مني وحرمتني طيب الرقاد.
ولكن أرى كلما مرت بي الأيام يزيد تمثل آثامنا القديمة لي، ولهذا أرجو - أيها الأخ العزيز - أن تمتنع عن مطاردة الصبية، وترجع عن قتلها إذا لم تكن يدك قد انغمست في دمها الطاهر.
واعلم يا أخي أنك لست بأب، فلا تشعر بما يشعر به الآباء في مثل هذه المواقف، وحسبي عذابا أن ابني الوحيد في باريس، وأنه يهرب مني كي لا يراني، ولا يدعني أراه؛ أليس ذلك وحده ما يكفي لعقابي عن جريمتنا؟
ألم تضربه في قلبه ضربة شديدة قد لا يبرأ منها؟ ألا يحب أنطوانيت دي ميلر ابنة أختنا، ألم تقتل الفتاة المسكينة كما قلت لي؟
غير أن نفسي تحدثني أن هذه الفتاة التي قلت لي إنك قتلتها لا تزال حية ترزق، خلافا لما تعتقد، وأن أولئك الذين توهمت أنهم خدموك بأمانة وإخلاص قد خدعوك شر خداع.
واصغ إلي الآن يا أخي العزيز، إنك سافرت منذ شهر، وتكون أنطوانيت قد ماتت منذ شهر، فكنت أنتظر كل يوم أن يعود إلي أجينور، وهو مجنون من اليأس.
ولقد قلت لي: إذا كنت تذكر أنه أصيب بضربة سيف إثر مبارزة فاضطر إلى البقاء في أنجر، ولكن شيء من ذلك لم يحصل؛ لأن أجينور عاد إلى باريس في يوم سفرك منها.
ولا أقول هذا الكلام وأنا مشكك فيه، بل أنا منه على أتم الثقة، فقد خرجت يوما أتنزه في المركبة فرأيت مركبة قابلتني وفيها أجينور فرأيته ورآني، ولكني ناديته فما رد علي واحتجب بمركبته عن أنظاري، فحسبت أنه سيأتي إلي في منزلي عند المساء فمضت أيام دون أن يزورني، وهو يعلم أني لا أزال مريضا.
ونعم إني ما رأيته إلا لحظة، ولكني لم أر على وجهه ما يدل على كآبة لا بد أن تبدو في وجه من تموت حبيبته، فانشغل قلبي، وسألت عنه، فعلمت أنه في باريس، منذ رحلت عنها، ولكني لم أعلم السر في احتجابه عني.
والآن فإن كتابي هذا قد يصل إليك، وأنت لا تزال في روسيا، فإذا كنت لم ترتكب تلك الجريمة مع مدلين، فأستحلفك بالله أن ترجع عن هذا القصد، وأن تعود إلى باريس كي تندم، فعسى أن ينفع الندم، وعسى أن نتمكن من إصلاح ما أفسدناه، وعندي رأي نافع لك؛ وهو أن تتزوج بمدلين بدلا من أن تقتلها، ونزوج أنطوانيت لولدي أجينور؛ فينقضي كل إشكال، ولا يفوتك شيء من تلك الثروة التي اختلسناها.
أخوك فيليب
فلما قرأ كارل هذا الكتاب ارتعش واصفر، فمزقه ورمى به مغضبا إلى الأرض، وهو يفتكر بإيفان الحائل بينه وبين مدلين، ذلك الفتى الساذج الذي اتخذ كارل أصدق صديق له وهو أعدى عدو.
ثم عاد إلى كتاب تيميلون فقرأ فيه ما يأتي:
سيدي
بينما كنت مسافرا إلى روسيا كان خادمك الأمين يتأهب للسفر إلى أميركا، وقد قبضت الخمسين ألف فرنك، وعزمت على السفر بابنتي التي لولا حنوي عليها لما هربت من روكامبول، ولما تمكن من الفوز علي.
وقد كنت تركت في باريس بعض جواسيس من عمالي لمراقبته، ليس لمجرد خدمتك؛ بل مدفوعا بعامل الانتقام؛ لأني لا أنسى تنكيله بي.
وفي اليوم الذي عزمت على السفر فيه، ورد إلي من أحد الجواسيس تلغراف يقول فيه: إن روكامبول سافر مقتفيا أثر مورليكس إلى روسيا، فهاج بي الانتقام، وبدلا من أن أسافر وضعت ابنتي في محل أمين وعدت إلى باريس.
وليس روكامبول بالعدو السهل، ولكني أرجو أن تكون قد فزت بالنجاة منه على الأقل، فإذا كان ذلك فاعلم أن ابن أخيك أجينور وأنطوانيت عائشان بملء السعادة، ولا ينتظران غير عودة روكامبول بمدلين، كي يتزوجا.
ولكني عكرت عليهما كأس هنائهما، فإن أنطوانيت قد وقعت في قبضتنا أيضا، ولا أستطيع أن أزيد على ما قلته شيئا؛ فإذا سلمت من روكامبول وعدت إلى باريس، فأسرع إلى شارع لندرة نمرة 2، واطلب أن ترى المسيو جيبين.
خادمك المطيع
تيميلون
فلما اطلع كارل على هذا الكتاب دهش دهشة شديدة، فأعاد تلاوته وهو يتعجب، ثم قال في نفسه: لا شك أن أنطوانيت في قبضة تيميلون، وأن هذا الرجل لم يعد إلى باريس، إلا وقد وجد حيلة يتمكن فيها من الفوز على روكامبول، وفي الحال أسرع إلى الفندق، فأخذ إيفان وبرح فرصوفيا عائدا به إلى فرنسا.
25
لا بد لنا - قبل التوسع في الحديث - أن نبسط للقراء كيف غادر روكامبول وفاندا، وكيف كانت الحالة قبل سفرهما لإنقاذ مدلين، فإن روكامبول سافر آمنا مطمئنا؛ لأن كارل قد سبقه إلى روسيا فأمن كيده، ولم يكن يخشى أخاه والد أجينور لما يعلمه من ضعفه وندمه، وكان يعتقد أن تيميلون لا يجسر على العودة إلى باريس لخوفه من الحكومة؛ لأن جريمة السرقة كانت ثابتة عليه، ولذلك لم يكن يخشى على أنطوانيت.
ولكنه أبى أن يغادر باريس قبل أن يتخذ الاحتياطات اللازمة مبالغة في الحرص عليها.
فلما استيقظت أنطوانيت من رقادها - كما قدمنا - نزل بها يصحبه أجينور وميلون وفاندا، فركبوا مركبة، وساروا بها إلى منزل كان أعده لها كي تختبئ فيه إلى أن يعود إليها من روسيا.
ولما وصلوا إلى هذا البيت، دهشت أنطوانيت دهشا عظيما حين رأت فيه مربيتها مدام رينود، فهجمت عليها وجعلت تعانقها وهي تذرف دموع الفرح بلقائها.
وقد اغتنم روكامبول فرصة انشغالهما فخلا بأجينور، ودار بينهما الحديث الآتي: فقال روكامبول: إنك تعلم شروطي.
فأطرق أجينور برأسه إلى الأرض وأجاب: نعم. - إني لم أرد إليك أنطوانيت إلا بعد أن اشترطت عليك طاعتي. - وأنا مستعد للامتثال. - إذن، اصغ إلي، إن لأنطوانيت أختا، وهي معرضة لأشد من الخطر التي كانت معرضة له أنطوانيت، وذلك أن عمك وثق من موت أنطوانيت فذهب لقتل مدلين، ولولا ذلك لم يبرح باريس. - ولكني أدافع عنها وأرد كيده إلى نحره. - لست أنت الذي سينتقم بل أنا!
أما أبوك فإني أحمل الأختين على الصفح عنه، ولكنك في مقابل ذلك تخليت إلي عن عمك كارل بأنطوانيت، ثم يجب أن تعلم أن ما تجده الآن من السعادة في اجتماعك بأنطوانيت يشبه تلك القصور التي يبنيها اللاعبون بأحجار الدومينو، إذا لمستها يد أو نفخ فيها فم تقوضت أركانها وتهدمت، فلا يتم هناؤك الصحيح ما بقي عمك في الوجود.
أما عمك؛ فقد سافر إلى روسيا، كما قلت لك، ولكنه أبقى في باريس عيونا وأرصادا عليك يرصدونك كيفما مشيت، فلا يجب أن يعلم بوجودك أحد مدة غيابي. - كيف ذلك ألعلك عازم على السفر؟ - سأسافر إلى روسيا للدفاع عن مدلين، أتعدني أن لا تدع أنطوانيت تخرج من البيت مدة غيابي وأنك لا تقابل أباك؟ - أعدك وعدا صادقا.
فلما وثق منه روكامبول تركه وعاد إلى ميلون فأوصاه وصايا كثيرة، وبعد ساعتين برح باريس مع فاندا.
وبعد سفره بشهر عاد إلى باريس مع فاندا ومدلين، فلما وصل إلى كولون أرسل إلى ميلون هذا التلغراف:
نصل في الساعة الرابعة من صباح غد، احضر لملاقاتنا في محطة الشمال.
فلما وصل القطار بهم إلى باريس خرج روكامبول، وجعل يبحث عن ميلون في قاعات الانتظار، وخارج المحطة فما وجده، فاسودت الدنيا في عينيه وشعر بحدوث مصاب جلل.
ورأت فاندا علائم الاضطراب بادية في وجهه، فدنت منه وسألته عن السبب، فقال لها: لقد حدث مصاب عظيم دون شك، وهو إما أن يكون ميلون قد مات، أو أنه سجين، إذ يستحيل أن يتأخر عن الحضور لغير هذين السببين، والآن اصغي إلي فإنه لا يجب أن نعرض مدلين للخطر بإرسالها إلى حيث تقيم أنطوانيت، بل يجب أن تذهبي بها إلى المنزل الذي نسكن فيه باسم الماجور أفاتار. - ولكننا وعدنا مدلين أن نجمعها بأختها. - نعم. ولكني لم أكن أتوقع غياب ميلون.
ثم التفت إلى مدلين وقال لها: لا أكتمك يا سيدتي أننا متى برحنا باريس بغية إنقاذك تركنا أختك مريضة، ولذلك أخشى إذا قابلتها أن تؤثر عليها المباغتة فتؤذيها، فاذهبي الآن مع امرأتي إلى منزلي، وأنا أسرع إلى أختك وأخبرها بقدومك، ثم أرجع فأعود بك إليها.
فقبلت مدلين على الكره منها وسارت مع فاندا وروكامبول إلى منزله.
وكان روكامبول قد ترك في البيت نويل الذي كان حداد سجن طولون وفر معه، فلما وصل روكامبول أسرع نويل إلى استقباله، ورآه روكامبول مصفر الوجه، فسأله: ماذا أصابك؟ - لا شيء، سوى أني لا أعلم ماذا جرى لميلون، لأني لم أره منذ ثمانية أيام.
فاستغرب روكامبول ولم يعد لديه شك بوقوع الشر، فإنه كان أمر ميلون أن يأتي كل يوم إلى المنزل كي يرى إذا كان يوجد فيه رسائل باسمه، ورجع إلى مدلين، فقال لها: إني ذاهب الآن لأرى أختك. - أتجيء بها إلي؟ - نعم. إلا إذا كانت لا تزال مريضة، فأذهب بك إليها.
ثم تركها وانصرف إلى البيت الذي ترك فيه أنطوانيت، فنزل في مركبته وطرق الباب فتتح له بواب البيت، وكان أول سؤال ألقاه عليه: أين ميلون؟
فأجاب البواب: إنك تعرف يا سيدي مقره أكثر منا؛ لأنه سافر منذ ثمانية أيام لموافاتك. - لموافاتي أنا؟ - نعم، وقد سافر مع المدموازيل أنطوانيت.
فتراجع روكامبول منذعرا إلى الوراء، وعند ذلك أسرع إليه أجينور، وقد سمع طرق الباب، فلما رآه سأله باضطراب: ألعلك جئت بأنطوانيت؟
فاضطرب روكامبول وأمسك أجنينور وهزه بعنف، وسأله: قل لي ماذا حدث؟
فكان أجينور ينظر إليه نظرا ساهيا وهو لا يفهم شيئا، فسأله روكامبول: قل أين ميلون؟ - إنه سافر. - وأنطوانيت؟ - سافرت معه. - ولكن متى وإلى أين؟ - إلى كولون؛ حيث ضربت لهما موعدا لموافاتك بالتلغراف الذي أرسلته وهذا هو: ثم أخرج تلغرافا من جيبه، وقدمه له فقرأ روكامبول ما يأتي:
يسافر ميلون مع أنطوانيت في قطار الساعة العاشرة من هذا المساء إلى كولون؛ حيث اضطررت إلى البقاء فيها؛ لأن مدلين مريضة.
الماجور أفاتار
وكان تاريخ التلغراف منذ ثمانية أيام، فاختلج روكامبول واضطرب حتى أوشك أن يسقط وتابع: إني لم أكتب هذا التلغراف.
26
غير أن روكامبول لم يطل اضطرابه، وما لبث أن عاد إليه رشده وتأنيه، فجعل يخاطب نفسه: من عسى يكون الخاطف لأنطوانيت؟ أهو والد أجينور أم أخوه كارل أم تيميلون ؟ ثم يرجع فيتابع: إن كارل قد طرحته للذئاب، فلا أظنه سلم من أنيابها، ووالد أجينور لا يقدم على هذا المنكر لضعفه وسلامة نيته، بقي تيميلون، ولكن هذا الداهية لا يستطيع أن يعود إلى فرنسا، إذ يخشى أن يقبض عليه.
وطال به التفكير دون أن يهتدي إلى وجه صواب ثم أخذ التلغراف، وجعل يفحصه فوجد أنه وارد من كولون، فقال: هو ذا قد عدنا إلى استئناف المعارك، إذ يجب أن نجد أنطوانيت وميلون.
وكان لأجينور ثقة عظمى بروكامبول فسأله وهو يوشك أن يجن من يأسه لاختطاف أنطوانيت: إنك ستجدها دون شك؟ - هذا ما أرجوه، ولكني أريد أن أعرف كل شيء بالتدقيق، فقل لي كيف ذهبت أنطوانيت؟ - كنا منذ ثمانية أيام جالسين على المائدة، فورد هذا التلغراف إلى ميلون فقرأته، ثم دفعته إلى أنطوانيت، فلما اطلعت عليه قالت وهي تضطرب: هلم بنا إلى السفر.
وقد حاولت أن أسافر معها غير أن ميلون اعترضني قائلا: يجب طاعة الرئيس، فلو أرادك أن تصحبنا لكان ذكرك في التلغراف.
فأذعنت مكرها، وكانت أنطوانيت مضطربة لمرض أختها، فوعدتني أن تكتب لي من كولون، وقد كتبت لي وهذا كتابها.
فأخذ روكامبول الكتاب منه، وما لبث أن اطلع على خطه حتى صاح صيحة منكرة قائلا: قد عرفت الآن من أين أتتنا هذه النكبة.
فدهش أجينور وسأله: أليس الخط خطها؟ - كلا، فهو زور، ولكنه محكم التقليد.
وكانت خلاصة الكتاب: أن أنطوانيت وصلت إلى كولون، ولقيت أختها مريضة، ولكنها أخذت بالعافية حين رأتها وغير ذلك، فأعاد روكامبول نظره في الكتاب، وقال لأجينور أعيد عليك ما قلته، وهو أن الكتاب قد زوره رجل ماهر أعرفه حق المعرفة.
فأجابه أجينور بصوت مختنق: ألعله عمي كارل؟ - كلا، بل هو هذا الشقي تيميلون الذي أخطأت في الإبقاء عليه، ولكن لا بأس لأني لم أقنط من إنقاذ أنطوانيت، اصغ إلي الآن: إنه يجب أن تركب في مركبة، وتذهب مسرعا إلى أبيك، فتقول له بملء الإيجاز ما معناه: «إني إذا لم أجد أنطوانيت من الآن إلى الغد مساء قتلت نفسي.» - سأذهب. - اسمع أيضا: إن أنطوانيت لا خطر عليها، ولكنها أسيرة في أحد البيوت، والذي أراه: أن تيميلون الذي طردته من باريس اغتنم فرصة غيابي فعاد إليها، ونصب لكم هذا الفخ فوقعتم فيه، وأصبح ميلون وأنطوانيت في قبضة يده الآن.
فقاطعه أجينور قائلا: ألا يمكن أن يكون البوليس قد قبض على ميلون لهربه من السجن؟ - إن البوليس لا يمكن أن يهتدي إليه إلا إذا أرشده تيميلون، وتيميلون لا يستطيع أن يظهر أمام البوليس لأن البوليس يبحث عنه، والذي أرجحه أن ميلون وأنطوانيت أسيران لدى تيميلون وعصابته في بيت خفي من بيوت باريس، ولكني لا يخفاني خافية في هذه العاصمة، وسيكون لي مع هذا الشقي الغادر شأن. - ولكن أية غاية لهذا الرجل من القبض عليها؟
إنه ينتظر رجوع عمك من روسيا، فيبيعه أنطوانيت بأغلى الأثمان، إنما اطمئن؛ لأن عمك لم يعد بعد، وقد يكون تيميلون أخبر أباك بقبضه على أنطوانيت، فإذا تهددته بالانتحار أرجعها إليك دون شك حالا.
وعند ذلك افترق الاثنان، فأسرع أجينور إلى بيت أبيه، وذهب روكامبول إلى منزله الذي ترك فيه فاندا ومدلين.
وكان روكامبول يسير وهو يقول في نفسه مخاطبا تيميلون: لقد أخطأت أيها الغادر بالعودة إلى باريس والتعرض لي في شئوني؛ لأني غير مشفق عليك في هذه المرة.
وكانت المركبة تسير به وهو غارق في هواجسه، لا يكترث لشيء، فلم ينتبه لمركبة كانت تسير في أثره حتى وصل إلى منزله، ونزل من مركبته فرأى تلك المركبة، وقد وقفت أيضا أمام بابه، وخرج منها ثلاثة رجال.
فاصفر وجه روكامبول حين نظرهم؛ إذ رأى أنهم بملابس الجنود، وفي الحال دنا منه رئيسهم، وسأله: ألست أنت الماجور أفاتار؟
فاضطرب اضطرابا قليلا، وأجاب: نعم أنا هو.
فأشار الضابط إلى الجنديين أن يقفا في سبيله، وقال له: إني مأمور بالقبض عليك يا حضرة الماجور.
فابتسم روكامبول، وأجابه بسكينة: إني أعلم السبب، فإن السفارة الروسية أوعزت إلى الحكومة المحلية أن تقبض علي لاتهامي بدسائس سياسية، فلما علمت بقدومي اليوم من فرصوفيا ...
فقاطعه الضابط قائلا: إنك منخدع. - إذن، بأية تهمة يتهمونني؟ - إنهم يتهمونك بالهرب من سجن طولون جين كنت فيه 117 وأن اسمك الحقيقي روكامبول، وليس الماجور أفاتار.
27
ورأى روكامبول أنه قد وقع في قبضتهم، فتجلد وقال للضابط: إني قادر على إقناعك وإثبات خطئك بأسطع برهان، غير أني أعلم أن الجدال مع رجال الشرطة محال؛ إذ لا بد لهم من تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم، ولذلك لا أضيع الوقت عبثا بالجدال، ولكني ألتمس منك قضاء أمر أرجو أن لا تأباه علي. - ذلك يتعلق بالطلب. - كن مطمئنا، فإن ما سأطلبه إليك سهل ميسور؛ لأني لا أسألك أن تأذن لي بالدخول إلى منزلي وأخذ أوراقي، ولا أحاول الفرار منك، ولكن الذي أطلبه إليك هو أن تأذن لي بمعانقة امرأتي على عتبة هذا الباب.
وقبل أن يجيبه الضابط أسرع إلى الباب وطرقه طرقتين متواصلتين كانتا إشارة متفقا عليها دون شك؛ فإن الباب لم يفتح على أثرها، بل فتحت منها نافذة وبرز منها رأس فاندا، وعلمت لأول وهلة كل شيء.
أما روكامبول فإنه قال لها باللغة الفرنسية: تعالي عانقيني.
ثم تابع باللغة الروسية: إني وقعت في الشرك واختطفت أنطوانيت فأحضري لي حبة من الحبوب السوداء، وأنت وحدك الآن قادرة على إنقاذ الجميع.
وكان روكامبول يتكلم بملء السكينة وليس بين الجنود من يعرف الروسية فلم يشككوا بشيء مما قاله.
وبعد حين أتت فاندا فقال لها روكامبول: لقد تعاظم اضطهادي، فإنهم يتهمونني بأني كنت في السجن وهربت منه.
وابتسمت فاندا وقالت: لا بأس يجب أن نحتمل كل شيء.
ثم أقبلت تعانقه وتقبله فدست في فمه تلك الحبة السوداء دون أن يراها أحد، ثم صافحته بيدها، وتبادلت معه نظرة خفية، وأخذ الجنود روكامبول ثم صعدوا به إلى المركبة وسارت بهم في طريق السجن.
ففيما هم على الطريق افتتح روكامبول الحديث فقال: إن إمبراطور روسيا قد شرفني تشريفا عظيما لاهتمامه بي إلى هذا الحد.
فأجاب الضابط: إنك مخطئ كما قلت لك، فإننا لم نقبض عليك إلا بتهمة الهرب من السجن. - نعم لقد قلت لي هذا القول، ولكن ما هو الاسم الذي لقبتني به. - روكامبول. - إنه اسم جميل، ولكن لا بد لي أن أقول لك يا حضرة الضابط إن البوليس الفرنسي لا يحق له مساعدة البوليس الروسي والقبض على رعايا القيصر إلا إذا تذرع بحجة.
فغضب الضابط وأجابه: إني أدعوك إلى السكوت، فإنك تطعن بالبوليس الفرنسي، وهو لا يتداخل بشأن من شئون القيصر. - إذن، لماذا قبضت علي؟ - ذلك ما يكشف قاضي التحقيق فإنك ذاهب إليه. - سوف ترى أني لم أكن أنا المخطئ، بل أنتم المخطئون.
ثم سكت الاثنان، فجعل روكامبول يفتكر بحالته الحاضرة، وهو غير مهتم بالقبض عليه؛ فإن من يفر من سجن طولون لا يصعب عليه الفرار من سجن باريس، ولكنه كان يفتكر مهتما بسواه؛ أي بميلون وبهاتين الأختين اللتين أصبحتا مرة ثانية في قبضة عدوهما وليس لهما نصير.
وكان يحسن ظنه بفاندا وبنويل، ولكنه كان يعلم أنهما على ذكائهما ومهارتهما لا يستطيعان مقاومة تيميلون، لا سيما إذا نجا كارل وانضم إليه.
ثم حسب أن اليوم يوم السبت، وأن القاضي قد لا يحقق في أمره إلا يوم الاثنين، فلا سبيل له إلى الخروج من السجن بالتبرئة أو بالفرار قبل الاثنين؛ فاغتم غما شديدا لشدة حاجة الأختين له في هذه المدة، ولكنه أظهر الجلد، ولم يبد شيئا من دلائل الكآبة.
وظلت المركبة سائرة حتى بلغت إلى باب السجن، فنزل الضابط والجنديان ونزل روكامبول بعدهم، وفيما هو ينظر إلى ما حواليه رأى رجلا واقفا على الرصيف فارتعش عندما رآه؛ لأنه كان تيميلون، وعرف في الحال أن تيميلون قد تعهد للحكومة أن يسلمها روكامبول مقابل صفحها عنه وهو ما يتفق كثيرا للصوص، فقال في نفسه: لا شك أن هذا الشقي أقوى مما كنت أعهده، ثم نظر إلى تيميلون نظرة نارية تدل على ما أعد له من الانتقام الهائل.
ولما مثل روكامبول أمام رئيس البوليس قال: إني أدعى الماجور أفاتار، وليس لي أقل اتصال بالرجل الهارب من السجن، فأرجو إجراء التحقيق على الفور.
فأجاب الرئيس : يستحيل استنطاقك اليوم، إذ يجب مقابلتك مع رجل كان يعرفك في سجن طولون.
فابتسم روكامبول ابتساما يشف عن الاحتقار، ثم قال: وبعد ذلك؟ - وأن هذا الرجل الذي كان مقيدا معك بقيد واحد في ذلك السجن يدعى ميلون.
فضبط روكامبول نفسه جهد الطاقة، وسأله: لماذا لا تجمعوني به الآن؟ - ذلك مستحيل الآن؛ لأن هذا الرجل قبض عليه في محطة فلانسيان وهو يحاول اجتياز الحدود، ولم يصل به إلى الآن. - متى يصل؟ - بعد يومين أو ثلاثة. - إذن، ليكن ما تريد.
فأخذه الحراس إلى السجن، ولما خلا بنفسه فيه وضع رأسه بين يديه، وقال بلهجة القانط: إن ميلون أبله لا حيلة له، فإذا قبض عليه فقدنا كل شيء.
28
لقد أصاب روكامبول بما ظنه بتيميلون، فإن هذا اللص كان يكره روكامبول كرها لا حد له، لا سيما وأنه قد غلبه، وهو يعتقد في نفسه أنه أكثر خبرة من روكامبول في أساليب المهنة فعد اندحاره معه عار لا يزول إلا بأخذ الثأر.
فبينما كان يتأهب للسفر مع ابنته إلى البلاد الأميركية ورده من أحد جواسيسه في باريس هذا التلغراف:
مورليكس سافر قبضت المال، روكامبول برح باريس.
فاطمأن قلبه لسفر روكامبول، وثارت فيه عوامل الانتقام، فوضع ابنته عند عائلة إنكليزية عرفها في ليفربول، وبرح ليفربول إلى دوفر.
وجعل يخابر من تلك المدينة رئيس البوليس في باريس فأفضت المخابرات إلى الإذن لتيميلون بالعودة إلى باريس، ويكون مطلق السراح فيها بشرط أن يقبض على روكامبول في مدة شهر.
وبعد ذلك بيومين عاد إلى باريس، وكان أقصى همه: أن يبحث عن أجينور دي مورليكس وأنطوانيت لاعتقاده أنه لا يهتدي إلى روكامبول إلا بواسطتهما؛ فتنكر وذهب إلى منزل أجينور فسأل عنه البواب، فأخبره أنه غير مقيم في باريس، وأنه يحضر مرة أو مرتين في الأسبوع لاستلام رسائله.
وجعل تيميلون يكمن له كل يوم، ولكن انتظاره لم يطل؛ فإن أجينور أقبل في اليوم التالي في مركبة لأخذ رسائله حسب العادة، وكان تيميلون كامنا له عند الباب، ولما عاد في المركبة ركب تيميلون مركبة أخرى، وسار مقتفيا أثره، وعرف البيت الذي يقيم فيه مع أنطوانيت ومرتون.
وفي اليوم التالي خطر له اختطاف أنطوانيت بذلك التلغراف الذي تقدم ذكره، فأرسل عاملا من عماله إلى كولون، فأرسل منها إلى ميلون ذلك التلغراف باسم الماجور أفاتار.
ولما وصل التلغراف كان تيميلون متنكرا بزي سائق، وواقفا بمركبته قرب ذلك البيت فخرج ميلون مع أنطوانيت، وركب تلك المركبة فذهبت بهما إلى المحطة.
وهناك بينما كان ميلون مهتما بنقل الأمتعة إلى القطار كان تيميلون قد دخل إلى المحطة ورأى فيها رجلا وامرأة فدلهما بإصبعه على ميلون وأنطوانيت، وأشار لهما إشارة خفية وانصرف.
فدنا الرجل وكان عليه ملامح الجلال والمهابة من ميلون، وقال له: ألعلك مسافر مع تلك السيدة إلى كولون؟ - نعم، وأنا مسافر أيضا مع ابنتي إليها.
ثم صعدوا جميعهم إلى القطار، فسافر بهم، وكان الرجل والفتاة يظهران لميلون وأنطوانيت من التلطف والإيناس ما وطد بينهما المحبة، فأصبحا يثقان بهما كل الوثوق.
أما تيميلون؛ فإنه أسرع إلى رئيس البوليس، فقال له: إني لم أعثر بعد بروكامبول، ولكني عثرت بأحد رفاقه في السجن. - من هو؟ - هو الذي كان مقيدا معه بقيد واحد. - ميلون؟ - هو بعينه ... - وأين هو الآن؟ - في القطار المسافر إلى كولون. - إذن، صف لي هذا الرجل وملامحه وكل ما يعرف به.
فوصف له تيميلون وصفا تاما، فأرسل الرئيس تلغرافا إلى بوليس فاليسيان يأمره فيه بالقبض على ميلون بعد أن أوضح جميع صفاته بالتلغراف، وأخبره أن هذا الرجل يدعى ميلون، وأن لديه جواز سفر مكتوب اسمه فيه بالدوني، وأنه مسافر مع رجل عجوز تصحبه ابنته، إلى غير ذلك من الأدلة التي تساعد البوليس على الاهتداء إلى ميلون.
أما هذا الرجل العجوز وابنته اللذان سافرت معهما أنطوانيت وميلون فقد كانت تدل هيئته وملابسه على أنه من رجال الوجاهة والخير والصلاح، وهو في الحقيقة عامل من عمال تيميلون، وكان يدعو نفسه الكولونيل جيبين، ويتظاهر أمام ميلون وأنطوانيت بالنفوذ والبساطة، أما ابنته فكانت تلاطف أنطوانيت ملاطفة شديدة مدة السفر وهي طويلة إلى أن استأنست بها ووثقت منها كل الوثوق.
وعند منتصف الليل وصل القطار إلى فاليسيان، فلم يكد يقف حتى فتح البوليس باب المركبة المقيمة فيها أنطوانيت وقال يخاطب المسافرين: من منكم يدعى المسيو بالدوني؟
وقف ميلون، وقال له بملء البساطة: هو أنا. - إذن، تفضل بالنزول واتبعني إلى غرفة المدير.
فامتثل ميلون وتبعه، وهو يحسب أن الأمر يتعلق بأمتعته؛ إذ لم يخطر له في بال أن البوليس يقبض عليه بعد أن ضمن له روكامبول النجاة من السجن.
ولما نزل تبعته أنطوانيت فتبعها الكولونيل وابنته بعد أن نظر إليهما نظرة خفية، حتى إذا دخلوا إلى غرفة المحطة وجد ميلون فيها قائدا من قواد البوليس فاصفر وجهه وشعر بوقع المصاب.
وعند ذلك سأله الضابط: ماذا تدعى؟ - جوزيف بالدوني. - وما هي مهنتك؟ - خادم غرفة المدموازيل، وأشار إلى أنطوانيت. - أأنت واثق من أنك تدعى فرنسوا ميلون؟
فاضطرب ميلون وعلم الحقيقة ولكنه تجلد، وقال: إني لا أدعى بهذا الاسم. - إني أتمنى لك أن تكون صادقا، وأن تكون الحكومة منخدعة، فإنها تعتقد أنك فرنسوا ميلون المحكوم عليه بالسجن عشرة أعوام، والهارب من سجن طولون. - إنها مخطئة، فإني ما دعيت بهذا الاسم، وما هربت من السجن. - ذلك ما تثبته في باريس، أما أنا فلا بد لي من القبض عليك الآن.
فاضطربت أنطوانيت واصفر وجهها اصفرارا شديدا، ووهت رجلاها حتى أوشكت أن تسقط، ولكن ابنة الكولونيل أسرعت إليها، فلما نظرها ميلون على هذه الحالة وهي قريبة من الإغماء، جعل يبكي وينتحب ويشجعها بألطف الأساليب.
أما البوليس فنظر إلى أنطوانيت وقال لها: ليس لدي يا سيدتي أوامر خاصة بك، فإنك تستطيعين مواصلة السفر إلى كولون، ثم أمر جنديين بالقبض على ميلون، فأكبت أنطوانيت على عنقه تودعه، وكان لوداعهما تأثير شديد على الحاضرين.
وكان الاثنان يبكيان دون أن يحتجا على البوليس، فإن أنطوانيت لم تكن تعرف الكذب حتى إن البوليس لو سألها: «ألا يدعى هذا الرجل ميلون؟» لأطرقت بنظرها إلى الأرض ولم تجب.
ولما خرجوا بميلون إلى السجن وخرج الكولونيل وابنته بأنطوانيت سمعوا صفير القطار الذي كانوا فيه وقد سافر دونهم إلى كولون، فتظاهر الكولونيل بالغضب حين رأى الجنود ذاهبة بميلون، قال للبوليس: أواثق أنك غير منخدع بهذا الرجل؟ - إني لم أفعل غير ما أمرني به رئيسي بتلغرافه الوارد إلي من باريس.
فالتفت الكولونيل عند ذلك إلى أنطوانيت، وقال له بلهجة الحنو ليس لي يا سيدتي ما يدعوني إلى السرعة بمواصلة السير، ولا أطيق أنا وابنتي أن ندعك منفردة، فاعلمي أني أدعى الكولونيل جيبين، ولي نفوذ عظيم، فلنعد إلى باريس وأنا أضمن لك خلاص هذا الرجل في بضعة أيام.
فنظرت أنطوانيت إلى هذا الرجل الذي كان يكلمها بملء الثقة من نفوذه نظرة استعطاف فصدقت كلامه، وقالت له: أتفعل ما تقول؟ - دون شك.
ثم أخذها مع ابنته وسار بها إلى محل الانتظار في المحطة وهي تبكي، فكان يعزيها ألطف عزاء ويقول لها: إن القطار الذي سيحضر من كولون إلى باريس سيمر قريبا ونعود به إلى باريس، حيث نصل إليها في الساعة الرابعة صباحا، وإني أعدك بإطلاق سراح هذا المسكين قبل ظهر اليوم التالي.
وبعد هنيهة سمع صفير القطار القادم من كولون، فتركها الكولونيل مع ابنته، وذهب ليشتري تذاكر السفر.
وكانت أنطوانيت تفكر بأختها المريضة في كولون، وبميلون الذي سيبيت ليلته في السجن، وبأجينور الذي لا يعلم الآن بما تقاسيه من العذاب.
ولولا أن أجينور في باريس لترددت عن الرجوع إلى أعقابها، ولكنها افتكرت أن أجينور سوف ينضم إلى الكولونيل فيسعيان إلى إنقاذ ميلون، فلم يبق في فؤادها أثر للتردد، وركبت القطار مع الكولونيل وابنته فسار بهما، وهي لا تزال تبكي ميلون.
29
وكانت أنطوانيت حين السفر تشكو للكولونيل وابنته، والكولونيل يطمئنها ويذكر صداقته مع كبار الموظفين وشدة اتصاله بالوزراء وكثرة نفوذه، وهو يكلمها بحنو وإشفاق، ضامنا لها إنقاذ ميلون، فحكت له أنطوانيت بملء الإخلاص حكاية ميلون، وأنه هرب حقيقة من سجن طولون، ولكنه لم يرتكب جريمة تستوجب العقاب، بل إنه كان بريئا، وقد كاد له أحد الخائنين فاتهمه بتهمة وهو بريء منها.
فأظهر الكولونيل سرورا عظيما، وقال: لقد أحسنت بما قلته لي؛ فإن براءته تعينني على إخراجه.
ووصل القطار بهم إلى باريس في الساعة الرابعة بعد منتصف الليل فخرجوا منه جميعهم ثم ركبوا مركبة، وأمر السائق أن يذهب بهم إلى شارع بلفوند نمرة 21.
وكان الكولونيل قد أخبر أنطوانيت في القطار أنه يسكن في ذلك الشارع وهو قريب من المحطة، وطلب إليها أن تذهب مع ابنته فتبقى فيه إلى أن يشرق الصباح، فيذهب إلى دار الحكومة ويعود إليها بالخبر اليقين عن ميلون.
وحاولت أنطوانيت أن تأبى هذه الدعوة، وأن تذهب إلى أجينور، ولكن الكولونيل كان يلح عليها ويكلمها بلهجة ملؤها الحنو والإخلاص، فلم يسعها إلا القبول.
وسارت بهم المركبة حتى بلغت منزلا تكتنفه حديقة متسعة، فوقفت عند بابها ودخلوا جميعهم.
فصعدوا بضع درجات، وفتح الكولونيل باب البيت بمفتاح كان بجيبه، فولجه إلى ردهة متسعة، فأدخلت ابنة الكولونيل أنطوانيت إلى غرفة، وقالت لها: إني ذاهبة لأحضر لك المصباح، وأوقظ الخادمة كي توقد لك النار في المستوقد، فتنامين إلى أن يعود أبي.
ولما دخلت أنطوانيت وأصبحت وحدها في تلك الغرفة هاجت بها الهواجس، وتوقعت السوء، وهي لا تعلم ما يدفعها إلى هذه المخاوف.
ثم حاولت أن تفتح النافذة لترى ما يحيط بها، فإن الفجر قد بدأ ينبثق، ولما أزاحت ستائر الغرفة وحاولت فتح النافذة وجدت أنها لا تفتح فاضطرب فؤادها، وتمكن منها الخوف فأسرعت إلى الباب تفتحه فوجدت أنه موصد من الخارج.
فجعلت تنادي ابنة الكولونيل، فلم تجبها، ولما طال نداؤها لها دون أن يجيبها غير الصدى جعلت تستغيث، وتقول إلي يا أهل النجدة. وقد أيقنت أنها وقعت في فخ نصبته لها هذه العائلة.
ثم سمعت صرير مفتاح في القفل فخجلت من نفسها، وحسبت أن ابنة الكولونيل قدمت إليها، ولكنها ما لبثت أن رأت الباب قد فتح حتى تراجعت إلى الوراء واختنق صوتها ولم تعد تستطيع الكلام.
ذلك أنها رأت على عتبة الباب امرأة حاملة مصباحا بيدها، جعلت تنظر إليها وتقول بلهجة الهزء : إذا كنت قديسة كما كانوا يقولون عنك في السجن فهذه فرصة لاختراع العجائب.
وكانت تلك المرأة مدلين الملقبة شيفيوت، وهي التي كانت عدوة أنطوانيت في سجن سانت لازار، وحاولت تسميمها بأمر من تيميلون، كما يذكر القراء في الرواية المتقدمة التي عنوانها سجن طولون.
ولما رأت شيفيوت ما كان من رعب أنطوانيت، جعلت تضحك وتقول لها: لا فائدة من صراخك إذ لا يجيبك غير الصدى.
وسمعت عند ذلك صوت رجل يقول: وأنا أيضا، فإني لا أزال هائما بهذه الحسناء.
ثم ظهر هذا الرجل، ولما رأته أنطوانيت شهقت شهقة عظيمة وسقطت مغميا عليها.
أما هذا الرجل فقد كان اللص المدعو بوليت.
وهو الذي ادعى حين قبض على أنطوانيت، وسيقت إلى سجن لازار في الرواية السابقة أنه كان خليلها.
وأما الكولونيل وابنته فقد اختفيا ولم يظهر لهما أثر.
30
ولندع الآن أنطوانيت في قبضة شيفيوت وبوليت، ولنعد إلى فاندا تلك المرأة الشديدة الذكية الصبورة التي اختارها روكامبول عونا له، وجعل جل اعتماده عليها في إنقاذ أنطوانيت.
فإن فاندا حين فتحت النافذة ونظرت منها الجنود وروكامبول علمت كل شيء فقالت لمدلين: انتظريني قليلا سأعود إليك.
ثم دخلت إلى غرفة روكامبول وأخرجت من خزانته علبة كان فيها ست حبات سوداء صغيرة لا يزيد حجم الواحدة منها عن رأس الدبوس.
وكان لهذه الحبوب تأثير عظيم، ولم تكن فاندا تعلم حقيقة نتائجها، ولكنها ذكرت أن روكامبول قال لها مرة: إذا قبض علي يوما فابذلي جهدك بإيصال حبة إلي من هذه الحبوب وأنا أتدبر فيها.
وسألته: ألعل فيها سم؟ - نعم، ولكنها لا تميت من يبتلعها ولا يخلص من تأثيرها إلا بعد ست ساعات.
واكتفت بهذا الجواب المبهم.
وعندما فتحت تلك العلبة أخذت حبة منها ووضعتها تحت لسانها، ونزلت لمقابلة روكامبول فودعته وعانقته ونقلت الحبة من فمها إلى فمه حين التقبيل.
ثم خرج الجند بروكامبول، وعادت فاندا إلى الداخل وهي تردد في نفسها كلمات روكامبول واعتماده عليها في إنقاذ أنطوانيت، فدخلت إلى مدلين، وقالت لها: إنك نجوت من فظاعة بطرس السائق، ومن أنياب الذئاب ومن سفالة كارل مورليكس، ولكن الأخطار لم تنته بعد.
فأجفلت مدلين، وقالت: رباه! ماذا حدث؟ ألعل الخطر قد داهم أختي وميلون؟ - لا أعلم شيئا. - وروكامبول؟ - إن الجنود قبضوا عليه، وهو الآن في طريق السجن، ولكني لا أخشى عليه. - رباه! وأنطوانيت ماذا جرى لها؟ - سوف أنقذها.
وعند ذلك دخل نويل وعليه علائم الذعر والاضطراب، وقال: لقد قبضوا على روكامبول.
فنظرت إليه فاندا نظرة إنكار، وقالت: ألعلك خفت فاعلم الآن أنه إذا كان قد قبض على الرئيس فأنا للرئاسة مكانه. - وأنا مستعد للخضوع. - إذن، فاعلم أنه يجب أن تذهب بهذه السيدة إلى منزل أمك. - في شارع سربنت؟ - نعم!
فقالت مدلين: لماذا لا أبقى معك؟ - ذلك لأن كارل مورليكس الذي يريد لك الموت إذا كان قد أكلته الذئاب كما أتمنى فإنه ليس الرجل الوحيد الذي يسعى إلى إعدامك وإعدام أختك، فقد ترك في باريس حين سفره إلى روسيا معاونين له اغتنموا فرصة غيابنا واختطفوا أنطوانيت، واحتجب ميلون وكادوا لروكامبول، على أن روكامبول لا يشغل بالي؛ فإن جدران السجون لا تعترضه إذا أراد الخروج منها، ولكن الذي يشغلني ميلون وأنطوانيت. - أتنقذين أختي أليس كذلك؟ - ذلك لا بد منه ولا أستطيع إنقاذها إلا إذا رأيتك ممتثلة لي في جميع ما أريد. - سأكون معك أطوع من بنانك. - إذن، فاعلمي أنهم إذا كانوا قبضوا على روكامبول عند باب هذا المنزل؛ فهم يعلمون أننا نقيم فيه، ولا أكون آمنة عليك، ولهذا أحببت أن تذهبي مع نويل، فسيري معه على بركات الله، وثقي به كما تثقين بروكامبول. - وأنت ماذا تصنعين؟
فابتسمت وقالت: إني أريد أن أبرهن لروكامبول بأني أهل له.
ثم قالت لنويل: سر الآن بهذه السيدة واعلم أنك مسئول عنها، ثم اعلم أنه يجب أن أراك في هذه الليلة، فأين أجدك؟ - أتريدين أن أنتظرك في شارع سربنت؟ - كلا ... فقد يمكن أن يقتفوا أثري. - إذن، أين تريدين؟
ففكرت فاندا هنيهة وقالت: في الساعة الثامنة من هذا المساء وراء تياترو فاندسور. - سأحضر في الوقت المعين.
ثم خرجوا جميعهم، فذهب نويل ومدلين في مركبة، وذهبت فاندا في مركبة أخرى إلى المنزل الذي كانت تقيم فيه أنطوانيت، فرأت أن أجينور قد ذهب، ولكنها بقيت هناك مرتون الحسناء، وهي شبيهة بالمجانين لخوفها على أنطوانيت، فقالت لها فاندا: ألا تثقين بي كما كنت تثقين من قبل؟
وكان هذا الكلام بلسما لجراحها، وقالت لها: نعم فإني أعلم أنك قادرة. - إني أقدر على كل شيء، إذا كنت أجد حليفا مساعدا.
فنظرت إليها مرتون بعينين تتقدان، وقالت: مري فإني أطوع من العبيد. - إذن، فاتبعيني إذ لا بد لنا من إيجاد أنطوانيت.
ثم خرج الاثنان وركبتا مركبة وذهبتا.
31
بعد يومين من الحوادث المتقدمة، وفي الساعة السابعة من الصباح وقفت مركبة أمام قصر كارل دي مورليكس، ووراءها مركبة أخرى تحمل أمتعة، فكان في مركبة الأمتعة خادمان وهما بيريتو الإيطالي وبطرس السائق، وفي المركبة الأولى مسافران وهما كارل دي مورليكس وإيفان دي بونتيف.
وكانت المودة استحكمت بين كارل وإيفان في مدة السفر، حتى بات إيفان يثق بكارل ثقة لا حد لها، وأخص أسباب هذه الثقة أن كارل وعده أن يجد له مدلين.
ولما وقفت المركبة نزلا منها، فأخذه كارل بيده قائلا: هلم معي، فإن هذا القصر قصرك وقد أعددت لك فيه الدور الأول.
ثم صعد به إلى محل الذي أعده له، وكان بيريتو يظهر حنوا عظيما على إيفان، فإنه بينما كان الخدم يخرجون الأمتعة من المركبة كان يظهر لهم إشفاقه وخوفه على سيده إيفان، وأنه مجنون وأعراض جنونه ناتجة عن هيامه بفتاة لا وجود لها.
فكان الخدم ينظرون إلى إيفان ساكتين مشفقين، وكلهم واثقون أن إيفان من المجانين.
وبينما كانوا يتباحثون في جنون إيفان وغرامه، كان كارل مورليكس في غرفته يفض أختام رسائله ويطالعها، وقد عثر بينها على رسالة من تيميلون ففضها بيد مرتجفة، وقرأ ما يأتي:
سيدي الفيكونت
مررت أمس بمنزلك فأخبرني البواب أنه ورد منك تلغراف من برلين وهو ما يدل على أنك رجعت من روسيا، فلا تضع الوقت عند عودتك وأسرع إلى المدموازيل جينين، فإنها تنتظرك في شارع لندرا، وقد قبضت على أنطوانيت، فليطمئن بالك، فإنها في محل أمين.
تيميلون
ثم فتح كتابا آخر علم أنه وارد إليه من طبيب خاص بمعالجة المجانين، يقول له فيه إنه مستعد لمعالجة الضابط الروسي (أي إيفان) وأنه يؤمل أن يشفيه بوقت قريب، ولكنه لا يستطيع الجزم قبل أن يرى المريض، ولذلك فهو سيزوره غدا في منزله، فإذا وجد المريض ممكنا شفاؤه أخذه إليه بحجة من الحجج.
فلما قرأ الفيكونت هذا الكتاب نظر في ساعته فإذا بها قد بلغت الثامنة، فقال في نفسه: كنت أود أن أذهب إلى ابنة جيبين، ولكن لا بأس فلننتظر الطبيب.
ولم يطل انتظاره، فإنه سمع بعد ربع ساعة أن الباب الخارجي يطرق، فأطل من النافذة ورأى أن الطارق طبيب المجانين فأمر بإدخاله إليه.
وخلا الطبيب بكارل، فأخبره الفيكونت عن نوع جنون إيفان وبالغ ما شاء بثروة عائلته كي يطمعه، ثم قال: إنك لا تستطيع أن ندرس الآن نوع جنونه إلا بالمحادثة، وستتم أبحاثك حين يغدو عندك، والآن فإننا على وشك العودة من سفر طويل، وقد أخذ منا الجوع، فسنجلس جميعا على المائدة وأقدمك لإيفان بصفتك من أصحاب الأملاك.
وهو لا يعرف باريس، فتعرض عليه منزلك في شارع باسي كي يقيم فيه مع حبيبته مدلين، وهي لا وجود لها إلا في مخيلته كما أخبرتك، فإذا بلغت إلى منزلك، حجرت عليه مع من عندك من المجانين، وعالجته كما تشاء، فيكون لك غنم كبير إذا تمكنت من شفائه؛ فإنه وحيد أبيه، وهو من أغنى الأغنياء.
وبعد ساعة كانوا جميعهم على المائدة، فلما فرغوا من الطعام جعلوا يتحدثون فكان كارل يدفع إيفان إلى الكلام عن مدلين، وهو أحب حديث لديه فيندفع في الكلام عنها، ويذكر حوادثه السابقة بشكل يدفع الطبيب إلى الثقة بجنونه، لا سيما بعد أن أخبره كارل بما أخبره عنه.
ثم جعلوا يتنقلون في الحديث إلى أن أخبره الطبيب أنه يوجد لديه بيت خال يليق أن يقيم فيه مع حبيبته مدلين، وسأله إذا كان يريد أن يراه بعد أن بالغ في وصفه، فتاق إيفان إلى مشاهدته، ودعاه إلى الذهاب معه، وكان كارل قد أعد المركبة، فاستأذن منه، وخرج مع الطبيب، وهو يحسبه من أصحاب الأملاك كما عرفه به كارل، ثم ركبا المركبة، فسارت بهما إلى شارع باسي.
وكانت هي المرة الأولى التي قدم فيها إيفان إلى باريس، فكان يدهش من مناظر شوارعها الجميلة، وقد انشغل بها عن محادثة الطبيب.
فبينما كانت المركبة تسير في شارع مزدحم بالمركبات وإيفان ينظر إلى المارة نظر المندهش؛ إذ حانت منه التفاتة إلى مركبة مرت بجانبه فصاح صيحة عظيمة قائلا: هذه هي مدلين.
فانذعر بيريتو الخادم وخاطب نفسه: إذا كانت هذه مدلين حقيقة، فقد فسد حساب فاسيليكا وذهبت مساعي انتقامها أدراج الرياح.
أما إيفان فإنه استوقف السائق، فأجفل الطبيب وسأله: ماذا تصنع؟ - هو ذا مدلين قد مرت.
ثم وثب من المركبة وهو لا يلوي على أحد، وجعل يركض وراء المركبة التي رأى فيها الفتاة ويصيح بالسائق أن يقف وينادي مدلين.
فوقفت المركبة واحتشد الناس من حول إيفان وتلك الفتاة، وقد دهشوا حين رأوه دنا منها وجعل يكلمها بلهجة الحب الشديد وهي تنظر إليه منذهلة لا تفهم ما يريد إلى أن قالت له: إنك واهم يا سيدي، لأني لا أدعى مدلين بل كارولين وما رأيتك من قبل.
فلما سمع إيفان صوتها تراجع عنها بعد أن اعتذر إليها ألطف اعتذار، وكان الطبيب قد أسرع إليه وعاد به إلى المركبة، فلما رأى الناس الطبيب يصحبه وهو مشهور بينهم، عرفوا أن الفتى مجنون، فتفرقوا وهم بين ضاحك لما اتفق، وآسف لحالة هذا الشاب وجنونه، وهو في مقتبل العمر وريعان الصبا.
أما إيفان؛ فإنه جلس بجانب الطبيب، فسارت بهما المركبة، وهو يقول: ما أعجب التشابه؛ فإني لولا صوتها لما شككت أنها مدلين.
ولكن الطبيب لم يبق لديه بعد هذا القول، أدنى شك أنه من المجانين، فقال له: عجبا! كيف أن هذه الفتاة كارولين تشبه حبيبتك مدلين هذا الشبه؟ - إن ذلك من غرائب الطبيعة، ولكني سمعتك تقول: إن هذه الفتاة تدعى كارولين فهل لك بها معرفة؟ - أعرفها كما يعرفها أكثر أهل باريس؛ لأنها من شهيرات بنات الهوى.
فأطرق إيفان هنيهة، ثم عاد ينزه نظره في الشوارع والمركبة تسير بهما على عجل حتى اجتازت مسافة بعيدة.
وقبل أن تدخل في شارع باسي رأى إيفان مركبة تسير بسرعة شديدة، ورأى فيها رجلا وامرأة فصاح صيحة جديدة قائلا: لا يمكن أن أكون مخطئا هذه المرة فهذه هي مدلين.
ثم حاول أن يشب من المركبة فمنعه الطبيب وقبض عليه بيد من حديد.
ولم يكن إيفان مخطئا؛ لأن التي رآها في المركبة كانت مدلين نفسها وهي ذاهبة مع نويل. وقد رأته هي أيضا فاضطربت اضطرابا شديدا وضغطت على ساعد نويل.
أما الطبيب فإنه منعه من الوثوب إلى المركبة، وقال: إنك لا تستطيع أن تدرك مركبتها الآن؛ لأنها تسير بسرعة شديدة.
وكان الطبيب قد تبدل نظرة سرية مع بيريتو، ولم يعد لديه أقل ريب بجنونه؛ لأنه ادعى مرتين أنه رأى مدلين، فتعاون الخادم عليه، وقال له: لا حاجة إلى وثوبك من المركبة والعدو لأن إيجادها من أسهل الأمور. - كيف أستطيع إيجادها؟ - ذلك لأني عرفت نمرة المركبة التي تسير فيها وهي 3119. - وإذا كنت عرفت النمرة؟ - نذهب إلى إدارة شركة المركبات بعد زيارة منزلي فنعرف من النمرة السائق، وهو يدلنا على المنزل الذي ذهبت إليه مدلين.
فوثق إيفان من قوله، وكانت المركبة قد بعدت بعدا شاسعا في خلال الحديث، فاستمرت في سيرها حتى بلغت ذلك المسكن الذي أعده الطبيب مستشفى للمجانين.
فدخلت المركبة في ردهة المسكن، وأسرع الخدم إلى استقبالها، فأقفلوا في الحال الباب الكبير دون أن ينتبه إيفان لما يفعلون، ثم دخل الطبيب إلى قاعة فسيحة وقرع جرسا فأقبل إليه ثلاثة عليهم ملابس رجال الصحة، فدفع إليهم إيفان قائلا لهم: هو ذا ضيف جديد، أريد أن تعتنوا به كل الاعتناء، وأن تبدأوا بعلاجه بالماء البارد إلى أن أعود.
ثم تركهم وانصرف.
فأحاط الثلاثة بإيفان وقد دهش دهشة شديدة لما رآه، فقال لهم : ماذا تريدون مني ؟
فجعل كل منهم ينظر إلى الآخر ويبتسم إلى أن قال له أحدهم: هلم معنا إلى الحمام البارد لأنه ينفعك.
فصاح إيفان صيحة منكرة وقد علم من ملابسهم وكلامهم أنه في مستشفى المجانين.
أما الثلاثة فإنهم هجموا عليه وقادوه بالعنف، فكان بيريتو الخادم يضحك من ورائه معجبا بسيدته فاسيليكا وبانتقامها الغريب.
32
ولنعد الآن إلى كارل دي مورليكس، فإنه بعد أن خرج من منزله الطبيب وإيفان أسرع بالخروج في أثرهما، فركب مركبة وذهب بها إلى شارع لندره؛ حيث كتب له تيميلون أن يقابله في بيت عينه له ابنه الكولونيل جيبين.
فلما وصل رأى تلك الفتاة بانتظاره، فقال لها: إني الفيكونت كارل دي مورليكس.
فانحنت الفتاة أمامه باحترام، وقالت: إني أعلم يا سيدي السبب في قدومك، فتفضل بالانتظار هنيهة إلى أن يعود تيميلون، فقد ذهب أبي يدعوه. - من أين؟ - من المحل المحبوسة فيه الصبية؛ لأنها ليست في هذا المكان.
وبعد هنيهة جاء تيميلون فأطلق سراح الفتاة، وجلس بإزاء الفيكونت، ودار بينهما الحديث الآتي:
قال تيميلون: إن أنطوانيت باتت في قبضة يدي الآن. - لقد كتبت لي عن ذلك. - وهي لا تفلت مني في هذه المرة. - ما دام روكامبول موجودا لا أثق بشيء. - أوثقت من قوته الآن؟ - كل الوثوق. - أظن أنك التقيت به في روسيا؟
فهز كارل رأسه إشارة إلى المصادقة وقد اصفر وجهه لذكر تلك الحوادث.
فابتسم تيميلون وتابع: لقد علمت بعض حوادثك معه، فقد ظفرت بمدلين، ثم أنقذها منك.
فعض الفيكونت شفته من الغيظ وأجاب: لا بد لي من إيجادها. - وأنا كذلك. - ولكن روكامبول لا بد أن يكون حذرا عليها كل الحذر.
فضحك تيميلون وأجاب: ستقص علي حوادثك فيما بعد. والآن، اسمع حوادثي، فإني تركت ابنتي في إنكلترة إذ لولاها لما غلبنا روكامبول في المرة الأولى، وعدت إلى باريس، ولكن أتعلم إلى أين ذهبت؟ - كلا، وكيف تريد أن أعلم؟ - إني ذهبت توا إلى إدارة البوليس فسلمت نفسي؛ لأني كنت متهما بسرقة منزلك، ولكنهم أطلقوا سراحي، أتعلم لماذا؟ - ألعلك أثبت لهم براءتك؟ - لم أتكلف إلى ذكر كلمة بهذا الشأن، ولكني عرضت عليهم تسليم روكامبول مقابل إطلاق سراحي.
فهز كارل رأسه وأجاب: لقد جريت شوطا بعيدا في أحلامك؛ لأن روكامبول لا يؤخذ. - إنك منخدع يا سيدي الفيكونت، فإنه سجين منذ ساعة.
فوثب كارل عن كرسيه وهو لا يصدق ما يسمع وسأله: أحقيقة ما تقوله أم أنت تهزأ بي؟ - كلا، فلا أقول لك غير الحق. - ولكنه سيفر من السجن. - إنهم قد اتخذوا الاحتياطات الشديدة، فلم يبق له سبيل إلى الفرار. - ولكنهم سيعيدونه إلى سجن طولون، وسيفر كما فر من قبل. - كلا إنك منخدع أيضا؛ لأن روكامبول قد اتهم في سجن طولون بالاشتراك بقتل أحد وكلاء السجن الذي قتله أحد أصحابه انتقاما لكلبه، فهم سيحكمون عليه بالإعدام، وليس بالسجن كما توهمت الآن، فإذن لم يبق خوف من روكامبول، فلنتحدث فإن روكامبول قد عاد من روسيا بمدلين.
فبدت علائم الاضطراب في وجه كارل، وقال: أين هي مدلين؟ - ستكون في قبضتي حين أشاء. - إذن، ستقبض عليها في الحال. - كلا، إذ يجب قبل ذلك أن نتفق. - إنك تريد أن نتفق على مبلغ جديد؟ - دون شك. - قل إني مصغ إليك. - إن العيش في إنكلترا أدعى إلى النفقة منه في فرنسا، ومن عاشر الإنكليز ونظر إلى نفقاتهم يحسب الفرنسيين فقراء بإزائهم. - وبعد ذلك؟ - إن من يكون دخله 25 ألف فرنك في فرنسا يحسب نفسه غنيا، وأما هذه القيمة في إنكلترا فهي تدل على المسكنة، وأنا أحب العيش في تلك البلاد.
فحملق كارل بعينيه وسأله قل: ماذا تريد؟ - أريد أن أبيعك أولئك الثلاثة الذي حرموك لذة الرقاد مبتدئا بروكامبول؛ فكم تقدر ثمنه؟ - لا أعلم. - ثم أنطوانيت ثم مدلين. أما روكامبول فلا حاجة إلى الاهتمام به الآن، وأما الأختان فإن شأني معهما غير شأني مع روكامبول على أني أسلمهما لك أو أفعل بهما ما تريد. - كم تطلب مقابل ذلك؟
فأجابه تيميلون ببرود مليون فرنك فقط. - مليون فقط! لا شك أنك مجنون.
فنهض تيميلون عن كرسيه وأجاب: إني كنت أتوقع منك مثل هذا الجواب، ولكن يجب أن تعلم أني لا أنقض شيئا من مطالبي. - وأنا أعيد إليك ما قلته وهو أنك مجنون. - إنك مخير بين الرفض والقبول.
فضرب كارل الأرض برجله ورد: ويحك! كيف تجسر على مثل هذا الطلب ألا تعلم كم يبلغ المليون؟ - لا أنكر أنه ثمن فاحش، ولكني أعرف رجلا آخر يعطيني هذا المليون دون تردد. - من هو هذا الرجل؟ - هو ابن أخيك أجينور دي مورليكس.
فنظر الفيكونت إلى تيميلون نظرة منكرة، وساد بين هذين اللصين سكوت فصيح، يدل على أن حياة الأختين اليتيمتين معقودة على كلمة تصدر من فم الفيكونت.
33
ولنعد الآن إلى أنطوانيت فلقد تركناها جاثية على ركبتيها، وقد ملأ الذعر قلبها، وهي تستعيذ بالله من شر بوليت وشيفيوت.
فكان بوليت يقول لها وقد بدت في وجهه ملامح الفرح الوحشي: إنك لا تنكرين حبي ولا تفلتين من يدي هذه المرة.
وكانت شيفيوت تدنو منها متهددة منذرة فتقول: إنك خرجت من السجن ميتة، ثم ردت إليك الحياة، ولكنك ستموتين هنا، ولا ترد إليك الحياة!
ثم تهددها بقبضتها وتحاول ضربها.
وكانت أنطوانيت راكعة تصلي دون أن تحاول الدفاع.
ولكن يد شيفيوت قبل أن تصل إلى أنطوانيت قبض عليها بوليت من وسطها وألقاها بعيدا عنه في أرض الغرفة، وهو يقول: احذري بعد ذلك أن تمسي هذه الفتاة بسوء.
غير أن شيفيوت لم تكترث لما أصابها من بوليت، فنهضت من سقوطها وهجمت مغضبة على أنطوانيت، فحال دونها بوليت، وجرى بينهما قتال عنيف.
وكانا يتشاتمان بأقبح ألفاظ السجون، فيتلاكمان ويتضاربان ويفترقان ويتلاحمان، كل ذلك وأنطوانيت تنظر إلى هذين العدوين الهائلين نظرات الرعب وهي تتمنى النصر لشيفيوت؛ لأنها تؤثر ألف مرة أن تموت بضرباتها على أن تقع في قبضة ذلك الفاسق الذي يدافع عنها.
وفيما هما يتقاتلان - وقد يئست أنطوانيت من النجاة - فتح الباب ووقف على عتبته رجل، فاضطرب لمنظره المتقاتلان، وتراجعا إلى الوراء، وقد صبغ وجههما بحمرة الخجل.
وكان هذا الرجل تيميلون فانتعش فؤاد أنطوانيت حين رأته؛ لأنها لم تكن رأته من قبل، فحسبت أنه قادم لإنقاذها فأسرعت إليه، وقالت له بلهجة المتوسل: أنقذني يا سيدي بحق السماء.
غير أن تيميلون لم يجبها، بل نظر مغضبا إلى بوليت وشيفيوت، وقال لهما: أوضحا لي أسباب هذا الخصام.
فدنت شيفيوت وقالت: إن هذه الفتاة أساءت إلي إساءة شديدة في سجن سانت لازار، ولما رأيتها أردت أن أنتقم منها فمنعني بوليت.
فقال تيميلون لبوليت: وأنت ماذا تقول؟ - إن أمري بسيط، وهو أني أحببت هذه الفتاة، ولا أريد أن يضربها أحد. - إني لا أؤذن لأحد منكما بالإساءة إليها، فإني وضعتكما معها لحراستها ومنعها عن الفرار فاخرجا الآن، واعلما أنكما إذا عصيتما أوامري أرجعتكما إلى السجن، إنكما لا تخرجان منه إلا بوساطتي.
فخرج الاثنان، وعلمت أنطوانيت أن هذا الرجل الذي كانت ترجو أن ينقذها كان ألد أعدائها.
أما تيميلون فإنه أقفل الباب ودنا منها، فقال: ألا تعرفينني يا سيدتي؟
فقالت وهي ترتجف من الخوف: هذه هي المرة الأولى التي أراك فيها، ولكني أسألك بالله يا سيدي أن توضح لي ما يكتنفني من الأسرار. - إن الأمر بسيط، فإنك تعرفين تاريخك حق العرفان، ولا سبيل إلى كتمان الحقيقة عنك، فأنا الذي قبضت على ميلون، وإن الكولونيل الذي رأيته كان من خدمي، وتلك الفتاة التي كانت تصحبه من بنات الهوى، وإنما مثلنا هذا الدور للقبض عليك وعلى ميلون.
فاشمأزت أنطوانيت من حديثه، وقالت له: ماذا تريد من القبض علي؟ وبماذا أسأت إليك؟ - إنك ما أسأت إلي بشيء، ولكن وجودك مثقل على بعض الناس، وقد وضعوا المبالغ الطائلة في سبيل القبض عليك وحبسك في هذا المكان، ثم تركها وانصرف دون أن ينظر إليها أو يسمع ما تجيب.
أما أنطوانيت فإنها أيقنت بأن عدوها واحد، وأنه هو نفس الذي ألقاها في سجن سانت لازار، فركعت وجعلت تصلي ملتمسة بصلاتها عزاء عما هي فيه، فلما فرغت من صلاتها ذهب عنها ما كانت تلقاه من الخوف، وباتت تعتقد أنه لا بد لروكامبول وأجينور من إنقاذها.
وكان باب الغرفة مقفلا من الخارج والنافذة مقفلة أيضا، ولا سبيل إلى فتحها لالتصاق خشبة فوق مصراعيها، وضعت خاصة لمنع فتحها، فكانت أنطوانيت في ظلام دامس لولا بقية شمعة كانت تنير الغرفة، فلما انتهت تلك البقية وانطفأت الشمعة ساد الظلام فعاد الرعب والهواجس إلى فؤادها.
ولكن بعد هنيهة سمعت أن الباب انفتح، ثم رأت شيفيوت داخلة تحمل شمعة، وفي أثرها بوليت يحمل مائدة عليها بعض الطعام، فوضعت شيفيوت الشمعة في مكانها، ووضع بوليت الطعام أمام أنطوانيت. ثم خرجا دون أن يفوها بحرف واحد، ولكنهما نظرا إليها نظرتين كانتا تشف إحداهما عن الحقد الشديد، والأخرى عن الغرام الأكيد، فكانتا أبلغ من كل كلام.
وظلت أنطوانيت على هذه الحالة سبعة أيام لا ترى أحدا من الناس غير هذين الحارسين، وهي لا تراهما إلا حين يحضران الشمعة والطعام.
ولقد لقيت في أثرها عناء شديدا، فكانت تارة تصلي فترجو، وتارة تذكر حبيبها وكلام تيميلون فتبكي وتقنط، وتفكر فيما تجده من نظرات بوليت وشيفيوت فتضمحل قواها من الخوف، وتسقط على الأرض واهية، وقد تمكن منها الهزال في هذه الأيام السبعة حتى أيقنت بقرب الموت، وجعلت تشتهيه.
ولما كان اليوم السابع وهي لا تعلم أكان ذلك في النهار أم في الليل؛ لأنها كانت في غرفة لا ينفذ إليها أقل شعاع من نور السماء سمعت حديثا خارجا من الغرفة المجاورة لها فدنت من الجدار، وجعلت تصغي إلى الحديث؛ فعلمت من صوت المتحادثين أنهما تيميلون وشيفيوت، فسمعت منهما ما يأتي:
قالت شيفيوت: إني أرى على وجهك علائم السرور والارتياح، فهل قضي الأمر؟ - نعم فقد قبضت المال، ونلت جميع ما طلبت. - إذن، فإن أنطوانيت أصبحت لي دون منازع أنتقم منها كما أشاء. - كلا، بل هي لك ولبوليت على السواء. - ولكني لا أرتضي بهذه الشركة. - لماذا؟ - لأن بوليت يحبها، فلا يأذن لي بقتلها. - ربما كنت مصيبة. - وهي إذا بقيت في قيد الحياة تفسد جميع أموركم، وإذا كنت قد قبضت ثمن موتها فلماذا تريد الإبقاء عليها؟ - لقد أصبت فافعلي ما تشائين.
ففرحت شيفيوت فرحا وحشيا، وهمت أن تدخل إلى أنطوانيت، فأوقفها تيميلون وقال: احذري من أن تدفعيها إلى الصياح! لأن الجيران كثيرون. - لا تخف لأني سأخنقها خنقا ولا أدعها تصيح. - وبعد ذلك؟ - لا يعنيني أمرها فإنه متعلق بك. - نعم إنه يوجد لحسن الحظ قبو ندفنها فيه، فافعلي ما تشائين، وسأعود إليك بعد ساعة لأعد معدات دفنها.
ثم خرج فسمعت أنطوانيت وقع أقدامه، وسمعت شيفيوت تشتم أقبح الشتائم الدالة على الوعيد، ثم انقطع صوتها، فعلمت أنها قادمة إليها، وأن الساعة الرهيبة قد دنت.
فتراجعت أنطوانيت إلى النافذة المسدودة وقد قنطت من الحياة، وعولت على الدفاع حتى الموت، ولكنها ما وصلت إلى النافذة حتى سمعت من ورائها صوت قرع عليها فسرت إلى فؤادها روح الحماسة، وأيقنت أنه لم يقرع النافذة غير القادمين لنجاتها.
فوضعت فمها على تلك النافذة، وقالت: اكسروها فإنها مسدودة، أنجدوني فسوف يقضى علي ...
وعند ذلك فتح باب الغرفة ودخلت منه شيفيوت.
34
ولنعد الآن إلى فاندا التي تركناها مع مرتون آخذين بالبحث عن أنطوانيت، فإن فاندا كانت تخرج معها كل يوم متنكرين فتطوفان أنحاء باريس ولا تدعان وسيلة للبحث والتنقيب، ثم تعودان خائبتين دون أن تظفرا بأثر يرشدهما إلى أنطوانيت.
وظل هذا دأبهما إلى اليوم السابع، فإنهما بينما كانتا تطوفان في أحد الشوارع رأت مرتون بوليت خارجا من خمارة وهو يتهادى من سكره، فنبهت فاندا إليه، وقالت لها: هو ذا الرجل الذي كان معنا حين قبض البوليس علينا مع أنطوانيت، وأرسلنا إلى سجن لازار، ولا بد أن يكون لخروجه من السجن علاقة بأنطوانيت. - وكيف ذلك؟ - ذلك أنه هو الذي اختطف أنطوانيت أول مرة بإيعاز من تيميلون، وجاء بها إلينا؛ لأننا كنا عصابة واحدة، ثم سجن معنا فحكم عليه بثلاثة أعوام على الأقل، ولو كان هرب من السجن كما هربنا منه لما تجاسر أن يمشي في مثل هذا الشارع المطروق في رائعة النهار. - هو الحق ما تقولين. - والذي أراه: أن الحكومة أطلقت سراحه بطلب تيميلون، وأن تيميلون قد دخل في خدمة البوليس كما كان يفعل من قبل، ولما كان هو الذي اختطف أنطوانيت في المرة الأولى فلا بد أن يكون هو الذي اختطفها الآن. - وهذا أيضا لا ريب فيه. - إذن، فلا بد أن يكون بوليت عارفا أين توجد أنطوانيت. فهلم بنا إلى اقتفاء أثره.
فاستحسنت فاندا رأيها، وأيقنت من صوابه وسارتا في أثره.
أما بوليت؛ فقد كان أخذ السكر منه مأخذا عظيما؛ فجعل يسير وهو يعربد ويتمتم ويذكر اسم أنطوانيت، ثم يذكر تيميلون مغضبا، ويقول: لا بد لي من الاستيلاء عليها ولو كره تيميلون.
وكان يمشي ومرتون وفاندا بأثره، وهو لا يشعر بهما حتى وصل إلى الغرفة التي كان يقيم فيها قبل أن يسجن.
وكانوا قد أخذوا منه مفتاحها في السجن، فلم يكترث لذلك، وأخرج خنجره من جيبه كي يكسر به القفل، فانكسر الخنجر ولم يفتح الباب، فغضب غضبا شديدا، وتراجع متحفزا ثم صدم الباب صدمة قوية فكسر، ودخل إلى غرفته القديمة، فدخلت المرأتان على الفور في أثره، فلم يشعر إلا وهما واقفتان عند مدخل الغرفة تمنعانه عن الخروج.
فدنت مرتون وهي تقول لفاندا: ابقي مكانك يا سيدتي؛ فلا يخلق بمن كان مثلك أن يتدانى إلى محادثة هذا الشقي، وأنا كفؤ له.
فوقفت فاندا عند الباب كي تحول دون فراره إذا حاول الفرار، وعلم بوليت أنه أخطأ خطأ عظيما لكسره خنجره.
ولكن السكر أضل صوابه فلم يحذر في بدء أمره من هاتين المرأتين، إلى أن دنت منه مرتون ورأى في عينيها ما يدل على الشر فتراجع قليلا، وقال لها: ماذا تريدين؟ - إني أتيت مع هذه السيدة قصد ممازحتك. - ولكني لا أعرف هذه السيدة. - لا بأس، فسأعرفك بها.
فضحك بوليت ضحكا عاليا دفعه إليه السكر، فاقتربت مرتون خطوة منه، وقالت له: أراك قد كسرت خنجرك. - كسرته حين معالجتي قفل الباب. - إن خطأك لم يقتصر على كسر خنجرك، فإنك قد أكثرت من الشراب حتى ذهب السكر بعقلك.
فغضب بوليت وقال: وماذا يهمك أمري؟ ألعلك امرأتي؟ - إني لا ألومك هذا اللوم إلا لخيرك؛ لأن إفراطك بالسكر يؤذيك. - وما يهمك كل ذلك؟
فتقدمت خطوة أيضا وقالت: قلت : إن ذلك لا يهمني، بل يهمك؛ فلولا سكرك لبقي لك خنجرك تدافع به عن نفسك عند الاقتضاء، ولولا سكرك لما أصبت بهذا الضعف، حتى إنك لا تستطيع الوقوف. - أتظنين أني ضعيف لهذا الحد؟ - بل أؤكد. - ولكني لم أفهم شيئا مما تريدين، فماذا تقصدين من هذه الأقوال؟
فاقتربت منه وقالت: أولا أريد أن أمازحك. - وثانيا؟ - أريد أن أعرف كيف أصبحت مطلق السراح، وقد غادرتك في السجن؟ - ذلك لأني هربت منه. - كذبت. - كيف عرفت أني كذبت؟ - لأني علمت أن تيميلون أخرجك منه، وهو ما يدل على أنه عاد إلى خدمة الحكومة.
فما تجاسر بوليت على الإنكار، وعند ذلك وضعت مرتون يدها على كتفه، وقالت له: قل لي كيف حال أنطوانيت؟
فارتعش بوليت لهذا السؤال واصفر وجهه، وقال لها ولسانه يتلعثم: ماذا يهمك أمرها؟ - أحب أن أعرف شيئا عنها.
فأجاب بلهجة وحشية: إنها على خير حال ولا أزال على هيامي بها.
ولكنه قبل أن يتم كلامه هجمت مرتون عليه وصدمته صدمة شديدة، فسقط على الأرض لسكره، فركعت فوق صدره، وقبضت على يديه حتى لم يعد يستطيع حراكا؛ فجعل يصيح ويستغيث، ولكن غرفته كانت منعزلة في شارع مقفر، فقالت له: لا تزعج نفسك بهذا الصياح إذ لا يسمعك أحد. - إذن، ماذا تريدين مني؟ - قلت لك: إني أريد أن أمازحك.
ثم نظرت إلى فاندا التي كانت لا تزال واقفة دون حراك نظرة سرية، ففهمت قصدها، وللحال فكت أزرار صدرها، وأخرجت ذلك الخنجر الذي طعنت به كارل دي مورليكس، ثم تقدمت ودفعته لمرتون.
وكان بوليت جبانا، وقد زاده سكره خوفا وحطة، فلما رأى نصل ذلك الخنجر يبرق في يد مرتون، ارتعدت فرائصه جزعا، وقال لها: ماذا تريدين؟
فوضعت الخنجر فوق عنقه وقالت: إنك تعرفني من أنا، وتعلم أني لا أخلف بما أقول، فإذا لم تقل أين أنطوانيت ...
فاضطرب بوليت لذكرها، وقال: إني أحبها.
ولكنه شعر أن الخنجر قد وخز عنقه، فصاح صيحة الخائف، وقال: لا تفعلي! - إذن، قل لي: أين الفتاة وإلا قتلتك دون إشفاق.
فتردد هنيهة كأنه يحاول أن يختلق قولا، فما أمهلته مرتون، ووخزته بالخنجر فجرحته جرحا خفيفا أسال دمه، وقالت له: إذا لم تسرع بالقول أغمدت هذا الخنجر في عنقك. - كفى! كفى بالله! - أتقول: أين هي الفتاة؟ - أقول كل شيء فارفعي هذا الخنجر.
فرفعت مرتون خنجرها وهي لا تزال رابضة على صدره، وقالت: قل أين الفتاة؟ - إنها في قبضة تيميلون. - أعرف ذلك، ولكن أين هي؟ - في شارع بلفوند. - في أي منزل؟ - نمرة 21. - ومن يحرسها الآن؟ - تيميلون وشيفيوت، انهضي عني بالله، فقد عرفت كل شيء؟ - قل إذن، يجب أن تخبرني بجميع ما حدث. - لا أعلم شيئا سوى أن تيميلون أخرجني من السجن مع شيفيوت وعهد إلينا بحراسة أنطوانيت، فإذا خرجت شيفيوت توليت مكانها، وإذا خرجت تولت مكاني. - وهل تسيء شيفيوت معاملتها؟ - لا تستطيع الإساءة إليها وأنا هناك.
وعند ذلك رأت فاندا أن الحديث قد انتهى مع هذا الرجل، وأنه آن لها تتداخل، فدنت منهما وقالت لمرتون: يجب أن نستوثق من صدق هذا الرجل؛ لأني لا آمن أن يكون حديثه زورا، وحكايته مختلقة فابقي أنت بقربه، وأنا ذاهبة إلى ذاك المنزل الذي وصفه لأتحقق صدقه، وإنما أريد أن أعلم شيئا عن صفة هذا البيت وعن الغرفة التي تقيم فيها أنطوانيت.
فأجاب بوليت: إنه بيت ذو طابقين يقيم في الدور الأعلى منه عائلة إنكليزية، وأنطوانيت في الدور الثاني، وبهذا البيت حديقة تحيط به من جميع جهاته، والغرفة التي تقيم فيها أنطوانيت تشرف على الحديقة، ولها نافذة تشرف على رواق، ولكنها مقفلة كي لا تجد سبيلا إلى الفرار منها.
فاكتفت فاندا بما سمعت، ومضت في شأنها، وبقيت مرتون أمام بوليت تنذره بخنجرها ولا يستطيع الدفاع لسكره.
وذهبت فاندا فتنكرت بملابس الغسالات، ومضت إلى ذلك المنزل ترود حوله، ورأت تيميلون خارجا منه دون أن يراها، ورأت شيفيوت مطلة من نافذة، ورأت الحديقة والغرفة المسجونة فيها أنطوانيت، والرواق الكائن تحت النافذة المقفلة المشرفة على الحديقة، فوثقت من صدق بوليت، وامتحنت سور الحديقة، وعلمت أسهل الطرق الموصلة إليها.
وعند ذلك عادت مسرعة إلى البيت المقيم فيه نويل مع أمه ومدلين، وقالت فاندا لنويل: إني محتاجة إليك في هذا المساء، فانتظرني إلى أن أرى مدلين.
ثم تركته وصعدت إلى مدلين، فلما رأتها فرحت بها فرحا لا يوصف، وطوقت رأسها بذراعيها، وجعلت تبكي، وتقول: رأيت إيفان، ورآني وهو الآن في باريس.
وجعلت تقص عليها ما لقيته من التأثر الشديد حينما رأت إيفان في المركبة، فنظرت إليها نظرة المؤنب، وقالت: يجب علينا الآن أن نفتكر بأختك أنطوانيت.
فاصفر وجه مدلين، وقالت: عفوك يا سيدتي، فلقد ذهب الطيش بصوابي حتى نسيت تلك الأخت العزيزة وما هي فيه. - لا بأس؛ لأنك قد أصغيت لصوت قلبك، ولقد قلت لي: إن إيفان في باريس، وهو ما قدم إليها دون شك إلا للبحث عنك، ومتى كان كل من العاشقين يبحث عن الآخر فلا بد لهما من الالتقاء، ولكن يجب علينا قبل كل أمر أن نجد أنطوانيت، فإني قد وقفت على أثرها.
وصاحت مدلين صيحة فرح، وقالت: أحقا ما تقولين؟ - لا أستطيع أن أزيد شيئا على ما قلته، ولكني أدعوك إلى الرجاء. - إن لي كل الثقة بك وبروكامبول. - إن روكامبول سينجو بنفسه وسترينه.
ثم أخذت يدها بين يديها، وقالت لها: أتكونين طائعة لي؟ - كل الطاعة. - وتعدينني أنك لا تخرجين من هنا إلا معي أو مع روكامبول؟ - أعدك وعدا صادقا بالامتثال. - يجب أن تعلمي أن عدوك وعدو أختك واحد، وإنك معرضة للخطر الذي أصابها نفسه، فإذا خالفتني أقل مخالفة مدة غيابي وقعت في فخ العدو. - أقسم لك أني لا أخرج من هنا، إنما أرجوك أن تخبريني متى نجد إيفان. - بعد إنقاذ أنطوانيت.
ثم تركتها ورجعت إلى الغرفة التي تركت فيها نويل ينتظرها، فقالت له: قلت لك إني محتاجة إليك في هذه الليلة. - متى؟ - عند منتصف الليل، وسأجيء إليك متنكرة بزي الغلمان، فتنكر أنت أيضا، وأعد المعدات اللازمة لتسلق جدار وكسر نافذة، وانتظرني إلى أن أعود إليك، ولا تنس أن تتسلح بمسدس وخنجر.
فأحنى رأسه إشارة إلى الامتثال؛ لأنه بات يخضع لفاندا كما كان يخضع لروكامبول. •••
لقد تركنا أنطوانيت في أحرج موقف، بين يأس يتولاها من دخول شيفيوت عليها بعدما سمعته من حديثها مع تيميلون وأنه أطلق لها السراح بقتلها، وبين رجاء بالنجاة حينما تراجعت منذعرة إلى النافذة وسمعت قرع طارق عليها ووضعت فمها عليها، وقالت: أدركوني واكسروا الباب، فإنها مسمرة من الداخل.
أما شيفيوت؛ فإنها فتحت باب الغرفة وهجمت عليها هجوم العقبان الكواسر دون أن تكترث لصياحها، وهي تقول: إنك لا تسلمين مني هذه المرة؛ لأن الرئيس أباح لي قتلك.
وجعلت تضغط على عنقها ضغطا شديدا حتى أوشكت أن تخنقها.
فدافعت أنطوانيت عن نفسها دفاع اليأس وأفلتت منها، وجعلت تصيح وتستغيث، فقالت لها: إن صياحك لا يطول؛ إذ لا بد لك من الموت.
ثم وثبت عليها وثبة ثانية فتخلصت منها أنطوانيت بعد عراك طويل، وجعلت تستغيث إلى أن أعادت عليها الكرة مرة ثالثة ففازت عليها وألقتها على الأرض، فركعت فوق صدرها وطوقت عنقها بيديها، فأغمضت أنطوانيت عينيها، واستسلمت للموت لعجزها عن الدفاع.
ولكن شيفيوت لم توشك أن تضغط على عنق أنطوانيت حتى سمعت البيت قد ارتج، ورأت النافذة قد كسرت ووثبت منها فاندا بملابس الغلمان، فأطلقت نار مسدسها على شيفيوت فوقعت الرصاصة في صدرها وسقطت تلك الشقية على الأرض وهي تشتم أقبح شتم والدماء تخرج من صدرها.
35
ولندع الآن فاندا ونويل آخذين بإنقاذ أنطوانيت عائدين إلى روكامبول؛ حيث تركناه في السجن كما قدمنا.
وبعد أن قابله مدير الشرطة حبس في سجن البوليس ساعتين، ثم نقل إلى سجن مازاس، وذلك ما يؤيد ما قاله رئيس البوليس، وهو أنه لا يمكن استنطاقه والتحقيق في أمره إلا بعد أن يحضروا ميلون ويقرنونه إليه.
وأقام روكامبول في السجن أربعا وعشرين ساعة، وهو سجن هائل يقيم فيه السجين وحده في غرفة مظلمة، فلا تحين ساعة استنطاقه حتى تضعف قواه ويتلاشى ...
ولكن روكامبول لم يكن من أولئك الذين تهولهم السجون.
فإن من أقام عشرة أعوام في سجن طولون مقيدا بالحديد تحيط به الأرصاد والعيون دون أن يضجر أو يبوح بسره لأحد؛ لا يتعبه سجن بسيط يقيم فيه يوما أو يومين.
ومع ذلك فإن روكامبول كان يشعر بانقباض شديد في صدره، ولم تذق عيناه طعم الرقاد في تلك الليلة؛ حتى إنه بكى في سجنه بكاء الأطفال.
ولم يكن بكاؤه لخوفه من السجون ولصدور الحكم عليه بالإعدام؛ فإن من يتوب توبة صادقة لا يكترث للموت والعذاب غير أنه كان يبكي لإشفاقه على الأختين اللتين تركهما في قبضة عدو شديد ولا ناصر لهما غير فاندا.
ثم لما فرغ من بكائه شعر بحرج موقفه، فجثا على ركبتيه فصلى إلى الله مبتهلا وختم صلاته بقوله:
رباه إني ما هربت من عقاب الإنسان إلا لأندفع إلى غمرات الخير وأفعل من الحسنات ما أكفر به عن ذنوبي السابقة، فأغثني برحمتك، وهبني من لدنك عونا على إتمام ما شرعت به، ومهد لي السبيل لإنقاذ الأختين مما يكيده لهما رجال الشر، وأذن لي أن أرى مرة تلك المرأة التي أحببتها دهرا طويلا حب الإخاء ثم أعود إلى السجن فأقيم فيه إلى أن تحين ساعة لقياك الرهيبة.
ولا ألتمس منك منذ الآن إلى أن تحين تلك الساعة إلا أن تأذن لي بأن أنكر حقيقة أمري أمام القضاة، وأن تغتفر لي هذا الكذب؛ إذ لا أريد به غير النجاة لإنقاذ الأختين وأنت أعلم بما في القلوب.
وعند الساعة الثامنة من الصباح كان روكامبول لم ينم بعد، فجاءه السجان بالطعام أشكالا مختلفة تدل على أنه كان مشمولا بالرعاية.
وذلك أن مدير سجن مازاس أعجبه كبرياء روكامبول ومظاهر جلاله، فحتم أن البوليس مخطئ، وأنه قائد روسي لا شك فيه، فبالغ في إكرامه لاعتقاده أن القضاء سوف يكشف ظلامته متى تبين خطأه، وأمر أن يؤتى له بالطعام الشهي، وبالكتب لمطالعتها وتسلية أشجانه فيها.
وكان بين هذه الكتب التي أرسلها إليه لمطالعتها كتاب ضخم يتضمن تاريخ لويس الثالث عشر، وقد جيء به من مكتبة الثكنة الحربية.
وكان السبب في وجود هذا الكتاب في سجن مازاس أن أحد الصحافيين كان مسجونا فيه فطلب مراجعة هذا التاريخ، ثم خرج من السجن وبقي التاريخ في السجن دون أن يرجعوه إلى المكتبة، فأرسله المدير مع ما لديه من الكتب إلى روكامبول.
ومن جملة عناية هذا المدير بروكامبول: أنه أذن له بالكتابة إلى من يشاء، فكتب رسائل كثيرة إلى موسكو وبطرسبرج إيهاما لرقبائه: أنه روسي محض لا غش فيه.
وبعد أن فرغ من هذه المكاتيب جعل يقرأ تاريخ لويس الثالث، ثم خطر له خاطر فكتب فوق حاشية صفحة من صفحات الكتاب عدة سطور بحرف صغيرة متلاحمة لا يمكن تلاوتها إلا بنظارة مكبرة، ثم أخذ قطعة من الخبز فانتزع قطعة من لبابها وعالجها بالماء حتى باتت أشبه بالغراء فطلى بها جانبا من تلك الصفحة التي كتب عليها، وألصق بها الصفحة التي تقابلها فباتت الصفحتان واحدة.
أما الذي كتبه روكامبول فلا يستطيع تلاوته غير فاندا، بقيت الطريق التي يمكن بها إيصال هذا الكتاب إلى فاندا، وهو ما يستحيل تنفيذه، ويشكل أمره على رجل غير روكامبول.
ولكن روكامبول كان يقول في نفسه إنه من حين قبض علي لا بد أن تكون فاندا أوقفت رقيبا أمام الحقانية، فإما أن تقف هي بنفسها أو نويل أو مرتون.
ثم قال: إن المركبة التي تنقل المسجونين إلى السجون تقف عند باب الحقانية، وبين هذا الباب وغرفة قاضي التحقيق مسافة يجتازها المسجونون وخفراؤهم على الأقدام بين جماهير الناس، فلا بد لي أن أرى واحدا من أصحابي الثلاثة بين الجماهير، ومتى رأيت واحدا منهم هان علي الباقي.
فلما ختم روكامبول الصفحتين كما قدمناه رفع الكتاب إلى الحارس، وقال له: أرجوك أن تلتمس لي من المدير الجزء الثاني من الكتاب.
فأخذه الحارس إلى المدير ثم عاد بعد هنيهة، وقال لروكامبول: إن المدير قال: إن تصبر إلى الغد، فإن الجزء الثاني في مكتبة القلعة، وسيرجع إليها الجزء الأول، ويحضر لك غدا الجزء الذي تطلبه.
فأحنى روكامبول رأسه إشارة الموافقة، وكان هذا جميع ما يبتغيه.
ومع ذلك فإن هذا الرجل القوي الذكي لم يتمالك عن البكاء، فجعل يبكي طول ليله بكاء المستغفر النادم لشدة إشفاقه على الأختين.
على أنه كان في قلبه جرح بليغ لا يشفيه إطلاق سراحه ولا تدمله الحرية.
وفي اليوم التالي جاء الشرطي عند الصباح كي يسير به إلى دار الحقانية، فلبس ملابسه وتأنق فيها بعض التأنق، وذلك أنه كان طلب أن يحضروا له ملابسه من منزله، فأرسلت الحكومة بوليسها لإحضار هذه الملابس لتفتيش منزله وحجز أوراقه.
وبعد أن فرغ من لباسه خرج به أحد رجال الشرطة، فركب وإياه المركبة الخاصة بالمسجونين.
ولم يكن هذا الشرطي معتادا أن يقود مثل هذا المسجون، فكان ينظر إليه من حين إلى آخر نظرة إعجاب، ولا يتمالك عن الوقوف في موقف الاحترام، كما أن روكامبول كان يقلد حركات كبار الضباط، فيحذو حذوهم بإشاراته وكلامه كي لا يبقى شك أنه الماجور أفاتار.
وكانت المسافة بين سجن مازاس وبين الحقانية طويلة، ولا يمنع النظام الجنود عن محادثة المسجونين.
وجعل روكامبول يتحدث عن حرب القرم، وكان هذا الجندي من الذين حضروا حصار سباستول، فدهش مما سمعه منه من التفاصيل الصحيحة والدقيقة.
ثم استطرد روكامبول الحديث إلى ذكر الحكومة الروسية والطعن بأحكامها الاستبدادية، إلى أن قال لهذا الجندي: إن الحكومة الروسية تضطهده؛ لأنه من أحزاب الدستور المجاهرين بأفكارهم الحرة.
فأعجب الجندي من كلامه، وجعل يستزيده من الحديث، فيباحثه عن بولونيا، وهو يتدفق كالسيل، ويذكر المبادئ الحرة، وما تقاسيه تلك الشعوب من المظالم.
وكان الجندي يفتح من حين إلى حين علبة تبغ، فيلف سيكارة ويدخنها وهو مصغ إلى محدثه أتم الإصغاء، وقد طلب منه روكامبول سيكارة فسر الجندي سرورا عظيما، وعد ذلك تنازلا منه، وأسرع وقدم له ما طلب، وقد أعجب به إعجابا شديدا حتى قال روكامبول في نفسه: إن هذا الجندي بات خليقا أن يشهد أنه رآني فوق أسوار سباستبول.
وبعد حين وصلا إلى دار الحقانية، فنزل الشرطي ونزل روكامبول وهو يقول له: إن انتظارنا لا يطول اليوم.
فقال له روكامبول ببساطة: ألعلنا نحتاج إلى الانتظار في غير هذا اليوم؟ - نعم، فقد يتفق أننا نضطر إلى الصبر ساعات في بعض الأيام مثال ذلك ما حدث لنا أول أمس، فقد أتيت إلى المحكمة بأحد المجرمين واضطررنا إلى الوقوف ثلاث ساعات. - أأنت في الخدمة كل يوم؟ - كلا، بل يوم خدمة ويوم راحة. - إذن، ستكون أنت حارسي إذا عدت إلى المحكمة بعد غد؟
فانحنى أمامه باحترام، وقال له: نعم يا حضرة الماجور.
ولكن احترامه لم يمنعه عن أن يضع القيد في إحدى يديه حسب النظم المرعية.
وبينما هما يجتازان الممشى إلى المحكمة، وقد ازدحم الناس قرب سلمها رأى روكامبول شابا أشقر الشعر نحيل الجسم ينزل درجات ذلك السلم، فارتعش؛ إذ علم أن هذا الشاب فاندا قد تنكرت بملابس الغلمان.
ولما رأته فاندا تظاهرت أن قدمها قد زلت، فنزلت أربع درجات مرة واحدة؛ بحيث التطمت بروكامبول، فشتمه، ثم أظهر أن الغضب قد تمكن منه، وجعل يتكلم باللغة الروسية بلهجة الشتائم، فكان ما قاله لفاندا: تاريخ لويس الثالث عشر المجلد الأول: مكتبة الثكنة الحربية.
وكان يقول هذه الكلمات مغضبا وهو يقطعها تقطيعا، ثم ذهب مع حارسه، وجعل يضحك ويقول: إن المرء عند الغضب تتغلب عليه لغته الأصلية؛ فلا يطلق لسانه إلا بها.
أما فاندا فقد برحت ذلك المكان لتذهب إلى حيث أمرها الرئيس.
36
ولقد أصاب الحارس فيما قاله فإن المحكمة لم تكن أشغالها كثيرة في هذا اليوم، فإن قاضي التحقيق قد أجل النظر في كثير من الأمور للانصراف إلى قضية روكامبول، إذ قال في نفسه: إنه إذا وجد تيميلون قد قال الحق وكان هذا الماجور روكامبول الهارب من السجن، فلا بد من التأني في استنطاق مثل هذا الشقي الجسور.
فلما وصل الحارس بروكامبول أمر القاضي أن يدخلوه في الحال.
وكان هذا القاضي في عنفوان الشباب، ولكن مخائل الذكاء تجول بين عينيه، ولما مثل روكامبول بين يديه رأى على طاولته كثيرا من الأوراق، علم أنها أوراقه ضبطت من منزله، وكان معظمها رسائل وردت إليه من روسيا.
ولكن كان بينها أوراق تؤيد خدمة الماجور أفاتار بالجيش الروسي، والفرامان الذي يثبت تعيينه، موقع عليه بتوقيع الإمبراطور.
فقال له قاضي التحقيق: إن الأوراق التي ضبطت في منزلك والبراءة الموجودة أمامي بتعيينك برتبة ماجور وشهادة المركيز ب الذي قدمك إلى النادي وعرفك بأعيان الباريسيين تدل جميعها على أنك الماجور أفاتار.
فلم يظهر عليه شيء من علائم الفرح؛ لأنه كان يعلم أن قضاة التحقيق يبدءون بتطمين المتهم وينصبون له الشرك؛ فأجابه: لا أسهل علي من أن أبرهن على هذه الحقيقة، على أنك لو كنت واثقا من براءتي من هذه التهمة لما أوقفتني هذا الموقف ولأطلقت سراحي. - هو الحق ما تقول، ولكن إذا كان ما لدي يثبت أنك الماجور أفاتار فلا يزال لدي أيضا تهمة موجهة إليك يجب النظر فيها. - ما هي؟ - هي أنهم يقولون: إنك تدعى جوزيف فيبارت الملقب بروكامبول. - أهذا كل شيء؟
فقلب القاضي الأوراق بين يديه، وقال: إذا صدقت هذه التهمة كنت من الذين حكمت عليهم المحكمة الإسبانية بالسجن المؤبد، فسجنت في قاديس ثم هربت من السجن. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك عدت إلى فرنسا، فحكم عليك بالسجن 25 عاما مع الأشغال الشاقة.
فقال روكامبول بأنفة: لقد كنت عولت يا سيدي على أن لا أجيب بحرف، ولكني رأيت بعد التفكير أنه لا بد لي من الإيضاح. - قل فإني مصغ إليك. - إذا كنت حقيقة كما تقولون، أي أني مجرم هارب من السجن فلا أسهل عليكم من أن تضعوني أمام أولئك المسجونين وتسمعوا ما يقولون؛ إذ لا بد لهم أن يكونوا قد عرفوني مدة إقامتي معهم.
فلم يجب القاضي بشيء، ولكنه قرع جرسا فدخل حاجب، فأشار القاضي إشارة فهم معناها وخرج.
فأطرق روكامبول رأسه إلى الأرض، وانقطع الحديث بينهما، وبعد هنيهة فتح الباب ودخل منه رجل مع الحاجب، ولكن روكامبول لم ينظر إليه، أما هذا الرجل فكان ميلون.
فحدق القاضي بميلون وهو يقول في نفسه: إنه إذا كانت تقارير تيميلون صادقة فلا بد لميلون أن يظهر اضطرابه حين يرى روكامبول؛ لأنه صديقه ورئيسه، وهو لا يعلم أنه قد قبض عليه.
غير أن ميلون لم يبد منه شيء مما يتوقعه القاضي، بل إنه نظر إلى الماجور أفاتار نظرة تدل على عدم الاكتراث، ونظر إليه روكامبول نظرة مثلها، فلم ير القاضي ما يدل على أنهما متعارفان.
ثم نظر القاضي إلى روكامبول، وقال له مشيرا إلى ميلون: أتعرف هذا الرجل؟ - كلا.
فسأل ميلون نفس السؤال فأجاب سلبا.
وقد سر روكامبول سرورا عظيما؛ لأنه كان يخشى أن يضغط القاضي على ميلون لبلاهته فيحمله على الإقرار، ثم استأنف حديثه مع القاضي: عفوك يا سيدي، فقد قلت لك: إني لا أعرف هذا الرجل، ولكني تذكرت الآن أني رأيته مرة واحدة في حياتي. - أين؟ - في سجن طولون، وذلك عندما انتهت حرب القرم، وعقدت شروط الصلح، فإن كثيرين من الضباط الروسيين جاءوا في ذلك العهد إلى طولون وزاروا سجنها، فكنت بينهم ورأيت هذا الرجل.
فلم يجب القاضي بحرف، وأشار إلى الحاجب فذهب بميلون، فخرج ميلون دون أن ينظر إلى روكامبول، وقد استحال على القاضي أن يفاجئهما بنظره.
فلما أصبح وحده مع روكامبول، قال له: إني أعترف لك بأني أصبحت مشككا في اعتقادي.
فابتسم روكامبول، وقال: وأنا يا سيدي لا يسعني إلا أن أبدي أسفي، واعلم يا سيدي أن المرء لا يموت في السجن، بل إنه قد يستطيع النجاة منه كما رأيته من هذا الرجل، فإذا كانت الحكومة الفرنسية تعتقد أن الماجور أفاتار هو ذلك الشقي الذي يدعونه روكامبول فإنها تخدم الماجور أفاتار خدمة جليلة. - لم أفهم ما تقول. - أريد بما قلته أن من كان بمنزلتي وله مقامي ثم يقبض عليه كما يقبض على أشقياء المجرمين، فلا بد أن يكون له أعداء أشداء.
فامتعض القاضي وقال له بجفاء: إن الحكومة لا تعادي أفراد الناس. - عفوك يا سيدي؛ إذ يظهر أني أسأت البيان، وسأوضح أفكاري بجلاء أوفى، وذلك أني ضحية من ضحايا السياسة الروسية الاستبدادية، وأن الحكومة الروسية لا تريد أن يرسل بي إلى السجون الفرنسية، بل إنها تريد أن أعرض أمري إلى سفارتها في باريس. - لأي قصد؟ - بقصد أن تعرض علي السفارة شروطها. - كيف ذلك ؟ - ذلك أنها تظللني بحمايتها وتثبت أني الماجور أفاتار، وفي مقابل ذلك ترسلني إلى بطرسبرج. - وبعد ذلك؟ - يقبضون علي في بطرسبرج وسيرسلونني إلى سيبيريا، وإن السجين في طولون قد يعود من سجنه، وأما سجين سيبيريا فلا يعود.
وقد كان روكامبول يقول هذا القول بملء السكينة.
وقطب القاضي جبينه إذ لم يعرض له من المجرمين أدهى من هذا الرجل، فقال: إني كنت أعتمد أن أتثبت منك شيئا من ذلك وجميع ما لدي من الأدلة يثبت أنك الماجور أفاتار غير أني لا أستطيع إطلاق سراحك قبل استنطاق امرأتك.
ثم أشار إلى الحاجب وقال له: أدخلها.
فقال روكامبول في نفسه: لا شك أن هذا القاضي ينصب لي فخا، فإني حادثت فاندا الآن وهي لم يقبض عليها.
وأمر القاضي أحد الحجاب فأخذ روكامبول إلى غرفة خارجة عن القاعة، وأمر حاجبا آخر أن يدخل الرجل الذي قبضوا عليه حديثا. •••
وبعد حين دخلوا برجل كان يمشي مشية السكران، وقد اصفر وجهه حتى أصبح كالأموات والدموع سائلة على خده.
وكان هذا الرجل جواني الجلاد، والذي أنقذه روكامبول من السجن، وقد لقيه أحد عمال تيميلون في خمارة، فأرشد إليه البوليس وجاء به إلى السجن.
ولم يجد سبيلا إلى الإنكار.
فلما مثل بحضرة القاضي قال له: أأنت المدعو جواني؟ - نعم ... - أأنت الهارب من سجن طولون؟ - نعم ... - أأنت الذي كنت جلاد ذلك السجن؟
فركع جواني، وقال: رحماك يا مولاي، فما دعاني إلى الفرار من السجن، غير هذه المهنة، فاحكم علي بالإعدام، فإن ذلك خير لي من الحكم علي بالعودة إلى هذه المهنة الفظيعة. - إن ذلك محال، فلا بد من عودتك إلى السجن والاشتغال بما كنت تشتغل فيه.
ثم أشار القاضي إلى الحاجب كي يدخل روكامبول.
ففتح الباب في الحال ودخلوا به، فلما رآه جواني اضطرب وقال: الرئيس!
ثم دنا منه وقال له بلهجة المتوسل: إنك قادر على كل شيء، أفلا تنقذني هذه المرة كما أنقذتني من قبل.
فدفعه روكامبول بيده، وقال: إنك أفسدت علي جميع أمري أيها الأبله.
ثم التفت إلى القاضي وقال له وهو يبتسم: لا أريد الإنكار بعد الآن فأنا حقيقة روكامبول.
37
وقد أثرت هذه الكلمات الأخيرة التي فاه بها روكامبول تأثير رضى عظيم على القاضي لشدة ما لقيه من إشكال تلك القضية.
وأوشك جواني أن يجن من يأسه؛ لأنه كان رأى روكامبول أمام القاضي، فلم يخطر في باله أنه مصر على الإنكار فجعل يبكي وينتحب.
غير أن القاضي أمر الحاجب بإخراجه.
وبقي وحده مع روكامبول، فقال له: إنك قد أقررت بالحقيقة، فهل توقع على هذا الإقرار بخطك؟
فابتسم روكامبول وقال: إنك تعلم يقينا يا سيدي أن إقرار هذا الرجل لم يضل صوابي فيدفعني إلى أن أقول الحقيقة لو لم يكن لدي أسباب قوية تحملني على الاعتراف.
فقال له القاضي ببرود: ما هي الأسباب؟
إني يا سيدي غير ما تعتقده، فقد يتبادر إلى ذهنك لأول وهلة أني من أشد المجرمين خطرا وإقداما، وإنك ستسرع إلى إعادتي إلى السجن حذرا من الإفلات وارتكاب آثام جديدة، ولكنك لو تمعنت في أمري لعلمت أني غير ذلك الرجل. - من أنت؟ - إني رجل دخلت في قلبه أشعة التوبة الصادقة، وكنت أؤثر أن أموت في السجن غير أني ما هربت منه إلا للتكفير عن أثامي.
فابتسم القاضي وقال بلهجة المتهكم: أي تكفير هذا؟ - إني حين وطدت النفس على الاعتراف إليك، حسبت أنك ستصغي إلي إلى النهاية. - وأنا مصغ إليك فقل ... - إن ما سأطلبه إليك كانت تجري عليه الحكومات من قبل، وهي لا تجري عليه اليوم، فإن سامرني رئيس البوليس في عهد لويس الخامس عشر دعا إليه مرة واحدة أحد كبار المجرمين، وقال له: أتريد أن تخدم في البوليس؟
فقاطعه القاضي قائلا: لقد أصبت فيما قلته إن الحكومات لا تنهج هذه المناهج؛ إذ لا يجب يكون اللصوص من أعضائها. - اصغ إلى النهاية يا سيدي، فإني أعلم أني إذا طلبت إليك مثل هذا الطلب تهزأ بي، ولكن ليس هذا الذي أريده. - إذن، ماذا تريد؟ - إن الذي أريده هو أنه يوجد في باريس صبيتان أختان، يضطهدهما رجل قتل أمهما وسرق ثروتهما ، وهو يحاول الآن قتلهما، والذي أطلبه أن تأذن لي برد هذه الثروة للأختين والانتقام لأمهما، ثم أعود إلى السجن وأموت فيه.
فابتسم القاضي وقال: إن الحكومة قادرة على معاقبة المجرمين ورد الثروة المسروقة وحماية الأختين. - ولكنها لا تستطيع شيئا من ذلك في ظروف هذه الحادثة. - لماذا؟ - إن إحدى الأختين تحب ابن القاتل السارق، فإذا تداخلت الحكومة افتضح الأمر، وامتنع زواج العاشقين.
فقرع القاضي جرسا أمامه ثم قال لروكامبول: ليس لأحد من الأفراد في فرنسا حق الانتقام والعقاب وكشف الظلامات.
وعند ذلك دخل الحاجب فقال له القاضي: خذ هذا الرجل.
فقال روكامبول: كلمة أيضا يا سيدي. - قل ... - إني إذا سألتك إطلاق سراحي ثمانية أيام فقط ثم أعود إلى السجن أترفض طلبي؟ - دون شك. - إذن، يحق لي أن لا أوقع على إقراري. - كما تشاء.
وخرج الحاجب بروكامبول فسلمه إلى الجندي فأركبه المركبة التي جاء بها، فسارت بهما وركامبول يقول في نفسه: لقد أرحت ضميري الآن وعرضت على القاضي كل شيء فلا أبالي الآن برفضه؛ لأني سأطلق السراح لنفسي وليس سجن مازاس بأصعب من سجن طولون.
أما الجندي الذي كان يحرسه فلم يزل على سابق اعتقاده به، فقال له: أقضي الأمر؟ - كلا ... - إذن، فإنهم لا يريدون إطلاق سراحك؟ - لا بد لهم من ذلك يوم الأربعاء. - إذا كان يوم الأربعاء، كما تقول، فسأكون أنا في خفارتك، ولكنك ستضطر إلى الانتظار الطويل في ذلك اليوم، إذ هو يوم تكثر فيه أشغال التحقيق. - لا بأس فسننتظر إذا اقتضت الحال. •••
وظلت المركبة تسير بهما حتى وصلت إلى السجن، فأخرج روكامبول منها، وأعيد إلى غرفته.
وبعد حين جاءه الحاجب بالجزء الثاني من تاريخ لويس الرابع فدفعه إليه، وقال له: لا شك أن مدير السجن معجب بك، ويريد إرضاءك والعناية بك كل العناية. - لماذا؟ - لأنه أرسلني إلى مكتبة الثكنة كي أحضر لك الكتاب الذي طلبته، فقيل لي: إنهم يقرءون به، وأمرني أن أعود في اليوم التالي بعد أن رأيت الذي كان يقرأ به وهو شاب أشقر .
فاضطرب روكامبول، إذ علم أن هذا الشاب فاندا.
وتابع الحاجب: فعدت إلى المدير وأخبرته بما كان فأمرني أن أعود إلى المكتبة وأن أنتظر فراغ القارئ فأعود بالكتاب، فامتثلت وانتظرت إلى أن فرغ هذا الشاب من الكتابين؛ لأنه قرأ في الجزء الأول والثاني وأتيت به إليك.
فابتسم روكامبول، وقال: أرجو أن تتولى عني شكر المدير.
ولما خرج الحاجب أسرع روكامبول إلى الكتاب وقلب أوراقه فوجد صفحتين ملتصقين ففصلهما فوجد مكتوبا على الهامش كتابة خاصة لا يفهمها غير فاندا وروكامبول، وكانت هذه الكتابة جوابا على ما كتبه، فقد كان كتب إليها ما يأتي:
يجب إيجاد أنطوانيت مهما تكلفت من العناء والخطر، وبعد أن تجيبني في هامش الجزء الثاني من هذا الكتاب، ارجعي في اليوم التالي إلى المكتبة، واكتبي لي جميع ما يحدث لك على هامش الكتاب لأني سأطلبه.
أما جواب فاندا، فقد كان كما يأتي:
السعد يخدمنا، فإن أنطوانيت نجت، وشيفيوت قتلت، وتيميلون هرب، وأجينور ذهب إلى أبيه ولم يعد.
فلما تلا روكامبول هذا الجواب تنهد تنهد المنفرج بعد ضيق، وقال في نفسه: لقد انفتح لي المجال في إعداد وسيلة الفرار، ثم أخذ ورقة وكتب عليها إلى قاضي التحقيق ما يأتي:
سيدي
لقد رجعت عن أفكاري السابقة ورضيت بالعودة إلى الليمان، ولكني أرجو أن تأذن لي بإطلاعك على أمور خطيرة جدا.
روكامبول
وفي صباح اليوم التالي أرسل كتابه إلى قاضي التحقيق لاعتقاده أنه سوف يطلبه في اليوم الذي يليه لسماع أقواله، وهو الذي اختاره روكامبول للفرار.
38
وقد أصاب روكامبول في حسابه، فإنه بقي طول ذلك الليل في غرفة سجنه دون أن يطلبه القاضي لتأخر ورود الرسالة إليه.
ولما أقبل الليل تولته الكآبة الشديدة وغاص في بحار التأملات، فلم يكن يفتكر بالفرار؛ لأنه كان قد وضع الخطة التي عول على اتباعها ووثق من فوزه فيها؛ بل إنه كان يفتكر بأمر آخر دعاه إلى هذه الكآبة؛ فكان يتقلب على فراشه تقلب الملسوع، ويلفظ من حين إلى آخر بصوت متقطع اسما جعله يتمنى الموت لما كان يلقاه بسببه من العذاب.
ولما أصبح الصباح وهو اليوم الذي كان يرجو روكامبول أن ينجو من السجن فيه نهض من فراشه دون أن يتمكن من الرقاد، فلبس ثيابه، وهو يقول: لا أدري إذا كنت أسعد من الآن حين كنت في عداد المجرمين، فقد نجوت من عقاب الناس، ولا يزال أمامي عقاب الله.
ولذلك فلم يكن يهتم أقل اهتماما بأمر فراره مما كان يناله من تقريع الضمير في خلواته بعد توبته الصادقة.
وفي الساعة الثامنة من الصباح أقبل إليه ذلك الجندي الذي صحبه في المرة الأولى، وكان يلقبه دائما ماجور، وكذلك سائر الموظفين في سجن مازاس؛ فإنهم كانوا يحترمون روكامبول احتراما شديدا.
وكانوا يعتقدون أنه الماجور أفاتار وأنه متهم بمؤامرة سياسية.
فسار الجندي بروكامبول إلى المركبة، فسارت بهما إلى المحطة وجعل روكامبول في مدة السير يتكلم عن حرب القرم، والجندي معجب كل الإعجاب حتى وصلا إلى باب المحكمة الخارجي فوقفت المركبة ونزل منها روكامبول والجندي.
وكان رجل واقفا داخل الردهة، قرب الباب عندما، وصلت المركبة، فجعل ينظر إلى روكامبول نظرة المتعجب المنذهل.
وكانت تدل هيئته وملابسه على أنه من الإنكليز، فلما رأى روكامبول سائرا ووراءه الجندي مشى إليه مشيا مستعجلا، وهو يتكلف عدم الانتباه؛ بحيث اصطدم بروكامبول صدمة شديدة، فالتفت إليه وقال: أسألك المعذرة يا سيدي.
ثم ما لبث أن رآه حتى صاح صيحة فرح، وقال: من أرى؟ الماجور أفاتار! - أنا هو بعينه يا حضرة الميلورد. - أنت هنا أيها الصديق العزيز.
ثم دنا منه وجعل يعانقه دون أن يظهر انتباها إلى الجندي.
أما روكامبول، فقد عرف للحال، أن هذا الإنكليزي لم يكن غير نويل، فقال له وهو يعانقه: أحضر مركبة، وانتظرني بها على الباب الخارجي.
وقد نظر روكامبول نظرة توسل خفية إلى الجندي كأنه يقول له بها: أرجوك أن لا تفضح أمري مع هذا الصديق.
ففهم الجندي قصده وابتعد عنه قليلا مراعاة له فتحادثا هنيهة ثم افترقا، فودعه الإنكليزي وانصرف وهو يتظاهر أنه لم ير الجندي ولا مركبة المجرمين التي نزل منها روكامبول .
ثم دنا الجندي من روكامبول، فوضع يده بيده، وسار به بين تلك الجماهير التي كانت محتشدة في ردهة تلك المحكمة الواسعة.
وكان بين باب السراي الكبير وبين غرفة قاضي التحقيق مسافة شاسعة وسلالم كثيرة ينتشر فيها الناس، من شاهد دعي إلى المحكمة للشهادة، ومحام ومدع ومتفرج، إلى غير ذلك من طبقات الناس الذين يشاهدون عادة في المحاكم.
ولذلك لم يكن فرار المدعوين إلى الاستنطاق مستحيلا، لا سيما وأنه لا يصحب المدعي عليه غير جندي واحد.
ولكنه كان نادرا فقد كان يتفق أن يكون هذا المدعي عليه قوي البدن شديد العضل فيخلص بالقوة من الجندي ويفر منه، ولكنه يندر أن ينجو؛ إذ لا يسير مائة خطوة حتى تسير في أثره الفرسان فتدركه وتعود به مكبلا إلى حيث كان.
وكانت غرفة قاضي التحقيق في الدور الأعلى من العدلية، وهي بأتم مظاهر البساطة ليس على باب غير حاجب واحد يقف في داخلها.
ويوجد قبلها غرفة متسعة فيها مقاعد من خشب ينتظر فيها المدعى عليهم مع خفرائهم، إلى أن يحين زمن التحقيق في أمرهم، فيدعون إلى غرفة القاضي كل بدوره.
ولما وصل روكامبول مع الجندي ودخل إلى هذه الغرفة، وجد فيها رجلين وامرأة يخفرهم جندي فقال له الجندي: لا بد لنا من أن ننتظر ساعة على الأقل، إلى أن يفرغ القاضي من التحقيق في أمر هؤلاء المجرمين.
ثم جلس على المقعد الخشبي، وجلس بإزائه روكامبول.
وأخذ الجندي علبه عطوسه، وفتحها فمد روكامبول يده وأسرع الجندي إلى تقديمها إليه قبل أن يأخذ منها.
فدس روكامبول فيها تلك الحبة السوداء، التي أخذها من فاندا، وتظاهر: أنه يتنشق من ذلك السعوط، والحقيقة أنه حبس نفسه، فلم يشم شيئا.
أما الجندي فقد أخذ مقدارا كبيرا واستنشق مدة طويلة وهو لا يعلم ما خبأته له الأقدار.
وعند ذلك قدم حاجب من غرفة قاضي التحقيق، ودعي الرجلين والمرأة إلى المثول بحضرة القاضي وذهب؛ فخرج بهم الجندي وأدخلهم إلى غرفة التحقيق.
وعاد إلى غرفة الانتظار فجلس على مقعد بجانب الجندي الذي يخفر روكامبول، وقال: إنهم سيقيمون أكثر من ساعة لدى القاضي؛ لأن مسألتهم مشكلة تقتضي البحث الطويل.
فأجفل روكامبول لعودة الجندي وجعل يفكر بأمره، وهو واجف القلب من عودته؛ إذ لم يكن يخطر له ذلك في بال.
وبعد أن دار الحديث بين الجنديين، أخذ حارس روكامبول علبة سعوطه، وقدم منها إلى روكامبول فأبى.
ثم قدم إلى الجندي الآخر فأخذ منه بلهف وتنشق من ذلك السعوط عدة مرات كما فعل رفيقه من قبل.
ثم جعل الاثنان يتحادثان نحو نصف ساعة أحاديث مختلفة، وروكامبول منشغل عنهما غائص في بحار التأمل والتفكير.
إلى أن سمع الجندي يقول لرفيقه: ما هذا النعاس الغريب الذي أصابني، فإن عيني لا تفتحان؟
فسأله رفيقه: هل كان دورك في السهر للحرس هذه الليلة؟ - نعم. - إذن، إن هذا النعاس من ذاك السهر، ولكن إذا أحببت أن تنام قليلا، فلا بأس؛ لأني سأتولى مكانك حراسة أسيرك.
ومد يده إلى علبة السعوط، فأخذ منها واستنشق مرة ثانية.
أما حارس روكامبول، فإنه شكر رفيقه الجندي بالإشارة؛ إذ لم يعد يطيق الكلام، وأطبق عينيه فنام نوما عميقا، وقد أسند رأسه إلى الحائط ومد رجليه.
أما روكامبول فظل على ما كان عليه من التظاهر بالتفكير والذهول، ولكنه كان من حين إلى آخر ينظر إلى حارسه الجديد، ويراقبه بطرف خفي.
وكان يراه قد شعر بالنعاس، ولكنه كان يقاوم مقاومة عنيفة ويتثاءب، غير أن عينيه لا تزالان منفتحتين.
ثم رأى أن منديله قد سقط من يده ثم أطبق عينيه وأصابه ما أصاب الآخر من النوم العميق.
فصبر عليه روكامبول دقيقة، ومشى في الغرفة بضع خطوات، فرأى أنه لم ينتبه.
فدنا منه وناداه، فلم يجب فهزه فلم يستفق، فأيقن روكامبول أن المخدر أثر تأثيره بالاثنين وأنه أصبح حرا.
فزرر سترته العسكرية، وأخرج من جيبه زرا روسيا فوضعه في عروة سترته إشارة إلى رتبته، وخرج من تلك الغرفة يمشي بخطوات متوازنة.
وكانت الردهات غاصة بالناس من جنود وقضاة ومتقاضين ومحامين، وكلهم ممتزجون يجيئون ويذهبون في أغراضهم الخاصة.
فدنا روكامبول من أحد الجنود، وقال له: أرجوك أن تدلني على محكمة الاستئناف.
فقال له: إنها في الغرفة الأولى من الدور الثاني، فانزل إليها من هذا السلم.
فشكره روكامبول ونزل في ذلك السلم، كما أخبره الجندي، فكان إذا نظر إليه الناس أو الجنود يحسبه بعضهم متفرجا، ويظنه آخرون شاهدا وهو سائر لا يلوي على أحد.
ومثل روكامبول لا تخفى عليه مخارج العدلية ومداخلها، فسار يمشي بقدم الواثق المطمئن حتى بلغ إلى الباب الخارجي.
وهناك أتت مركبة، وفيها ذلك الإنكليزي المتنكر، أي نويل.
فصعد إليها حالا وأمر السائق أن يسير، وقد عجب نويل لنجاته، فسأله: كيف نجوت؟ - نومت الحراس. - بماذا؟ - بحبة سوداء طحنتها بيدي ووضعتها في علبة سعوط يحملها الجندي، وسأقص عليك بعد ذلك بالتفصيل، أما الآن فهلم بنا نتغدى، فقد أنهكني الجوع. - أين تريد أن نتغدى؟ - في شارع سانت دينيس، عند منعطف ستراسبورج، إذ يوجد فندق هناك.
فأمر نويل السائق أن يسير إلى ذلك الفندق. فسارت بهما المركبة تنهب الأرض.
39
يوجد في باريس فندق للطعام لا يتردد عليه غير الممثلين والكتاب وأصحاب الفنون الجميلة.
وكان مكتوبا على بابه عنوان «بائع خمور» غير أن الخمور على اختلافها كانت فيه من أفضل أنواعها حتى أطلق عليه اسم فندق «الكتاب» لأنها باتت خاصة برجال الإنشاء والفنون.
ومن عادة البوليس في العواصم الكبرى، ولا سيما في باريس، أن يراقب المطاعم والفنادق مراقبة شديدة لكثرة تردد الأشقياء عليها واغتنامهم جهل الغرباء المقيمين فيها.
غير أن البوليس لم يكن يدنو من ذلك الفندق، إذ ثبت لدى جميع الحكومات أن أقل الناس شرا هم رجال الأقلام، وأكثرهم عفافا ومروءة أولئك الذين يتيهون في عالم الخيال لصيد شوارد المعاني.
فكان ذلك الفندق، في عرف رجال البوليس، أشرف فنادق باريس.
ولهذا فإن روكامبول أمر نويل أن يسير به إلى ذلك الفندق كي يكون آمنا فيه من المراقبة إلى أن يفرغ من طعامه ويلجأ إلى محل أمين.
وكان هذا الفندق على اقتصاره على الكتاب لا يرفض من يقدم إليه ممن تدل ظواهرهم أنهم من رجال الخير.
وليس في ملامح الاثنين ما يدل على شيء من الشر؛ لأن نويل كان متنكرا بزي نبلاء الإنجليز وروكامبول متنكرا بزي ماجور، فليس في ظواهرهما ما يحمل على الشبهات.
فلما وصلا إلى الفندق أطلقا سراح المركبة ودخلا إليه، فاستقبلا فيه استقبالا حسنا وجلسا حول طاولة منعزلة. فأسرع الخدم إليهما، وأحضر لهما من الطعام ما طلباه.
وعندها بدأ الاثنان الحديث، فسأله نويل: إني قبل أن أخبرك أيها الرئيس بما أعرفه أحب أن أعلم ... - ماذا تريد أن تعلم؟ - أحب أن أعلم كيف خرجت من سراي العدلية. - إن الأمر على غاية البساطة. - أتخرج من مكان يتهمونك فيه أنك روكامبول، ثم تقول: إن الأمر بسيط؟ - ألم أقل لك: إني نومت الحارسين وخدعت الجنود؟
ثم قلت لك أيضا: إني وضعت في علبة سعوط أحدهما مخدرا ليس أشد منه تأثيرا بين المخدرات، فإن من يتأثر به ينام بعد دقائق قليلة، فلا يستفيق إلا بعد ست ساعات، إذا كان قوي البنية.
وكانوا في سجن مازاس يعتنون بي فأذنوا لي بإحضار ملابسي فلبست أفخرها حين ذهابي إلى العدلية.
فلما ذهبت من غرفة الانتظار في دار العدلية، اختلطت بالناس وخرجت إلى دار الحرية، فلم يحمل أحد خروجي على محمل الشبهات؛ لأن ظواهري تدل على أني من النبلاء.
والآن قل لي أنت ما جرى مدة غيابي. - إن أنطوانيت نجت وهي عندنا. - عرفت ذلك. - ولكن أجينور لم نره منذ ثلاثة أيام. - هذا ما عرفته أيضا.
ثم أطرق برأسه إلى الأرض، ثم سأله بصوت خافت: ومدلين؟
فنظر إليه نويل فإذا بوجهه قد اصفر واضطرب حين ذكر اسم مدلين، فلم يجبه عنها بل أجاب: إن إيفان دي بونتيف مقيم في باريس.
فقطب روكامبول جبينه وعاد إلى الذهول.
فاستأنف نويل الحديث قائلا: إنه قدم إلى باريس للبحث عن مدلين. - وماذا جرى؟ - إنه في اليوم الذي قبض فيه عليك عهدت إلي فاندا حراستها. - وبعد ذلك؟ - إن إيفان قدم إلى باريس مع خادم، وهذا الخادم متفق مع الفيكونت كارل دي مورليكس.
فصاح روكامبول صيحة منكرة قائلا: مورليكس! - أجل، إنه لم يمت. - أأنت واثق مما تقول؟ - كل الثقة، فإنه عاد إلى باريس بعد القبض عليك، وقد رأيته بعيني.
فعض روكامبول على شفته من الغيظ، وقال: يجب أن نعود إلى ما كنا فيه، ونستأنف القتال.
ثم تابع بصوت خافت: ولكني قد ضعفت وسئمت وبت أحب العودة إلى السجن، فإني لا أجد الراحة الصحيحة إلا فيه.
أما نويل فإنه لم يسمع كلماته الأخيرة، فعاد إلى إتمام حديثه قائلا: لقد قلت لك: إن خادم الكونتس فاسيليكا ومورليكس متفقان، وقد عادا من روسيا سوية وأحضرا معهما إيفان. - وبعد ذلك؟ - أظهرا للناس أنه مجنون، ولا أعلم كيف فعلا؛ فإن فاندا لم تعلم ذلك بعد، ولكن كل ما علمناه: أن إيفان مقيم عند الدكتور لامبرت، الطبيب الخاص بالمجانين، ومنزله في شارع أوتيل، وأنهم يعالجونه كل يوم بالماء البارد. - والكونتس فاسيليكا؟ - هي أيضا في باريس. - أتعلم أين هي مقيمة؟ - إنها مقيمة في منزل تعرفه جيدا يا حضرة الرئيس.
فاضطرب روكامبول وقال: قل أين تقيم؟ - في منزل الكونتس أرتوف في شارع بيبينيار. - في منزل باكارا؟ - هي نفسها.
فاختلج روكامبول اختلاجا عظيما عند سماعه اسم باكارا وهي أشد أعدائه هولا، ثم سكت مدة طويلة وغاص في بحار الهواجس والتأملات.
وبعد حين نظر إلى نويل وقال له: ادفع ثمن الطعام، وأحضر لي مركبة.
فامتثل نويل وخرج.
أما روكامبول فإنه جعل يحرق الإرم من الغيظ، ويذكر اسم باكارا بلهجة غريبة لا توصف فيقول: أقدر لي أن ألقاك أيضا في طريقي؟
وبعد هنيهة عاد نويل بالمركبة، فركب روكامبول بجانبه وأرخى ستائر المركبة.
فسأله نويل: إلى أين تأمر أن نسير يا سيدي؟ - إلى ذلك المنزل الذي استأجرته لي، أي ذلك المنزل الذي تشرف نوافذه على حديقة قصر الكونت دي أشمول، فأرى منها تلك المرأة الصالحة التي طالما دعوتها بأختي أيام غروري. - أيها الرئيس، إن نفسك حزينة حتى الموت. - إنك تقول الحق. - ألعلك خائف من أن يقبض عليك أيضا؟ - كلا.
ثم نفض روكامبول ما كان أصابه من الدهش ، وقال لنويل: ألعل حقيبة المعدات معك؟ - إنها لا تفارقني.
وأخرج من جيبه حقيبة من الجلد، كان فيها ما يحتاج إليه الأشقياء واللصوص.
وفي جملة ما كانت تحتويه شاربين وشعرا للرأس من لون واحد، وموسى ومقص ومبرد.
فأخذ روكامبول الموسى فحلق بها شاربيه، ثم أعطاها لنويل وأمره أن يحلق له شعر رأسه ففعل.
ولما فرغ من وضع ذلك الشعر المستعار، وضع ذينك الشاربين بدلا من شاربيه، ثم خاطب نويل: لنغير الآن ملابسي بملابسك.
فخلع نويل ملابسه الإنكليزية، فلبسها روكامبول بسرعة، ولبس نويل ملابس روكامبول.
وكانت ستائر المركبة مرخية فلا يراهما أحد، ولما أتم روكامبول لباسه نظر إليه نويل متأملا وأردف: ليس الآن من يشك بأنك إنكليزي، لا غش فيه.
وكانت المركبة سائرة فوصلت عند ذلك إلى شارع سرسنس، وظلت سائرة حتى وصلت إلى بيت الكونت فابيان دي أشمول زوج بلانش دي شمري التي طالما دعاها روكامبول أخته، فأوقف المركبة، ثم ترجل منها، وخاطب نويل: اذهب أنت الآن فلم يعد لي بك حاجة. - متى أراك يا سيدي؟ - لا أعلم. - ولكن ماذا أخبر فاندا؟ - قل لها إني نجوت من السجن. - ألا تراها؟ - لا أعلم.
ثم تركه وانصرف فدخل إلى المنزل الذي استأجره له نويل، وهو البيت الذي تشرف نوافذه على حديقة الكونت فابيان.
وقد دخل وهو يعض على شفته ويكرر من حين إلى آخر اسم باكارا.
العاشقة الروسية
العاشقة الروسية
العاشقة الروسية
العاشقة الروسية
روكامبول (الجزء السابع)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
العاشقة الروسية
1
كان كثير من المدعوين جالسين قرب منتصف الليل حول مائدة وضعت فوقها أقداح الشاي، وهم يتحدثون ويتسامرون منذ الساعة التاسعة في منزل الكونتس أرتوف.
وليست الكونتس أرتوف إلا تلك التائبة الحسناء التي كانت تدعى باكارا قبل أن يطهر الحب الصحيح نفسها من أدران الفساد، فتابت توبة صادقة وباتت ضالة الفقراء ومحط رجاء كل بائس مسكين.
إلى أن أراد الله مكافأتها عن توبتها الصادقة فلقيها الكونت أرتوف وهي في نضارة الشباب، وقد بلغ من الثروة والنبل ما لم يبلغه سواه فتزوج بها وذلك منذ أحد عشر عاما كما يذكر قراء الأجزاء السابقة.
ولكن ما لقيته باكارا مع زوجها من الهناء والنعيم زاد نضارة شبابها، ومد في عمر جمالها، فكان من يراها يحسب أنها في الثامنة والعشرين من عمرها وهي قد بلغت الأربعين.
فكانت تفتح قاعاتها لفتيات باريس الحسان، وهي لا تخشى أن تكسف تلك النجوم شمس جمالها الباهر فإن الجميلات كن يحشرن تحت لوائها.
وكان جالسا بجانبها تلك الليلة فتاة جميلة شقراء، وهي الكونتس فاسيليكا وأسرنوف؛ تلك المرأة المنتقمة الجبارة التي انقلب حبها لابن عمها إيفان بونتيف إلى بغض شديد وحقد عجيب بحيث باتت لا يهنأ لها بال إلا بعد أن تدرك بغيتها من الانتقام.
وفي جملة الذين كانوا حاضرين في تلك الحفلة على كثرتهم الكونت كوروف وهو الذي وعدته فاسيليكا بالزواج بعد يأسها من إيفان، ثم ثلاثة أو أربعة من أصدقاء باكارا القدماء بينهم الفيكونت فابيان دي أسمول زوج بلانش دي شمري تلك الفتاة الطاهرة التي كان يدعوها روكامبول زمنا بعيدا أخته، حين كان يلقب نفسه المركيز دي شمري كما تقدم في روايتي الغادة الإسبانية وانتقام باكارا.
كان الحديث دائرا عن إيفان بونتيف ...
قالت فاسيليكا: إنه مجنون وا أسفاه وهو وحيد أبيه ولا يزال في مقتبل الشباب.
فقالت باكارا: أأنت واثقة من جنونه؟ - كل الثقة، ولم يبق مجال للريب فإن تلك الفتاة التي يهواها ويدعوها مدلين لا وجود لها إلا في مخيلته.
فنظرت باكارا إليها نظرة شك وقالت: ألا تظنين أنك منخدعة؟
ثم أسرعت بالاستطراد قبل أن تدع لها وقتا للجواب، فقالت: وهذا البارون دي مورليكس الذي لم يكن يفارق ابن عمك عندما عاد به إلى فرنسا، فإني لم أره منذ حين. - وأنا أيضا لم أره منذ عهد بعيد.
ثم نظرت فاسيليكا إلى باكارا نظرة خفية ملؤها الضغينة؛ لأنها خشيت أن تكون أدركت شيئا من أسرار قلبها.
وعند ذلك انقطع الحديث عن إيفان الذي كان لا يزال سجينا في منزل الدكتور أليوت طبيب المجانين ؛ لأن الأنظار قد اتجهت إلى زائر جديد دخل إلى القاعة فقطع ذلك الحديث القديم.
وكان هذا الزائر شابا يبلغ الثامنة والعشرين من عمره وهو من رجال المحاماة، ولكنه كان يمتهن هذه الحرفة لشغفه بها لا للكسب منها؛ لأنه كان من الأغنياء، فكان يدافع عن كل ما يسأل الدفاع دون أجرة، وفي الليل يزور منازل أصحابه فيروي لهم جميع ما يراه في نهاره من غرائب الدعاوى فيعجبون بأحاديثه لفصاحة لهجته وزلاقة لسانه.
فلما دخل إلى القاعة واتجهت إليه الأنظار قال لهم: أتعلمون ماذا حدث؟ وقال بعض الحاضرين وقد بدت عليهم ملامح الاهتمام: ماذا جرى؟ - لقد قبضوا على روكامبول.
فاضطربت باكارا ونظرت نظرة أسف إلى الفيكونت فابيان.
وسألت فاسيليكا قائلة: من هو روكامبول هذا؟
فأجابها المحامي: إنه رجل تكتنفه الأسرار وقد كثر الحديث عنه منذ بضعة أعوام، فإنه كان رئيس عصابة شديدة فعلت كثيرا من المنكرات في باريس. - ولكن اسمه جميل. - وهو جميل أيضا، وقد ظهر أنه أقام في سجن طولون ستة أعوام ثم يظهر أنه احتاج يوما إلى الهواء الطلق فترك السجن.
وقالت فاسيليكا: إذن قص علينا حكاية هذا الرجل فإنها لطيفة كما يبدو من مقدماتها. - إني سأقصها عليك بملء الرضى.
وقد قال ذلك وهو لا يدري أنه سيتكلم عن رجل عرفه كثير من الحاضرين حق العرفان.
أما فاسيليكا فقد سرها من جميع ذلك الحديث عن روكامبول أنه أراحها من عناء الحديث عن ابن عمها إيفان.
وعاد المحامي إلى الحديث فتدفق في كلامه تدفق السيل، وجعل يقص على الحاضرين حكاية روكامبول كما يعرفها: أي كما هي شائعة على الألسن.
ولكن الذي لم يعرفه من أمره ولم تكن تعرفه المحاكم أن رئيس تلك العصابة الهائلة القديمة، وذلك الهارب من سجن طولون، كان يدعى في باريس قبل سجنه، المركيز دي شمري.
وتنفست باكارا وفابيان تنفس المتفرج بعد أن فرغ المحامي من حكايته، وعلما أنه لا يعلم شيئا من حقيقة أمر روكامبول، ونظر كلاهما إلى الآخر نظرة تشف عن الاطمئنان.
وعادت فاسيليكا إلى سؤال المحامي وقالت: أحقا أن هذا الرجل هرب من السجن؟ - ذلك لا ريب فيه فإنه هرب بطريقة عجيبة، ثم قص على الحاضرين كيف هرب روكامبول على ما قرأه في جريدة المحاكم منذ ثمانية أشهر.
ولما انتهى من رواية الجريدة قال: أما هذا الرجل فإنه لم يفر وحده بل هرب معه ثلاثة، ولم يهرب بطريق البر كما يفعل سواه من المسجونين، بل إنه بطريق البحر على سفينة استولى عليها.
وكان البحر هائجا هياجا عظيما حين فراره في تلك الليلة المدلهمة، حتى إنه أشيع في اليوم الثاني أن المجرمين هربوا من السجن فغرقوا بالبحر، وظل هذا الاعتقاد سائدا على الناس ستة أشهر. - وبعد هذه المدة، ألعلهم وقفوا على آثار روكامبول؟ - نعم يا سيدتي. - وكيف ذلك؟ - ذلك أنه منذ ستة أسابيع حدثت سرقة مائة ألف فرنك في منزل تعرفون صاحبه جميعكم. - من هو هذا الرجل؟ - الفيكونت كارل دي مورليكس.
فابتسمت باكارا ابتسام الاحتقار.
وقالت فاسيليكا: ومن الذي اتهم بهذه السرقة؟ أليس هو روكامبول؟ - هو بعينه. - إذن فهو لم يسرق؟ - كلا، وقد ثبت أنه هو السارق. - فاعترضته باكارا وقالت: إني أعجب أيها الصديق كيف تتحدث بمثل هذه الخرافات. - أية خرافات تعنين؟ - هذه السرقة التي تنسبها لروكامبول. - ولكن اسمه قد ذكر في المحكمة. - إنك لو كنت تعرف روكامبول حق المعرفة لما صدقت أمر هذه السرقة، فإنه لا يتدانى إلى سرقة مثل هذا المبلغ الحقير بالقياس إلى علو نفسه وشدة مطامعه. - إذن أنت تعرفينه؟ - ربما، بل إني قد أستطيع أن أحدثكم عنه بأمور كثيرة، والآن أرجوك أن تتم حديثك عنه فإننا مصغون إليك.
2
وعاد المحامي إلى تتمة حديثه فقال: سواء أخطأوا أو أصابوا، فإنهم كانوا يتهمونه بهذه السرقة في ذلك العهد، وجعل البوليس يبحث عن روكامبول في كل مكان فلا يجده.
فقالت باكارا: إن الأمر بسيط وهو غرق دون شك حين محاولته الفرار من السجن. - ليس الأمر كما تظنين فاسمعي بقية الحديث، إنهم بعد أن بحثوا عنه ستة أسابيع قبضوا على رجل محتال كان يدعو نفسه الماجور أفاتار، وكان هذا الماجور صديقا للمركيز ب فعرفه نبلاء باريس، وكان يشهد فيه خير شهادة ومع ذلك فإن البوليس قبض عليه.
فاضطربت باكارا وقالت: وبعد ذلك؟ - إنه حين مثل هذا الماجور أمام قاضي التحقيق اعترف أنه متنكر وأنه نفس روكامبول؟
فزاد اضطراب باكارا وقالت: أحقيقة ما تقول؟ - نعم يا سيدتي، غير أن هذا البوليس الذي افتخر بالقبض على روكامبول لم يدم سروره؛ لأنه نجا أيضا من السجن.
فانذهل الجميع وصاحوا بصوت واحد: كيف هرب؟ - إنه هرب في صباح هذا اليوم حين جاءوا به إلى قاضي التحقيق.
فقال واحد من الحاضرين: إن الفرار على هذا الشكل صعب. - بل هو مستحيل ولكنه هرب. - كيف فعل؟ - لا يعلمون، فإنه أدخل إلى قاعة الانتظار مع جندي كان يتولى حراسته وكان هناك جندي آخر.
ولما حان دور التحقيق بأمره جعل القاضي يقرع الجرس قرعا عنيفا، فلم يجبه أحد فدخلوا إلى قاعة الانتظار فوجدوا الجنديين نائمين يغطان ولم يجدوا روكامبول. - ألعله نومهما؟ - نوما يشبه الموت؛ لأنهم بذلوا كل جهد في إيقاظهما فلم يستفيقا حتى جاءوا بطبيب، فأثبت أنهما أعطيا مخدر شديد التأثير.
وقالت فاسيليكا: الحق أنه رجل شديد الذكاء يستحق الإعجاب.
أما باكارا فلم تجب ولكنها نظرت إلى فابيان نظرة ملؤها القلق والاضطراب.
ودقت الساعة عند ذلك مشيرة إلى انتصاف الليل وهو موعد انصراف المدعوين فبدءوا يتفرقون.
وكان أول من انصرف الكونتس فدخلت فاسيليكا إلى مخدعها؛ لأنها كانت في ضيافة باكارا ثم انصرف بعدها جميع المدعوين، مودعين باكارا حتى إذا انتهى الدور إلى الفيكونت فابيان استوقفته وقالت له: ابق قليلا فقد وردتني أخبار الكونت أرتوف الذي لا يزال في روسيا وهو سيعود منها في الأسبوع القادم.
ولما خلا المكان بهما قالت: ما رأيك في هذه الحوادث؟ - أرى أنها قد تكون حقيقية. - أتظن أن هذا الرجل روكامبول حقيقة؟ - بل أثق فإن هذا الفرار لا يقوى عليه سواه. - إني قرأت في الصيف الماضي حين كنت في روسيا خبر فرار أربعة أشقياء من سجن طولون، فإذا كان روكامبول منهم وجب علينا الحذر الشديد. - من أي شيء نحذر؟ - إنك تعلم حق العلم إن امرأتك لم تعرف حتى الآن أن روكامبول كان مختلسا اسم أخيها وأنها إذا عرفت هذه الحقيقة كان الخطر شديدا عليها. - والخطر الذي أخشاه الآن أن هذه الحقيقة قد تظهر. - كيف ذلك؟ - ذلك أن روكامبول قد يقع أيضا في قبضة البوليس، فيفتضح الأمر وتتناقله الجرائد التي لا تكتم شيئا وهي تباع بالملايين في هذه الأيام، فإذا جرت محاكمته في باريس فقد تفضي المحاكمة إلى إذاعة ذلك السر القديم؟ - على أن الذي أرتاح إليه بعض الارتياح إن ذكر روكامبول قد دار مرارا على الألسن، فكانت الإشاعات عن عودته تقيم إدارة البوليس وتقعدها إلى أن يتحقق فساد هذه المزاعم، وقد تكون حادثة اليوم من قبيل الحوادث الماضية. - إني أرجو أن يكون الأمر على ما ذكرت ولكن قلبي يحدثني أنك مخطئة فيما تتوهمين، فإني ذكرت الآن حادثا غريبا جرى لي منذ شهر ولم أكترث له إلا الآن. - ما هو هذا الحادث؟ - تعلمين أن هذا القصر الذي فيه تكتنفه حديقة واسعة وإن ولدي يلعب كل يوم في هذه الحديقة، وإن أمه تصحبه إليها بعض الأحيان، ويوجد عند سور الحديقة منزل قد أعده أصحابه للأجرة تشرف نوافذه على الحديقة.
فبينما كنت يوما ألاعب ولدي في الحديقة حانت مني التفاتة إلى نوافذ ذلك البيت فرأيت وراءها رجلا أصفر الوجه ما لبث أن أصابه نظري حتى احتجب وتوارى عن عيني، فخيل لي أني رأيت روكامبول. - وبعد ذلك؟ - لم أره أبدا، فإني لبثت مدة طويلة أتربص له في الحديقة وأختبئ أحيانا بين الأشجار وأنا أراقب النوافذ فلا أراه حتى مللت المراقبة، وأيقنت أنه شبه له، فلما سمعت اليوم ما سمعته من المحامي ولم يعد لدي ريب في صحة ما قال ولا شك أن روكامبول هو المتنكر باسم الماجور أفاتار.
ففكرت باكارا ثم قالت: لا بأس عد الآن إلى امرأتك وولدك، فسأنظر في هذا الأمر وارجع إلي أحب أن أراك. - متى؟ - غدا إذ يجب أن أعرف الحقيقة من غير هذا المحامي.
فذهب الكونت فابيان ودخلت باكارا إلى غرفتها المشرفة على الحديقة وهي مفكرة مهمومة فلبثت نحو ساعة جالسة قرب النار وهي غائصة في بحار التأملات.
وكان قلبها يحدثها بأن روكامبول عاد إلى الظهور فكانت تخشى أن يكدر صفو عيشها السعيد وحياتها الهادئة.
وفيما هي تفكر هذا التفكير إذ طرق مسامعها صوت وقت أقدام في الحديقة، فارتعشت ودنت من باب الغرفة ففتشته ولكن الظلام كان شديدا فلم تر أحدا وأصغت إصغاء تاما، فلم تسمع حسا فأقفلت ذلك الباب وعادت إلى ما كانت عليه من الهواجس والتفكير.
ولكن ما لبثت هنيهة حتى سمعت ذلك الصوت قد اقترب منها، فأسرعت إلى المشرف مضطربة واجفة فرأت خيال رجال وراء الزجاج.
ثم رأت قبل أن تبلغ إلى المشرف أن الزجاج قد قلع بخاتم من الماس وأن يدا قد مدت، ففتحت الباب ثم دخل رجل إلى الغرفة.
فصاحب باكارا صيحة ذعر؛ لأن هذا الرجل كان مسلحا بخنجر وقد عرفته؛ لأنه كان روكامبول.
3
سبق العهد بباكارا أنها شديدة جريئة لا تضطرب أمام مثل روكامبول، بل إن روكامبول وأمثاله يضطربون أمامها.
ولكنها قد مر على هذا العهد بها عشرة أعوام تغيرت في خلالها أحوالها، وضعفت عزيمتها السابقة بما توالى عليها من رخاء العيش وراحة الفؤاد وصفاء البال، فأصبح منظر عدوها القديم يهولها.
وكان أول ما خطر لها أن هذا العدو اللدود قد قذفته يد الخالق بعد أن كاد يبلغ ذروة المجد، فشوهت وجهه وألقته في السجن وعذبته أشد عذاب فلا بد أن يكون قد أعد لها انتقاما هائلا.
فلما رأته باكارا والخنجر مشهور بيده أيقنت أنها مائتة، فتراجعت منذعرة، وعزمت على أن تقرع جرسا على الطاولة كي تستغيث به، ولكن روكامبول وثب إليها ومسك يدها، وقال لها: لا تستغيثي ولا تقرعي هذا الجرس فإني لا أريد لك شرا.
وقفت باكارا ضائعة الرشد ولكن هذا الرعب الذي كان قد تولاها ذهب عنها فجأة؛ لأنها شعرت أن لهجة روكامبول قد تغيرت ولم تعد تلك اللهجة التي عرفتها من قبل، وذهبت منه آثار التهكم الذي كان يدل على نفسه الوحشية، فكان يشير إلى حزن دفين؛ حتى إن وجهه لم تبق فيه تلك الملامح القديمة الدالة على الجرأة والميل إلى الفتك. وفي الجملة فقد رأت أن الفرق بين طباع روكامبول الأمس وروكامبول اليوم عظيم ولكن الرجلين واحد.
ثم قال لها روكامبول بلهجة المتوسل: سيدتي اطمأني فإني أقسم لك أنني لا أريد بك شرا. - إذن ماذا تريد؟ - إني دخلت إليك متسلقا جدار الحديقة بسلم من الحرير، ثم كسرت زجاج هذه النافذة ونحن الآن في الساعة الأولى من منتصف الليل.
فزاد انذهال باكارا من كلامه ومن خطته وقالت: ماذا تريد أن تقول؟ - أقصد أمرا بسيطا يا سيدتي، وهو أني أريد العودة إلى السجن ولكني سأقول لك السبب الذي أتيت من أجله، ومتى فرغت من حديثي تقرعين هذا الجرس وتدعين خدمك يقبضون علي ويرجعونني إلى السجن فلا أخرج منه في قيد الحياة. - لماذا إذن خرجت من السجن إذا كنت تريد الرجوع إليه؟
فابتسم روكامبول ابتسام الحزين وقال: انظري إلي يا سيدتي ألا تجدين أني قد تغيرت؟ - أراك تجاوزت حد الصبى. - أهذا كل ما ترينه بي من التغيير؟ - وأرى أيضا أن صوتك قد تغير.
فأجاب بملء الكآبة: إن نفسي التي تغيرت يا سيدتي.
فرأت باكارا أن الحقيقة بادية في صوته فقالت له: ألعلك أصبحت من التائبين؟
فأطرق روكامبول برأسه إلى الأرض دون أن يجيب.
واستأنفت باكارا الحديث فقالت: لماذا عدت من السجن؟ - لأتمم أمرا أراه فوق مقدرتي، فقد بدأت أشعر أني لا طاقة لي به.
فجلست باكارا على كرسي وجعلت تنظر إليه والخنجر لا يزال بيده وقالت: أوضح ما تقول.
فمشى روكامبول إلى طاولة رآها أمامه فوضع فوقها خنجره، ثم رجع فوقف بملء الاحترام أمام باكارا وقال: أتثقين بالتوبة والندم؟
فترددت هنيهة وهي تنظر إليه نظر الفاحص وقالت: ربما ... - سيدتي ... إني كنت منذ ربع ساعة واقفا في الشارع تجاه قصرك مختبئا وراء باب الحديقة، فرأيت رجلا خرج من منزلك وهذا الرجل أعرفه إنه فابيان. - نعم، هو بعينه.
فقال لها بصوت خافت ... وهي؟
وكان صوته يضطرب حين فاه بهذه الكلمة وقد اصفر وجهه اصفرارا شديدا.
فأخذت باكارا يده، وقالت: لقد عرفت الآن كل شيء ...
فسقطت دمعة على وجه روكامبول وقال: ألم تعلم هي شيئا؟ - كلا فقد بالغنا بالكتمان حرصا عليها. - أتعلمين اليوم الذي دخل فيه شعاع التوبة الصادقة إلى قلبي فطهره من أدران الإثم والفساد، إنه ذلك اليوم الذي زارت فيه مع زوجها سجن طولون ولم تعرفني حين رأتني، وقد بلغ من حبي لها أني بت أعتقد أنها حقيقة أختي.
ثم مسح تلك الدمعة التي كانت تنحدر ببطء على وجنته وقال: إني ما أتيت إليك إلا لأكلمك عنها.
فأشفقت باكارا على هذا الرجل الذي عرفت ماضيه وتبينت من لهجته وظواهر يأسه أنه صادق في توبته، فقالت له: اجلس أمامي ولنتحدث. - كلا ... إني لا أجسر على الجلوس أمامك.
ولبث واقفا وعاد إلى حديثه وقال: إني أقمت في السجن عشرة أعوام لا يخطر لي الفرار منه في بال، إذ كان أقصى أماني أن أموت فيه؛ لأني وجدت الراحة الصحيحة بالموت.
ولكني لم أنقطع عن التفكير بتلك المرأة الطاهرة التي دعوتها أختي، وهي يجب عليها أن تكرهني وترتجف لذكر اسمي.
واتفق يوما بأني علمت أن بلانش لم تعلم شيئا من حادثة قاديس بفضلك وبفضل مادموازيل سالاندريرا.
وخطر لي عند ذلك الفرار، وقلت في نفسي: إني سأنجو من السجن فأعود إلى باريس وأختبئ في منزل يجاور منزلها، فأراها حين دخولها وخروجها كل يوم.
ومنذ ذلك الحين بدأت تتنازعني العوامل فكان عامل الفرار يتغلب علي رجاء أن أنقلب إلى الخير، وأكفر بالأعمال الصالحات عن سيئاتي الماضية.
فقطاعته باكارا وقالت: وأخيرا نجوت. - اصغي إلي يا سيدتي، لقد كان لي في السجن رفيق كنت مقيدا وإياه بقيد واحد، وكان هذا الرجل خادما في أحد المنازل وقد ألقته في السجن يد أثيمة على براءته لإتمام عمل منكر، فكان يبكي وهو معي أثناء الليل وأطراف النهار ويناجي أولاده.
ولقد حسبت في بدء الأمر أنه متزوج وله بنون ولكنه أخبرني بحكايته، وعلمت أنه يذكر حين بكائه وتوجعه أولاد سيدته التي ماتت مسمومة، وهم بنتان يتيمتان فقيرتان، فقلت في نفسي: هو ذا الفرصة قد لاحت للتكفير عن ذنوبي الماضية بالإحسان إلى هاتين اليتيمتين اللتين يضطهدهما أعداؤهما؛ ولذلك هربت من السجن. - وقالت باكارا: أكان حديث فرارك كما روي لنا؟ - نعم. - تمم حديثك فإني مصغية إليك.
فحكى روكامبول عند ذلك جميع ما اتفق له منذ ستة أشهر من الوقائع التي ورد تفصيلها في رواية «روكامبول في سيبريا»، وذكر لها كيف وجد مع ميلون أنطوانيت، وكيف أخرجها من سجن سانت لازار، ثم حكى بالتفصيل حكاية مدلين في روسيا، وكيف قبضوا عليه إلى أن تخلص من السجن.
ولما فرغ من حكايته قالت له باكارا: إن الحكاية التي رويتها لي عن روسيا تشبه أتم الشبه حكاية رواها لي أمس الكونت أرتوف، فقد ذكر لي قصة فتاة هاجمتها الذئاب فكانت نجاتها من العجائب. - هي مدلين ...
فأثر ذكر هذا الاسم تأثيرا غريبا على باكارا وقالت: مدلين؟ - نعم يا سيدتي، فهي إحدى الأختين اليتيمتين. - أكانت معلمة في روسيا؟ - نعم. - في منزل الكونت بونتيف. - هو بعينه. - وكان إيفان ابن هذا الكونت يحبها؟ - ولا يزال يعبدها عبادة.
فبرقت عين باكارا وقالت: إذن إن الكونتس فاسيليكا تخدعني خداعا عظيما، والآن قل لي اسم هذا الرجل الذي يضطهد هاتين الأختين ويريد لهما الموت. - إنه يدعى الفيكونت كارل دي مورليكس. - لقد خطر لي شيء من هذا، فما كنت أجسر على أن أتمادى في هذه الظنون.
فأخذ روكامبول يدها وقال: سيدتي، إن عملي لم يتم بعد ولا أجسر على إتمامه؛ ولذا فقد خطر لي أن أعهد إليك حماية هاتين الأختين فإنك غنية قادرة على كل شيء. - وأنت؟ - أعود إلى السجن. - لماذا؟
فأطرق برأسه وقال: إن هذا سر لا أبوح به.
فأخذت باكارا يده بدورها وقالت له: إني كنت أصغيت إليك فما ذلك إلا لأني غفرت لك منذ عهد طويل، فلا يجب أن تكتمني أسرارك.
وجعل روكامبول يرتجف ارتجاف تلك الورقة الصفراء التي تحركها رياح الخريف ولم يجب بشيء.
فقالت باكارا: تكلم فإني أريد أن تبوح لي بكل شيء.
فحاول أن يتكتم أيضا ولكنه غلب على أمره، فقال بصوت مختنق: «أحب مدلين.»
4
وساد السكوت هنيهة بين باكارا وروكامبول، فكان هذا الرجل الذي طالما انغمست يده بالدماء واقفا وقفة المضطرب والعرق البارد ينصب من وجنتيه، وجميع ملامحه تدل على تلك العاصفة الهائلة التي ثارت في نفسه من ذلك الإقرار.
ثم رفع رأسه وضحك ضحك القانطين وقال: أرأيت يا سيدتي كيف أن ذلك اللص السفاك، بل ذلك الوحش المفترس قد تحول إلى إنسان وصار له قلب كقلوب الناس، فهبط إليه الحب كما تهبط أشعة الشمس في محل قذر؟
إن هذا القلب الذي عهدته من الأموات حين سرت إليه عاطفة هذا الغرام حاولت خرقه بهذا الخنجر، ولكني كنت عاهدت نفسي وعاهدت الله على إنقاذ الأختين، فإذا هلكت هلكتا.
وجعلت أعارك نفسي وأصدها عن شهواتها حتى شعرت أني بت مغلوبا، فلا أستطيع أن أضبط نفسي إذ قد يتفق ساعة سوداء يرتفع بها بصري إلى ذاك الملاك فيهين طهارته المقدسة.
وهنا توقف هنيهة ثم قال: وعند ذلك افتكرت بك وقلت: إن المرأة التي قدرت أن تسحق روكامبول تستطيع دون شك أن تسحق كارل دي مورليكس. - وسأفعل ... - لا شك عندي فيما تقولين ...
ثم فتح سترته وأخرج من جيبه ملفا من الورق فأعطاه لباكارا وقال: إنك تجدين يا سيدتي في هذه الأوراق كل ما تحتاجين إليه من المعلومات.
فأخذته باكارا وقالت: أحب أيضا أن أعلم ما أريده من فمك. - سلي سيدتي أجيبك. - أليس لكارل مورليكس أخ؟ - نعم وهو والد أجينور. - يجب أن نرفق بهذا الرجل، أليس كذلك؟ - دون شك؛ لأنه لولا هذه العقدة، ولولا ما أخشاه من افتضاح أجينور بافتضاح أبيه واستحالة تزوجه بأنطوانيت بعد هذه الفضيحة؛ لذهبت في هذا الصباح إلى قاضي التحقيق، وكشفت له هذه الحقيقة الهائلة وعرضت عليه براهين تسميم البارونة والدة الأختين، فيقبض البوليس على كارل وأخيه فيضربهما الشرع ضربة قاضية، ولكن والد أجينور لا ينبغي أن يمس؛ لأن ولده يحب أنطوانيت. - هو الحق ما تقول. - إذن يجب عقاب كارل مورليكس عقابا شديدا قاضيا لا يشعر به أحد؛ ولهذا أتيت إليك ... - ولكن مورليكس لا يعاقب وحده. - ومن تريدين أن تعاقبي معه؟ - امرأة مقيمة في ضيافتي وهي تخدعني منذ أيام. - ألعلها الكونتس فاسيليكا؟ - هي بعينها ...
ففكر روكامبول هنيهة ثم قال: إذن هي التي أوهمت الناس أن ابن عمها إيفان مجنون وحبسته في منزل الطبيب؟ - نعم بالاتفاق مع مورليكس. - أتعديني بحماية الأختين ومعاقبة كارل؟ - أعدك وعدا صادقا لا ريب فيه. - إذن أرجوك أن تنادي خدمك الآن وأن تأمريهم بالقبض علي وتسليمي إلى الشرطة.
وقد قال هذا القول بلهجة جدية لم تدع لباكارا أقل مجال للشك في إخلاصه، فنظرت إليه نظرة إشفاق وقالت: كلا إني لا أفعل شيئا من هذا. - لا تفعلين! - كلا ... فإني لا أحب أن تعود إلى السجن.
فتراجع روكامبول خطوة إلى الوراء ودلائل اليأس بادية في ثنايا وجهه، فأوقفته بإشارة وقالت له: اصغ إلي، إنك تعلم أكثر مما يعلم سواك ما سيأتي، وقد عرفت من أمري أني كنت في عهدي من أشر بنات الهوى، ثم تبت توبة صادقة وتزوجت رجلا نبيلا، ففتحت لي أبواب العائلات وبات لي في مجالس النبلاء خير حظوة ومقام.
فاضطرب روكامبول وقال: ماذا تريدين بهذا القول؟ - أريد أن كل ما لقيته إلى الآن من سجن وعذاب لم يفد في عقابك، وكل ما سوف تلقاه من عناء السجون لا يكفر عن آثامك، أما العقاب الصحيح الذي قد تكفر به عن ذنوبك وربما نلت بعده الغفران الذي ترجوه فهو ...
ثم توقفت هنيهة تنظر إلى روكامبول الذي كان مطرق الرأس يضطرب، وقالت: إن هذا العذاب هو حبك لتلك الفتاة الطاهرة، فإذا كنت تريد من توبتك الصادقة فلا تجده إلا في شقائك في هذا الحب.
فأن روكامبول أنين الموجع وقال: أتظنين أني أطيق تحمل هذا الشقاء؟ - إنك تقيس هذا الشقاء إلى ذنوبك السابقة فتدفع عقابك عنها.
فوضع روكامبول يده فوق صدره وقال بلهجة القانط: كفاني يا سيدتي ما لقيت، دعيني أعود إلى السجن. - كلا فلا يظهر الآثام غير الحب وإن الشقاء مثل النار ينفي كل دخل.
فرفع روكامبول عينيه إليها وهما غارقتان بالدموع، وقال: لقد أصبت فسأتحمل كل عناء واستمر عاملا في خدمة الخير. - وأنا أريد أن تكون حليفا لي في هذه المهمات.
ليكن ما تريدين غير أني لا أستطيع أن أفيدك فائدة كبرى، ويمكن أن يقبضوا علي إذا عثروا بي.
فابتسمت باكارا وقالت له: تعال معي.
ثم أخذت مصباحا وسارت أمامه وهو يتبعها من غرفة إلى أخرى حتى انتهت إلى غرفة متسعة، وقالت له: نم هنا فستكون آمنا ما دمت في منزلي وغدا عند الظهر أعود إليك وربما عدت إليك بما يسرك.
ثم تركته وانصرفت. وكان روكامبول لم ينم نوما طيبا منذ عدة ليال فانطرح على السرير بملابسه وما لبث أن بلغ السرير حتى غفا ونام نوما عميقا.
ولما أشرق الصباح لم يستيقظ، وبزغت أشعة الشمس تسطع فوق وجهه المصفر النحيل، فلم يستفق إلى أن حان الظهر، فاستيقظ من نومه لسماعه صوت فتح الباب.
وكان الذي فتح باب الغرفة باكارا فلما رآها داخلة أسرع إلى النهوض من سريره فوثب من فوقه إلى الأرض، ووقف أمامها وقفة الاحترام.
فابتسمت له باكارا وقالت: لقد أصبحت الآن حرا بالذهاب في شوارع باريس كيف تشاء، وأن تعود إلى النادي الذي كنت تزوره، وأن تحفظ لنفسك اسم الماجور أفاتار.
فانذهل روكامبول وقال: ماذا تقولين؟ - الحقيقة. - ولكن البوليس؟ - إن أحد العظماء في هذه العاصمة توسط هذا الصباح في أمرك فأنت الآن حر لا يستطيع أحد أن يقبض عليك، وربما صدر الأمر بالعفو عنك بعد زمن قريب.
فركع روكامبول وقال: رباه ماذا أسمع أنا في حلم أم في يقظة؟ - كلا بل أنت في يقظة، وقد استحقيت هذا العفو؛ لأنك أصبحت حليف باكارا، فاعلم الآن أني أنفقت ليلة أمس في مطالعة تلك المذكرات التي أعطيتني إياها فعرفت منها كل شيء وأيقنت من براءة ميلون.
فقال روكامبول: ولكن هذا المسكين مقبوض عليه، وسيعود إلى الليمان لا محالة؛ لأني لا يخلق بي الآن إنقاذه من قبضة البوليس بعد موافقة الحكومة على التخلي عني.
فمشت إلى الباب وفتحته، وعند ذلك صاح روكامبول صيحة دهشة؛ لأنه رأى ميلون واقفا على عتبة الباب فشكر روكامبول باكارا وقال: إذن لنبدأ العمل.
5
في ليلة اليوم نفسه كان كثيرون في قاعة منزل باكارا منهم الفيكونت فابيان والمحامي والكونتس فاسيليكا وغيرهم.
وقد بدأت باكارا الحديث فقالت للمحامي: ألا تقص علينا الليلة شيئا عن روكامبول؟ - إنهم يبحثون عنه.
فابتسمت باكارا وقالت: إني أرجو أن يقبضوا عليه.
وقالت الكونتس فاسيليكا: ما هذا الرجل الغريب الذي تدعونه بروكامبول فقد مثلتموه لي ماردا من مردة الجن.
فأجابتها باكارا: بل ربما كان أعظم يا سيدتي.
أجابت: يلوح لي يا سيدتي من خلال حديثك عنه أنك تعرفين عنه ما لا يعرفه الناس. - هو ما تقولين. - ألعلك عرفتيه شخصيا؟ - نعم يا حضرة الكونتس.
فسألها المحامي: إذن إنك تعرفينه دون شك إذا رأيتيه. - ذلك لا ريب فيه.
وكان فابيان جالسا وهو حائر مضطرب، فنظرت إليه باكارا نظرة معنوية ظهر له منها أنه لا موجب للخوف فهدأ اضطرابه واطمأن.
ثم التفتت إلى فاسيليكا وقالت لها: إذا كنت تريدين يا سيدتي الكونتس أروي لك ما أعلمه عن روكامبول.
وصاح جميع الحاضرين يقولون: تكلمي تكلمي.
فقالت باكارا: منذ خمسة عشر عاما حدثت في باريس حوادث هائلة اضطرب لها جميع أغنياء الباريسيين وكبارهم؛ وذلك لأنه تألفت جمعية سرية كانت تقدم على أمور هائلة وترتكب أفظع المآثم.
فقالت فاسيليكا: ألعل روكامبول كان رئيس هذه الجمعية؟ - اسمعي، إن هذه الجمعية كان من جملة مآثمها قتل الأزواج وحمل الزوجات على حب أعضائها، ولم يكن رئيسها كما توهمت بل كان السير فيليام.
وبعد حادثة لا سبيل إلى بسطها في هذا المقام؛ لأن الحديث عن روكامبول احتجب هذا الرئيس أي السير فيليام عن الأنظار.
فاختلفت الآراء في احتجابه، فمن قائل إنه قتل، ومن قال إنه شحن على سفينة إلى بلاد القبائل المتوحشة، بعد أن فقأ أعداءه عينيه إلى غير ذلك من الإشاعات.
فقالت فاسيليكا وروكامبول؟ - إن روكامبول كان تلميذ ذلك الرئيس، بل رئيس أركان حربه، فلما أصيب رئيسه بتلك النكبة تمكن هو من الفرار، وقد أخذ معه أوراقا كانت للسير فيليام مكتوبة بخط هيروغليفي لا يفهمه أحد غير روكامبول.
وكان لهذه الأوراق فائدة عظيمة عنده فإن السير فيليام كان يصرف كل اهتمامه باحثا عن الأعمال العظيمة، فإنه يعد سرقة المائة ألف فرنك مسكنة لا يقدم عليها غير أصاغر اللصوص، أما هو فلم يكن يبحث إلا عن الملايين.
وكان هذا الرئيس الهائل قد وقف على سر عائلة تدعى عائلة المركيز ش وأن هذه العائلة أرسلت ابنها إلى الهند وهو في سن الحداثة، ولم تكن هذه العائلة مؤلفة إلا من هذا الولد وأمه وأخته.
وبعد عشرين عاما من ذهاب الغلام إلى الهند، وبعد خمسة أعوام من روكامبول جاء إلى هذه العائلة شاب بملابس الضباط، فجعل يقبل الأم والأخت وقد أثبت لهما أنه ابن الأولى وأخو الثانية بأسطع البراهين.
فقالت فاسيليكا: ألعله كان روكامبول؟ - هو بعينه، ولكن اسمعي ما جرى بعد ذلك، إنه مر عدة أعوام والناس لا يشككون بهذا المحتال ويحسبونه المركيز ش حقيقة فقد كان حلوا رشيقا متعلما، والغريب أنه كان يحب أخته كما لو كانت أخته حقيقة.
فقاطعتها فاسيليكا وقالت: لقد عرفت البقية. - لا أظن يا حضرة الكونتس. - إن المركيز الحقيقي عاد من الهند وكشف الاحتيال. - لم يعد على الأثر فإن روكامبول كان يحسب أنه قتله، غير أن روكامبول لم يكن ليقنع بملايين المركيز واسمه، بل إن نفسه الطامحة طمعت بالزواج بفتاة وافرة الغنى فكانت السبب بخسارته كل شيء. - كيف ذلك؟ - ذلك أنه ارتكب آثاما كثيرة في سبيل الوصول إلى هذه الغاية ونكل بأعدائه وهم كثيرون، فهاج حقد امرأة كانت أوشكت أن تصفح عنه وتنساه. - ومن هي هذه المرأة يا سيدتي؟ - هي فتاة كانت من قبل معوجة السيرة لا تسير في طريق الهدى، ثم تابت عن ذنوبها وطهر الحب قلبها فانصرفت إلى الخير تكفر عن ذنوبها الماضية.
وقد قدر نكد الطالع لهذا المحتال أن تعترض هذه المرأة سبيله إذ عرفت أنه روكامبول.
فكان بين الاثنين معارك شديدة هائلة انتزعت فيها عوامل الرحمة والإشفاق من القلوب، فسلمت المرأة من مكايده ولقيت المركيز الحقيقي وفازت في تلك المعركة الهائلة على روكامبول فأرسلته إلى الليمان.
فقالت فاسيليكا بلهجة الإعجاب: من هي هذه المرأة يا سيدتي؟ - أيروق لك أن تعرفيها؟ - بل أتمنى. - إنها كانت تدعى باكارا. - ما هذا الاسم الغريب؟ - ولكنها اليوم تدعى باسم آخر وهو الكونتس أرتوف أي: أنا.
فاضطرب الجمهور اضطرابا شديدا لهذه المفاجأة ما خلا فابيان ووقف المحامي أمام باكارا، فقال لها بلهجة احترام: إنك تنمين على نفسك يا سيدتي فما عرفنا عنك السوء وما عهدناك إلا ملاكا طاهرا في كل حين.
أما فاسيليكا فلم تفه بحرف ولكنها كانت تنظر إلى باكارا نظرات الرعب والحذر، وقد زاد ريبها بها وذكرت قولها: أنها لا تصدق جنون إيفان فزادت مخاوفها.
ولكنها أخفت اضطرابها وقالت لباكارا: إذن أنت تعرفين روكامبول أكثر مما يعرفه سواك؟ - هذا لا شك فيه، بل يوجد بيننا الآن شخص آخر يعرفه كما أعرفه أنا وأرجو أن لا يظهر نفسه. - رجل آخر بيننا الآن؟ - نعم ... وقد كان حينا من الدهر من أخلص أصدقائه إذ كان يعتقد أنه المركيز ش حقيقة. - وتقولين إن هذا الرجل موجود بيننا الآن؟ - نعم ...
فسكتت فاسيليكا وقال المحامي: إن ما ترويه يا سيدتي يشبه القصص وهي قصة مدهشة.
فابتسمت باكارا وقالت: ولكنها طويلة.
وقال فابيان: ومن يعلم أيضا إذا كانت انتهت.
وقال المحامي: لا أراها قد انتهت بعد نجاة روكامبول من السجن وانتحاله اسم الماجور أفاتار.
ولم يكد يتم المحامي قوله حتى دخل خادم يحمل رقعة زيارة على صينية من الفضة فتناولتها باكارا، وما أوشكت أن تقرأها حتى صاحت صيحة انذهال وقال: أرى القصة لم تنته بعد.
فقالت فاسيليكا: ماذا تعنين بذلك؟ - إن هذه الرقعة التي بيدي هي رقعة زيارة الماجور أفاتار نفسه وهو يلح علي أن أستقبله بالرغم عن هذه الساعة المتأخرة وفوات موعد الزيارات .
فاندهش الحاضرون وقالوا بصوت واحد: روكامبول؟
وقالت باكارا: إذا كان هو روكامبول حقيقة فلا يخفيه عني تنكره مهما برع فيه، وقد قلت لكم: إنه يوجد بيننا رجل آخر يعرفه كما أعرفه أنا.
فقال القاضي: على ماذا عولتي؟ أتأذنين له بالدخول؟ - دون شك لأني أريد أن أعرف حقيقة أمره.
ثم التفتت إلى الخادم وقالت له: أدخل الماجور أفاتار.
فاتجهت الأنظار إلى الباب وكانت نظرات الحضور ممزوجة بالرعب والانذهال.
6
وقد جعل كل واحد من الحاضرين يرسم في ذهنه خيال روكامبول كما تمثله له حكاياته، وذلك في خلال المدة الوجيزة التي خرج بها الخادم لإدخال الماجور.
وكانت فاسيليكا تمثله في خاطرها برجل قبيح المنظر قصير القامة صغير العينين، وأن عينيه تتقدان بلهب الذكاء.
وكان المحامي يراه رجلا عميقا كبير اللحية والشاربين، وقال آخر: ليكن كيف شاء، على أن لا يدخل مسلحا.
فأجابه المحامي، لا خطر علينا فإننا كثيرون.
ثم دخل الماجور أفاتار فكانت الدهشة عامة إذ لم يجده أحد من الحاضرين يشبه الشكل الذي رسمه في ذهنه، بل وجدوه رجلا تدل ملامحه على أنه يبلغ الأربعين من العمر جميلا رشيقا أسود الشعر خفيف الشاربين.
ووجدوا في عينه حلاوة وفي سائر ملامحه ما يدل على النبل والذكاء.
فلما دخل روكامبول ورأى ما كان من انذهال الحاضرين، وقف في مكانه وقفة الحائر المتردد وجعل ينظر إلى النساء الموجودة في القاعة نظر المستطلع كأنه يريد أن يعلم من هي الكونتس أرتوف صاحبة المنزل.
ولما رأت باكارا ما كان من تكلفه الاضطراب تظاهرت أنها أدركت قصده، فوقفت وعند ذلك مشى إليها ووقف أمامها بملء الاحترام وقال: أسألك يا سيدتي الكونتس معذرة عن جسارتي على زيارتك في مثل هذه الساعة المتأخرة، فإني لم أكن أجرؤ على ذلك لو لم تدفعني أسباب خطيرة.
فانحنت باكارا وأظهرت أنها تريد سماع هذه الأسباب.
وهمس المحامي في أذن فاسيليكا قائلا: انظري إلى الكونتس أرتوف فإنها منذهلة مثلنا، ولا شك أن هذا الرجل غير روكامبول. - ربما.
ولكن ظواهر الشك كانت ظاهرة بين عينيها .
أما باركارا فإنها أشارت إلى روكامبول بالجلوس أمامها فجلس وقال على مسمع من جميع الحاضرين: إني برحت يا سيدتي بطرسبرج منذ ستة أشهر بعد أن نلت من جلالة القيصر إجازة بالقدوم إلى باريس.
وقد حملني أصحابي كثيرا من رسائل التوصية، منها رسالة إليك من البرنس كاشرين.
فقالت باكارا: إن بيننا وبين هذا البرنس صداقة متينة.
وأخذت الكتاب من روكامبول فتلته، ولما فرغت من تلاوته استأنف روكامبول الحديث قائلا: إنك تظنين يا سيدتي دون شك أني لم أقدم في هذه الساعة المتأخرة لأعطيك هذا الكتاب، بل لأخبرك بأمر خطير وهو أني قد احتقرت وأهنت في باريس.
فجعل الحاضرون ينظر كل منهم إلى الآخر وقد ساد السكون عليهم، أما فاسيلكيا فإن نظرها لم يكن يفارق باكارا.
وتابع روكامبول: إنهم يا سيدتي قبصوا علي وألقوني في السجن وانتحلوا لي اسم رجل شقي قالوا: إنه هرب من سجن طولون.
فقال المحامي: روكامبول؟
فأجابه الماجور ببرود: نعم، ويظهر أن هذا الشقي كان بيني وبينه شبه عظيم.
فقال باكارا: إني رأيت يا سيدي الماجور مرات كثيرة هذا الرجل الذي يدعونه روكامبول، وهو لا يشبهك في شيء على الإطلاق وبينك وبينه فرق بعيد.
فتنفس الحاضرون الصعداء، وقد وثقوا أن الماجور أفاتار غير روكامبول.
وأتمت باكارا حديثها قائلة: إن حضرة المحامي المسيو مشقين كان يقص علينا حكايته قبل دخولك، فكان يقول: إنهم يعتقدون في العدلية أن روكامبول اللص الشهير وأنت واحد، ولا أدري كيف اتفق لهم هذا الخطأ على شدة الفرق بينكما.
فقال المحامي مخاطبا باكارا: إذن إن حضرته يا سيدتي الكونتس ليس روكامبول. - لقد قلت مرتين: إن الفرق بعيد بين الاثنين.
ونظر روكامبول إلى المحامي وسأله: لعلك رأيت علي ملامح اللصوص يا سيدي؟ - كلا بل أرى عليك مخايل النبل والشرف ولكن ...
فابتسم روكامبول وقال: ولكن ماذا؟ - ألم تهرب من السجن في الصباح أمس؟ - نعم ولا. - ما هذا الجواب المتناقض؟ - سوف أوضح لك، وذلك أني هربت من السجن صباح أمس كما تقول، ولكني عدت إليه في المساء.
فانذهل الحضور انذهالا شديدا، وقال له المحامي: إذن، فقد هربت مرة ثانية؟ - نعم ولا. - كيف نعم ولا؟ - سأوضح لك ذلك أيضا، إنه لي أعداء كثيرون في روسيا فأبلغوا إدارة البوليس أن لي علاقة مع البولونيين الثائرين، ومن هنا فاجأتني هذه النكبة وبت عدة ليالي في السجن.
أما الذين اتهموني أنني روكامبول فهم يعلمون أن من خدم مثلي عشرين عاما في الجيش الروسي يسهل عليه إثبات حقيقة اسمه، ولكنهم أرادوا بهذه التهمة أن يبعدوني عن منزلي بعد القبض علي ويستولوا على أوراقي.
فقالت فاسيليكا: إذن إن أوراقك تحمل على الشبهات. - ليس بين رعايا القيصر يا سيدتي رجل أشد مني وفاء لعرشه، غير أن لي صديقا وهو أخي في السلاح متهم بالثورة الأخيرة، وكانت أوراقه عندي فلو عثر عليها البوليس الروسي صدر الأمر بإعدامه في الحال.
فلما رأيت، وأنا في غرفة الانتظار للمثول أمام قاضي التحقيق، أن إثبات نسبي قد يطول، اغتنمت فرصة نوم الحارس وخرجت آمنا دون أن يشعر بي أحد.
فقال المحامي: ولكنهم يقولون: إن هذا الحارس نام بتأثير مخدر.
فهز روكامبول كتفيه وقال: إنها إشاعات باطلة يريدون بها تجسيم الحادثة، ثم أضاف: إني لما رأيت أن أوراقي باتت في مأمن من الاغتصاب عدت إلى سجن مازاس.
وفي صباح اليوم الثاني جاء ضابطان روسيان وأخرجاني من السجن وكفلاني لدى الحكومة، ونعم إن الحكومة أطلقت سراحي دون تصعب، ولكن هذا لا يكفيني.
فقالت باكارا: وماذا تريد أيضا؟ - أريد شهادتك يا سيدتي، فقد ظهر لي في إدارة البوليس أنه ليس فيها من يعرف روكامبول، وقد قابلوني بكثير من رجال الشرطة فقال بعضهم: إني روكامبول، وأنكر الآخرون هذا الشبه، ولكني سمعت رئيس البوليس يقول أمس: إنه لا يوجد من يعرفه في باريس حق المعرفة إلا الكونتس أرتوف.
ولذلك تذكرت يا سيدتي ذلك الكتاب الذي حملني إياه صديقي راجيا أن تشهدي بعد تلاوته أمام الذين يحضرون مجالسك إني لست روكامبول. - إني أشهد هذه الشهادة في كل مكان يا حضرة الماجور.
فنهض روكامبول عند ذلك مستأذنا بالانصراف، غير أن باكارا منعته عن الرحيل، ودعته إلى شرب الشاي على مائدتها، فامتثل وجعل يحدثها عن بطرسبرج وموسكو بحيث لم يعد أحد من الحاضرين يشك أنه الماجور أفاتار ما عدا فاسيليكا، فإنها ادعت أنها مصابة بصداع فاستأذنت من الحاضرين، ودخلت إلى مخدعها وهي تعض شفتها من الغيظ وكتبت إلى الفيكونت كارل دي مورليكس هذين السطرين:
لقد خدعنا أعداؤنا وعبثوا بنا، وأصبحت باكارا حليفة روكامبول فلنحذر!
7
كانت هذه الكونتس فاسيليكا، التي لم تذكر شيئا عنها الآن، بارعة في جمالها رشيقة حلوة الكلام تدل ظواهرها على بلوغها أقصى درجات اللطف واللين، ولكنها كانت في الحقيقة وحشية الأخلاق كثيرة الحقد إذا أرادت الانتقام بلغت به أبعد غاياته.
فلما برحت قاعة باكارا إلى مخدعها الخاص في القصر، كانت عواصف الحقد ثائرة في نفسها، فمن كان يراها تمشي في غرفتها بخطوات غير موزونة وهي منبوشة الشعر كما تمشي اللبوة الثائرة في قفصها لا يشك أن هذا الهيكل الجميل يستر قلبا جهنميا لا تنبض فيه غير عروق الشر والحقد.
ولقد كانوا يحدثون عن مبلغ فتك هذه المرأة أن وكيل أراضيها الشاسعة تجاسر مرة أن ينظر إليها نظرة غرام فقتلته جلدا بالسياط؟
وروي عنها أن ضابطا روسيا شابا قال مرة في أحد المجالس مفتخرا: إنه حظي بلقاء بعد موعد من الكونتس فاسيليكا، فلما كان خارجا في الليلة التالية من الأوبرا أصابته طعنة خنجر في قلبه فقضي عليه، حتى لقد ذكر بعضهم أن زوجها مات مسموما؛ لأنها كانت كارهة له تريد التخلص منه.
وكانت هذه الأرملة الجميلة تسير في غرفتها مضطربة على ما وصفناها وهي متقدة العينين مصفرة الوجه، وقد شوه غضبها الوحشي جمالها، فجعلت تعض على شفتها من قهرها، وتخاطب باكارا: أأنت أيتها المرأة السافلة التي رفعها إلى مقام الأشراف حب ذلك الزوج الأبله لها، سوف ترين ما يكون مني بعد أن حالفت أعدائي وحاولت منعي عن الانتقام من إيفان!
وظلت تمشي في غرفتها على هذا الاضطراب زمنا طويلا، وهي تفكر كيف تنتقم ، ثم نادت خادمة غرفتها وهي فتاة قدمت معها من روسيا تشبهها بقوامها، فأسرعت الخادمة إلى تلبيتها.
وكان غرض فاسيليكا أن ترسلها إلى مورليكس بالرسالة التي كتبتها غير أنها افتكرت أن هذه الخادمة لا تعرف كلمة من اللغة الفرنسية، فلا تصلح لمثل هذه المهمة الخطيرة، فخطر لها أن تذهب بنفسها بعد أن تتنكر بزي الخادمة؛ لأنها خشيت أن تسرع باكارا عند الصباح فتخرج إيفان من منزل الطبيب، فأمرت خادمتها وأمرتها أن تبقى في الغرفة.
وكانت الساعة الثانية من منتصف الليل، وجميع من في القصر نيام حتى البواب، فخرجت فاسيليكا من غرفتها وجعلت تسير من رواق إلى رواق، ومن ردهة إلى ردهة حتى انتهت إلى الباب الخارجي، فأيقظت البواب وكان قد رأى فاسيليكا مرارا مع خادمتها ففتح لها الباب دون أن يفوه بحرف، وخرجت منه إلى الشارع.
وكان الشارع مقفرا، فنظرت إلى يمينها ويسارها كي ترى إذا كان يتبعها أحد ثم سارت إلى بيت كارل دي مورليكس.
ولم تلق أحدا في طريقها غير أنها قبل أن تصل إلى بيت كارل لقيت رجلا واقفا في الشارع فلم تكترث له واستمرت في سيرها حتى وصلت إلى المنزل، فقرعت الباب دون أن تنتبه إلى هذا الرجل الذي كان يراقبها.
وظلت تقرع الباب حتى جاءها البواب منذعرا، ففتح لها وقال: ماذا تريدين؟ - أريد أن أرى الفيكونت كارل دي مورليكس.
فجعل البواب يتأمل ملابسها هنيهة ثم قال: إن هذا مستحيل. - لماذا؟ - لأن الفيكونت لا يزال في النادي.
فقالت له بلهجة السيادة: اذهب إلى النادي وادعه إلى الحضور.
ولما رأته يتردد في الامتثال قالت له ببرود: اصغ إلي واعلم أنك إذا أحببت البقاء في عملت فما عليك إلا تنفيذ أمري، وإذا أبيت فإن الفيكونت يطردك غدا.
فخاف البواب شر هذا الوعيد، وتبين من لهجتها صدقها في تنفيذه، فلبس ملابسه مسرعا ثم دخل بها إلى إحدى القاعات بعد أن أنارها وخرج ليدعو مولاه.
ولم يطل انتظار فاسيليكا، فإنه بعد نصف ساعة أقبل كارل فحسب في بدء الأمر أنه يرى خادمة الكونتس، ولكنها لم تلبث أن رفعت النقاب حتى عرفها فقال لها منذهلا: من أرى! هذا أنت؟ - نعم أقفل الباب وتعال نتحدث. - يظهر أنك مضطربة. - ذلك لأني رأيت روكامبول.
فاصفر وجه كارل وقال: أنت رأيتيه؟ - نعم. - متى؟ - في هذه الليلة. - إذن لقد هرب من السجن؟ - منذ صباح أمس. - أين رأيتيه؟ - في منزل الكونتس أرتوف.
فتراجع كارل منذعرا إلى الوراء؛ لأن تيميلون كان قد أخبره بالحوادث التي جرت بين باكارا وروكامبول وقال: كيف يجتمعان؟ - ذلك لأنهما متحالفان. - أواثقة مما تقولين؟ - كل الثقة، وأزيدك أنهما متحالفان عليك، وأنا لا أعلم إلى الآن غايتك السرية التي تسعى إليها، ولكني أتيتك لأقترح عليك محالفة مثل تلك المحالفة، فإذا ساعدتني في انتقامي ساعدتك في أغراضك التي تسعى إليها، فواحدة بواحدة.
فنظر إليها كارل نظرة المشكك في أمرها وقال: سيدتي ماذا تقولين؟ - أقول: إن الوقت حرج ولولا ذلك لما جئتك بعد منتصف الليل بل تأخرت إلى الغد. - ليكن ما تريدين فإني أساعدك. - إذن يجب في صباح غد أن تخرج إيفان من عند الطبيب لامبرت. - لا أرى حاجة لذلك، فإن الطبيب واثق كل الثقة من جنونه. - ولكنهم إذا جاءوه بمدلين - وهي عندهم الآن - فماذا يقول الطبيب؟
فاضطرب كارل عند ذكر مدلين، واصفر وجهه اصفرارا شديدا لم يخف على فاسيليكا، فقالت له بلهجة الفرح: إنك تحبها دون شك؟
ولم تدع له وقتا للإجابة فقالت له: طب نفسا فإني سأساعدك في كل ما تريد وستنال بسببي كل أمانيك، فإني شديدة الظمأ إلى الانتقام.
8
أما إيفان فإنه كان لا يزال في سجن الطبيب، وقد احتج احتجاجا شديدا على سجنه وحاول مرارا أن يثبت للطبيب أنه عاقل وأن مدلين موجودة حقيقة، ولكن الطبيب كان يبتسم له عند كل احتجاج ويأمر رجاله بصب الماء البارد عليه.
وهذا الماء البارد في الشتاء أشد ما يلقاه الذين يقضى عليهم بالمعالجة به، فكان المجانين حقيقة يهدأون حين إنذارهم بهذا العلاج ومن كان عاقلا يضطر إلى التسليم بجنونه الوهمي لخوفه من هذا الماء.
وقد كان إيفان قويا شديدا، فكان في بدء أمره في عراك دائم مع أولئك الممرضين، ولكنه لم يلبث أن يغلبوه بعد تلك المقاومة بما يرد إليهم من النجدات، فيكبلونه بالقيود ويعالجونه بذلك الماء البارد حتى رأى أخيرا أن الجنون خير من العقل، ورضي أن يكون مجنونا إلى أن يقدر له الله الخلاص من هذا العذاب.
ولكنه كان يفتكر ليله ونهاره بالفرار على استحالته من ذلك المنزل الحصين، وتناوب الحراس فيه إلى أن خطر له خاطر بسيط وهو أن يتغلب على حارسه بعد انتصاف الليل فيسد فمه ويلبس ملابسه، ويقف مكانه في موقفه إلى أن يحضر الذي يأتي دوره بعده بالحراسة فيوقفه في موقفه ويخرج آمنا.
ففي الليلة نفسها التي خرجت فيها فاسيليكا من منزل باكارا إلى منزل كارل كان إيفان يتأهب لتنفيذ هذه الخطة التي رسمها.
وكان الممرض الذي يحرسه نائما معه في غرفة واحدة، وقد خدعه إيفان بمظاهر سكينته حين عول على الفرار فأصبح واثقا منه بحيث بات ينام على كرسيه بقرب سريره دون أن يخشى شره.
وفي ذلك الوقت كان الحارس نائما، فنزل إيفان من سريره وسار رويدا إلى غرفة المائدة، فأضاء ورأى صحون الطعام الفارغة لا تزال فوقها وفيها سكين من سكاكين المائدة غير حاد النصل، ولكن من كان قوي الساعد يستطيع إغمادها في عنق خصمه.
فقبض عليها وعاد إلى الممرض النائم فأيقظه ففتح المسكين عينيه، وما لبث أن رأى إيفان ينذره بسكينة حتى هلع قلبه من الرعب.
أما إيفان قال له: احذر أن تفوه بكلمة أو أقتلك في الحال شر قتل.
فسكت الممرض ولم يفه بحرف، فأخذ إيفان منديله وربط به فمه ثم أخذ سجادة كانت في أرض الغرفة فقطعها أربع قطع طويلة وربط بها يديه ورجليه دون أن يبدي هذا الممرض أقل شيء يدل على الاعتراض؛ لأنه كان يفضل خسارة منصبه على خسارة حياته وقد علمه الاختبار وجوب التحذر من المجانين؛ لأنهم لا يمزحون.
أما إيفان فإنه لبس ملابس الممرض وبحث في جيبه عن مفاتيح الغرف والأبواب فوجدها مربوطة بحلقة، ثم خرج بعد أن أنذر هذا الممرض الأخير إنذار آخر.
وجعل يسير من غرفة إلى غرفة ومن رواق إلى رواق حتى وصل إلى الحديقة، فوجد هناك حارسا مستندا إلى شجرة وهو نائم فخفف وطأة مشيه حتى وصل إلى باب الحديقة الخارجي، فأخذ من جيبه تلك المفاتيح وجعل يجربها في القفل واحدا واحدا إلى أن عثر بمفتاح ذلك الباب.
وفيما هو يفتحه إذ استيقظ الحارس من رقاده وصاح به يقول: من أنت؟
فتكلف إيفان تقليد صوت الممرض جهد الطاقة وقال: ألم تعرفني أنا ممرض الروسي وقد أرسلني الطبيب لإحضار دواء من الصيدلية.
وكأنما هذا الحارس قد ارتاب بحديثه فدنا منه كي يتحقق أمره، ولكن إيفان فتح الباب مسرعا وأركن إلى الفرار فانطلق الحارس في أثره.
وقد أيقن إيفان من النجاة ولكنه لم يعد بضع خطوات حتى سمع صوتا من نافذة المنزل ينادي رجلا كان في الشارع فيقول: اقبض عليه.
فأسرع هذا الرجل وانقض على إيفان انقضاض الصاعقة، وقبل أن يتمكن من الإفلات منه أقبل الحارس وساعد الرجل في القبض عليه، ثم علا الصياح في المنزل واستيقظ النيام فأسرعوا بجملتهم إلى إيفان فأعادوه إلى حيث كان، وكبلوه بالقيود حذرا عليه من الفرار، وقد استيقظ الطبيب ولما رآه قال: لولا تهاونكم في صب الماء البارد عليه لما عادت إليه أعراض الجنون بهذه الشدة.
فتمزق قلب إيفان من القهر وقال: إنك لست طبيبا بل إنك غر جاهل وإنك لا تعرف من الطب إلا بقدر ما أعرف أنا من البرازيلية، وإنك أقرب إلى الحيوان منك إلى الإنسان.
فصاح الطبيب بأعوانه: أسرعوا بالماء البارد، خذوه إلى المغطس ...
فحملوه بالرغم عنه وهو يشتم أقبح شتم فوضعوه في المغطس، وفتحوا الحنفية، فجعل الماء البارد ينحدر على رأسه فيزيده لوعة وهما حتى تلاشت قواه وانقطع عن الصياح فحملوه إلى حيث نام نوم القانط وهو يتمنى الموت في كل حين.
9
ونام إيفان بعدما لقيه من العناء نوما متصلا ثماني ساعات، فلما استفاق وجد أن أشعة الشمس قد ملأت غرفته، ورأى أنهم عينوا لحراسته رجلا شديدا لا يستطيع التغلب عليه.
فنظر إليه إيفان نظرا ساهيا فدنا منه الحارس وقال له بلطف: كيف أنت اليوم؟ - إني على شر حال أكاد أختنق فافتح هذه النوافذ.
فامتثل الحارس، ودنا إيفان من النافذة المشرفة على الحديقة، فلم يكد يجيل نظره فيها حتى جعل يضطرب وصاح صيحة دهش ذلك أنه رأى رجلين وامرأة يسيرون في الحديقة ويتحدثون.
فكان أحد الرجلين الطبيب لامبرت وثانيهما الفيكونت كارل دي مورليكس، أما المرأة فكانت الكونتس فاسيليكا ابنة عمه.
فمد يديه إلى كارل وابنة عمه وكلمها بعينيه بلهجة المتوسل؛ لأن الاضطراب حبس لسانه عن الكلام وقد ظن أن الله أرسل إليه ابنة عمه لإنقاذه.
أما كارل فإنه كان قد جاء مع فاسيليكا إلى منزل الطبيب، فأخبره أنها ابنة عم إيفان فسألته عن حاله فقال لها الطبيب: إنه قد بلغ أشد أطوار الجنون ليلة أمس، ثم حكى لها عما جرى له أمس حين محاولته الفرار، وأنه يجب أن يستمر على معالجته مدة طويلة.
فلما فرغ من حديثه قالت له فاسيليكا: لقد قال لك حضرة الفيكونت: إني ابنة عم المسكين وأزيدك أن أباه قد جعلني ولية أمره في غربته فأنا قادمة لإخراجه.
فارتعد الطبيب؛ لأنه كان يرجو أن يكسب مالا وفيرا في حبسه إيفان، وقال كارل دون أن يحفل بما رآه من امتعاضه: إن الكونتس مسافرة في مساء اليوم إلى بطرسبرج وقد عهد إليها أن تصحب معها ابن عمها إلى روسيا.
ولما كان كارل هو الذي أدخل إيفان إلى منزل لامبرت لم يستطع هذا الطبيب اعتراضه على إخراجه، فانحنى أمامه إشارة إلى الامتثال.
فسألته الكونتس إذا كان يمكن مشاهدة إيفان الآن قال: نعم، وسأدعوه من غرفته.
وبينما كانت فاسيليكا تسرح نظرها تطلعت إلى النافذة المشرف منها إيفان، فلما وقع نظرها على نظره حلت عقدة لسانه وناداها باسمها نداء المستنجد المستغيث.
فابتسمت وقالت: طب نفسا يا ابن عمي فإني قادمة لنجدتك.
ثم صعدت إلى غرفة الطبيب وبعد دقيقتين كان إيفان قد حضر فجعل يعانقها وينظر إلى الطبيب وكارل نظرات الحقد الهائل ويقول: إن هذين الشقيين قد دعياني مجنونا. - لا بأس يا ابن العم فإنهما كانا واهمين. - أترين بي شيئا من علائم الجنون؟ - على الإطلاق. - إذن هذا الطبيب حمار بصورة إنسان.
ثم نظر إليه نظرة هائلة وهم أن يهجم عليه.
فسكتت فاسيليكا ثائرة وقالت له: كفاك. - لا أكتفي ولا أطمئن إلا إذا أخبرني هذان الرجلان عن السبب الذي حملاني من أجله ما لقيته من العناء. - أنا أوضح لك ما جرى وأكفل إنك تصفح عنهما. - كيف ذلك؟ - اصغ إلي وأجبني على أسئلتي، أين لقيت الفيكونت كارل دي مورليكس أول مرة؟ - في إحدى الفنادق في روسيا. - ألم يكن هذا اللقاء حين محاولتك قتل السائق؟ - لا أنكر عزمي على قتله في ذلك العهد فإنه أهان مدلين. - إن اسم هذه الفتاة كان علة جميع ما لقيته. - كيف ذلك؟ - ألم يكن البرنس ماروبولوف مع الفيكونت مورليكس حين لقيته في ذلك الفندق؟ - نعم ... - أليس هو الذي ذهب بك إلى قصره؟ - نعم ... - إذن فاعلم إن هذا البرنس كان ممازحا باردا ثقيلا، فإنه هو الذي أقنع دي مورليكس أن مدلين غير موجودة إلا في مخيلتك وأنك مجنون. - يا له من شقي. - فجاء بك مورليكس إلى هنا لاعتقاده أن مدلين لا أثر لها في الوجود.
وقال الطبيب: لا سيما وإنك كلما رأيت امرأة تحسب أنها مدلين.
فرد إيفان: إني إذا عذرت المسيو دي مورليكس في خطأه وانخداعه، فكيف أعذر هذا الرجل وهو من الأطباء بمعالجة المجانين.
فأجاب الطبيب: أرجوك المعذرة يا سيدي فإن الطب لم يصل بعد إلى الجزم في أمراض الجنون.
وقالت الكونتس: لا بأس يا ابن عمي فإن الخطأ قد حث وكلا الرجلين معذور فودع الطبيب وهلم معي فإني ما أتيت إلا لأجلك.
فصافح إيفان الرجلين وقد انفرجت كربته ثم ذهب إلى غرفته فلبس ملابسه وعاد فخرج مع فاسيليكا من المنزل الرهيب.
وكانت مركبتها تنتظرها فركب فيها الاثنان وانطلقت بهما تنهب الأرض.
أما الطبيب فإنه جعل يودع تلك المركبة بالنظر ، ويقول: لا حظ لي مع أولئك الروسيين، فلو بقي هذا الرجل عندي لكنت أثريت منه.
ولما احتجب عنه عاد إلى أعماله يمشي مشية الحزين.
ولكنه لم يكد يستقر في غرفته حتى دخل إليه الخادم برقعتين من رقاع الزيارة، فوجد مكتوبا على إحداهما الكونتس أرتوف وعلى الثانية الماجور أفاتار ففرح بهما وقال: هو ذا الدهر قد عاد يبتسم لي مع هؤلاء الروس.
10
بكرت باكارا في ذاك اليوم بنهوضها من فراشها ففتحت نافذة غرفتها تجديدا لهوائها، ورأت فاسيليكا قد بكرت في النهوض وهي تتنزه في الحديقة وعليها ملابس الركوب، ثم رأت أحد الخدم جاءها وأشار إليها إشارة تدل على أن أوامرها قد نفذت، فعلمت من ملابسها أنها تريد النزهة على الجواد.
ثم خرجت فاسيليكا وعادت باكارا إلى غرفتها فلبست ملابس الصباح، وخرجت إلى غرفة الجلوس وجعلت تطالع تقرير روكامبول.
وبعد حين دخلت عليها خادمة غرفتها تستأذن للماجور أفاتار بالدخول إليها فقالت: أدخليه في الحال فإني بانتظاره.
ثم دخل روكامبول وعليه علائم الاضطراب وقال: أتعلمين ما حدث يا سيدتي، فإن الكونتس فاسيليكا خرجت أمس من قصرك في الساعة الثانية بعد منتصف الليل. - أخرجت من المنزل؟ - نعم وكانت متنكرة بزي خادمتها. - وما كان قصدها؟ - لقد تبعها أمس أحد رجالي المدعو نويل وكنت عهدت إليه مراقبة منزل مورليكس. - إلى أين كانت ذاهبة؟ - إلى كارل مورليكس فأقامت معه أكثر من ساعة. - إن هذا غريب.
ثم نادت خادمتها وقالت لها: ادعي البواب.
فلما جاء أخبرها أن خادمة الكونتس خرجت حقيقة بعد منتصف وعادت إلى روكامبول وسألته: أهذا كل شيء؟ - كلا فإن الكونتس قد خرجت من هنا أيضا منذ ساعة. - نعم لقد كانت راكبة جوادا يتبعها خادمها. - إنها ذهبت على جوادها إلى الشانزليزه حيث كانت مركبة تنتظرها. - ألعلها كانت مركبة كارل؟ - دون شك وكان هو فيها، فنزلت فاسيليكا عن جوادها فأعطته لخادمها، ثم صعدت إلى المركبة بجانب كارل الذي قال للسائق: اذهب بنا إلى أوتيال. - ما المراد من ذهابهما إلى هذا الشارع؟ - ألا تعلمين أن إيفان مسجون في منزل الطبيب المقيم في ذلك الشارع؟ - وماذا يريدان منه بعد سجنه؟ - إنهما يريدان اختطافه حذرا منه والله يعلم ما تفعل أيديهما الأثيمة فيه.
فاضطربت باكارا وقرعت جرسا كبيرا قرعا عنيفا، فأسرع إليها الخادم وقالت له: قل للسائق أن يسرع بإعداد المركبة، وبعد حين كانا في منزل الطبيب.
أما الطبيب فإنه حين قرأ اسم الكونتس أرتوف والماجور، وعلم أنهما روسيان عاد إليه بعض الرجاء وأسرع لاستقبالهما فافتتح روكامبول الحديث معه فقال: لقد كان عندك مجنون روسي يدعى إيفان بونتيف، وكان جنونه منحصرا بذكر فتاة تدعى مدلين. - نعم هو بعينه وقد أحضرته إلى منزلي منذ ثلاثة أيام، وفيما أنا قادم به رأى في مركبة فتاة من شهيرات بنات الهوى، فوثب من مركبته إليها وجعل يناديها باسم مدلين. - لقد عرفت هذه الحكاية ولكني لم أعلم اسم تلك الفتاة. - ولكنها مشهورة يا سيدي وهي تدعى كلوريند. - لا أنكر ذلك غير أني كنت غائبا عن باريس أعواما طويلة، ولم تكن هذه الفتاة مشهورة حين إقامتي فيها، أتعلم أين تقيم؟ - كلا، ولكن جميع الناس في باريس يعلمون.
ولم يخطر لباكارا في بال السبب في اهتمام روكامبول بتلك الفتاة فقالت له: إنما أتينا للبحث عن إيفان.
فقال روكامبول: لقد أصبت.
ثم سأل الطبيب: ألا يمكن أن نرى إيفان؟ - ذلك مستحيل يا سيدي. - لماذا؟ - لأنه لم يعد في منزلي.
فاصفر وجه باكارا وقالت: كيف ذلك ومتى خرج؟ - في صباح اليوم جاءت ابنة عمه وطلبت إخراجه فذهبت به.
ونظر روكامبول إلى باكارا نظرة مآلها أنه لا فائدة من إخبار الطبيب بأنه كان آلة لإجراء هذه الدسيسة السافلة.
ثم ودعاه وخرجا فشيعهما إلى المركبة وهو لا يدرك شيئا من أسرار اضطرابهما.
أما روكامبول فكان مقطب الجبين تبدو بين ثنايا وجهه آثار الهم والتفكير على غير عادته، فنظرت إليه باكارا وقالت: ماذا نعمل وإلى أين ذهبت به هذه الماكرة؟ - إنها لم تذهب به إليك دون شك وأنا لا أخشى كارل ولا تيميلون، ولا سواهما ولكني أخشى تلك الغادة.
فاتقدت عينا باكارا وقالت: أما أنا فلا أخشاها وسأتفرغ لها. - إذن هلم بنا إلى العمل.
11
ولنعد الآن إلى إيفان فإن فاسيليكا وكارل خرجا به من منزل الطبيب إلى المركبة التي كانت تنتظرهما، فركب معهما وسارت بهم تنهب الأرض.
وكانت علائم السرور بادية على إيفان لتنشقه نسيم الحرية وجعل ينظر إلى ابنة عمه نظرات ملؤها الشكر والامتنان.
وسارت بهم المركبة تجتاز شوارع باريس الكبرى، فتتمثل تلك العاصمة لإيفان بملء عظمتها وبقيت نفسه سارحة في تلك المناظر البديعة حتى جرت المركبة شوطا بعيدا، واحتجبت تلك المناظر فكان أول كلمة نطق بها: مدلين.
فابتسمت فاسيليكا وقالت: أتحبها كثيرا؟ - إني أعبدها عبادة وأستعذب الموت في هواها. - كلا، إنك لا تموت فإنها في باريس وسوف تجدها. - أتعلمين أين هي؟
فتبسمت له أيضا ابتسام الواثق وقالت: قلت لك سوف نجدها.
فأخذ إيفان يدها وقبلها شاكرا ثم قال: إلى أين أنت ذاهبة بي؟ - إلى منزلي ... - أأنت مقيمة في باريس؟ - إني مقيمة فيها منذ ثمانية أيام، ألم أكتب لك أني سأبرح بطرسبرج إلى باريس؟ - نعم ... - ذلك كي أسبقك إلى هذه العاصمة فأحميك وأساعدك على إيجاد مدلين، ولكني لسوء الحظ وصلت متأخرة قليلا فعلمت نتيجة ذلك المزاح البارد الذي أجراه البرنس ماروبولوف فألقاك في سجن المجانين.
ولم يتمالك إيفان عن أن ينظر نظرة حقد إلى كارل الذي لم يفه بكلمة حتى الآن.
وعادت فاسيليكا إلى إتمام حديثها فقالت: إن لي قصرا في هذا الشارع وسأقدمه هدية لك ولمدلين لحين زواجكما؛ لأني أحب أن تكونا سعيدين.
فصدق إيفان لبساطة قلبه قول ابنة عمه وقبل يدها مرة ثانية.
وكانت المركبة قد اجتازت عند ذلك محل البوربون وبلغت إلى شارع كاسيت فقالت فاسيليكا: لقد وصلنا.
وكان شارع كاسيت يشبه الأديرة فإن كل منزل يشبه صومعة الرهبان، فدخلت المركبة تحت قبة عالية.
وكانت مناظر تلك البيوت التي تمر بها تشبه القبور فانقبض صدر إيفان.
وما زالت المركبة تسير في ذلك الشارع حتى وقفت عند باب منزل قديم، ففتح بابه للحال ونزلت فاسيليكا وقد أخذت إيفان بيده وقالت له: ادخل معي.
فامتثل إيفان وهو يشعر برعب شديد وبقي كارل في المركبة، ولما دخلا أقفل الباب من ورائهما ورجعت المركبة بمورليكس.
وكانت نوافذ هذا المنزل مقفلة مما يدل على أنه غير مأهول، ولم يكن فيه بواب كأنما يد خيالية فتحت الباب حين وصول المركبة.
فسارت فاسيليكا مع ابن عمها في رواق طويل مظلم حتى انتهت إلى بابه، فنادت بريتو.
وعند ذلك أسرع بريتو وهو الخادم الإيطالي الذي صحب إيفان، فوقف أمام إيفان في موقف الاحترام.
فلما رآه غضب غضبا شديدا حتى هم أن يضربه وقال له: إنك علة نكبتي أيها الشقي.
فقالت له فاسيليكا: اصفح عنه يا ابن عمي، فإنه لم يكن مخطئا إلى الحد الذي تتصوره. - كيف ذلك ألم يستطع هذا التعس أن يشهد أني غير مجنون؟ - نعم، ولكنه فقير وقد أغراه البرنس ماروبولوف بالمال الكثير فاضطر إلى السكوت.
فلم يقبل إيفان العذر وضم قبضته متهددا وهو يقول: سأميتك جلدا بالسياط أيها الشقي. - لا تسئ إليه لأننا محتاجون إلى خدمته.
أما بريتو فلم يظهر علائم الخوف من إنذار إيفان، ففتح مصراعي باب كبير أمام فاسيليكا، فظهرت قاعة متسعة تشرف نوافذها على حديقة باسقة الأشجار.
فأجلست فاسيليكا إيفان قرب نافذة مفتوحة وجلست بجانبه تحادثه قائلة: ثق يا ابن عمي العزيز فإني سأجد مدلين قبل أن ينقضي يوم غد. - إن هذا اليوم بمثابة دهر ولا طاقة لي على الصبر. - ولكن يجب الانتظار وسنجد طريقة لإنقاص ساعات هذا اليوم الطويل وذلك أننا نبدأ بالغداء.
وأشارت إلى بريتو، فانصرف وعاد بعد دقيقة بمائدة صغيرة عليها فاخر الطعام.
وكان الجوع قد بلغ مبلغا شديدا من إيفان، فإن سلطانه لا يرحم أحدا حتى العشاق، فجلس حول تلك المائدة يأكل بشهية عظيمة، ولا سيما وأن فاسيليكا كانت لا تفتر عن محادثته بشأن مدلين، وهي في خلال ذلك تملأ كأسه كلما فرغ وهو يشربه كلما امتلأ، وكلما شرب زاد شوقه إلى الحديث عن مدلين.
وفيما هو على ذلك شعر فجأة أن الأرض تدور به، ثم أحس بنعاس شديد وجعل يقاومه بعنف دون أن يستطيع التغلب عليه.
فقالت له فاسيليكا: أراك بحاجة شديدة إلى النوم. - نعم فإن معركة الأمس قد أنهكت قواي ولو تعلمين كيف كان يعاملني هذا الطبيب لأشفقت علي. - لا بأس فقد نجوت بحمد الله.
فأخذ إيفان سيكارة وأشعلها راجيا أن يذهب ما به من النعاس بالتدخين، ولكنه ما لبث دقيقة حتى أطبقت عيناه وأصبح كالأموات على كرسيه وسقطت سيكارته من فمه.
وعند ذلك قامت فاسيليكا فنادت خادمها بريتو، وعيناها متقدتان بنار الحقد والانتقام، أقبل قالت له: هو ذا أسيرك وأنت المسئول عنه بعد الآن.
ثم مشت فاسيليكا إلى الحائط فضغطت فيه على زر غير منظور وعند ذلك جعلت الأرض التي عليها المائدة وإيفان وكرسيه تسقط سقوطا متتابعا، وقد انفصلت عن القاعة وإيفان يسقط معها إلى أعماق مجهولة.
12
وعندما عادت باكارا إلى منزلها دهشت دهشة عظيمة، إذ أخبرها الخدم أن الكونتس فاسيليكا عادت يصحبها شاب حسن الملابس، وهي مختلية به في غرفتها.
وكان روكامبول يصحب باكارا، فجعل كل منهما ينظر إلى الآخر نظرة الإعجاب لاعتقادهما أن هذا الشاب إيفان، فقالت باكارا: ماذا تريد أن تصنع به ولماذا جاءت به إلى منزلي؟
فأجاب روكامبول: لا بد أن يكون لها غاية هائلة يجب أن نعرفها.
وفيما هما على ذلك جاءت خادمة فاسيليكا، فقالت لباكارا: إن سيدتي الكونتس ترجوك أن تصعدي إلى غرفتها.
فأشارت لها باكارا أنها ذاهبة إليها، ولما انصرفت الخادمة قالت لروكامبول: أعرفت إيفان بونتيف؟ - كلا فما اتفق أن رأيته. - ولا أنا أيضا، مع أني أقمت في بطرسبرج عدة أعوام فما لقيته في قاعة من القاعات، والآن اصغ إلي، إن قلبي يحدثني بوجود مكيدة، وأحب أن تسمع حديثي مع هذه المرأة، فاخرج من هذا الباب تجد سلما من الرخام على يمينك، فاصعد عليها تجد عند آخرها غرفة وهي مجاورة لغرفة فاسيليكا من الجهة الأخرى لا يفصل بينهما غير باب رقيق من الخشب، فإذا وقفت على هذا الباب وأصغيت سمعت كل شيء.
فامتثل روكامبول وتسلق ذلك السلم وخرجت هي من باب آخر حتى وصلت إلى غرفة فاسيليكا، فرأتها جالسة قرب المستوقد ورأت بقربها شابا لابسا أفخر الملابس الدالة على البسطة والجاه.
فاستقبلتها فاسيليكا بملء البشاشة وقالت: اسمحي لي أن أقدم لك ابن عمي المسيو إيفان بونتيف.
فحيته باكارا ورد لها التحية بشكل فهمت منه باكارا أنه غير عريق بعادات الأشراف، وقد رأت أنه لابس ثياب الأعيان، غير أنها لاحظت من إشاراته وملامحه أنه ليس منهم في شيء.
وعادت فاسيليكا إلى الحديث فقالت: إني اصطلحت مع ابن عمي وأنقذته من ذلك المنزل الذي لم يقده إليه غير مزاح البرنس مازوبولوف وأحد أصحابه الكونت كوروف الذي لا يزال طامعا بزواجي، والذي يظهر أن مدلين موجودة حقيقة، وما زالت موجودة فلا سبيل إلى اتهام ابن عمي بالجنون.
فأجابت باكارا: هذا أكيد، وفوق ذلك فإني لا أجد فيه إلا ما يدل على العقل الراجح.
فانحنى الرجل شاكرا فلاحظت باكارا خطأ باتباع العادات.
ثم قالت فاسيليكا: إني أسألك يا سيدتي أن تأذني لي بضيافة ابن عمي إلى أن نجد مدلين.
فأجابتها باكارا بلطف ودار الحديث بينهم، فكانت باكارا تفحص هذا الرجل فحص الخبير، فلا تجد في هيئته وأخلاقه ما يدعو مثل فاسيليكا إلى الهيام به، ثم قالت لها على سبيل العرض: إن زوجي الكونت أرتوف سيعود غدا من روسيا.
فاضطربت فاسيليكا وقالت: الكونت أرتوف يصل غدا؟ - نعم وربما وصل هذا المساء.
فامتعض وجه فاسيليكا، بالرغم مما بذلته من الجهد في إخفاء اضطرابها؛ لأنها خشيت أن يكون للكونت معرفة بإيفان، فيفتضح أمرها وتفسد حيلتها.
وما خفي هذا الاضطراب وأسبابه عن باكارا، فحادثتها هنيهة ثم ودعتها وخرجت بعد أن جاملت ذلك الرجل ودعته إلى مناولة الطعام.
وخرجت باكارا مسرعة إلى المكان الذي كان مختبئا فيه روكامبول، فوضع إصبعه على شفتيه وأشار لها أن تدنو من الباب فتسمع.
فأسرعت باكارا مسرعة إلى الباب فسمعت كل ما دار من الحديث بين فاسيليكا، وهذا الرجل الذي ادعت أنه ابن عمها.
وكانا يتكلمان باللغة الروسية، غير أن باكارا كانت تعرف هذه اللغة معرفة تامة بعد إقامتها مدة طويلة مع زوجها في روسيا، فلم يفتها من حديثهما شيء.
وعند ذلك سار بها روكامبول إلى آخر الغرفة، وقال لها همسا: ألم تقرأي بين الأوراق التي قدمتها لك كتابا من مدلين إلى أختها تقول لها فيه: إنها سمعت إيفان يصرح بعدم حبه إياها، وإنه يحاول الاقتران بفاسيليكا؟ - نعم قرأت هذا الكتاب. - إذن فاعلمي أن هذا الصوت الذي سمعته مدلين لم يكن صوت إيفان نفسه، بل كان صوت خادم استخدمه والد إيفان لما وجده من التشابه بين صوته وصوت ولده. - أهو ذلك الخادم الذي أهان مدلين في فندق ساوا؟ - هو بعينه وهو الآن يحاول تمثيل دور إيفان مرة أخرى، ولكنه يمثله الآن بأمر فاسيليكا لا بأمر والده.
فابتسمت باكارا ابتساما يدل على وثوقها من مقدرتها، وقال: إن هذا التمثيل لن يطول.
وفي المساء اجتمع على الطعام فاسيليكا وباكارا وذلك الرجل، فكانت باكارا تظهر أنها منخدعة به وأنها معتقدة كل الاعتقاد أنه إيفان.
فلما فرغوا من الطعام قالت له باكارا: إن ابنة عمك كسلى، تحب الراحة والتدخين بعد الطعام، فهل تريد أن تصحبني إلى الحديقة، فنتنزه فيها؟ - حبا وكرامة.
وتأبط ذراعها وخرج بها إلى الحديقة.
وكان القمر مشرقا فمشت به باكارا وهي تشاغله بالحديث، حتى انتهت إلى غرفة كان فيها مصباح يضيء، فقالت له: أتريد أن ترى مكتبتي التي أنشأتها في هذه الغرفة؟ - إني أرى فيها مصباحا فهل يوجد فيها أحد؟ - ربما كان فيها وصيفتي.
وسار الاثنان حتى وصلا إليها ففتحت بابها وأوعزت إليه أن يدخل ففعل ودخلت باكارا في أثره فأغلق الباب.
ولكنه لم يسر ثلاث خطوات حتى توقف فجأة، إذ لقي أمامه خادمين ضخمين، وبيد كل منهما كرباج هائل يعده الروسيون خاصة للجلد.
13
وكان هذان الرجلان اللذان رآهما ضخمي الجثة وفوق ذلك فقد كانت تبدو على وجهيهما علائم الغلظة والبعد عن الرفق.
ولما دخل هذا الذي يدعي أنه إيفان وأغلقت باكارا الباب وراءه خاطبته كما يخاطب الأسياد خدام أراضيهم في بلاد الروس، فقالت : أيها العبد إنك روسي، ومن كان روسيا فهو يعرف دون شك كيف يعاقب من يتجاسر على تزوير اسم سواه.
وحاول الرجل الإنكار قائلا: سيدتي ماذا تقولين؟ إني لا أفهم شيئا مما تعنين. - ماذا تدعى؟ - إيفان بونتيف. - إنك منافق كذاب. - سيدتي؟ - نعم أنت كذاب؛ لأنك تدعى بطرس السائق.
فاصفر بطرس اصفرارا شديدا حين رأى أنها تعرف اسمه وجعل يضطرب دون أن يجيب. - أيها العبد إنك ستعاقب عقابا شديدا عما جنيت.
ثم أشارت بيدها إلى الرجلين، فانقضا عليه انقضاض الصاعقة وألقياه إلى الأرض.
فجعل بطرس يصيح مستغيثا فقالت باكارا للرجلين: إذا توالى صياحه فاقتلاه!
فلما رأى بطرس أن الإنكار لا يجديه جعل يستعطفها قائلا: رحماك يا سيدتي اشفقي علي.
فلم تجبه باكارا. - اصفحي عني أخبرك بكل شيء. - ماذا تعني بكل شيء؟ - أعني أني أخبرك لماذا تسميت باسم إيفان بونتيف.
فلم تأمره باكارا بالكلام، وبدأ الرجلان بنزع ثيابه كي تقع السياط على جلده. - سيدتي إن الكونتس فاسيليكا أمرتني أن أفعل ما فعلت.
ولم تحفل به باكارا أيضا.
فعاد إلى حديثه وقال: إنهم حبسوني منذ ثمانية أيام، وهم يعلمونني كل يوم أن أقلد حركات الأعيان، كي أستطيع أن أقلد إيفان عندما أسمى باسمه. - لماذا عينوك لهذه المهمة؟ - لأن صوتي يشبه صوته أتم الشبه.
وبعد أن نزع الرجلان ثيابه العليا نزعا قميصه ولكنهما لم يضرباه؛ لأنهما كانا ينتظران إشارة من باكارا.
غير أن باكارا أحبت الصبر إلى أن تتم استنطاقه، فقالت له: أتعلم أين هو إيفان الآن؟ - كلا يا سيدتي! - احذر فقد أعفو عنك إذا قلت لي: أين هو؟ - أقسم بالله يا سيدتي أني لا أعلم شيئا؛ لأن الكونتس فاسيليكا لن تكن تطلعني على أسرارها. - لم يكن ذلك إلا لسوء حظك؛ لأنك لو كنت مطلعا على أسرارها لنجوت من العذاب.
ثم قالت للرجلين بعظمة: خمسون جلدة فقط.
وفتحت الباب وخرجت.
فلم تمش بضع خطوات حتى رأت روكامبول قد خرج من بين الشجر، فقالت له: ألعلك عرفت شيئا؟ - لم أعلم غير أمر واحد وهو أن جواسيسي شاهدوا كارل خارجا بمركبته من شارع كاسيت. - ليس هذا بالشيء القليل. - وقد تبعه الرقيب إلى محل الصليب الأحمر، وكان الرقيب لسوء الحظ تبعه بمركبته أيضا، فازدحمت المركبات كما يتفق كثيرا بحيث احتجبت مركبة كارل عنه، ولكنه رأى في تلك المركبة كارل وفاسيليكا وإيفان.
وكان هذا الرقيب نويل، فلما رأى أن المركبة قد احتجبت عنه ترك مركبته، وأقام يبحث عنهم ساعتين فلم يهتد إلى أثرهم إلى أن رأى مركبتهم عائدة من شارع كاسيت، ولكنه لم ير فيها غير كارل. - إذن يجب غدا أن نبحث في شارع كاسيت.
فارتعد روكامبول وقد سمع صراخ رجل يتألم، وسألها: ما هذا الصوت؟ - إنه صوت بطرس السائق. - لقد أحسنت في تأديبه والآن أتأمرينني بشيء. - كلا لست محتاجة إليك في هذا المساء وسنجتمع غدا، إنما قل لي قبل ذهابك أرأيت تلك الفتاة التي تشبه مدلين؟ - سأجتمع بها في الساعة السادسة فإنها تنتظرني.
ثم تركها وانصرف، ولكنه لم يخرج من الباب العام، بل ذهب إلى أقصى الحديقة، ففتح بابا فيها كانت باكارا أعطته مفتاحه، وخرج منه إلى الشارع. •••
أما فاسيليكا فكانت مضطجعة على مقعد طويل تدخن سيكارتها، فيعقد دخانها ضبابا كثيفا في سماء الغرفة وهي تنظر إليه آمنة مطمئنة ساكنة كأنما فؤادها خال من كل شاغل.
ثم سمعت وقع أقدام فنظرت فإذا باكارا داخلة إليها وهي تقول: إن البرد شديد فلم أستطع البقاء في الحديقة. - أين إيفان؟ - تركته يدخن في الحديقة.
فاطمأنت فاسيليكا وأشعلت سيكارة أخرى.
أما باكارا فإنها جلست قربها وجعلت تحادثها قائلة لها: أحقيقة أنك تحبين ابن عمك؟ - أحبه حبا لا حد لوصفه. - وكيف رجعت عن عدم الزواج به؟ - لم أجد بدا من ذلك؛ لأنه لا يحبني.
ثم تنهدت وقالت: مسكين فلقد بلغ به سوء الحظ أنه شغف بمعلمة كانت من نساء أمه.
فابتسمت باكارا وقالت: إني أعجب كيف أن إيفان يشعل بفؤادك مثل هذا الغرام؟ - لماذا ألا ترينه جميلا؟ - إن الأذواق تختلف في الجمال. - ولكنه شجاع باسل.
وكانت قاعدة المائدة التي كانت باكارا مقيمة فيها مع فاسيليكا، تشرف على الحديقة وكانت إحدى نوافذها مفتوحة، فسمعت فاسيليكا صياحا وقالت: ما هذا الصياح؟ - ماذا تسمعين؟ - أسمع صياح رجل يستغيث. - وأنا أسمع أيضا ما تسمعين. - أليس هذا الصياح من الحديقة؟ - هو ما تقولين.
فوقفت فاسيليكا متنصتة وقالت: إني أعجب كيف تسمعين أصوات الاستغاثة تخرج من حديقة منزلك ثم لا تظهرين شيئا من الاهتمام. - ذلك لأني أعلم ما يجري؛ لأن خدمي يعاقبون رجلا تجاسر على احتقاري. - رجلا تجاسر على احتقارك؟ - وعلى الهزء بي فإن هذا الوقح قد انتحل اسم رجل من نبلاء الروسيين وما هو إلا عبد حقير.
فتراجعت فاسيليكا منذعرة إلى الوراء.
أما باكارا فأتمت كلامها قائلة: إن هذا الرجل يدعى بطرس السائق وقد تجاسر على الجلوس إلى مائدتي والقول أنه ابن عمك.
فتراجعت عند ذلك فاسيليكا منذعرة إلى الوراء تراجع الليث يتحفز للوثوب، ونظرت إلى باكارا نظرة هائلة وقالت: إنك أردت أن تعترضي سبيلي وسوف ترين لمن يكون الفوز.
ثم فتحت أزرار ثوبها بعنف وأخرجت خنجرا كان مخبوءا في صدرها، وهجمت على باكارا هجوم الكواسر تحاول أن تغمده في قلبها.
14
تقدم لنا وصف فاسيليكا وما كانت عليه من مظاهرات اللطف، وهي في الباطن من أفظع خلق الله، فلم يكن تمدنها غير قشرة ظاهرية، إذا حكتها أظافر الحقد زالت وانكشفت ما تحتها من الهمجية الوحشية.
فلما هجمت على باكارا بخنجرها وتبينت في عينيها ذلك الغضب الهائل أسرعت إلى اتقائها، فاندفعت فاسيليكا بثوبها إلى آخر الغرفة.
وعند ذلك وقفت باكارا وراء المائدة فجعلتها متراسا لها، إلى أن تجد سبيلا أضمن لاتقائها أو فرصة للهجوم عليها؛ لأنها كانت أشد منها بنية، غير أن فاسيليكا لم تمهلها فوثبت عليها وثبة ثانية وطعنتها بخنجرها، فمالت باكارا عنها بحيث لم يصبها الخنجر إلى إصابة خفيفة في كتفها فخدشه، وعند ذلك انقضت عليها باكارا فحملتها من وسطها ودفعتها بعنف شديد فرضت عظامها وسقط الخنجر من يدها، فركعت باكارا فوق صدرها وأسرعت إلى التقاط الخنجر ثم نظرت إليها نظرة المنتقم الفائز، وقالت لها: إنك لم تعلمي أني كنت أدعى باكارا في الزمن القديم، والآن اعلمي أنك إذا عصيتني فيما أريد قتلتك في الحال دون إشفاق.
فتمتمت فاسيليكا بعض كلمات تشير إلى أنها مغلوبة خاضعة للشروط.
فنهضت باكارا عنها وهي غير خاشية بأسا؛ لأن الخنجر كان بيدها؛ ولأنها وثقت من أنها أشد منها.
فنهضت فاسيليكا من تحتها وهي صفراء الوجه كأنها من الأموات، وقد أطفئ ذلك اللهب الذي كان يتوقد في عينيها فجلست على كرسي قرب عدوتها وأطرقت برأسها إلى الأرض.
فقالت لها باكارا: إن من أعجب العجائب يا حضرة الكونتس أن المائدة لم تنقلب خلال هذا العراك الذي لا يخلق بأمثالنا، ولو حدث شيء من ذلك لتسارع الخدم وافتضحنا فضيحة كبرى.
فإن ما جرى بيننا لم يضطلع عليه أحد، وأنا مستعدة لنسيانه إذا أمكن أن نتفق.
وكانت فاسيليكا قد عادت إليها سكينتها فنظرت إليها بأنفة واستكبار، وقالت: على ماذا تريدين أن نتفق؟ - عجبا أتسألينني على أي شيء يجب الاتفاق وأنت تسمعين صوت هذا الرجل المتألم؟ - دون شك لأني لا أعلم ماذا تعنين؟ - لقد أصبت، إذ يجب علي أن أكون البادئة بالاقتراح. - إني مصغية إليك.
فاقتربت باكارا منها والخنجر لا يزال في يدها وقالت: إنك أتيت إلى باريس مدفوعة بعوامل الانتقام الهائلة. - هو الحق ما تقولين. - وإن كنت تحبين إيفان بونتيف. - ربما! - وأنت الآن تكرهينه، حتى إنك تشتهين له الموت، وقد اختطفته وحجبته. - وماذا يهمك؟ - لا تنسي يا حضرة الكونتس أنك الآن تحت سلطاني، وإني أعيد عليك وعيدي السابق، وهو أنك إذا لم تخبريني أين حبست إيفان قتلتك لا محالة.
فابتسمت فاسيليكا وقالت: إنك سألتني أسئلة كثيرة فهل تسمحين لي أن أسألك أنا أيضا؟ - سلي ما تشائين. - إني أكره إيفان؛ لأني أحببته وأريد الانتقام منه لأنه سحق كبريائي بقدميه، وأما أنت فماذا يهمك من أمره؟ أرأيته مرة في حياتك؟ - كلا. - أكنت تعرفين اسمه منذ أسبوع؟ - كلا. - إذن حق لي قبل أن أجيبك على أسئلتك أن أسألك بدوري. - لقد عرفت ما تريدين أن تقولي لي، بأنك تريدين أن تعلمي سبب اهتمامي بإيفان. - دون شك. - إني أهتم به؛ لأنه يهوى مدلين ومدلين تهواه. - هل تعرفينها؟ - لم أرها في حياتي.
فنظرت عند ذلك محدقة إلى باكارا وسألتها: أتقسمين لي بحياة زوجك أن الماجور أفاتار هو غير روكامبول. - لا أحب أن أجيبك على هذا السؤال.
فابتسمت ابتسام المنتصر قائلة: أرأيت كيف أني عرفت سرك كما عرفت سري.
إن روكامبول عدوك القديم قد جاءك مسالما، فقررت مساعدته وهو يتولى حماية إيفان ومدلين. - وأنا أيضا أتولى حمايته؛ ولذلك سألتك أن تخبريني أين يوجد إيفان؟ - وإذا لم أخبرك. - أقتلك دون إشفاق.
فابتسمت فاسيليكا ابتسام المستخف قائلة: ربما تمكنت من قتلي؛ لأنك صادقة العزم فيه، ولكني أستطيع أن أردك بكلمة واحدة عن هذا القصد. - كيف ذلك! - ذلك لأني أعددت لإيفان عقابا أشد هولا من الموت، وأن حياته لا تصان من الأخطار إلا إذا صينت حياتي، فإني قد أقمت على حراسته رجلا أطوع لي من عبيدي، وأمرته أن يقتل إيفان بخنجره، إذا لم يرني بعد 36 ساعة.
فامتعضت باكارا وشعرت أنها مغلوبة مع هذه الداهية، وعضت على شفتها من القهر، فقالت لها فاسيليكا بلهجة المنتصر المتهكم: اقتليني بعد ذلك إذا أردت.
ثم نهضت قائلة: لا ريب أنه لم يبق سبيل لإقامتي في منزلك، بعد الذي جرى بيننا فيه فإني سأبيت هذه الليلة وأبرحه غدا إلى حيث أعد معدات قتالك. - إنه سيكون قتال هائل يا كونتس. - ولكننا سنكون متكافئتين بالسلاح، فإنك لا تستطيعين أن تلجأي إلى الشرع ما زال حليفك روكامبول.
ثم تقدمت إلى الباب بملء العظمة والكبرياء، ولكنها لم تكد تصل إليه حتى فتح فجأة ودخل منه رجل يعول ويقول: انتقمي لي يا سيدتي فقد جلدوني أعظم جلد.
فانتهرته فاسيليكا وقالت له: احذر أيها الشقي أن تبوح بأمرك لأحد أو تعرض شكواك على أحد من الناس إذ أقتلك جلدا بالسياط.
ثم مدت يدها إلى باكارا وقالت لها: أودعك الآن يا عدوتي الحسناء.
فقالت لها: إلى اللقاء أيتها المنتقمة الجميلة، وسوف نرى لمن يكون الانتصار.
ثم افترقتا بعد أن رشقت كل منهما الأخرى بنظرة، ولكنها نظرة من نار.
15
يعجب قراء الروايات ولا سيما هذه الرواية حين يقرأون فيها عن شخصين متشابهين - كما اتفق مع باكارا وأختها - ومع مدلين وكلوريند حين خدع بها إيفان، ولكن من يطلع على نوادر التشابه بين الناس في هذه الأيام لا يستغرب ما يراه منها في الروايات.
لقد ذكروا أن للملك إدوار السابع ملك إنكلترا الحالي شبيها يشبهه مشابهة غريبة، حتى إن هذا الرجل كان مرة في أحد فنادق الطعام، فلما رآه الحاضرون على المائدة أيقنوا أنه الملك وحسبوه متنكرا، فجعلوا يهتفون له وينحنون أمامه بالإجلال الملكي، فلم يسع هذا الرجل إلا الهرب.
ومن ذلك أن الإمبراطور نقولا - إمبراطور روسيا الحالي - يشبه ابن خالته ولي عهد إنكلترا شبها عجيبا، بحيث إذا صورا صورة واحدة لما أمكن التفريق بينهما.
ومن ذلك أيضا المستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحدة، فإن له شبيها من قومه لا يفرقه أحد عن الرئيس بشيء، ولولا امتزاجه مع العامة لما ميزوا بينه وبين الرئيس، حتى لقد روي عن روزفلت قوله على سبيل الممازحة: «إني أخشى أن يختطفني هذا الرجل ويتولى الرئاسة مكاني، ولا يعلم بجريمته أحد لما بيننا من الشبه العجيب.»
ومن ذلك الإمبراطور فرنسوا جوزيف، فإن أحد السفراء في عاصمته ونظنه سفير ألمانيا، يشبهه شبها غريبا فإذا اجتمع به في حفلة رسمية جعل الناس ينظرون إليهما ويعجبون.
وقد رسمت مجلة «لكتير بورنوس» التصويرية الفرنسية صور هؤلاء الملوك، والذين يشبهونهم بعد أن عقدت مقالة مسهبة على تشابه الناس، فمما ذكرته عن غير الملوك حكاية أختين توأمين كثر تشابههما حتى تعذر على أمهما التفريق بينهما وجعلت تعقد شعر إحداهما بشريطة حمراء، والأخرى بشريطة زرقاء فلا تستطيع التفريق بينهما إلا بهذه العلامة.
وقد اتفق أن فتى هام بإحدى الأختين وطلب إلى أمهما الاقتران بها فقالت: أي بنتي تريد؟ - تلك التي أراها تمر كل يوم بمخزني في شارع كنرا. - إن كلتيهما تمران بهذا الشارع فهل تريد صاحبة الشريطة الحمراء أو الزرقاء؟
فحار الفتى في أمره وقال: لا أعلم فإن التي أهواها أراها تعقد شعرها تارة بالشريط الأزرق وطورا بالأحمر.
هذه نتف يسيرة من نوادر التشابه، بسطناها توطئة لما سيجيء من حوادث هذه الرواية عن تشابه مدلين وكلوريند كي لا يتوهم القارئ أن مؤلف هذه الرواية يعتمد في مواضيعها على ما يجتاز حد المعقول.
كانت كلوريند هذه فتاة من بنات الهوى، لا نذكر شيئا من أوصافها لما تقدم من وصف مدلين، فإن الشبه بينهما كان عجيبا حتى أن إيفان نفسه خدع بهذا الشبه، ولكنها كانت في العشرين من عمرها تندفع في حلبة الغرور والطيش فيتهافت عليها الأغرار، فلا تكترث لهم؛ لأنها كانت تهوى أحد المصورين فتنفق في استرضائه ما تصل إليه يدها من المال.
وقد طال زمن شغفها به وكثر بذخها فنفد مالها، وجعلت تستدين وترهن ما لديها من حلى وعقار بحيث أصبحت على شفار الخراب.
وبينما هي جالسة ذات يوم مفكرة مهمومة بما صارت إليه حالها ووصيفتها بجانبها تؤنبها لهيامها بهذا المصور، وتنصحها بالابتعاد عنه قبل أن يشعر بإفلاسها فيبتعد عنها إذ دخل إليها الخادم يحمل رقعة زيارة فأخذتها كلوريند وقرأت: «الماجور أفاتار.»
وحاولت أن تمتنع عن مقابلته غير أن وصيفتها أسرعت وقالت للخادم: أدخل الماجور أفاتار.
ثم التفتت إلى كلوريند وقالت: هو ذا مصدر جديد للثروة فإن هذا الروسي لا بد أن يكون محشوا بالروبلات.
ودخل روكامبول وكان لابسا ثيابا بسيطة تدل على التناهي في سلامة الذوق، فحيى المرأتين بأدب وحشمة متكلفا هيئة الوجل الخائف.
وكان روكامبول في السادسة والثلاثين من عمره ولكن هيئته كانت تدل على أنه لا يزال في ريعان صباه، فجلس أمام كلوريند وقال: أسألك العفو يا سيدتي عن زيارتي لك من غير موعد، فإني قد أسافر هذه الليلة سفرا طويلا.
فوقفت وصيفتها وقالت بدلال: إن سفرك يعد خيانة يا سيدي.
فابتسم روكامبول وقال: إن سفري منوط بها فإذا شاءت بقيت وإذا شاءت رحلت.
ولما رأت الوصيفة أن باب الحديث قد انفتح تركتهما وانصرفت.
فتغيرت هيئة روكامبول فجأة عند ذلك واتقدت في عينيه أشعة الذكاء المتوقد، ونظر إلى كلوريند تلك النظرات الغالبة، التي تغلب بها على فاندا وسائر رجال عصابته، فعلمت كلوريند للحال أنها جالسة بحضرة رئيس لا يغلب.
ثم بدأ روكامبول الحديث فقال: لا أطيل جلوسي معك يا سيدتي ولكني أحب أن نكون منفردين لا يكدر خلوتنا أحد، فمري خدمك أن يحافظوا على أبوابك.
فقالت بصوت مضطرب: إنني لا أنتظر زيارة أحد الآن.
فاطمأن روكامبول وقال: إنك ستنذهلين من كلامي دون شك؛ لأني واقف على حقيقة أمرك، فإنك مدينة بمائة ألف فرنك، وقد رهنت جميع مجوهراتك، وإن منزلك أيضا مرهون وهو سيباع بعد شهر؛ لأنك لا تستطيعين دفع الدين.
ولا تضطربي لكلامي يا سيدتي وتظني أنني من أولئك المتمولين الغلاظ الأكباد الذين يغتنمون مغل هذه الفرص، فإني غير طامع بمالك إذ لا مال لك ولا رجاء لي بغرامك؛ لأنك تهوين ذلك المصور الجميل الذي سوف يتخلى عنك حين يعلم ما أصبحت عليه من الفقر.
فظهرت علائم الحزن على وجهها؛ لأنها سمعت هذه النبوءة عن جفاء حبيبها لها مرتين في ساعة واحدة.
فقال روكامبول: وإني قد جئتك بأمر إذا وافقت عليه وفيت دينك، واسترجعت مجوهراتك، وعاد إليك منزلك وأمنت جفاء حبيبك، ولا تظنين أني أريد غرامك فلا متسع بفؤادي للغرام.
فوقفت كلوريند مضطربة منذهلة وقالت: إذن ماذا تريد؟ - أريد أن أجعلك آلة طائعة خاضعة لي مدة شهران، وأن أستخدم جمالك ومشابهتك الغريبة لإحدى النساء في تنفيذ غاية سرية أسعى إليها منذ عهد بعيد.
وسأدع لك فرصة هذه الليلة للتفكير والإمعان، ولا يبرح عن بالك أني قد عرضت عليك ثروة، بل أعظم من ثروة، وهو ثبات حبيبك على قرانك دون أن أدع له أقل مجال للغيرة مني، فأمعني النظر وسأعود إليك في الساعة التاسعة من صباح غد، فإذا لم ترق لك مطالبي فلا حاجة إلى الإذن لي بالدخول إليك.
ثم قام فودعها وانصرف إلى ذلك المنزل الذي استأجره قرب منزل الفيكونت فابيان، فدخل إلى الغرفة المشرفة على حديقة ذلك المنزل وأنار شمعة، وجعل ينظر من النافذة بمنظار طويل فرأى نورا ينبعث من غرفة فيخترق الأشجار.
حدق طويلا وهو مقطب الجبين ثم ابتسم ثغره وانبسط جبينه ولمعت عيناه ولبث زمنا طويلا ينظر إلى تلك الغرفة بمنظاره، وقد أشغله من كان فيها عن كل أمر بحيث فتح باب غرفته دون أن ينتبه إلى الداخل منه فما شعر إلا بيد قد وضعت على كتفه فالتفت فرأى فاندا.
فتنهد روكامبول حين رؤيتها وأعطاها المنظار الذي بيده، وقال: انظري إلى هذا الوجه الجميل الذي ينبعث منه الطهر والسلامة.
فأخذت فاندا المنظار ونظرت إلى تلك الغرفة التي كان ينبعث منها النور، فرأت بلانش دي شمري زوجة فابيان التي طالما دعاها روكامبول بأخته ولم يجعله من التائبين غير حبه لها.
ثم عادت فاندا ونظرت إلى روكامبول فاضطربت، وقالت: ماذا أرى ولماذا تبكي؟ - إن البكاء يفيد والدموع تخمد الأشجان.
ثم أخذ المنظار فوضعه في مكانه، وقال: اجلسي الآن لنتحدث وقولي: لماذا أتيت إلي ...
16
فلم تجبه فاندا؛ لأنها كانت لا تزال منشغلة عنه بدموعه فقال لها روكامبول: لماذا أتيت؟ - أتيت لأني لا أعلم ماذا يجب أن أعمل، إن أنطوانيت ومدلين في شارع سربنت، وقد عثرنا على أنطوانيت ولكن أجينور لا يزال مختفيا وقد أوشكت أنطوانيت أن تجن من يأسها، وكذلك مدلين فإني لا أعلم ماذا أجيبها عن إيفان. - أخبريني قبل كل شيء عما حدث لتيميلون. - إني عندما أطلقت النار على شيفيوت أسرع تيميليون لنجدتها، وكان معي مسدس آخر أشهرته عليه، فصاح بي لا تفعلي فإني أعرف أنك امرأة روكامبول وأنا لا أتدخل في شئونكم بعد الآن.
وكان يقول هذا القول وهو يضطرب اضطرابا شديدا فقلت في نفسي: لا بأس من إمهاله ربع ساعة إلى أن أخرج بأنطوانيت من ذلك السجن، وقلت له: إذن امش أمامنا وافتح لنا جميع الأبواب إلى أن تجد مركبة، وحذرا أن تبدر منك بادرة تحمل على الريب بك فإني أقتلك شر قتل.
وقد رأيت من اضطرابه أنه لا خوف منه، فمشى أمامنا إلى الحديقة وفتح بابها بمفتاح كان بجيبه فخرج إلى الشارع وخرجنا في أثره.
وكانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل والشارع مقفرا، فمشى حتى وجد مركبة فأشار إلى سائقها بالوقوف ثم أشار إلي وقال: إني لست كفوءا لكم فلا تخشوني؛ لأني مسافر. - إلى أين؟ - إلى محطة الشمال، فأركب القطر الذي يسافر في الساعة الرابعة إلى كاليس، فإن كارل مورليكس قد دفع لي مبلغا أكتفي به، ثم تركنا وسار مسرعا إلى حيث قال.
أما أنا فإني ركبت المركبة وذهبت بها إلى شارع سربنت، وقد جئت أسألك إذا كان يجب أن أبقى في ذلك الشارع. - لا. - إذن أين أذهب؟ - تذهبين في الصباح إلى شارع سربنت وتنتظرين هناك إلى أن ترسل الكونتس أرتوف من يأخذ الأختين إليها، فإنها عزمت على أن تبقيهما في منزلها بحيث تكونان آمنتين، والآن فلننظر في أمر أجينور فأين يمكن أن يكون؟ - ألم تقل له قبل أن يقبضوا عليك بساعة أن يذهب إلى أبيه؟ - نعم.
ألم تقل له أيضا أن ينذر أباه بالانتحار أو يعرض الأمر على الحكومة إذا لم يرجع إليه أنطوانيت؟ - دون شك. - إنه منذ ذهب ممتثلا لأمرك لم يعد ولم نره منذ ذلك العهد. - إن اختفاءه يذهلني. - ولماذا؟ أتحسب أن أباه حجز عليه؟ - كلا، إن البارون فيليب دي مورليكس يحب ابنه أجينور وفوق ذلك، فإن ضميره يبكته أشد تبكيت فلا يجسر على شيء من ذلك. - ولكن أخاه كارل قد عاد يوم القبض عليك، وليس له شيء من هذه المبادئ، فإذا لم يكن هو الذي حجز على أجينور فلا بد أن يكون ذلك من صنع تيميلون. - لقد أصبت، فقد يكون تيميلون اختطفه بحيلة حين خروجه من المنزل إلى لقاء أبيه، ولكن كيف لم يقل لك تيميلون شيئا من هذا؟ - لم يخطر ذلك في باله لشدة ما كان به من الاضطراب.
فتنهد روكامبول وقال: إن جميع هذا لا يشغل بالي فإني لا أخاف تيميلون ولا أخشى كارل مورليكس. - ولكن ممن تخاف؟ - أخاف امرأة وهي روسية مثلك. - ومن هي هذه المرأة؟ - هي التي احتقرها إيفان وآلت على نفسها أن تستميت في سبيل الانتقام منه. - ولكننا سنتغلب عليها كما تغلبنا على سواها. - ذلك لا ريب فيه، والآن فاذهبي عني فإني محتاج إلى الانفراد.
غير أن فاندا لم تمتثل وبقيت جالسة في مكانها، وقالت له: ألا تريد أن تقول لي شيئا بعد؟ - كلا!
فقالت له بصوت متهدج: ولكني عرفت سرك. - اسكتي، فلا تعنيك أسراري. - كلا ... لا أسكت فقد عرفت أنك تحب.
فغضب روكامبول وقال: أتسكتين أو ...
فلم تكترث لغضبه وقالت له: إنك تحب مدلين. - أيتها التعيسة إنك تريدين إخراجي عن دائرة الصواب وأن أنقض عليك فأخنقك. - إني سأسكت، ولكني أشفق عليك لما تلقاه من العذاب. - إن هذا العذاب هو عقاب الله لي عن ذنوبي الماضية.
فركعت فاندا أمامه وقالت له والدموع في عينيها: إن لكل عقاب نهاية، وسوف يصفح عنك الله. - قلت لك: اذهبي.
فامتثلت فاندا هذه المرة وخرجت وهي مطرقة برأسها إلى الأرض، فأقفل روكامبول الباب وراءها وانطرح على سريره بملابسه فنام إلى أن لسعته أشعة الشمس.
ولما استيقظ أسرع إلى النافذة فرأى أخته القديمة، تسير متنزهة في الحديقة ومعها طفل صغير يبلغ الخامسة من عمره وهو يناغيها ألطف مناغاة وهي تنظر إليه نظرات حنو لا يدرك أسرارها غير قلوب الأمهات.
ولبث واقفا قرب هذه النافذة ينظر إلى الطفل وأمه، إلى أن دقت الساعة التاسعة فهب من غفلته وذكر موعده مع كلوريند، ووجوب اجتماعه بها؛ ليعلم إذا كانت ترضى بشروطه، فلبس الملابس التي زارها فيها بالأمس وخرج.
فما بلغ الباب الخارجي حتى رأى ميلون واقفا بانتظاره على الباب فأسرع إليه، وقال: إن مركبة الكونتس أرتوف ذهبت لإحضار الأختين وأنا أنتظر عودتها فتعال معي يا سيدي.
فاضطرب روكامبول وقال: لماذا تريد أن أسير معك؟ - لنرى الأختين حين مرورهما. - ما هذا الجنون، ألا تستطيع أن تراهما إلا إذا كنت معك؟ - ليس هذا ما أريد، ولكني لم أر مدلين بعد منذ عودتي من السجن وأشعر أني لا أستطيع الوقوف أمامها من الاضطراب. - فأجابه روكامبول بعنف: ليس لي وقت للذهاب معك، فاذهب.
ثم تركه وانصرف.
فجعل ميلون يشيعه بالنظر ويقول: لست أنا المجنون بل إن الرئيس بانت على وجهه علائم الجنون.
17
كان كارل دي مورليكس والكونتس فاسيليكا مختليين في غرفة يتباحثان في شأنيهما، فبدأت فاسيليكا الحديث فقالت: يجب علينا قبل أن نجري شوطا بعيدا في مضمارنا أن نعلم إلى أين نحن سائران، ولنبحث الآن في شأنك إذن فخطتك الأساسية هي أنك لا تريد أن ترجع للأختين ثروة البارونة ميلر، وقد ارتكبت كثيرا من الجرائم للبلوغ إلى هذه الغاية فحبست إحدى الأختين في سجن لازار.
ولما تمكن روكامبول من إخراجها حاولت قتله والحكم عليه بالإعدام.
ثم إنك ذهبت إلى روسيا كي تبحث فيها عن مدلين.
فاصفر وجه كارل وتنهد.
وتابعت: وقد ظفرت بمدلين مرة حين كانت بين أنياب الذئاب، فأنقذتها وكانت تحت مطلق سلطانك فما جسرت على قتلها؛ لأنها أوقدت في قلبك الأثيم نار غرام لا تخمد، فعدت إلى فرنسا بعد أن سلبت منك فوجدت أن أختها قد أنقذت أيضا.
والآن ليس روكامبول الذي يحميها وحده، فقد اشتركت معه الكونتس أرتوف فوضعتهما في منزلها وهو أمنع من الحصون.
فتنهد مورليكس وقال: الحق هو ما تقولين، وا أسفاه.
فقالت: والآن، فأين أنت من مساعيك الخائبة، فإنك لم تتقدم خطوة في سبيل غرضك، ولا تزال على ما كنت عليه في أول يوم ظهرت لك فيه غيوم هذه المشاكل، فإنك اختطفت ابن أخيك أجينور، ولكن روكامبول سوف ينقذه كما أنقذ أنطوانيت فيعود إلى مطالبتك بدم البارونة ميلر أمام الشرع، ولو أفضى ذلك إلى إهانة اسمه فإن حقده عليك شديد.
إنك التجأت إلى رجل سافل من الرعاع فهزأ بك وقبض مالك وتخلى عنك، ولو كنت معك من قبل لما انخذلت هذا الخذلان ولكنت من الفائزين. - ماذا كنت تفعلين؟ - الأمر بسيط، وهو أني كنت أخلو، لو كنت مكانك، بابن أخيك أجينور، فأقول له: إنك تحب أنطوانيت فاختر بين أمرين، إما أن أعرقل مساعيك إلى أن تقاضيني أمام المحاكم فيتلوث شرفك وينثلم عرضك بعد الحكم علي، وإما أن تتنازل عن مهر الصبية وأنت غني، وثروتك تكفي اثنين فلا أعارض زواجك بمن تحب. - أتظنين أنه كان يقبل؟ - دون شك، فإن من كان في مثل عهده من الشباب يكون كثير الكرم عديم الاكتراث.
ثم إنه إذا بلغ الرجل ما بلغت إليه من العمر وأصيب بداء الغرام فلا رجاء له بالشفاء، فإن ابن الثلاثين قد يتناسى ويستبدل غرامه بغرام، وأما ابن الستين فلا مأوى له عن حبه مهما تقادمت عليه الأيام.
ولقد سنحت لك الفرص لقتل مدلين ولم تكن تريد غير قتلها احتفاظا بتلك الثروة التي ما وصلت إليك إلا بعد ارتكاب الذنوب، ولكن يدك ضعفت عن قتلها؛ لأنك لم تعد تريد ثروة الأختين بل مدلين.
فأن كارل أنين الموجع وقال بصوت أجش: نعم، نعم، فلم يعد لي مطمع بمال ولا رجاء إلا بهذا الجمال.
قالت وستناله: فمتى اطمأن قلبك من أجينور، ومتى أزوجته أنطوانيت تزوجت أنت مدلين. - كفى بالله تطمعينني بهذه الأماني، ألا تعلمين أنها هائمة بإيفان دي بونتيف؟
فابتسمت فاسيليكا ابتسام الاحتقار وقالت له: وإن لم أكن أعلم بهذا الحب لما رأيتني عندك فإن مدلين تحب إيفان، وقد عقد الحب بين قلبيهما برباط وثيق، ولكني آليت على نفسي أن أفرق هذين القلبين إلى الأبد. - ولكن ذلك لا يفيد فإن مدلين سوف لا تحبني. - ماذا يهمك من حبها إذا كانت ترضى أن تكون زوجة لك؟ - لا أخال ذلك من الممكنات. - من يعلم؟
فاتقدت عينا كارل بأشعة الأمل وقال: أنت تستطيعين البلوغ إلى هذه النتيجة؟ - اصغ إلي، فإنك قد تلطخت بالجرائم وطبعت نفسك على الآثام، أما أنا فلا أزال طاهرة ولم أرتكب جرما بعد ولم تلطخ يدي بدم بشري إلى الآن على أن هذه اليد لا تزال نقية بيضاء قد تنغمس يوما بدم إيفان.
ولذلك فلا أريد أن أكون شريكة لك في جرائمك، ولكنك إذا خدمتني أفيدك برأيي وأعلم أنه إذا تزوجت أنطوانيت أجينور وتخلت عن مهرها، فلا بد أن توافق مدلين على الزواج بك إذا أزيلت العقبات من سبيلك وليس أمامك غير عقبتين وهما الكونتس أرتوف وروكامبول.
أما أنا فإني أتعهد بهذه الكونتس وسيكون القتال بيننا شديدا هائلا، ولكن لدي وسيلة لا ألجأ إليها إلا في الساعة الأخيرة، وفي إخفاقي الأخير. - وما هي هذه الوسيلة؟ - إني أحمل رجال البلاط القيصري على استدعائها إلى روسيا، فإنها من رعايا القيصر ومتى أمر القيصر وجبت الطاعة. - إذن أنت نافذة الكلمة في بطرسبرج. - ربما. - ولكن بقي علينا روكامبول. - إن أمره يتعلق بك. - كيف لي بالتغلب عليه وما أنا من رجاله؟ - ذلك لأنك لا تعرف مواضع الضعف منه ولو عرفتها لتغلبت عليه، أتعلم سر هذا الرجل؟ - كلا. - إنه يحب حبا شديدا، لا أعلم إذا كان حب إخاء أو حب غرام. - من عساه يحب؟ - امرأة كان يدعوها أخته حين كان منتحلا اسم المركيز دي شمري، فإذا أردت أن تضله عن صوابه وتمنعه عن التعرض لك، وجب عليك أن تجعل ضربتك الشديدة في ذلك البيت، وأن تجعل امرأة الفيكونت فابيان في خطر، فإذا فعلت تجد كيف أن روكامبول يتحول عنك وينصرف عن الاهتمام بشئون الأختين. - أي خطر؟ - لا أعلم، فانحث في قريحتك الجهنمية عن فخ تنصبه، ولا تنس أن لمدام اسمول زوجا وابنا. - ماذا تعنين بذلك؟ - أعني أنه قد تعرض أسباب تحمل على المبارزة وقد يوجد يد أثيمة تخطف الابن، فابحث فإن ذلك من شأنك، وأنا أتكفل بتلك التي كانوا يدعونها باكارا.
فاضطرب مورليكس اضطرابا شديدا وقال: إنك شديدة هائلة، فإن مثل هذه الأمور لا تخطر لي في بال. - ذلك ما أوحاه إلي الانتقام ولو كنت تكره روكامبول كما أكره إيفان لما تعذرت عليك أسباب المكايد.
ثم قامت فودعته وحاولت الخروج فقال لها: متى أراك؟ - غدا في مثل هذه الساعة، وخرجت.
فلما أصبح وحده وضع رأسه بين يديه وجعل يتمعن بخلاصة ما قالته فاسيليكا، وهو أنه لا يأمن شر روكامبول إلا إذا نكبت بلانش دي شمري بنكبة، وهي قتل زوجها بمبارزة أو اختطاف ابنها، فلبث مدة طويلة وهو حيران لا يعلم أيحجم عن هذا الذنب الهائل أو يقدم عليه.
18
ولبث ساعة وهو على هذه الحالة من الهم والتفكير، إلى أن تنبه من غفلته، وقد سمع صوت جرس الباب الخارجي، ثم رأى بعد ذلك خادم غرفته قد دخل عليه وقال: إن صبية تريد مقابلتك وهي في أشد حالة من الاضطراب؟
فانذهل كارل وقال: من هي هذه الفتاة ألم تذكر لك اسمها! - كلا، ولكنها قالت لي أن أخبرك أنها قادمة من روسيا وهي الآن في قاعة الاستقبال.
فزاد انشغال كارل وقال له: إني قادم لاستقبالها فاذهل أنت في شأنك.
وبعد هنيهة ذهب كارل إلى قاعة الاستقبال وهو خافق القلب مضطرب القدم، لا يعلم من هي تلك الفتاة القادمة من روسيا.
فلما فتح باب الغرفة ودخل ذعر ذعرا شديدا وقال: من أرى، مدلين!
فنهضت تلك الفتاة وقالت بصوت خافت: نعم أنا هي مدلين.
وكانت تضطرب أمامه كما كانت تضطرب مدلين حين إنقاذها من الذئاب وحين كان يحاول قتلها فأنقذها روكامبول، فما شك أنها مدلين وجعل يضطرب كاضطرابها.
ثم رآها قد مدت إليه يدها، شأن المتوسل، وقالت له: اعف عني وانقذني!
فزاد ذهول كارل حين رأى تلك الفتاة تسأله إنقاذها والعفو عنها، وهو قاتل أمها وألد أعدائها، فلم يفه بحرف وجعل ينظر إليها نظر الحائر الوجل.
أما هي فإنها ذهبت إلى الباب فأقفلته وعادت إليه وقالت: اصغ لي يا سيدي الفيكونت إنك أنقذتني من الموت أليس كذلك؟ - هذا أكيد. - وقد حميتني ووعدتني بالبحث عن إيفان، وقد اختطفتني في إحدى الليالي من ذلك القصر الذي كنا فيه، فحسبتك أنك تريد قتلي، وما أنت إلا منقذي. - كل ما تقولينه صحيح. - ثم ألقيتني في مركبة فأغمى علي، ولم أعد أعلم بعد ذلك ما حدث لي ولكني عندما استفقت من إغمائي وفتحت عيني لم أجدك أمامي، بل وجدت أمامي مكانك ذلك الرجل الذي كان يدعي أنه تاجر ألماني ومعه امرأته.
وقد خدعني هذا الرجل وامرأته؛ إذ إنه حكى لي حكاية محصلها أنك قتلت أمي بالسم وسلبتها ثروتها.
فاضطرب كارل وقال بصوت مختنق : وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك حاولت قتلي، وإنك من قبل حاولت قتل أختي أنطوانيت.
ثم اندفعت في البكاء وقالت: مسكينة أختي فقد خدعوها وضغطوا عليها ضغطا عظيما حتى باتت واثقة من صدق هذه الحكاية المؤثرة.
أما أنا فقد ملت إلى تصديقهم في بدء الأمر لا سيما حين انضم إليهم خادم أمي القديم وهو ميلون. - كيف اتضح لك فساد مزاعمهم الآن؟ - ذلك لأني عرفت أولئك الناس الآن حق العرفان، فإن زوجة هذا الرجل الذي يدعي أنه تاجر ألماني هي إحدى بنات الهوى التي اشتهرت باسم نيشيت. - والرجل؟ - مجرم سفاك هرب من سجن طولون وكان يدعى روكامبول.
فكان كارل ينقلب بين الانذهال والاضطراب، ولكنه زال اضطرابه وعاد إليه رشده فجعل يقيس كلامها بمقياس العقل.
أما هي فعادت إلى الحديث قائلة: أتعلم إلى أين ذهبوا بي وبأختي؟ - كلا. - إنهم ذهبوا بنا إلى منزل امرأة كانت تدعى باكارا، وهي من أشهر بنات الهوى أما اليوم فإنها تدعى الكونتس أرتوف؛ لأن هذا الرجل هام بحبها فتزوجها وجعلها من الأشراف. - إن هذه المرأة جارتي. - نعم ولكني لما رأيت إلى أية حالة صرت، وفي أي منزل أنا مقيمة انفتحت عيني للصواب وعلمت أني سقطت في هوة فنجوت من هذا المنزل وأسرعت إليك راجية أن تنقذني.
وكان صوتها وملامحها ولهجتها تدل على الصدق الأكيد فيما تقول، فلم يبق في فؤاد كارل أقل مجال للريب.
وكان يرى تلك الفتاة المضطربة أمامه فلا يشك أنها مدلين لشدة الشبه؛ ولأنه لم ير مدلين إلا في الليل وفي مثل هذا الاضطراب.
ثم إن هذه الفتاة كانت مرتدية بالملابس نفسها التي كانت تلبسها مدلين في فندق ساوا حين انتشلها كارل من أنياب الذئاب، فلم يكن يخطر له غير أمر واحد وهو أن مدلين قد التجأت إليه؛ لأنها علمت أن باكارا وفاندا من بنات الهوى وأن روكامبول من رجال الشر، فنظر إليها نظرة ملؤها الحنو والإشفاق وقال: لقد أحسنت بالتجائك إلي. - أتحميني؟ - دون شك وسأكون لك بمثابة أب.
فنظرت إليه نظرة النادم المستغفر وقالت: كيف يداخل الشك قلبي برجل جليل مثلك بيضت شعره الأيام؟
فابتسم كارل وقال لها: سأوضح لك كل شيء يا بنيتي فإنك ابنة أختي، ولكني ما قتلت أمك بالسم فإنها ماتت بعلة معروفة لدى الأطباء، غير أن ميلون هذا الذي تذكرينه قد أثر على عقلها تأثيرا شديدا فخافت مني ومن أخي خوفا عظيما، بحيث أخفتك وأخفت أختك لحذرها منا، ونحن نبحث عنكما منذ خمسة عشر عاما. - رباه! ولكن، هذه الثروة. - إنها موجودة وأنا مستعد لردها إليك حين تشائين. - لي أنا؟ - لك ولأختك. - إذن لست أنت الذي سجنت أختي؟ - كلا بل ذلك من صنع روكامبول وميلون. - لم يعد لدي أقل شك في هذه الحقائق، ولكن أختي لا تزال على عينيها غشاوة من الوهم. - سنزيل هذه الغشاوة. - متى؟ - متى تزوجت بأجينور وتزوجت أنت إيفان.
فلم يكد يتم عبارته حتى أكبت على عنقه تعانقه وتقبله، مظهرة شكرها وامتنانها، فطفح قلب كارل سرورا وقال في نفسه: لقد عاد الحمل إلى قبضة الذئب وهو لا يفلت هذه المرة.
19
ولنعد الآن إلى أجينور دي مورليكس، فإن روكامبول لبث يبحث عنه أربعة أيام دون أن يهتدي إلى آثاره.
وقد ذكره أنه أرسله إلى أبيه كي ينذره بالانتحار إذا لم يجد أنطوانيت، ولكن أنطوانيت وجدت فاختفى أجينور.
وكان روكامبول قد أرسل جميع عصابته للبحث عنه، فلم يرجع أحد منهم بنبأ صحيح.
وهذه حقيقة ما جرى له، فإن فاندا أصابت بظنها حين قالت: إن لتيميلون يدا في احتجابه.
والحكاية أنه حين عاد روكامبول من روسيا جعل تيميلون يراقب المنزل الذي كان مقيما فيه أجينور مع أنطوانيت.
فلما خرج أجينور إلى منزل أبيه كما أمره روكامبول ركب مركبة، وأمر السائق أن يسير به إلى الشارع المقيم فيه أبوه وهو يبعد مسافة شاسعة، فسارت به المركبة حتى انتهت إلى شارع يقل فيه مرور الناس، فسمع صوت استغاثة، فأطل من العربة ورأى شيخا كلل رأسه الشيب باسطا يديه وهو يستغيث.
فما تمالك أجينور من إغاثته، وأوقف المركبة ووثب منها وأسرع إلى الشيخ.
وكان هذا الشيخ واقفا بإزاء مركبة فلما رأى أجينور مسرعا إليه قال له: أغثني بربك فإن ابنتي ستموت.
فنظر أجينور إلى داخل المركبة فرأى فتاة حسناء مصابة بداء النقطة، وهي في أشد حالات الهزال فرأى أن الشهامة تقضي عليه بإغاثة الفتاة.
أما الشيخ فإنه قال له: إني أدعى يا سيدي الكولونيل جيبين، وهذه ابنتي العزيزة أصيبت بداء النقطة منذ ثلاثة أيام، فلما خرجنا من منزلها وهو قريب من هنا أصابتها النوبة في المركبة، وأنا أخشى إذا استأذنت وهي في الطريق أن تقتل نفسها، فإنها بعد استفاقتها من كل إغماء تثور وتطلب الانتحار.
وقد يذكر القراء حكاية الكولونيل وابنته مع أنطوانيت، فإنهما كانا من عمال تيميلون.
وبينما كان الشيخ يحدث أجينور بحديثها وهو يوشك أن يجن من يأسه، استفاقت الفتاة وحاولت الوثوب من المركبة وهي تقول: دعوني أقتل نفسي فلا خير لي في الحياة!
فأسرع إليها أبوها ومنعها عن الوثوب.
ولما رأى أجينور ضعف هذا الشيخ عن ضبطها قال له: طب نفسا يا أبتاه فسأسير معك إلى منزلك.
ثم أطلق سراح مركبته وصعد إلى مركبة الشيخ فجلس أمامها وأمر السائق أن يعود بهم إلى المنزل.
فكانت تلك الفتاة تغمى وتستفيق في الطريق، وما زالت على ذلك حتى وقفت المركبة أمام باب منزل، فقال الكولونيل: هو ذا المنزل.
فنزل أجينور من المركبة وحاول أن يذهب في شأنه.
ولكن الفتاة عادت إلى الهياج فعاد الشيخ إلى الاستغاثة ولم يجد أجينور بدا من الدخول معهما إلى المنزل.
ولما رأى شدة هياجها احتملها ودخل إلى المنزل مكرها، فأسرع الكولونيل وأقفل الباب ودخل في أثره.
ثم أسرع وتقدم أجينور كي يرشده إلى الغرفة المعدة لابنته، فجعل يدخل إلى غرفة ويخرج من غرفة وأجينور يتبعه مع الفتاة، حتى دخل إلى غرفة مظلمة.
وهناك زاد هياج الفتاة فأفلتت من أجينور، ولكنه أسرع وقبض عليها من وسطها.
وبينما هو يحسب أنه قد أنقذها من خطر عظيم إذ شعر بيدين قويتين ضغطتا على عنقه، وأوشكتا أن تخنقاه فأفلتت الفتاة وحاول النجاة من الذي قبض عليه، فانقضت عليه الفتاة مع أبيها ولم يكن غير هنيهة حتى ألقياه على الأرض فكبلاه وسدا فمه بمنديل.
وقالت له تلك الفتاة: أنقذ الآن أنطوانيت إذا استطعت.
فعلم المسكين أنه وقع في قبضة أعدائه، وأن إغماء الفتاة لم يكن غير فخ منصوب.
20
اجتمع الكولونيل جيبين بابنته في ذلك المنزل الذي سجنوا فيه أجينور، فقال الكولونيل لابنته: هو ذا أربعة أيام قد مرت بنا دون أن نرى تيميلون أي: منذ ذلك اليوم الذي انقده الفيكونت دي مورليكس ما طلبه من النقود، ألعله عبث بنا؟
فقالت الفتاة: لا أظنه يفعل ذلك لشدة علاقته بنا، ولكنه قد يكون حبطت مساعيه. - وكيف ذلك؟ - لأن روكامبول قد فر من السجن وليس تيميلون من أكفائه. - مهما يكن من الأمر فإني لا أصبر بعد اليوم، وإذا لم يرسل إلينا ثلاثين ألف فرنك التي وعدنا بها ... - ماذا تفعل؟ - أطلق سراح أسيرنا أجينور. - اسكت فإنهم يقرعون الباب الخارجي. - إنه تيميلون دون شك.
ثم أطل من النافذة المشرفة على الباب الخارجي وعاد قائلا: كلا إنه ليس تيميلون بل موزع البريد.
ونزل ففتح الباب وأخذ من الموزع رسالة باسمه وصعد إلى ابنته، فكان انذهالهما عظيما؛ لأنهما علما من طوابع البريد أن الكتاب مرسل من لندرا، ولم يكن لهما فيها علائق مع أحد، غير أن الفتاة نظرت إلى الخط وصاحت صيحة دهش وقالت هذا الكتاب من تيميلون فقد عرفت خطه ولكني لا أجسر على فتحه.
وقال أبوها بلهجة القانط: لا شك أنه لا يحتوي شيئا من النقود؛ لأنه رقيق. - لقد عبثت بنا أيها الخائن. - بل عرضنا للأخطار وهزأ بنا كما يهزأون بالأطفال.
وعند ذلك فضت الفتاة الكتاب مغضبة وقرأت ما يأتي:
افعلوا بأجينور ما تشاءون، واغتنموا منه قدر ما تستطيعون؛ لأن أمره أصبح منوطا بكم، أما أنا فقد تنحيت عن جميع هذه الأمور، فلا أتداخل في شيء.
تيميلون
فسقط الكتاب من يد الفتاة بعد تلاوته، أما الكولونيل فقال ببرود: لقد أصاب تيميلون؛ لأن أجينور سوف يدفع كل ما رجوناه.
وساد السكوت هنيهة بين الاثنين إلى أن عادت الفتاة إلى الحديث قائلة لأبيها: على ماذا عولت؟ - على أن أبيع أجينور حريته بمائة ألف فرنك. - ولكن فاتك إنه ليس لديه مائة ألف فرنك. - سيدفع بعد إطلاق سراحه. - لا شك أنك بسيط ساذج القلب. - كيف ذلك؟ - ذلك أنه حين تخرجه من هنا يذهب أجينور إلى دائرة البوليس لتسليمك قبل أن يذهب إلى البنك ليدفع لك النقود. - إذا بدر منه شيء من ذلك نقلته في الحال. - وأية فائدة لنا من قتله؟ - إذن ماذا يجب أن نصنع؟ - لا أعلم لأنى لا أعرف ماذا حدث ولكنني أظن أني عرفت الحقيقة، إذ لولا ذلك لما سافر تيميلون إلى لندرا. - ما تظنين؟ - أرى أن روكامبول قد نجا من السجن بعد أن أثبت القضاء بالأدلة الراجحة أنه الماجور أفاتار. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك بحث عن أنطوانيت فوجدها وأنقذها، فخاف تيميلون وفر هاربا. - ليس لجميع ما تقولينه علاقة بأجينور. - كلا وسوف ترى فإننا حبسنا هذا المسكين منذ ثمانية أيام وهو لا يزال في أسرنا موثق اليدين والرجلين حتى إنه بات يؤثر الموت. - وماذا كان يقول لك حين كنت تذهبين إليه بالطعام؟ - لا شيء سوى أنه كان يتفوه بكلمات متقطعة لا معنى لها، ويردد بينهما اسم أنطوانيت. - والخلاصة؟ - إنه يحب أن نعرف أين هي أنطوانيت. - وبعد ذلك؟ - علي إتمام البقية متى عرفنا محل وجودها. - ولكن كيف تعرفين محلها؟ - إني سأذهب وأطوف في باريس ولا أعود إليك إلا بالخبر اليقين.
وبينما هي تتأهب للذهاب إذ طرق الباب ثانية فأطل الكولونيل من النافذة، فرأى بوليت واقفا على الباب ينتظر أن يفتح له.
وبوليت هذا هو الذي اختطف أنطوانيت أول مرة، فكان السبب في ذهابها إلى سجن لازار وهو الذي أسرته فاندا ومرتون وعلمتا منه محل وجود أنطوانيت كما تقدم في الرواية السابقة.
ففتح له الكولونيل وكان شديد الاضطراب وسأله: ماذا أصابك؟ - إن روكامبول أطلق سراحه ولم يبق علينا غير الهرب. - وماذا جرى لأنطوانيت؟ - أنقذوها بعد أن بت بأسرهم يومين.
فتشاور الأب والفتاة بالنظر ثم قالت له الفتاة: ألا تزال شديد العزم، يا بوليت؟
لا أعلم لأن هاتين المرأتين قد أضلتا صوابي بأسرهما لي، ولولا تغلب السكر علي لما بقيت في قيد الحياة. - أنستطيع الاعتماد عليك بضربة خنجر ثمنها ألف فرنك؟ - كل الاعتماد. - إذن سنبدأ العمل.
ثم أخذت شمعة فأنارتها، فقال لها أبوها: إلى أين أنت ذاهبة؟
فخرجت وهي تضحك وتقول: إني ذاهبة للمخابرة في عقد قرض قيمته مائة ألف فرنك. •••
مضى سبعة أيام على أجينور وهو يكابد من عذاب اليأس ما لا تحتمله النفوس إذ لم يعرف مصيره ومصير الفتاة التي يهواها.
وقد رأى القارئ كيف أنه هوجم على غرة في غرفة مظلمة، ثم ألقي على الأرض وكبل بالقيود وسد فمه، فلم يصدق ما جرى له وحسب نفسه حالما، ولكن الحقيقة لم تلبث أن تجلت لعينيه حين سمع ابنة جيبين تقول له: ابحث عن أنطوانيت الآن إذا استطعت.
فعلم كل شيء وأيقن أن الذين اختطفوا أنطوانيت هم الذين كادوا له هذه المكيدة الهائلة.
فجعل يقول في نفسه: ماذا يريدون أن يصنعوا بي؟ ثم يعود إلى الافتكار بأنطوانيت فيقول: ماذا عسى أن يكونوا صنعوا بها؟
وأقام على هذه الحالة سبعة أيام دون أن يهتدي إلى مراد أو يوفق إلى حل هذا اللغز.
ولكن غاية ما علمه أن أعداءه أعداء أنطوانيت، وأن جميع هذه المكائد السافلة من صنع كارل دي مورليكس شقيق أبيه، إذ كان يقول في نفسه: إن الرجل الذي يستحل قتل اخته بالسم لا يخشى قتل ابنتها ولا تقف يده الأثيمة عن قتل ابن أخيه.
فلما تمكنت هذه الظنون من مخيلته هاج هياج الأسود في أقفاصها، وحاول مرات كثيرة قطع قيوده ولكنها كانت شديدة، فقنط من النجاة وجعلت قواه الأدبية والطبيعية تضعف وتنحط كل يوم.
وفيما هو على هذه الحال من القنوط فتح باب سجنه المظلم وهو قبو عميق تحت الأرض، وظهرت له ابنة جيبين تحمل بيدها مصباحا فنظر إليها نظرة ازدراء ولم يتدان إلى محادثتها.
أما هي فإنها وضعت مصباحها فوق حجر في ذلك القبو ودنت منه فابتسمت له وقالت: إني أتيت يا سيدي لإطلاق سراحك.
فكانت لهذه الكلمات تأثير الكهربائية عليه، فاتقدت عيناه بشعاع الأمل.
فأتمت حديثها قائلة: إني ما أتيت لإطلاق سراحك فقط، بل لأخبرك أين تجد خطيبتك المدموازيل أنطوانيت ميلر.
ولكن لا بد لي قبل ذلك أن أخبرك عن السبب في سجنك أسبوعا، وعن الأسباب التي حملتني أنا وأبي على أن أفعل معك ما فعلنا.
فاعلم أني أنشأت مع أبي جمعية، لك أن تدعوها جمعية النصب والاحتيال أو كما تشاء، وأدخلنا فيها كثيرا من الأعضاء فتوزع مكاسبنا بيننا كلا على قدر اجتهاده.
ومن أعمالنا أننا اختطفنا أنطوانيت خطيبتك واحتبسناها في محل سري على رجاء أن تعطينا مائة ألف فرنك على الأقل متى أرشدناك إليها.
فارتعد أجينور وقال: تبا لكم من لصوص أشقياء!
فابتسمت الفتاة وقالت: إني لا أحاسبك الآن يا سيدي على الألفاظ؛ لأن الوقت غير فسيح لدينا.
فقال بلهجة احتقار: وإذا أعطيتكم مائة ألف فرنك؟ - أفك قيودك. - وتطلقين سراحي؟ - دون شك. - وتقولين لي أين توجد أنطوانيت؟ - هذا لا ريب فيه. - ولكنك تعلمين أن مائة ألف فرنك لا يمكن أن تحمل بالجيب ولا يمكن الحصول عليها إلا إذا ذهبت إلى منزلي. - لقد حسبنا كل شيء إذ لا يمكن أن نطلق سراحك ونرشدك إلى محل أنطوانيت على أن ترسل لنا بعد ذلك المال المتفق عليه. - إن من كان مثلي لا يحنث بوعده متى وعد. - لا ريب عندنا بصدق ما تقول، غير أننا نؤثر العاجل على الآجل فمتى قبضنا المال أرشدناك إلى من تحب. - ليكن ما تريدين. - إن لأبي صديقا قوي البنية شديد الفتك، فسأذهب معه في مركبة إلى منزلك وتكون معنا فلا بد أن يكون لديك في منزلك أوارق مالية تعادل القيمة المطلوبة. - عندي ما تريدون. - فتدفع لنا النقود ونهديك إلى أنطوانيت، ولكن لا بد لي أن أحذرك من أمر. - ما هو؟ - هو أنك إذا بدر منك أقل إشارة تنبه إلينا البوليس، فإن صديق أبي يقتلك في الحال. - فكي إذن قيودي فستقبضون المال.
فامتثلت الفتاة ولم تكد تفرغ من إطلاق يديه ورجليه، حتى سمعت دوي مسدس شديد فأسرعت خافقة القلب مصفرة الوجه إلى باب القبو، فسمعت دويا آخر فخرجت منذعرة لا تلوي على شيء.
21
لا بد لنا قبل الإيضاح عن هذين الطلقين اللذين سمعت ابنة جيبين دويهما فهربت منذعرة، أن نرجع بالقارئ إلى العهد الذي أنقذت فيه أنطوانيت، كما تقدم في الرواية السابقة.
فقد يذكر القراء أن فاندا تركت مرتون حارسة لبوليت الذي صرعته الخمرة، وفي صباح اليوم التالي بعد أن وضعت أنطوانيت في محل أمين، وجمعتها مع مدلين في منزل واحد، عادت إلى مرتون فوجدت أنها لا تزال في موقفها، وأن بوليت لا يزال نائما.
فجعلت المرأتان تتشاوران، فقالت فاندا: إن تيميلون قد وصل من باريس، وهذا الرجل الصريع أمامك لا يخشى منه؛ لأنه كان آلة بيد تيميلون.
فقاطعتها مرتون قائلة: إني لو كنت مكانك يا سيدتي لما غفلت طرفة عين عن بوليت. - ربما كان رأيك المصيب غير أننا لا نستطيع البقاء هنا. - كلا، ولكني لو أحضرت الكلب. - أي كلب هذا؟ - لقد فاتني أن أخبرك بحديث هذا الكلب العجيب، فاعلمي أنه يوجد كلاب خصت بذكاء غريب وهي التي يستخدمها رجال الجمارك لمطاردة المهربين، فإذا شمت رائحتهم أدركتهم أينما كانوا ثم إن البوليس يستخدم هذه الكلاب أيضا لمراقبة المجرمين، فإذا دل أحدها على واحد منهم لا ينفك يراقبه ولا يستطيع الاحتجاب عنه مهما بالغ في التنكر.
وإن لنا كلبا من هذه الكلاب كان يحرس دكان أبي وهو صانع أحذية، فاتفق مرة أن أحد اللصوص سرق حذاء من الدكان وفي اليوم التالي عاد به الكلب، وقد سرقه من السارق فأراد أبي أن يعرف هذا السارق فأشار الكلب أن يسير أمامه إليه ففعل، وما زال يسير أمامه حتى انتهى إلى خمارة فدخل إليها، وهجم على رجل كان فيها وكان هو السارق.
هذه نادرة بسيطة عن ذكاء هذا الكلب، أوردها لك عن سبيل المثال، فإذا سمحت لي ذهبت إلى أبي وأحضرت الكلب وعهدت إليه بمراقبة بوليت.
فقالت لها فاندا: إذا كان هذا ما تقولين اسرعي بإحضاره، فقد يكون لنا خير عون على مراقبته.
فانطلقت مرتون وعادت بعد ساعة مع كلبها، وكان بوليت لا يزال نائما، فأشارت مرتون إلى الكلب إشارة فهمها فجعل يشم بوليت من رأسه إلى قدميه.
وبعد ذلك خرجت فاندا ومرتون فتبعهما الكلب حتى إذا وصلتا إلى الباب الخارجي قالت مرتون للكلب: ابق هنا.
ثم أشارت له الإشارة التي تفيد هذا المعنى، وهي قد عودته عليها وأشارت بإصبعها إلى الغرفة التي كان نائما فيها بوليت كأنها تقول له: أوصيك به فلا تغفل عنه، وانصرفتا.
فبقي الكلب في ذلك الشارع يطوف فيه ثم يعود إلى الباب.
أما بوليت فإنه لما صحا من سكرته خرج إلى شارع ليفوند، حيث كان يقيم تيميلون فلم يجده فعاد إلى خمارة تعود أن يقيم فيها.
وفي اليوم التالي عادت مرتون مع فاندا، فرأت الكلب يطوف في ذلك الشارع فنادته وسألته بالإشارة عن بوليت، فسار أمامها حتى انتهى إلى تلك الخمارة فرأته يتعاطى المدام وهو منزو في إحدى الزوايا، وأشارت إليه بمواصلة مراقبته وألقت إليه ما أحضرته من الطعام ومضت.
أما روكامبول فقد أعياه البحث عن أجينور دون أن يقف له على أثر حتى قنط من لقائه، فحكت له حكاية الكلب وقالت مرتون: لا بد لكلبي أن يدرك موضعه باقتفائه أثر بوليت.
وقد صدقت ظنونها فإن بوليت خرج من الحانة وذهب إلى حيث كان يقيم تيميلون، فوجد البواب حائرا في أمره؛ لأنه لم يعد منذ أيام فكسر بابه ودخل معه بوليت فوجدا شيفيوت مضرجة بدمائها لا تزال عليها آثار الحياة، فذعر بوليت وخرج هائما على وجهه فكان الكلب يتعقبه أينما ذهب.
ثم خطر له أن يخبر الكولونيل جيبين بما اتفق، وسار إلى منزله كما عرف القراء.
وبعد حين أقبل روكامبول وميلون وفاندا ومرتون، فأرشدهم الكلب إلى حيث كان بوليت.
فلما وصلوا إلى باب ذلك المنزل، وكانت ابنة جيبين تتفق مع أجينور، طرقوا بابه.
ففتح لهم الكولونيل فأسرع روكامبول بالدخول تتبعه العصابة ثم أقفل الباب وقال له: أنا هو روكامبول.
فلم يكد يسمع الكولونيل هذا الاسم الرهيب حتى ركض إلى غرفته، فأخذ مسدسين وأطلقهما على القادمين فجرح ميلون بكتفه جرحا خفيفا، فلم يكترث له وانقض على الكولونيل انقضاض الكواسر فجندله.
وأما بوليت فإن اسم روكامبول وحده كان كافيا لغل يده.
ثم خرجت ابنة جيبين والذعر ملء قلبها، فانقض عليها روكامبول فطرحها إلى الأرض وغل يدها عن الدفاع وبعدها ببضع دقائق نجا أجينور.
22
ولنعد الآن إلى كارل دي مورليكس فإنه لم ير فاسيليكا منذ ثلاثة أيام، ولكنه كان في خلال هذه المدة يبيت بليلة الملسوع لما ناله من غرام من تلك المومس التي كان يحسب أنها ابنة أخته مدلين.
وقد هام بها هياما لا يوصف لا سيما بعد أن لجأت إليه وباتت في منزله، وأتت تستجير به من أعدائها، فكان يعاملها بالظاهر ابنة أخته فيلاطفها ويحن عليها، ولكن نار الحب الفاسد كانت تتأجج فيه، فتحرق قلبه الأثيم.
غير أن مدلين أو كلوريند لم تكن تتظاهر بفهم مراده، ولا تحمل نظراته وأقواله إلا على محمل الحنو الشريف والحب الصادق.
وكانت مدلين لا تتكلم أمامه إلا عن إيفان ولا تدعو خالها إلا بلقب فيكونت، فتثني عليه كل حين بأعذب الألفاظ لوعده إياها بالبحث عن إيفان، وإذا ورد ذكر روكامبول اتفاقا ارتعشت وتظاهرت بالخوف الشديد، ونظرت إلى خالها نظرة استعطاف كأنها تتوسل إليه أن يحميها من شر هذا الرجل.
وكان أعد لها أعظم قسم من قصره ودعا لها أشهر خياطات باريس، فصنعن لها أجمل الملابس غير أنها لم تكن تخرج من المنزل، فإذا دعاها إلى الخروج معه للنزهة تمتنع وتقول: لقد آليت على نفسي أن لا أخرج إلى متكئة على ذراع إيفان.
فكانت نفس هذا الشيخ تهيج هياج البراكين، وطالما خطرت له أفكار أثيمة غير أنه كان يخشى الفضيحة، فإن كلوريند منعت بابها وكان جل قصده أن يحملها على حبه، ولا يتيسر له ذلك إلا إذا حملها على كره إيفان .
فلما سدت في وجهه أبواب الحيل افتكر بحليفته فاسيليكا وكتب إليها يسألها الحضور إليه.
فجاءته بعد ساعة وقالت وهي تبتسم: ألعلك افتكرت بما عرضته عليك؟ - إني لم أفتكر بشيء بعد. - كيف ذلك؟ - ذلك لأني لم أستطع أن أفتكر إلا بمدلين. - ألعلك رأيتها؟ - إنها عندي. - عندك في منزلك؟
فقص عليها كارل جميع ما اتفق له فكانت فاسيليكا تسمعه، وقد ظهرت عليها ملامح الريب، فلما انتهى من حكايته قالت له: أأنت واثق من أن الغرام لم يذهب بعقلك؟ - أتعنين أني مجنون؟ - أو أنك حالم. - ولكنك تريينني أكلمك وأسمعك فكيف أكون حالما. - إذن أنت منخدع، أتظن التي عندك هي مدلين نفسها؟ - وأين مجال الشك في هذه الأمور، وكيف أحبها هذا الحب وأنخدع إلى هذا الحد؟ - ألم تسمع بحديث تلك الفتاة التي يدعونها كلوريند، وهي التي خدع بها إيفان نفسه وحسبها مدلين حين كان الطبيب ذاهبا به إلى مأوى المجانين؟
فاصفر وجه كارل وقال: إن هذا محال، إذ لا يمكن أن تتشابه الوجوه إلى هذا الحد. - كل شيء ممكن غير أنه يوجد أمر يذهلني في هذه الحكاية. - ما هو؟ - أليست مدلين عندك منذ ثلاثة أيام؟ - نعم. - ألم تقل إنها هربت من منزل الكونتس أرتوف؟ - نعم ... - إذن كيف أن باكارا وروكامبول لم يبحثا عنها إلى الآن؟ - لا أعلم. - إني أريد أن أرى هذه الفتاة. - مدلين ...؟ - نعم.
فنادى كارل أحد خدمه وقال له: اصعد إلى غرفة السيدة وقل لها: إن خالك يريد أن يراك في قاعة الاجتماع.
فخرج الخادم، وفي الوقت نفسه قرع جرس الباب الخارجي فأطل كارل من النافذة المشرفة على الباب فصاح صيحة دهش.
فقالت له فاسيليكا: ماذا أصابك؟
فقال بلهجة الرعب الشديد: إن أجينور قد حضر.
ثم أسرع فنادى الخادم الذي أرسله يدعو كلوريند وقال له: قل للسيدة أن تبقى في غرفتها فسأحضر إليها.
ثم التفت إلى فاسيليكا وقال لها: ادخلي إلى هذه الغرفة تسمعين منها كل حديثنا إذ يجب أن لا يراك أجينور.
وبعد دقيقة دخل أجينور وهو مصفر الوجه تتقد عيناه بنار الغضب فأقفل الباب وراءه، وأخذ كرسيا فجلس عليها قرب عمه وقال له دون أن يسلم عليه: اجلس لنتحدث.
فضبط كارل نفسه وأخفى اضطرابه جهد طاقته ثم قاله له: ما بالك، وماذا أصابك؟ - أتسألني ما أصابني وأنت أعلم الناس بحالي؟ - أرى أنك شديد الاضطراب، فقل لي: من أين أنت قادم؟ - من قبو بت فيه ثمانية أيام مغلول اليدين والرجلين. - أنت؟ - أتتجاهل أيضا وأنت الذي ألقيتني في هذا السجن بمساعدة حليفك السافل تيميلون. - أرى أنك قد أصبت بالجنون فإني لم أسمع بحياتي هذا الاسم.
فقال هل أجينور ببرود: لا تضيع الوقت يا عماه بالإنكار، فإني أعرف كل شيء؟ - ماذا تعني بكل شيء؟ - أعني جرائمك وآثامك، فإنك أنت الذي ألقى أنطوانيت في سجن سانت لازار. - إذا كان قد جرى ما تقول فلم يكن يراد به غير خيرك منعا لزواجك بها. - لم يكن ذلك قصدك يا عماه بل كنت تريد أن تمنع ابنة أختك أن تطالبك بتلك الثروة التي اختلستها، وبدماء أمها التي سفكتها. - اسكت أيها التعس. - إذن أنت تعترف بصحة ما تقول. - اسكت ... - عماه لم يبق مجال للسكوت إلا إذا أردت، وقد جئت لأخيرك بين ثلاثة أمور، وهي إما أن تنتحر أمامي في الحال فأرجع مالك للأختين؛ لأني وريثك الشرعي.
أو أنك ترجع المال المسروق من تلقاء نفسك وتوقع على صك زواجي؛ لأني سأتزوج أنطوانيت بعد ثمانية أيام.
أو أذهب في الحال إلى إدارة البوليس فأكشف لها آثار آثامك ولا يكون جزاؤك بعد ذلك غير الشنق.
هذه هي شروطي الثلاثة فاختر منها ما تريد.
فانقلب اضطراب كارل إلى ذعر شديد وجعل يتمتم كلاما لا يفهم.
فقال له أجينور: وليس هذا كل ما أتيتك لأجله، فإن أخت أنطوانيت أي: الابنة الثانية لتلك الأم التي قتلتها مقيمة عندك في منزلك، وقد هربت من المنزل الذي كانت فيه هرب المجانين، وجاءت إليك تسألك حمايتها، وهي لا تعلم أنها لجأت إلى قاتل سفاك، لا تزال يده ملطخة بدماء أمها. - اسكت ... - يجب أن ترد لي مدلين.
فهاج كارل عند هذا الطلب وقال: إن هذا محال. - لماذا؟ - لأني أحبها. - لا شك أنك مجنون يا عماه. - إني أحبها وسأتزوجها. - أنت قاتل أمها تتزوج بها، إني أعجب للسماء كيف لا تنقض عليك وأنت تجدف هذا التجديف.
فركع كارل أمامه وقال: وإذا استغفرت الله عن ذنوبي وأصبحت من التائبين، وصرفت بقية أيامي بعمل الخير والمبرات ألا يصفح الله عني؟
فنظر إليه أجينور محدقا وقال: أأنت صادق فيما تقول؟
فصاح كارل صيحة فرح وقد حسب أن مدلين ستغدو له، وأنه نجا من الخطر.
23
ثم أطرق برأسه إلى الأرض مستحييا وجلا خائفا من نظرات ذلك الشاب النبيل الذي يتكنى باسمه فقال له أجينور: لا أعلم يا عماه إذا كانت مدلين تهواك في مستقبل الأيام، غير أن الذي أعرفه أنها تهوى إيفان بونتيف وأنك قد اختطفته أيضا. - أنا اختطفته؟ وقد أنكر أشد الإنكار بلهجة تبين منها الصدق، وأوشكت أن تزعزع اعتقاد أجينور ثم قال له: إن كل ما قلته عني صحيح ما خلا هذه التهمة. - أأنت واثق مما تقول يا عماه؟ - إني واثق من أمر واحد أن إيفان يحب مدلين كي يتخذها خليلة له. - كلا ... بل إنه سيتزوجها. - إنك تقول هذا القول؛ لأنك تجهل ما صارت إليه أسرة هذا الشاب ومطامعها، فقد أضاعت ثروتها وغاية إيفان أن يتزوج ابنة عمه. - الكونتس فاسيليكا؟ - نعم، وإذا أردت أن تعرف أين يوجد إيفان فاسأل عنه الكونتس.
فنهض أجينور وقال: إن اعتقادي فيك لن يتغير ولكني أمهلك أربع وعشرين ساعة كي تتمعن بشروطي، وسأعود إليك غدا في مثل هذه الساعة؟
ثم هم بالخروج فأوقفه عمه بإشارة، وسأله: أتحسب أن ثروة الأختين عظيمة؟
فأجابه بجفاء: كلا، ولكنها تبلغ ثلاثة أو أربعة ملايين، ومهما يكن مقدارها يجب ردها إلى أصحابها يا عماه.
ثم تركه ومضى.
ولما أيقنت فاسيليكا من ذهابه خرجت من مخبئها، فقال لها كارل: كيف رأيت ألا تزالين في ريب؟ - كلا، لم يبق مجال للشك بعدما سمعت، ولكني أوصيك بالاحتراس. - ممن؟ - من روكامبول والكونتس أرتوف. - إذا كان ابن أخي مواليا فلا أخشاهما. - ولكن ابن أخيك لا يستطيع إكراه مدلين على الزواج بك، وما زالت مدلين تهوى إيفان ... - فتنهد كارل وقال: ألعلك تجدين طريقة لمنع هذا الحب؟ - ربما! - كيف ذلك؟
فابتسمت ابتساما يشف عن الاحتقار وقالت: كنت أحسب أنك وجدت تلك الوسيلة من تلقاء نفسك، وأنك استغنيت عني حذرا من أن تكون مدينا لي بجميل ولكني أصفح عنك؛ لأننا لا نزال حليفين، أليس كذلك؟ - دون شك! - إذن اصغ إلي وافترض أن إيفان رأى مدلين متكأة على ذراعك وأن ظواهرها تدل على أنها تهواك. - ولكن ذلك محال. - قلت لك: افترض، فإن كل شيء ممكن. - وبعد ذلك؟ - تدب عقارب الغيرة إلى فؤاد إيفان فيكتب إليها كتابا تمليه عليه تلك العواطف الثائرة. - وبعد ذلك؟ - يبرح فرنسا على أثر إرسال الكتاب أو يتظاهر بالسفر، وكلاهما واحد، فتتألم لكتابه ولهجته الشديدة وتقنط من إيفان فتحتاج عند ذلك إلى من يحبها ويسليها عن مصابها، وأنت معتمدها الوحيد فتبدأ أن تحبك كأب ثم ترضى بتعاقب الأيام أن تحبك حب الزواج. - إن كل ما تقولينه ممكن الحدوث، غير أن قلبي يحدثني بأنه لن يحدث.
فضحكت وقالت: ذلك لأنك عاشق وهذا شأن العشاق. - ولكن كيف عزمت على أن تفعلي؟ - سوف ترى.
فاضطرب الشيخ وقال: كيف تدعين إيفان يعتقد أن مدلين تحبني؟ - إن الأمر بسيط، فافترض أنك تتنزه في حديقة منزلي في ليلة مقمرة. - مع مدلين؟ - دون شك، وإنك خالها وهي لا تمتنع عن الاتكاء على ذراعك. - وبعد ذلك؟ - تسير وإياها ذهابا وإيابا في الحديقة في مكان وساعة أعينهما لك، ثم تقول لها: إني أنتظر زائرا يا مدلين يريد أن يكلمك، فتضطرب دون شك، وتنظر إليك فتقول لها مبتسم ابتسام الرضى: إن إيفان سيحضر في هذا المساء كي يخطبك.
فتصيح عند ذلك صيحة فرح وتطوق عنقك بيديها.
فانذهل كارل؛ لأنه لم يفهم شيئا وقال لها: وبعد ذلك؟
فابتسمت فاسيليكا وقالت: افترض أنه حين كانت تعانقك يكون إيفان مقيما في موضع يشرف عليكما وأنه رأى كل شيء.
فاضطرب وقال: أيمكن هذا الاتفاق؟ - قلت لك: كل شيء ممكن وهذا هو مشروعي فتمعن به، وإذا أحببت أن تجربه فاكتب لي والآن أستودعك الله. - أتذهبين؟ - نعم فإني ذاهبة لأطلع على أخبار إيفان، ثم ابتسمت ابتساما يشف عن قصد هائل مخيف، وخرجت دون أن تنتظر جواب كارل.
وكانت مركبتها تنتظرها على الباب، فأمرت السائق أن يسير بها إلى شارع كاسيت في ذلك المنزل الذي حبست فيه إيفان.
فلما وصلت إليه فتح الباب خادمها بريتو، فدخلت إلى تلك القاعة التي هبطت أرضها إلى أعماق مجهولة بإيفان، وسألت خادمها قائلة: أحدث حادث جديد؟ - كلا. - كيف حال الأسير؟ - لا يزال هائجا هياج الكواسر وهو يتوعدك دائما بالقتل. - سوف نرى ...
فنظر إليها الخادم بانذهال وقال: ماذا تفعلين؟ أتتجاسرين على النزول إلى محبسه؟ - نعم. - ولكنه أصبح كاللبوة فقدت أشبالها. - لا بد من هياجه شأن كل من يصاب بما أصيب. - إنه شديد العضل وقد زاده اليأس قوة. - أعرف جميع ذلك. - وهو قد ينقض عليك يا سيدتي فيحدث ما لا تحمد عقباه. - ألعله أصابك بمكروه منذ توليت حراسته؟ - كلا، ولكني لا أدخل إلى سجنه بل أوصل له الطعام من النافذة. - أما أنا فسأدخل إليه وسوف ترى، فهات مصباحك واتبعني.
فامتثل بريتو وأضاء المصباح ثم نزل الاثنان في سلم طويلة تحت الأرض، فكان بريتو ينير لها الطريق حتى نزلا ثلاثين درجة.
فتوقف بريتو وقال لها: اسمعي يا سيدتي ألا تصل إلى أذنيك أصوات إنذاره ووعيده؟ - نعم إني سامعة ما تسمع فانزل أمامي ولا تخف.
24
كان هياج إيفان عظيما منذ حبس في منزل الدكتور لامبرت بتهمة الجنون، فإن هذه التهمة وحدها كافية لهذا الهياج.
وقد كان سروره لا يوصف حين رأى ابنة عمه فاسيليكا قادمة إلى منزل الطبيب لاعتقاده أنها قادمة لإنقاذه، إذ لم يخطر في باله أنها أعدى عدو له، وأنها ستنتقم منه إلى هذا الحد.
وقد يذكر القراء أنه قد تناول الطعام مع فاسيليكا وهما مختليان، ثم نام وانفتحت تحته أرض الغرفة فنزل نزولا بطيئا إلى هوة عميقة وسيرى القراء كيف كانت هذه الهوة الهائلة.
إن إيفان بعد أن فتح عينيه رأى نفسه في قبو لا يزيد طوله عن ستة أقدام، وكان مصباح ضعيف معلقا في سقف ذلك القبول يرسل نورا ضعيفا تنقبض النفس له ...
فحسب إيفان في بدء أمره أنه حالم أو أنه مصاب بالكابوس ...
ولكن عندما وقف شعر أن أعضاءه لينة تتحرك وفق مراده، وأن عينيه منفتحتان يبصر بهما ما حواليه من الحشرات التي تقشعر لمنظرها الأبدان.
فوقف وقفة الحائر المنذهل لا يعلم أين هو، ولا يذكر كيف وصل إلى هذا الحضيض.
ثم جعل يذكر، فكان أول ما خطر في باله بيت المجانين الذي كان فيه.
وكيف أنه حاول الهرب ولم يفلح، ثم ذكر قدوم فاسيليكا وكارل مورليكس للبحث عنه.
ثم ذكر أخيرا أنه بينما كان يأكل مع ابنة عمه فاجأه نعاس غريب لم يستطع مقاومته، فأطبقت عيناه ولم يذكر شيئا بعد هذا العهد.
وكانت هذه الذكرى كافية لاتساع مجال الشك والظنون لديه بتلك المنتقمة الجبارة.
فجعل يفحص ذلك القبو، وتلك القبة المعلق فيها المصباح، فرأى رسم باب في السقف فعلم أنه هبط إلى القبو من ذلك السقف.
ثم طاف في هذا القبو فرأى بابا، وكان هذا الباب متينا مصفحا بالحديد وفي وسطه نافذة مقفلة، فوضع عينه على قفله وحاول أن ينظر ما وراءه فلم ير غير الظلمات الكثيفة.
وعاد إلى الطواف في ذلك القبو الضيق كما يطوف الأسد في القفص، وفيما هو يطوف صاح صيحة رعب شديدة وتراجع منذعرا مكفهرا إلى الوراء.
ذلك أنه رأى جثة رجل ربط عنقها بقيد من حديد شد إلى حائط، وقد جرد تقادم الأيام تلك الجثة البشرية من اللحم فباتت هيكلا من العظام.
ولقد كان إيفان شجاعا باسلا، غير أن هذا المنظر المخيف أحنى على شجاعته فذعر ذعرا شديدا، وجعل يصيح صياح الخائفين فلم يجبه غير الصدى.
ثم ثارت فيه قوة اليأس فجعل يضرب الباب الحديدي بيديه ورجليه حتى أدماهما دون أن يظفر بطائل، فانقلب وقد أعياه التعب أسفا حزينا وهو يقول: لقد أصابوا بما اتهموني به فلا شك أني مجنون.
وعاد اسم مدلين يجول بين شفتيه فكان معزيا له في مصابه غير أنه ما لبث أن عقبه اسم فاسيليكا ابنة عمه حتى انجلت غمامة الشك عن مخيلته، وجعل يسأل نفسه فيقول: كيف أن فاسيليكا جاءت إلى فرنسا ولماذا أتت تبحث عنه؟
أما هذا القادم فقد كان بيرتو، وقد جاء يحمل الطعام لإيفان بيد ويحمل باليد الأخرى مصباحا، فنظر إيفان من ثقب قفل الباب فرأى القادم وعرف أنه بيرتو، علة نكبته ووصوله إلى هذا السجن، فلم يعد لديه أقل ريب بأن ما أصابه كان من صنع ابنة عمه، وأن هذا الخادم من أخص رجالها الذين تعتمد عليه في شئونها.
فقال عند ذلك في نفسه: لا شك أن هذه السلة التي بيده تحتوي على طعام مرسل لي، ولا بد لهذا السافل أن يفتح الباب كي يدخل إلي بالطعام، وإذن هي التي أدخلتني منزل طبيب المجانين، وأن لها غرض من تعيين ذلك الشقي بيرتو في خدمتي فدفع بي إلى بيت المجانين.
وعند ذلك أدرك قصد ابنة عمه، وعلم أنها تريد الانتقام؛ لأنه احتقرها وتجرأ على حب سواها فهاجت منه عواطف الشر والحقد، وعاد إلى مهاجمة ذلك الباب الحديدي دون أن يظفر من فتحه بمراد.
وفيما هو على ذلك سمع صوت وقع أقدام من الخارج، فتوقف وسمع وقع تلك الأقدام تنزل على درجات سلم طويلة.
وحبس أنفاسه ووقف بإزاء الباب وهو يضمر الشر.
فقال: إذا أتى انقض عليه انقضاض الصاعقة وأجندله.
وعند ذلك حبس أنفاسه وكمن وراء الباب.
ووصل بيرتو إلى الباب، فقال بصوت سمعه إيفان: هو ذا الثائر قد بدأ، ألعله أصيب بسكتة في الدماغ؟
فلم ينبس إيفان بحرف وظل كامنا وراء الباب.
وجعل بيرتو يناديه ويقول: أين أنت يا سيدي إيفان؟
وكرر النداء مرارا فلم يجبه.
وعند ذلك أخرج مفتاحا من جيبه ووضعه في القفل، ولما سمع إيفان صريره خفق فؤاده وقال: لقد دنت ساعة الانتقام.
غير أن بيرتو كان أشد دهاء وحكمة مما كان يظنه إيفان ، فإنه لم يفتح بمفتاحه باب القبو، بل فتح تلك النافذة الحديدية التي فيه وأدخل الطعام من تحت قضبانها الحديدية ثم أقفلها.
ولما رأى إيفان خيبة رجائه صاح صيحة منكرة.
وضحك بيرتو ضحك الساخر وقال: يسرني يا سيدي أن أراك حيا فقد حسبتك من المائتين.
فأجابه إيفان بالشتم القبيح فضحك بيرتو أيضا وقال له: إنك إذا لبثت يا سيدي تشتمني أضطر إلى الذهاب.
فهاج إيفان هياجا عظيما ولكنه أدرك في الحال إنه إذا استمر على سياسة العنف مع هذا الخادم؛ لا يعلم منه شيئا، فتغلبت الحكمة على عواطف الغضب وناداه بلهجة الدعة والإيناس فقال: بيرتو أين أنت؟
أجاب بيرتو باحتراس: هو ذا أنا يا سيدي وراء النافذة فماذا تريد؟ - أريد أن أعرف أين أنا. - لا أسهل من معرفة ذلك يا سيدي فإنك في قبو ذلك المنزل الذي أكلت فيه صباح أمس. - ألعلي نزلت إليه وأنا نائم؟ - نعم ... فإن المخدر الذي شربته، ممزوجا بالخمر نومك ستا وثلاثين ساعة. - ولماذا ألقيت في القبو؟ - بأمر الكونتس فاسيليكا.
فأن إيفان أنينا مزعجا، وقال: ماذا تريد هذه المرأة؟ - تريد أن تبقى هنا ... - وإلى أمد طويل؟
فأجاب بيريتو ببرود: ربما بقيت فيه إلى الأبد.
ثم انصرفت عنه دون أن يجيب، ومر على ذلك أربعة أيام كان إيفان عرضة فيها لعوامل اليأس، فبدأ بامتناعه عن الطعام لحذره أن يكون مسموما.
ولكن الجوع تغلب عليه فأكل على خوف شديد من الموت، إلى أن مرت به عدة ساعات كان يتوقع الموت في كل دقائقها ...
ولكنه لم يمت.
ثم عرض له فكر كان أشد عليه مما كان يتوقعه من عذاب الموت، وهو أنه إذا كانت فاسيليكا سجنته في هذا القبو فهي تضطهد مدلين دون شك مبالغة في الانتقام.
وعند ذلك استحالت أخلاقه وبات شبيها بالوحوش الضارية، فعاد إلى ضرب الباب بيديه ورجليه بعنف شديد حتى دميت يداه وتلاشت قواه فسقط على الأرض مغميا عليه.
ولما استفاق عاد إلى ما كان عليه فلم يلق إلا الفشل.
ولبث على هذا اليأس والعناد أربعة أيام وهو يذكر فاسيليكا ويود لو تقع في قبضته فيمزقها بأسنانه.
إلى أن كان اليوم الرابع فسمع وهو رابض في سجنه وقع أقدام، فنظر من ثقب الباب فرأى بيريتو وبيده مصباح ووراءه امرأة.
فالتهب فؤاده بنار الانتقام وخرج شعاعها من عينيه، إذ عرف أن هذه المرأة كانت ابنة عمه فاسيليكا.
25
وكان بيريتو يقول لفاسيليكا: سيدتي لا تدخلي فإنه شديد الهياج.
فتجيبه بسكينة: لا بأس ... سوف نرى.
حتى وصلت إلى الباب، فنادت إيفان تقول: أي ابن عمي أين أنت؟
فأجابها: ماذا تريدين مني؟ ألعلك قادمة للإجهاز علي؟ - كلا، بل أنا قادمة للمباحثة معك.
وكانت تقول له هذا القول بسكينة ... ولكن لهجة صوتها لم تكن تخلو من التهكم ...
ثم التفتت إلى بيريتو وقالت له: افتح الباب فلا تروق المباحثة من خلال النوافذ.
فهاج إيفان عند ذلك هياج المجانين ولم يتمالك عن الوعيد فقال: احذري أن تفتحي هذا الباب الحائل بيني وبينك. - وإذا فتحته؟ - أنقض عليك انقضاض الصاعقة و... - إذن تجد أمامك نار مسدسي الحامية.
ثم أخذت من جيبها مسدسا أميركيا وقالت للخادم: قلت لك: افتح الباب.
فامتثل الخادم وفتحه ...
وصوبت فاسيليكا مسدسها إلى إيفان وقالت له: تراجع إلى الوراء يا ابن عمي وإلا أطلقت مسدسي، فإني ما أتيت إلا لمباحثتك.
ولم يخف إيفان من الموت فإنه كان باسلا وقد زاده الحقد شجاعة، غير أنه أنف من الهجوم على امرأة لا سيما وقد قالت له: إنها آتية لمباحثته فتراجع حتى التصق بالجدار وقد التطم بالجثة التي كانت في ذلك القبو.
وقالت له بصوت الساخر: أرأيت هذه الجثة وأثرها الهائل؟
وكانت واقفة على عتبة الباب وبينها وبين إيفان مسافة تبلغ ثمانية أقدام، وهي مسافة لا تتجاوز مدى رصاص المسدس.
فأجابها: ألعلك آتية يا سيدتي لإيضاح ما كان؟ - ربما؟ - تكلمي وأخبريني عن السبب في وجودي هنا. - ذلك لأنك أهنتني وجرحت قلبي جرحا لا يندمل إلا بالانتقام وأنا أنتقم وأتداوى. - إذن فقد كنت تحبينني من قبل؟ - بقدر ما أكرهك الآن. - وأنت تريدين الانتقام ؟ - انظر إلى هذه الجثة المقيدة التي باتت هيكلا من العظام لما تقادم عليها من الأيام.
فأجابها بتهكم: ألعلك كتبت لي في لوح المقدور مثل هذا العقاب؟ - كلا ... فإن صاحب هذه الجثة قد مات من الجوع كما يظهر وأنت يحضرون لك الطعام في كل يوم. - أشكر فضلك فإني لا أنسى كرمك ما حييت. - اطمئن يا ابن عمي العزيز فإن أسرك لا يكون إلى الأبد. - أحق ما تقولين؟ - وإني لم أسجنك إلا لما كنت أخشاه من عرقلتك لأعمالي، لو كنت مطلق السراح.
فأجابها بلهجة المتهكم كيف أعرقل مساعيك؟ - إنك تعلم أني سأتزوج.
فقال إيفان بلهجة المتهكم: بمن ستتزوجين؟ - بالكونت كوروف.
فضحك ضحكا يشف عن الاحتقار واستند إلى الحائط وقال: كيف يخطر لك يا سيدتي العزيزة أني أحول دون هذا الزواج، فاطلقي سراحي وكوني مطمئنة البال إذا كان هذا كل الذي تخشينه مني.
ثم جعل يضحك ضحك الساخر.
إلا أن فاسيليكا منعت ضحكه إذ قالت له: إني واثقة من أنك لا تحول دون زواجي ولكني كنت أخشى أن تحول دون زواج آخر. - أي زواج تعنين؟ - زواج مدلين.
فصاح إيفان صيحة منكرة ودنا خطوة منها.
ولكنه توقف حين أنذرته فاسيليكا بالمسدس وقال لها: مدلين تتزوج؟ - دون شك. - إنك كاذبة نمامة. - كلا، ولكنك رجل فاسد التربية والأخلاق، أما مدلين فإنها ستتزوج بعد ثمانية أيام، وأنا لم أحضر إليك إلا لأخبرك بهذا الزواج.
فاصفر إيفان اصفرارا شديدا وذهبت آثار غضبه وتهكمه وجعل ينظر إلى ابنة عمه نظرا حائرا كأنه يريد أن يتبين صدقها أو كذبها من عينيها.
إلى أن قالت له: ولكن طب نفسا فإن مدلين لا تتزوج مختارة بل مكرهة على هذا الزواج.
فصاح إيفان صيحة فرح وقال: لا شك إنهم نصبوا لها أحبولة فأكرهوها على الرضى بما لا تريد. - كلا، وإني أقسم لك على صحة ما أقول. - إن مدلين تحبني. - لقد كانت تحبك قليلا من قبل.
فنظر إليها نظرة المغضب وقال: أتجسرين على القول: إنها لا تحبني الآن؟ - إنها تحاول أن تنساك على الأقل . - لماذا، ولأي ذنب جنيت؟
فأجابته بسكينة إن ذنبك بسيط وهو أنك روسي وجميع الفرنسيين يعتقدون أن الروسيين أغنياء. - وبعد ذلك؟ - إن معلمة فرنسية كمدلين إذا طمعت بزواج رجل واسع الثروة نبيل لا يمكن إلا أن تحبه. - ماذا تعنين؟ - أعني أنها عندما رجعت إلى باريس، عرفت حقيقة حبك وعلمت أن عائلتك قد فقدت ثلاثة أرباع ثروتها، ولما رأت ذلك انفتح لديها مجال للتأمل والتروي.
فأجابها بلهجة الاحتقار: إن مدلين لا تحسب هذا الحساب. - أتظن؟ - بل أؤكد. - ولكني قلت لك: إنها ستتزوج. - بمن؟ - بالفيكونت كارل دي مورليكس.
فأدرك إيفان كل شيء وقال: تبا له من شقي منافق.
فابتسمت فاسيليكا ابتسام الهازئ وقالت: أتريد يا ابن عمي العزيز أن تنظر مدلين النظرة الأخيرة قبل أن تدعى الفيكونتس دي مورليكس.
فصاح إيفان صيحة فرح وقال: إذا تيسر لي أن أراها فإني أمنع هذا الزواج دون شك.
فضحكت وقال: ذلك شأنك لا شأني. - إنك من أشد النساء، ولا أشهى لديك من الانتقام. - ربما ... - غير أنك لو كنت كريمة الأخلاق ... - ماذا كنت أعمل؟ - كنت تقتليني الآن بمسدسك؟ - كلا فإني أريد لك الحياة وأحب أن ترى مدلين. - أحقا ما تقولين؟ - دون ريب. - أين هي الآن؟ - في بيت مورليكس. - هي، مدلين في منزله؟! - نعم ... - وتقولين: إنك تسمحين لي بالخروج من هنا؟ - أقسم بشرفي على صدقي فيما أقول. - متى أخرج من هنا؟ - متى رضيت أن تخرج منه كما دخلت إليه. - لم أفهم ما تقولين. - إنك دخلت إلى هنا وأنت نائم أليس كذلك؟ - نعم ... - وستخرج نائما كما دخلت بمخدر أسقيك إياه.
ثم أشارت إلى بيريتو الذي كان واقفا معهم ففهم قصدها وانصرف.
أما إيفان فقد قال لها: إني أرضى بما تريدين ولكني أسألك ألا تريدين تسميمي؟
فأجابت: إني أقسم لك بعائلتي التي هي عائلتك إني لا أريد بك شيئا من هذا.
وبعد هنيهة عاد بيريتو يحمل على صينية زجاجة فيها نبيذ أصفر وكأسا فارغا، فصبت النبيذ بالكأس وأمرت خادمها أن يقدمها لإيفان.
فتردد إيفان هنيهة عن شربه إلى أن قالت له: لا رجاء لك برؤيتها إلا إذا شربت ما في الكأس.
فأخذ الكأس عند ذلك وشرب ما فيها جرعة واحدة، ولم يكد يستقر الشراب في جوفه حتى صعق وسقط على الأرض لا يعي.
فالتفتت عند ذلك فاسيليكا إلى بيريتو وقالت له ببرود: اذهب الآن.
ثم خرجت من ذلك القبو وقد غادرت فيه تلك الجثة البالية وإيفان منطرحا أمامها لا حراك فيه.
26
ولنعد الآن إلى روكامبول، فإنه بعد أن وجد أجينور جعل يهتم بالبحث عن إيفان.
وقد كانوا وجدوا آثاره من منزل طبيب المجانين إلى شارع الصليب الأحمر وهناك فقد نويل أثر مركبة مورليكس كما يذكر القراء.
ثم رآها بعد ساعة في شارع الحمامة القديمة غير أن إيفان وفاسيليكا لم يكونا فيها.
ثم رآها بعد ساعة في شارع كاسيت وقصر اهتمامه على البحث عنه في ذاك الشارع.
ثم خطر له ذاك الكلب الذي أعان مربون على اقتفاء أثر بوليت وعرف منه موضع الكولونيل جيبين فقال في نفسه: إن الكلب أيضا قد يساعدنا على اقتفاء أثر إيفان إذا أطلقناه في أثر فاسيليكا.
وكانت تقيم في الشانزليزه في اليوم التالي لخصامها مع باكارا وخروجها من منزلها، ولكنها لم تكن تبرح منزلها الجديد إلا نادرا.
وكان روكامبول قد بث الأرصاد ووضع الجواسيس حول منزلها، فلم يرها أحد خرجت من منزلها إلا مرات قليلة حيث كانت تخرج ماشية على الأقدام فتتنزه هنيهة ثم تعود، وكانت على أشد الحظر كما كان يظهر من تلفتها حين ذهابها وإيابها كي ترى إذا كان يتبعها أحد.
وبعد أن مر بها ثلاثة أيام على هذه الحال كتب إليها مورليكس يستدعيها فعزمت على الذهاب إليه.
ولما خرجت جعلت تتلفت عن يمينها ويسارها، فلم تجد ما يحمل على الشبهة ولم تر غير بنائين كانا جالسين في ظل باب يأكلان خبزا أسود، وأمامهما كلب يرميان إليه فتاة ذلك الخبز من حين إلى حين فلم تحفل بهما وظلت سائرة على قدميها حتى بلغت محطة المركبات، فركبت وسارت بها إلى منزل كارل.
فأطلق أحد البنائين الكلب في أثرها وقال له: ابحث عن هذه المرأة.
فهرول الكلب حتى بلغ المركبة وجعل يسير وراءها مقتفيا آثارها.
وبعد حين عاد الكلب إليهما فأمراه أن يسير أمامهما إلى حيث وقفت المركبة وتبعاه حتى وصلا إلى منزل مورليكس، فوقفا بإزاء المركبة التي كانت واقفة عند الباب.
وكان هذان الرجلان روكامبول ونويل وهما متنكران بملابس البنائين، فقال روكامبول: هذا منزل مورليكس ولا بد أن يكون أجينور فيه الآن؛ لأني أرسلته لمقابلة عمه فعسى أن لا يجتمعا.
ثم قال له بعد أن افتكر هنيهة: اذهب الآن إلى هذه القهوة الكائنة أمام الثكنة وعد إلى هنا بعد ساعة.
فرد عليه نويل: وماذا أنت صانع؟ - إني سأنصرف أيضا؛ لأني أخشى إذا بقيت أن تراني فاسيليكا، إذ قد تعرفني مهما بالغت في التنكر.
ثم تركه وانصرف، فأخذ نويل الكلب وسار به إلى تلك القهوة التي أخبره عنها روكامبول.
وبعد ساعة عاد نويل بالكلب إلى قرب منزل مورليكس كما أمره روكامبول، فما لبث الكلب أن شم التراب حتى علم أن فاسيليكا خرجت من المنزل فسار في أثرها وتبعه نويل.
فسار الكلب في شارع هوسمان حتى بلغ شارع ملهرب، وهناك نظر إلى نويل، فأشار إليه نويل أن يسير في أثر المركبة فامتثل، وما زال يسير حتى دخل في شارع كاسيت ووقف عند ذلك المنزل الذي حبست فيه فاسيليكا إيفان، فجعل يضرب بيديه بابه فعلم نويل أن فاسيليكا داخل هذا المنزل وأن إيفان مسجون فيه.
وعند ذلك أشار له نويل بيده إلى الجهة التي ترك فيها روكامبول أمام منزل مورليكس، وقال له: اذهب وادع الرئيس ...
فانطلق الكلب انطلاق السهم وجعل نويل يطوف حول المنزل، وهو يحمل عدة البناء ويراقب ذلك المنزل أتم المراقبة.
وفيما هو يطوف حول المنزل، إذ رأى بابه انفتح وخرج منه رجل ما لبث أن رأى نويل، حتى ظهرت على وجهه علائم السرور، وكان هذا الرجل بيريتو.
أما نويل فإنه تظاهر أنه لم يره وظل سائرا في طريقه.
فأسرع بيريتو في اقتفائه وهو يناديه: أيها البناء قف إني في حاجة إليك.
فالتفت نويل إليه وهو يتكلف هيئة الانذهال وقال له: تدعوني أنا؟ - نعم أيها الرفيق فإني محتاج إليك. - ماذا تريد مني؟ - أريد أن أشغلك إن كان لا شغل لك. - لقد أخطأت فإني ذاهب إلى عملي. - نعم، ولكنك تشتغل كل يومك فلا تكسب أجرة يوم، بيد أنك ستشتغل عندي ساعة فقط. - كم تعطيني؟ - عشرين فرنكا ...
فاندلع لسان نويل وتظاهر بالفرح الشديد وقال: أحقيقة ما تقول؟ - نعم وهو ذا البرهان.
ثم أعطاه عشرين فرنكا، وقال له: إننا نمنحك ضعف هذا الجزاء، إذا أتقنت العمل. - ولكن ماذا تريدون أن أعمل؟ - سوف ترى فاتبعني.
فتبعه نويل حتى دخلا باب المنزل، فأغلقه بيريتو وقال لنويل: إنك تعلم يقينا أن مثل هذه الأجرة لا تدفع عن شغل ساعة، إلا لعمل سري.
ثم أخذ منديلا من جيبه ودنا منه فذعر نويل وقال له: ماذا تصنع؟ - إني أريد أن أعصب عينيك كي لا ترى طريق المكان الذي ستشتغل فيه، فإذا لم يرق لك ذلك أرجع لي ما دفعته إليك. - ليكن ما تريد فاعصب عيني.
فعصب بيريتو عينيه ثم أخذ بيده وقال له: اتبعني.
27
عندما صعق إيفان المخدر الذي شربه، وطلبت فاسيليكا إلى بيريتو أن يحضر لها بناء قال لها الخادم: ماذا تريد سيدتي من البناء، ألعلها تنوي سد باب القبو؟ - كلا بل أبغي عكس ذلك وهو أني أريد أن أفتح نافذة فيه.
فنظر إليها بيريتو بانذهال شديد حتى أوشك أن يتهمها بالجنون.
فقالت فاسيليكا: ألا ترى قبة هذا القبو؟ - نعم يا سيدتي. - إنه يوجد فيها حجران كبيران إذا أرشدت البناء إلى موضعهما يستطيع أن ينزعهما في الحال. - ولكن هذا القبو يا سيدتي يبعد ثلاثين قدما عن سطح الأرض. - ماذا تعني؟ - أعني أنه إذا كان القبو في جوف الأرض فأية فائدة من النافذة، وعلى أي مكان تشرف؟
فلم تتدان فاسيليكا إلى إجابته، وقالت له بلهجة السيادة: اذهب وائتني ببناء.
فامتثل بيريتو وأخذ المصباح فمنعته وقالت له: دع المصباح في مكانه؛ لأني باقية هنا ولا تساوم البناء فادفع له ما يريد، ولكن احذر أن تدعه يعرف طريق القبو، ولا تدخله إلا معصوب العينين.
ولما ذهب بيريتو بقيت فاسيليكا وحدها تنظر إلى إيفان المنطرح أمامها وشفتاها تبسمان لما أدركته من لذة الانتقام.
ولبثت قريرة العين ناعمة البال بهذا المنظر إلى أن عاد بيريتو ومعه نويل يحمل عدة البناء وهو معصوب العين.
فنظرت فاسيليكا إلى بيريتو وأشارت إليه إشارة، فحمل إيفان ووضعه وراء الجثة، وطرحت فاسيليكا فوقه رداء كبيرا فاحتجب عن الأنظار، ثم أمرت بيريتو بإشارة أخرى أن يقف أمام الجثة كي يحجبها أيضا عن نظر نويل.
ولما فرغت من ذلك دنت من نويل وفكت عصابة عينيه، فتكلف نويل مظاهر الخوف الشديد، وجعل ينظر نظر الوجل والرعب إلى جميع ما ظهر له.
فقالت فاسيليكا: اطمئن أيها الرجل فليس هنا ما يخيف. - ماذا تريدين أن أصنع لك يا سيدتي؟ - إن الأمر بسيط، اصعد فوق هذه الطاولة وخذ بيدك المطرقة؛ لأني أريد أن تفتح نافذة في قبة هذا القبو.
فصعد نويل وضرب السقف بالمطرقة ثم قال: إن الحجر صلب يا سيدتي. - ليس في كل مكان فاضرب هنا.
ثم أشارت له بيدها إلى موضع عينته فبدأ العمل، وما لبث ساعة حتى فتح بتلك القبة منفذا متسعا يستطيع أن يمر به إنسان.
وكان بيريتو يراقب عمله وهو يذوب شوقا إلى معرفة ما وراء هذا المنفذ، ولكنه لم ير منه غير ظلام حالك، وعلم أن فوق هذا القبو قبوا آخر يتصل به من هذه النافذة.
أما نويل فإنه لما فرغ من عمله هذا نظر إلى فاسيليكا كأنه ينتظر أوامر جديدة.
فقالت له فاسيليكا: لم نعد في حاجة إليك فانزل.
ثم قالت لبيريتو: كم وعدت هذا الرجل أن تعطيه؟ - أربعين فرنكا.
فأخذت فاسيليكا من جيبها ورقة مالية قيمتها مائة فرنك، وأعطتها لنويل.
فتظاهر نويل بسرور لا يوصف وجعل يقلب الورقة بين يديه بمظاهر العجب، حتى إن فاسيليكا لم تتمالك عن الضحك وقالت له: إنك تستطيع الآن أن تذهب؛ لأن شغلك قد انتهى.
فجاءه بيريتو وعصب عينيه ثم أخذ بيده وقال له: اتبعني. •••
ولنعد الآن إلى روكامبول، فإنه بينما كان نويل يشتغل في ذلك القبو، كان روكامبول يسير وراء الكلب الذي أرسله نويل إليه.
فما زال يسير حتى وصل إلى شارع كاسيت ووقف أمام باب ذلك المنزل المسجون فيه إيفان.
فعلم روكامبول أن فاسيليكا فيه، وذهب إلى منعطف الشارع فكمن هناك وهو ينظر إلى المنزل مفكرا، ولكنه لم يطل التفكير فإنه عرف البيت وذكر حوادث جرت له فيه.
وبعد هنيهة رأى نويل خارجا من الباب يقوده بيريتو ورآه يفك عصابة عينيه، فلما فرغ منه أطلق سراحه وعاد إلى المنزل.
فصفر روكامبول لنويل صفيرا عرفه، فجاء إليه وخلا الاثنان فقال له روكامبول: ماذا كنت تصنع؟ - إني كنت أشتغل بحرفتي، ولكني رأيت أمورا لم أفهم منها شيئا إلى الآن.
ثم قص عليه جميع ما اتفق له، وإنه تمكن أن يزيح العصابة قليلا عن عينيه وهو في القبو، فرأى رجلا صريعا ملقيا في زاوية القبو، ورأى فاسيليكا طرحت فوقه رداء كبيرا، ثم أخبره أنه رأى أيضا في ذلك القبو جثة بالية.
وسأله روكامبول: أما علمت لماذا فتحت النافذة في سقف القبو؟ - كلا. - ماذا كان وراء الثقب؟ - لا أعلم. - أما ذكرت هذا البيت الذي دخلت إليه؟ - كلا، لأني ما عرفته من قبل.
فوضع روكامبول يده فوق جبينه كمن يتذكر أمرا ثم قال: نعم إنك لا تعرف هذا البيت؛ لأنك لم تكن يوم حوادثه في عصابة السير فيليام، حينما دخلت أنا وإياه.
ثم أخذ بيده وقال: هلم بنا إلى هذه الحانة، نشاهد منها كل من يدخل إلى المنزل ويخرج منه، وأقص عليك ما جرى لنا من الحوادث، أيام الغرور.
28
كان روكامبول ونويل متنكرين بملابس البنائين فلم يكترث لهما أحد من الذين كانوا في تلك الحانة.
وقد طلب روكامبول إلى الخمار زجاجة من الخمر وجلس يتعاطاها مع رفيقه في زاوية من الحانة، ويرقب من نافذتها باب منزل فاسيليكا.
وقد دار الحديث بينهما كما يأتي، فقال روكامبول: تقول: إنك رأيت هيكلا من العظام في القبو مشدودا إلى الجدار؟ - نعم. - وإنك رأيت رجلا يشبه النائمين كان منطرحا على الأرض؟ - نعم أيها الرئيس. - أأنت واثق أنه لم يمت؟ - لقد حسبته ميتا في بدء الأمر وإنهم لم يحملوني على فتح النافذة في قبة القبو إلا لتكون قبرا له ولكن ... - ولكن ماذا؟ - ولكنهم لم يسألوني سدها، فاستنتجت من ذلك أن الرجل نائم غير ميت. - وأنا أرى ما تراه، وأظن أن هذا الرجل النائم هو ذلك الشاب الروسي الذي نبحث عنه، وأن فاسيليكا لم تقتله وأنها لم تعد له انتقاما شرا من كل قتل. - إذن قص علي يا سيدي الرئيس حكاية هذا المنزل، التي وعدتني بحكايتها. - هذه هي فاسمع، إن هذا المنزل الذي دخلت إليه، بقي دهرا طويلا مهجورا لا يسكنه أحد وكان له سمعة سيئة تنفر عنه الناس، ويظهر أن هذه الوصمة لا تزال لاحقة به؛ لأن الحوادث الفظيعة لا تزال تجري فيه. - من كان صاحب هذا البيت؟ - امرأة عجوز كانت تقيم في الريف ولم تعد إلى باريس منذ ثورة يوليو سنة 1830. - وهل استأجره أحد بعدها؟ - لم يستأجره أحد قبل سنة 1840 وبقي مهجورا عشرة أعوام، وقد ماتت العجوز وتركت المنزل لورثتها.
أما تلك العجوز فقد كانت في أيام صباها حسناء وكان لها زوج يبالغ في الغيرة عليها مبالغة تزهق الأرواح.
وقصتها تبدأ في سنة 1800 - أي في بدء عهد الإمبراطورية - فإن زوجها كان من الضباط ولم يكن يستطع العسكريون في عهد نابليون الأول أن يقيموا مع زوجاتهم لكثرة؛ لانشغالهم بالحروب.
وكان هذا الضابط في ذلك العهد في ألمانيا مع جيش نابليون المنتصر فورد إليه كتاب دون توقيع يخبره بأن امرأته تخونه.
فترك الجيش وهرول إلى باريس ولم يحضر إلى منزله، لكنه استأجر منزلا مجاورا لمنزلها وأقام فيه يراقبها وهي لا تعلم شيئا من أمره.
وكان لهذه المرأة الخائنة خليل يزورها كل ليلة؛ فانتظرته في إحدى الليالي حسب عادتها ولم يحضر، واتفق لها مثل ذلك في اليوم التالي. ثم تعاقبت عليها الأيام والليالي وهي لا تقف على أثر من آثار هذا العاشق المنكود.
ثم تغير نظام المملكة وسقطت الإمبراطورية ورقي زوجها الضابط إلى رتبة جنرال في باريس، فأقامت معه أعواما طويلة دون أن تسمع منه كلمة تعنيف أو تبدر منه بادرة تشير إلى أنه يشك بطهارتها.
غير أن حبها لعشيقها كان قد بات ملء نفسها الفاسدة فرق جسمها لفراقه، واشتد هيامها حتى باتت تشتهي الموت كل حين.
وكان أشد ما يشغلها أنها لم تكن تعلم إذا كان هذا العاشق ميتا فتبكي شبابه أو حيا فتبكي ولاءه.
وفي سنة 1830 قتل زوجها الجنرال في شوارع باريس فبرحت الأرملة ذلك المنزل، وكان لها منزل آخر في شارع باريس لورين، فأقامت فيه إلى أن أدركتها الوفاة. - أماتت دون أن تعرف مصير عشيقها؟ - هكذا يظهر. - ولكن ماذا جرى لهذا العاشق؟ - جرى له أمر هائل، وذلك أنه كان للجنرال خادم يخلص له غاية الإخلاص، فقبض الاثنان على العاشق في ليلة كمنا له فيها في حديقة المنزل، فسدا فمه كي يمنعا صراخه وقيدا يديه ورجليه.
ثم حملاه إلى ذلك القبو الذي خرجت منه الآن، فوضعا قيدا في عنقه ورجله وربطا هذا المسكين بسلسلة في الجدار. - إذن هذه الجثة التي رأيتها كانت جثته؟ - نعم. - وقد مات في هذا القبو؟ - دون شك، ولكن ليس هذا كل الحكاية فاصغ إلى النهاية.
إني عندما كنت أشتغل في عصابة أندريا المقلب بالسير فيليام، كان هذا الزعيم الهائل لا ينظر مرة إلى منزل هذه المرأة إلا تخامره الظنون بعزلة أصحابه ويقول: لا بد لهذه العزلة والسكينة من أسرار غامضة، ولا بد أن تكون الكنوز مخبوءة في هذا المنزل، فتهيج منه عوامل الشر حتى تتغلب عليه ويتأهب لجلاء الغامض عن هذه الأسرار.
إلى أن قال لي يوما: قد تحققت أنه لا يوجد في هذا المنزل غير خادم عجوز لا يخرج منه على الإطلاق، فإذا شئت دخلنا إليه ولا بد أن يكون فيه مال كثير.
أجبته: إن الأمر إليك، ودخلنا في ليلة حالكة إلى المنزل بعد أن فتحنا أبوابه بمفاتيح خاصة ووجدنا الشيخ مقيما في غرفة أقفل بابها وكان ينبعث منها نور ضعيف.
فدنا أندريا من الباب ووضع عينيه على ثقبه فرأى الشيخ لا يزال ساهرا، وكان راكعا أمام صليب وهو يصلي بصوت ضعيف ويقول: «يقال إن الأموات لا تحضر أرواحهن إلى الأحياء، فإذا كان الحق ما يقولون فابعث لي بروحك كي تحلني من تلك اليمين التي حلفتها، فأدفن بقايا هذا المسكين.»
فلما سمع أندريا هذه الأقوال أحب أن يدرك أسرارها؛ فرفس باب الغرفة فانفتح.
وهجم على الشيخ بخنجره قبل أن يتمكن من الصياح، وقال له: إذا فهت بكلمة فأنت من الهالكين.
فذعر الشيخ وبلغ منه الخوف مبلغا شديدا فباح لنا بكل شيء، ونزل بنا إلى القبو وأرانا تلك الجثة المقيدة بالسلاسل.
ثم ضرب يده على الجدار وقال: يوجد وراء هذا القبو قبو آخر وقد ثقبه الجنرال زوج المرأة ووضع في القبو الثاني بابا صفحه بمرآة طويلة إذا فتح أشرف على الحديقة، ووضع فوق الثقب مرآة تقابل المرآة الأولى، فإذا فتح باب القبو المشرف على الحديقة وفتح ثقب هذا القبو تنعكس أشعة المرائي فيرى المقيم في القبو تلك الحديقة ومن يكون فيها.
وقد عاش صاحب هذه الجثة عشرة أعوام، ولما مات سدت الثقب كي لا تعرف أسراره.
فقاطع نويل روكامبول وقال: إني لا أفهم هذه الألغاز. - إن الأمر واضح، إن النافذة التي فتحتها في القبو بإرشاد فاسيليكا هي نفس الثقب الذي فتحه الجنرال ووضع فيه تلك المرائي في القبو الآخر المشرف على الحديقة.
وقد كان عقاب الجنرال لصاحب هذه الجثة الذي كان يعشق امرأته عقابا هائلا لا يخطر على بال إنسان.
إن هذا المنكود أقام في القبو عشرة أعوام وكان يحضر له طعاما كل يوم ولكنهم ينقصونه بالتدريج حتى مات جوعا.
وليس هذا كل عقابه بل إنه كان يرى كل يوم امرأة الجنرال تتنزه في الحديقة كئيبة حزينة لاحتجابه، وهو يراها من الثقب المفتوح بواسطة انعكاس أشعة المرائي. - ولكنه عقاب هائل لم يرو مثله في القرون الغابرة. - هو ما تقول، ويظهر أن فاسيليكا قد عرفت سر هذا القصر، وأنها تعد لإيفان عقابا شبيها بعقاب الجنرال، ولكني لا بد لي أن أعلم كيف وقفت على سره. - وما صنعتم بالخادم العجوز؟ - طعنه أندريا بخنجره طعنة قاتلة ثم نهبنا البيت وخرجنا.
ولم يكد روكامبول يتم حديثه حتى رأى باب المنزل قد انفتح، وخرجت منه فاسيليكا فقال لنويل: ها هي خرجت فاذهب في أثرها.
فامتثل نويل واقتفى أثرها حتى رآها ركبت مركبة، ثم عاد إلى روكامبول، وأخبره بما رآه، فقال له: هلم بنا إذن إلى دخول هذا المنزل.
29
حسب روكامبول ونويل أنه لا بد للكونتس فاسيليكا من مدة ساعة على الأقل؛ كي تذهب إلى منزلها في الشانزليزه وتعود إلى منزلها في كاسيت، هذا إذا كانت تنوي العودة إليه، وهذه المدة كافية للدخول إلى المنزل وتفقد القبو.
فذهب إلى الباب وقرع الجرس المعلق بسلسلة بارزة مدلاة غير أن الباب لم يفتح فقرعه نويل ثانية وثالثة فلم يجبه أحد.
ولكن الباب الكبير فتح رتاجه، وبرز منه وجه بيريتو، فأسرع روكامبول إلى الاختفاء وراء الباب كي لا يراه، ولم يبق ظاهرا له غير وجه نويل.
فانذهل حين رآه وقال له: ماذا تريد ولماذا تقرع الباب؟
فتكلف نويل هيئة الحزن والكآبة وقال له: أرجوك أن تعذرني يا سيدي إني لم أعد إليك إلا لأني أصبت بويل عظيم. - كيف ذلك، وماذا دهاك؟ - ألم تعطني تلك السيدة الجميلة ورقة مالية قيمتها مائة فرنك؟ - نعم. - إني أضعتها وا أسفاه. - ويحك أين أضعتها؟ - لا أعلم ولكني أظن أني فقدتها على السلم أو في صحن الدار. - إذن عد بعد ساعة فسأبحث عنها وإن وجدتها أرجعتها لك.
ثم أغلق الرتاج بوجهه وانصرف.
ولكن هذا الذي كان يريده نويل فإنه تمتم بعض كلمات شكر ونظر روكامبول كأنه يستشيره فيما ينبغي أن يفعل.
وكان روكامبول مقطب الحاجبين يظهر منه أنه كان يتذكر أمرا بعيدا، سار بنويل بضع خطوات وقال له: أهذا الذي عصب عينيك؟ - نعم أيها الرئيس؟ - إذن فهو خادم فاسيليكا. - دون شك. - أما هو قصير القامة عريض المنكبين أسود الشعر خفيف اللحية؟ - هو بعينه. - لقد عرفته من صوته. - إذن أنت تعرفه من قبل؟ - نعم، وسر بنا الآن. - إلى أين أرجعت عن عزم الدخول إلى المنزل؟ - ألا ترى أنه لا يريد أن يفتح؟ - أأطرق الباب أيضا؟ - كلا، لقد قال لك: أن تعود بعد ساعة. - أتريد أن أعود إليه؟ - سأعود معك.
وبينما كان روكامبول ونويل يبتعدان، كان بيريتو واقفا وراء الباب وقد ذعر لعودة ذلك البناء، فإنه كان واثقا من أن نويل يكذب فيما ادعاه من ضياع الورقة؛ لأنه رآه قد وضعها في طرف منديله وعقد عليها ووضعها في جيبه، فاضطرب لرجوعه وحمله على محامل الشر.
وكان بيريتو هذا جريئا مقداما إلا حين يلتقي بعدو شديد فيضعف أمامه وتذهب جرأته، وقد كان سمع من فاسيليكا أن رجلا هائلا يسعى إلى إنقاذ إيفان وأن هذا الرجل يدعى روكامبول.
فاستولى عليه الخوف حين رأى نويل عائدا إليه وكان اضطرابه شديدا، حتى إنه حين أغلق رتاج الباب أي نافذته التي في داخله في وجه نويل نسي أن يقفلها بالمزلاج.
وقد قال في نفسه إن الكونتس لديها مفتاح للباب، وأنا لا أنتظر أحدا فإذا عاد البناء فليطرق الباب قدر ما يشاء فإني لا أفتح له، ثم ذهب إلى إحدى غرف المنزل وانزوى فيها يضرب أخماسا لأسداس.
وبعد ساعة عاد نويل وروكامبول فحاول نويل أن يدق الجرس، غير أن روكامبول منعه؛ لأنه لاحظ أن نافذة الباب غير محكمة الإقفال.
وكان ذلك الشارع مقفرا لا ينتابه أحد، ففتح روكامبول تلك النافذة ومد يده منها إلى مزلاج الباب، فرفعه ورفس الباب فانفتح، ثم دخل الاثنان وأقفلا ذلك الباب.
وكان بيريتو جالسا في تلك الغرفة التي أكل فيها مع فاسيليكا، ولكنه فتح النافذة المشرفة على الردهة.
ولم يكد ينظر منها حتى دنا روكامبول ونويل من تلك الغرفة، فسمع وقع أقدام فحسب أن فاسيليكا القادمة وأسرع إلى فتح الباب لاستقبالها.
ولكنه ما لبث أن فتحه حتى شاهد نويل مسلحا بمطرقته وروكامبول بمسدسه فجعل يصيح ويستغيث.
ولم يطل صراخه ، فإن روكامبول هجم عليه فضغط على عنقه، وقال له: اسكت أو أقتلك.
ثم أخذه بيده وقاده إلى تلك النافذة لكثرة نورها وقال له: تفرس في وجهي وانظر إلي بإمعان، أما عرفتني؟
فصاح بيريتو صيحة رعب وقال: أأنت المائة وسبعة عشر؟ (اسم روكامبول في سجن طولون). - نعم، أنا هو، ألا تذكر حين كنا مقيدين في سجن طولون بسلسلة واحدة ثم التفت إلى نويل وقال له: أما عرفته؟ - كلا، إني ما رأيته في ذلك السجن. - لقد أصبت، فإنك لم تحضر إلى طولون إلا بعد عام من قدومي إليها، وكانت قد انقضت مدة سجن هذا اللص حين قدومك، ولكني تقيدت معه في قيد واحد مدة شهرين.
أما بيريتو فقد كان شديد الذعر، فقال له روكامبول: لقد عرفت أني كنت أدعى 117، ولكنك لم تعرف أني أدعى أيضا روكامبول ... - أنت روكامبول؟ - نعم أنا هو، وإني أخيرك الآن بين أمرين وهما: إما أن تكون من رجالي المخلصين بملء الطاعة والانقياد، وإما أن أغمد خنجري في صدرك.
فلم يتردد بيريتو بالجواب وقال: إني أطيعك ولا أحب إلي من الاندماج في سلك عصابتك، ولو كنت أعرف مكانك لما فضلت خدمة هذه المرأة على خدمتك.
وعند ذلك قرع الجرس فذعر بيريتو وقال: هو ذا السيدة قد عادت. - أهي الكونتس فاسيليكا؟ - نعم. - إذن يجب أن تخبئنا كي لا ترانا.
فاتقدت عينا بيريتو بأشعة خاطر خطر له وقال للاثنين: قفا هنا.
وأشار لهما أن يقفا في ذلك القسم المتحرك من الغرفة، ففعلا ثم أسرع إلى الجدار وأدار لولبا فيه، فهوت أرض الغرفة وتوارى روكامبول ونويل عن الأنظار.
30
مضى على هذه الحادثة المقدمة يومان كان كارل دي مورليكس وفاسيليكا يجتمعان في خلالهما مرات كثيرة.
وكان هذا الشيخ الفاسد الأخلاق قد استحالت أخلاقه، ولم تعد بادية على وجهه ظواهر القلق واضطراب النفس؛ ذلك لأن أجينور قد اتفق وإياه، فوافق على أن لا يعارض زواجه بمدلين إذا رضيت بهذا الزواج.
أما مدلين فإنها كانت لا تزال تدعوه خالها، لكنها لم تعد تردد اسم إيفان حسب العادة، فحسب كارل أنها قد بدأت بنسيان عشيقها، وأن إيفان قد أساء إليها إساءة لا تغتفر لعدم بحثه عنها.
ثم إن فاسيليكا أقسمت له أنها ستزوجه مدلين، وكان يثق بها ثقة شديدة فاطمأن خاطره.
إلا أن فاسيليكا لم يرق لها إلا تعكير صفائه وتكدير أمانيه، فإنها جاءت إليه في الصباح وقالت له: إن كل شيء قد تهيأ وقد أعددت لك في منزلي كل ما يروق ولم يبق إلا إقناع مدلين على الذهاب إلى هذا المنزل.
فسر كارل وقال: إنها تسير معي إلى حيث أشاء إذ لم تعد تجفوني ذلك الجفاء القديم. - إذن كل شيء يجري وفق ما تريد ولكن ...
فاضطرب كارل وقال: ولكن ماذا؟ - إني أخشى روكامبول. - ألا تزالين تخافيه؟ - نعم ... وإني أخشى أيضا الكونتس أرتوف؛ لأن أنطوانيت لا تزال عندها. - لا سبيل إلى الخوف منها ما زال أجينور مواليا لي. - إنك مخطئ في اعتقادك ولو سمعت نصيحتي، لفعلت ما أشرت به عليك. - بما أشرت علي؟ - باتباع الطريقة التي تغل يد روكامبول. - وما هي؟ - هي أن تصيب أحد أحبائه بمكروه شديد يشغله عنا. - نعم، أذكر ذلك ولكني أرى أنه لا فائدة منه. - إن العاقل يجب أن يحذر ويتوقع كل شيء، فإن السفن قد تغرق في الموانئ وهي تحسب نفسها آمنة فيها. - لقد أصبت، ولكن ماذا يجب أن أفعل! ... أأقتل الوالد أم اختطف الولد؟ - إني أؤثر اختطاف الولد، فإنه بينما يكون روكامبول يجد في البحث عنه أكون أنا قد انتقمت من إيفان وأنت تزوجت مدلين، وهو مشتغل عنا بالتفتيش عن الغلام. - سأفعل ما تشائين إذا كان لا بد من اختطاف الولد.
فابتسمت فاسيليكا ابتسام الساخر، وقالت: يظهر أن سوء التفاهم قد اشتد بيننا. - كيف ذلك؟ - ذاك أني أسدي إليك نصائح ولا ألقي عليك أوامر، فإني أصبحت واثقة من الظفر بانتقامي، وما أشير عليك به الآن محض الإخلاص.
وما عسى أريد أنا سوى تعذيب ذاك الأبله الذي رفض غرامي تعذيبا شديدا قبل موته؛ لأني أعددت له موتا هائلا ...
وقد حان زمن انتقامي الرهيب، أما أنت فإنك لم تجر خطوة في سبيل أغراضك.
فقال كارل وقد بدت عليه ملامح الاضطراب: ألعله يوجد من يوقفني في هذا السبيل؟ - يوجد رجل واحد وهو روكامبول، واصغ إلي الآن، فلقد سمعت ابن أخيك يقول لك منذ يومين: إن مدلين هربت من قصر الكونتس أرتوف والتجأت إليك. - ماذا تريدين بذلك؟ - أريد أني لا أصدق هذه القصة، فإن تلك الفتاة التي تشبه مدلين لا يزال أمرها مثيرا لظنوني، فإني ما رأيت واحدة من هاتين الأختين، وأظن أني إذا رأيت تلك الفتاة التي عندك أعرف الحقيقة لأول نظرة.
وقاطعها كارل مبتسما: سأزيل شكوكك.
ثم نادى أحد الخدم وقال له: قل للسيدة مدلين أن تحضر إلي.
وبعد هنيهة جاءت مدلين وكانت لابسة ملابس غاية في البساطة.
فقال لها كارل بلهجة حنو أبوي: إني دعوتك كي أعرفك بالكونتس واسرنوف لشدة اتصالها بأسرة بونتيف.
فصاحت كلوريند صيحة فرح وضغطت بيدها على يد فاسيليكا.
غير أن فاسيليكا، لم تكن من النساء اللواتي يؤخذن فجأة بمثل هذه الظواهر.
وكانت تحب إيفان فهي بالطبع تكره مدلين، ونظرت إليها نظرة هائلة ذعرت لها حتى إن كارل نفسه اضطرب، غير أنها رأت أنها قد جرت شوطا بعيدا، فعادت إلى الابتسام وقالت لها: اطمئني أيتها الآنسة فإني قد رجعت عن حب إيفان.
فأجابتها كلوريند بصوت تبينت منه لهجة الالتماس: إنك ما زلت تظهرين بهذه المظاهر النبيلة فكوني يا سيدتي كريمة للنهاية. - إنك تريدين أن تعلمي أين هو إيفان، أليس كذلك؟
فضمت كلوريند يديها كما يفعل المتلمس وقالت: نعم، نعم يا سيدتي فقولي بالله أين هو ... - إذن فأنت تحبينه؟ - حبا أكيدا صادقا تضيق به الصدور.
فابتسمت وقالت: إني أعدك بإرشادك إلى مكانه فاحضري غدا إلى منزلي في شارع كاسيت. - مع خالي؟ - دون شك، وسأخبرك بأنباء إيفان، وأرجو أن تكوني سعيدة وإياه.
ثم نهضت فودعتها وأشارت إشارة خفية إلى مورليكس فقدم لها ذراعه، وسار بها كي يوصلها إلى الباب الخارجي.
ولما اختليا بالحديقة سألها: ألا تزالين على ريبك القديم؟ - نعم ، بل إن هذا الريب قد زاد عندي فإن هذه الفتاة تشبه مدلين شبها غريبا وتمثل دورها أبرع تمثيل.
فاضطرب كارل وسألها: ألم تنظري كيف احمر وجهها وارتجفت حين ذكر أمامها اسم إيفان، ثم ألم تسمعي تلك الصيحة التي خرجت من أعماق نفسها سرورا به؟ - نعم، ولكن ... - ولكن ماذا؟ - إن قلبي لم يمل إلى كرهها، ولم أجد بعد محادثتها من الانقباض ما تجده المرأة حين ترى مزاحمتها فيمن تهواه. - أهذه كل براهينك؟ - ومع ذلك فصبرا إلى الغد وسوف نرى. - وماذا تفعلين غدا؟ - أخبرك إذا كانت هذه التي عندك مدلين أو كلوريند. - وكيف تعرفين؟ - ذلك سر لا أبوح به الآن ...
ثم ودعته وانصرفت، وقد غادرته مفكرا مهموما فلما دخل إلى غرفته قال في نفسه: إنها مدلين دون شك ولكن يظهر لي أنها هناك ... في روسيا لم يكن لها هذا الصوت.
31
كانت فاسيليكا ماهرة في تركيب السموم والمخدرات، فإنها أخذت هذه الصناعة عن خادمة لها شركسية، وكانت الخمرة التي شربها إيفان ممزوجة بمخدر شديد صعق إيفان عند شربه، وسقط صريعا على الأرض كما تقدم.
غير أنه لم يمت بل إنه أصيب بسبات شديد يشبه الموت كما حدث لأنطوانيت حين أخرجها روكامبول من سجن سانت لازار بمخدر، فإن المخدرين كانا واحدا، إلا أن روكامبول جعله حبوبا وفاسيليكا جعلته سائلا.
ولبث إيفان صريعا ثلاثة أيام حدث في خلالها أمور كثيرة في ذلك القبو، بينما كان نائما فيه نوم الأموات.
ثم جعلت أعراض التخدر تزول تباعا فتبينت في البدء حاسة السمع ثم الشم، ففتح عينيه فوجد المصباح لا يزال يضيء في موضعه من القبة.
ثم وجد الجثة البشرية لا تزال مشدودة في موقعها من الجدار.
وكانت أعضاؤه لا تزال مخدرة بحيث لا يستطيع الوقوف، ولكنه كان يجيل نظره فرأى ثقبا كبيرا في سقف القصر لا يخرج منه غير الظلام.
وحار في أمره وقال في نفسه: من ثقب هذا الثقب، وما المراد منه؟ ألعلي أجد به منفذا إلى الخارج؟
وعاد إليه شيء من الرجاء وجعل يفتكر في ماضي أمره، فذكر أن فاسيليكا وعدته بإخراجه ولكنها قالت له: إنه سيخرج نائما كما دخل، وها هو قد استيقظ ولا يزال في القبو، ألعلها كاذبة فيما وعدت؟
ولبث على هذه الحالة ساعتين وهو لا يستطيع الوقوف لما أصابه من التخدير، ثم شعر فجأة أن قواه قد اشتدت فنهض وأسرع إلى كرسي في القبو قد وضعت تحت الثقب وحاول الصعود عليها.
ولكنه قبل أن يصعد رأى أن باب القبو فتح، ودخلت منه فاسيليكا وحدها وهي تحمل مصباحا بيدها.
فنظر إليها نظرة منكرة ولم ير بيدها ذلك المسدس، وقال: أهكذا يكون وفاء الوعود؟
فابتسمت له وقالت: طب نفسا، فإني ما أتيت إلا لأفي بوعدي. - إذن سأخرج من هنا.
فأقفلت باب القبو بسكينة وقالت له: كلا ... - كيف هذا؟ وما هذا المخدر الذي سقيتني إياه؟ - إنه لم يكن بد منه. - لماذا؟ - لثقب هذا الثقب مدة نومك. - وما هذا الثقب؟ - إنك سترى منه مدلين، فانظر.
ولم تكد تفوه بهذه الكلمة حتى بزغت الأنوار من ذلك الثقب.
ذلك أنها أدارت لولبا في الجدار فانعكست أشعة المرائي، فدهش إيفان دهشا عظيما ورأى حديقة المنزل بجملتها قد ظهرت لعينيه.
ثم رأى أشعة الشمس تسطع في تلك الحديقة، ورأى رجلا وامرأة يتأبط كل ذراع الآخر وهما يتنزهان.
فانقبض صدره انقباضا شديدا؛ إذ عرف أن الرجل هو كارل مورليكس، ثم ما لبث أن عرف المرأة أيضا، وهي مدلين فاصفر وجهه وانحبس نفسه وظهرت ملامح الغضب الوحشي بين عينيه.
وكانت مدلين تبتسم وتدل ظواهرها أنها سعيدة.
أما كارل فكان يظهر لإيفان أنه يضغط على يدها، وأن الاثنين يتحدثان بحديث غرام.
ثم حان الوقت كما يظهر، فأخبر كارل مدلين ذاك الخبر السار عن خطبة إيفان لها كما اتفق عليه مع فاسيليكا، ورأى إيفان من انعكاس تلك المرآة أن مدلين قد طوقت عنق كارل بذراعيها وجعلت تقبله.
فهاج إيفان هياج الضواري وصاح صيحة منكرة، وعند ذاك أدارت فاسيليكا اللولب فاحتجبت الحديقة وانسدل الظلام على الثقب ولم يعد يرى الفتاة ولا الشيخ، بل رأى أمامه ابنة عمه فاسيليكا تبتسم ابتسام المنتصر وتقول له: كيف رأيت يا ابن عمي العزيز أكنت كاذبة فيما قلته لك؟
فضم إيفان قبضته وقال بلهجة القانطين: لا بد لي من قتلها كي تنال جزاء الخائنين. - كلا، لا حق لك بالانتقام من امرأة لا تحبك. - إذن كيف تنتقمين مني أنت؟
فضحكت وقالت: إنك مخطئ بما تتهمني به، فإني لا أبغي الانتقام منك بل أحاول أن أعلمك علما قد يفيدك في مستقبل الأيام. - كيف ذلك؟ - بل أردت أن أبرهن لك أنه حين يتدانى رجل له منزلتك ومقامك إلى حب مثل هذه الفتيات، فلا بد له أن يلقى ما يكره، والآن فهات يدك واصفح عني كما صفحت عنك. - ماذا تقولين؟ أتطلقين سراحي؟ - دون شك ولكن بشرط واحد. - ما هو؟ - هو إنك لا تحاول أن ترى تلك الفتاة التي عبثت بك والتي ستغدو قريبا الكونتس دي مورليكس. - سأفعل ما تريدين ولكني أحب أن أكتب لها على الأقل. - لماذا؟ - لأخبرها أني بت أحتقرها بقدر ما كنت أحبها. - فأجابته من غير اكتراث: ليكن ما تريد.
ثم أخذت يده وقالت له: هلم بنا فاتبعني.
وفتحت باب القبو وهي تحمل مصباحا بإحدى يديها ويد إيفان بيدها الأخرى، وخرجت به فتبعها منقادا انقياد الطفل إلى أن بلغت به تلك الغرفة التي خسفت أرضها فيه، ورأى في وسطها الطاولة في موضعها الأول غير أنه لم يجد عليها صحون الطعام كالمرة الأولى بل وجد أدوات الكتابة.
فقال له فاسيليكا: اجلس على هذه المائدة واكتب ما تشاء.
فأخذ إيفان القلم وكتب بيد ترتجف من الغيظ ما يأتي:
مدلين
إني أكرهك وأحتقرك فلا تطمعي أن ترينني بعد الآن، فإني مغادر باريس في هذه الساعة.
إيفان
ثم أخذ الورقة ودفعها إلى فاسيليكا.
فأخذتها منه وهي تبتسم، وقبل أن ينهض عن كرسيه أسرعت إلى الجدار وأدارت لولبا فيه.
وعند ذاك فتحت أرض الغرفة وهبط ذاك القسم الذي كان جالسا عليه، فهوى به إلى تلك الأعماق السرية.
واستحالت هيئة فاسيليكا، وظهرت عليها ملامح الحقد والانتقام، فقالت تخاطب ذاك المنكود وهو يهوي: إنك لن تخرج من هذا السجن وسأدفنك في القبر حيا.
32
لم يعد لإيفان أقل مجال للريب هذه المرة بأنه بات من الهالكين.
وقد كان سقوطه سريعا حتى إنه لم يستطع أن يفوه بكلمة، فانتقل فجأة من النور إلى الظلمة وشعر أنه استقر على محل لين.
وكان الظلام حالكا فلم يدر أين هو، وقد حسب لأول وهلة من خسوف أرض الغرفة به أنه سقط في هوة، وأنه سيقع فوق صخور حادة.
غير أنه حين استقر بعد سقوطه اطمأن ونهض فجعل يطوف في ذاك الموضع طوف الأعمى لشدة الظلام، ثم رأى أن نورا قد انبعث فجأة فأجال نظرا حائرا في ذاك الموضع، فاندهش حين رأى أنه سقط في نفس القبو الذي كان فيه.
وقد رأى المصباح في موضعه من القبة والجثة في مكانها من الجدار، ثم رأى ذاك الثقب الذي رأى منه مدلين في الحديقة، فحار في أمره حيرة شديدة وقال: ما هذا الذي أراه؟ أحقيقة ما أنا فيه أم أني من الحالمين؟
ثم هرع إلى الباب فوجده محكم الإقفال، ولكنه وجد الرتاج مفتوحا فوقف وقفة المضطرب، وذكر كيف سقط وقال في نفسه: لا شك أن فاسيليكا لا تريد موتي ولكنها تريد سجني لأغراض لها.
وعندها وقف أمام الباب وجعل ينادي ابنة عمه بصوت مرتفع.
ولم يطل صياحه حتى وافته ابنة عمه وجعلت تكلمه من وراء الباب المقفل فقالت: إني أتيت يا ابن عمي العزيز كي أقص عليك حكاية قبل أن أودعك الوداع الأخير.
ثم ضحكت ضحك الساخر وقد برقت عيناها بأشعة الانتقام الهائل، فأيقن إيفان أنه قضي عليه بالموت لا محالة فاضطرب اضطرابا شديدا على بسالته؛ لأنه لم يعلم أي موت سيموت. •••
أما فاسيليكا فإنها عادت إلى حديثها وقالت له بلهجة المتهكم: ألا ترى يا ابن عمي العزيز هذه الجثة التي استحالت إلى هيكل من العظام؟
فقال لها باحتقار: ماذا يهمني أمرها إذا كنت لا أخشى الموت، وأي موت أخشاه بعد أن علمت بفضلك خيانة من أحب؟ - لقد قلت الحق فإنك ما عرفت خيانة مدلين إلا بفضلي. - إذن تعرفين؟ - دون شك، فإني أنا التي أقنعت مدلين من الزواج بكارل مورليكس. - تبا لك من شقية. - اصغ يا ابن عمي الجميل، فإني سأقص عليك حكاية هذه الجثة. - لا أريد أن أعرفها. - ولكنها تفيدك.
فسكت إيفان واستأنفت فاسيليكا الحديث وقالت: كان يقيم في هذا المنزل منذ أربعين عاما امرأة تخون زوجها.
فقبض الزوج على العاشق وصيره جثة بالية كما تراه، وهو الذي اخترع تلك الآلة التي تظهر فيها حديقة المنزل من ذاك القبو المظلم.
ثم صفقت بيديها ثلاثا فاستنار الثقب وانعكست أشعة المرائي، فنظر إيفان والعرق البارد ينصب من جبينه، فرأى تلك الحديقة ورأى فيها مدلين ومورليكس جالسين على بساط من الخضرة، وهو آخذ يدها بين يديه يحادثها وينظر إليها نظرات الهيام وهي تبتسم له ابتسام الرضى.
ثم استأنفت فاسيليكا حديثها فقالت: وكان هذا العاشق الذي ترى جثته يستطيع أن يرى تلك الزوجة الخائنة كل يوم بفضل هذه الآلة وهي تبكيه، إذ لا تعلم أين هو فظل على هذه الحال إلى أن أدركته الوفاة.
فصاح إيفان صيحة منكرة وقال: يا للهول.
فابتسمت فاسيليكا وقالت له: إن المرأة التي تكون مثلي يا ابن عمي العزيز إذا انتقمت بلغت بانتقامها أبعد غاية.
ولنعد الآن إلى حديثنا، فإن هذا المنزل انتقلت ملكيته من قوم إلى آخرين حتى وصل إلى مورليكس، فهو الآن منزل مدلين وأنت سترى مدلين كل يوم كما كان يرى صاحب هذه الجثة تلك المرأة، وأعدك وعدا صادقا أنك ستراها كل يوم ما زلت في قيد الحياة.
ثم ضحكت ضحكا عاليا وقالت: يجب أن تطمئن فإني لا أطيل عذابك وسأدعك تموت في هذا القبو من الجوع.
وعند ذاك قفلت النافذة ورحلت، فسمعها إيفان تقول لبيريتو: احذر أن تطعم هذا الرجل كسرة من الخبز ولو دفع لك ثمنها ملايين، فإني أقتلك شر قتل إذا خنتني فيه وأنا سأحضر كل يوم لأستوثق من طاعتك.
فقال لها بيريتو: لتثق بي سيدتي الكونتس كل الثقة فإني لا أخالف أمرها في شيء، ثم ذهب الاثنان.
أما إيفان فإنه لما وثق أن مدلين لم يعد له فيها أقل رجاء، وأنه لا بد له أن يموت من الجوع يئس يأسا شديدا وألقى نفسه على الأرض.
وفي الأمثال السائرة أن الفرنسي يرجو إلى آخر دقيقة، ولكن الروسي لا يعرف الرجاء متى وثق من النكبة، وقد رأى إيفان أنه سيبقى أسيرا إلى أن ينقذه الموت، وأنه سيرى مدلين كل يوم إلى أن يدركه الموت، فكبر عليه أن يرى تلك الفتاة التي أهانته، وكتب إليها ذاك الكتاب الشائن وهو لا يزال يهواها.
ومرت به ساعة وهو في أشد حالة من الجوع حتى ذهب صبره واستسلم لليأس فعول على الانتحار، وحاول أن يسحق رأسه بالجدار فيموت ويستريح.
ولكنه ما لبث أن عزم العزم الأكيد ومشى إلى الجدار بقدم القانط الواثق من راحة الموت حتى حدث له حادث عجيب لم يكن يخطر له في بال.
ذاك أن المصباح المعلق في قبة القبو انطفأ فجأة واسود الثقب المستنير، واحتجب منظر الحديقة ومن كان فيها، وبات هذا المنكود في ظلام دامس والذعر ملء قلبه، وتوقف هنيهة عن الانتحار إذ سمع صوت حركة فوق رأسه فرفع عينيه إلى قبة القبو، فرآها قد انفتحت في المكان نفسه الذي كان معلقا فيه المصباح ثم رأى نورا أضاء وزنبيلا مدلى من تلك القبة وفيه رجلان.
وكان أحد الرجلين يحمل مصباحا والزنبيل ينزل نزولا بطيئا متدرجا حتى استقر على الأرض.
وعند ذاك خرج الرجلان من الزنبيل ولم يكن إيفان يعرف أحدا منهما.
فدنا منه الذي كان بيده المصباح وقال له: إني قادم لإنقاذك.
فدهش إيفان وقال: من أنت؟ - أنا رجل لا تعرفه ولو ذكر لك اسمه، فإني أدعى روكامبول.
33
ولم يكن إيفان قد سمع روكامبول من قبل فقال له: نعم فإني لا أعرف اسمك ولم أرك. - إني صديق المرأة التي تحبها. - مدلين؟ - نعم.
فهز إيفان رأسه وقال: إني لا أحب مدلين يا سيدي بل ... - تريد أن تقول: بل هي لا تحبك؟
فوضع إيفان يده على جبينه كالقانط من الحياة وقال له: إنك آت لإنقاذي كما تقول ولكن أية فائدة لي من الحياة دون مدلين؟
فابتسم روكامبول وقال له: سكن روعك يا سيدي واجمع حواسك كي تستطيع أن تصغي إلي.
وكان يكلمه بلطف ويضغط عليه بنظراته الشديدة حتى اجتذبه إليه، فقال له إيفان: ماذا تريد أن تقول لي وأي كلام يعزيني عما أنا فيه؟ - ألم يجعلك مورليكس من المجانين؟ - نعم. - ألم يدفعك إلى رجل قال لك: إنه مسجل، وهو طبيب خاص بمصلحة المجانين؟ - هو ما تقول. - ألا تذكر حين كنت ذاهبا معه في المركبة إلى منزل له أنك لقيت فتاة خدعت بها وحسبتها مدلين؟
فصاح إيفان صيحة غريبة، كأنما غمام الشك الكثيف قد انقشع عن مخيلته.
فقال له روكامبول: إن هذه الفتاة هي نفسها التي رأيتها منذ ساعة وحسبت أنها مدلين.
فصاح إيفان صيحة أخرى وقال: رباه! ماذا تقول؟
فلم يجبه روكامبول ولكنه دنا من الثقب الذي فتحته فاسيليكا في سقف القبو ونادى قائلا: أزح الستار يا بيريتو.
وللحال استنار الثقب وعاد رسم الحديقة إلى الارتسام فوق المرآة، فظهرت مدلين لإيفان.
وكان روكامبول واقفا بجانبه يرى ما يراه، فقال له: أمعن النظر جيدا بهذه الفتاة ألا تجد فرقا بينها وبين مدلين الحقيقية؟ - لم أجد فرقا بينهما من قبل إلا بالصوت؛ لأن صوتيهما يختلفان وكيف أستطيع أن أسمع صوتها؟ - إنك ستسمعه في الحال، إذ يجب أن تسرع بالخروج من هذا المكان. - إلى أين؟ - إلى حيث ترى مدلين الحقيقية.
فسالت دموع إيفان لفرط سروره وقال لروكامبول: من أنت أيها الرجل؟ ألعلك مرسل من الله؟ - كلا وا أسفاه، ولكني أخدم الذين أحبهم. - كيف تحبني وأنا لم أرك في حياتي؟ - وأنا لم أرك أيضا. - إذن أنت تعرف مدلين؟ - عرفتها منذ ثمانية أيام ولكني صديق لرجل لا بد أن تكون مدلين ذكرت لك شيئا عنه. - من هذا الرجل، ألعله ميلون؟
فأجابه ذلك الرجل الذي كان مع روكامبول في الزنبيل: نعم أنا هو يا سيدي.
ثم أخذ يده بين يديه وضغط عليها بلهف وقال: أتحبها حبا أكيدا؟ أتجعلها سعيدة بعد الذي كابدته من العذاب؟ - إني لا أحبها حبا بل أعبدها عبادة، وسأجعلها من أسعد النساء في الوجود.
وعند ذلك قال روكامبول لميلون: إن الوقت ضيق الآن عن الأبحاث، فاخلع ثيابك.
فانذهل إيفان وقال: لماذا يخلع ثيابه؟ - كي يستبدلها بثيابك. - لماذا؟ - لأنه يجب أن يبقى مؤقتا في مكانك. - في مكاني أنا؟ - دون شك؛ لأن فاسيليكا لا بد أن تجيء كل يوم كي تتفقدك، وتحضر نزعك. - ولكني لا أرضى أن يضحي هذا المسكين نفسه عني.
فابتسم روكامبول وقال له: كن مطمئنا؛ لأن ميلون سوف يتقن تمثيله كل الاتقان، فإن قامته تشبه قامتك، وسيدير وجهه إلى الجدار كي لا تراه ويمثل دور متألم من الجوع، ولكن طعامه يحضر إليه كل يوم فلا يموت جوعا. - من يحضر له الطعام؟ - بيريتو. - هذا الشقي خادم فاسيليكا؟ - نعم، ولكنه لبث مخلصا في خدمتها إلى أن رآني فأخلص في خدمتي أنا فلا يخونني؛ لأنهم يعلمون مقدرتي.
وبعد هنيهة وجيزة أتم ميلون خلع ملابسه فلبسها إيفان وقال روكامبول لميلون: احذر أن تنسى شيئا مما علمتك إياه، فإذا سمعت وقع أقدام فأكثر من الأنين.
فقاطعه إيفان وقال: إن فاسيليكا قد تدخل إلى القبو فيفتضح الأمر. - إذن يكون دخولها من نكد حظها، فإني أقسمت يمينا صادقة أن لا أهرق دما بشريا إلا حين الاضطرار الشديد، فإذا انخدعت بميلون مدة خمسة أيام وهي المدة اللازمة لوقايتك ووقاية مدلين من شرها كان انخداعها من حسن حظها، وإذا عرفت الحقيقة قتلها حالا بطعنة خنجر إذا لم يخنقها ميلون بيديه.
وعندها ودع روكامبول ميلون وقال له: ستخرج من هذا المنزل بعد خمسة أيام أي في يوم زواج إيفان بمدلين.
ثم دخل إلى زنبيل وتبعه إيفان وصفق ثلاثا، فارتفع هذا الزنبيل واحتجبا عن ميلون.
بعدها بدقيقة كان روكامبول مع إيفان في غرفة متسعة تشرف نوافذها على الحديقة.
وكانت تلك النوافذ مقفلة ولكن إيفان وروكامبول كانا يستطيعان أن يريا من داخلها الذين في الحديقة، فرأيا مدلين ومورليكس.
فقال روكامبول لإيفان: اصغ جيدا تسمع صوتها.
فأصغى إيفان هنيهة ثم انقلب وعلائم السرور بادية في وجهه وقال: رباه! ليس هذا الصوت صوت مدلين! - ألم أقل لك: إنهم خدعوك، فإن هذه الفتاة هي كلوريند التي أخبرتك عنها والآن اتبعني.
ثم سار الاثنان من غرفة إلى غرفة حتى بلغا إلى الباب الخارجي، ففتحه روكامبول بسكينة وخرج منه مع إيفان إلى الشارع العام.
فما سارا هنيهة حتى رأيا مركبة واقفة للانتظار، فقال له روكامبول: هلم بنا إليها واحذر أن يؤذيك الفرح.
فلما وصل إيفان إلى المركبة رأى مدلين قد فتحت له يديها وقالت له ودموع الفرح بين عينيها: لقد رأيتك أخيرا.
وكان سرور العاشقين لا يحيط به وصف، فصعد روكامبول في إثر إيفان إلى المركبة وقال للسائق: سر بنا إلى منزل الكونتس أرتوف.
34
كان مورليكس أتى بكلوريند وهو يحسبها مدلين إلى منزل فاسيليكا بحجة أن هذا المنزل سيكون لها بعد زواجها بإيفان.
وكانت كلوريند عالمة بما سوف يحدث فكانت تمثل دورها أتقن تمثيل.
وقد عانقت كارل بلهف شديد حين أخبرها عن زواجها بإيفان، وتظاهرت بالاضطراب العظيم حين رأت فاسيليكا.
ويذكر القراء أن فاسيليكا كانت وعدتها بأن تجيئها بأخبار إيفان، ولكنه مضى نصف ذلك اليوم ولم تحضر.
وفي المساء بينما كان كارل مع كلوريند ينتظران فاسيليكا في شارع كاسيت إذ وردت له رسالة حملها إليه بيريتو، فأسرع كارل إلى فض الرسالة وقرأ ما يأتي:
سيدي الفيكونت
إنك لن تراني اليوم إذ ليس لدي أخبار حسنة أرويها للعزيزة مدلين، ولكني أرجو أن أرد إيفان إلى الصواب وأحنن قلبه.
صديقتك فاسيليكا
فاهتزت أعطافه سرورا وقال في نفسه: لا شك أن فاسيليكا من أهل الوفاء فقد وفت بوعدها.
أما كلوريند فقد تظاهرت بالانشغال وقالت له: ما هذا الذي تقرأه؟ - لا شيء. - ولكني أراك قد اضطربت ثم اختطفت منه الرسالة، فدافع دفاعا خفيفا وابتعدت عنه فقرأت الرسالة وقالت بصوت مختنق: هذا ما كنت أخشاه فإن قلبي يحدثني بهذا المصير. - إني لم أفهم شيئا من هذه الرسالة . - أما أنا فقد فهمت كل شيء ... - ماذا تعنين؟
فوقفت كلوريند وهي تتكلف هيئة الحزن الشديد وقالت: لنعد إلى منزلنا ولنبرح هذا المنزل المشئوم.
وكانت تكلمه بلهجة الآمر فما وسعه مخالفتها، وخرج بها فركبا مركبة سارت بهما إلى منزل كارل حتى إذا وصلا إليه تظاهرت بالاسترسال إلى الحزن، وقالت له: إنك يا خالي لم تفهم شيئا من هذه الرسالة ولكني قد فهمت كل شيء ... - أوضحي ما تقولين. - كلمة واحدة تغني في هذا السبيل. - ما هي؟ - الكونتس فاسيليكا. - أتظنين بها السوء؟ - كل السوء فإنها لا بد أن تكون قد وشت في الوشايات الكاذبة إلى إيفان فتغير قلبه علي ...
ثم جعلت تبكي بكاء شديدا وتلتمس من كارل أن يدعها وحدها، فلم يسعه إلا الامتثال، فخرج من غرفتها إلى غرفته وجعل يضحك ضحك الفائز المسرور، ويقول: لله درك يا فاسيليكا، ما أشد دهائك!
وما لبث أن استقر في غرفته حتى دخل إليه خادمه وقال له: لقد جاء يا سيدي رجل أثناء غيابك يحمل كتابا إلى المدموازيل مدلين وأعطاني عشرين فرنكا مشترطا علي أن أسلم هذا الكتاب إليها حين تكون وحدها في المنزل، فأخذت منه الكتاب ووعدته بالامتثال ولكني رأيت أن أخبرك بأمره قبل أن أفعل شيء من ذلك. - حسنا فعلت، ثم أخذ الكتاب بلهف وفضه فقرأ فيه ما يأتي:
إذا أردت أن تري إيفان الذي لا يزال يهواك فاهربي من هذا المنزل الذي أنت فيه ...
وكان الكتاب خاليا من التوقيع فلما قرأه كارل قال في نفسه: هذه إحدى مكائد روكامبول، ولقد صدقت فاسيليكا إذ يجب الحذر من هذا الرجل وغل يده عن أذيتنا.
أما مدلين أو كلوريند فاستمرت تمثل دورها، فإنها بقيت في غرفتها متظاهرة بالحزن الشديد.
وفي صباح اليوم التالي كتبت فاسيليكا تقول: إنها وضعت كتاب إيفان إلى مدلين في البوسطة، وعهدت إليه أن يتهيأ قبل ورود الكتاب إليها ويمهد لها سبل احتمال الضربة القاضية وأنها ستزوره في المساء.
وأقام كارل ينتظر ورود الكتاب بفارغ الصبر إلى أن دقت الساعة العاشرة، فطرق الباب الخارجي ودخل موزع البريد، فأخرج من حقيبته كتابا وقال بصوت مرتفع: هو ذا كتاب للمدموازيل مدلين ميلر، فأسرع أحد الخدام وأخذه منه.
وكانت كلوريند جالسة قرب النافذة المشرفة من غرفتها على الباب، فرأت موزع البريد وسمعته يذكر اسمها، فأسرعت إلى غرفة كارل وتناولت الكتاب، فما أوشكت أن تقرأ عنوانه حتى صاحت صيحة فرح وقالت: إنه من إيفان فإني أعرف خطه ...
فأطرق كارل برأسه وقال: رباه كم تحبه ...
أما كلوريند فإنها فتحت ذلك الكتاب وهو الكتاب الذي كتبه إيفان إلى مدلين حين كان يعتقد أنها خانته، فلما قرأته كلوريند صاحت صيحة منكرة وسقط الكتاب من يدها، وتظاهرت أنها أصيبت بنوبة عصبية ثم سقطت مغميا عليها بين يدي كارل.
فحملت إلى سريرها، وأمر كارل بإحضار الطبيب وجلس أمام سريرها، وهو يوشك أن يجن هياما بها وإشفاقا عليها ويكلمها بأعذب الألفاظ.
وبعد حين رأت كلوريند أنه قد حان لها أن تستفيق من إغمائها، فاستفاقت ولكنها جعلت تقلد المصابين بالحمى فتهذي وتذكر اسم حبيبها إيفان واسم فاسيليكا.
ثم عادت إلى صوابها فأخذت يد كارل وقالت له: إن كل ذلك يا خالي لم يكن إلا صنع تلك المرأة التي تدعى فاسيليكا.
ولم تكد تتم حديثها حتى ظهرت فاسيليكا أمام سريرها فنظرت إليها كلوريند نظرة هائلة ملؤها الحقد.
غير أن فاسيليكا لم تكترث لظواهر حقدها، وقالت لها بلطف: لا يحق لك أن تتهميني فإننا بهذه النكبة سواء وكلانا فقد إيفان، على أنك لو تمعنت لعلمت أنك أنت التي جنيت على نفسك باعتمادك على لص شقي يدعى روكامبول.
فمدت كلوريند يدها إلى فاسيليكا، وقالت لها: لقد علمت الآن كل شيء فاصفحي عني، وأخبريني بما تعلمينه عن حقيقة أمر إيفان فأين هو؟ - إنه سافر. - إلى بطرسبرج؟ - نعم.
فأنت كلوريند أنين الموجع، وسكتت سكوتا هائلا، ثم أظهرت بإشارة أنها تحب أن تبقى وحدها، فخرج كارل والكونتس وتركاها منفردة كما أرادت.
فلما اختليا قال لها: إنني خائف أشد الخوف. - مما تخاف؟ - من أن يقتلها الحزن.
فنظرت إليه فاسيليكا نظرة إشفاق وقالت له: لقد بالغت بغرامك أبعد غاية، فهل تتزوجها؟ - من لي بزواجها إذا كانت ترضى فإنها غاية مطمعي.
فأجابته بلهجة المتهكم: كن مطمئنا فإنها ترضى.
ثم ودعته وخرجت إلى المركبة التي كانت تنتظرها على الباب الخارجي وفيها بيريتو.
فقالت له وهي تبتسم: إنهم يهزأون بكارل دي مورليكس كما يهزأون بالأطفال، فإن هذه الفتاة ليست مدلين بل هي شبيهتها كلوريند وقد تمكن روكامبول من العبث به كما يشاء، والآن فاصغ إلي فإني أريد أن أقصر مدة نزع إيفان حذرا من أن ينقذه روكامبول فاحذر أن تعطيه طعاما. - إذن فهو يموت بعد ثلاثة أيام. - وبعد خمسة أيام نبرح باريس، وليعبث روكامبول بمورليكس كما يشاء.
ثم أمرت السائق بالمسير دون أن ترى ابتسام بيريتو الذي كان يريد به: أن روكامبول لا يعبث بمورليكس وحده بل بك أيضا.
35
بعد ذلك بيومين كان كارل مورليكس خارجا من منزله إلى شارع سانت جرمين.
وكانت علائم الهرم ظاهرة بين ثنايا وجهه حتى ليقال: إنه قد بلغ مائة عام لفرط ما لقيه في هذين اليومين من الهم والخوف على كلوريند التي يحسبها مدلين.
وقد تبدلت طباع هذا القاتل السفاك، واستحالت أخلاق ذلك المجرم الجسور، فأصبح فاتر الهمة، منخلع القلب، متراخي العزيمة، لا يشغل باله غير ذلك الحب الذي ملأ قلبه الفاسد، فتمكن بفضل ما كانت تجربه كلوريند من أساليب المكر والحيلة كي تهيج مكامن غرامه فإنها كانت تارة تستسلم للقضاء وتذعن لأحكامه، وتارة تسترسل إلى اليأس فتقلبه بين الخوف والرجاء، وتثير عواصف الحب في قلبه حتى أصبح لا يطمع بغير مدلين، ولا يكترث بتلك الأموال التي اختلسها على فرط حرسه على المال.
وكانت كلوريند قد لزمت فراشها يومين وفي صباح اليوم الثالث غادرت سريرها، ودخلت فجأة إلى غرفة كارل.
وكانت صفراء الوجه كئيبة، ولكنها كانت ساكتة هادئة فقالت له: إني أحب أن أختلي بك لأباحثك في شأن خطير.
فاضطرب الفيكونت اضطرابا عظيما ووقف أمامها موقف الخاشعين.
فقالت: لقد عرفت يا خالي العزيز أن كل ما اتهمت به كان حقيقة، فإنك قتلت أمي بالسم، وسرقت ثروتي وثروة أختي أنطوانيت، ولكني أسامحك باسم أمي المائتة، وباسم أختي وباسمي على شرط أن ترد لنا تلك الثروة.
وكأنما ذكر الثروة أعاد إليه مطامعه الأشعبية، فاتقدت عيناه وحاول أن يجيب، غير أن كلوريند حالت دون قصده فاستأنفت حديثها وقالت: إن قلبي قد انسحق وبت شاعرة بدنو الأجل فإن احتقار إيفان لي وتخليه عني قد قتلاني، ولكني أحب قبل الموت أن أضمن مستقبل أختي ومستقبل الرجل الذي تحبه وهو ابن أخيك أجينور.
وأنا أعيد عليك ما قلته وهو أن الضربة قد أصابت قلبي، فلا رجاء لي بالحياة، ولا أطمع بالعيش أكثر من ثلاثة أشهر؛ لذلك فإني أستطيع أن أضحي تضحية أخيرة.
وأنت تعلم أنه يوجد أشقياء يعلمون أسرار أسرتنا الهائلة، فأحب أن أدفع عنك شرهم وأصون عائلتنا من تلك الوصمة، ولا أستطيع ذلك إلا بتلك التضحية.
ثم نظرت إليه محدقة وقالت له بثبات: أتريد أن تتزوجني؟
فصاح كارل صيحة فرح وركع أمامها وجعل يقبل يديها.
أما كلوريند فلم تكترث لمظاهره وقالت: إني إذا أصبحت امرأتك لا يستطيع أحد بعد ذلك أن يتهمك بقتل أمي.
فسالت الدموع من عيني كارل وقال: لا شك أنك من الملائكة الأطهار. - ولكن يجب أن تستحق ذلك العفو الذي منحتك إياه مع شقيقتي. - تكلمي أيتها الحبيبة ومري بما تشائين. - إني أريد أن ترد جميع الأموال ... - لك؟ - لي ولأختي، فاذهب إلى أخيك فيليب واعقد معه عقد زواجي وزواج أختي أنطوانيت. - إني مستعد لإعطائك كل شيء. - كلا إني لا أريد مال فإني سأموت ولا حاجة لي بالمال.
فضمها كارل إلى صدره وقال: أنت تموتين ولا تزالين في أول شوط من حلبة الشباب. - إذ لم أمت فإني أحب أن أعيش فقيرة وأن تكون فقيرا مثلي. - إذن لمن تريدين أن أرجع هذه الثروة؟ - لأختي، ولا أرضى بزواجك إلا هذه الشروط.
فلم يجد بدا من الامتثال، وذهب صاغرا لمقابلة أخيه.
ولم يكن هذا العناء قاصرا على كارل بل إنه شمل أخاه والد أجينور، فإن تقريع ضميره قد أنهك قواه حتى انقطع عن الناس ولزم منزله، لا يقابل أحدا ولا يخرج منه للاجتماع بأحد.
ولما وصل كارل إلى منزل أخيه أسرع إليه الخادم وقال له: أسرع يا سيدي فإنك قد لا تعرف أخاك لفرط ما قد تغير.
فذعر كارل وسأله: ويحك ما أصاب أخي، ألعله لا يزال مريضا؟ - كلا، ولكنه بات شبيها بالمجانين، فهو لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، ولا يخرج من المنزل ولا يسمح لأحد أن يراه إلا ولده أجينور، ولكن أجينور لم يحضر إليه منذ شهر.
فلم يجب كارل الخادم بشيء وتبعه إلى الغرفة التي يقيم فيها أخوه فانذهل حين رآه، إذ لقيه أبيض الشعر وقد أحنى ظهره الهم.
فلم يحفل والد أجينور بانذهال أخيه، ولم يرد تحيته بل قال له: لماذا أتيت إلي؟ ألعلك ندمت وعلمت أن يد الله قد انقضت علينا؟
فارتعش كارل وقال له: ماذا تعني بما تقول؟ - أعني أن ولدي يهرب مني ويحتقرني.
فجلس كارل بإزائه وقال له: نعم، إن الله كان أخذ بعقابك غير أن ملائكته شفعت بك إليه لتوبتك الصادقة، وأنا يا أخي قد أصبحت مثلك من التائبين وأتيت أسألك المساعدة. - لماذا؟ - لنصلح خطأنا ونمحو ذنوبنا السابقة. - أتقول الحق؟ - نعم، إذ يجب علينا أن نرد لهاتين اليتيمتين أموالهما التي سرقناها، ففرح فيليب فرحا شديدا وقال له: أتوافق على رد الثروة للأختين؟ - نعم فإن إحداهما تحب ابنك أجينور وستصبح امرأته. - ولدي أنا؟ - نعم ... - الثانية؟
فتلعثم لسان كارل وجعل يردد لفظة الثانية دون أن يجسر على القول، فسأله والد أجينور: والثانية ما أصابها وما بالك لا تجيب؟ - إنها توافق ... - على ماذا؟
فأطرق كارل برأسه استحياء وقال: إنها توافق على الزواج بي.
فصاح والد أجينور صيحة ذعر وقال: تتزوجك أنت وأنت خالها؟ - أواه، إن حبها تملك قلبي حتى أوشكت أن أجن بهواها، فلا تلمني يا أخي وأرسل من يدعو لنا المسجل، إذ يجب علينا أن نرد الثروة لأصحابها قبل كل شيء.
فوضع فيليب يده على جبينه وقال : رباه ماذا أسمع ألعلي من الحالمين؟!
فأجابه صوت رجل ظهر على عتبة الباب: كلا يا أبي فإنك في اليقظة.
فالتفت فيليب ورأى ولده أجينور فأسرع إليه وقد جال الدمع في عينيه لسروره، وقال له وهو يعانقه: أنت ولدي عدت إلي؟ - نعم أنا هو، وقد عدت إليك بخصوص الأختين.
36
عندما يشبع النمر من فريسته يلحس بلسانه شفتيه، ويذهب إلى عرينه فيقيم فيه نائما مطمئنا ناعما إلى أن تنتهي مدة هضمه بسلام.
وهكذا فعلت فاسيليكا التي لا تفرق بشيء من أخلاقها عن تلك الضواري المفترسة، فإنها طربت لانتصارها كما يطرب أولئك الظلام الشرقيون الأقدمون، الذين كانوا يجلسون في مقاعدهم فيأتيهم الخدم في صباح كل يوم برءوس أعدائهم مقطوعة فينظرون إليها دون أن يظهر عليهم أثر من آثار الإشفاق.
وقد أقامت فاسيليكا ثلاثة أيام في منزلها، إذ لم تكن تكترث لباريس ولا يهمها أمر مورليكس، فكانت تقول عنه: إن روكامبول قد عبث بهذا الأبله، وغاية ما همني أن لا يعبث ثم، ثم تمددت فوق مقعدها وجعلت تدخن وتهضم انتقامها كما يهضم النمر الفريسة.
وكان بيريتو يجيء مرتين كل يوم إليها بالتقارير عن حالة إيفان، فكان يبالغ في إظهار ما يقاسيه من الآلام بغية إرضائها، ويقص عليها ما يكابده من العذاب في أول عهده بالجوع إلى حين تمكنه منه فيثير منها عواطف الانتقام، وتفرح فرحا وحشيا لبلوغها أقصى أمانيها من الانتقام.
وقد جاءها ليلة فقالت له: منذ كم ساعة يقيم الأسير في القبو؟ - منذ سبعين ساعة. - كم بقي له دون طعام؟ - نحو ثمانين ساعة ... - إذن فقد مات.
فاضطرب بيريتو وخاف؛ إذ وافق على موته أن تحاول أن تراه بعد الموت فقال: كلا يا سيدتي إنه لم يمت بعد ولكنه في حالة النزاع.
ولم يكد بيريتو يقول هذا القول حتى أبرقت عيناها بأشعة الفرح وقالت: ما أجمل هذا المنظر يا بيريتو! وما أحلى الانتقام! فهلم بنا إني أحب أن أراه بين أنياب الموت.
فارتعش بيريتو وعلم أن حيلته لم تفده، وأن مجادلة هذه المرأة محال إذ لا يثنيها شيء عما تريد.
وخرجت فاسيليكا فخرج في أثرها وبعد نصف ساعة وصل الاثنان إلى ذلك المنزل الذي حفرت فيه فاسيليكا قبر إيفان.
وكان بيريتو أصفر الوجه يضطرب اضطرابا شديدا غير أن فاسيليكا كانت منشغلة بلذة انتقامها غير ملاحظة اضطرابه.
فلما وصلا إلى مدخل سلم القبو قالت: أنر المصباح، فأخذ عودا من الكبريت وحك به الحائط التماسا للنور فلاحظت فاسيليكا أن يده كانت ترتجف.
ثم أضاء المصباح وتقدمها في السلم المؤدية إلى القبو، فلاحظت فاسيليكا أن قدميه كانت تضطربان فداخلها الريب بوقائه، فوضعت يدها على صدرها افتقادا لخنجرها وقالت: حسنا سوف نرى.
واستمر بيريتو في نزوله وهي تتبعه دون أن تسمع حسا إلى أن وصلت إلى آخر درجة من السلم فسمعت أنينا مزعجا.
فوقفت وأصغت إصغائا تاما فعلمت أن الأنين الذي تسمعه شديد لا يدع على النزع، فوضعت يدها على قبضة خنجرها وقد تمكن منها الريب ومشت في أثر بيريتو، ولما وصلا إلى الباب انقطع صوت الأسير وعاد بيريتو إلى فاسيليكا وقال لها: أظن أنه قد مات. - أتظن؟ - بل أؤكد فإن صوته قد انقطع. - إذن افتح الباب. - ولكن يا سيدتي ... - افتح.
وكانت تتكلم بلهجة السيادة فلم يسع بيريتو مخالفتها، ففتح الباب.
وعند ذلك أخذت فاسيليكا منه المصباح فحملته بيدها اليسرى ويدها اليمني على قبضة خنجرها، وجعلت تبحث في ذلك القبو.
وكان ميلون الذي كانت تعتقد أنه إيفان منطرحا على الأرض وهو حابس أنفاسه.
فلما دنت منه بمصباحها اضطرب بيريتو اضطرابا شديدا، وقال في نفسه: لم يعد لي بد من الامتثال لروكامبول وخنق هذه المرأة.
غير أن فاسيليكا كانت أسرع منه، فإنها علمت لأول نظرة أن هذا الرجل غير إيفان فقالت: يا للخيانة! وانقضت بخنجرها على بيريتو فأغمدته في صدره.
فسقط بيريتو قتيلا مضرجا بدمائه، ولم يقل غير جملة واحدة وهي: إلي يا ميلون!
وكان المصباح قد سقط من يد فاسيليكا فانطفأ، ونهض ميلون يتعقبها. غير أن الظلام كان حالكا فلم يهتد إليها، وجعل يسير في الجهة التي خرج منها صوتها.
ولا بد أن يدرك القراء أن الاتفاق كان تاما بين بيريتو وأسيره منذ ثلاثة أيام، فكان بيريتو عندما يثق بأن فاسيليكا غير قادمة إلى المنزل يخرج ميلون من القبو فينام فوق سرير ناعم، بحيث عرف مداخل المنزل ومخارجه.
فلما طعنت فاسيليكا بيريتو تلك الطعنة القاتلة، ورأت أن المصباح قد انطفأ أسرعت إلى الخروج من القبو وخنجرها يقطر دما بيدها، فأسرع ميلون إلى إدراكها وضغط عليها ضغطة أوشكت أن تقتلها، فصاحت صياح الألم ولكنها تمكنت من التخلص منه وطعنته بخنجرها طعنة لم تعلم أين وقعت منه لاشتداد الظلام وأركنت إلى الفرار.
فصاح ميلون حاقدا متألما واقتفى أثرها راكضا وراءها فوق درجات سلم القبو التي صبغت بدمائه، فأدركها عند آخر درجة من درجاته، وأمسك طرف ثوبها.
فارتدت إليه وطعنته طعنة أخرى، ثم أفلتت منه وقد تمزق ثوبها، واندفعت تجري في الردهة، واندفع في أثرها حتى أدركها في آخر الردهة حيث تبدد ظلام القبو وملأ تلك الردهة ضوء النهار وهجم عليها هجوم الأسود.
وكانت فاسيليكا قد أصابته بجرحين في كتفه وساعده، فلما رأت أنها لا مناص لها منه التصقت بالجدار وقالت في نفسها: إذا لم أطعنه الطعنة القاضية هذه المرة هلكت إذ يخنقني لا محالة.
وكان ميلون قد تألم ألما شديدا من جراحه فهجم عليها وهو يقول: إن الرئيس أمرني بقتلك ولا بد لك من الموت.
وطعنته طعنة ثالثة وصاح أيضا ميلون صيحة ألم ولكنه لم يسقط؛ لأن خنجر فاسيليكا أصاب أضلاعه فحالت دون دخوله إلى القلب.
واستأنفت الكرة عليها، وضغط عليها ضغطا قويا حتى سقط خنجرها من يدها، فألقاها على الأرض ووضع ركبته فوق صدرها، ثم التقط الخنجر وأشهره عليها، فرأته فاسيليكا يلمع فوق رأسها، وأيقنت أنها من الهالكين.
وكان دم ميلون يتدفق من جراحه عليها فخضب ملابسها وقال لها: تأهبي للموت، لقد أمر الرئيس أن تموتي.
وكانت فاسيليكا قد تلاشت قوتها، ولو فقدت رشدها في ذلك الحين لهلكت دون شك، ولكن قريحتها الجهنمية لم تخمد، فقالت لهذا الرجل الساذج القلب: أقتلني إذا أردت، ولكنك إذا قتلتني لا تعرف شيئا.
فتوقف ميلون عن طعنها وجعل ينظر إليها نظر السائل، فأسرعت فاسيليكا إلى استئناف الكلام فقالت: إني قتلت بيريتو ولا يوجد الآن أحد في هذا المنزل، ثم إني الآن في قبضتك ولم يكن لي من الدفاع غير هذا الخنجر الذي جردتني منه وتسلحت به.
فقاطعها ميلون قائلا: إنك إذا أردت أن تصلي وتستغفري الله فلا أمنعك، ولكني أقسم لك أنك ستموتين بعد الاستغفار؛ لأن الرئيس يريد أن تموتي. - أليس هو روكامبول الذي تلقبه باسم الرئيس؟ - هو بعينه. - إذن اقتلني؛ لأني أنتقم لموتي بالموت.
فاضطرب ميلون اضطرابا شديدا لبساطة قلبه وإشفاقه على روكامبول، حتى إنه نهض عن فاسيليكا فنهضت في أثره.
غير أن الخنجر لا يزال في يد ميلون ولا تزال حياتها في يده.
فقالت له فاسيليكا: ألست أنت الذي يدعونه ميلون؟ - نعم. - أأنت مخلص لروكامبول؟ - كل الإخلاص. - إذن اقتلني بخنجرك؛ لأن روكامبول يقتل بمثل هذا الخنجر.
فهز ميلون رأسه وقال: إنك تهزئين بي؛ لأني لا أصدق ما تقولين. - سيان عندي.
فاضطرب، ثم كشفت عن صدرها وقالت بملء الثبات: اضرب.
ولما رأته يتردد قالت له: إذن اصبر واصغ إلى ما أقول وأنت مخير بعد ذلك بقتلي أو الإبقاء علي.
وكانت الدماء لا تزال تقطر من جراحه الثلاثة، فكان يشبه ثورا هاربا من المجزر، فوقف أمام الباب كي يمنعها من الفرار، وقال لها: تكلمي. - إني لا أكره روكامبول ولكني أكره إيفان. - إننا أنقذناه وأصبح آمنا انتقامك. - أعرف ذلك ولكن روكامبول عرض نفسه بإنقاذه لأشد من ذلك الخطر. - كلا لا خطر عليه؛ لأني سوف أنقذه. - سوف ترى أنك منخدع.
وكانت فاسيليكا وجمالها وعدم اكتراثها للموت وخوفه على روكامبول قد أثر به تأثيرا عظيما، فاغتنمت فاسيليكا فرصة اضطرابه وقالت له: إني أشتري منك حياتي التي هي الآن في قبضتك بحياة روكامبول إذا كنت تحبه كما تقول.
فقال ميلون بملء البساطة: أحق ما تقولين؟ وأن حياة روكامبول معرضة للخطر؟ - إذا مت أنا مات هو دون شك ، والآن اصغ إلي لأني قبل قدومي إلى هذا المنزل كنت مشككة في بيريتو، ومتوقعة تلك الخيانة، فأتيت إلى هنا للتحقيق.
وإنه يوجد رجل يحبني حبا شديدا وله اتصال بروكامبول، وإذا لم أعد إليه بعد ساعة قتله غدرا حسب اتفاقي معه.
فخاف ميلون خوفا شديدا ولكنه تجلد وقال لها: من يضمن لي أنك تقولين الحقيقة؟ - أتريد برهانا على صدق ما أقول؟ - دون شك. - هو ذا قطعة حبل أمامك في هذه الردهة، واربط بها يدي ورجلي كي لا أهرب وسد فمي بمنديل كي لا أصيح، ثم اذهب واحضر مركبة واحملني إليها لأذهب وإياك إلى ذلك المكان الذي سيلقى فيه روكامبول حتفه إذا قتلتني.
فسقط ميلون في هذا الفخ وقال لها: لا حاجة إلى تقييدك؛ وهلم معي لأني كنت في السجن ولا أخشى الرجوع إليه، وسيري أمامي، ولكن احذري أن تبدر منك بادرة تدل على الرغبة بالنجاة؛ لأني أغمد خنجري بين كتفيك. - ليكن ما تريد.
ثم سارت أمامه من تلك الردهة إلى القاعة، وأصلحت ما أخل من نظام شعرها.
ثم نظرت إلى ميلون وقالت له: إن هيئتك تشبه هيئة الجزار وهذا وشاح بيريتو أمامك اتشح به سترا لآثار الدماء.
واتشح ميلون به وأمرها أن تسير أمامه فسارت واقتفى أثرها.
وكان ميلون يقول في نفسه: لقد نزف مني كثير من الدماء، ولكني لا أزال قويا أستطيع الصبر إلى أن أدرك روكامبول.
ولما خرجا إلى الشارع تأبط ميلون ذراعها حذرا من فرارها، وسار وإياها.
ولما شعرت فاسيليكا أنه يمشي مشية السكارى لما نزف من دمائه، أسرعت في مشيتها حتى رأت مركبة فاستوقفتها وصعدت وإياه إليها ثم قالت للسائق: سر بنا إلى الشانزليزه.
ولما سارت المركبة شعر ميلون بدوار في رأسه، ونظرت فاسيليكا إلى وجهه ورأته قد اصفر، فسرت سرورا لا يوصف، غير أن ميلون كان لا يزال قابضا على خنجره.
37
فقال لها: إلى أين أنت ذاهبة؟ - إلى الشانزليزه. - غير أن الرئيس غير مقيم هناك. - ولكننا سنذهب من الشانزليزيه إلى شارع أونوريه.
وكانت فاسيليكا تقول هذا القول بغية كسب الزمن، غير أن ميلون انخدع بأقوالها، وحسب أنها تعرف أحد المنزلين اللذين يقيم فيهما روكامبول؛ لأن أحدهما كان في شارع أونوريه والآخر في شارع سرسنس، وقال لها: حسنا فلنسر إليه.
وكانت فاسيليكا تنظر إليه من حين إلى آخر مراقبة له، فكانت ترى دماءه تسيل، وكلما سالت زاد اصفرار وجهه، حتى رأت أن العرق ينصب من جبينه فابتسمت وقالت له بلطف: أأنت شديد الإخلاص لروكامبول؟ - دون شك. - لماذا؟ - لأنه صديقي وأخي ومنقذي. - إذن أنت تكره كل من يكرهه. - دون ريب. - والذين يكرهونه؟ - أسحقهم كما أسحق الزجاج.
وابتسمت ألطف ابتسام وقالت له: ولكني لا أكره روكامبول، بل إني معجبة به كل الإعجاب. - إنك تعجبين به؟ ولماذا؟ - لقد عرفت أفكارك فإنك تقول في نفسك: كيف لا أكره روكامبول وأنا متفقة مع أعدائه. - هو ما تقولين. - لماذا يحب إيفان وأنا أكرهه؟ - وأنت لماذا تكرهين إيفان؟
فقالت بلهجة حزن: ذلك كان خطيبي فخدعني وخانني ولو علمت كم كنت أحبه لعذرتني وأشفقت علي.
وتنهد ميلون لسلامة قلبه ولم يدر كيف يجيب.
واستأنفت الحديث قائلة: إني أعلم حق العلم أنك أنت وركامبول تحميان تلك الفتاة التي يهواها إيفان. - حبذا لو كنت تعرفينها، إنها من أجمل النساء.
وتحولت تلك النمرة المفترسة إلى امرأة وسالت دمعة من عينها حن لها ميلون، ثم تنهدت تنهدا طويلا قائلة: لقد حاربت في هذا المعترك ففشلت، وأنا الآن أصفح عن إيفان.
ثم جعلت تبكي.
فأشفق عليها ميلون إشفاقا شديدا ولم يعد يفتكر بنفسه وبتلك الدماء التي كانت تسيل من جراحه فتضعف قواه.
فقالت فاسيليكا: إني صفحت عنه كل الصفح، وسأبرح باريس هذه الليلة وأعود إلى بطرسبرج؛ لأني إذا كنت قد صفحت عن إيفان لا يجب أن أحضر عرسه.
وعندها وضع ميلون يده فوق جبينه فسألته: ما بالك؟ - لا أدري، إني أشعر أن الأرض تدور بي وأن عيني لا تفتحان ... رباه! ماذا أصابني؟
ثم أطبق عينيه وسقط مغميا عليه قرب فاسيليكا، لفرط ما نزف من دمائه.
وابتسمت فاسيليكا ابتسام الظافر وقالت : لقد تعودت هذا الإغماء والآن فلأغتنم الفرصة.
ثم أرخت ستائر المركبة وأمرت السائق أن يقف، فخرجت من المركبة وأعطت السائق 20 فرنكا قائلة له: سر بهذا الرجل وهو خادمي إلى قصري في شارع بيبينيار وإني أدعى الكونتس أرتوف.
فسارت المركبة في طريق منزل باكارا، وسارت فاسيليكا في طريق منزلها وهي تعض شفتها من الغيظ وتقول: سوف ترى يا روكامبول لمن يكون الفوز؛ لأني لا أريد حياة إيفان الآن بل حياتك؛ لأن كرهي له قد تحول إليك.
بعد ذلك بعشرين دقيقة كانت فاسيليكا سائرة إلى منزلها على مهل، وقد عادت إليها سكينتها وكانت الأنظار تحوم عليها لجمالها الباهر.
حتى إذا أوشكت أن تصل إلى منزلها رأت مركبة جميلة مرت بها، والتفتت إليها وارتعشت؛ لأنها رأت فيها رجلا في عنفوان الشباب ومعه طفل جميل، فعرفت أن الرجل هو الفيكونت فابيان زوج بلانش دي شمري التي طالما دعاها روكامبول أخته، والطفل ولده الذي طلبت إلى كارل مورليكس أن يختطفه.
فابتسمت ابتساما هائلا وقالت: هنا سيكون انتقامي من روكامبول وسأضربه باختطاف هذا الغلام الضربة القاضية.
ثم أسرعت في سيرها حتى بلغت منزلها ولم يبق لديها من تعتمد عليه غير بطرس السائق، وهو ذلك الرجل الذي تنكر بزي إيفان في منزل باكارا فجلدته جلدا مؤلما كما تقدم.
وكان شديد الحقد عليها لا يحلم إلا بالانتقام منها، فلما دخلت فاسيليكا إلى منزلها دعته، وقالت: ألا تزال ظمآن إلى الانتقام من باكارا؟ - لا يهنأ لي عيش يا سيدتي بغير هذا الانتقام. - إذن اركب جوادا ومر به في جهات الشانزليزه حتى ترى مركبة جميلة يجرها جوادان أشهبان، وفيها رجل وطفل فاقتفي أثر تلك المركبة وراقب من فيها أشد المراقبة ثم عد لتخبرني بما رأيت.
وامتثل بطرس وخرج صادعا بأمر فاسيليكا.
38
كان ثلاثة مجتمعين في مجلس الكونتس أرتوف، وهم باكارا وروكامبول وإيفان.
وقد أخبروا ذلك الشاب الروسي بجميع ما مضى من الحوادث منذ شهر، وعن علائق أجينور خطيب أنطوانيت بعمه كارل، الذي يضطهد الأختين.
وكان هذا الاجتماع في الوقت نفسه الذي علمت فيه فاسيليكا بخيانة بيريتو وقتلته بخنجرها.
فقال إيفان بعد أن وقف على جميع هذه الحوادث: أي عقاب أعددتم لكارل مورليكس؟
ابتسم روكامبول وقال: إن عقابه يبدأ يوم يرى مدلين الحقيقية مستندة على ذراعك في الكنيسة حين حفلة الزواج. - ماذا يحدث له؟ - إنه يموت من قهره.
فهز إيفان رأسه إظهارا لريبه، فقالت باكارا: إن هذا العقاب سيقضي عليه لا محالة، فإنه شغف بمدلين شغفا عجيبا قتل في فؤاده الأثيم كل عاطفة خلا الغرام، فإن هذا السفاك الذي طالما سفك دماء طاهرة للمحافظة على ثروته المختلسة تخلى عن جميع تلك الثروة بإشارة من التي يعتقد أنها مدلين، ولم يبق لنفسه غير إيراد 20 ألف فرنك لو شئنا أيضا لحرمناه إياها. - وكيف تخلى عن هذا المال؟ - بصك قانوني كتب أمام المسجل تنازل فيه عن جميع ماله للأختين. - ومتى عرف الحقيقة يلغي هذا الصك؟
فقال روكامبول: إنه سيعرفها بشكل لا يدع له عقلا لاسترجاع المال وسنرى.
وفيما يقول هذا القول فتح الباب ودخل أجينور.
وكان أصفر الوجه ولكن علائم السرور بادية في عينيه فقال: لقد قضي الأمر، ثم أخرج من جيبه محفظة محشوة بالأوراق المالية وعرض تلك الأوراق على أنظار الحاضرين وقال: انظروا فإن الحب قد سلب عقله فدفعه إلى إرجاع جميع المال، وهذه الأوراق المالية هي كل ما يمتلك، وهذه صكوك الأراضي والقصور التي كان يمتلكها في بوهيميا وهنغاريا وفرنسا، وقد تحولت بجملتها إلى الأختين.
فقالت باكارا: هل أعددت معدات الزواج؟ - نعم، فقد اتفقت مع عمي على أن يكون زواجي قبل زواجه بأسبوع. - وأنا قد ذهبت إلى السفارة الروسية وأعددت معدات زواج إيفان بعد الاتفاق مع رجال السفارة على كتمان زواجه، بحيث لا يعلم به أحد إلا ساعة عقده.
فقال إيفان وهو يختلج سرورا: متى يكون هذا اليوم السعيد يا سيدتي؟ - غدا يكون الزواج المدني في السفارة وبعد غد يعقد لك على مدلين في الكنيسة الروسية؟ - وبعد ذلك أنسافر في الحال؟ - دون شك، ثم ابتسمت وقالت له: إلى أين تريد السفر؟ - لا أعلم فإني أسافر إلى حيث تريد مدلين. - ولماذا لا تبقى في باريس؟
فقطب روكامبول حاجبيه وقال: كلا، إني لا أشير عليها بالبقاء في باريس. - لماذا؟
قال وهو يضطرب: إني أخشى عليها من فاسيليكا. - لا أخالها قادرة على الأذية بعد اليوم ومن يعلم ما كان من أمرها، فقد تكون الآن في عداد الهالكين.
فاضطرب إيفان وقال: كيف ذلك؟ - ذلك أنه صدر الأمر إلى الرجل الذي أقام في القبو مقامك بخنقها.
ولم تلبث أن تتم كلامها حتى دخل خادم عليه هيئة الذعر وقال: سيدتي دخلت مركبة إلى ردهة القصر وفيها رجل أشيب مدرج بالدماء، وقد قال السائق: إن امرأة كانت معه في المركبة ادعت أنها الكونتس أرتوف وأمرته أن يحضر إلى هنا.
فذعر الجميع وأسرعت باكارا ومن كان في مجلسها، فكان السابق إلى المركبة روكامبول فرأى ميلون مغميا عليه وهو يشبه الأموات.
فحمله وأخرجه من المركبة وسار به إلى المنزل وهو يقول لباكارا: لا حاجة للبحث عن ضاربه، فإنها فاسيليكا وهي أشد منا دهاء دون شك.
ولم يكن بين جراح ميلون جرح قاتل، وكان روكامبول خبيرا بالجراحة، فعالج ميلون حتى استفاق من إغمائه وفتح عينيه فلما رأى روكامبول واقفا فوق رأسه تنهد تنهد المنفرج وقال: الحمد لله، فقد زال عنك الخطر.
فدهش روكامبول وقال: ويحك أي خطر تعني؟ - خطر الموت الذي لم يكن لك مناص منه. - يظهر أنك محموم ومصاب بالهذيان. - كلا، فإن فاسيليكا قد أكدت لي ما أقول. - وماذا قالت لك؟ - إني إذا قتلتها أكون قد قتلتك في الوقت نفسه. - وكيف برهنت لك على ذلك؟ - بقولها أنك في قبضة رجالها وأنهم إذا لم يروها في ساعة معينة قتلوك.
ثم قص عليه جميع ما حدث له معها إلى أن أخبره كيف أنه ركع فوق صدرها، وأشهر عليها الخنجر. - ألم تغمده في عنقها؟ - كدت أفعل لو لم تقل لي ... - إني معرض لخطر الموت؟ - نعم، ألم يكن ذلك حقيقة؟
فهز برأسه وقال: لا يوجد غير حقيقة واحدة وهي أنك أبله وستبقى على بلاهتك ما حييت.
فبكى ميلون وقال: أرجوك العفو يا سيدي فلم يكن انخداعي إلا لإشفاقي عليك.
فلم يجبه روكامبول والتفت إلى باكارا وقال: لا بد لنا من العودة لما كنا فيه وتجديد العراك.
فما أجابته باكارا؛ لأنها كانت ساهية مفكرة، أما روكامبول فقد اتقدت عيناه بأشعة خاطر سريع، فخرج من ذلك المنزل وهو يقول: سنعود إلى القتال وسوف ترى لمن يكن النصر.
39
يذكر القراء أن فاسيليكا أرسلت بطرس السائق ليقتفي أثر الفيكونت فابيان إليها في الليل يخبرها بما رآه فقال: ذهبت ممتطيا جوادي فقطعت به الأرض نهبا حتى بلغت غابة بولونيا، فرأيت هناك تلك المركبة وعرفتها من جيادها ورأيت الرجل والغلام.
فطافت المركبة حول بحيرة الغابة ثم وقفت في أرمنوفيل فنزل منها الوالد والولد، فشرب الوالد كأس خمر وأكل الولد قطعة من الحلوى، ثم ركبا المركبة وذهبا إلى شارع الإمبراطورة، ثم عطفت بهما إلى شارع برسبورج ووقفت عند باب معمل لصنع المركبات.
فترجلت عن جوادي حين رأيتهما دخلا ذلك المعمل ودخلت في أثرهما، ووقفت بعيدا وقبعتي بيدي وقفة الاحترام.
وسمعت صاحب المعمل الذي لم ينتبه إلي يقول للفيكونت: إن مركبة سيدتي الفيكونتس قد تم صنعها، ولكني لا أستطيع أن أريك إياها؛ لأنها في معمل آخر. - ومتى تحضرها من ذاك المعمل؟ - غدا. - إذن سأعود غدا مع الفيكونتس.
ثم رجع يريد الانصراف.
وعند ذاك رآني صاحب المعمل فقال لي: ماذا تريد.
ووقف الفيكونت أيضا ينظر إلي، فأجبته: إني روسي ومهنتي سائق مركبات وحداد، وأنا الآن أروض الخيول لحساب تجارها إلى أن أوفق إلى الخدمة في أحد المنازل، وقد أتيت راجيا أن تذكرني إذا طلب إليك سائق خبير.
فقال لي صاحب المعمل: عد إلي غدا.
وبينما أنا أحاول الذهاب ناداني الفيكونت وقال لي: إذا كنت ماهرا في صناعتك، كما تقول فاذهب إلى قصري غدا فقد أجعلك في خدمتي.
ثم ذكر لي اسمه وأرشدني إلى منزله.
ولما انصرف الفيكونت قال لي صاحب المعمل: وأنا أيضا محتاج إلى حداد، فإذا لم ترق لك خدمة الفيكونت كنت في خدمتي.
فأنا الآن أستطيع الدخول إلى اصطبل الفيكونت ومعمل المركبات.
فسرت فاسيليكا بتقرير خادمها وقالت له: متى تحضر مدام أسمول لمشاهدة مركبتها في المعمل؟ - غدا. - إذن ادخل منذ صباح غد في خدمة صاحب المعمل، وسأرشدك صباح غد إلى ما ينبغي أن تعمل.
فانحنى بطرس وخرج ولكنها دعته قبل أن يصل إلى الباب، وقالت له: إنك ذكي الفؤاد فلا يجدر المبالغة بالتكتم مع مثلك، فقل لي الآن ألا تكره الكونتس؟ - كرها لا يوصف. - لا يجب أن يكون حقدك قاصرا عليها، بل على الماجور أفاتار أيضا فإنه السبب في ما أصابك من جلد السياط. - أتريدين أن أقتله؟ - كلا، إذ لم يحن الوقت بعد، ولكن يجب اختطاف الطفل الذي رأيته اليوم. - ابن الفيكونت أسمول؟ - هو بعينه، فإننا إذا اختطفناه نفعل بالكونتس أرتوف والماجور أفاتار كل ما نريد.
فانحنى بطرس وقال: لقد فهمت كل شيء، وسأفعل ما تريدين.
ثم تركها وانصرف، فاتكأت فاسيليكا على مقعد طويل وجعلت تفكر بروكامبول وإيفان؛ لأنها باتت تكره روكامبول أكثر مما تكره إيفان.
وفيما هي تجهد فكرها في استنباط وسائل الانتقام، إذ سمعت أن الباب قد فتح وأقفل، والتفتت فرأت رجلا مشهرا خنجره بيده، وكان هذا الرجل روكامبول.
فذعرت فاسيليكا ذعرا شديدا غير أن روكامبول وضع سبابته على شفتيه إنذارا لها بعدم الصياح، ثم دنا منها وقال: إنك علمت منى يا سيدتي ما لم يعلمه سواك، وعرفت أني لا أحجم في أمر من الأمور، فإذا كنت تصغين إلي بسكينة أقسمت لك أن أخرج دون أن أمسك بسوء، وإذا استغثت أو جاء إليك أحد خدمك، قتلتك قبل أن يصل.
وكانت فاسيليكا وضعت خنجرها على منضدة حين دخولها إلى المنزل، فأخذه روكامبول حين رآها تنظر إليه وضعه في جيبه، وقال لها: لنتحدث الآن.
ثم جلس بإزائها على المقعد.
فنظرت إليه نظر الأفعى وقالت له: ماذا تريد مني؟
فأخذ روكامبول يدها بيده وقال لها: إن الاتفاق على البغض يجمع بين القلوب. - البغض ... ومن عساك تكره؟ - لا أكرهك أنت ... - إذن من تكره؟
فضحك روكامبول ضحكة هائلة تعلمها من أستاذه القديم أندريا وقال: أتسألينني من أكره؟ - دون شك، إذ كيف يتسنى لي أن أعرف دخائل قلبك؟
فاستمر روكامبول على ضحكه وقال: كيف يخطر في بالك أن روكامبول يسالم باكارا بإخلاص.
فصاحت فاسيليكا صيحة دهش وجعلت تنظر إليه نظر إعجاب.
40
وكان روكامبول لابسا أفخر الملابس يمثل بهيئته لصوص الروايات الذين يميل إليهم بعض النساء، فوقف أمام فاسيليكا، وقال لها بصوت حنون: أتأذنين لي يا سيدتي أن أوضح لك أفكاري؟
فأشارت له فاسيليكا بالجلوس على كرسي أمامها، وقالت له: تكلم.
غير أن روكامبول أبى الجلوس وقال لها وهو يبتسم: لقد ذكروا لك يا سيدتي حكايتي مرة في منزل أرتوف فلا فائدة من إعادتها.
ولقد ألجأتني الحوادث إلى التصدي لك في سبيل أغراضك فكنا عدوين، وكنت مكرها على هذا العداء فإني أقمت في سجن طولون أعواما كثيرة صادفت في خلالها رجلا ...
فقاطعته فاسيليكا وقالت: أعرف أن هذا الرجل يدعى ميلون وأنه يحب مدلين كابنته، وإنك تحب ميلون وتريد أن تجعلها سعيدة آمنة. - نعم، لقد فعلت ما أستطيع فعله، وقد أتيت الآن أقترح عليك الصلح. - علي أنا؟ - نعم يا سيدتي ... - بأي شروط؟
فتظاهر روكامبول أنه يتردد بالجواب ثم قال: أتظنين يا سيدتي أن عذاب عشرة أعوام في سجن طولون من الأمور التي تنسى، ألا تعلمين أن باكارا هي التي أرسلتني إلى ذاك السجن؟ - وأنت تكرهها؟ - كرها شديدا لا مبلغ لوصفه ... - أتظن أني أكرهها أنا أيضا؟ - ربما.
فنظرت إليه فاسيليكا محدقة كأنها تريد أن تخترق أعماق نفسه وتكشف الحجاب عن أسراره ثم قالت له: إذا كنت تريد محالفتي فأنا أمد لك يدي على شروط المساواة فهل تسلمني إيفان؟
فأطرق روكامبول برأسه وقال: مستحيل يا سيدتي. - لماذا؟ ألعل حبك لمليون أشد من كرهك لباكارا؟ - كلا ... - ألعلك تخشى أن تسحق قلب مدلين إذا حرمها الزواج بمن تحب؟ - كلا ... - إذن أوضح معمياتك.
وكانت تبتسم له فجلس روكامبول، ولكنه لم يجلس على الكرسي التي قدمتها له، بل جلس ملاصقا لها المقعد فلم تظهر استياء مما أبداه من الجسارة، ولم تأنف من مجالسة لص هارب من السجن بل لبثت تبتسم.
فقال لها روكامبول: إنك تسألينني لما لا أسلمك إيفان؟ - نعم، فإني أعجب لذلك بعد أن صرحت بعدم اهتمامك بمدلين. - لأني أخشى أن يكون باقيا في قلبك بقية من حبه. - وماذا يهمك حبي إياه؟ - ألا تعلمين أن المفسدة تجلب المفسدة، وأن أهل الشر يتحابون وأن امرأة هائلة مثلك تجذب بمغناطيس أخلاقها الفاسدة رجلا هائلا مثلي. - أحق ما تقول؟ - كل الحق، فإن من يخاصم امرأة مثلك يجب أن يعاقب بحبها.
ثم أخذ يدها بين يديه دون أن تعترضه، وقال: إنك امرأة عظيمة النفس ذكية الفؤاد، ومن كان مثلك لا تخفاه خافية فإني ما أحبك إلا حين كرهي لك، وقد كنت أمرت ميلون في صباح اليوم أن يقتلك، ولكنه عاد إلي مضرجا بدمه وعلمت أنك لا تزالين في قيد الحياة فكاد الفرح يقتلني فإني أحبك؛ لأن بين جنبيك قلب شيطان، وأنت في صورة الملائكة الأطهار؛ ولأنك فاسدة الأخلاق شديدة الولوع بالآثام فلا تعجبي لغرامي؛ فإن الطيور على أشكالها تقع.
ثم اندفع روكامبول بحديثه مظهرا لها غرامه بأرق العبارات وقد ركع أمامها وجعل يقبل يديها.
وقد طالما مثل روكامبول هذه الأدوار فيما مضى من أيام شبابه، غير أنه ما برع مرة براعته هذه المرة، فإنه كان يظهر التدله بغرامها ويتنهد تنهد الوالهين ويكلمها بلغة العيون كلمات حلوة لا تفصح عنها الألسنة.
كل ذلك وفاسيليكا تنظر إليه مصغية باسمة إلى أن قالت له: أتعلم أنك جميل تروق لعيون النساء؟
فأظهر روكامبول سرورا لا يوصف وقال لها: ما أعذب هذه الكلمات من فمك الجميل! فهلم بنا أيتها الحبيبة الحسناء نبرح باريس إلى مكان يحجبنا عن العيون.
فقالت بصوت المؤنب: ولماذا الرحيل؟ ألا يمكن أن تحبني وأحبك في باريس؟ - كلا أيتها الحبيبة فإني أغار عليك من كل عين في عاصمة العواصم، وأريد أن نكون منفردين نتناجى الغرام فلا يكدر خلوتنا رقيب. - وأنا أريد ما تريد. - إذن هلمي بنا أيتها الحبيبة ولنسافر فإن الوقت غير فسيح.
ولم يكد يتم كلامه حتى أفلتت فاسيليكا من يديه وضحكت ضحكا شديدا وقالت: إن من يسمع لهجة غرامك يحسبك صادقا ولكني لا أصدق هذا الغرام.
فتراجع روكامبول مجفلا وقال لها: لماذا لا تصدقين؟ - إنك لا تحبني أنا أيها العاشق الجميل وأنا سأذكر لك اسم التي تحبها.
فحسب روكامبول أنها تعني فاندا فقال لها: إنك واهمة فإني لا أحب هذه المرأة. - إني لا أتكلم عن فاندا. - إذن عمن تتكلمين؟ - عن مدلين، فإن حبك إياها عقاب لك وهو نصف انتقامي منك، وإنك لم تأتني وتظهر لي غرامك الكاذب إلا لتخدعني، فإنك ترهبني بقدر ما تكرهني.
فاصفر وجه روكامبول وقال: إن قوتك فوق ما كنت أحسبه، ولكن قوتك هذه سبب ضعفك؟ - أتظن؟ - بل أؤكد لأني أصبحت مكرها على قتلك.
ثم هجم عليها بخنجره، ورأت فاسيليكا أن برق عينيه أشد لمعانا من بريق سلاحه، فوجف قلبها من الرعب وقالت له: رحماك. - أتطلبين رحمة من روكامبول أم تحسبين أني ميلون؟
فاصطكت أسنانها من الخوف وسقطت جانية على ركبتيها وضمت يديها كما يفعل المتوسل، فقالت: رحماك إني أرجع عن انتقامي وأسافر ... في هذا المساء ... بل الآن، فارحمني. - كلا، فلا رحمة لك بقلبي ولكني لا أريد أن تموتي دون توبة واستغفار، فأمهلك خمس دقائق للصلات، إلا إذا استغثت فإني أقتلك على الفور.
ثم خطر له خاطر سريع وقال: إني لا أحب سفك الدماء فهل تريدين الحياة.
فوثبت واقفة بعد أن كانت راكعة وقالت: نعم، نعم، فاشترط علي ما تشاء. - يجب أن تموتي خمسة أيام.
فنظرت إليه منذهلة وقالت: كيف ذلك؟ - نعم، فإنه في مدة هذه الأيام الخمسة يتزوج إيفان مدلين فيبرح باريس ولا يخشيانك فيجب أن تكوني ميتة في هذه الأيام. - لا أفهم ما تقول ...
وكان في أصبعه خاتم فأراها إياه وقال لها: إنك تعرفين قصتي فلا بد أن تكوني عرفت كيف أنقذت أنطوانيت من سجن سانت لازار. - نعم ... - إذن ابتعلي حبة سوداء من تلك الحبوب المخزونة في فص الخاتم أو أغمد هذا الخنجر في صدرك . - تبا لك من شيطان، فإنك تفعل ما تقول، ثم أخذت الحبة من يده وابلعتها فما استقرت في جوفها حتى صعقت وسقطت صريعة على الأرض.
فتنهد روكامبول تنهد المنفرج وقال: إنها لا تضايقني بعد الآن.
ثم فتح الباب وخرج من ذلك المنزل كما دخل إليه دون أن يراه أحد.
41
يوجد في باريس قهوة تدعى قهوة مارينيان، يختلف إليها الناس على اختلاف طبقاتهم.
وكان من الذين يترددون عليها شاب مصور بارع في مهنته وهو عاشق كلوريند التي تمثل دور مدلين.
وكان هذا الشاب كثير الزهو تبدو عليه ملامح البساطة والهناء وله كثير من المحبين، ولكن أخلاقه تبدلت فجأة فأصبح كثير الهم والتفكير لا يرى إلا كئيبا منقبضا، غير أنه لم يخلف عادته وظل يتردد كل يوم على تلك القهوة في ساعة معينة، فينهمك بمطالعة الجرائد تلطيفا لهمه دون أن يكلم أحدا من الناس.
فبينما هو جالس ذات يوم في تلك القهوة إذ دخل إليها رجل لا يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، ولكنه كان مرتديا بملابس غاية في البساطة وسلامة الذوق تدل على أنه من كبار القوم.
فمشى هذا الرجل حتى وقف أمام المصور وحياه، فالتفت إليه المصور ورد تحيته دون اكتراث، فقال له الرجل: أسألك العفو يا سيدي وأرجوك أن تأذن لي بالاختلاء معك.
فنظر إليه المصور نظرة المبهوت وقال له: إني لم أتشرف بمعرفتك يا سيدي. - إني قادم إليك من قبل كلوريند، وأنا أدعى الماجور أفاتار ألعلك حسبتها خائنة؟
فاضطرب المصور وقال: بل هي شر من ذلك. - إنك منخدع بظنونك، فإن كلوريند لا تزال تهواك، أتعلم أين هي الآن؟
فتنهد المصور وقال: وا أسفاه، فإني أذهب في كل صباح وفي كل مساء إلى منزلها فيقولون لي: إنها مسافرة وإنهم لا يعلمون مقرها. - إنهم خدعوك أيضا. - أين هي الآن؟ - في باريس أتريد أن تراها اليوم؟ - أرجوك أن لا تمزح يا سيدي، فإني ألقى من بعادها عناء لا يوصف. - إني لا أمزح على الإطلاق، وقد قلت لك: إنك ستراها اليوم وأزيد أنها سترجع إليك فلا تفارقك بعد الآن.
فوقف المصور ولكنه كان يترنح من فرحه ترنح السكارى، فأخذ روكامبول يده وقال: هلم معي. - ولكن إلى أين تذهب بي؟ - اتبعني وسوف ترى.
وخرج الاثنان من القهوة وفيما هما سائران لقي الماجور طبيبا من أصدقائه فسلم عليه وسأله: من أين آت؟
فأجابه: كنت قادما من عيادة أحد المرضى.
فابتسم المصور وقال له على سبيل المزاح: مسكين هذا الرجل.
فرد الطبيب: ليس المريض رجلا بل امرأة. - إذن مسكينة هذه المرأة. - إنك تمزح، ولكنك لو عرفت علة تلك المرأة التي أعالجها لتخليت عن المزاح وسألتني عنها الأسئلة الكثيرة. - كيف ذلك؟ - لأني أعالج امرأة بارعة الجمال وهي روسية تدعى الكونتس فاسيليكا، وقد أصيبت بمرض غريب فتراخت أعضاؤها وانحلت قواها وأطبقت عيناها.
فقاطعه المصور وقال: قل: إنها ماتت ... - كلا إنها لم تمت بعد، إلا أن عينيها كانتا مطبقتين، فإن قلبها ينبض ولسانها يتكلم، وقد تعذر عليها تحريك أعضاء جسمها، ولكنها تتمتم بشفتيها كلمات لا يسمعها إلى من يضع أذنه فوق فمها. - إنها تهذو دون شك؟ - كلا بل إنها تتكلم كلام العاقلين. - كم بقي لها في هذه الحالة؟ - أربعة أيام. - أترجو لها الشفاء؟ - نعم ... ولكنها لا تشفى في زمن قريب. - كيف أصيب بهذا المرض؟ - ذلك ما لم أعلمه إلى الآن، وقد اشترك معي في فحصها اثنان من مشاهير الأطباء ولم يعلما شيئا. - ولكنها تتكلم كما تقول؟ - هي أيضا لا تعلم شيئا ولكنها تقول: إنها أصيبت فجأة بهذا الداء.
وهنا افترق عنهما الطبيب فسار في شأنه، وسار روكامبول والمصور في شأنيهما.
42
كان ذلك اليوم موعد زفاف أنطوانيت إلى أجينور، وكان ينبغي أن يحضره كارل مورليكس ومدلين امرأته المستقبلة.
وكان كارل قد أخنى الغرام على قلبه فبات كالمعتوه لا يخالف أمرا لكلوريند التي يحسب أنها ابنة أخته مدلين.
وقد مثلت تلك الفتاة دورها أبدع تمثيل، وعبثت كل العبث بهذا الشيخ الذي بيضت شعره الأيام، وسودت وجهه الآثام، فبدأت تمثل دور اليأس لعدم حضور إيفان، ثم دور السلوان، ثم أخذت تمثل دور الميل إلى ذلك الشيخ الولهان، حتى أصبح لا عقل له ولا رجاء إلا بزواج من يحب.
وقد كان دفع جميع أمواله إلى أجينور، وهي أموال الأختين، فلما بلغت منه كلوريند ما تريد بفضل إرشاد روكامبول، رضيت بزواجه واشترطت أن يكون زواجها بعد مرور أسبوع على عرس أنطوانيت.
وقد تقدم لنا القول أن ذلك اليوم كان موعد زفاف أنطوانيت، فلبست كلوريند خير الملابس، وقالت لكارل: هلم بنا إلى الكنيسة، فقد آن الأوان.
فامتثل خاضعا وركب وإياها مركبة، فسارت تنهب بهما الأرض إلى الكنيسة.
وكان كارل مفكرا مهموما، فقالت له وهي تتظاهر بالانشغال عليه: ما بالك مفكرا؟
فأطرق برأسه وقال: إني أفكر بهذا الأسبوع، وأود لو يسلبه الله من عمري.
فابتسمت له مدلين وجعلت تؤانسه حتى وصلا إلى الكنيسة.
وكان أجينور أراد أن يكون زواجه بسيطا ولم يدع غير القليل من خواص الأصدقاء، فكان أبوه راكعا قرب الهيكل يصلي ويبكي وبالقرب منه امرأتان تبكيان أيضا، ولكن بكاء فرح، فإنهما كانتا مربية أنطوانيت ومرتون رفيقتها في السجن.
ولم يكن غير هؤلاء إلا شهود العريس وهم من أصدقائه؟
فدخل كارل وكلوريند ووقفا مع المصلين، دون أن يكترث بهما أحد.
وتمت حفلة القران بملء البساطة، وعانق أجينور أباه ثم مد يده إلى عمه وودعه ببرود ونظرت أنطوانيت إلى كلوريند فحيتها تحية بسيطة.
ثم خرج العروسان وركبا مركبة كانت تنتظرهما خارج الكنيسة، وسافرا بها إلى إحدى قرى باريس ليقضيا فيها شهر العسل.
وعند ذلك تأبطت كلوريند ذراع كارل، وسارت به إلى مركبتهما، وتبعها كارل منقادا انقياد الطفل، وهو ينظر إليها نظرات الإعجاب والهيام.
ولما صارا في المركبة قال لها: إلى أين نسير؟ - إلى الكنيسة الروسية.
فانذهل كارل وقال: أي شان لنا في هذه الكنيسة؟ - إننا نذهب لحضور عقد زواج آخر. - زواج من؟ - سوف ترى. - ولكني أحب أن أعرف من هذا الذي نحضر زواجه. - هو إيفان بونتيف؟
وكان حق كارل أن يعلم كل شيء ويفطن للحيلة، ولكنه قد تدله فلم يبق الغرام على شيء من صوابه، وخشي أن تستاء لرفضه فقال لها: ليكن ما تريدين.
فانطلقت المركبة بأمر كلوريند تسابق الرياح إلى الكنيسة الروسية.
ووجدا ردهتها غاصة بالمركبات والكنيسة غاصة بالناس، فنزلا من المركبة وأخذته كلوريند بيده وهي تقول: تعال لقد بدأت الحفلة.
فتبعها ودخلا ولكنه ما لبث أن دخل حتى جعل يضطرب، وكان العروسان لم يقفا بعد في موقف الإكليل، ولكن الذي دفع كارل إلى هذا الاضطراب هما رجلان وامرأة رآهما وقوفا عند مدخل الكنيسة.
وكان أحد الرجلين ميلون، ذلك الخادم الأمين الذي أرسله كارل إلى سجن طولون وثانيهما الماجور أفاتار أي روكامبول، وأما المرأة فقد عرفها كارل أيضا واقشعر وارتعش؛ لأنها كانت فاندا رفيقة روكامبول التي اغتصب من يديها مدلين في روسيا وجعل يقول في نفسه: من هذان اللذان سيتزوجان في هذه الكنيسة وأية علاقة لهؤلاء الثلاثة بهما؟
وعند ذلك فتح باب قرب الهيكل ودخل منه العروسان، فصاح كارل صيحة هائلة دوت لها الكنيسة واضطرب جميع من كان فيها.
ذلك أن إيفان بونتيف ومدلين الحقيقية دخلا وركعا أمام الكاهن ليعقد زواجهما.
ونظر كارل إلى كلوريند فرآها تضحك ضحك بنات الهوى، وتقول: كيف رأيت أيها الخال العزيز؟
فسقط كارل على الأرض صريعا وأطبقت عيناه، وأسرع بعض الحاضرين وحملوه خارج الكنيسة وبينهم روكامبول.
وكانت كلوريند قد تبعتهم أيضا والمصور واقفا ينتظرها، فلما رأى ما كان قال لها: هلم بنا الآن.
فنظرت كلوريند إلى روكامبول كأنها تستشيره بالنظر فدنا من المصور وقال له: أرجوك أن تمهلنا أيضا يوما واحدا.
وكان المصور قد عرف الحقيقة ولم يعد يمل الانتظار، فانحنى أمام روكامبول إشارة إلى الرضى.
وذهبت كلوريند بكارل مورليكس وهو لا حراك به إلى منزله.
وبعد ساعة من هذه الحادثة بينما إيفان ومدلين كانا يخرجان من الكنيسة بعد انتهاء حفلة الإكليل كانت فاندا ماسكة بيديها روكامبول، وكانت يده باردة كأيدي الأموات فقالت له: إنك لم تضرب كارل مورليكس، بل إنك ضربت نفسك.
فزجرها روكامبول وتجاسر على أن ينظر إلى ذينك الزوجين السعيدين نظرة وداع، فما وقع نظره على مدلين حتى ترقرق الدمع في عينيه وقال بصوت يتهدج: رباه إن رحمتك شديدة ولكن عقابك أشد.
فجذبته فاندا إلى الخارج وقالت له: هلم معي أيها الرئيس والصديق بل أيها الزوج المعبود، تعال معي أنا عبدة ما حييت.
ثم اخترقت به الجموع إلى خارج الكنيسة، وأدركهما ميلون وقال لروكامبول وهو يبكي: إن الأختين سعيدتان الآن ولم يعد لهما بي حاجة وأنا لك ما حييت.
ثم خرج الثلاثة وساروا بين صفوف الناس حتى انفسحت لهم الطريق وتواروا عن الأنظار.
43
ولنعد الآن إلى فاسيليكا فإن هذه الفتاة الوحشية الأخلاق التي لم تستطع بطرسبرج والمدينة الحديثة نزع تلك البذور الهمجية منها كانت لا تزال مصعقة بالمخدر الذي سقاها إياه روكامبول.
وكان تخديرها غريبا كما وصف طبيبها للمصور؛ لأن جسمها كان ساكنا سكون الموت ولا حياة فيها إلا للفكر.
وبقيت يومين لا أثر عليها من آثار الحياة حتى ذعر خادمها بطرس، ونادى الطبيب وكاد يحكم بموتها لو لم يسمع دقات خفيفة في قلبها.
وفي اليوم الثالث من مرضها بينما كان بطرس واقفا أمام سريرها ينظر إليها ذهل انذهالا عجيبا؛ لأنه رآها قد فتحت شفتيها وسمعها تقول: لا أزال في قيد الحياة.
فصاح بطرس صيحة فرح، ودنا منها فقالت له: إني أسمع كل ما يقال أمامي.
وكان الطبيب واقفا أيضا أمامها فقال لها: ألعلك شربت يا سيدتي سما هنديا؟
ولم تجب فاسيليكا بشيء؟
واستأنف الطبيب السؤال قائلا لها: إذا كنت أعرف نوع السم الذي شربته أشفيك في الحال! - لا أعلم.
ثم رحل الطبيب وهو يتخبط في دياجي الشك وبقي بطرس بقربها، فقالت له: أنحن وحدنا الآن يا بطرس؟ - نعم يا سيدتي. - إذن اصغ إلى ما أقول؛ لأني سأبقى على الحالة التي تراني عليها خمسة أو ستة أيام تتصرف فيها بالنيابة عني حسب تعليماتي.
ثم أصدرت إليه أوامرها.
وفي اليوم الخامس لإصابتها جاءها بطرس يخبرها بما فعل وقال: إن إيفان ومدلين يا سيدتي قد تزوجا أمس.
واضطربت نفسها وبذلت مجهودا كبيرا كي تتحرك أو تفتح عينيها فلم تستطع وقالت : وبعد ذلك؟ - ثم سافرا على أثر الزواج وكذلك أجينور وأنطوانيت تزوجها قبلهما بساعة وسافرا أيضا إلى جهة لم أعلمها. - وماذا صنع الفيكونت كارل؟ - إنه سقط منصعقا حينما رأى مدلين وإيفان. - ألم يمت؟ - كلا، لأن كلوريند ذهبت به إلى منزله وأقامت معه فيه، ولما استفاق من إغمائه هاج هياجا شديدا، وعاوده داء الغرام ولكنه الآن هائم بكلوريند لشبهها بمدلين وهو يطلب أن يتزوجها وهي تأبى هذا الزواج. - إذن سيموت قهرا. - ذلك لا ريب فيه. - وروكامبول؟ - إنه يتأهب للسفر وستصحبه فاندا الروسية وميلون. - يجب أن تبذل كل ما لديك من الجهد لتحول دون هذا السفر. - كيف ذلك؟ - باختطاف الغلام. - ذلك ما كنت أنويه ولكني كنت أنتظر أوامرك. - ألا تزال عند صاحب معمل المركبات؟ - نعم إني أصنع عنده الآن مركبة أتماهل فيها كسبا للزمن. - هل أتت امرأة فابيان لترى المركبة التي أوصى زوجها عليها؟ - نعم أتت مرتين. - وهل كان ابنها معها؟ - نعم يا سيدتي، وقد خطر لزوجها أن يصنع مركبة على الطراز الروسي وسيصنعها له صاحب المعمل دون شك، ولكن الصعوبة بإيجاد جياد صالحة لجرها. - يجب أخذ جيادي؛ لأنها مدربة أحسن تدريب. - ألعل سيدتي نسيت أن امرأة فابيان تعرف باكارا؟ - كلا، ولكني سأرشدك إلى طريقة شراء جيادي، دون أن يعلم فابيان أنها لي. - إذن إني أدخل في خدمته بصفة سائق، ولا أسهل علي عند ذلك من اختطاف الولد. - إني أسمع دقات الساعة وأعد الساعات ولكن حسابي قد ضاع، ولا أستطيع التمييز بين الليل والنهار؛ لأني لا أستطيع فتح عيني، قل لي كم بقي لي في هذه الحالة؟ - ستة أيام يا سيدتي. - ولكن روكامبول قال: إني سأستفيق بعد خمسة أيام. - ربما كان منخدعا، ولكني سمعت الطبيب يحادث طبيبك الآخر في هذا الصباح ويقول له: إن ما أصاب هذه السيدة يندر حدوثه في أوروبا، ولكني أعرف سما هنديا يدعى كيرال يصاب شاربه بما أصيبت به هذه السيدة.
وإذا كانت السيدة فاسيليكا قد شربت منه فإني أشفيها في الحال، ولكني أخشى أن أعالجها بدواء هذا السم ؛ لأنها إذا لم تكن شربته وعالجتها بهذا فإنه يقتلها.
وكانت فاسيليكا قد عرفت من روكامبول نوع السم الذي شربته فسرت وقالت للخادم: ألم يقل الطبيب شيئا عن الدواء؟ - نعم يا سيدتي، لقد قال: إن دواء هذا السم الحقن تحت الجلد بالستركنين وهو أشد السموم كما تعلمين.
وسكتت فاسيليكا هنيهة، ثم قالت: لا بأس من المخاطرة بالحياة حين إرادة الانتقام. واعلم يا بطرس أنك ستكون طبيبي، ولا أريد طبيبا سواك. - أنا أكون طبيبك يا سيدتي؟ - نعم، ويجب أن تحضر كمية من الستركنين، وحقنة خاصة للحقن تحت الجلد. - ولكن ... سيدتي. - يجب تنفيذ أمري في الحال، والآن قل لي متى يأتي الطبيب؟ - في هذا المساء. - وفي أية ساعة نحن الآن؟ - في الظهر. - إذن اذهب وعد في الحال.
ومرت ساعة أقامت فاسيليكا فيها تعد وسائل الانتقام من روكامبول؛ لأن كل قواها العقلية كانت حية خلافا لأعضائها، فإنها كانت مائتة لا تتحرك.
وبعد ساعة عاد إليها بطرس فقالت له: أأحضرت الآلة والدواء؟ - نعم يا سيدتي. - إذن ابدأ العمل.
فاضطرب بطرس وقال: ولكني أخشى أن أقتلك. - قلت لك: امتثل لأمري واعمل ما قلته لك. - سأمتثل لما تريدين. - ابدأ الآن بنزع الثياب عن ساعدي وبعد أن تفرغ من ذلك أدخل شيئا من الدواء بأحد العروق في ساعدي.
فتردد بطرس هنيهة ولكنه لم يجد بدا من الامتثال، فغمس المشراط بالستركنين وضرب به عرقا أشارت إليه فاسيليكا.
ولم تمض هنيهة وجيزة حتى حدث لها نفس ما حدث لأنطوانيت حين أحياها روكامبول.
ولكن تأثير الدواء بفاسيليكا كان أسرع من تأثيره بأنطوانيت، ففتحت عينيها فجأة ثم جعل جسمها ينتفض تباعا وقلبها ينبض نبضا منتظما، وقد تلون خداها وذهبت عنهما آثار الاصفرار.
وبعد ربع ساعة، وثبت من سريرها إلى الأرض وثوب النمر، وقد عادت إليها جميع قواها، فجعلت تصطك أسنانها من الغيظ وتقول: روكامبول.
44
عرف القراء مما تقدم أن الفيكونت فابيان أوصى معمل المركبات على مركبة روسية ضخمة وأن بطرس كان يشتغل فيها.
وقد تم صنع هذه المركبة بعد أسبوع وأرسلت إليه للتجربة، وكان بطرس قد دخل في خدمته كسائق واشترى ثلاث جياد روسية من فاسيليكا.
ثم دنا اليوم الذي عينوه لتجربة تلك المركبة فشد بطرس الجياد الثلاثة إليها وجلس في مجلس السائق.
ولم يكن فيها غير فابيان وابنه، فأحب الولد أن يجلس بجانب السائق، وخرجت أمه بمركبة وحدها تسير في أثر المركبة الضخمة.
وكان بطرس قد مرن تلك الجياد الروسية فصار بها على ما يريد، وطاف في تلك الجهات المجاورة لمنزل الفيكونت فابيان، حتى إذا استوثق فابيان من تمرين تلك الجياد استوقف السائق وخرج من تلك المركبة إلى مركبة امرأته.
أما ابنه فإنه أبى إلا أن يظل بجانب السائق، وكان فابيان قد اطمأن عليه لما رآه من حسن تمرين الجياد ومهارة السائق، فتركه بقربه وكانت المركبة الروسية تسير سيرا يناسب سرعة المركبة التي كان راكبا فيها فابيان وامرأته، والغلام يلتفت كل حين إلى ورائه فيحيي والديه بألطف ابتسام.
ولكن امرأة فابيان كانت كئيبة فقال لها زوجها: ماذا أصابك وما هذا الاكتئاب؟ - إني خائفة. - من أي شيء تخافين؟ - لا أدري، ولكن نفسي منقبضة من يوم أمس وقلبي ينذرني بمصاب.
فنظر إليها بملء الحنان وقال لها: لا تسترسلي إلى هذه الهواجس أيتها الحبيبة فليس في سماء حياتنا غمامة تكدر صفاءها.
فقالت له وعيونها محدقة بابنها: لو كنت تعلم؟ - ماذا حدث؟ - إني رأيت رجلا أصفر الوجه ينظر إلي وعيناه مغرورقتان بالدموع.
واضطرب فابيان عند هذه الكلمات اضطرابا أنساه ولده والمركبة التي كانت مسرعة حتى إنها سبقت مركبته مسافة غير بعيدة.
أما امرأته فإنها ضغطت على يده وقالت له بصوت مضطرب: اصغ إلي يا فابيان إني بكيت زمنا طويلا وكابدت عناء شديدا دون أن يعلم أحد منكم سبب شقائي. - ماذا تعنين بهذا القول؟ - أعني أني أعرف كل شيء.
اصفر وجه فابيان واستأنفت امرأته الحديث فقالت: إن هذا الذي كتب لي من الهند، وهو فيها مع امرأته منذ عشرة أعوام، هذا الرجل هو أخي الحقيقي وليس هو ذلك الرجل الذي كان يدعي أنه أخي، وكنت أحبه كما تحب الأخت أخاها وباركني قبل الموت. - بربك كفى. - كلا، إني أعرف كل شيء وأن هذا الرجل الذي كنت أحسبه أخي كان لصا شقيا مزورا سفاكا، وإنك أنت والكونتس أرتوف وجميع الأصدقاء موهتم علي وكتمتم الحقيقة دون جدوى، وإني عرفت هذه الحقيقة وعلمت أن هذا الرجل يدعى روكامبول.
وقد رأيته منذ ساعة واقفا في نافذة منزل تشرف على حديقتنا وهو ينظر إلي ويبكي. - بلانش كفى كفى!
ولكنها بدلا من أن تجيبه صاحت صيحة هائلة، فذعر زوجها ونظر فإذا بالمركبة التي يقودها بطرس وفيها ولده قد جمحت جيادها وجعلت تسير سيرا لا انتظام فيه.
ورأى فابيان أن بطرس بات عاجزا عن كبح جماح الجياد وأن ولده يصيح صياح الذعر، ويستنجد بأمه وأبيه فطار فؤاده ذعرا وصرخ بسائق مركبته قائلا: اقتل الجياد وأدرك المركبة؛ لأنها سوف تسقط في البحيرة.
ولكن أين لجيادها أن تدرك تلك الجياد الروسية فسبقتها بمراحل وطبقت أصوات استغاثة تلك الأم جوانب الفضاء.
واندفعت تلك المركبة الروسية تمرق مروق السهم، حتى توارت عن أبصار فابيان وامرأته، والناس ينظرون إلى هذين الأبوين المنكودين حيارى آسفين.
45
وإليك بيان ما حدث لتلك المركبة التي سار بها بطرس هذا السير المنوي من قبل، فإنه جلد جيادها بسوطه جلدا قويا، فاندفعت تجري وصاح بطرس عند ذلك صيحة رعب وتعلق به الطفل، وقد ملأ الخوف فؤاده الصغير، فكان ينظر متلفتا إلى الوراء وينادي أمه باكيا ولا يجدها، فيقول له بطرس: لا تخف وتمسك بي جيدا، فلا خطر علينا وسأتمكن من إيقاف الجياد.
وجعلت الجياد تسير كما يريد بطرس والناس يحسبونها جامحة، فاجتازت جميع الطرق المألوفة وبلغت إلى شارع ضيق كانت فاسيليكا اكترت منزلا فيه سكنته متنكرة باسم غريب.
وكانت فاسيليكا بعد أن عادت إليها العافية أوهمت جميع من يعرفونها في باريس أنها عائدة إلى بطرسبرج، وباعت أثاث منزلها وودعت أصحابها وركبت القطار الذي يبرح باريس في الصباح.
ولكنها عادت إليها في قطار الليل واختبأت في ذلك المنزل ولم يكن يعلم سر احتجابها فيه غير خادمتها .
فلما وصلت المركبة إلى ذلك الشارع رأى بطرس بساطا من العشب، فأشار على الغلام أن يثب إلى الأرض وامتثل الطفل المسكين وألقى بنفسه على ذلك العشب، فأصاب رأسه حجرا فجرحه وأدماه.
وهذا جل ما يريده بطرس فسار بالمركبة مسافة قصيرة ثم أوقفها، وحاول الرجوع كي يأخذ الغلام بالظاهر فوجد مركبة سبقته إليه.
وكان الغلام يبكي وينادي أمه، وقد اجتمع الناس من حوله، فخرجت امرأة من تلك المركبة وهي فاسيليكا، ففرقت جموع الناس الذين كانوا يهابونها لما رأوا من مظاهر الجلال ودنت من الغلام وحملته بين ذراعيها.
وعند ذلك عاد بطرس بمركبته يحاول أخذ الغلام فتظاهر أنه لا يعرف فاسيليكا، فأبت أن تسلمه إياه إشفاقا عليه وحذرا من جموح الجياد مرة أخرى ثم سألته على مسمع من الحاضرين اسم أبيه وقالت: إني سأهتم بإرجاعه إلى أهله فاذهب أنت في شأنك.
فامتثل بطرس ومضى وأخذت فاسيليكا الغلام، فعصبت رأسه الدامي بمنديل وحملته إلى مركبتها، ثم أمرت السائق أن يذهب بها إلى منزلها وهي تقول: لقد وقع الطفل في قبضتي وسيأتي دور من يحميه.
وكان الطفل مغميا عليه فحملته إلى سرير وعالجته حتى استفاق وكان أول كلمة لفظها: أين أمي؟!
وجعل ينظر إلى فاسيليكا نظر الخائف فقالت له بلهجة حنو: اشكر الله يا بني فقد نجوت من خطر شديد. - نعم لقد خفت كثيرا. - وكذلك أمك، فقد كان خوفها عليك أشد من خوفك على نفسك. - وأين هي الآن أمي؟ - ستحضر للبحث عنك في هذا المساء.
فنظر إليها منذهلا وقال: من أنت أيتها السيدة؟ - صديقة لأمك يا بني. - ولكني ما رأيتك مرة عندنا؟ - رأيتني مرات كثيرة ولكنك لا تتذكرني الآن.
فوضع الطفل يده على رأسه وقال: إن رأسي يؤلمني كثيرا.
فقبلته وقالت: لا بأس عليك فستشفى غدا. - وأين أنا الآن يا سيدتي، ولماذا لا تأخذني أمي إليها؟ - إنك في منزلي ولا يوافق أن تراك أمك على هذه الحالة فتحزن، أتريد أن تحزنها؟ - كلا، كلا، ولكن متى أشفى؟ - غدا. - أأنت واثقة من ذلك ؟ - دون شك.
وبعد حين تغلب التعب على الغلام فنام نوما هادئا، وقد انتهك جسمه الصغير من الخوف والألم.
وفي الليل جاء بطرس إلى فاسيليكا وقص عليها ما جرى له، فقال لها: إنه أقام نحو ساعة في الموضع الذي اختطفت فيه الغلام، إلى أن تمكن فابيان وامرأته من الاهتداء إليه بعد طول البحث، وكانت امرأته شبيهة بالأموات لما تولاها من الرعب، فلما سألت عن ولدها أخبرها بما اتفق له، واستشهد بالذين حضروا الحادثة من رجال ذلك الشارع ونسائه، فأيدوا قول بطرس، وأخبروا الزوجين أن امرأة عليها مظاهر النبل أخذت الغلام، حذرا عليه من جموح الجياد مرة أخرى، وسارت به إلى منزل أهله.
فطابت نفس فابيان وامرأته ورجعا إلى المنزل، أما بطرس فإنه أوصل المركبة إلى معمل المركبات وتوجه إلى إحدى القهاوي المعتزلة، واختبأ إلى أن جن الظلام فجاء إلى منزل فاسيليكا كي لا يراه أحد.
ولما فرغ من قصته تركته فاسيليكا هنيهة وهي لابسة ملابس الرجال، وقد تنكرت بها أتم التنكر وقالت لبطرس: اذهب وائتني بمركبة واذكر أنك مسئول في مدة غيابي عن هذا الطفل.
ولكن بطرس لم يذهب، وجعل ينظر إلى ملابسها وشاربيها المستعارين وهو مندهش لمهارتها في التنكر.
فقالت له وهي تبتسم: إنك لا تعلم الآن إلى أين أنا ذاهبة؛ لأن ذلك لا يخطر لك في بال؛ لأني ذاهبة إلى أستاذ المبارزة أتعلم عنده المبارزة بالسيف؟ - وما تهمك المبارزة بالسيف؟ - لأني أستنكف من قتل روكامبول غيلة وغدرا، فإنه أعظم من أن يقتل بالخنجر أو بالسم، وأنا أريد قتله بالسيف في مبارزة عادلة فيكون عقابه أشد حين يموت من يد امرأة.
فأطرق بطرس برأسه وخرج لإحضار المركبة.
46
بين أشخاص هذه الرواية رجل أغفلنا ذكره منذ عهد بعيد وهو الطبيب النادم الذي استخدمه مورليكس لقتل أخته والدة أنطوانيت ومدلين.
وكان هذا الطبيب ندم ندامة صادقة عما اجترمه، وأصبح من الزهاد والناسكين يصلي آناء الليل وأطراف النهار ويستغفر الله عن ذنبه القديم.
وبينما هو جالس في صباح قرب نافذة غرفته ينظر نظرا ساهيا إلى ما يحيط به، إذ فتح باب غرفته ودخل عليه الماجور أفاتار.
فارتعش الطبيب حين رآه وقال له باندهاش: أهذا أنت؟ - نعم، وقد أتيت إليك للذهاب بك إلى مريض مشرف على الموت. - ومن هو هذا المريض؟ - هو مورليكس بعينه الذي اقتصت منه يد الإنسان وستقتص منه يد الله. - ما هي علته؟ - إنه مصاب بعلة غريبة لك أن تسميها باللغة الطبية كما تشاء، أما أنا فإني أدعوها جنون الغرام. - أبمثل هذا العمر يعشقون؟ وكم عمره الآن؟ - كان عمره 55 عاما منذ ثلاثة أشهر، أما الآن فإن عمره مائة عام.
وكانت المركبة واقفة عند باب المنزل فركب بها الاثنان وسارا إلى منزل مورليكس، فلما بلغاه دخل روكامبول من باب سري وتبعه الطبيب فصعدا إلى غرفة وبلغا منها إلى غرفة لا نور فيها وقد غطي بابها بستار.
فأراح روكامبول الستار وقال للطبيب: انظر.
فظهر له كارل دي مورليكس بملابس النوم وهو واقف في وسط الغرفة وقفة المجانين وقد سقط شعر رأسه بجملته ونحل جسمه، واصفر وجهه وبرزت عيناه فكانتا تتقدان بأشعة تدل على الجنون وتشبهان فحمتين متقدتين.
وكان يعض كفه من القهر واليأس ويكلم نفسه بشكل متقطع فيقول: كلوريند، مدلين أحبك كيف كنت ومهما تكوني، لماذا رحلتي عني وهربت مني ... تعالي إلي أعطيك كل ما عندي ... ولكن يجب أن تكوني امرأتي ...
نعم فإنك مهما كانت ذنوبك فقد ارتكبت فيما مضى من أيامي جرائم أعظم، فأنا أستحق أن تكوني لي ... وماذا تريدين أن أقترف بعد من الذنوب؟ إن يدي لا تزال قادرة على حمل الخنجر، وخزائني لا يزال يوجد فيها سموم: كلوريند عودي إلي فإني لا أحب مدلين بل كلوريند.
ثم عاد إلى عض يديه وركع على ركبتيه، فجعل ينظر إلى ما حواليه نظرا ساهيا حائرا.
وفيما هو على هذه الحال وروكامبول والطبيب ينظران إليه إذ دخلت كلوريند، فصاح صيحة فرح ونهض وهجم عليها فدفعته وهي تضحك عليه ضحكا عاليا، فعاد إلى الركوع أمامها وحاول تقبيل يديها فدفعته أيضا، فجعل يتوسل إليها وهي تضحك عليه إلى أن قال لها: ماذا تريدين أن أصنع أتريدين ثروتي؟
فقالت له: أية ثروة تعني أيها الأبله؟ ألا تعلم أنك وهبت مالك لابنة أختك وابن أخيك؟ - ولكني أسترد المال وأقتلهم جميعا إذا كنت توافقين على الزواج بي.
فضحكت وقالت: تبا لك من أبله، كيف يخطر في بالك إني أحبك وأستبدلك بذلك المصور الجميل؟
فغضب كارل غضبا شديدا وقال: سأقتل هذا المصور أيضا.
وعندها دخل المصور فجأة وقال: ولكنك لا تقتلني من غير إذني يا عماه، ثم دنا من كلوريند وقال لها: هلمي معي أيتها الحبيبة ولندع هذا الشيخ وشأنه.
فامتثلت كلوريند وتأبطت ذراع عشيقها وحاولت الخروج، فهجم كارل وقد اهتز اهتزاز الشجرة دهمتها العاصفة، فاحتمله المصور وقذف به فهوى إلى آخر الغرفة.
فصاح صيحة شديدة وحاول أن ينهض ولكنه سقط، وحين رأى كلوريند انصرفت بعاشقها صاح صيحة أخرى، وسقط لا يتحرك ولا يتكلم وكان نزعه شديدا طال نحو ساعتين.
وكان روكامبول والطبيب ينظران إليه من وراء الستار، فرأياه في معترك شديد مع الموت يحاول النهوض، فيسقط ويرجو الكلام فلا يستطيع، ثم جحظت عيناه، وانحلت عقدة لسانه فصاح صيحة ملؤها اليأس والقهر.
وشتم شتما قبيحا، وكان هذا السباب آخر ما خرج من فمه، فمات غير تائب ولا نادم.
فذعر الطبيب لما رآه وقال: ربما قدر لي أنا أيضا هذه الميتة الشنعاء دون أن يغفر لي عن ذنوبي السابقة؟
فقال له روكامبول: كلا، فإن الله يغفر للتائبين وهذا كتاب الصفح عن زلتك السابقة.
ثم ناوله كتابا معنونا باسمه ففضه الطبيب بلهف وقرأ فيه ما يأتي:
لقد صفحنا عنك باسمنا وباسم أمنا التي في السماء فليصفح عنك الله.
أنطوانيت ومدلين
فجثا الطبيب على ركبتيه ونظر إلى روكامبول نظرة ملؤها الشكر بعينين يغرورق فيهما الدموع، فقال له روكامبول: انهض أيها الصديق وكن واثقا من رحمة الله فإن صلاة الأختين تشفع بك عند الله.
47
في الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم كان روكامبول جالسا في غرفة منزله المطلة نافذتها على حديقة منزل الفيكونت فابيان وهو يكتب على منضدة وضعها قرب النافذة، وينظر من حين إلى آخر من تلك النافذة باحثا عن ذلك الغلام وأمه فلا يجدهما.
وهذه صورة الكتاب الذي كان يكتبه إلى باكارا:
إلى الكونتس أرتوف
سيدتي!
إن عملي قد تم ومهمتي قد انتهت فإن الأختين اليتيمتين عادت إليهما ثروتهما وهناؤهما، ولقي كارل مورليكس جزاء ما اقترفت يداه، ومات في هذا الصباح، فلم يبق لروكامبول عمل يعمله في هذا الوجود، وهو يسألك الصفح عن يأسه من حياته وقطعه حبل هذه الحياة.
إني أقسمت من قبل أن أموت في السجن وقد حنثت بهذا اليمين؛ لأني سمعت حكاية هذين اليتيمتين، فأثرت بفؤاد روكامبول السفاك وشعرت أن التوبة الصادقة قد حلت في قلبي محل ذلك الفساد القديم، فاستغفرت الله وعزمت على أن أنفق ما خصني به من الذكاء والجرأة في سبيل الخير.
وقد فعلت ما فعلت يا سيدتي حتى أتممت ما خرجت لأجله من السجن، وكنت أحسب أن عذابي ينتهي بانتهاء تلك المهمة؛ فإذا به لا ينتهي إلا بانتهاء هذه الحياة التي قدر لي أن لا أرى فيها يوم هناء.
ولو تعلمين يا سيدتي ما لقيت من العذاب حين رأيتها متكأة على ذراع زوجها إيفان فقد تنبهت في عواطف روكامبول القديم، وثارت في نفسي عوامل الميل إلى الشر فبت وحشا ضاريا ملأ الحسد قلبه وأصبح متأهبا للقتال.
وكنت إذا تشاغلت بالنوم عن هذا الفكر الشائن يتمثل لي في الحلم السير فيليام، فيجلس بإزائي ينظر إلي تلك النظرات الجهنمية ويقول: إنك تحب مدلين يا ابني ولكن لا شيء يمنعك عنها لا سيما وهي غنية حسناء وأنت لا تزال جميلا وفي عهد الشباب، وإذا كان إيفان يثقل عليك فاطعنه بخنجرك طعنة نجلاء تصبح الفتاة لك دون منازع.
فأنتبه من رقادي مضطرب النفس كاسف البال، فلا أزال أستغفر الله حتى يزول آثار هذا الحلم.
والآن فإن مهمتي قد انقضت وكنت قبل ذلك مع نفسي في نزاع دائم، أما وقد انقضت تلك المهمة ولم يعد أحد في حاجة إلي ولا أستطيع العودة بفضلك إلى السجن، فلم يبق لي غير الموت وهو غاية ما أطمع به.
وسيقارن الله بين ذنوبي وندمي وآثامي وشقائي ورجائي برحمته وطيد؟
فالوداع يا سيدتي وسأكون جثة باردة حين يصل إليك كتابي هذا، وقد عولت على الانتحار دون أن أخبر أحدا بخنجر أطعن به قلبي وأنت تعلمين أن يدي لا تخطئ.
أما فاندا وميلون فقد سافرا الليلة إلى ليون حيث قلت لهما: أن ينتظراني فيها والله يغفر لي هذه الكذبة الأخيرة.
وهنا أرجوك رجاء آخر، وهو أن أنطوانيت ومدلين ضمنا مستقبل ميلون ونويل، فأوصيك خيرا بفاندا.
الوداع وعسى أن يغفر لي الله كما غفر لك.
روكامبول
فلما أتم روكامبول كتابة الكتاب طواه وختمه ووضعه على المنضدة، ثم أخذ الخنجر ودنا من النافذة كي يزود تلك التي يدعوها بأخته وابنها النظر الأخير، ولكنه لم ير أحدا بالحديقة خلافا لمألوفه ولم ير نورا ينبعث من نوافذ المنزل، فأن أنين الموجع وقال: أقدر لي أن أموت دون أن أراها، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم عاد إلى المنضدة فأخذ الخنجر وحاول أن ينتحر ولكنه تراجع منذعرا؛ لأنه رأى الباب قد فتح فجأة ودخلت منه فاندا وميلون، فانقضت فاندا عليه واختطفت منه الخنجر.
وكان ميلون وراءها يبكي ويقول: لقد أصابت فاندا بظنونها فأبت أن تسافر؛ لأن قلبها أنذرها بما أنت عازم عليه.
فاتقدت عينا روكامبول بأشعة الغضب وقال: اخرجا من هنا فإني أطردكما؛ لأنكما جسرتما على عصيان أوامري.
فقالت فاندا: لا ننكر أننا عصيناك ولكنك لا يحق لك أن تنتحر.
وقال ميلون: إن الله يمنع الانتحار.
فزاد غضبه وقال: اخرجا.
فجلست فاندا على ركبتها أمامه وقالت: أيها الرئيس إني أعلم لماذا تريد الانتحار، وأعلم ذلك الحب الهائل الذي ملأ قلبك، فاقبل هذا العذاب واحسبه عقابا أخيرا لك عن ذنوبك السابقة، فإن الناس قد غفروا لك، وبعد عفو الناس عفو الله، وأنا وميلون نقيم معك فنكون عبدين لك ونعزيك ونحدثك عمن تحب. - اسكتي، ولا تذكري اسمها بشفتيك.
وركع ميلون وقال: مولاي ، إن الأختين أصبحتا سعيدتين بفضلك ولكن من يضمن لهما المستقبل؟ - إن زوجيهما يحميانهما. - ولكن لا يحق لك أن تنتحر.
فنظر إليه روكامبول نظرة هائلة وقال: من يحتاج إلي الآن ومن يستطيع أن يقول لي: لا حق لك أن ترتاح بالموت؟
فبرزت امرأة من الباب وقالت: أنا ...
فاصفر وجه روكامبول واضطرب حتى أوشك أن يسقط على الأرض، أما هذه المرأة فقد كانت بلانش دي شمري زوجة الفيكونت فابيان.
وركع روكامبول أمامها وقال: أنت ... أنت هنا. - نعم إني أعرف كل شيء وأنك لست بأخي، ولكني أعلم أيضا أنك تحبني كما لو كنت أختك حقيقة، وقد جئت كي أقول لك: لا حق لك بالانتحار؛ لأنهم اختطفوا ولدي.
فصاح روكامبول صيحة هائلة واتقدت عيناه بأشعة من اللهب، فكان كالأسد النائم تنبه لخطر.
48
مضى على ذلك ثلاثة أيام وروكامبول لا تفتر له همة عن البحث عن الغلام دون أن يقف على أثر من آثاره، ولكنه علم من أول ساعة تلقى فيها خبر اختطافه أن ذلك من صنع فاسيليكا، وأنها لم تقصد باختطافها الطفل إلا نكايته والانتقام منه.
وقد علم بفراسته المعهودة أن فاسيليكا برحت باريس أمام جميع معارفها، ولكنها عادت إليها خفية لتنتقم منه فإن كرهها لإيفان قد تحول إليه.
وقد كان علم أيضا أن خادمها بطرس قد خدم في معمل المركبات بصفة حداد، ثم دخل في خدمة الفيكونت فابيان، وأنه هو الذي ساق تلك المركبة التي جمحت جيادها.
فكان أول ما أجراه أنه اقتفى أثر تلك المركبة من المكان الذي جمحت الجياد فيه، إلى المكان الذي سقط الغلام منه، وأخذته تلك السيدة الشقراء بغية رده إلى أهله في مركبتها، وكان يشغله ثلاث مسائل وهي: ما جرى لتلك السيدة وأين ذهبت المركبة، وأين يوجد الطفل.
ولكنه على فرط جهده وما بذله نويل وميلون وفاندا من المساعي في التفتيش لم يحل رمزا من رموز هذه المسائل الثلاث.
غير أن روكامبول كان واثقا كل الوثوق أن الغلام غير بعيد عن الموضع الذي اختطف منه، وكانت عصابته تطوف في أنحاء باريس وكان هو يكثر التردد على هذا المكان قاصرا همه على البحث والاستقصاء.
وكان كلما جاء إليه مرة يتنكر بزي جديد، وانتهى بعد ثلاثة أيام إلى معرفة كل منزل من منازل ذلك الحي وكل حانة من حاناته.
وفي مساء اليوم الثالث قال لميلون: تعال معي الليلة فلا شك أننا سنجد مقر الغلام في هذا الحي.
وكانت فاندا تسمع الحديث فقالت: وأنا أحضر معك أيضا فإني معتقدة نفس اعتقادك.
ثم ذهب الثلاثة متنكرين وكانت فاندا متنكرة بزي غلام والثلاثة مسلحون.
وكان الظلام حالكا والمطر ينهمر وروكامبول يتقدمهما عدة أمتار، فبينما هو يسير في ذلك الشارع المهجور اصطدم برجل يسير سيرا مستعجلا فشتم الرجل بلهجة مجهولة، واستمر في مسيره فارتعش روكامبول عند سماعه الصوت، وجعل يقتفي أثر هذا الرجل دون أن يستطيع أن يتبين وجهه لاشتداد الظلام، وميلون وفاندا يتبعانه على بعد مائة خطوة حتى انتهى الرجل إلى حانة منورة بنور ضعيف فدخل إليها.
فوقف روكامبول حتى وصل إليه ميلون وفاندا، فقال لفاندا: أظن أننا عثرنا به.
فقالت فاندا: من هو ألعله بطرس السائق؟ - هو بعينه.
فقال ميلون: إذا كان هو نفسه كما تقولون فإني سأخنقه بضغطة واحدة.
فزجره روكامبول وقال: احذر أن تصنع شيئا إلا بأمري.
ثم ترك الاثنين وذهب توا إلى تلك الخمارة، فوقف عند بابها وكان من الزجاج الشفاف فرأى ذلك الرجل جالسا وأمامه زجاجة من الخمر وهو يشرب الكأس تلو الكأس فاستوثق أنه بطرس السائق.
ولما فرغ من شرب الزجاجة دفع ثمنها للخمار وبرح الحانة وهو يترنم ترنم السكارى، ولكنه لم يسرع عدة خطوات حتى هجم عليه روكامبول هجوم العقبان، فضغط بإحدى يديه على عنقه وأشهر بيده الأخرى خنجره فصوبه إلى قلبه وقال: لقد عثرت بك أخيرا أيها الشقي.
فعرف بطرس أنه بات في قبضة روكامبول، وقال له وقد ملئ قلبه ذعرا: رحماك يا سيدي وابق علي أخبرك أين يوجد الغلام.
ولم يكن يوجد أحد في الخمارة التي خرج منها بطرس وكان الظلام حالكا والشارع مقفرا ، فألقى روكامبول بطرس على الأرض وقال له: احذر من أن تستغيث فإنه قبل أن ترد إليك النجدة تغدو من الهالكين.
فأجابه بطرس قائلا: إني لا أصرخ ولا أستغيث، وإذا كنت تدفع لي كما تدفع لي الكونتس فاسيليكا خدمتك كما أخدمها، بل كنت أصدق في خدمتك؛ لأنك أشد دهاء منها.
ثم ضحك ضحكا دل على سفالة أخلاقه.
فقال روكامبول: إنك ستكسب مني أكثر مما تكسب من فاسيليكا، فإن أهل الغلام أعظم ثروة منها، فقل: كم تريد أن ندفع لك؟ - مائة ألف فرنك. - سيكون لك ما تريد. - متى؟ - غدا. - إني لا أثق بالوعود إلا حين إنجازها. - ولكني أقتلك إذا لم ترشدني إلى موضع الغلام. - إنني أعرف ذلك حق العرفان.
ثم فتح صدره أمام روكامبول إشارة إلى أنه لا يرهب الموت وقال: إني رجل فقير نشأت على الشقاء والذل وكنت فلاحا في روسيا أعامل كما يعامل الحيوان، فلم أحفل بهذا الوجود إلا على رجاء أن أنال ثروة وكدت أن أنال ثروة وكدت أن أنال ما طالما طمعت فيه لو أنك لم تتصد لي في طريقي، فإن فاسيليكا لم تعد محتاجة إلي وقد عزمت على أن تدفع لي غدا هذا المال، ولكني لقيتك لسوء حظي وأنا واثق من أنك ستقتلني إذا لم أتكلم.
فراع روكامبول ما رآه من ثبات جأشه وأيقن أنه يؤثر الموت حقيقة على فقد هذا المال فقال له: وإذا أعطيتك مائة ألف فرنك؟ - أذهب بك إلى حيث يقيم الطفل. - إنه حي على الأقل. - لا يزال حيا، ولكني لا أعلم إذا كان يبقى في قيد الحياة إلى الغد، فإن هذه المرأة من أشد النساء وأغلظهن فؤادا.
فارتعش روكامبول وأمره أن ينهض ويسير معه، ثم تأبط ذراعه حذرا من فراره وسار به مستعجلا إلى نهر السين.
وبعد ربع ساعة وصلوا إلى جسر ذلك النهر، فقال له روكامبول: يجب أن تجتاز هذا النهر كي تحصل على ما تطلبه من المال من منزل الكونتس أرتوف، ففي أي شارع تقيم فاسيليكا؟ - في تلك الجهة. - والغلام؟ - معها فإنها لا تغفل عنه طرفة عين ولا تفارقه في الليل والنهار. - إذن فلننتظر هنا.
ثم نادى فاندا وقال لها: اركبي مركبة بعد أن تجتازي النهر وأسرعي بها إلى شارع بيبينار عند الكونتس أرتوف وأحضري من عندها مائة ألف فرنك، فإن من كان له ثروتها يوجد في منزله مثل هذا المبلغ وأسرعي ما استطعت فإن قلبي يحدثني بأننا أضعنا الوقت.
فأسرعت فاندا وبقي روكامبول وميلون مع بطرس.
فقال له بطرس: أتعلم ما تريد أن تصنع فاسيليكا بالغلام؟ - كلا! - تريد أن تميته جوعا بغية الانتقام؛ لأنها تعلم أنه إذا مات الولد تجن أمه وربما ماتت وهاتان الضربتان تكونان قاضيتين عليك؛ لأنها لا تبغي الانتقام إلا منك.
فارتعش روكامبول وأجاب: إن فراستها لم تخطئ فإن قتل الغلام يقتلني دون شك.
فقال ميلون متحمسا: ولكنها لا تستطيع أن ترتكب هذه الجريمة ونحن في أثرها.
وكأنما بطرس قد تنبه لكلام ميلون فالتفت إلى روكامبول وسأله: إني إذا أخبرتكم بمحل الغلام ثم قبضت منكم المال فمن يضمن لي أنكم لا تسترجعون ذلك المال وأنتم ثلاثة وأنا واحد؟
فقال روكامبول: إن من كان مثلي يفي بوعده. - إذن أصدق وعدك.
ومضى على ذلك ساعة ثم سمعوا صوت مركبة تسير على الجسر حتى وصلت إلى حيث كانت الجماعة، فوثبت فاندا إلى الأرض وقالت لروكامبول: هو ذا قد عدت بالنقود.
ثم أعطته لفافة من الأوراق المالية فأخذها منها ودفعها لبطرس قائلا: خذ ثمن خيانتك وتكلم.
فمشى بطرس أمامهم قائلا: اتبعوني أرشدكم إلى موضع الغلام.
وساروا جميعهم على ذلك الجسر حتى بلغوا إلى الضفة الثانية من النهر، فسار أمامهم حتى دنا من بيت معتزل فوقف بعيدا وأشار لهم بيده.
فنظر روكامبول إلى حيث أشار سائلا: أهو هذا الكوخ الذي تكتنفه الحديقة؟ - نعم. - وما هذا النور الذي ينبعث من بين الأشجار؟ - هو نور غرفة فاسيليكا الخاصة وهي فيها وحدها مع الغلام تنتظرني، ولكن احذر إذ يجب أن تدخل دون أن يشعر بك أحد وأن تكون وحدك. - لماذا وحدي؟ - لأنها إذا سمعت وقع خطواتك تحسب إني أنا القادم فلا تستعد لشيء، وأما إذا سمعت وقع أقدام كثيرة تتأهب ويحدث ما لا تحمد عقباه.
ثم أعطاه مفتاحا وقال: هذا مفتاح الحديقة المشرف بابها على الرصيف، وهذا مفتاح الباب الخارجي المشرف على الشارع فادخل من أيهما شئت أما أنا فسأهرب. - كلا، إنك لا تستطيع الفرار الآن قبل أن استوثق منك، فإني أخشى أن تكون خدعتني.
ثم التفت إلى ميلون وفاندا وقال: إني أئتمنكما على هذا الرجل.
فقال ميلون: إنني أتعهد به.
وقالت فاندا: ألا تريد أيها الرئيس أن أذهب معك فإني خائفة عليك؟
فهز كتفيه وقال: لا سبيل إلى الخوف، فأبقي مع ميلون لحراسة الرجل.
ثم تركهم وذهب إلى باب الحديقة ففتحه بالمفتاح ودخل.
وبقي ميلون وفاندا خارج الباب وكان ميلون قابضا على بطرس، وكانت فاندا تضطرب وقد ملأت قلبها الهواجس.
أما روكامبول فإنه أقفل الباب وراءه واحتجب عن الأنظار، فاتقدت عينا بطرس بشعاع غريب، كأنما ساعة الانتقام قد دنت، ثم انقطع كل صوت، ودخل روكامبول إلى منزل عدوته اللدودة.
49
وكانت فاسيليكا وحدها في غرفة ضعيفة النور تشرف على الحديقة وقد وضعت في إحدى زواياها سريرا وعلى هذا السرير الغلام.
وكان رأس الغلام لا يزال معصوبا وهو مصاب بالحمى منذ ثلاثة أيام لم يذق في خلالهما طعاما.
وكانت فاسيليكا قبل أن تنشب فيه براثنها تلاطفه وتملقه وتعده الوعود الجميلة وتعلله بقرب دخول أمه، فانتظر الطفل صابرا، ولكن الساعات توالت والأيام تعاقبت دون أن تحضر أمه، فخاف وعاد إلى البكاء، فأزعج صوت بكائه فاسيليكا، فحبسته في الغرفة وحده وخرجت إلى غرفة أخرى، فاستحال خوف الغلام إلى رعب شديد وجعل يصيح صياحا مؤلما.
فصبرت هنيهة على صراخه، ولكنه لم ينقطع عنه فهاجت أعصابها ودخلت إليه وبيدها كرباج، فإن هذه المرأة الوحشية كانت متعودة أن ترى الفلاحين في أراضيها يموتون تحت السياط، فلم تأخذها شفقة على تلك الزهرة المقطوفة من جنة عدن، ولم تعطفها الرحمة بطفل خلق ليكون رسول المحبة وأستاذ الرفق، ولم تحن على تلك الدموع التي كانت تقضي في بيت أبيه جميع حوائجه فانهالت على جسمه الصغير بذلك السوط تضربه ضربا مؤلما متصلا، حتى خاف الطفل واضطر مكرها إلى السكوت على فرط آلامه وأوجاعه.
واكتفت فاسيليكا بسكوته وقالت له: احذر أن تصيح بعد الآن فإني أعود إلى جلدك بهذا السوط.
وجعل ذلك المسكين يبكي بالسر وهو يتعذب من الجوع وآلام السوط، ويذكر اسم أمه بصوت منخفض يتقطع له قلب الجماد وهو لا يجسر أن يناديها جهارا حذرا من ذلك السوط، إلى أن تغلب عليه النوم فنام نوم السكارى لشدة ما عاناه.
ولما صحا في اليوم التالي عاد إلى البكاء، فعادت إلى السوط فسكت. وفي المساء تمكن منه الجوع، وقاسى منه ما لا يحيط به وصفه فلم يقنط من الحياة، وجعل يبكي ويصيح ويستغيث غير خائف من جلد السياط.
وما لبث طويلا حتى فاجأته الحمى فجعل يهذو فيضحك تارة ضحكا عصبيا، ويذكر اسمي أمه وأبيه بأعذب الألفاظ، ثم تتمثل له فاسيليكا بشكل شيطان رجيم ويذكر سياطها فيتوسل إليها ويقول: رحماك كفاك تضربينني فلا أعود إلى الصراخ.
وكانت تخطر له أحيانا تلك المركبة التي جمحت جيادها، فيتمثل له بطرس ويقول: اوقف المركبة فإني أريد أن أنزل وأعود إلى أمي.
كل ذلك يجري وتلك المرأة الجهنمية تنظر إلى نزعه وتخاطب نفسها قائلة: كل ذلك لا يشفي غليلي إلا إذا رآه روكامبول، وحبذا لو جاء قبل أن يموت الغلام فإني أحب أن يرى نزعه، وأن أدفن الاثنين في قبر واحد.
وكانت فاسيليكا مرتدية بملابس الرجال وهي جالسة قرب سرير الطفل في ذلك الوقت حين دخل فيه روكامبول إلى الحديقة وتقول: لا بد أن يكون بطرس قد نفذ أوامري، وجعل روكامبول يعثر به في الطريق فإني قد وعدته بأحسن جزاء فلا يمكن أن يعبث بأوامري، ثم إنه لا يخدمني لأجل المال وحده كما خدمني سواه، بل إنه يريد أن ينتقم مثلي فلا بد لروكامبول أن يقع في الفخ، ولا بد له أن يرى بطرس في الطريق فيقبض على عنقه ويقول له : إلى موضع الغلام أو أقتلك، فيطلب بطرس جزاء ماليا فيثق به روكامبول ويقع في الفخ، ثم جعلت تضحك ضحك الهازئين وهي واثقة من الفوز.
وفيما هي تضحك هذا الضحك سمعت وقع أقدام في الحديقة فأطلت من النافذة، ورأت روكامبول فقالت: إن بطرس قد فاز بخديعته ثم اختبأت في الحال وراء ستار.
أما روكامبول فإنه دخل وكان يمشي مشية الحذر المتأني، وقد ذكر في تلك الساعة ما كان يوصيه به أستاذه السير فيليام منذ عشرين عاما حين كان يقول له: «اذكر أيها التلميذ العزيز أنه من يريد الإساءة ويستخدم لها الغدارة فهو من رجال البله كالحمق، فإنه قد يخطئ المرمى وينبه إليه الناس خلافا للخنجر، فإنه أسبق إلى نيل الغايات وأوفى.»
ويعلم القراء أن روكامبول لم يعد من رجال تلك المدرسة، فقد أصبح من التائبين ولكنه في تلك الساعة عاد إلى طبعه القديم وذكر وصية أستاذه، فدخل إلى ذلك المنزل الذي لم يكن يعرفه من قبل مشهرا بيده الخنجر.
فدخل ردهة كان بابها مفتوحا ولا نور فيها ولكنه رأى نورا ينبعث من تلك الغرفة التي كان فيها الغلام فدخل إليها.
وكانت فاسيليكا قد اختبأت كما قدمنا، فلما سمع الطفل وقع أقدام روكامبول ورآه صاح مستغيثا بأمه، فصاح روكامبول صيحة فرح وأسرع إلى الغلام، وحمله بين ذراعيه وخرج به كما تخرج اللبوة بأشبالها وقد أنقذتها من الصياد.
ولكنه لم يكد يرجع به ويبلغ إلى عتبة الباب حتى رأى فاسيليكا قد تصدت له، وقد حملت بيدها سيفين وبيدها الأخرى غدارة صوبتها إلى رأس الطفل، وقالت: إذا خطوت خطوة واحدة قتلت هذا الطفل بين يديك.
50
وتقدم روكامبول خطوة إلى الأمام وهو يضم الطفل بيده إلى صدره، ويشهر الخنجر بيمناه قائلا: اذهبي من طريقي.
واستمرت فاسيليكا في موقفها، إذا تقدمت خطوة أطلقت النار.
فأرجع روكامبول الطفل إلى سريره وانقض عليها، ولكنها كانت ألقت أحد السيفين على الأرض، وحولت رأس الآخر إلى صدره فلم يجد بدا من الوقوف، وعند ذلك قالت له: إنك تعلم دون شك أن الخنجر ليس له طول السيف.
ثم وضعت غدارتها فوق منضدة كانت وراءها ورفست السيف الملقى على الأرض برجلها، وقذفته إلى جهة روكامبول قائلة: إني أعددت لك أيها اللص السفاك ميتة جميلة ذلك أنك ستقتل بالمبارزة قتلا شريفا لا عيب فيه ولكنك ستقتل من يد امرأة.
وهاج غضب روكامبول وأجابها: ابعدي من سبيلي. - اصغ إلي أيها الشقي، إنه أسهل لدي الآن من أن أمد يدي فأتناول الغدارة وأطلقها عليك فأسيل دماغك ثم أجهز بهذا الخنجر الذي بيدك، أو بهذا السيف الذي بيدي على الطفل فأكون قد أتممت انتقامي.
ولكني لا أريد أن أقتلك غدرا أو اغتيالا، بل أريد أن تدافع عن حياتك التي سأسلبك إياها بالرغم عنك.
إنك مجرم سفاك وأنا تعجبني الجرائم وأصحابها، وربما كنت أحببتك لولا تصديك لي في أغراضي؛ وذلك لإعجابي بذنوبك، أما الآن فإني أطلب روحك أقبضها، ودما بعروقك أشربه، ولكني أريد أن أسفك هذه الدماء نقطة نقطة بمبارزة عادلة، لا كما كنت تقتل الناس أنت من قبل، بل أريد هذا الرجل الهائل الذي يدعونه روكامبول، والذي يضطرب أمامه المجرمون أن تقتله امرأة، وهذا كل انتقامي فالتقط السيف من الأرض وهلم إلى المبارزة.
فغضب روكامبول غضبا شديدا ولكنه لم يلتقط السيف بل رفسه برجله.
فقالت: إني أمهلك دقيقتين فإذا لم تبارزني بهذا السيف في خلالها أطلقت غدارتي على الغلام، فتكون قد سببت له الموت وأنت قادم لإنقاذه.
فذهب تردده حين سماعه هذا القول ثم التقط السيف، وقال لها: إن دماء النساء محرمة علي ولكنك لست امرأة بل أنت ضبع كاسر هربت من غابات بلادك، فيجب علي أن أقتلك قبل أن تفترسيني.
ويعلم القراء أن روكامبول كان من خيرة لاعبي السيف، فلا تخفاه خافية من أسرار هذه الألعاب، ولما أخذ السيف وحاول الانقضاض على فاسيليكا كان مستخفا بها لحسبانه أنها لا تستطيع معه دفاعا.
ولكن ساء توهمه فإنه ما لبث أن جال معها في المعترك حتى رآها تلعب بالسيف كما تلعب الأندلسية بالمروحة.
فذعر روكامبول لما رآه من مهارتها وثباتها ، وكانت تقاتله قتالا شديدا، وهي مع ذلك تضحك وتتهكم وتقول له: إنك حسبت بطرس خائنا لي ولكنك أبله فإني أنا الذي أردت أن تلقاه ويلقاك.
ثم اغتنمت فرصة من روكامبول وانقضت عليه بحسامها وشكته بصدره، فصاح صيحة شديدة وسقط الحسام من يده ولكنه ظل واقفا.
وعند ذلك قبض بإحدى يديه على حسام فاسيليكا المشكوك في صدره وطعنها بخنجره طعنة هائلة في عنقها، فأغمده فيه وسقطت فاسيليكا على الأرض والدماء تنصب من فمها ومن عنقها.
فبرقت أسرة روكامبول بعلائم الفوز وأخرج السيف من صدره وألقاه على الأرض، ثم أسرع إلى سرير الطفل وكان مغميا عليه فاحتمله وخرج به مسرعا إلى الحديقة والدماء التي تسيل من جرحه تخط وراءه أثرا طويلا.
أما ميلون وفاندا فكانا لا يزالان على باب المنزل الخارجي ينتظران عودته، فصبرا نحو ساعة حتى سئما الانتظار وثارت الهواجس بفؤاد فاندا فسألت: ماذا عسى أن يكون قد حدث؟
فضحك بطرس ضحكا عاليا وقال: لا شك أنكم من البلهاء، فإن هذه الداهية لا بد أن تكون قد قتلت روكامبول.
فذعر ميلون أشد الذعر لكلامه وانقض عليه فطعنه بخنجره طعنة قاضية وهو يقول: أتنذر بموته أيها السافل وأنت تضحك؟
ثم تركه مخضبا بدمه ورفس الباب برجله فانكسر.
ودخلت فاندا وهي تثور ثورة اللبوة فتبعها ميلون حتى وصلا إلى غرفة فاسيليكا فرأياها صرعى تنزع النزع الأخير.
ولكنها حين رأتهما ثارت فيها عاطفة الانتقام فقالت لهما: إنه جرحني ولكنه لا يعيش طويلا؛ لأن سيفي في صدره.
واضطربت فاندا وقالت: ولكنك تموتين قبله على الأقل.
ثم أخذت الغدارة التي لا تزال محشوة وأطلقتها على رأسها فسال نخاعها وذهبت روحها الشقية.
وكان ما نزف من دماء روكامبول أثرا ظاهرا يدل على الطريق التي سار بها، فصرخ ميلون بصوت مختنق: ويلاه إنه مات.
وردت فاندا: لا تقنط من رحمة الله وهلم بنا نقتفي أثره.
وكان القمر يسطع في السماء فينير الأرض كما ينير الفجر، واندفعت فاندا تسير في أثر الدماء وخلفها ميلون وهو يبكي كالأطفال، حتى وصلا الحديقة وكانت الدماء أكثر غزارة عند بابها، وخرجا منه إلى الرصيف وبعد أن سارا عليه عشرين خطوة عثر ميلون بجسم صغير، فنظر إليه فإذا هو الطفل مغميا عليه.
فحمله وسار مع فاندا يقتفيان أثر الدماء حتى بلغا إلى سلم ذلك الرصيف المؤدية إلى مياه النهر.
وهناك انقطع أثر الدماء وكانت مياه النهر ساكنة هادئة، كأنما تطوي بين أمواجها سرا من الأسرار فذعر ميلون وصاح: ويلاه إنه مات.
وارتدت فاندا إليه وقد اتقدت عيناها ببريق ناري وقالت: كلا، إن الله لا يريد له أن يموت ... كلا إن روكامبول لم يمت، فاذهب يا ميلون بالطفل إلى أهله، ودعني أقتفي آثاره فإما يكون حيا فأحيى بحياته، أو يكون ميتا فأكون بعده من الهالكين.
ضحايا الهند
ضحايا الهند
ضحايا الهند
ضحايا الهند
روكامبول (الجزء الثامن)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
ضحايا الهند
1
في ليلة من ليالي الشتاء الباردة كان ثلاثة من لصوص باريس جالسين على ضفة نهر السين، وقد مضت ساعة على انتصاف الليل، ورقصت أشعة القمر فوق مياه ذلك النهر، ونام سكان باريس إلا أمثال أولئك اللصوص؛ لأن أعمالهم تبتدئ في مثل هذه الساعة.
وكان اثنان من هؤلاء اللصوص قد بلغا سن الكهولة، وواحد منهم لا يزال في بدء نضارة الصبا لا يتجاوز عشرين عاما، واسمه مرميس، وكان الاثنان الآخران أحدهما يدعى مورت، والثاني نوتير، وهي ألقاب لقبهم بها رئيس العصابة؛ فلزمهم لزوم الأسماء.
وكانوا جالسين على رصيف النهر، وأرجلهم مدلاة فوق مياهه الساكنة، وكان مورت يفرك يديه ويقول: ما أشد برد هذه الليلة! وما أشد ظمئي إلى الشراب!
فقال له نوتير: هو ذا الماء أمامك، فارو ظمأك.
فقال له مورت بلهجة الهازئ: ويحك متى كان الماء يروي ظمأ أمثالنا، وإني ما شربته غير أيام قليلة في حياتي، وذلك في سجن طولون.
وكان مرميس يسمع كلامهما فقال: إنه مهما كان من شدة العيش في سجن طولون فإنه أفضل من سجن باريس، وكفى به أن من يدخل إليه يكون له المقام السامي بين العصابات.
فضحك مورت وأجاب: طب نفسا فإنك لا تزال صغيرا، وستتشرف بزيارته، ويكون لك هذا المقام ما دمت سائرا في مناهجنا.
وفيما هم يتسامرون رأى مرميس شيئا يتحرك في النهر فيغوص ثم يرتفع، فنبه إليه أنظار رفيقيه، فحدقوا جميعهم أبصارهم حتى تبينوا أنه شيخ غريق يحاول الانتحار. وهناك اختلفوا بين أن ينقذوه ويخرجوه حيا؛ فلا يكون جزاؤهم من الحكومة غير خمسة عشر فرنكا، وبين أن يصبروا عليه حتى يموت فتكافئهم الحكومة عن إخراجه خمسة وعشرين، وهي سنة للحكومة لا ندرك القصد منها.
وكان مورت يقول بوجوب إنقاذه حيا، ولم يحفل بمعارضة رفيقيه له، وألقى بنفسه في مياه النهر، وجعل يسبح إلى جهة الغريق، وكان بعيدا عنه مسافة عدة أمتار.
وكان يظهر أن هذا الغريق ألقى نفسه في النهر مختارا، بدليل إتقانه فن السباحة، وكان يغوص تحت المياه، ثم يرتفع فوقها، وقد نشبت حرب مائلة بين نفسه التي كانت تريد مفارقة الجسم والانتهاء إلى مبدئها، وبين جسمه الذي كان يريد البقاء في قيد الحياة. وكان إذا تغلبت إرادة النفس غاص في النهر حتى لا يرى، وإذا تغلبت عوامل الجسد عاد إلى السباحة.
وفيما هو على هذا النزاع أدركه مورت فقبض على شعر رأسه، وجعل يجره إلى البر، وكان مرميس يصيح به من الرصيف قائلا: أغرقه أيها الأبله؛ لأننا نكسب بموته 10 فرنكات زيادة.
وكان الغريق يصيح به: دعني وشأني أيها الرجل؛ لأني لا أريد أن تنقذني.
غير أن اللص لم يصغ إلى أحد منهما، فما زال يجذبه حتى وصل به إلى الرصيف، وظهر وجهه لنوتير من أشعة القمر، فصاح قائلا: هذا هو.
ثم أسرع إلى الاثنين، وأعانهما على الصعود إلى البر.
وانذهل مرميس انذهالا عظيما، وقال: من عسى أن يكون هذا الرجل، ألعله من أمراء الروس الأغنياء فاعتنيتم به هذا الاعتناء.
فقال له مورت: كلا بل هو من رجال سجن طولون القدماء.
ثم التفت إلى الغريق بعد أن هدأ روعه وقال له: ألست الذي كانوا يدعونك في السجن جواني الجزار؟
وأن أنين الموجع، وقال: بل جواني الجلاد، ولقد أسأتم لي إساءة لا أغتفرها لكم بإنقاذي؛ لأني خنت الرئيس، ووجب علي الموت.
وكان مرميس يصغي إلى هذا الكلام ولا يعلم منه شيئا، وقال لرفيقيه: ماذا تعنون؟ وماذا يعني بالرئيس؟
وأجابه مورت: إنه كان جلادا في سجن طولون، وهرب منه بدهاء عظيم، وتنكر حتى أعجز الحكومة أمره، ولو وقع في قبضتها استقبلته استقبال روكامبول.
فقال مرميس: إني سمعت بهذا الاسم، فهو من كبار اللصوص المشاهير.
وقال جواني: هذا هو الذي لقبته بالرئيس، وقد أشكل عليك فهم معناه.
فاضطرب نوتير وقال لمرميس: إن روكامبول هذا فوق الناس أجمعين في مراتب الذكاء والدهاء، فقد طالما عبث بالحكام، وأتى أعمالا لا تخطر لأحد في بال، وقد خطر له يوما أن يبرح السجن ففتحت له أبوابه، وقضي مرة على رجل بقطع العنق فأوقف آلة القطع عن العمل.
وافتتن مرميس به وقال: والله لو عرفت أنه في أعمق السجون لارتكبت جريمة أستحق بها ذلك السجن كي أراه، وأين هذا الرئيس العظيم من رئيس عصابتنا باتير، فإنه كسول لا ثبات له إلا على موائد الشراب، فلماذا لا نخدم برئاسته؟
فتنهد جواني قائلا: إنكم لا ترونه فقد قبضوا عليه. - كيف قبضوا عليه؟
أجابه حواني بلهجة القانط: إني أنا سلمته إلى الحكومة، ولكني ما فعلت ذلك غدرا به بل إن القضاة خدعوني.
ثم بكى بكاء شديدا، وأضاف: هذا هو السبب فيما ترونه من يأسي ومحاولتي الانتحار؛ لأنهم قبضوا علي يوم قبضوا على روكامبول، وألقوني في السجن، وبعد أن تمت محاكمتي، وحكم علي بالعودة إلى سجن طولون أرسلوني أمس في قطار إلى ذلك السجن.
وكنت في مركبة لم يكن فيها سواي من المجرمين، فخرقت خشب المركبة بحديد القيد الذي كان في رجلي حتى جعلت فيها ثقبا متسعا، ثم خرجت من ذلك الثقب إلى الأرض، وأنا أرجو أن تسحقني عجلات القطار، وأغمضت عيني مستسلما للموت، ولكني ما لبثت بضع ثوان حتى رأيت القطار قد ابتعد عني دون أن تصيبني عجلاته بأدنى ضرر؛ لأني سقطت بين منفرجاتها.
ونهضت مضعضع الحواس، آسفا لنجاتي من الموت، تنبهت للقيد الذي كان في رجلي فكسرته، وتواريت عن الشرطة كل يومي حذرا من أعود إلى السجن فأعود إلى مهنة الجلاد.
وفي الليل ذكرت خيانتي لروكامبول فعولت على الانتحار غرقا في السين، ولولا إنقاذكم إياي لقضيت مآربي بيدي.
وقبل أن يتم حديثه قاطعه نوتير قائلا: انظروا هو ذا غريق آخر انظروه، إنه عائم على جذع شجرة قرب الشاطئ، والماء يغمره إلى عنقه.
فصفق مرميس بيده فرحا، وقال: لقد فاتتنا جائزة الغريق الأول، وعسى أن لا تفوتنا جائزة الثاني، وهي أعظم من الأولى؛ لأنه ميت لا حراك فيه.
2
يوجد بالقرب من ذلك الرصيف قهوة تدعى «أركلين»، تتولى إدارتها امرأة عجوز تمرست بالآفات، وتعودت عشرة اللصوص.
ولم تكن هذه القهوة تفتح أبوابها في النهار لعدم تردد الناس إليها، ولكنها إذا هجم الظلام بدأت عصابات اللصوص تنسل إليها، وأخصها عصابة باتير، فيشردون ويتنادمون، ويتآمرون على إتيان كل منكر، وارتكاب كل إثم.
وكانوا يقدمون إلى هذه القهوة واحدا واحدا واثنين اثنين، فلا يفتح لهم بابها إلا إذا صفروا صفيرا مصطلحا عليه بينهم يتعارفون به، فكانت ملجأ كل أثيم هارب من السجون يأتي إليهم لينضم تحت لواء زعيم العصابة العام وهو يدعى باتير.
وقد اجتمعوا تلك الليلة، واصطفوا حول مائدة يرأسها الزعيم، وقد رصفت فوقها الأقداح، وكان باتير يقول: إني أنتظر صديقا من كلامسي.
فقال له أحد رجال العصابة: ألعله فتح لنا باب الارتزاق؟ - ربما.
وبينما هم على ذلك سمعوا وقع أقدام في الخارج فسكتوا، ثم قال الزعيم: لا تجزعوا لا بد أن يكون هؤلاء القادمون من رجالنا.
وعند ذلك دخل جواني الجلاد، ونوتير، ومرميس، ومورت وهم يحملون رجلا لا حراك فيه، فذعر الحضور لرؤيته، غير أن جواني حاول تطمينهم قائلا لهم: لا تجزعوا هذا هو الرئيس.
وكان هذا الرجل الفاقد الرشد، المحمول على أكف اللصوص روكامبول.
فالتفت الجميع حوله لتفحص حاله، والتمعن في وجهه لشدة ما بلغ إليه روكامبول من الشهرة بين اللصوص.
فقال مرميس معنيا بكلامه جواني الجلاد: أظن أن هذا الشيخ مخطئ؛ لأن روكامبول لا حياة فيه.
وقال مورت: هو ما تقول؛ لأن علائم الموت بادية في وجهه، وفوق ذلك إني أرى في صدره جرحا بليغا، لا بد أن يكون استنزف معظم دمائه.
كانت العادة في هذه القهوة أنهم إذا انتشلوا غريقا ميتا يحضرونه إليها، ويدعون البوليس فيحقق في أمره، ثم يذهبون في اليوم التالي فيقبضون الجائزة المعينة.
وقد وضعوا روكامبول فوق مائدة، وحاولوا استدعاء البوليس، ولكن جواني اعترضهم لاعتقاده أنه لا يزال من الأحياء.
وطال خلافهم، فجاء أحد اللصوص ووضع أذنه فوق قلبه فلم يسمع حركة تدل على الحياة، وأخذ يده وحركها فوجدها لينة كأيدي الأموات، فلجأ عند ذلك إلى التجربة الأخيرة، فأخذ مرآة ووضعها فوق فم روكامبول.
فساد السكوت على الجميع، وكانت دموع جواني تسيل على خديه، ويأسه يحمل على الإشفاق، ونوتير ومرميس واقفان حوله في موقف الخشوع.
فأبقى اللص المرآة فوق فم روكامبول دقيقتين، ثم أزاحها ونظر إليها فوجدها قد تغشت بغشاء ضعيف، وكان ذلك برهانا جازما على أن روكامبول لم يمت.
وعند ذلك صاح بعض رجال العصابة: هلم بنا إلى إنقاذه، أشعلوا النار من حوله، ولندلك جسمه البارد فقد يعيش.
فقال زعيم العصابة: أية فائدة من حياته؟ إن كأس الشراب أفضل منها.
فتصدى له الفتى مرميس؛ لأنه مال إلى روكامبول، وقال له: إن من كان مثلك لا فائدة من حياته.
فسكت الزعيم، ولم تعترض العصابة ذلك الفتى؛ لأنه كان محبوبا بينهم لبسالته وحداثة سنه.
وأجمع الكثيرون منهم على وجوب إنقاذ روكامبول؛ لأنه من مشاهير زعماء العصابات؛ فثارت الحمية في رءوسهم، واتفقوا على إنقاذه، ما خلا زعيمهم باتير، فإنه ظل منعكفا على شرابه وهو يحسب لشفاء روكامبول ألف حساب.
وجعل أولئك اللصوص يفركون بالخل صدغيه وشفتيه وأعصابه، وفي كل حين يضع جواني رأسه على قلبه على رجاء أن يسمع دقاته، حتى برقت عيناه بأشعة الفرح، وقال: إن قلبه يدق.
فصاح جميعهم صيحة فرح، وقال مرميس: إن مثل روكامبول لا يموت.
وكان أشدهم تعصبا نوتير، فجعل يذكر أوصافه لنوتير فاصفر وجه الزعيم باتير، وقال: أأنت تشهد له هذه الشهادة أيضا؟ - نعم لأني عرفته حق المعرفة حين كنت في عصابة تيميلون؛ إذ كان يعبث بنا كما يشاء.
وعند ذلك اشتدت دقات قلب روكامبول، وتنهد تنهدا طويلا.
ففرح الرجال، وقال أحدهم: إنه سيفتح عينيه.
وأجاب نوتير: أقسم بمهنتنا إنه إذا ردت إليه العافية لنجعله رئيس عصابتنا.
فهز باتير كتفه إشارة إلى الاحتقار، فقال له نوتير: لا تهزأ بروكامبول؛ لأنه حيث يوجد تكون السعادة بالرغم عمن ينازعه فيها.
وقبل أن يجيبه باتير، صاح جواني صيحة فرح عظيمة قائلا: لقد فتح عينيه!
فصاحوا جميعهم نفس صياحه، واختلط الحابل بالنابل، ولم يعد لباتير صوت يسمع.
3
وبعد ذلك بأربع وعشرين ساعة كان روكامبول نائما في السرير، وقد عادت إليه الحياة، وعاد معها ذلك الذكاء النادر؛ لأن الموت لم يجد موضعا في ذلك الجسم الذي قد من الفولاذ، ولم يستطع الجنون أن يتغلب على ذلك الذكاء العجيب الذي طالما صرفه روكامبول في سبل الشر إلى أن أصبح من التائبين، فكان يستخدمه في وجوه الخير.
وكانت هذه القهوة التي ذكرناها منقسمة إلى قسمين: قسم أرضي، وهو الموضع الذي يجتمع فيه اللصوص، وقسم علوي، وهو مؤلف من غرفة واحدة متسعة نصب لروكامبول سرير فيها وحمل إليه، ولم يكن يقيم معه فيها غير جواني الجلاد، وكان له ممرضا وطبيبا في وقت واحد.
وكان اللصوص يتفرقون في النهار، فنزل جواني وطلب إلى صاحبة القهوة أن تمنع الضجيج حرصا على راحة روكامبول، فقالت له: طب نفسا إننا جميعنا نعجب به نفس إعجابك، ووجود مثل روكامبول بيننا أعظم شرف لنا.
وفي المساء أقبل رجال العصابة، وكانوا يتباحثون همسا، ولا يقرعون الكئوس حين الشراب، ويصعد بعضهم من حين إلى حين افتقادا لذلك العليل، فشعر باتير أن زعامته قد سقطت مقدما؛ لما رآه من ميل العصابة إلى روكامبول.
أما روكامبول، فقد كان شديد الهزال لكثرة ما نزف من دمائه، فقال لجواني بصوت خافت: كيف أنقذتموني ؟ ومن أي موضع؟ - من قرب مركريتيل، وقد كنا نحسبك من الأموات.
فتذكر روكامبول هنيهة، ثم أجاب: نعم إني فقدت صوابي في ذلك الموضع، وإن دمائي قد نزفت حين كنت أسبح، وقد كنت أحاول اجتياز نهر السين، وطالما اجتزته سابحا، غير أن جرحي حال دون قصدي، فأمسكت بجزع شجرة كان عائما أمامي، وهناك أطبقت عيني ولم أعد أعي على شيء. - إن هذا الجرح قد أنقذك، ولكن كيف أصبت بهذا الجرح؟
فارتعش روكامبول عند هذا السؤال، وحدق بجواني، فاضطرب جواني لنظراته وأضاف: عفوا أيها الرئيس، إني لا أحاول الوقوف على أسرارك. - قل أجبني عن كل شيء أولا أين أنا الآن؟ - في قهوة أركلين. - ما هذه القهوة؟ - هي شبه خمارة تتردد عليها عصابة من اللصوص. - من يتولاها؟ - تلك المرأة التي أحضرت لك المرق منذ حين. - كيف أنت مع هؤلاء الناس؟ - إنهم أنقذوني أيضا من النهر، وقد كنت أحاول الانتحار لخيانتي لك. - ولكنك كنت في السجن، فكيف خرجت منه؟
فحكى جواني لروكامبول جميع ما اتفق له، حتى إذا فرغ من قص روايته قال له روكامبول: أصغ إلي، إن جميع الذين يعرفونني يعتقدون الآن أني من الأموات إلاك، وأحب أن يبقى لديهم هذا الاعتقاد ليس لأني أخشى أن تقبض علي الشرطة، فقد وعدت الحكومة بالتخلي عني، وما دمت معي فهي أيضا لا تقبض عليك. - فانذهل جواني وقال: أحق ما تقول؟ - نعم، فهل تريد أن تكون رفيقي؟ - أعندك شك في ذلك يا سيدي؟ إني أحترمك احتراما يبلغ حد العبادة، وما حاولت الانتحار إلا من أجلك. - حسنا، اعلم الآن أني كنت أسعى إلى قضاء مهمة وقد أتممتها، ولو كنت جبان النفس منخلع القلب لانتحرت، ولكن المؤمن لا يحق له أن يتلف جسدا خلقه الله.
ثم إني لا أحب أن أرى أولئك الذين عرفتهم وأحببتهم، فهم يعتقدون أني أصبحت من الأموات، ويعيشون سعداء، ولكن ربما بقي لي أيضا مهمة خير أقضيها؛ لأني أشعر أن الله لم يغفر لي بعد.
وكان روكامبول يتكلم هذه الكلمات الصالحة في حين أن اللصوص كانوا يترقبون شفاءه ليجعلوه رئيس عصابتهم.
فتأثر جواني تأثرا عظيما لكلامه، وأخذ يده وقبلها بملء الاحترام قائلا: إني أسفك دمي في سبيل خدمتك.
أجابه روكامبول: أصغ إلي، إني تقاتلت ليلة انتشلتموني من النهر قتالا شديدا. - مع تيميلون؟ - كلا، بل مع امرأة بالسيف تقاتل قتال أستاذ، وكان قتالنا بسبب تنازعنا على ذلك الطفل الذي شاهدتني مرة أنظر إليه من نافذة غرفتي وهو يلعب في حديقة منزله، فطعنتني بسيفها طعنة شديدة، ولكني تمكنت منها فطعنتها بخنجري طعنة نجلاء أظنها كانت القاضية. - لقد عرفت هذه المرأة، أليست هي تلك الروسية؟ - نعم. - وهل ماتت؟ - لا أدري، ولكني أخذت الطفل وخرجت به إلى الحديقة ومنها إلى الرصيف، فوضعت الطفل مغميا عليه على الأرض؛ لاعتقادي أن رفاقي سيعثرون عليه، ثم ألقيت نفسي في المياه، فخطر لي في البدء خاطر الانتحار، ثم رأيت أنه لا يحق لي قتل النفس، فعزمت على اجتياز نهر السين سباحة بعد أن تركت ورائي من آثار الدماء ما يدل على موتي، وأنت تعرف البقية.
والآن أريد أن أعلم إذا كانت فاندا وميلون وجدا الطفل وأرجعاه إلى أمه. اذهب إلى باريس وابحث عن هذه الحقيقة، وكن حكيما. - ولكن إذا رأيت فاندا وميلون فما أقول لهما؟ - لا تقل لهما شيئا. - وإذا رأيتهما يبكيان عليك بكاءهما على الأموات؟ - دعهما يبكيان؛ لأني أريد أن أعرف فقط ماذا حدث للولد.
فدهش جواني وسأله: ومتى شفيت فماذا تصنع؟ أتقيم بين هؤلاء اللصوص الأثيمة؟ - ربما، ومن يعلم فقد تكون تلك المهمة الخيرية التي أريد قضاءها استغفارا لي بين هؤلاء اللصوص.
وفيما هو يتفوه بهذا الكلام دخل نوتير يتبعه مورت.
4
وقد حمل الاثنان قبعتيهما بيديهما، ووقفا أمام روكامبول وقفة احترام، فقال لهما روكامبول بلهجة حنو وإخلاص: ماذا تريدان أيها الصديقان؟
فتقدم نوتير خطوة قائلا: إن العصابة أرسلتنا وفدا إليك. - قل ما تشاء إني مصغ إليك. - نريد أن نعلم قبل كل شيء كيف أنت؟ - إني بخير أيها الرفاق، ولكن لا بد لي من ملازمة الفراش خمسة عشر يوما على الأقل . - هذا ما كنت أقوله لأفراد العصابة، ولكن ذلك لا يمنعنا من الانتظار. - قل. - إن ما أتينا به إليك يوضح بمنتهى الإيجاز. وهو أن من لا يستطيع أن يشتغل بالأعمال العظيمة كما كنت تفعل، يكتفي بالأمور الصغيرة كما نحن نفعل، وإني حين هربت من السجن وأتيت إلى باريس أردت أن أشتغل بالمهنة، ولكن رأيت الارتزاق غير ميسور لشدة تنبه البوليس، فحسب نفسي سعيدا بانضمامي إلى باتير. - من هو باتير هذا؟ - هو زعيم عصابتنا المؤلفة من خمسة عشر رجلا، فإننا نخرج كل يوم ونطوف في أنحاء باريس، ثم نعود في الليل إلى هذه الخمارة فنتحدث بما لقيناه، وإذا اكتشف أحدنا موردا للكسب عرضه على الزعيم، فيرى رأيه فيه، ولكن نظامنا قد اختل، منذ تشرفت هذه الخمارة بوجودك فيها. - لماذا؟ - لأن زعيمنا الكسول يريد أن تبقى له الزعامة. - وأنتم؟ - رأينا أن هذا الزعيم ليس من رجالك، فاتفق أحد عشر رجلا منا على الصياح ليحي روكامبول، وليسقط باتير، ولم يمتنع الأربعة الآخرون عن موافقتنا إلا لخوفهم، ولكننا واثقون من إقناعهم على الانضمام إلينا، ونحن أتينا الآن نسألك باسم العصابة قبول هذه الرئاسة.
فابتسم روكامبول ابتساما يشف عن الاحتقار، وأجاب: سوف نرى أيها الرفاق متى شفيت الشفاء التام.
وحاول أن يصرفهم بإشارة غير أن باتير لم ينصرف، وقال: إني أرشدت العصابة إلى عمل قد يكون لنا منه غنم كبير، فارتأى باتير أنه يجب أن نسرع في العمل دون أن ننتظر شفاءك، ولكننا لم نوافقه على ما أراد.
فارتعش روكامبول وأجاب: حسنا، إذا كان العمل يوافقني أتولاه، غير أنكم تعلمون أيها الرفاق أنه قبل أن أوشك على الغرق كان بيدي أعمال أخرى لم تتم بعد. - ذلك لا شك فيه؛ لأن رجلا مثلك لا يبقى دون عمل. - إني تخلفت عن بعض أمور في باريس، وسأرسل تعليمات بواسطة جواني. كم الساعة الآن؟ - الساعة الرابعة صباحا.
فقال روكامبول لجواني: اذهب الآن في المهمة التي أخبرتك عنها.
ثم التفت إلى نوتير قائلا: اجلس الآن بجانبي، وأخبرني عما اكتشفته. - إنه يوجد بالقرب من ضفة النهر بيت معتزل، يقيم فيه رجل عجوز وامرأة صبية. - إنها فتاته، وهو أبوها دون شك؟ - لا نعلم، إن البعض يقولون إنه أبوها، والبعض يقولون زوجها، وهما لا يخرجان من البيت على الإطلاق، حتى إن الجيران لم يروها غير ثلاث مرات في مدة عامين، وكانت المرأة بملابس الحداد.
وليس لهما غير خادمين؛ أحدهما امرأة عجوز، والآخر رجل عجوز يشتغل في الحديقة. - إن ذلك موافق لنا كل الموافقة. - وقد مررت بهذا البيت مرات، وأخذت تعليمات كثيرة بفضل مرميس. - ماذا علم مرميس؟
إنه اختبأ كل الليل في شجرة من أشجار الحديقة، وذلك منذ ثلاثة أيام، فعلم أن الخادم والخادمة ينامان في الدور الأسفل، وأن الشيخ والفتاة ينامان في غرفتين تشرفان على الحديقة وهما ينامان متأخرين، ويظهر أن عيشتهما غير راضية، فقد سمعهما مرميس يتخاصمان، وكانت الفتاة تبكي، وتعض يديها من اليأس، ولكن مرميس لم يستطع أن يسمع شيئا من حديثهما. - كل هذه التفاصيل مفيدة، ولكن هل يوجد نقود في هذا المنزل؟ - إنه بعد أن فرغ الشيخ من خصام الفتاة أقفل باب غرفتها بحدة، وذهب إلى غرفته، فانتقل مرميس من شجرة إلى شجرة، وراقب هذا الشيخ، فرآه قد فتح صندوقا من الحديد، وجعل يعد أوراقا مالية، وأكياسا ملآى من الذهب، فلما أخبر العصابة بما رآه هاج رجالها - ولا سيما باتير - وأرادوا بدء العمل في هذه الليلة.
فخرج نوتير ومورت وهما يصيحان: ليسقط باتير.
والآن فلنذهب بالقراء إلى ذلك البيت المعتزل الذي يريد اللصوص اغتصابه، ونبسط حالة الشيخ وتلك الفتاة.
5
كان ذلك البيت - على ما وصفه نوتير لروكامبول - محاطا بحديقة متسعة، وقد كان من قبل مهجورا لا يقيم فيه أحد لاعتزاله إلى أن جاء يوما رجل غريب إلى الذي أنيط به أمر هذا المنزل، وطلب إليه ابتياعه، فاتفقا على ثمنه، ونقده الثمن.
وفي اليوم التالي جاء خادم وخادمة فنظفا البيت وأصلحاه، وبعد ثمانية أيام عاد الرجل الغريب ومعه فتاة صبية لابسة ملابس الحداد، وأقاما في هذا البيت الذي كان يشبه القبور باعتزاله .
ولم يكن يخرج غير تلك الخادمة والخادم لشراء حاجاته، فكانا يكلمان الناس باللغة الفرنسية الفصحى، ولكنهما يحادثان بعضهما بلغة غريبة مجهولة حتى قنط بعض المجاورين من معرفة شيء عن هذا المنزل لتكتم الخادمين. وكان مرميس أسعد منهم حظا؛ لتسلقه أشجار الحديقة، ورؤيته داخل المنزل.
وعندما كان مرميس يراقب من الشجرة ذلك الشيخ وفتاته كانت جالسة على كرسي، وكان الشيخ يسير ذهابا وإيابا في الغرفة.
ولم يكن في الغرفة غير مصباح واحد، ولكن نوره على ضعفه كان يسطع فوق وجه الفتاة، فيظهر جمالها، وآثار نحولها.
وكانت تلك الفتاة تخاطب ذلك الشيخ بلهجة يتبين منها القنوط، فتقول: إننا هنا يا أبي منذ عهد بعيد، وقد سقيتني مخدرا في إحدى الليالي، فسلبت طفلي كما سلبتني قبل ذلك، أفلا تجعل حدا يا أبي لهذا العذاب؟
وكان أبوها يسير ذهابا وإيابا دون أن يرد عليها. - ألا ترجع لي ابنتي يا أبي؟ - كلا إنها ابنة الجريمة، فلا يجب أن ترد.
فاتقدت عينا الصبية ببارق من الغضب، واحمرت وجنتاها بعد اصفرارهما، ووثبت إلى أبيها فأمسكت بيديه وقالت: لقد كذبت؛ لأنه كان لي زوجا أمام الله، فما ولدت ابنتي بالإثم، والآن أريد أن أعرف كل شيء.
فذهل أبوها لجسارتها، وقال: ماذا تريدين أن تعرفي؟ - أريد أن أعرف ماذا جرى لقسطنطين. - إنه في روسيا لا يزال في فرقته. - كلا إنك تخدعني؛ إذ قد علمت علم اليقين أنه خرج من الجيش، وكفاك يا أبي ألا تشفق علي وأنا ابنتك، ولماذا لا تنقذني من عذابي، فتردني إلى زوجي، وترد ولدي إلي؟
فهز الشيخ كتفيه دون أن يجيب.
فضمت الفتاة يديها شأن المتوسل وقالت: أنزعت منك عاطفة الإشفاق يا أبتاه؟! أيبلغ منك عداء أسرتك وأسرته إلى هذا الحد من القسوة ... إني لم أعد ابنتك، بل أنا ضحيتك وأنت جلادي.
فالتفت إليها قائلا: احذري لقد تجاوزت المدى. - وأنت تجاوزت كل حد، إني أريد أن أعرف موضع قسطنطين. - إنك لا تعرفينه. - وماذا صنعت بابنتي؟ - إنها ماتت. - طالما قلت لي هذا القول ، ولكنك دون شك من الكاذبين.
فظهرت علائم الاضطراب على الشيخ، ولكنه كظم غيظه، وأراد قطع الجدال، فقال لها: إنك شديدة الهياج في هذه الليلة، وخير لك أن تشربي شيئا من الشاي وتنامي. ثم خرج من الغرفة وأغلق بابها بعنف يدل على مبلغ غيظه واستيائه.
وعادت الفتاة إلى كرسيها تعض كفها من اليأس، وتذرف الدمع السخين.
ومضى عدة دقائق وهي على هذه الحالة، ثم سمعت أن الباب قد فتح، فالتفت لترى الداخل وقد حسبته أباها، فكان خادمها، وقد دخل إليها يحمل صينية عليها آلة الشاي ومعداته، فنظرت إليه الفتاة، ثم اتقدت عينيها بشعاع غريب، وقالت في نفسها: لا بد أن أحمل هذا الخادم على الإباحة بالسر، فإنه يعرف كل شيء.
ووضع الخادم صينية الشاي أمامها، وحاول أن يخرج من حيث أتى، فأوقفته الفتاة بإشارة وقالت له: افتح هذه الخزانة التي أمامك فامتثل، فقالت: ألا ترى فيها علبة صغيرة؟ - نعم. - أعطني إياها.
وقبل أن يحضرها غيرت الفتاة مجلسها بحيث أصبحت تعترض بين الباب والخادم.
وجاءها الخادم بتلك العلبة التي طلبتها ففتحتها وأخرجت منها مسدسا محشوا، والخادم ينظر إليها بانذهال، ثم حولت المسدس إلى رأسه، وقالت له: إذا صحت أو استغثت فإنك من الهالكين.
ارتعش الخادم وسكت، وكان يدعى نيشيلد، وهو فلاح روسي خلق في أراضي والد الفتاة، وهو يعلم كسائر الفلاحين الروسيين في ذلك العهد أن أصحاب الأرض يمتلكونها مع فلاحيها، ويتصرفون بهم كيف يشاءون، ثم إنه كان يعلم أن تلك الفتاة ناديا ابنة مولاه، فهي يحق لها قتله حين تريد دون منازع، فوقف أمامها موقف الخائف المتوسل.
فقالت له ناديا: إن أبي قد ذهب الآن إلى غرفته، فإذا استغثت به، فإن رصاص هذا المسدس يصل إلى قلبك قبل أن يصل صوت استغاثتك إلى أذنيه.
فاضطرب الخادم، وقال بصوت ملؤه الرعب: سيدتي، ماذا تريدين؟ - أريد أن أعلم كل شيء. - ولكن أباك الجنرال يقتلني إذا بحت ... - وأنا أقتلك إذا كتمت. - سيدتي أسألك الرحمة. - لا رحمة في قلبي الآن، فقد كنت مع أبي في فارسوفيا، وأنت تعلم كل ما جرى. - أقسم لك يا سيدتي ... - لا تقسم، فإن أيمانك كاذبة، ثم نظرت إلى ساعة معلقة في الجدار وقالت: أصغ إلي إني عولت على قتلك في الحال إذا كتمت عني ما تعلمه، فإذا كنت تحرص على حياتك بح لي بكل شيء.
وكان الخادم ينظر إليها فتبين صدق العزيمة من اتقاد عينيها، فقال: وإذا تكلمت يا سيدتي أتقتلينني؟ - كلا. - ولكن أباك يقتلني، فأنا في الحالتين مقتول. - لا تخف فسأحميك. - أنت تحمينني يا سيدتي من غضب الجنرال؟ - نعم، فإنه إذا لم يقتلني في الحال تمكنت من الاحتماء بالحكومة الفرنسية، فإن الأسياد الروسيين لا يستطيعون إجراء شيء في فرنسا.
فكان الخادم يسمع كلامها ولا يفهم شيئا مما تقول لتعوده الاستعباد.
واستأنفت ناديا الكلام، فقالت: إنك كنت في خدمة أبي وأنت عالم بكل ما حدث، تكلم فإني أمهلك دقيقتين، إذا سكت بعدها أطلقت عليك النار.
فتردد الخادم هنيهة ثم قال: إذا لم يكن بد من الموت فإني أوثر أن أقول الحق، وأفضح الخائنين. - أي خائن تعني؟ - أباك يا سيدتي ... - إذن تكلم! - سيدتي، إن أباك الجنرال كوميستروي قد خان بولونيا.
فتراجعت منذعرة كأن الصاعقة قد انقضت عليها، وقالت: كلا إن ذلك محال، وأنت من الكاذبين.
فقال لها الخادم بسكينة: هو الحق ما قلته، فاقتليني إذا شئت.
وتقدمت الفتاة منه وهي مصوبة مسدسها إليه، وقالت له: إذن تكلم. - سيدتي إني قلت لك الحقيقة، وهي أن أباك خان بولونيا. - ذلك محال، وإلا فكيف اتفق أنه أبى تزويجي من قسطنطين بحجة أنه من جنود القيصر، ولا يحق له الزواج بابنة بولوني أمين تضطهده حكومة القيصر؟
فابتسم الخادم ابتساما يشف عن احتقاره للجنرال، وتابع: إن الوقت ضيق يا سيدتي، وما سأقوله لك يستغرق عدة ساعات. - عمن؟ - عن أبيك. - قل فإني صبورة ووقتي فسيح، ولكن قل لي قبل كل شيء أين قسطنطين، فقد قال لي أبي إنه لا يزال في فرقته؟ - إن أباك لم يخبرك الحقيقة، فإن القائد قسطنطين قبض عليه في فارسوفيا بتهمة المؤامرة مع الثائرين. - رباه، أهذا ممكن؟ - إنهم وجدوا في منزله بين أوراقه رسائل باسمه تثبت هذه التهمة.
فسقط المسدس من يد ناديا، وقالت: ويلاه إذن قد حكم عليه؟ - نعم يا سيدتي، وقد أرسل إلى سيبيريا، أما ابنتك، فإن أباك قال لك إنها ماتت، والحقيقة أنها لا تزال حية ترزق.
ولما سمعت ناديا هذا القول وأيقنت أن ابنتها حية صاحت صيحة فرح قوية سمعها أبوها، فخشي عليها، وأسرع ليرى ما أصابها.
غير أنها سمعت صوت وقع أقدامه وأسرعت إلى باب غرفتها، وأقفلته من الداخل، وعادت إلى المصباح، فأطفأته وقالت للخادم: احذر أن تفوه بكلمة، فإنه يقتلنا معا.
6
وكانت خطوات الجنرال تسمع في الممشى حتى وقف عند باب الغرفة، فسمعت الفتاة وخادمها صرير المفتاح داخل القفل بحدة فاضطرب قلب الخادم، وسكتت ناديا.
ولما رأى الجنرال أن الباب مقفل من الداخل نادى ناديا، وقالت له بلهجة المنذعر الصاحي من النوم: ماذا تريد يا أبي؟ - ماذا أصابك؟ ولماذا كنت تصيحين؟ - لا شيء سوى أني كنت نائمة فأصابني الكابوس فصرخت.
وأجاب بلهجة المرتاب: لقد حسبتك أنك لست وحدك في الغرفة.
فضحكت ابنته ضحك المتألم، وأجابت بلهجة الساخر: من تريد أن يكون معي يا أبي؟
فاطمأن الجنرال، وانصرف إلى غرفته.
وصبرت ناديا إلى أن وثقت من دخول أبيها إلى غرفته، فقالت للخادم: إن أبي قد استقر الآن في فراشه فقل لي أين ابنتي؟ - لا أعلم ... - ولكنك قلت لي منذ هنيهة إنها لم تمت. - ولا أزال أقول هذا القول. - إذن ماذا جرى لها، وما صنعوا بها؟ - لا تستطيعين يا سيدتي أن تفهمي ما حدث، أتعلمين كم بقي لك مفترقة عن زوجك؟ - كيف لا أعلم فإني منفصلة عنه منذ عام. - إنك واهمة يا سيدتي، فقد مضى على هذا الفراق خمسة أعوام. - خمسة أعوام! ألعلي كنت مصابة بالجنون؟ - هو ما تقولين يا سيدتي. - ويحك ماذا تقول؟ - أقول الحق، فإنك جننت يا سيدتي على أثر الولادة، وما تلاها من الحوادث المكدرة، وبقيت مدة أعوام يعالجك طبيب فرنسي. - إني لا أذكر شيئا من هذا. - ولكني أقول الحقيقة يا سيدتي، فإنك لم تبرحي فارسوفيا منذ عام كما تتوهمين، بل منذ خمسة أعوام. - في أي عام نحن الآن؟ - في سنة 1867.
إذن إني كنت مجنونة لا محالة، ثم إنك تقول إن ولدي لم يمت. - إني أستطيع إثبات ما أقول لأني أنا الذي ...
وصاحت ناديا بصوت يتهدج من الغضب: أنت.
أجابها الخادم بلهجة الاحترام: إنك ستصدقين جميع أقوالي يا سيدتي فيما بعد، ولكن دعيني أتكلم. - قل! - أأنت واثقة من أنك ابنة الجنرال؟
فوقع كلامه عليها وقع الصاعقة، وأجابت: لماذا تسألني هذا السؤال؟ - أتذكرين يا سيدتي أيام حداثتك؟ - دون شك فإني أذكر أن الجنرال كان يدعوني ابنته، ولم يكن لي من العمر غير ثلاثة أعوام. - هذا بلا ريب ولكن أمك؟ - إن أمي ماتت حين ولدتني، وأنت تعرف هذا.
فتردد الخادم هنيهة، ثم قال: إذا كنت أسألك مثل هذا السؤال فذلك لأني عزمت على أن لا أكون بعد الآن شريكا للجنرال في أسراره. - أوضح ما تقول. - إني كتبت جميع ما يمكن أن أقوله لك؛ لأنه يوجد أمور لا أجسر على قولها، فاضطربت ناديا وقالت: متى كتبت هذا الإقرار وأين؟ - كتبته هنا في هذا البيت منذ عدة أشهر حين كنت وحدي فيه. - وأين وضعته؟ - وضعته في قدر وختمتها، ثم حفرت حفرة عند جزع الشجرة الخامسة في الحديقة ودفنته فيها فإذا أصبت بنكبة؛ لأن قلبي ينذرني بأن أباك سيقتلني، فاحفري عند تلك الشجرة وأخرجي ذلك الوعاء تعلمين مما كتبته كل شيء. - ولكنك تستطيع في انتظار ذلك أن تخبرني أين هي ابنتي؟ - إن الجنرال عهد إلي بها في اليوم الثالث من ولادتها، فجئت بها مع المرضع إلى فرنسا. - وبعد ذلك؟ - وضعتها بأمر أبيك مع الأولاد اللقطاء.
فذعرت ناديا وقالت: ألم تضع لها علامة تعرف بها على الأقل؟ - إن أباك منعني أن أفعل شيئا من هذا، غير أن عصيت أمره وستجدين في ما كتبته تفصيلا كافيا تعرفين فيه ابنتك في الحال، والآن اسمحي لي أن أذهب، فإني أخشى أن يعود أبوك.
ثم تركها وانصرف متجها إلى الباب فوجده مقفلا من الخارج، فهلع قلبه إذ خشي أن يكون الجنرال أقفله متعمدا لريبه بابنته، ولكنه أسرع إلى النافذة ففتحها، وألقى نفسه منها إلى الحديقة.
وكان الظلام حالكا فلم تره ناديا، ولكنها سمعت صوت سقوطه، ثم سمعت وقع أقدامه، فعلمت أنه لم يصب بسوء، فجثت على ركبتيها، وقالت: رباه ارحمني ورد إلي ولدي.
وفي صباح اليوم التالي دخل إليها أبوها وقال لها ببرود: إنني أرسلت الخادم تشيلد إلى فرصوفيا؛ لأنه من شر الخدم.
فنظرت ناديا إلى أبيها نظرة رعب، وقالت في نفسها: قد قتله لا محالة.
7
ولنعد الآن إلى خمارة أرلكين، أي روكامبول، فإن عصابة اللصوص التي كانت فيها بزعامة باتير ثارت على زعيمها ثورة عامة، ورأت أنه لا يذكر بإزاء روكامبول، ولم يجد هذا الزعيم بدا من مبارحة الخمارة، والتخلي عن زعامة العصابة، فخرج مغضبا حاقدا على روكامبول حقدا شديدا.
وكان أول ما خطر له بعد خروجه أن ينتقم من العصابة وزعيمها الجديد روكامبول بالوشاية إلى الحكومة، وكان يعلم أن تيميلون - ذلك الداهية الذي عرفه القراء في الأجزاء السابقة - تستخدمه الحكومة سرا لمقاومة العصابات، وخطر له أن يذهب إلى تيميلون ويتآمر على روكامبول.
ولكنه ذهب إلى منزله فوجده مقفلا، وخطر له أن يذهب إلى رجل يدعى لولو كان يعلم أنه من أتباع تيميلون، فوجده في خمارة، وهناك علم منه أن تيميلون قد برح باريس فرارا من روكامبول، وحكى له جميع حكايته مع مورليكس.
وزاد هم باتير وحقده على روكامبول، وعظم في نفسه بعد أن علم أنه غلب تيميلون، ولكن الحسد كان قد تمكن من قلبه، وتمثل له الانتقام بأفظع صورة، فذهب إلى خمارة وأقام يشرب فيها، ويفكر بوسائل الانتقام فلا يهتدي إلى مراده.
وبعد أن تخدر دماغه ذهب إلى فندق ينام فيه عادة لصوص باريس المتفرقين، ولقي هناك شيفيوت عدوة أنطوانيت السابقة، وهي جالسة في قاعة متسعة فيها فرش من القش، ينام عليها أولئك اللصوص، فسلم عليها وجلس بإزائها، وجعل يحدثها عن تيميلون، فحكت له حكايتها مع روكامبول ، وأظهرت له حقدها عليه، ثم أخبرته أن لا سبيل إلى الانتقام منه إلا بالحيلة؛ لأنه أصبح من رجال البوليس، وأنهم يحترمونه كل الاحترام.
وسألها: ماذا تعملين الآن؟ وكيف ترتزقين؟
فضحكت وقالت: إني أرتزق من سرقة الأطفال.
وكانت فتاة صغيرة نائمة بقربها، ولما سمعتها تقول هذا القول جلست على فراشها، ونظرت إلى شيفيوت نظرات الدهش، وجعل جميع أولئك اللصوص يتأملون وجه هذه الفتاة الجميل، التي كانت بينهم تشبه ملاكا من السماء وقع بين الأبالسة.
وكانت هذه الطفلة تنظر إلى أولئك المحدقين بها نظرات الرعب والانذهال، في حين أنهم كانوا ينظرون إليها نظرات الرضى والإعجاب.
وانتهرت شيفيوت تلك الفتاة حين رأت أن الأنظار قد تحولت إليها، وقالت: ألا تريدين أن تنامي أيتها الشقية؟
فركعت الطفلة أمامها، وقالت لها: رحماك يا سيدتي لا تضربيني، أفعل ما تشائين.
فأمرتها أن تنام بعد أن صفعتها، فقال لها باتير: ما شأن هذه الطفلة؟ - إني سرقتها. - ممن؟ - ماذا يهمك؟ - قد لا يهمني، ولكني أريد أن أعلم. - إذن سأقص عليكم حكايتها إذا كنتم لا تريدون النوم؛ فإن حكايتها طويلة.
وتطاولت الأعناق إليها، وقد تشوقوا إلى سماع الحكاية، وقال باتير: ابدئي بقصتك أنت أولا؛ فإننا نحب سماعها.
فقالت وهي توجه الكلام إلى باتير: لقد علمت أنهم تركوني بين حية وميتة في ذلك البيت، وقد أصابتني فاندا برصاصة في صدري كدت أفارق بعدها الحياة، وكان الدم يتدفق من فمي، حتى إن الطبيب نفسه قدر أني لا أعيش ساعتين. - وبعد ذلك؟ - نقلوني إلى المستشفى، فأقمت فيه ثلاثة أسابيع، ونجوت من الموت، فلما شفيت أطلقوا سراحي وأعطوني شيئا من النفقة.
وكنت في أشد حالة البؤس لا أعلم ماذا أعمل، فذهبت إلى شيخ المخدمين فأدخلني في خدمة رجل عجوز، وكانت امرأته العجوز تربي هذه الفتاة التي ترونها. - ألعلها ابنتها؟ - لا يمكن أن تكون ابنتها، فإنها تبلغ الخامسة والستين من العمر، غير أنها على قلة ثروتها كانت تعتني بها اعتناء شديدا، فكان مما قالته لي عند دخولي في خدمتها: إن هذه الفتاة ليست ابنتي ، وما هي قريبة لي، ولكني أحذر عليها كل الحذر؛ لأنها إذا أصيبت بمكروه فقدت مورد رزقي، فإني أعيش من الراتب المعين لها.
أما أنا فلم أكترث لهذه الوصية، ولكني لبثت أعتني بالطفل والعجوز وأخدمهما، غير أن هذه العجوز كانت تغير ملابس الطفلة بيدها، فرأيت يوما على هذه الطفلة قميصا مصنوعا من قماش غير عادي، وكان القميص مشدودا على صدرها بسيور متينة، وما رأيت العجوز تعرضت مرة لهذا القميص فهاجت بي عاطفة الفضول، وقلت في نفسي: لا بد لي من أن أعرف أسرار هذا القميص.
فاغتنمت فرصة خروج العجوز من المنزل، ونزعت ملابس الطفلة، ثم حاولت أن أجرد القميص، فما استطعت حل السيور، وخشيت أن أقصها فتعلم العجوز بما فعلت، ولم أكن قبضت راتبي بعد؛ إذ لم يكن لي في خدمتها غير أسبوعين، فأجلت ذلك إلى فرصة أخرى.
وبعد يومين جاء في الساعة العاشرة من الليل إلى ذلك المنزل رجل طاعن في السن، ظهر لي من ملابسه أنه روسي؛ لأنه كان يلبس الفرو الكبير، فاستقبلته العجوز استقبالا فخيما، وأسرعت إلي فأمرتني أن أذهب إلى غرفتي التي كنت أنام فيها في الدور الأسفل، فخرجت وأغلقت الباب من ورائي وأنا منشغلة البال لهذا الاجتماع، ونزلت في درجات السلم وهما يسمعان وقع أقدامي عليها، حتى إذا انتهيت من أسفلها خلعت حذائي وعدت فصعدت درجات تلك السلم، ووقفت عند باب الغرفة أنظر من ثقب قفلها إلى ما يجري، أتعلمون ما رأيت؟
رأيت ذلك الرجل أخرج من جيبه قميصا مثل قميص الطفلة، ولكنه أكبر منه كأنما الطفلة قد ضاق عليها القميص القديم لنمو جسمها، ثم طلب إلى العجوز أن تحضر له مقصا، وأخذ الطفلة فاحتضنها، وجعل يقبلها قبلات الحنو، ثم جردها من ثيابها بمساعدة العجوز، وقص سيور القميص الذي كانت تلبسه، وجردها منه؛ فانكشف لي ظهرها، ورأيت عليه ما لم يخطر لكم في بال، إذ رأيت نقوشا زرقاء غريبة ملأت ظهرها، وهي نقوش ما رأيت مثلها في حياتي.
فضحك الحاضرون لكلامها، وقال واحد منهم: إن شيفيوت تحدثنا بأحاديث خرافية.
غير أن باتير شاقه حديثها؛ فمنع الحاضرين عن مقاطعتها، وقال لها: أتمي حديثك.
وعادت شيفيوت إلى تتمة حديثها، فقالت: إني حين رأيت هذا الوشم على ظهر الطفلة، وهذه العناية في إخفائه قلت في نفسي: لا بد أن يكونوا وشموها ليكون الوشم علامة لها، وربما كان هذا الروسي أباها بدليل حنوه عليها، فإذا سرقتها كان لي خير وغنم كثير؛ إذ لا بد أن يبحثوا عنها، ويكافئوا من يجدها.
وفي اليوم التالي خرجت العجوز لقضاء بعض الأغراض، فخرجت أنا بالطفلة ولم أعد إلى ذلك المنزل.
وقد كادت تعمى عيناي منذ ذلك اليوم لكثرة مطالعتي الجرائد رجاء أن أقف فيها على إعلان يتضمن فقد الطفلة، والجائزة المعينة لمن يجدها، فلم أعثر على شيء من هذا إلى الآن.
فقال لها باتير: ألعل القميص لا يزال على هذه الطفلة؟ - نعم، ولكني قطعت سيوره كي أفحص ما على ظهرها من الوشم. - إذن جرديها من ملابسها، فإننا نريد أن نرى ما رأيت.
فقامت شيفيوت إلى الطفلة ونزعت قميصها، وأدنى أحد الحضور المصباح منها، واجتمع أولئك اللصوص حولها، فرأوا على ظهرها وشوما غريبة بإشارات غامضة تشبه حروف اللغة السنسكريتية، وفي وسط هذا الوشم صورة حية هائلة رأسها رأس امرأة.
فدهش الجميع لهذه الرسوم التي لم يفقهوا معناها، حتى قام أحد الحاضرين وقال: أنا أعرف هذه الرموز الهندية، فقد كنت في صباي بحارا، وسافرت مرات عديدة إلى الهند.
وتحولت الأنظار عن ظهر الطفلة إلى ذلك الرجل، وتأهبوا لسماع حديثه، وكشف هذه المعميات.
8
وكان هذا الرجل في سن الكهولة تدل سحنته، وتلهب عينيه على ما طوى في نفسه من الشر والخبث، فوقف بينهم في موقف الخطيب، وقال: إن الرفاق يلقبونني بالبحار: وهي مهنتي القديمة، ولكني تقلبت في جميع المهن فكنت بحارا، ثم صرت جنديا، ثم أصبحت لصا، ولا أزال في عداد اللصوص.
وقد تمرست في جميع العادات، وطفت في جميع البلدان، فتمرنت على شرب الأفيون في الهند، والحشيش في مصر، فأنا أعرف كثيرا من الخفايا، فلا تخفى علي هذه الأمور.
أما هذا الوشم الذي ترونه على ظهر هذه الطفلة، فهو رمز سري اختص به الهنود العاصين على الإنكليز، وهم ينقشونه بحبر لا يمحى فوق ظهور الذين يريدون الانتقام منهم، فتنتقل هذه الوشوم بالإرث من الآباء والأمهات إلى أولادهم، ولا بد أن يكون والد هذه الطفلة أو أمها موشوما بهذا الوشم.
ولا بد لي من إيضاح وجيز تفهمون منه القصد من هذه الوشوم وهو أنه يوجد في الهند فريقان ساخط عليهم، أما الفريق الأول: فقد خضع لهم كل الخضوع، فدفع الضرائب، وعاش بينهم مطمئنا راضخا لأحكامهم، وأما الفريق الثاني: فإنه لا يريد غير الحرية بالاستقلال، وهم يحتمون بالغابات، ويأبون الخضوع، وقد ألفوا شركة هائلة سياسية ودينية، ونشروا أعمالهم في الصين واليابان وأفريقيا وأوروبا، وجميع الأقطار، وهؤلاء الأعضاء يلقبون عندهم بالخناقين، وقد تعصبوا تعصبا غريبا على كل أوروبي، ولا سيما إذا كان من الإنكليز، فإذا عثروا بأحدهم في مكان خفي هجموا عليه وخنقوه.
فاعترضه باتير وأجابه: إذا كانوا يخنقون أعداءهم، فأية فائدة لهم من وشمهم؟ - إن لهؤلاء الخناقين ديانة سرية، فهم يعبدون الإلهة كالي، والإله سيوا، وسمكة صغيرة زرقاء لا يوجد منها إلا في نهر الكونغ، وتمساحا أخضر اللون لا أعلم في أية بحيرة مقره، وفي معتقدهم أن جميع هذه الآلهة تطلب ضحايا بشرية، فإن أحد هؤلاء الخناقين يخنق الفتاة إرضاء للإلهة كالي، وآخر يخنق رجلا إرضاء للإله سيوا، غير أن مطالب معبودهم التمساح أشد من مطالب آلهتهم الأخرى، فإنه لا يريد أن تكون ضحاياه إلا من الأطفال.
ولذلك فإذا خطر لأحد عباد التمساح الانتقام من أجنبي وشمه بهذا الوشم، ثم أطلق له السراح، فيتزوج الأجنبي ويلد البنين؛ فيخلق أبناءه موشومين، فإذا رأى أي خناق - من عباد التمساح - طفلا موشوما في أي بلد فلا بد له من خنقه إرضاء للإله، وتنفيذا لأوامر تلك الجمعية الهائلة.
وهنا سكت البحار؛ فضحك الحاضرون لغرابة روايته، ولم يصدقه أحد، فقال باتير: إنه يمزح.
وقالت شيفيوت: إني سأحرص على هذه الطفلة ، ليس لإشفاقي عليها بل لرجائي الكسب منها.
فاستاء البحار مما أظهروه من الشك، وتفرق شمل الحاضرين، فخلا باتير بشيفيوت، وسألها: أحقيقة أن روكامبول يخدم الحكومة؟ - لا ريب في ذلك عندي. - وإنك تكرهينه حقيقة كما تقولين؟ - إنني لو عثرت بنخاع رأسه لقليته بزبدة سوداء وأكلته. - أتريدين أن تنتقمي منه؟ - لا أريد غير هذا الانتقام، ولكني لا أجد وسيلة. - أهو يعرفك إذا رآك؟ - أنا أعرفه لأنهم دلوني عليه، ولكنه لا يعرفني؛ لأنه لم يرني، غير أنه رجل شديد لا يجب الاستخفاف به، وكفاه أنه غلب تيميلون. - ولكني سأغلبه أنا. - كيف ذلك؟ - سأخبرك بعد الآن.
ثم نام على فراشه بالقرب منها، وبينهما تلك الطفلة، فكانت تشبه ملاكا تحرسه الشياطين.
وعند الصباح تفرق اللصوص، فذهب كل في شأنه، وخرج بعدهم باتير وشيفيوت، فقال لها وهما سائران: أفهمت ما قلته الآن؟ - كل الفهم ... - إذن سنجتمع في هذا المساء. - دون شك. - وسيعلم روكامبول أنه يوجد من يغلبه. - وأنا كذلك. - وأنا الآن ذاهب إلى خمارة أرلكين كي أجتهد في الحصول على أنصار لنا بين رجال العصابة.
فدعت له بالتوفيق وافترقا، فسار باتير إلى الخمارة، وذهبت شيفيوت والطفلة على كتفها إلى أحد الشوارع المقفرة.
9
بعد ذلك بيومين كان روكامبول لا يزال في فراشه، وأولئك اللصوص يحرسونه ويحرصون عليه، وكلهم معجب بنفسه يعلل النفس بالثروة لاشتغاله برئاسة روكامبول، فكان بينهم كالقائد العظيم بين جنوده، ولم يكن أحد يراه بينهم إلا جواني الجلاد ومورت، فكانت العصابة تخضع لهما لأنهما من أخصاء روكامبول، وتسألهما عنه كل ساعة مترقبة شفاءه السريع.
وبينما هم جالسون يتحدثون إذ دخلت عليهم شيفيوت والطفلة محمولة على كتفها، فعرفها الجميع واستقبلوها استقبالا حسنا، ورأوا الطفلة معها وقد وضعتها على الأرض، فجعلوا يداعبون تلك المرأة، ويسألونها كيف ولدت تلك الطفلة، ولما علموا أنها سرقتها سألها أحدهم: أتتزوجين بي؟ - كلا؛ لأن زوجتك تنتظرك، وما زوجتك غير المشنقة التي ستعلق عليها بفضل روكامبول؛ لأنه من أنصار الحكومة.
فاضطرب اللصوص اضطرابا شديدا، وهاج عليها أنصاره، واتهموها بالجنون، ولكنها دافعت عن نفسها خير دفاع؛ فتنصلت من التهمة، وقالت لهم: إني ما أتيت إلا لإنقاذكم؛ لأن روكامبول دخل في خدمة البوليس، ولا بد أن يقبض عليكم في أقرب حين.
فأجاب مورت: إنك تكذبين؛ لأن روكامبول لا يخون.
فأقسمت لهم بمهنة اللصوصية على صدق ما تروي، وهي يمين يحترمها اللصوص كل الاحترام، وأقنعتهم بالبراهين الشديدة، ووقفت بينهم موقف الخطيب، فاتهمت روكامبول بالخيانة، وأهاجت عليه صدور العصابة، وحكت لهم حادثة سجن سانت لازار على ما تريد، من كل ما يثبت اتفاق روكامبول مع البوليس حتى تغيرت خواطر أولئك اللصوص عليه، وثبت لهم صدق شيفيوت، وخيانة روكامبول.
ولم يكن يستطيع الدفاع عنه وإظهار الحقيقة غير جواني الجلاد، ولكنه لم يكن حاضرا بينهم؛ لأن روكامبول قد أرسله بمهمة إلى باريس.
وفيما هم يتداولون وقد ارتفع ضجيجهم، وعلت أصوات سخطهم على روكامبول، دخل باتير فصاحوا جميعهم بصوت واحد: ليحي باتير، وليمت روكامبول.
ثم ثار ثائرهم فصرخ أحدهم: لنطرح هذا الخائن في النهر.
وصاح آخر: بل لتقطع رأسه!
وقالت شيفيوت: بل دعوني أخنقه بيدي!
فصاحوا جميعا: ليمت روكامبول! ما عدا مورت فإنه كان ساكتا لم يفه بحرف.
وقد انتصر باتير وعادت إليه الزعامة، وحاول أن يهجم برجاله على غرفة روكامبول فيمزقه تمزيقا.
ولكنهم قبل أن يهجموا على تلك الغرفة، ظهر لهم روكامبول عند بابها، وهو مصفر الوجه، ولكن عينيه تتقدان ببريق غريب، فتراجعوا عند رؤياه.
وكان يوجد في قاعة تلك الخمارة نحو ثلاثين لصا، وكلهم خاضعون لباتير، وكان روكامبول قد سمع بعض حديثهم، وأدرك من ملامحهم كل مقاصدهم، فوقف على عتبة الباب، ووضع إحدى يديه فوق صدره الجريح، وجعل ينظر إلى أولئك اللصوص نظرات ملؤها الاحتقار، ثم يجيل نظره فيهم، فينبعث من عينيه بريق تتكهرب له نفوسهم، فيغضون الطرف واجمين كأنما تلك النظرات وعيد هائل لا يفقهون له معنى.
ثم اشتد روكامبول بعد أن رأى تأثير نظراته وثباته، وذهب إلى باتير زعيم العصابة، وخاطبه بملء الاحتقار: أأنت هو الذي يتهمني بالخيانة والجاسوسية؟
فأجفلت العصابة، لما بدا من ظواهر احتقاره وبسالته، وقالت في نفوسها: إن من كان جاسوسا للحكومة لا يجسر على الكلام بمثل هذه اللهجة.
أما باتير، فقد أجابه بصوت يضطرب قائلا: نعم، أنا الذي قلت هذا الكلام.
فدنا منه روكامبول خطوة وأجاب: إذا أنت كذاب سفاك.
فضم باتير قبضتيه إشارة إلى التهديد، غير أن مورت الذي وقف بينهما وقد برق خنجره بيده فقال: الويل لك إذا جرأت على ضربه، فإني أمزق أحشاءك بهذا الخنجر.
فساد السكوت دقيقتين بين العصابة، وانقسمت في الحال شطرين، فمال شطر روكامبول، وحشر الفريق الآخر تحت راية باتير، وجعل كل فريق ينظر إلى الآخر نظرات الشر والوعيد.
غير أن روكامبول أوقفهم بإشارة، وقد رأى أن السيادة بدأت تعود إليه، فقال بلهجة الحنان: إني لا أريد أيها الرفاق أن أكون السبب في خصامكم وتفريقكم، فإن من كان مثلكم لا يفيدهم غير التآلف والوئام.
فبدت من الجميع أشائر الاستحسان لكلامه ما خلا شيفيوت فإنها قالت كلاما يدل على السخط، فدنا روكامبول منها، ووضع يده على كتفها، وقال لها بلهجة المتهكم: ما بالك لا تقولين لهم أنك أنت التي كنت في خدمة البوليس؛ لأنك كنت في عصابة تيميلون؟
فخافت شيفيوت لأنها كانت تشعر أن نظرات روكامبول تحرقها، فوجمت وأطرقت بنظرها إلى الأرض.
فالتفت عند ذلك روكامبول إلى أفراد العصابة، وقد شعر بانتصاره وقال: أصغوا إلي جميعكم؛ لأني لا أحب أن تحكموا علي دون أن تسمعوا أقوالي، فأصغوا إلي.
فصرخ حزبه: ليحي روكامبول! وسكت حزب باتير، فتابع روكامبول: لا أعلم حقيقة ما قالته هذه المرأة، ولكنكم إذا أردتم سماع حكايتي فهذه هي: إني كنت في سجن طولون، وكان لي رفيق بالقيد يدعى ميلون، كان قبل دخوله السجن خادما أمينا ليتيمتين، وقد سرقوا هاتين الأختين، غير أن السارق لم يكن فقيرا معدما يسرق ليعيش مثلنا، بل كان من أصحاب المقامات العالية، ومن الوجهاء كما يقولون.
فهربت من السجن مع ميلون؛ لأني وعدته بإرجاع الثروة للأختين، وما تعودت غير الوفاء.
فصفق له أحزابه تصفيق استحسان، واصفر وجه باتير، فاستأنف روكامبول الحديث، وقص عليهم بذلك اللسان الذرب الذي خدع به المدموازيل سالاندريرا حين كان يدعى المركيز دي شمري، جميع تاريخ أنطوانيت ومدلين، وخاض في كلامه حتى جعل العصابة تميل إلى الأختين، وتكره مورليكس، وتحب أجينور، وأدوع في نفوس أولئك اللصوص عواطف الحب لفاندا.
استفاض في حديثه نحو ساعة وهو يتلاعب بعواطف سامعيه كما يشاء، حتى إذا فرغ من حديثه سقطت دولة باتير، وتقدم أحزابه أنفسهم من روكامبول، فقالوا له: أيها الرئيس، إننا أخطأنا إليك فاغفر لنا. - إني أسامحكم، ولكني أحب أن أكون زعيما لكم؛ لأني لا أتولى زعامة عصابة إلا إذا كان رجالها يعترفون بمطلق سلطاني، ويخضعون لي خضوعا مطلقا لا حد له.
فصاحوا جميعهم بصوت واحد: سنكون كلنا كما تريد.
وقال بعضهم: أتريد أن نلقي باتير في المياه؟ - كلا، ولكني إذا توليت رئاستكم، فلا أحب أن يكون هذا الرجل من العصابة.
فأسرع الجميع إلى طرد باتير، ولكنهم لم يجدوه؛ لأنه هرب قبل أن يطردوه.
وعند ذلك تقدمت شيفيوت وقالت: وأنا أتأمر بطردي أيضا؟ - أنت يجب عليك - قبل كل شيء - أن تقصي علينا حكاية هذه الطفلة.
فامتثلت شيفيوت، وأخبرته بما عرفه القراء من حديث الطفلة.
فأمر صاحب الخمارة بالاعتناء بها، ثم التفت إلى رجال العصابة، وقال لهم: إن مسألة المنزل يجب تأجيلها ثلاثة أيام إلى أن أكون قد تعافيت، والآن اذهبوا جميعكم حذرا من البوليس؛ لأن الفجر قد انبثق، ولا تفعلوا شيئا في هذه الأيام الثلاثة.
فتفرق اللصوص، وعاد روكامبول إلى غرفته وهو يقول: هو ذا خطر جديد، فكيف يتيسر لي إنقاذ سكان ذلك المنزل واللصوص طامعون فيه.
ثم اضطجع في سريره وهو يفكر.
10
بعد هذه الحادثة بثمانية أيام كان أربعة في قارب يجتازون نهر السين وهم: مورت، ومرميس، وشانوان، وروكامبول.
وكان القارب يسير بهم سيرا مستعجلا بالرغم عن مقاومة التيار، حتى بلغا إلى إحدى ضفتي النهر، فقال مورت لروكامبول: هذا هو البيت.
وأشار بيده إلى بيت معتزل في ذلك المكان، فنظر روكامبول إليه فوجده محاطا بحديقة تكتنفه من كل جانب ، ورأى أشجارا باسقة عند مدخل بابه الكبير.
فلما تأمل روكامبول هذا البيت مليا قال لمورت: إن الوقت لم يحن بعد، وعندي أن الأجدر بنا أن نعود إلى الضفة الثانية فنتعشى في إحدى الحانات، ونصبر إلى أن ينتصف الليل فنعود.
فامتثلت العصابة له، وعاد رجالها إلى التجذيف حتى بلغوا المكان الذين يسيرون إليه، فيما هم على الطريق أخرج شانوان مطرقة من القارب وأراها لروكامبول، فسأله: ما هذه المطرقة؟ - إنها تغنيني عن الخنجر والمسدس، أضرب بها الرجل ضربة واحدة على صدغه فأجهز عليه. - هي مفيدة، ولكنك لا تحتاج إليها هذه المرة؛ لأني سأدخل وحدي إلى هذا البيت.
وكانت العصابة قد أقسمت يمين الطاعة لروكامبول، فسكت شانوان ممتثلا ولم يجب.
وظل القارب يسير بهم حتى وصلوا إلى المكان المعين فربطوه إلى صخرة على الشاطئ، وصعدوا جميعهم إلى خمارة هناك فجلسوا حول مائدة، وطلبوا ما اشتهوه من أكل وشراب.
ولم يكن يوجد غيرهم في تلك الخمارة، فلما بلغت الساعة التاسعة دخل إليها رجلان وجلسا حول مائدة محاذية لمائدة العصابة وطلبا خمرا.
وكانا يتكلمان باللغة الفرنسية، غير أن لهجتهما كانت إنكليزية.
فجعل روكامبول يراقبهما خلسة؛ لأنه عجب لوجودهما في هذا الموضع، لا سيما وأن صاحبه استقبلهما استقبال الغرباء.
أما بقية أفراد العصابة فقد شغلوا بأكلهم وشرابهم، ما خلا روكامبول فإنه كان منتبها لهما كل الانتباه إذ كان يظهر له من شربهما وسكونهما أنهما على غير ما يريدان أن يظهراه.
ومما نبهه إليهما لون بشرتهما، فإنه كان يدل على أنهما من أصل غريب، يشبه ذلك الأصل الممتزج بين الهندي والإنكليزي، ثم أنهما بعد سكوت قليل جعلا يتكلمان بلغة لم يفهمها أفراد العصابة ما خلا روكامبول، فقد علم أنها لغة هندية يعرفها كثيرون في بلاد الإنكليز، وكان روكامبول قد عرف هذه اللغة لكثرة اختلاطه مع قومها حين وجد في لوندرا، فكان يفهم كل ما يتحدث به الهنديان.
وكان أحدهما قويا، ضخم الجثة، شديد العضل، يدعى أوسمانا، والآخر على عكسه صغير الجثة، نحيل الجسم، رخيم الصوت، حتى إن من يسمعه يخال أنه امرأة متنكرة بزي رجل، وكان يدعى كيرشي.
وبعد أن شربا زجاجة دون أن يفوها بحرف افتتح الصغير الحديث فقال: إن باريس أصغر جدا من لوندرا، ولكنه يصعب فيها اقتفاء أثر رجل يريد أن يحتجب عن الأنظار.
إني اقتفيت أثر الأب والابنة ستة أشهر، وكنت أتبعهما كل يوم تقريبا، وقد لقيتهما عدة مرات، فلو كان الوقت قد حان لكنت قضيت المهمة التي تسعى إليها، ولكنك تعلم يا أوسمانا أن الأمور مرهونة بأوقاتها، وأن الوقت لم يكن حان بعد.
انحنى أوسمانا إشارة للمصادقة، وقال: أتم حديثك يا كيرشي. - إني تبعتهما من فرصوفيا في جميع أسفارهما حتى وصلا إلى باريس، وهنا فقدت أثرهما، ولم أهتد إليهما إلا منذ ثمانية أيام حين ورد إلي كتاب من اللجنة في لندرا. - وأخيرا التقيت بهما؟ - نعم، وها أنا جئت بك الليلة، وسأوصلك إلى المنزل الذي يقيمان فيه. - حسنا، إن الوقت قد حان، وساعة هذا اللعين قد دنت. - ولا شك أن الإلهة كالي ستكون راضية؛ لأني أعددت كل شيء. - ماذا أعددت؟ - إن هذا اللعين والد الفتاة قد طرد خادمه منذ أسبوع، ثم جعل يبحث عن سواه في باريس، فوجد خادما، ولكنه من جمعيتنا. - أهو من الهنود؟ - كلا، بل هو إنكليزي، ولكنه يحسن التكلم بالفرنسية، وظواهر السلامة بادية في وجهه، فاستخدمه اللعين دون حذر.
وسيأتي هذا الخادم عند منتصف الليل فيفتح لنا الباب، وندخل حينما يكون الأب والابنة نائمين فنقضي مرامنا دون أن يشعر بنا أحد.
وبينما كان الهنديان يتكلمان كان مورت ومرميس وشانوان يتكلمون بما أوحت إليهم الخمر.
أما روكامبول، فكان يتظاهر أنه نائم وهو مصغ كل الإصغاء، فلم تفته كلمة من حديث الهنديين.
وعاد الهنديان إلى الحديث، فقال أوسمانا: والطفلة أين هي الآن؟ - لقد وجدت أثرها أيضا، ولكني أضعته. - كيف ذلك؟ - إن اللعين كان يخفي تلك الطفلة في منزل امرأة عجوز مقيمة في شارع الدلتا، وكنت أعددت كل شيء لقتلها، ولكنهم سبقوني لاختطافها. - ومن الذي سبقك إليها، ألعله الجنرال؟ - لا أعلم غير أني لا أظن أنه هو الفاعل. - من تظن أنه اختطفها؟ - لم أشتبه بأحد، ولكني واثق من أنها اختطفت في ذات اليوم الذي كنا عازمين فيه على اختطافها. - يجب أن نجدها، فإن كل موشوم برموزنا من النساء ينبغي أن يكون ضحية الآلهة كالي. - سنجدها دون شك.
فقال روكامبول في نفسه: ما هذا الاتفاق الغريب، فإني بت واثقا أن هذه الطفلة التي يتحدثان عنها هي نفس الطفلة التي سرقتها شيفيوت.
وعاد أوسمانا إلى الحديث فقال: إنه يوجد على بعد مرحلة من ضفة السين اليمنى منزل يقيم فيه اللعين وابنته، فأنت تخنق الأب، وأنا أخنق الابنة دون أن يعلم بنا أحد.
وماذا يهمنا إذا عرفت الحكومة وقتلتنا، فإن حياتنا ليست لنا بل هي للجمعية، ولأعضائها مطلق الإرادة بأنفسنا يتصرفون بها كيف يشاءون، ولكن قل لي: أتعرف الطريق إلى هذا المنزل؟ - دون شك، وإني اتفقت على موافاتك إلى هذه الخمارة؛ لأنه في الساعة الحادية عشرة يمر قطار السكة الحديدية فيسير بنا حالا إلى منزل فيانيف سانت جورج.
فاضطرب روكامبول إذ أيقن أنهما ذاهبان إلى المنزل نفسه الذي عزمت العصابة على سرقته، وقال في نفسه: ما هذا الاتفاق؟ فإنهما يريدان قتل الطفلة التي حميتها من شيفيوت، وقتل الرجل وابنته الذين أريد حمايتهما من اللصوص.
وأخذ بعد ذلك يراقب الهنديين أتم المراقبة، فلا تفوته حركة أو كلمة منهما.
أما الهنديان فكانا مطمئنين، ولم يخطر لهما الحذر في بال، فجعلا يدخنان، واستغرقا بالتأملات العميقة التي تشبه الذهول شأن كل رجال الشرق الأقصى.
وبعد حين دفع مورت بكوعه روكامبول، وقال له: أظن أن الوقت قد حان؛ فإن الساعة 11 أوشكت أن تدق. - لقد أصبت، ونظر إلى رفاقه فقال لهم: هلموا بنا.
ثم دفع لصاحب الخمارة ما طلب، وذهبوا جميعهم إلى القارب، فأسرع مورت لرفع المراسي فأوقفه روكامبول وقال: إذا كنا لا نصل في مدة نصف ساعة فلا فائدة من ذهابنا.
تعجب مورت وقال: ماذا يهم إذا تأخرنا عن هذه المدة؟
فنظر روكامبول إلى ساعته وقال: إن الساعة الآن بلغت العاشرة ونصف، فلا يجب أن نضيع الوقت سدى؛ إذ لسنا وحدنا الذين يحاولون سرقة المنزل.
ارتعش اللصوص وقالوا: من الذي يزاحمنا فيه؟ - أرأيتم هذين الرجلين اللذين كانا يشربان هنا في الخمارة فإنهما كانا يتكلمان بلغة أفهمها دونكم، فعلمت كل ما ينويان، ولهذا أطلب إليكم أن تكونوا في طاعتي كرجل واحد.
فصاحوا جميعهم بتحمس: إنك لو أرسلتنا إلى الموت لما أحجمنا. - إذن انزلوا إلى القارب، وأسرعوا قدر ما تستطيعون.
فنزلوا جميعهم، وكان أشدهم تحمسا الفتى مرميس، فدفع القارب وصاح: ليحي روكامبول ...
11
وكان الجو صافيا، والنجوم تسطع في الفضاء كليالي الصيف.
فاندفع القارب يسير إلى النهر الهادئ وقد أخذ مرميس مجذافا يجذف به من اليمين، فأخذ مورت مجذافا آخر يساعده من اليسار، ووقف شانوان في مؤخرة القارب يجذف أيضا من الجانبين طلبا للسرعة.
أما روكامبول، فقد لبث واقفا في وسط القارب، وكان يقول في نفسه: إن الهنديين قد غلطا في حسابهما، فإن القطار الذي يركبان به لا يمر في الساعة الحادية عشرة، بل في الحادية عشرة ونصف، وعلى ذلك فلا يستطيعان الوصول إلى ذلك المنزل قبل نصف الليل، وسنصل إليه قبلهما إذا استمر قاربنا يسير بهذه السرعة.
وكان ساكتا واجما، فكان اللصوص يحترمون سكوته كي لا يقطعوا حبل تفكره.
وقد أصاب ظنه، فإن القارب وصل إلى المنزل المعتزل قبل أن يسمع صفير القطار.
فربطوا القارب، ونزل مرميس ومورت إلى البر، ولما حاول شانوان أن يتبعهما سأله روكامبول: والمطرقة أتدعها في القارب؟ - ألم تأمرني بإبقائها فيه إذ لا حاجة إليها؟ - نعم، ولكني غيرت فكري الآن فهاتها.
فامتثل شانوان، وجعل روكامبول يبحث في القارب فأخرج منه حبلا فطواه ووضعه في جيبه، ثم نزل إلى البر قائلا لرفاقه: أصغوا إلي الآن: أتعلمون من هما هذان الرجلان اللذان لقيناهما في الخمارة؟ - لا. - إنهما عضوان في عصابة لصوص هائلة.
فقال شنوان: إذن هما من رجال المهنة. - وهما يريدان من هذا البيت ما نريده، ولا أريد أنا شركاء. - إذن ماذا تأمر؟ - تعالوا معي وسترون.
ثم مشى أمامهم في طريق معوجة ضيقة تؤدي إلى حديقة البيت، وعند ذلك سمع صفير القطار القادم من باريس.
ولم يكن للهنديين طريق يسلكانها من المحطة إلى المنزل غير هذه الطريق.
وكانت الأشجار الضخمة تكتنف الطريق من الجانبين على مسافة مائة خطوة من باب المنزل الكبير، فأخذ روكامبول الحبل من جيبه فنشره وربط أحد طرفيه بشجرة، والطرف الآخر بشجرة تقابلها في تلك الطريق الضيقة بحيث أصبح لا بد لمن يمر بها أن يعثر بذلك الحبل الذي يعترضه فيقع.
وكان رفاقه ينظرون إليه وهم لا يعلمون شيئا من قصده، ولما أتم ربط الحبل ذهب بهم إلى شجرة كبيرة وأمرهم أن يختبئوا وراءها.
ثم صفر القطار مرة أخرى، فعلم روكامبول أنه وقف في المحطة المؤدية إلى البيت، وقال لرفاقه: أصغوا إلي الآن، فإنه يجب علينا أن نقبض على هذين الرجلين مهما كلفنا أمرهما من الجهد، وإني أفضل أسرهما واستبقاءهما على قيد الحياة، إلا إذا تعذر ذلك علينا، فلا بأس من أن يستخدم شانوان إذ ذاك مطرقته.
فرد شانوان: إن ضربة واحدة تكفي للقضاء على من تصيبه.
وتابع مرميس: إنه تكفل بالكبير، وأنا أتعهد برفيقه الصغير.
وسألهم مورت: وأنا ماذا أعمل؟
فابتسم روكامبول وقال له: لا تيأس فسأجد لك عملا.
وبعد عشر دقائق سمعوا وقع أقدام، فأصغى روكامبول وقال: إنهم أكثر من اثنين فناموا على الأرض، ولا تأتوا بحركة إلا بأمري.
وكان أولئك القادمون ثلاثة غير أنهم كانوا يمشون بخطوات بطيئة كأنهم يتشاورون، فأشار روكامبول إلى رفاقه بالسكون، وأصغى إصغاء تاما، فعلم من حديثهم أن هذا الرجل الثالث الذي يصحب الهنديين كان خادم الجنرال الذي دخل حديثا في خدمته بعد طرد ذلك الخادم العجوز.
وقد سمع هذا الخادم يقول لهما: لا يزال الوقت فسيحا.
فقال أحدهما: لا بأس أن ننتظر إذا كان لا بد من الانتظار، ولكن أين ننتظر؟
فأشار لهما الخادم إلى المكان المختبئ فيه روكامبول، وقال لهم: انتظروا تحت شجرة من هذه الأشجار التي تتصل بباب المنزل إلى أن تسمعا صفيري فتدنوان من الباب.
فاضطرب روكامبول اضطرابا شديدا؛ لأنه خشي أن يتقدم الخادم وحده بالحبل، ويقف الهنديان على الحيلة فيهربان.
ولم يكن غرضه حماية الجنرال وفتاته فقط، بل إنه كان يريد كشف الحجاب عن سر تلك الجمعية الهائلة التي يأتي أعضاؤها من أقصى بلاد المعمورة للانتقام من أعداء الإلهة كالي والإله سيوا.
غير أنه سمع الخادم يقول للهنديين: أما أنا فسأعود من الطريق التي أتيت منها.
فقال له أحدهما: لماذا؟ - إن مفتاح الباب غير موجود معي.
فقال له أوسمانا: كيف خرجت من المنزل؟ - من باب صغير في الطرف الآخر من هذا البستان، ويقتضي للدخول منه أن أرجع على أعقابي، وأسلك إليه طريقا أخرى. - ونحن ماذا نصنع؟ - تقدما بين صف هذه الأشجار حتى تقربا من الباب، فتلبثان هناك حتى تسمعا صفيري.
ثم تركهما وانصرف ... فاطمأن خاطر روكامبول.
وكان روكامبول ورفاقه مختبئين وراء شجرة كبيرة.
وتقدم الهنديان حتى وصلا إلى شجرة لا يفصل بينهما وبين شجرة روكامبول غير الحبل.
ووقفا قربها، وأرسلا بصرهما إلى ذلك البيت المنفرد، ولم يجدا فيه غير نور واحد ينبعث من أحد النوافذ.
وكان مرميس واقفا أيضا قرب روكامبول وهو ينظر إلى تلك النافذة، فأدنى فمه من أذنه، وقال له همسا: هذه نافذة الأب.
غير أن صوت مرميس على ضعفه وصل إلى أذن أوسمانا، فاضطرب وانذعر وصاح: إلي يا كيرشي.
ثم تقدم خطوة، فعثر بالحبل وسقط وصاح صيحة أخرى، فأسرع إليه كيرشي وسقط مثله، فانقض عليهما عند ذلك رجال روكامبول.
وركع روكامبول فوق صدر أحدهما، والخنجر مشهر في يده ثم قال له باللغة الهندية: اسكت أو أقتلك.
وذعر الهندي لسماعه تلك اللغة الهندية أكثر مما ذعر لإشهار الخنجر عليه، فكف عن المقاومة في الحال، وسكنت حركاته شأن أولئك الذين يستسلمون إلى الأقدار متى حل بهم المصاب.
وعند ذلك نادى روكامبول مرميس، وقال له: تعال واقبض عليه.
ففعل وجعل روكامبول يفتش جيوبه، فأخرج منه حبلا تستعمله طائفة الخناقين الهندية للخنق، ثم بحث أيضا فوجد مسدسا إنكليزيا، وخنجرا منقوشا عليه نقوش غريبة.
وبعد أن جرده من هذه المعدات أخذ منديله فربط به فمه كي لا يصيح، وقال لمرميس: احرص عليه جيدا.
ثم ركض إلى الهندي الآخر فوجد شانوان رابضا فوقه يكاد يميته وبيده المطرقة وهو يقول: أأقتله أيها الرئيس؟
فأجابه روكامبول: كلا ...
ودنا من الهندي فقال له بلغته: إن الإله سيوا يريد هذا.
فأثرت هذه اللغة به نفس تأثيرها برفيقه، وكف عن المقاومة، وجعل ينظر روكامبول نظرات تشف عن الرعب والحيرة.
ففتشه روكامبول كما فتش رفيقه، فوجد معه نفس المعدات، فاستولى عليها، ثم ذهب إلى الحبل الذي ربطه بالشجرتين فقطعه قطعتين، وأوثق بهما أرجل وأيدي الأسيرين وثاقا محكما.
ولما فرغ من جميع هذا قال لرفاقه: لقد تغيرت خطتنا الآن، فاذهبوا بالأسيرين إلى القارب.
فتأسف مرميس قائلا: والمنزل ألا نذهب إليه؟ - سأقضي هذه المهمة وحدي.
فقال مورت: ألا تحتاج إلى مساعد؟
فهز روكامبول كتفيه قائلا: إن المهمة بسيطة لا تحتاج إلى أكثر من واحد أعطوني المطرقة واذهبوا في سبيلكم بالأسيرين، واحرصوا عليهما حرصكما على الحياة.
فلما مشي بضع خطوات ألقى المطرقة، وأخذ من جيبه حبلا من الحبلين اللذين وجدهما في جيوب الهنديين، وتقدم إلى باب المنزل، فرأى النور لا يزال في نافذة إحدى غرفه، ولم يطل وقوفه حتى سمع صفير الخادم، ثم فتح الباب وخرج الخادم، وقال باللغة الهندية: أين أنتم؟
فأسرع روكامبول وأطلق على عنقه ذلك الحبل ثم شده، فأطبق حول عنقه وانقطع صوته.
12
ولندخل الآن بالقارئ إلى هذا المنزل الذي كثرت المشاكل على بابه وأهله لا يعرفون، فإنه منذ طرد الجنرال الخادم نيشيلد سادت السكينة التامة في هذا البيت، فلم يعد الجنرال يفوه بحرف، ولم تعد ناديا تعترض عليه بكلمة، حتى إنهما لم يكونا يجتمعان إلا على مائدة الطعام.
أما سكينة ناديا فلم تكن غير ظاهرية؛ لأنها كانت تذكر ما قاله لها الخادم بشأن الأوراق التي دفنها عند جذع الشجرة وفيها كل ما تريد الوقوف عليه من الأسرار.
ويذكر القراء أن الخادم احتجب عن المنزل في اليوم التالي لإقراره، ودخل مكانه خادم آخر، فقال الجنرال لابنته حين دخوله عليها: احذري أن تكلميني بشيء من شئوننا أمام هذا الخادم؛ لأني لا أعرفه إلا من الشهادات التي بيده.
فلم تجبه ناديا بشيء، وجعلت تنتظر فرصة تغتنمها لإخراج الأوراق من مدفنها.
واتفق في ليلة اشتد ظلامها أن والدها قام باكرا، وكان الخادم قد خرج بعد العشاء لاستقبال الهنديين في المحطة، فخرجت إلى الحديقة وحفرت عند جذع الشجرة التي دلها عليها الخادم، فأخرجت تلك القدر المدفونة فيها الأوراق، وأسرعت عائدة إلى غرفتها وهي تمشي مشية اللصوص؛ حذرا من أن يشعر بها والدها.
فلما دخلت إلى غرفتها أغلقت بابها من الداخل، وأرخت الستائر على النافذة؛ حذرا من أن ينتبه أبوها إلى النور، ثم أنارت الشمعة، ولكنها لم تلبث أن أضاء نورها حتى صاحا الصبية صيحة منكرة، وسقطت الأوراق من يدها.
ذلك أنها لم تكن وحدها في تلك الغرفة، بل كان فيها رجل، وهذا الرجل أبوها الجنرال.
غير أنها على فرط ذعرها اطمأنت بعض الاطمئنان حين تفرست في وجه أبيها، فقد تعودت أن ترى ملامح القسوة والشدة بين ثناياه، ولكنها رأته على غير ما ألفته؛ فقد كان حزينا تدل ملامحه على كآبة شديدة، وقد سقطت دمعتان على خديه المجعدين.
فلما رآها أبوها على هذه الحالة قال لها بلهجة الحنو: إذا أنت تريدين يا ابنتي أن تعرفي كل شيء؟
فتقطع قلبها إشفاقا على أبيها لما رأته عليه من ظواهر الحزن، وقالت: ما بالك يا أبي؟ - أتريدين أن تعرفي ماذا فعلت بطفلتك؟
فأطرقت بنظرها إلى الأرض، وقالت: نعم يا أبي. - وماذا فعلت بزوجك قسطنطين؟ - نعم. - أما قال لك خادمنا نيشيلد أني أخفيت الطفلة؟ - ولكنها لا تزال حية، أليس كذلك يا أبي؟
فقال لها بلهجة حنو: أتسألينني إذا كانت حية، وكيف لا تكون آمنة وأنا أرعاها؟
فدهشت الصبية وقالت: ماذا أسمع وكيف تغيرت، ومن أنت؟ - أنا أبوك الذي أصابته الأيام بكارثة هائلة، فاضطر مكرها إلى معاملتك معاملة الأعداء أعواما طويلة، وهو يذوب حنوا عليك. نعم، إني أخفيت طفلتك، ولكني أعرف أين هي، وأعتني بها كل اعتناء. وأنا الذي أرسل قسطنطين إلى سيبيريا، ولكني لم أرسله إلى تلك البلاد النائية إلا لأنقذه من موت هائل.
فجعلت ناديا تنظر إلى أبيها نظرات غريبة كأنها خشيت أن يكون أصيب فجأة بالجنون.
وتابع قائلا: لا تنظري إلي يا ابنتي هذه النظرات، ولا تنخدعي بأقوال الخادم نيشيلد، فإنه لم يكن يعرف غير ما رآه، أما أنا فسأخبرك عن الحقيقة بتفاصيلها، وسترين بعد ذلك إذا كنت تجسرين على اتهام أبيك بما كنت تتهمينه به من قبل.
وعند ذلك جذب ابنته إلى صدره فقبلها وبكى، ثم أجلسها بقربه وقال: إن ما عرفه نيشيلد من أمري هو أني من أعيان بولونيا الذين رفعوا راية العصيان، وأنه قد جرى بيننا وبين جنود القيصر معارك هائلة، وأنه كان بين هؤلاء الجنود ضابط أحبته ابنتي وأحبها، ولكن ابنتي لم تجسر على مخاطبتي بحبها؛ لأنه عدو لي، ولم تستطع الإقلاع عن حبه، فاندفعت في حبه حتى أذنبت، فأراد أبوك الانتقام منك ومنه على السواء، وأنك جننت حين فقدت طفلتك وزوجك، وأني خنت بولونيا، ألم يقل لك الخادم هذا القول؟ - بلى يا أبي، وقد زاد على ذلك أنه كتب في هذه الأوراق كثيرا من الخفايا. - ستقرئينها بعد الآن للتفكه بها؛ لأن هذا المسكين لا يعلم شيئا من حقيقة أمرنا، وأما الحقيقة فهي ما تسمعينه مني، فأصغي إلي:
إنني بولوني، ولكني أتسمى بغير اسمي، حتى إني حاولت نسيان اسمي القديم، ومع ذلك فلست مضطهدا، ولا أنا من المذنبين، وعندما كنت في الثامنة والعشرين من عمري أنفت البقاء في بلادي؛ لما كنا نلقاه من الخسف والمظالم، فرحلت إلى الهند، وبعد إقامتي عاما فيها تعينت قائدا في الجيش.
وكان لي صديق روسي هناك، وهو قائد مثلي في ذلك الجيش.
فمرت بي عدة أعوام ترقيت في خلالها إلى رتبة كولونيل، فأحببت مس أنا ابنة الجنرال هاريس قائد الجيش الأكبر، وهي أمك.
وقد كنت خطبتها إلى أبيها فتجهم وجهه وأبى، فألححت عليه، وذكرت له أن الحب متبادل بيني وبين ابنته، وأنه إذا أصر على رفض طلبي يسيء إلي وإليها على السواء.
فسكت الجنرال هنيهة سكوت المضطرب، ثم قال: لا تظن أني رفضت طلبك استخفافا بك، ودليلي على ذلك أنه عندي فتاة ثانية إذا أردت الزواج بها فهي لك وهي مس ميبل. - قلت لك لا أريد الزواج إلا بالمس أنا؛ لأني أحبها وتحبني. - أيها التعيس! أتريد أن تموت قتيلا يوم زواجك، وتخنق امرأتك بين يديك؟
فدهشت لقوله، وقلت: كيف ذلك؟ - ذلك لأن المس أنا التي تحبها مكرسة للإلهة كالي، أتعلم في أي بلاد نحن مقيمون؟ - نعم أعلم، إننا في بلاد الهند الإنكليزية، وإننا نعبد الإله القادر، ولا شأن لنا في معبودات الهند.
فابتسم ابتسام الحزين، وقال: ليس لنا من الأحكام غير ظواهرها. نعم، إننا نحتل سون والحصون ونجبي الضرائب، ولكننا لسنا الأسياد؛ لأنه يوجد فوق يدنا في هذه البلاد التي تظلها رايتنا، وتحميها أساطيلنا يد قوية، وحكومة خفية قادرة، مجتمعاتها في الغابات والهياكل، والمغائر الخفية، ولهذه الجمعية الهائلة منفذون في العواصم، ولا سيما لندرا، يدعونهم بالخناقين، وهم يعبدون الإلهة كالي، ويعتقدون أن هذه الإلهة لا يرضيها غير سفك الدماء.
فقاطعته وقلت: ما الذي تخشاه على ابنتك من هؤلاء الخناقين؟ - لقد قلت لك إنهم كرسوها للإلهة كالي، ويظهر أني لم أفصح عن مرادي بجلاء، اعلم أن أعضاء هذه الجمعية الهائلة يتعارفون برموز وإشارات سرية تخفى عن الأوروبيين والإنكليز، وكل من لم يدخل في سلكها من الهنود.
وقد دخل في هذه الجمعية كثيرون من أعيان البلاد وفقرائها، وامتزجوا بيننا امتزاجا عظيما، حتى إنه يوجد منهم كثيرون بين خدامنا وجنودنا.
وهم يعبدون كثيرا من الآلهة، أخصها الإلهة كالي، فيلقي الكهنة ما توحيه إليهم تلك الإلهة على أعضاء الجمعية، ولا بد من تنفيذ ما يأمرون، فقد صدر أمرهم منذ خمسة عشر عاما أن هذه الإلهة تريد أن يضحى لها من الغرباء ستون فتاة من سن العاشرة إلى العشرين، فيقضى على هذه الفتيات بالعزوبة، ومن تزوجت منهن يقتلها الخناقون وهم عباد هذه الإلهة.
فقلت مندهشا: أتجب عليك الطاعة إذا أمروا؟ - لا ، ولكن اسمع كيف ينفذون أوامرهم، فإن هؤلاء الخناقين يبلغون أوامر إلهتهم كالي بإعلانات يلصقونها على الجدران، والأشجار، والمتنزهات العمومية، وأبواب المجامع، ويأمرون عمالها أن يشموا كل فتاة يختارونها للتضحية برمز الإلهة الخاصة.
فلما تنتشر هذه الأوامر، يحرص الآباء والأمهات على بناتهم كل الحرص، ولكن حرصهم لا يفيدهم؛ لأن ما تريده هذه الإلهة لا بد أن يكون.
وقد تنبهت حينما انتشرت هذه الإعلانات؛ فأطلقت سراج جميع من كان في خدمتي من الهنود، ولم يبق لدي غير الأوروبيين، ووضعت الحراس والرقباء على منزلي، ومنعت ابنتي عن الخروج من المنزل، وعينت لهما وصيفتين تنامان في غرفتهما، فلم يكن يدخل إلى منزلي غير ضابط واحد، وهو من أركان حربي ومن الإنكليز.
وكنت قد التمست من حكومتي العودة إلى إنكلترا، فصدر لي الإذن بالسفر، وفي الليلة التي عولت على السفر ... ضاعفت عدد الحراس، وبت مبالغة في الحرص في غرفة ابنتي.
وعزمت على السهر طول ليلتي، ولكن النعاس تغلب على أجفاني فنمت بالرغم عني، فلما انتبهت في الصباح وجدت الجميع نياما والباب مقفلا، والكلب الذي كان على الباب ساكنا لم يتحرك، فدنوت من ابنتي لأتفقدهما فرأيت إحداهما، وهي المس أنا التي تريد أن تخطبها، قد نزع قميصها عنها، ورأيت تلك النقوش السرية مطبوعة فوق ظهرها، وفي وسطها رمز الإلهة كالي.
ولم تكن قد انتبهت من رقادها، ولم يصح أحد من النائمين، حتى إن الكلب لم ينبح، ولكن الخناقين قد دخلوا إلى تلك الغرفة، فعلمت وا أسفاه أن ابنتي ضحية لتلك الإلهة، وقضي عليها بالعزوبة الأبدية، فإذا تزوجت كان نصيبها الموت.
فقلت له عند ذلك: لقد مضى على هذه الحادثة خمسة عشر عاما، ولا بد أن يكون الخناقون نسوا أمر ابنتك. - كلا؛ لأنه في كل عام في مثل اليوم الذي وشمت فيه يرد إليها هدية من هذه الجمعية يعتبرونها هدية الإلهة كالي، فلا نعلم كيف تصل إليها؛ لأنها تصبح فترى تلك الهدية على مائدتها. ما زالت فتاة عذراء؛ لأن تلك الجمعية تعتبرها مقدسة مع البيت الذي تقيم فيه وأهله فلا يصيبهم أحدهم بمكروه، وأما إذا تزوجت كان نصيبها الموت لا محالة.
وعند ذلك فتح الباب فجأة، ودخلت منه مس أنا فقالت لأبيها: إني لا أخشى الموت يا أبي، وقد أحبني الكولونيل وأحببته، فأرجو أن يأذن لنا بالزواج.
فذهل السير هاريس لما رآه من ثباتها، وتراجع منذعرا إلى الوراء.
وهنا توقف الجنرال هنيهة يسمح العرق من جبينه ويستريح، وكانت ناديا مصغية إلى حكايته وقلبها يخفق أشد الخفوق.
13
وعاد الجنرال البولوني إلى الحديث فقال: إن السير هاريس ذعر ذعرا شديدا لما رآه من ثبات ابنته، فبذل جهده بإرجاعها عن عزمها، فلم يفلح فاضطر مكرها إلى الموافقة على زواجنا، واحتفل بعقده في كلكوتا، فعزمنا على السفر جميعنا في اليوم التالي لزواجنا.
وكان الزفاف بسيطا لم يحضره غير صديق لي من الروسيين كان شاهدي، وفي اليوم التالي نزلنا جميعنا إلى الباخرة، فأعد لنا ربانها في الليل حفلة راقصة استمرت إلى منتصف الليل لم يحضرها أحد من الهنود، وقد حسبت أني بت في مأمن من أفراد تلك الجمعية الرهيبة.
غير أني ما زلت موجسا خيفة؛ لأن السفينة كانت عازمة على السفر في الصباح، فأدخلت امرأتي إلى غرفتها، ووضعت كرسيا عند باب الغرفة، ومائدة وضعت فوقها مسدسين؛ لأني عزمت على السهر طول تلك الليلة مبالغة في الوقاية.
ثم شعرت بظمأ شديد، فطلبت إلى الخادم أن يأتيني بكأس ماء بارد، فما كاد هذا الماء يستقر في جوفي حتى تثاقلت عيناي، ولم أستطع مغالبة النعاس، فنمت على الكره مني.
ولما استفقت عند بزوغ الفجر رأيت صدري عاريا من الملابس، فنظرت في مرآة وصحت صيحة الدهش والرعب؛ لأني وجدت على صدري تلك الوشوم التي أخبرني بها السير هاريس.
وقد رأيت على المائدة التي كانت بقربي قطعة من ورق الببيروس، كانت موضوعة بإزاء المسدس، فعلمت أنها لي، ودخلت إلى غرفة امرأتي فذعرت حين رأت ذلك الوشم على صدري، وقالت: لقد وشموك من أجلي، فاغفر لي.
فأعطيتها تلك الورقة كي تترجمها لي؛ لأني لم أكن أعرف لغة القوم ، فقرأت لي ما يأتي:
أيها الغريب، إنك أحببت مس أنا هاريس حب جنون وهي مكرسة للإلهة كالي، وقد تجاسرت تلك الإنكليزية على عصيان أوامر الإلهة، فحكمت الإلهة عليك وعلى نسلك بالعقاب.
إن هذه العذراء ستغدو أما وتموت، وسيقتل أولادكما مهما بالغتما في الحرص عليهم واحدا بعد واحد، وأنت أيها الغريب ستقتل بعد أن ترى بعينيك مصرع جميع الذين تحبهم لأن الإلهة كالي تريد أن تعذبك أشد عذاب قبل أن تبعث بنفسك الخائنة إلى عالم الأحلام.
ثم إن هذا الصديق الروسي الذي يدعى بطرس سيلقى نفس عقابك وقد وشم كما وشمت؛ لأنه كان الشاهد على زواجك بضحية الإلهة.
وكان التوقيع على هذه السطور رسم حبل وخنجر.
قال الجنرال لابنته: فلما فهمت هذه السطور وثبت من الغرفة، وجعلت أستغيث، فأسرع إلي ربان السفينة وضباطها، فلما رأى الربان ما أصابني قال: إنك من الهالكين.
ثم جاء صديقي بطرس وهو يصيح صياح الذعر فقد وشموه كما وشموني، ووشموا امرأته وابنه والطفل.
ثم خرجت امرأتي أيضا وهي والهة تقول: أين أبي؟
فذهبنا إلى غرفته فوجدناها مقفلة، فقرعت بابها مرات فلم يفتح فكسرت الباب ودخلنا جميعا فرأينا ما تقشعر له الأبدان، وهو أن السير هاريس كان ملقيا على فراشه تخيم عليه ظلمة الموت، وفي عنقه حبل من الحرير خنق به.
وقد كانوا رأوا في الليل السير هاريس داخلا إلى غرفته، ودخل معه القائد سميث أحد أركان حربه، وقد كان ينام في الغرفة معه، فلما كسرنا باب غرفته وجدنا نافذة الغرفة المشرفة على البحر مفتوحة، ولم نجد القائد سميث فيها ولا في الباخرة، فأيقنا أن هذا القائد من جمعية الخناقين، وأنه هو الذي فعل كل هذه الفعال.
ثم ارتاح الجنرال هنيهة، واستأنف الحديث مع ابنته، وقال: عدنا بعد ذلك إلى أوروبا فافترق عني صديقي في ليفربول، ولم أره بعد ذلك إلى الآن.
وقد رجوت أن أجد طبيبا ماهرا يزيل عنا تلك الوشوم، فجئت بأمك إلى فرنسا.
واستشرت أشهر أطبائها، فقالوا لي: إن هذا الوشم لا يزول وقد يتصل بالإرث إلى البنين، فتظهر عليهم الوشوم نفسها حين يخلقون، فتركته قانطا، وعدت بأمك إلى بلادي.
وبعد أشهر ولدتك، فكان سرورنا عظيما، لا سيما وأننا لم نجد على ظهرك أثرا من آثار تلك الوشوم، فقالت لي أمك: إن هذه الجمعية لا بد أن تكون نسيت أمرنا، وإذا كنت لا تزال خائفا فترسل ابنتنا إلى إحدى القرى فتربو فيها مع مرضعها باسم غريب.
فوافقتها على ذلك؛ لأن خوفي كان لا يزال شديدا، وأرسلناك في الحال مع إحدى المراضع إلى وكيل لي في إحدى القرى، ونمنا تلك الليلة آمنين، ولكني نهضت في الصباح فوجدت أمك وا أسفاه مخنوقة لا حراك فيها، وأمامها خنجر عليه تلك الرسوم السرية الهائلة.
وتعاقبت السنون على هذه الحادثة حتى صرت صبية، فعدنا إلى فارسوفيا، وعفى عني القيصر بعد خمود الثورة، وكان ما كان بينك وبين قسطنطين، فعفوت أنا أيضا على زلتك وزلته، ووعدته أن أزوجه بك، وفي ذلك الحين ولدت منه تلك الطفلة.
فدفعتها إلى القابلة حين ولدتها، فما تأملتها حتى ذعرت وصحت صيحة رعب؛ لأني وجدت على ظهرها تلك الوشوم التي وشمت بها أنا وأمك، ودنا قسطنطين حين سمع صيحتي، ثم فتح صدرته ومزق قميصه، وأراني صدره، فإذا الوشوم نفسها مطبوعة عليه.
فدهشت، وقلت: كيف وشمت هذا الوشم؟ - أنا ابن بطرس كوروسوف، وقد كان أبي في الهند وعلى صدره مثل هذا الوشم.
فذكرت صديقي الروسي الذي كان شاهد زواجي، وشعرت بقوة هذه الجمعية الهائلة.
وفيما نحن نفتكر بإعداد وسيلة للفرار من الخناقين جاءني ساعي البريد برسالة، ففضتها وقرأت فيها ما يأتي:
إن ساعة قتلك وقتل ابنتك وصهرك قسطنطين قد دنت فافترقوا عن بعضكم، وتأهبوا للموت.
وكان توقيع الرسالة رسم خنجر وحبل ودفعته لقسطنطين، وقلت له: انج بنفسك وأنا سأنجو بابنتي وأفر بها إلى مكان قصي.
وقرأه قسطنطين وقال: لا بد لي من الفرار في كل حال، فقد صرت بعد انضمامي إليكم من الثائرين، وأنا أتوقع النفي إلى سيبيريا في كل حين.
فوافقته على ما قال.
واضطربت ناديا، وقالت لأبيها بلهجة المؤنب: إذن هي هذه الرسالة التي حملتك على التفريق وإرسال قسطنطين إلى سيبيريا في حين أنك كنت قادرا على التوسط في العفو عنه! - نعم، فإني منذ خمسة أعوام أطوف بك متنكرا من بلد إلى بلد حتى جئت بك إلى هنا، وأنا أرجو أن أحجبك في هذا المكان المعتزل عن عيون هؤلاء الخناقين. - وماذا فعلت بابنتي؟ - إنها هنا في باريس أراها في أكثر الأحيان. - ردها إلي ... - ويحك ما هذا الجنون، أتريدين أن يهتدي الخناقون إلينا؟
فهاجت عواطف الأمومة في صدرها، وقالت: إني لا أخاف الخناقين، ولا أثق بسلطانهم.
ولم تكد تتم كلامها حتى صاحت صياح الرعب، وتراجع أبوها منذعرا ذلك أن باب الغرفة قد فتح فجأة، وظهر على عتبة الباب رجل غريب عنهما، وكان بإحدى يديه حبل، وبالأخرى خنجر مشهر، فدنا خطوة من ناديا، وقال لها ببرود: لقد أخطأت يا سيدتي، فإن الخناقين لا يهزأ بقوتهم.
14
واشتد ذعر ناديا، وأسرعت إلى أبيها، وحالت بينه وبين هذا الرجل وهي تقول: أتوسل إليك أن تعفو عنه، وتقتلني مكانه.
وكانت جميع ظواهر الرجل تدل على أنه من أعضاء تلك الجمعية، ولم يكن لدى الجنرال سلاح يدافع به غير أن هذا الغريب طمأنهما بإشارة قائلا لهما: ليهدأ روعكما لقد نجوتما من خطر عظيم.
وسأله الجنرال: إذن من أنت؟ - لا فائدة لك يا سيدي بمعرفة اسمي ودعني أقص عليك ما فعلت. ثم التفت إلى ناديا، وقال لها: اطمئني يا سيدتي ... لم يعد من خطر عليك، وسأحميك وأحمي أباك بعد الآن.
وحكايتي أن الصدفة قادتني إلى خمارة، وأنا أعرف اللغة الهندية، فسمعت اثنين يتحدثان بهذه اللغة، فأصغيت إلى حديثهما، وعلمت أنهما قادمان خاصة من لندرا لقتلكما، وأن ذلك الخادم الجديد الذي دخل في خدمتكم كان متفقا معهما على أن يفتح لهما الباب، ولكن ثقا أنه لا يستطيع خيانة بعد الآن؛ لأنه بات من الأموات.
وقد عرف القراء دون شك أن هذا الرجل لم يكن غير روكامبول، بطل هذه الرواية، وقص عليهما كيف أسر الهنديين، وكيف قتل الخادم.
ثم أخبرهما أنه بعد قتل الخادم بذلك الحبل الذي خنقه به رأى النور ينبعث من الغرفة، فصعد إليها، واختبأ فسمع حديثهما.
وسأله الجنرال: أسمعت كل الحديث؟ - نعم، ولم تفتني كلمة منه بحيث إني أعلم الآن جميع أمركم.
وسأله الجنرال: إذن من أنت أيها الرجل الذي أنقذتنا دون أن يكون لك معرفة بنا؟
فأجابهم بلهجة الحزين: لا تبحث عن معرفة اسمي الآن، واقتصر على العلم بأني منقذكم.
فقال بلهجة القانط: نعم أنقذتنا اليوم، ولكن من ينقذنا غدا؟ - إني سأحرص عليكم غدا كما حرصت اليوم.
وهز الجنرال رأسه وأجاب: لا حيلة لنا من عصابة الخناقين.
فابتسم روكامبول وأجابه: أصغ إلي فإني أستطيع أن أفعل كل ما أريد، وفي وسعي أن أترأس غدا عصابة تكون أشد هولا من عصابة الخناقين، فأمحو أثرها.
وأنت تسألني الآن من أنا، فاعلم أني رجل خلق للعراك الدائم في معترك هذه الحياة، ولي زعامة على الناس لم أنلها إلا بالثمن الغالي، فيخضع لي رجالي كما يخضع أولئك الهنود لإلهتهم كالي.
انظر إلي تراني لم أتجاوز الأربعين من عمري، ولكني لقيت من غرائب هذا الوجود ما لا يلقاه المعمرون حتى سئمت العيش، وثقلت علي الحياة وطلبت الراحة الأبدية في مياه السين، ولكن الموت أبى أن يمد يده إلي، وحسنا فعل إذ بقي ما أفعله في هذه الحياة.
وقد أنقذني من الموت عصابة من اللصوص، وعينتني زعيما لها، فرضيت هذه الزعامة لرجائي أن أصرف رجالها إلى الخير في مستقبل الأيام.
وإن بعض رجال هذه العصابة رأوا منزلكم المعتزل، فراقبوكم وتآمروا على سلبكم وقتلكم، وعلى ذلك فليست الصدفة وحدها التي قادتني إليكم، بل اضطراري إلى الدفاع عنكم، ومنع رجالي عن ارتكاب هذا الإثم، فلقيت عدوا آخر لكم أشد هولا، أي أولئك الهنود الذين حكموا عليكم بالإعدام، ولكن لا تجزعوا فإني أستطيع حمايتكما وحماية الطفلة.
فذعرت ناديا، وقالت: أية طفلة تعني؟ - بنتك يا سيدتي، فقد وضعتها في محل أمين.
فأجفل الجنرال وقال: كيف وصلت إليها ؟ - ألم تضعها عند امرأة عجوز مقيمة في شارع الدلتا؟ - نعم، وقد ذهبت إليها منذ ثمانية أيام، ورأيت الطفلة عندها. - ولكنها سرقت اليوم التالي لزيارتك. - ومن الذي اختطفها؟ - امرأة من اللصوص، ولكني عثرت بها، وأخذت الطفلة منها؛ لأن هذه المرأة خاضعة لي لحسن الحظ.
فصاحت ناديا تقول: رباه، إني أخشى أن تصاب بسوء. - اطمئني يا سيدتي، فسترد إليك سليمة آمنة من كل سوء بإذن الله، والآن فإني سأفارقكم هنيهة فلا تجزعوا؛ فإني سأرسل لكم حراسا بعد ساعة.
قال هذا وحاول الذهاب، فاعترضه الجنرال ومسكه بيديه، وقال: بالله قل لنا من أنت لنعرف اسم من أنقذ حياتنا على الأقل. - إنكم تجهلون اسمي إذا ذكر لكم. إني أدعى روكامبول، وحقيقة أمري أني كنت من كبار المجرمين وأنا الآن من التائبين، أستغفر الله عما مضى من ذنوبي بصالح الأعمال.
ثم تركهما وانصرف، فكان الجنرال وناديا ينظران إليه بذهول وإعجاب ...
15
كان اللصوص قد نفذوا أوامر روكامبول بالتدقيق، فحملوا الأسيرين المكبلين إلى القارب، وأقاموا ينتظرون عودته، فجعلوا يتحدثون بمهارة هذا الزعيم وشهرته الفائقة بلغة لم يفهمها الهنديان، ولكنهما كانا يسمعان اسم روكامبول يتردد كثيرا بينهم، فعلما أنه هو ذاك الذي رعبهما بلغته الهندية.
وطال حديثهم نحو ساعتين دون أن يعود روكامبول فاستبطئوه، وقال شانوان: لا بد أن يكون قد قتل الشيخ والصبية، ولا بد أن تكون كنوز هذا البيت كثيرة، فهو منهمك الآن بفتح الخزائن، واستخراج ما فيها من المخبآت.
ورد مورت: ولكن غيابه طال، وأخشى أن يكون قد أصيب بمكروه.
فقال مرميس: لا خطر عليه؛ فإنه أعظم من أن يناله أحد بسوء.
فرد شانوان: ولكنني أجد أمرا لا يزال شاغلا لبالي وهو النور الذي ينبعث من نافذة الدار، فإنه لم ينقل من موضعه من ساعتين، فلو كان الرئيس قضى مهمته، وقتل أصحاب البيت لاستعان بالنور على التفتيش، وعندي أنه يجب أن نبادر لمساعدته.
فوافقه مرميس، واعترضه مورت، فقال: ينبغي أن نحافظ على الأسيرين.
فرد شانوان: أنا أبقى للمحافظة عليهما وهما مكبلان، لا خوف منهما، وأما أنتما فاذهبا لمعاونة الرئيس.
فقال مورت: نعم، ولكن يجب علينا أن لا ننسى ما وعدنا به الرئيس من الطاعة المطلقة، ثم ألم نعده بأننا لا نتبعه، وأن ننتظره في القارب؟
فرد شانوان: هو الحق ما تقول، ولكني أخاف أن يكون أصيب بمكروه.
فرد مورت: طب نفسا فإن روكامبول لم ينل الشهرة عبثا.
وفيما هم يتحدثون بهذه الأحاديث سمعوا صفيرا بعيدا، هتف مرميس: هو ذا الرئيس قد عاد.
ثم سمعوا صفيرا آخر، فأيقنوا أنه روكامبول القادم إليهم، وبعد هنيهة وصل روكامبول فوثب إلى القارب، وهتف بمرميس: لا ترفع المرساة؛ لأننا سنتحدث قبل الرحيل.
سأله شانوان: ألم تقض المهمة؟
فابتسم روكامبول ابتساما معنويا وقال: ألم تقسموا لي يمين الطاعة؟
فأجاب الثلاثة بصوت واحد: نعم. - إذن لا زلت زعيمكم الذي تخدمونه بإخلاص، ولكني لا أكتفي بهذا الإخلاص، بل أريد أن تطيعوني طاعة عمياء لا حد لها دون أن تناقشوني فيما أصدره لكم من الأوامر.
فوقف الثلاثة، وقالوا بصوت واحد: إننا نقسم لك بمهنتنا على الوفاء. - إذن أصغوا إلي؛ إني صعدت إلى ذلك البيت بغية قتل أصحابه، ونهب ما فيه، ولكني بدلا من أن أجد قوما نسرقهم وجدت أصدقاء.
فانذهل اللصوص، وجعل كل منهم ينظر إلى الآخر، فقال روكامبول دون أن يحفل بنظراتهم: إن هؤلاء الأصدقاء يجب علينا حمايتهم، وصيانة منزلهم دون شك.
فاستاء شانوان ورد عليه ... إن هذا من الغرائب. - لهذا فقد عينتك للمهمة، اذهب إلى هذا البيت وقل للشيخ والصبية: إني آت من قبل الرئيس لحراستكم في الليل والنهار.
فرد عليه شانوان: إن الأمر غريب، ولكنه يكفي صدور أمرك، ولا يسعني إلا الطاعة.
وأدرك روكامبول استياء العصابة، فقال لهم: ألم تظهروا لي رغبتكم بالأمس أنكم أنفتم من السرقات الصغرى، وأنكم تحبون الأعمال الكبيرة؟
فعاد الرجاء إلى نفوسهم وقالوا: ... نعم. - إذن فاعلموا أن الفرصة قد حانت، وليس لي اليوم ما أزيد على ما قلته لكم، اذهب الآن يا شانوان ويا مورت، أما أنا فسأعود إليكم في الغد، والويل لمن يعصي أوامري.
فخرج شانوان ومورت من القارب ، وبينما هما يخرجان سأله مرميس ... وأنا أيها الرئيس ماذا ينبغي أن أفعل؟ - أنت يجب أن تبقى معي، ارفع المرساة وسر بنا.
فامتثل مرميس ودفع القارب، وسار في عرض النهر.
أما روكامبول، فقد دنا من الأسيرين المنطرحين في القارب، وقال لأوسمانا باللغة الهندية: ... إن الإلهة كالي قد تخلت عنك، والإله سيوا يأمرني أن أنتقم منك بالقتل ...
فلم يظهر أوسمانا شيئا من الخوف، ورد عليه: ما قدر يكون، وإن الإلهة ستكافئني خيرا في العالم الأخير.
أشهر روكامبول الخنجر على رفيقه كيرشي، وقال له: ... وأنت أتخضع لي إذا صفح عنك الإله سيوا؟
فأصر على العناد إلى أن أحس بوخز الخنجر، فقال: لا تفعل فسأتكلم ...
16
بعد ذلك بيومين كان رجال العصابة مجتمعين في تلك الخمارة التي جعلوها مركز اجتماعهم العام، وكانوا يتداولون بشأن روكامبول، واحتجاب شانوان ومورت عنهما؛ لأن مرميس كتم الأمر عنهم.
وفيما هما يتداولون أقبل واحد منهم، وأخبرهم أن شانوان ومورت قد اعتزلا المهنة، ودخلا في خدمة رجل عجوز، فكان أحدهما - وهو شانوان - سائق مركبة العجوز، والآخر خادما يجلس بإزاء السائق، فذهل اللصوص لهذا الخبر، وقالوا: لا بد أن يكون لهما وراء هذه الخدمة قصد خفي؛ فإن الخدمة لا تفضل مهنتنا.
ثم دخل مرميس فأبلغ العصابة أن الرئيس سيحضر قريبا، فطربوا جميعهم وصاحوا بصوت واحد: ليحي الرئيس؛ لأنهم كانوا يدعونه الرئيس بدلا من روكامبول حين رضوا بالإجماع أن يكون زعيمهم.
وعند ذلك أخبرهم مرميس أن روكامبول يعد مشروعا عظيما، وأنه يحتاج إلى كثير من رجال العصابة، ولكنه لا يستخدم منا غير الأكفاء القادرين.
وجعل كل يسأله بدوره إذا كان من المرشحين، فيجيب كل واحد منهم بما يرضيه.
ثم سأله نوتير إذا كان هذا المشروع سيتم في باريس أجاب: كلا، فإننا سنجتاز البحار.
فصاحوا جميعهم: إلى أين؟
ولكن مرميس لم يجبهم؛ لأنه لم يكن عارفا بشيء من مقاصد روكامبول، فجعلوا يتكهنون ويتنبئون وكلهم يتنبأ عن قصد، ويتكهن عن مشروع.
وفيما هم على ذلك إذ رأوا مركبة جميلة يجرها أربعة من جياد الخيل، وقد وقفت عند باب الخمارة، فاندهش الجميع.
وصاح نوتير: ارفعوا قبعاتكم، فهذا الرئيس قد حضر.
وعند ذلك دخل روكامبول، فاشتد ذهول اللصوص؛ لأنهم رأوا من زعيمهم ما لم يروه من قبل، ولم يخطر لهم في بال.
وقد كانوا رأوه حين انتشلوه من النهر بسيط الملابس، ولم يجدوا في جيوبه غير قليل من النقود، ثم ما لبث أن عاد إليهم بمركبة تجرها الجياد المطهمة وهو لابس ملابس الأمراء، وأزرار قميصه من الماس الفاخر، فضجوا جميعهم لما رأوه وصاحوا: ليحي روكامبول.
وعلا ضجيج استحسانهم حتى أسكتهم بإشارة، ووقف بينهم موقف الخطيب فقال: إن من عرفني بينكم يعلم أني لا أقدم إلا على الأعمال الخطيرة، وأما زعامة عصابة تسرق منزلا وحانوتا فذلك لا يقدم عليه غير أمثال باتير.
ثم تبسم ابتسام الاحتقار، وقال: إنكم كنتم في عهد رئاسة ذلك الرجل من أحقر اللصوص، فهل تريدون أن تكونوا في عهدي من بواسل الجنود؟
فصاحوا جميعهم: ليحي الرئيس.
فلما انتهى صياحهم قال لهم: ألم تسمعوا بعصابات لوندرا؟
فأجاب مرميس: نعم، وهي عصابات هائلة. - إني أريد أن أسود عليها، ولكنه يوجد في تلك العاصمة عصابة أشد هولا من كل عصابة يدعى رجالها خناقين، وأنا أريد محق هذه العصابة، فمن كان يثق بي فليتبعني، ومن كان خائفا فليبق في باريس.
فأجمعوا على الثقة به، وصاحوا جميعهم متحمسين: هلموا إلى لندرا.
وعند ذلك وقفت صاحبة الخمارة، وقد بدت عليها ملامح الخوف، فقالت: إنك ستقطع أيها الرئيس أسباب رزقي بسفر هذه العصابة؛ إذ لا أرتزق إلا من رجالها. - لا تخشي يا خالتاه، فإنني أحتاج إلى مراسلين في باريس، وستكون مكاسبك في غيابنا أكثر مما هي الآن.
ثم أخرج كيسا من جيبه، وأفرغ ما فيه على الطاولة، فذهل اللصوص لأنهم رأوا فيه قطعا من النحاس عليها نمر مختلفة، فقال لهم روكامبول: أصغوا إلي الآن، فإني مسافر إلى لندرا في هذه الليلة نفسها لأعد فيها المعدات؛ ولذلك لا أستطيع أن أجعلكم تسافرون معي، ولست محتاجا إليكم إلا بعد ثمانية أيام.
فليأخذ كل واحد منكم نمرة من هذه النمر، وليذهب بها إلى شارع لافييت، وهناك ترون محلا مكتوبا على بابه بالحبر الأحمر «مكتب للمهاجرة»، ورجلا ضخم الجثة فيه يدعى ميلون، فكل من يعطيه هذه النمرة يدفع له ألف فرنك وتذكرة سفر وجوازا إلى لندرا.
ولا تنسوا أنه يجب بعد ثمانية أيام أن تكونوا جميعكم في لندرا.
فسأله نوتير: أين الملتقى هناك؟ - يوجد في لندرا شارع كثير السكان، يصل إليه المسافر بعد أن يجتاز جسر واترلو.
وفي هذا الشارع محل يدعى واينغ، وفيه خمارة تدعى «الملك جورج»، فإذا وصلتم ادخلوا إلى هذه الخمارة؛ فإن صاحبها من رجالي، وهو يخبركم أين تجدونني.
ثم جعل يفرق النمر، فكانوا يأخذونها منه بلهف، وبعد أن أتم توزيعها خرج إلى المركبة التي جاء بها، وكان فيها امرأة حسناء استلفتت أنظار اللصوص، لكنهم كانوا ينظرون إليها باحترام؛ لأنها كانت مع زعيمهم.
كانت هذه المرأة فاندا، فأخذ روكامبول يدها، فأنزلها من المركبة، وجاء بها إلى أصحابه، فقال لهم: انظروا إلى هذه السيدة، وأمعنوا بها النظر، فأنا وإياها واحد في زعامتكم، ويجب أن تطيعوها كما تطيعونني.
ثم خرج بها إلى المركبة يخفرها أولئك اللصوص بين ضجيج الهتاف، فركب وإياها مودعين بالإشارة تلك العصابة.
وبعد حين كانت المركبة سائرة تنهب الأرض بجيادها المطهمة، فكان روكامبول يقول لها: لقد لقيت الآن خصوما أكفاء لنا، وسنرى ما يكون بيننا وبين أولئك الخناقين.
فطوقت فاندا عنقه بذراعيها قائلة: ألم أقل لك: إنه لا يحق لك أن تموت؟
17
مضى شهر على سفر روكامبول وفاندا من باريس، ففي إحدى الليالي كان بعض أشراف الإنكليز جالسين على مائدة في فندق أوبرج يتحدثون بعد الطعام.
كان حديثهم دائرا على مصارعة حدثت في النهار بين ديكين، فإن الإنكليز يحبون مصارعة الديوك، ويتراهنون عليها بالمبالغ الطائلة، فكان من حديثهم أن السير جورج ستوي خسر خسارة فادحة في هذا الرهان.
على أن حديث هذه المراهنة لم يكن قاصرا على أولئك الأشراف المجتمعين في ذلك الفندق، بل كان عاما تناولته جميع الألسن في منتديات لندرا ومجالسها الخاصة، ومراسحها العامة، ذلك ليس لجسامة الرهان على مصارعة الديكين، بل لأن الديكين كان أحدهما فرنسيا والآخر إنكليزيا، ولأن الفوز في المصارعة كان للديك الفرنسي.
ولهذا الرهان حديث طويل نورده بالإيجاز: هو أن أحد أشراف الفرنسيين قال أمام الإنكليز في كثير من منتدياتهم: إن لديه ديكا يغلب جميع ديوك إنكلترا.
وكان لدى السير جورج ستوي ديك عظيم يفتخر به، فراهنه على مصارعته فخسر الرهان، ثم تراهنا على مصارعة الكلاب، فقال جورج ستوي: إن لدي كلبا يقتل مئة فأر في مدة خمس دقائق، فرد الفرنسي: وأنا لدي كلب يقتل كلبك بأقل من هذه المدة.
فتوافق الاثنان على تجديد الرهان، وتعين مكان المصارعة في ذلك الفندق نفسه الذي كان يتحدث فيه أولئك الأشراف، فكان حديثهم قاصرا على ذلك الرجل الفرنسي الذي غلب ديكه أعظم ديوك إنكلترا، وجعلوا ينتظرون بفارغ الصبر موعد مصارعة الكلبين.
أما السير جورج ستوي فقد كان إنكليزيا، لكنه أسمر اللون؛ لأنه ولد في الهند، كان كبير الجثة قويا، أسود الشعر تدل ملامحه أنه يوجد دم هندي في عروقه ...
وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وافر الجمال جريء، لكن نظرات عينيه حين يغضب تشير إلى أن تمدنه لم يكن غير ستر رقيق يغطي الهمجية الكامنة في فؤاده كمون النار في الحجر.
كان كثير الغنى منهمكا في المقامرة، يحسن لعب السلاح، على الأخص إطلاق المسدسات، فقد كان من البارعين في هذا الفن.
فلما حانت الساعة العاشرة، وهي الساعة المعينة لمصارعة الكلبين أقبل السير جورج ستوي إلى الفندق ومعه كلب، وهو كلب هائل يتقد الشرر من عينيه: فقال لصاحب الفندق حين دخوله: يظهر أني أول القادمين.
فأجابه صاحب الفندق: كلا يا سيدي، فإن كثيرين من المراهنين مقيمون في القاعة، وإن خصمك أيضا موجود فيها مع كلبه.
فأسرع السير بكلبه إلى حيث كان الحضور، وهم نحو ثلاثين رجلا من نبلاء الإنكليز الذين يحملهم بطر الثروة على التفكه بمثل هذه الملاهي.
فأعد صاحب الفندق معدات المصارعة، ووضع في وسط القاعة صندوقا عظيما يبلغ اتساعه أربعة أمتار، فتقدم الرجل الفرنسي من الصندوق وهو يحمل كلبه بيده، فظهرت على مياسم الحاضرين علائم الاحتقار حين قارنوا بين الكلبين، فإنهم كانوا يعرفون بطش كلب السير جورج الهائل المنظر، أما كلب الفرنسي، فقد كان صغيرا مجعد الشعر، تدل عيناه على الذكاء والسلامة، وأنه خلق للجلوس في القاعات لا في صناديق المصارعات.
فلما دنا الفرنسي بكلبه من الصندوق دنا الإنكليزي أيضا فسلم عليه، لكنه لم يتمالك عن الابتسام حين نظر ذلك الكلب الصغير، فقال الإنكليزي بلهجة الإشفاق: إني أشفقت على كلبك الصغير حين نظرته، فإذا اعترفت أنك مغلوب قبلت حرصا على هذا الكلب الجميل.
فابتسم الفرنسي وقال له: إن كلبك جميل، وأنا أقترح عليك نفس الاقتراح. - إنك تمزح دون شك.
ثم حل عقال كلبه المتعود مثل هذا الصراع، فوثب مسرعا إلى الصندوق.
وعند ذلك أخد الفرنسي كلبه وألقاه بيده في ذلك الصندوق.
فاستقبله كلب الإنكليزي بعينين يتقد فيهما اللهب، وكشر عن أنيابه، وكان بين الحضور سيدة إرلندية، فحولت وجهها كي لا ترى ذلك المنظر الهائل؛ لاعتقادها أن الكلب الكبير سيخنق الصغير لأول وثبة.
18
على أن الرجال لم يؤثر بهم ذلك المنظر الوحشي كما أثر بالسيدة، فتهافتوا حول الصندوق ليروا ما يجري فيه ما خلا بعضهم، فإنهم كانوا ينظرون إلى الفرنسي، ويراقبون تأثيره، فلا يجدون غير آثار السكينة والاطمئنان.
وزمجر كلب الإنكليزي مرتين قبل الوثوب، فكان كلب الفرنسي نائما بعيدا ينظر إليه مطمئنا.
وبعد أن زمجر الكلب الكبير وثب فأطبقت الإرلندية عينيها.
أما الكلب الصغير فإنه هب من سكونه، فوثب بخفة القرود إلى ظهر الكلب الكبير، فامتطاه كما يمتطي القرد ظهر الحمار، وجفل ينهشه في عنقه، فيدور الكلب الكبير حول الصندوق والصغير فوق ظهره يعضه.
حتى إذا أعياه أمره انقلب إلى الأرض، فيثب الصغير من فوق ظهره، ويجري الاثنان في تلك المساحة الضيقة إلى أن يوشك الكبير أن يدرك الصغير، فيعيد الوثوب إلى ظهره، ويدمي عنقه نهشا وعضا.
وكان الكبير في أسوأ حال إذا فتح فكيه كي يعض خصمه لا يعض إلا الهواء، غير أن حالة صاحبه السير جورج كانت أشد، فقد امتقع لون وجهه، وبدا الغضب بين عينيه، فقال لخصمه الفرنسي: كان ينبغي أن تنذرني يا سيدي بأن كلبك من نسل القرود. - إنني أوافقك على إنهاء المصارعة متى أردت. - أتعترف أنك مغلوب؟
فابتسم الفرنسي وأجاب: كلا لم يحن الوقت بعد.
ثم نادى كلبه نداء خاصا فوثب بسرعة إلى ظهر الكلب الكبير، وغرس أنيابه في عنقه، فلما شعر بالألم انقلب على ظهره، فهرب الصغير، ثم عاد إلى الوثوب إلى ظهره وعضه، فجعل الكلب الإنكليزي يدور كحجر الرحى، وهو لا يعلم كيف ينجو من هذه الداهية التي أصابته.
فقال الفرنسي لجورج ستوي: ماذا ترى يا سيدي، أيجب إتمام المصارعة أم تكتفي بما جرى؟
فأجاب بصوت يتهدج من الغضب: بل أريد إتمامها إلى النهاية حتى يموت أحد الكلبين.
فنادى الفرنسي عند ذلك كلبه يحمسه بنداء خاص، والتفت إلى جورج ستوي قائلا له: إن كلبك سيموت بعد ثلاث دقائق.
أما كلب الفرنسي، فإنه ما أوشك أن سمع نداء صاحبه حتى غرس أنيابه في عنق الكلب الكبير وهو رابض فوق ظهره فتمكنت أنيابه كالكلاليب، فجحظت عينا ذلك الكلب، وظهرت عليه علائم النزع، وجعل يطوف على غير هدى في ساحة الصندوق، كل ذلك والكلب الصغير لا يتركه، والعيون ناظرة إلى هذا الصراع الهائل إلى أن سقط الكلب قتيلا، فقال الفرنسي لكلبه: كفى الآن ... وناداه فوثب إليه خارجا من الصندوق.
فجعل الإنكليز يصفقون بأيديهم إعجابا لفوز هذا الكلب غير مكترثين بمس عواطفهم الوطنية، وكان إعجاب الإرلندية فوق كل إعجاب، حتى إنها عرضت على الفرنسي أن تشتريه منه بمائة جنيه فأبى.
أما السير جورج ستوي، فقد بلغ منه الغضب مبلغا شديدا، حتى إنه خرج عن دائرة الصواب وقال للفرنسي: لا أظنك سعيدا مثل كلبك، فهل تحسن إطلاق الرصاص؟
فأجابه الفرنسي ببرود: إني أصيب الهدف عشر مرات متوالية، فتقع رصاصاتي بعضها فوق بعض. - إني أحب أن أرى ما تقول. - وأنا مستعد للبرهان على صدق قولي متى أردت ، فهل تحب نور الغاز؟ - لا أفهم ما تريد قوله. - أريد أن أقول إني أحب المبارزة على نور الغاز، وهذه الأنوار مضيئة.
فحاول بعض الحضور عند ذلك أن يتداخلوا، فمنعهم الفرنسي قائلا: دعونا أيها الأسياد وشأننا، فإن السير جورج ستوي يحتاج إلى أمثولة.
فرد عليه السير جورج: سنرى أينا أحوج إلى هذه الأمثولة، غير أن وقتي لا يسمح لي بالمبارزة هذه الليلة، فإذا أردت فاحضر غدا الساعة الثامنة إلى بيرمنجهام مع شاهديك. - حسنا ليكن ما تريده.
ثم حمل كلبه وخرج وحده من تلك القاعة والناس يعجبون بهذه النهاية السيئة التي ختم بها الرهان.
ثم خرج أيضا السير جورج، فلما وصل الفرنسي إلى باب الفندق وجد رجلا ضخم الجثة ينتظره، أخذ منه الكلب، وألبسه ثوبا طويلا مبطنا بالفرو.
فقال له الفرنسي: أين المركبة؟ - هي هنا في ردهة الفندق الخارجية. - إذن خذ الكلب إلى فاندا ... - وأنت أيها الرئيس ألا تذهب إليها؟ - ... كلا!
فأظهر الخادم شيئا من التردد، وجعل ينظر إلى سيده كأنه يريد أن يقول شيئا، فسأله الفرنسي وهو يضحك: ماذا أصابك، ولماذا تنظر إلي هذه النظرات؟ - ذلك يا سيدي ... لأني. - ماذا؟ - لأني خائف ... - وممن الخوف؟ - إني أخاف عليك حين أراك عازما على الطواف في الليل في شوارع لندرا. - لا تخف علي ... فإني أدخل إلى شارع وينغ لسببين: أحدهما: أنه لي شغل فيه، والثاني: لأني أدعى روكامبول.
ثم صرفه بإشارة ومضى كل إلى سبيله.
19
كل من زار مدينة لندرا يعلم أن نهارها ليل وليلها نهار، فإن الشمس تشرق على تلك العاصمة كما تشرق في كل الأرض، ولكنها لا تظهر عند إشراقها؛ لما يعترضها من الضباب الكثيف، فإذا دنت الساعة الثامنة من المساء أشرقت أنوار المصابيح في جميع الشوارع، فنابت عن شمس النهار.
والغريب أن السكان في تلك العاصمة يخرجون إلى النزهة في هايد بارك، وسانت جيمس عند منتصف الليل كما يتنزه الباريسيون في حديقة التولري عند الساعة الخامسة بعد الظهر.
وكان الليل قد انتصف حين خروج روكامبول من ذلك الفندق بعد انتهاء المصارعة ، فبعد أن ذهب ميلون إلى فاندا مشى روكامبول عدة خطوات، ثم وقف على الرصيف تحت مصباح من الغاز، وأخرج من جيبه نسخة من جريدة التيمس يقرأ فيها بالظاهر، غير أن عينيه كانتا ترقبان مدخل الفندق وذلك الشارع.
وبعد هنيهة شاهد رجلا يسير على الرصيف الآخر متجها إلى الفندق، فتنحنح روكامبول فوقف الرجل وتلفت يمينا وشمالا حتى رآه يقرأ التيمس فأسرع إليه.
فلما دنا منه قال له روكامبول بالإنكليزية: هل أحضرت المعدات يا نويل؟ - نعم. - إذن أسرع وأحضر لي مركبة وأنا هنا في انتظارك.
فذهب نويل وهو أحد رجال روكامبول القدماء، ولبث روكامبول واقفا على الرصيف يستر وجهه بجريدة التيمس وهو يراقب باب الفندق إلى أن رأى السير جورج ستوي خرج من الفندق، ومشى مسرعا، فبالغ روكامبول بالاحتجاب كي لا يراه، ومر السير جورج بقربه دون أن ينتبه إليه.
وعند ذلك عاد نويل بالمركبة فوثب روكامبول إليها، ودل السائق على جورج ستوي، ثم قال له: يجب أن تقتفي بنا أثر هذا الرجل، فإذا لم يحتجب عنا أعطيتك جنيها.
وقد عرف رجال هذه المهنة في بلاد الإنكليز بالتكتم، وعدم المبالات بمثل هذه المهمة، فهم يخدمون اللورد والبوليس واللص على السواء، ولا يبيحون بسر أحد منهم حتى إنهم لا يكترثون لهذه الأسرار، ولا يحاولون الاطلاع عليها.
فامتثل السائق وسار بمركبته على مسافة قريبة من السير جورج الذي كان يتقدمها مشيا على الأقدام.
وعند ذلك قال روكامبول لنويل: هات الآن ما لديك من معدات التنكر، واجلس أمامي.
فأخرج نويل من تحت ثوبه الكبير بنطلونا وقبعة ولحية وشاربين، فلبسهما روكامبول وتغيرت سحنته بحيث لو رآه السائق لما عرفه.
ظل السير جورج يسير والمركبة تسير في أثره حتى وقف عند باب المنزل، فأخرج مفتاحا من جيبه ففتح به الباب ودخل.
فنزل روكامبول من العربة، وأعطى سائقها جنيها، فعجب السائق لما رآه من التغيير، لكنه لم يكترث فذهب في سبيله، وتوجه روكامبول مع نويل إلى مكان قريب من المنزل، فوقفا فيه ينتظرون ظهور السير جورج.
فقال له روكامبول: أظن أننا قد أدركنا الغرض، الذي قدمنا من أجله.
فرد نويل معجبا: كيف ذلك أيمكن أن يكون صاحب الديك والكلب ذلك الرجل؟ - نعم، هو ذلك الرجل الذي أتينا من أجله إلى هذه العاصمة، فلننتظر الآن خروجه من البيت الذي دخل إليه.
وأقاما ينتظران نحو ساعة إلى أن فتح الباب، وخرج منه رجل لا يشبه السير جورج بشيء، وقد كان لابسا لبس أولئك البحارة الذين تغص بهم خمارات وينغ في الليل.
فابتسم روكامبول قائلا: يظهر أنه يحسن صناعة التنكر، فهلم بنا يا نويل في أثره.
يوجد في لندرا ناحية عظيمة تدعى وينغ اشتهرت بشر قومها وفساد أخلاقهم، حتى إن البوليس لا يدخل إليها.
مثال ذلك: أنه إذا طلب غريب إلى أحد أفراد البوليس أن يرشده إلى أحد الأماكن يسير معه حتى يصل إلى وينغ، فيرفع قبعته، ويعتذر عن مواصلة السير.
وذلك لأن هذه الناحية هي الناحية الوحيدة التي تضعف فيها الأنوار، ويكثر فيها تردد الأشرار، ويختلط فيها اللصوص مع الفجار، وقد جمعت كل المفاسد وأصحابها من لص خطاف، وبحار سكير، وإرلندية رقاصة، وإرلندي يسكر يطالب باستقلال بلاده.
وفوق ذلك فإن فريقا كبيرا من أولئك النور الرحل تمكنوا في تلك الناحية، وكثر عددهم، فكانت لهم السيادة التامة على سائر الذين يترددون إليها.
وإن الرجل الغريب أو الإنكليزي قد يستطيع انتياب هذه الناحية والخروج منها في النهار دون أن يصاب بمكروه، لكن يشترط أن يزرر ثوبه كي لا يختطفوا ساعته، وأن لا تكون بادية عليه آثار النعمة، أما في الليل فإن الخطر عليه شديد.
لقد ذهب السير جورج إلى هذه الناحية وهو متنكر بملابس البحارة وفي أثره روكامبول ونويل، حتى بلغ إلى خمارة هناك تدعى خمارة الملك جورج، فدخل ودخل الاثنان بعده.
كان صاحب هذه الخمارة يدعى كلكراف، وهو رجل هائل ضخم الجثة، وخمارته أشهر خمارات تلك الناحية، غير أنه لم يكن لصا، ولم يقف مرة أمام القضاة، ولم يسلب أحدا بارة.
لكنه كان شديد التساهل، لا يتداخل بشئون سواه، ويكره مداخلة الحكومة.
فإذا قتل أحد زبائنه في خمارته يحمل القتيل على كتفه ويطرحه في الشارع قائلا: إني لا أحب مداخلة الشرطة.
فلما دخل السير جورج جلس على مائدة، وطلب قدحا من الشراب، وجلس روكامبول ونويل على مائدة بالقرب منه، وكانت الخمارة غاصة بالشاربين وهم يتحدثون عن حادثة خطيرة.
فأصغى روكامبول لما يحكى، فسمع واحدا يخبر: إننا لسنا في الهند، لكنه يحدث عندنا حوادث لا تجري إلا تحت سماء كلكتا ومدراس.
فقالت إرلندية كانت تسمع الحديث: مسكينة جيبسي؛ فإنها لا تستحق ما حدث لها.
فقال بحار آخر: إني عندما رأيت جيبسي ترقص أول مرة، شعرت أن دمي يغلي في عروقي، وقلت في نفسي: إني أرضى بزواجها إذا رضيت بي زوجا، فلما عرضت عليها هذا الخاطر هزئت بي، فاضطررت أن أتناساها.
فقالت له الإرلندية: لم يكن ذلك إلا لحسن حظك.
وكأنما ذلك الحديث قد شغل خاطر السير جورج ستوي.
فقال له أحدهم: ألا تعرف جيبسي الرقاصة النورية، فقد أصابها شقاء جديد، فإنها لا تستطيع أن تتزوج؟ - كيف ذلك؟ - هو ذا الزوج السادس الذي تقدم لها في هذا العام، وهو شاب جميل حسن الأخلاق. - ماذا أصابه؟ - ما أصاب أزواجها الخمسة الآخرين، فقد قتل خنقا كما قتلوا، فجعلت تلك المسكينة تعض كفها من اليأس؛ لأنها وجدته ليلة الزفاف مخنوقا على باب منزلها.
فتبادل روكامبول نظرة سرية مع كالكراف صاحب الخمارة، وأخذت الإرلندية كأس شرابها، فشربت ما فيه وقالت: أصغوا إلي فسأحكي لكم قصة هذه النورية.
20
إن جيبسي كما تعلمون من قبائل النور، غير أنه ليس لديها من علائم هذا الشعب ما يدل على أنها منهم، والأرجح أن النور قد اختطفوها فربيت بينهم كما يقولون.
فرد أحد الحاضرين: قد تكون ابنة أحد اللوردات.
فقالت الإرلندية: ليس ذلك ببعيد؛ لأن جمالها وحركاتها، وكل ما بها يدل على أنها من أبناء النبلاء.
فقاطعها السير جورج قائلا: لنسمع حكاية عشاقها أو أزواجها.
فقالت الإرلندية: إن جيبسي تتردد على هذه الخمارة منذ ثمانية أعوام، وهي الآن في السادسة عشرة من عمرها، وقد كان لها رجل من النور يخفرها يدعي أنه أبوها، فلم يكن أحد يجسر أن يعتدي عليها.
وقد جاءها يوما رجل من الأشراف، وعرض عليها أن يشيد لها قصرا، ويشتري المركبات، ووعدها أجمل الوعود، فذهب أبوها إليه وقال له: إذا كنت تحب الحياة فارجع عن هذا القصد، فخاف الرجل، ولم يعد يذكر جيبسي بلسان.
فصبرت تلك الفتاة إلى أن مات الرجل الذي كان يزعم أنه أبوها، فأذاعت بين الرفاق أنها تميل إلى الزواج، فقال لها أهل القبيلة: اختاري من بيننا الفتى الذي تريدينه، فليس بين فتياننا من يأبى هذا الزواج.
فاختارت جيبسي فتى نوريا يعزف على العود، ويشتغل بمهنتها.
وطريقة النور بزواجهم تخالف طريقتنا، وهي مضحكة على بساطتها، فإنهم يجتمعون يوم الاحتفال بالزواج، ويحضرون إبريقا يضعون فيه شرابا خاصا وكأسين، ويأتون بالعروسين فيصب العريس شراب الإبريق بالكأسين، ويشرب مع عروسه، ثم يأخذ الاثنان ذلك الإبريق فيرفعانه فوق رأسيهما ويلقيانه إلى الأرض فيتحطم، وعند ذلك يصبحان زوجين شرعيين، وتنتهي حفلة الزواج بكسر الإبريق.
وقد تم زواج جيبسي بزوجها الأول في اليوم نفسه الذي اختارت فيه ذلك الزوج، فذهبوا بالعروس في موكب حافل إلى منزلها، وخرجوا بالعريس يطوفون به في جميع الخمارات حسب عاداتهم.
ولبث هذا الزوج المنكود في أسرهم إلى الساعة الثامنة من الصباح، فأطلقوا سراحه، فذهب إلى منزل امرأته فلم يتجاوز العتبة حتى أطلقت يد مجهولة حبلا من الحرير على عنقه، فازدرد الحبل ومات الزوج مخنوقا.
فهتف الحاضرون: قد سمعنا حادثة الزوج الأول، فقصي علينا حكاية الزوج الثاني.
قالت الإرلندية: وبعد ذلك بثلاثة أشهر أعلنت جيبسي أنها تريد أن تتزوج، فتقدم لها نوري آخر من القبيلة، وقال لها بحماسة: إني لا أخاف القتل، وسأكون زوجك، ولكنهم لم يمهلوها للاحتفال بهذا القران إذ وجد في نفس تلك الليلة ميتا في فراشه.
فلما انتشر هذا الخبر بين أفراد القبيلة ذعروا ذعرا شديدا، ولم يعد أحد يجسر على الزواج بجيبسي.
بعد مدة قصيرة وقفت جيبسي في هذه الخمارة بعد انتهائها من الرقص قائلة: إني أريد رجلا أتزوجه ليحميني، لكني لا أحب أحدا، وقد مات زوجي الأول، ثم خطيبي التالي ولم يقتلهما دون شك غير رجل يحبني ولا يريد أن يعرف، فإذا كان ذلك فليتقدم هذا الرجل ويمد يده إلى زواجي فإني أرضى به كيف كان.
وكان بين الحضور يهودي عجوز قبيح المنظر، لكنه من أهل الثروة، كان يحضر كل ليلة ليشاهد جيبسي عند رقصها لشدة ولعه لها، فادعى أنه هو ذلك الرجل الذي كان يغار عليها، وأنه هو الذي قتل زوجها وخطيبها، ثم مد لها يده.
فجزعت جيبسي لقبحه، وقالت له: قد رضيت بك زوجا على قبحك كي أفي بما وعدت.
في الليلة نفسها أصيب اليهودي بطعنة خنجر ذهبت بحياته.
فضج الحضور لهذه الحكاية، فأسكتتهم الإرلندية قائلة: اسمعوا حكاية الزوج الرابع.
فإنه حين يتفق مثل هذا الخطر يكثر المتحمسون من أولئك المجانين، أما يحسبون هذا الخطر صنع إنسان فيعتمدون على قوتهم، أو يحسبونه من صنع الاتفاق، فلا يكترثون للصدف والأقدار.
لذلك لم يمض أسبوعان على مقتل الزوج الثالث حتى أقبل بحار كان عائدا من أميركا، فلما سمع حكاية الفتاة ضرب بيده على هذه الطاولة التي نحن حولها الآن، وقال لجيبسي: إني لست من الذين يخافون، فهل ترضين أن تكوني امرأتي أيتها الفتاة؟
فرضيت الصبية، وتعين أن يكون موعد القران يوم السبت وهو لا يشتغل فيه النور، ويعتبرونه اعتبار الأعياد.
كان هذا البحار قويا شديدا، وفوق ذلك فقد كان له كثير من الأصدقاء بين رفاقه البحارة، فاتفقوا على حمايته من ذلك الخطر الخفي، والحرص عليه، وحراسته في الليل والنهار.
ولكن كل حرصهم ذهب سدى، فإنه وجد في اليوم الثاني غريقا في مياه النهر، ولا يعلم أحد إلى الآن كيف كان الغرق العجيب، وكيف اتفق قتل هذا المسكين.
وأما حكاية الزوج الخامس فهي قصيرة، وتفصيلها أن أحد أصحاب الحانات الشهيرة في جسر لوندرا علم أن جيبسي لا يخطبها شخص حتى يقتل.
وكان ضخم الجثة، شديد القوة كالثور، كثير العناد، فلما ذكرت أمامه حكايات هذه النورية قال: إني أقسم بالقديس جورج، حامي إنكلترا، أني سأعثر على هذه الفتاة وأتزوجها، وأعود بها إلى خمارتي فتقيم معي فيها.
فهتف أحد الشاربين عنده: متى عزمت على طلب الاقتران بها؟ - غدا دون شك.
ثم تفرق زبائن الخمارة، فأقفل بابها ونام فيها حسب عادته، وهو يحلم بجيبسي.
وفي اليوم التالي انتصف النهار والخمارة لا تزال مقفلة، وأقبل الليل وهي مقفلة أيضا، فأوجس جيرانه شرا، وطرقوا الباب فلم يجبهم أحد، فأبلغوا البوليس.
ثم أقبلت الشرطة فكسروا الباب، ودخلوا فلقوا المسكين ميتا في فراشه، وفي عنقه حبل من الحرير خنق به.
فضج الجمهور لهذه الغرائب، فلما سكنت غوغائهم استأنفت الإرلندية الحديث، فقالت: بقيت حكاية السادس، وهي مختصرة محزنة: فإن أحد عشاق جيبسي وهو فتى جميل في مقتبل الشاب دنا منها يوم أذيع موت الزواج الخامس، فقال لها: إني أحبك حبا لا حد له، وإذا لم تكوني امرأتي فإني مائت لا محالة، فهل ترضين بي بعلا؛ لأنه إذا لم يكن من الموت بد فإني أوثر موت الانتقام على موت الغرام.
فرضيت به الصبية، وكان من أمر خنقه في تلك الليلة نفسها ما تعلمون.
فعجب الحاضرون لهذه الحكاية الغريبة، وقال أحد البحارة: مسكينة هذه الفتاة، فقد قضي عليها بالبتولية إلى الأبد.
فلما تفوه بهذا الكلام وقف أحد الشاربين في تلك الخمارة، وقال: أصغوا إلي أيها الرفاق، إني لم أر هذه الفتاة التي تتكلمون عنها في حياتي، ولا أعلم إذا كانت على ما وصفتموها من الجمال، لكنها إذا كانت حسناء كما تقولون ورضيت هي أن أكون لها زوجا أرضى بهذا الزواج على ما فيه من الأخطار.
فاتجهت الأنظار إلى هذا الرجل الجريء الذي لم يشاهدوه قبل الآن، واضطرب كالكراف صاحب الخمارة، ونظر نويل إلى رئيسه نظرة تشف عن الرعب؛ لأن هذا الشخص الذي خطر في فكره هذا الخاطر الغريب لم يكن إلا روكامبول.
وبينما كان الحضور ينظرون نظرات الإعجاب والإشفاق على روكامبول الذي لم يروه أبدا غير هذه المرة في خمارة سانت جورج، إذ فتح الباب ودخلت منه فتاة فقالت: رضيت.
وكانت هذه الفتاة جيبسي نفسها، فمشت إلى روكامبول ومدت إليه يدها، فعاقدها بيده وهو مندهش لجمالها الفتان.
21
أدهشت جرأة روكامبول جميع الحاضرين، فلم يكد يتكلم ذلك الكلام حتى حامت حوله الأبصار، فجعلوا يتأملونه ويفحصونه وينتقدونه، بين مشفق عليه لما يتوقعونه له من سوء المصير، وبين معجب لإقدامه على زواج جيبسي بعد أن علم أنه محفوف بخطر الموت.
أما الإرلندية فكانت تقول: إنه من زمرة أولئك المجانين، ولا بد أن يموت كما ماتوا.
أما روكامبول فإنه قال لجيبسي: إني وعدتك أن أكون بعلك، وسأفي بوعدي.
فرفعت إليه عينيها النجلاوين قائلة: أنا مصدقة لما تقول.
كانت هذه الفتاة وافرة الجمال لا عيب فيها، كأنها خلقت كما اشتهت، وملامح السلام بادية بين عينيها، فكان مقامها بين هؤلاء الأشرار كمقام الملاك بين الأبالسة.
وكان روكامبول يتمعن في وجهها قائلا في نفسه: يستحيل أن تكون هذه الفتاة على ما وصفتها الإرلندية.
وكانت لابسة ثوبا قصيرا كما تلبس الراقصات النوريات في ذلك العهد، وهي شقراء الشعر، وقد عقصته فوق رأسها، وحملت بيدها دفا تنقر عليه حين الرقص.
فسألتها الإرلندية قائلة: أترقصين هذه الليلة أيضا؟
فأجابتها بلهجة تدل على الكآبة: إني أرقص اليوم كما رقصت أمس وكما أرقص غدا، ألا يجب أن أعيش؟
ثم نظرت إلى روكامبول، وقالت له بمظاهر الخضوع: إني لا أرقص إذا كنت لا تأذن لي؛ لأنك خطيبي الآن، ويجب علي طاعتك. - ارقصي، لكن بعد انتهاء الرقص تذهبين معي لنتفق في هذه الليلة على شروط الزواج. - كما تريد، إني لا أخالف لك أمرا.
ثم أخذت ترقص وتنقر بأناملها على الدف رقصا عجيبا أدهش الحضور، وحامت حولها الأنظار، وانصرفت إليها الخواطر، فبقيت كئوس الجعة ملأى لا يفطن أحد لشربها، وانطفأت نار الغلايين في أيديهم لانصرافهم عن التدخين إلى مشاهدة رقصها البديع.
فدنا نويل من روكامبول، وقال له همسا: إنك تعلم مبلغ ثقتي بك.
فأجابه ببرود: ماذا تعني؟ - أعني على فرط ثقتي بك خفت عليك هذه الليلة . - ومن أي شيء خفت؟ - من تعهدك بزواج هذه الفتاة، وما أظنك إلا كنت مازحا فيما قلت. - كلا، إني لا أعرف المزاح، وسأتزوجها دون شك. - ولكن ألم تسمع حديث الإرلندية؟
فهز روكامبول كتفيه وقال: دعني وشأني الآن إن لدي أمورا يجب أن أهتم بها أفضل من سماع هذيانك.
ثم تركه روكامبول وجعل ينظر إلى جيبسي وإلى السير جورج، فكان كلما نظر إلى السير جورج يجده أيضا ناظرا إليه.
كانت عينا السير جورج تتقدان حتى كان يحسب الناظر إليه أنه متدله بغرام تلك الراقصة، وأنه هو ذلك المنتقم الخفي من أزواجها الستة.
لبثت جيبسي ترقص رقصا متصلا نصف ساعة، حتى وهنت عزائمها، فكفت عن الرقص، فصفق الحضور لها تصفيقا شديدا، ما خلا السير جورج، فإنه كان ينظر من حين إلى حين إلى روكامبول نظرات ملؤها الحقد.
وكان نويل قد تنبه لنظراته فقال لروكامبول: إن هذا الرجل لا بد أن يكون قد عرفك، فإنه ينظر إليك نظر الحاقد عليك. - إن حقده طبيعي؛ لأني سأتزوج الفتاة. - إذا هو يهواها؟ - لا أعلم. - ألا تظن أنه هو الذي ...
فقاطعه روكامبول وقد نفد صبره قائلا: اسكت ولا تحدثني الآن إلا إذا حدثتك.
بعد أن فرغت الراقصة من الرقص، أخذت دفها بيدها، وطافت به على الحاضرين، فكانت قطع النقود تتساقط كالمطر في هذا الدف، حتى إذا أتمت تطوافها عادت إلى روكامبول، وقالت له: إني خاضعة لأمرك يا سيدي. - إذا لنذهب.
ثم همس في أذن نويل قائلا: ستجدني غدا عند فاندا.
فذهل نويل وقال: ألا تصحبني معك؟ - كلا! وهذا الرجل تذهب في أثره متى خرج، وتراقبه أتم المراقبة، فإذا عاد إلى منزله اذهب إلى فاندا، وإذا ذهب إلى غير محله اكمن له في الطرقات، ولا تفارقه حتى يشرق الصباح.
فانحنى نويل ممتثلا لاعتقاده أن الجدال مستحيل.
أما روكامبول فأمسك ذارع جيبسي، وقال لها وهو يبتسم: ودعي الرفاق أيتها الحبيبة.
فعلت ضوضاء بين الحضور ممتزجة بين الانذهال والإعجاب، فصاح أحد البحارة: إنه لا شك من البواسل.
فقالت الإرلندية: ولكن سيصاب بما أصيب به أمثاله من أزواج هذه المشئومة!
فسمعها روكامبول فأجابها: سوف ترين ما يكون.
ثم أخذ جيبسي، وخرج بها خروج الفائز في معركة.
لما بلغا إلى الطريق، قالت له بصوت يضطرب: إلى أين نحن ذاهبان؟ - أين تقيمين؟ - في بيت قرب شابل. - أتقيمين وحدك في هذا البيت؟ - نعم. - إذا لنذهب إلى منزلك، فنتحدث فيه. - ولكن يجب أن أخبر زعماء القبيلة بأمرنا. - بأمر زواجنا؟ - نعم.
فطمأنها بنظرة قائلا: ستخبرينهم بعد أن نتحدث، وأعاهدك على أن أنام على عتبة غرفتك. - أحق ما تقوله؟ - أقسم لك أجل الأقسام.
فنظرت إليه باضطراب قائلة: كلا لا أريد. - لماذا؟ - لا أريد أن تكون زوجي. - لماذا؟ - لأنك ستصاب بما أصيب به سواك.
فابتسم روكامبول وقال: أتصدقين أنت هذه الأقوال؟ - نعم، وفوق ذلك فإني أرى بين عينيك ملامح البسالة والشرف، فلا أحب أن أخدعك كما خدعت الآخرين.
فنظر إليها روكامبول مستفهما؛ فاضطربت وقالت: كلا لا أستطيع أن أبوح بحرف؛ لأنه سر يتوقف عليه موتي.
فقال لها بلهجة السيادة: هلم بنا إلى منزلك.
فاضطربت الفتاة اضطرابا شديدا، وقالت: كلا ... ليس لي منزل ... إني أفضل الموت على أن أخدعك ... فاذهب بي إلى حيث تشاء، غير هذا المنزل. - إذا ليكن ما تريدين. وسار بها إلى جسر لندرا.
22
إن الناحية التي كانت تقيم فيها جيبسي تدعى وايت شابل، وهي أشر من ناحية وينغ، وأكثر منها فسادا.
وكان المنزل الذي تقيم فيه جيبسي أضيق منازل تلك الناحية، وأشدها ظلاما.
غير أن هذه الفتاة كانت تطهر تلك الناحية من أدرانها حين تمر بها، فإن الأشرار كانت تحن نفوسهم حين يرونها، فلا ينظرون إليها إلا نظرات تشف عن الاحترام؛ لما يرون عليها من ملامح السلامة، ومظاهر الأدب والعفاف.
كان منزلها في الدور الأعلى لرخص أجرته، ولم يكن فيه من الأثاث غير صندوق وسرير وكرسيين ومرآة صغيرة معلقة على الجدار.
غير أن خطيبها منذ ساعة وزوجها في الغد - أي روكامبول - كان يحسب أنه مقيم في قصر معها، وهي جالسة على الكرسي، وهو واقف أمامها ينظر إليها بملء الإشفاق والحنان .
وكانت راضية بالرجوع معه إلى منزلها بعد أن حادثها مليا عند جسر لندرا حيث ذهبا في البدء.
ويظهر أن الثقة قد تبودلت بينهما؛ لأن روكامبول كان واقفا أمامها وقد نزع لحيته المستعارة، وبرقع وجهه الذي كان يتنكر به، فظهر للفتاة وجه جميل بدأت الأيام تحط بين ثناياه آثار معارك الحياة، ونقشت على جبينه أحرف من السويداء.
أما جيبسي فكانت تتفرس بوجهه معجبة به، وقد قالت له ببساطة: إنك جميل يا سيدي، وكل ما أراه بك من نعومة يديك، وسلام نظراتك، وحنو ألفاظك، وجمال ملابسك كل ذلك يشير إلى أنك من الأشراف، وأنك لست من زبائن خمارة سانت جورج.
فابتسم روكامبول وجعل يحادثها بحديث أزواجها الستة، فظهرت ملامح الاضطراب على محيا الفتاة، وقالت له بلسان يتلعثم من الوجل: إنك لم تعلم يا سيدي مقدار شقائي لرثيت لحالي.
وأدمعت عيناها، فسقطت دمعة على يده.
فتأثر روكامبول، وقال لها بلهجة الحنو: إنك عجبت لنعومة يدي وحسن ملابسي؟ - نعم، ولا أزال أعجب إذ لا يمكن أن تكون من زمرة أولئك الذين يترددون على تلك الخمارة. - ذلك لا ريب فيه. - إذا لماذا أتيت إلى وينغ؟ - لأني أذهب إلى كل مكان يحتاج فيه المظلومون إلى مساعدتي.
فصاحت صيحة دهش وفرح، كأنما ذكرت أمورا هائلة تروعها، وقالت: أنت تحميني؟
فحاول روكامبول أن يأخذ بيدها غير أنها امتنعت كأنما قد رجعت إلى عزمها السابق، وقالت: كلا إني لا أريد أن تحبني.
فابتسم روكامبول ابتساما يشف عن قصده باكتشاف سرها، وقال لها: لماذا لا تريدين؟ - لأنك جميل ... لأن ظواهرك تدل على الصلاح، لأن ... ثم أرخت عينيها وقالت: لأن الحب يجلب الحب وأنا ... - وأنا ماذا؟ أتخشين أن تحبيني؟ - كلا لأني لا أستطيع أن أحبك. - إذا أنت تحبين سواي.
فنظرت إليه الفتاة نظرة لا يستطيع قلم أن يصفها، وقالت: إني لا أعلم من أنت، ولا أعرف اسمك، فقد تكون رجلا من عامة الناس، وقد تكون لوردا من النبلاء، ولكن نظراتك لا أستطيع أن أقابلها بعيني، وظواهر إخلاصك دفعتني إلى الثقة بك ، والركون إليك. - حسنا فعلت. - أتعلم لو أني بحث لسواك بما سأبوح به إليك الآن لحكم علي بالموت. - لا يوجد هنا من يسمعنا، ولست من الذين يبوحون بالأسرار، فقولي. - إذا اعلم أني أحب. - وهذا الرجل ألا خطر عليه من حبك؟ - كلا، وإن الله يعاقبني لأني مذنبة، فإني منذ عامين أطلب قرينا، وأنا أعلم يقينا أنه لا يمكن أن أتزوج، ولكني كنت أرتكب هذه الجريمة الشائنة كي أحول الأنظار عمن أحبه، وأقيه شرهم. - شر من تعنين، ومن هم الذين يريدون السوء لحبيبك؟ - هم قوم يضطهدونني منذ نشأت، وقد حكموا علي أن أبقى بتولا ما حييت. - من هم أولئك الناس أتعرفين أسماءهم؟! - هم أولئك الذين يلقبونهم بالخناقين.
فارتعش روكامبول وقال في نفسه: لم يخطئ ظني، فقد خطر لي هذا الخاطر.
وعند ذلك رفعت جيبسي عن كتفيها وشاحا كانت متشحة به حين خروجها من الخمارة، وانحنت قليلا كي تضعه على الصندوق، وكان روكامبول واقفا، فرأى بين كتفيها وشوما تشبه تلك الوشوم التي رآها على كتف الفتاة التي اختطفتها شيفيوت، أي بنت ناديا، وعلم أن هذه المسكينة ضحية من ضحايا الإلهة كالي.
فقال لها: لقد رأيت الوشوم بين كتفيك وأنا أعلم أسرارها، فهل تريدين أن أدافع عنك وأحميك من ظلم هؤلاء الخناقين؟ - أتستطيع أن تحميني؟ - إني أقدر على كل ما أريد، ولكن يجب أن تخبريني بكل شيء، فقولي لي أين ولدت؟ - لا أعلم، ولكني أرجح أني ولدت في الهند. - أنت من جماعة النور؟ - كلا، فقد كنت أحسب أني منهم زمنا طويلا، ثم عرفت أن عائلتي التي لم أوفق لمعرفتها إلى الآن قد عهدت بي إلى أولئك النور لإخفائي عن الخناقين دون شك. - من قال لك هذا القول؟ - النوري الشيخ الذي رباني.
ثم وضعت يدها فوق جبينها وقالت: أواه إن لدي أمورا هائلة يجب أن أقصها عليك.
فأخذ روكامبول يدها بين يديه، وقال لها: قولي يا ابنتي كل شيء ولا تخافي.
واستأنفت جيبسي الحديث، فقالت: إن منتهى ما أتذكره من أمور حداثتي أني نشأت بين النور ، وكان يتولى أمري رجل اسمه فارو، وكان يقول إنه أبي.
لكني كنت أرى نفسي شقراء بيضاء البشرة خلافا لأولئك النور، فإنهم سود الشعر، سمر الوجوه، حتى إن لون بشرتهم يشبه لون النحاس، فكنت أعجب من هذا التباين، وأشكك في قول أبي.
وأنت تعلم أنهم لا يكسبون رزقهم إلا بشق النفس، فإن بعضهم يرقصون، وبعضهم ينجمون، وآخرون يسرقون، ومنهم من يحترفون كل هذه المهن في وقت واحد.
أما فارو الذي كان يدعي أنه أبي فقد كان أغنى رجال القبيلة.
وأذكر من ذلك أنه حين كانت القبيلة تحتاج إلى شيء من المال لشأن خطير من شئونها يسألونه ذلك المال، فيمهلهم هنيهة، ثم يعود إليهم بما طلبوه بعد أن يذهب إلى أجمل شارع في لندرا.
ولما تجاوزت سن الحداثة جعلت أفتكر بهذه الأموال السرية التي يأتي بها فلا أعلم مصادرها.
وقد قلت له مرة: إننا يا أبي من فقراء الناس ننام أحيانا تحت السماء، وإذا أوينا إلى منزل كان من شر المنازل، وفي أقذر الشوارع، فكيف يتسنى لك الحصول على المال حينما تريد؟
فنظر إلي نظرة إنذار، وقال: ذلك لا يعنيك ...
فسألت من كان يميل إلي من أهل القبيلة، فكان بعضهم يجهلون، وبعضهم يتجاهلون ويسكتون.
غير أن أحد النساء قالت لي: إنك إذا أردت أن تعرفي مصدر هذه الثروة، فاقتفي أثره حين يخرج من المنزل.
وكان عمري في ذلك العهد 13 عاما، ولم أكن أخاف أمرا، فقلت لهذه المرأة: لقد أصبت وسأعمل بما أشرت به إلي.
وكنا نسكن في هذا البيت الذي تراني فيه الآن ولنا فيه سريران، أحدهما لأبي، والآخر لي، فأنام مع فامو في غرفة واحدة.
ولم يكن يفارقني لحظة، فإذا ذهبت إلى الرقص ذهب معي، وإذا ذهبت إلى الحفلات التي يعقدها النور كان معي، غير أنه كان إذا عدنا إلى المنزل أقفل علي باب الغرفة بالمفتاح، وذهب فلا يعود إلا عند الصباح.
وقد لاحظت مرات كثيرة أنه لم يفارقني إلا حين قرب حلول الأعياد المسيحية كالفصح والميلاد وغيرهما من الأعياد الكبرى ، فكنت أقيم وحدي وكان هو يذهب مطمئنا؛ لأن المفتاح في جيبه، ولا سبيل إلى الخروج.
غير أنه كان يوجد منفذ إلى الخارج لم يخطر في بال.
ثم أخذت يد روكامبول وسارت به إلى آخر الغرفة، فأرته نافذة مرتفعة فيها، وقالت له: انظر إلى هذه النافذة فإنها منفتحة وليس بينها وبين السطح غير مسافة نصف متر، فإذا أتيت منها إلى السطح نزلت من سلمه إلى باب المنزل الكبير، فخرجت منه إلى الشارع دون أن يراني أحد.
وفي ليلة عيد الميلاد ذهب بي ذلك الذي كنت أحسبه أبي إلى مطعم فأكلنا فيه وشربنا خمرا، وهذا لم يكن يفعله إلا في مثل هذا العيد، ثم عاد بي عند منتصف الليل إلى منزلنا فخلع ثيابه ونام فاقتديت به، وذهبت إلى سريري، فتناومت فيه وهو يحسبني نائمة.
وبعد ساعة هب من فراشه ولبس ثيابه دون أن يبدي حركة تدعو إلى انتباهي، ثم خرج من تلك الغرفة بعد أن أقفل بابها حسب المعتاد.
فأسرعت في الحال إلى ثياب بحار كنت اشتريتها بالسر بغية التنكر بها، فلبستها وخرجت من النافذة إلى السطح، ونزلت من السطح إلى باب المنزل الكبير، فخرجت منه إلى الشارع.
وكان فارو قد سبقني، ولكني كنت أعرف عاداته، فإنه كان يقف قبل ذهابه في خمارة فيشرب شيئا من المسكر، ثم يمضي في شأنه.
فأسرعت إلى تلك الخمارة فوجدته لا يزال فيها ...
كان الظلام حالكا، فوقفت قرب باب تلك الخمارة أترقب خروجه منها إلى أن خرج، فجعل يخطو خطوات سريعة.
غير أني كنت أسرع منه في المشي، فكنت تارة أتقدمه، وطورا أمشي خلفه كي لا يفطن أني أقتفي أثره وهو يراني ولا يشتبه بأمري لكثرة انتشار البحارة في تلك الأماكن.
وما زال يندفع في سيره وأنا أقفوه حتى وصل إلى هاي مركب، فوقف عند بيت جميل تتقدمه حديقة كان بابها مفتوحا.
كان البيت في وسط الحديقة، فطرق الباب وفي الحال فتح الباب وبرزت منه امرأة وافرة الجمال، لكنها كانت صفراء الوجه تبدو عليها ملامح التعب والكدر.
كانت أشعة المصباح الذي بيدها تظهر وجهها، فما تأملت وجهها الصبوح حتى شعرت بميل نفسي إليها.
ثم دخل فارو إلى المنزل وأغلق الباب وراءه، فدفعني الفضول إلى كشف السر ودخلت إلى الحديقة.
وهنا توقفت جيبسي عن قص حكايتها، فنظرت إلى روكامبول قائلة: يجب أن أقص عليك جميع هذه الأمور كي تعلم حكايتي الهائلة. - تكلمي يا ابنتي، فإني أصغي إليك.
فاستأنفت الحديث وقالت ...
23
العادة في لندرا أن يشتد البرد في ليالي الشتاء غير أن تلك الليلة كانت أشبه بليالي الصيف لا مطر فيها ولا عواصف.
فلما أقفل الباب بعد أن دخل فارو رأيت نور المصباح من خلال النوافذ يتنقل من مكان إلى آخر حتى استقر في غرفة تشرف نافذتها على الحديقة.
فدنوت من تلك النافذة دون أن يشعر بي أحد، ورأيت فارو واقفا وقفة الاحترام أمام مرأة كانت جالسة قرب المستوقد.
كانت هذه الغرفة جميلة الرياش تشبه القصور، وكانت تلك السيدة تنظر نظرة تشف عن الحزن إلى فارو، وتقول له: لقد قلت إنها باتت كبيرة وجميلة. - نعم، وهي تشبهك كثيرا.
جالت الدموع في عينيها، وقالت: أريد أن أراها. - احذري يا سيدتي أن تعودي إلى مثل هذا القصد، ألا تعلمين الخطر الذي ينتج عن اجتماعكما؟
فأظهرت حركة تدل على نفاد صبرها ويأسها، وقالت: إني أم وأحب أن أرى ابنتي ... - ليس من ينكر هذه العواطف يا سيدتي، ولكنك تعلمين أنه إذا ذهبت سيدة مثلك إلى ناحية ويت شابل فلا يمكن إلا أن يقفى أثرها.
أخذت يد فارو وقالت له بلهجة المتوسل: ابحث لي طريقة أستطيع بها أن أرى ابنتي ساعة واحدة، وليقتلوني بعد ذلك، فإني لا أبالي بالموت، ابحث أيها الصديق لعلك تجد طريقة تمهد لي السبيل إلى رؤيتها ولو لحظة.
فتأمل فارو هنيهة، ثم قال: لدي طريقة يا سيدتي، ولكن لا أجسر على أن أدلك عليها. - لماذا؟ - لأنك قد تهيج بك عواطف الحنو عندما ترينها، فتصيحين صيحة، أو تقولين كلمة تفضحنا.
غير أنها لم تحفل بهذا التحذير، وقالت له بلهجة السيادة : تكلم فإني أريد أن أعرف.
فتردد فارو أيضا، ولكنه لم يسعه بعد ذلك إلا الامتثال حين رآها قد غيرت لهجتها، وصارت تأمره، فقال لها: غدا يتفق عيد الميلاد.
وفي مثل هذا اليوم يسرح النور في شوارع لندرا، ويدخلون المنازل، فبعضهم يرقصون وبعضهم يغنون، وبعضهم يستكشفون الغيب، فيحسن عليهم الناس، ويكثر التجمهر حولهم دون حذر.
فإذا شئت أتيت غدا بجيبسي إلى ويت هال فترقص في الحديقة في الساعة الثانية بعد الظهر بحيث إذا مررت بمركبتك في تلك الساعة ترينها، ولكن لا ينبغي أن تطيلي الوقوف حذرا من الرقباء.
ففرحت السيدة فرحا لا يوصف، وأخذت يد فارو وضغطت عليها إشارة إلى الامتنان، ثم أخذت كيسا مملوءا دنانير أعطته إياه، وقالت: هذا لك، ونزعت من زندها سوارا من الذهب الخالص، وقالت: وهذا لها ...
فقالت الفتاة: ثم رأيت فارو يتحفز للقيام، فأسرعت وخرجت من الحديقة، وأنا أبكي بكاء مرا؛ لأن تلك المرأة كانت أمي.
وجعلت أركض أجتاز الشوارع إلى منزلنا حذرا من أن يسبقني فارو إليه حتى بلغت المنزل قبله، فصعدت إلى السطح ونزلت منه إلى النافذة، ودخلت منه إلى الغرفة.
ولما عاد الرجل الذي طالما حسبته أبي رآني نائمة في سريري، ولكن قلبي كان يدق دقات عظيمة توشك أن تسمع.
ولم أنم تلك الليلة لشدة شوقي إلى الغد، وقد رأيت الليل أطول من ليالي عشاق العرب، حتى إذا أشرق الصباح وصحا فارو من رقاده قال لي: ابحثي يا ابنتي في كيسك عساك تجدين فيه شيئا يروق لك.
فلما رأيت ذلك السوار الذهبي تظاهرت بالفرح العظيم، فقال لي فارو: ربما كانت الملكة أرسلت لك السوار.
فتظاهرت بالدهشة أيضا وقلت له: لماذا ترسل لي الملكة هذه الهدية؟ - كي ترقصي اليوم في ويت هال.
فلبست السوار وقلت: حسنا فسأذهب وأرقص أبدع رقص.
وفي الساعة الثانية من ذلك اليوم جمع فارو بعض النور وذهب بنا جميعا إلى ويت هال، فازدحم الناس من حولنا، وكان الفرسان والجنود والبحارة وجميع من حضر إلى تلك الحديقة يقفون كي يتفرجوا على رقصي.
فكنت أرقص وأنا أنظر إليهم، وأراقب المركبات باحثة فيها عن أمي.
وبعد حين سمع الناس فجأة صيحة استلفتت أنظارهم، ووقعت في قلبي وقع السهم، فتوقفت عن الرقص.
ثم رأيت الناس يزدحمون حول المركبات، ويبتعدون وبعد ذلك جعلوا يتفرقون وعليهم مظاهر الاكتئاب كأنما قد حدث مصاب.
وكان النور رفاقي منذهلين أيضا، فجعلوا يسألون عما حدث ما خلا فارو، فإنه كان مقطب الحاجبين ساكتا لا يتكلم، ولا يظهر عليه شيء من ملامح الاندهاش.
وما زالت تفاصيل الحادثة تنتقل من فم إلى فم حتى وصلت إلينا، فعلمنا أن إحدى السيدات كانت تنظر إلى رقصي فصاحت صيحة عظيمة، وسقطت مغميا عليها في مركبتها.
وكانت هذه السيدة تدعى اللادي بسفورت، وهي من أجمل وأغنى نساء الإنكليز، وكان أبوها من قبل حاكما عاما في الهند الإنكليزية.
وقد هاج فضول الناس؛ لأنهم لم يدركوا السبب في إغماءة هذه السيدة.
أما فارو فإنه كان يحاول إبعادي عن هذا المكان، فأخذ بيدي وقال لرفاقنا: هلموا بنا إلى وينغ نشرب ويسكي.
فذهبنا جميعنا، ولكن لم نكد نبلغ وينغ حتى زادت عصابتنا رجلا آخر وهو ذو لون نحاسي قدمه لنا فارو كواحد منا فإنه كان يلبس ملابسنا، ويتكلم بلغتنا، وقد قال إنه من النور النازلين في أيكوسيا.
فاستقبله رفاقنا استقبالا حسنا، لا سيما أنه كان وحده ولا مورد له للارتزاق، فسار معنا هذا الرجل إلى خمارة سانت جورج.
وكان ينظر إلي بانتباه عظيم، وقد سألني مرة في خلال الحديث عن اسمي، فقلت له: إنك تعرف اسمي كما أعرفه، فسكت ولم يجب.
وكنت غير مكترثة به خلافا لفارو، فقد كان يظهر أنه يريد أن يسكر إلى أن يفقد رشده.
فلما افترقنا وعدنا إلى البيت كان فارو سكران لا يعي، وهو أمر لم يكن يتفق له من قبل.
وكان النوري الجديد يرافقنا، فلم يفترق عنا إلا حين وصلنا إلى البيت، فصعد فارو السلم وأنا أمسكه؛ لأنه كان يوشك أن يسقط لفرط سكره.
فلما وصلنا إلى غرفتنا انطرح على سريره وهو لا يعي من السكر ونام نوما عميقا، فخطر لي فجأة خاطر سريع، فنزعت ملابسي، ولبست ملابس البحار التي تنكرت بها في الليلة السابقة، وقد قلت في نفسي: إن فارو لا يمكن أن يصحو من سكرته قبل عدة ساعات.
ثم صعدت إلى تلك النافذة، وذهبت بغية أن أرى أمي.
فلما وصلت إلى الشارع جعلت أسير سيرا مستعجلا حتى إني كنت أركض، فلم أنتبه إلى ذلك النوري الجديد الذي كان يقتفي أثري دون أن أراه.
24
وصلت إلى هاي ماركت، ووجدت في الحال ذلك المنزل الذي تتقدمه الحديقة.
وكانت نافذة الغرفة مفتوحة، والنور ينبعث منها كالليلة السابقة.
فدنوت على مهل، ونظرت إلى تلك الغرفة فرأيت اللادي بلسنفورت جالسة قرب المستوقد كما كانت جالسة بالأمس وهي حاملة رأسها بين يديها تنظر إلى الأرض مفكرة مهمومة.
فجعلت أتأمل ملامحها وأنا أكاد أذوب حنوا، ثم رأيتها قد رفعت رأسها فجأة، فنظرت الدمع يتساقط من عينيها، وسمعتها تقول: رباه، ما هذا الشقاء؟ أأكون أنا من أعظم سراة الإنكليز، وتكون ابنتي من الراقصات؟! ويلاه إن هذا شديد لا يطاق!
فلما سمعت هذه الكلمات المؤثرة، ورأيت تساقط دموعها لم أستطع ضبط نفسي، فوثبت إلى النافذة وهبطت منها إلى الغرفة، فركعت أمامها وقلت لها: هو ذا ابنتك يا أمي.
وكانت قبعتي قد سقطت عن رأسي، فانتشرت ضفائر شعري على كتفي، فعرفتني للحال بالرغم عن تنكري بملابس الرجال، وصاحت صيحة فرح لا توصف، ثم ضمتني بين ذراعيها، وقالت: أيتها التعيسة، ماذا فعلت؟ أتريدين أن تكوني السبب في هلاكنا؟
ولكنها لم تلبث أن نسيت ما يتهددنا من الأخطار بعد أن ضمتني إلى صدرها، جعلت تعانقني وهي تضحك وتبكي في حين واحد.
وبعد ذلك عادت إلى التنبه والاحتياطات، فأحكمت إغلاق باب الغرفة من الداخل.
وأقفلت النوافذ المشرفة على الحديقة، وأطفأت المصباح، فبت وإياها في تلك الحجرة في الظلام الحالك.
وهنا جعلت تقبلني وتقول: نعم، إنك ابنتي المحبوبة، وليس من يعلم ذلك غير فارو، فإذا وجدوك هنا حكم علي بالموت لا محالة.
فذهلت لقولها وقلت: لماذا يا أمي؟
تنهدت قائلة: هذا سر لا أستطيع أن أبوح لك به، ثم تابعت بعد سكوت قصير، كيف أتيت، ومن أين دخلت، وكيف عرفت أني أمك؟
فاعترفت لها عند ذلك بكل شيء.
ولما أتممت حكايتي لها تنهدت تنهدا طويلا، وقالت: وا أسفاه إنك حكمت علي بالقتل دون أن تريدي؛ لأنك لا تعرفين شيئا من أسراري، لكني لا أكترث للموت بعد هذا اللقاء.
ثم عادت إلى ضمي وعناقي، فكانت دموعها تتساقط على وجهي.
وفيما نحن على ذلك سمعنا حركة خفيفة، فصاحت أمي وقالت: إننا لسنا وحدنا في الحجرة.
وفي الوقت نفسه رأيت خيالا أشد سوادا من الظلام الذي يكتنفنا يدنو منا، ثم شعرت بأنفاسه فوق صدري.
وبعد هنيهة سمعت أمي تصيح صياح النزع بصوت مختنق.
ثم انقطع الصوت، فلم أكن أسمع حسا، ولا أشعر بتلك الأنفاس التي كانت تحرقني، وابتعد الشبح الأسود، ثم شعرت أن يدي أمي التي كانت تعانقني بهما قد تراختا، وأنها لم تعد تبدي حركة.
وجزعت جزعا شديدا، وجعلت أصيح وأستغيث بأصوات ملؤها الذعر.
وتسارع الخدم إلي حين سمعوا صياحي، ودخلوا وبيد أحدهم مصباح، فرأيت أمي عند ذلك منطرحة على الأرض وفي عنقها حبل من الحرير خنقتها به يد خفيفة أثيمة.
ومع ذلك فقد كانت لا تزال تتنفس، وكانت عيناها مصوبتين إلي بحنو لا أستطيع وصفه، وبعد أن ودعتني هذا الوداع الأخير أطبقت عينيها.
وجاء بعد أولئك الخدم صبية رأيتها أكبت على جسم اللادي بلسنفورت وهي تقول: أمي.
وعلمت أنها أختي، غير أني لم أشعر بعاطفة ميل إليها كما شعرت حين رأيت أمي لأول مرة.
وكانت هذه الفتاة تنظر إلي بملء الدهشة والاستغراب؛ لأنها كانت تراني امرأة بملابس الرجال، وكانت تراني أبكي، وعلى وجهي ملامح اليأس الشديد أمام جثة أمها، في حين أن جميع القرائن تدل على أني أنا القاتلة.
ولما رأيت هذه النظرات إلي، ورأيتهم أرسلوا يستدعون الشرطة خشيت أن يتهموني بقتلها، فحملني الخوف والحزن على الهرب، فاغتنمت فرصة اضطرابهم وهربت ...
وبعد عدة دقائق كنت في شوارع لندرا هائمة على وجهي كالحمامة أصابها سهم الصياد، لا تعلم كيف تستقر.
وهمت زمنا طويلا وأنا لا أعلم أين أذهب إلى أن رأيت نفسي في المنزل دون أن أسعى إليه سعيا مقصودا.
وكان النهار قد طلع وصحا فارو فلم يجدني، وبحث عني في كل مكان ثم عاد إلى المنزل وقد أجهده البحث، فوجدني فيه، وعند ذلك أكببت على عنقه أبلل وجهه بدموعي، واعترفت له بكل ما مضى.
ونظر إلي نظرة تعرب عن كآبة لا حد لها، وقال: أيتها التعيسة، إنك كنت السبب في قتل أمك.
وكاد تقريع الضمير يقتلني، وعلمت أن هذا الرجل الذي ادعى أنه من النور، وشرب معنا وصحبنا إلى منزلنا هو الذي خنق أمي.
وهنا سكتت جيبسي ومسحت دموعها، فأخذ روكامبول يدها وقال لها: إني لا أعلم بقية حكايتك، ولكني أعرفها بالتقدير، فإنك خلقت في الهند حين كان أبوك اللورد بلسنفورت حاكما عاما فيها، وإن الخناقين قد وشموك؛ لأن هذه الوشوم على ظهرك تدل على أنك ضحية للإلهة كالي، وأنه يجب عليك أن تبقي بتولا طول العمر، فإذا تزوجت حكم عليك بالقتل.
أما أمك فقد أرادت وقايتك من شر تلك الجمعية الهائلة، فتبنت فتاة جعلتها مكانك إخفاء لك.
فصاحت جيبسي عند ذلك: هو الحق ما تقول، فإن تلك الفتاة التي رأيتها في منزل أمي، لا يمكن أن تكون أختي؛ لأني لم أشعر بعاطفة حنو عليها حين رأيتها.
وعاد روكامبول إلى حديثه فقال: وإن الخناقين علموا بسر هذه الفتاة التي استبدلتها بك أمك، فقتلوا أمك. - لم يعد لدي شك بصحة ما تقول؛ لأن فارو حين حضرته الوفاة دعاني إليه، وقال لي: تذكري إذا تزوجت يقضى عليك بالموت إذ قدر لك أن تبقي بتولا. - وهل صدقت هذه النبوة؟ - إنك ترى كيف أنها صدقت، فقد كنت السبب في قتل ستة رجال.
فأخذ روكامبول يدها بيده، وقال لها بحنو: يجب يا ابنتي أن تخبريني بكل شيء. - ماذا تريد أن تعرف بعد؟ - إنك تحبين؟
فاضطرب وجهها وقالت: اسكت. - إن عاشقك يقتل وأنت تقتلين معه إذا لم أحميكما من الأعداء. - أنت تحمينا؟ - نعم ... - ألا تريد إذن أن تكون زوجي؟ - بالعكس.
وبينما هي تنظر إليه منذهلة لجهلها مقاصده، قال لها: لا بد أن تكوني مسيحية؛ لأنك ابنة اللادي بلسنفورت، وأنا أيضا مسيحي؛ أي إني لا أعتقد بصحة الزواج إلا إذا عقده الكاهن. - ماذا تعني بذلك؟ - أعني أن اصطلاح النور بزواجهم مضحك لا يعول عليه، وهو منحصر بشرب الزوجين من إبريق واحد، وكسر الإبريق بعد الشرب. - هو ما تقول ... - إذن أتريدين أن تكوني امرأتي على طريقة الزواج النوري؟ - ولكن. - لا تقطعي علي القول، فإني بهذه الوسيلة أحميك وأنام على عتبة بابك كما ينام الكلب الأمين، وأمنع الخناقين من الوصول إليك.
فعانقته جيبسي وقالت: إنك كريم، ومن رجال الصلاح، وسأكون كما تشاء.
25
ولندع الآن روكامبول مع جيبسي، ولنعد إلى نويل.
ويذكر القراء أن روكامبول عهد إلى نويل حين خرج من الخمارة مع جيبسي أن يراقب السير جورج.
أما السير جورج، فإنه حاول أن يبرح الخمارة بعد انصراف روكامبول، فتبعه نويل وكان ماهرا في التجسس، فإنه حسب أن السير جورج لا بد له من مبارحة الخمارة، فخرج منها قبله كي ينتظره في الشارع.
وكان نويل يحسن التكلم بالإنجليزية كأبنائها، ويقلد الإنكليز في جميع حركاتهم أتم التقليد.
فلم يكد يخرج من الخمارة حتى رأى رجلا يتأهب للدخول إليها.
وكانت ملابس هذا الرجل تشبه ملابس أولئك البحارة الذين يترددون على وينغ.
غير أن لون وجهه النحاسي وسواد عينيه، وتلك الحلقة الكبيرة التي كانت في أذنه كل ذلك كان يدل على أنه من أصل هندي.
فلما رآه نويل تمثل له أنه يعرفه، ولكنه لم يتذكره، فرأى أن يدخل في أثره إلى الخمارة عله يعرفه، ولا سيما وأن السير جورج لم يكن قد ذهب منها بعد.
فدخل الرجل إلى الخمارة فوقف على بابها هنيهة ينظر إلى الناس المحتشدين فيها، ثم ذهب إلى الطاولة التي كان جالسا عليها السير جورج.
أما نويل فإنه دخل في أثره، وذهب إلى كالكراف صاحب الخمارة، وهو من أتباع روكامبول كما تقدم، فسأله: أتعرف اللغة الهندية؟ - إني أعرفها أتم العرفان. - أرأيت هذا الرجل الذي دخل الآن؟ - نعم. - افحصه جيدا. - إني أعرف الرجل الذي جاء يبحث عنه. - وأنا أحب أن أعرف بماذا يتحدثان. - طب نفسا، وتعال نجلس حول تلك المائدة بقرب مائدتهما.
ثم ذهب كالكراف إلى الطاولة المجاورة لطاولة السير جورج بحجة أنه يريد قراءة جريدة الستندرد التي كانت عليها، وبعد حين جاء نويل وجلس معه.
وقد فتح كالكراف الجريدة وغطى وجهه بحيث لم يكن يراه السير جورج، ولا يعلم أنه كان مصغيا لحديثهما.
فكان السير يكلم رفيقه باللغة الهندية، وكان كالكراف يترجم همسا لنويل كل ما كان يسمعه من هذا الحديث، وهذه خلاصة حديثهما.
قال السير لرفيقه: أعدت من مهمتك يا أوسمانا؟ - نعم يا حضرة الرئيس. - متى رجعت؟ - هذه الليلة نفسها. - أنجحت في قضاء المهمة؟ - كلا يا مولاي.
فاتقدت عينا السير جورج ستوي، وقال: ويحك، أيها الشقي! ماذا تقول؟ - أقول الحقيقة يا مولاي. - ألعلك تمزج يا أوسمانا؟
فاضطرب أوسمانا، وقال: يا نور الشرق! إني لا أقول غير الحقيقة بحضرتك المقدسة. - إذا لم تجدهم؟ - كلا بل وجدتهم. - وإذا كنت قد وجدتهم، فكيف سلموا من قبضتك؟ - أيها النور! ذلك أن الإله سيوا يحارب الإلهة كالي.
فلما سمع السير جورج هذه الكلمات اهتز على كرسيه واصفر وجهه، وقال: كيف ذلك؟ - إن عباد الإله سيوا موجودون في فرنسا. - هذا مستحيل؛ لأنهم لم يبرحوا الهند. - إنك منخدع أيها النور.
وكانت لفظة النور ونور الشرق لقب السير ستوي.
فقال له السير: إذا قص علي أمرك، فماذا جرى لبجور؟ - إنه دخل خادما في منزل والد ناديا متنكرا باسم جواني. - أعرف ذلك الرجل، فقد عهدت إليه أن يدخلك مع كيرشي إلى ذلك البيت، فماذا جرى بعد ذلك؟ - إن بجور وافانا في الوقت المعين، وكان قد أعد كل شيء، فذهبنا جميعنا في ليلة مظلمة إلى البيت الذي يقيم فيه الجنرال وابنته.
كان بجور قد لاقانا إلى المحطة، فمشى أمامنا حتى كدنا نشرف على البيت، فقال لنا : انتظروا هنا في ظل الأشجار وأنا ذاهب في طريق آخر لأفتح لكما باب البيت، فإذا سمعتما صفيري فتقدما من الباب.
بعد حين سمعنا صفيره، فما تقدمنا خطوتين حتى عثرنا بحبل مشدود بين شجرتين، فسقطنا على الأرض.
وفي الوقت نفسه سمعت وقع أقدام كثيرة، وشعرت برجل قد انقض علي قائلا لي باللغة الهندية: إذا فهت بكلمة فأنت من الهالكين.
فاضطرب السير جورج وسأله: وبجور ماذا حدث له؟ - خنقوه. - وكيرشي؟ - خاننا. - والجنرال وابنته؟ - أنقذهما عباد الإله سيوا. - وأنت؟ - أبيت أن أبوح بالأسرار، فألقاني زعيم أبناء سيوا في نهر يشبه بعظمته نهر التاميز، وهم يدعونه السين. ولكني تمكنت من النجاة لمهارتي في السباحة.
فضرب السير جورج الطاولة بيده قائلا له بلهجة السيادة المطلقة: لقد حكمت على كيرشي، وسأنتقم منه باسم الإلهة كالي شر الانتقام، ويكون عبرة لسواه من الخائنين، وأما أنت فإذا عجزت أيضا عن قضاء المهمة التي سأعهد بها إليك فإنك موتا تموت.
فانحنى أوسمانا قائلا: مر يا مولاي أطع. - أريد أن تخنق رجلا جريئا تجاسر أن يخطب جيبسي النورية. - سأخنقه.
فقال نويل، عندما ترجم له كالكراف هذا الكلام: نعم، سيخنقه إذا أردنا.
انتهت المحادثة بين السير جورج وأوسمانا، فنادى السير جورج أحد خدم الخمارة ودفع له الحساب، فعلم نويل أنه عزم على الانصراف، فسبقه وتربص له في الشارع في مكان مظلم.
أما السير جورج، فإنه ذهب بعد هنيهة من الخمارة، وجعل يسير سيرا حثيثا، ونويل يتبعه دون أن يراه، حتى وصل إلى جسر لوندرا، فرأى مركبة، وحاول الركوب فيها، فتردد السائق عن قبوله لما رآه من قذارة ملابسه، غير أن السير جورج طمأنه وأراه النقود في جيبه؛ فرضي السائق أن يذهب به.
وعند ذلك كان نويل أدرك المركبة، فاختبأ بين دواليبها، وسارت بالسير جورج وهو لا يعلم أن نويل يتبعه.
26
ولم يكن لنويل أقل ريب، فقد ظهر له أن السير ستوي لم يتنكر بتلك الملابس إلا بغية الحضور إلى وينغ لمقابلة أوسمانا، وبعد أن قابله عاد إلى منزله كي يغير ملابسه .
وسارت المركبة حتى قربت من المنزل، فأوقفها السير ستوي على مسافة عشرين خطوة، وترجل منها، فدفع إلى السائق أجرته، ثم ذهب إلى المنزل، ففتح بابه بمفتاح كان معه، ودخل فأقفل الباب.
أما نويل فقد تخلص من المركبة، فرآه داخلا إلى المنزل، وأنه أقفل الباب من ورائه، فقال في نفسه: إن الرئيس قد أمرني أن أتبع هذا الرجل إلى الصباح، وربما كان هذا المنزل الذي دخل إليه منزله الخاص.
وعلى ذلك فإما أن يظهر منه بعد تغيير ملابسه، وإما أن يبقى في البيت فينام، فإذا ذهب أتبعه وإذا بقي بقيت إلى الصباح، ثم ذهبت إلى الرئيس عند فاندا.
قال هذا في نفسه، وذهب فجلس مطمئنا على صخر قرب البيت.
وأقام ربع ساعة، فسمع ساعات الكنائس تدق مؤذنة بحلول الساعة الثانية بعد منتصف الليل. وعند ذلك رأى مركبة قادمة لم يكن فيها أحد، فوقفت عند باب البيت، وسمع نويل سائقها يتململ ويتضجر.
فدنا منه قائلا له: أراك تتضجر من المهنة أيها الرفيق. - وكيف لا أتضجر لاضطراري إلى الانتظار في هذا الخلاء، والبرد يهز الأجسام.
سأله نويل بعد أن أوهمه أنه سائق مثله: ألعلك تنتظر أسيادك؟ - إني أنتظر شخصا من الأشراف يسكن في هذا البيت، وهو من كبار المقامرين، فأحضر إليه في كل ليلة في الساعة الثانية كي أذهب به إلى النادي.
وانتظار مثل هذا المقامر قد يروق لغيري من السائقين، أما أنا فإني أوثر النوم في مثل هذه الساعة على كل ربح.
فأجابه نويل: أما أنا أيها الرفيق، فإني أوثر الربح على كل نوم لا سيما وأني لا أشتغل منذ حين، فهل تشغلني الليلة مكانك؟
فنظر إليه السائق نظرة الفاحص، ثم سأله: أأنت خبير بالمهنة؟ - كيف لا أعرفها وأنا لا أشتغل بسواها؟ - عند من خدمت؟
فذكر له نويل جملة من أسماء الذين يؤجرون المركبات.
فسأله السائق: كم تريد أن أدفع لك مقابل شغلك عني الليلة؟ - شلنين. - إني أدفع لك الشلنين وأنام ليلة على الأقل كما ينام الناس؛ لأن هذا الشخص لا يترك النادي قبل الساعة الثامنة من الصباح، فخذ وشاحي فإنه يقيك من البرد، وتعال اجلس مكاني.
ففعل نويل، ثم أخذ من السائق الشلنين وسأله: أين أجدك غدا؛ لأرد لك المركبة؟ - سأحضر في الساعة الثامنة إلى ردهة النادي، فأراك فيها، ثم ودعه وانصرف.
وبعد ربع ساعة خرج السير ستوي من البيت، وقد خلع تنكره، ولبس خير الملابس، فصعد إلى المركبة دون أن ينتبه إلى السائق، وقال له: سر إلى النادي الهندي.
فامتثل نويل وسار به إلى ذلك النادي.
وقد ربح تلك الليلة أرباحا طائلة، ولبث في ذلك النادي إلى الساعة السابعة من الصباح، فجمع ما ربحه من الأوراق المالية، ورأى تململ الذين خسروا، فقال لهم: أسألكم المعذرة لأني مضطر إلى الذهاب في هذه الساعة على غير عادتي لمبارزة رجل فرنسي.
فسأله أحد الحضور: أهو الفرنسي صاحب الكلب؟ - نعم هو بعينه، ثم تركهم وذهب.
وكان نويل لا يزال ينتظره، فركب المركبة وقال له: سر بي مسرعا إلى البيت.
فقال نويل في نفسه: لقد خسر كل ما كان لديه وهو عائد لإحضار نقود.
ولكنه لما وصل إلى المنزل دخل إليه وعاد بعد هنيهة يحمل صندوقا طويلا وفيه سيفان، فقال نويل في نفسه: إنه ذاهب لمبارزة كما يظهر.
ولكنه لم يخطر في باله أن خصمه روكامبول.
27
إن المبارزة نادرة في إنكلترا؛ لأن الشخصين إذا اختصما وهاجت بهما عوامل الغضب شفيا غلهما بالملاكمة.
غير أن السير ستوي لم يكن إنكليزيا إلا بالظاهر، وكذلك خصمه فإنه فرنسي.
وفوق ذلك فقد كان يحول دون المبارزة مصاعب أخرى وهي انتشار البوليس في كل مكان بحيث كانت تتعذر المبارزة إلا في الضواحي، فيذهب المتبارون إليها بالسكة الحديدية.
وقد اتفق السير ستوي وركامبول على المبارزة في ودستوك، التي كان يقيم فيها كرومويل الشهير زعيم الثورة الإنكليزية، التي قتل فيها الملك شارل الأول.
وكان لهذه الناحية طريقان: إحداهما طريق برمنجهام يذهب إليها بالسكة الحديدية، ويلزم لها 10 دقائق، ومن يسير بالمركبة يقتضي له ساعة.
كان السير ستوي يكره ركوب السكة الحديدية، فقال لنويل : إني أريد الذهاب إلى ودستوك بأشد ما يمكن من السرعة، فإذا تمكنت من الوصول إليها بمدة ثلاثة أرباع الساعة كافأتك خير مكافأة.
فقال نويل في نفسه: لينتظر السائق الحقيقي قدر ما يشاء، وليفتش عني في كل مكان، فلا بد أن نلتقي.
ولما كان روكامبول أمره أن لا يفارق السير ستوي دفع الجياد، فانطلقت تمرق مروق السهم في شوارع لندرا حتى اجتازتها إلى الخلاء.
وكان نويل ينظر من حين إلى حين إلى داخل المركبة، فيرى السير جورج مطبق العينين وفي فمه سيكار يدخن به، فيستدل من هيئته أنه يفكر في هواجس عظيمة.
ولبث على هذه الحالة إلى أن اجتازت المركبة شوطا بعيدا في الخلاء، فهب من تفكره وفتح عينيه، وجعل ينظر نظرات سريعة متلفتا إلى يساره ويمينه كأنه يفحص الطريق ليعلم إلى أين وصل.
وبعد حين وصلت المركبة إلى ودستوك فأوقفها السائق قرب أشجار مكتظة في تلك الطريق، وترجل من المركبة بعدما أخرج منها سيفيه وغدارتيه.
فنظر في ساعته وقال لنويل: انظر إلى هذه البناية ذات القرميد الأحمر، فإنها محطة برمنجهام، وسيصل القطار إليها من لندن بعد خمس دقائق. اذهب وقف هناك بالمركبة؛ لأنه سوف يخرج من القطار خمسة أشخاص وهم خصمي وشاهداه وشاهداي، وحين خروجهم من القطار جئ بهم إلي؛ لأني بانتظارهم تحت هذه الأشجار.
فذهب نويل إلى المحطة، وبعد وصوله بهنيهة وصل القطار ونزل منه الأشخاص الخمسة الذين أشار إليهم السير ستوي.
فما نظر إليهم نويل حتى اضطرب وظن نفسه حالما؛ لأنه رأى روكامبول بين الخمسة، فلم يعلم أهو من الشهود أم هو الخصم.
وقد عرفه روكامبول فأشار له إشارة خفية.
وعند ذلك تقدم نويل من الخمسة، وأخبرهم أن السير ستوي ينتظرهم، وقد أمره أن يذهب بهم إليه.
فركبوا المركبة وساروا بها إلى حيث كان ينتظرهم السير ستوي، فحيى روكامبول خصمه، فرد له التحية بأحسن منها، غير أنه لم يلبث أن نظر إلى عيني روكامبول حتى اضطرب، وخطر له في الحال أنه رأى هاتين العينين في غير المكان الذي تصارع فيه الكلبان، لكنه لم يذكر ذلك، فكان ذلك التصور شبيها بحلم بعيد العهد.
أما روكامبول فقد كان متأنقا بملابسه خير تأنق على عادة الفرنسيين حين يذهبون إلى المبارزات.
ولكن السير ستوي عرف بعد التحقيق بروكامبول أنه هو ذلك البحار الذي ذهب أمس مع جيبسي من خمارة الملك جورج.
فقال روكامبول في نفسه: لقد عرفني دون شك.
ثم اتفق الشهود على شروط المبارزة، وجرى الاقتراع على اختيار السلاح، فأصابت القرعة روكامبول فاختار السيف.
وأخذ الاثنان يخلعان ثيابهما، فخالف السير ستوي القواعد المألوفة وأبقى رباط الرقبة بشكل يحول دون فتح قميصه، فلم يحفل الشهود بهذه المخالفة لقلة خبرتهم بقواعد المبارزات.
وقد علم روكامبول السبب الذي يمنعه عن كشف صدره فخالف خصمه، وفك أزرار قميصه بحيث يكشف صدره حين الحركة خلال المبارزة.
أما نويل فكان جالسا فوق كرسيه يتفرج وهو واثق من فوز روكامبول لوثوقه من براعته في قتال السيف.
وأمر أحد الشهود المتبارزين بالقتال، فاشتبك السيفان، وكان روكامبول هادئا يتبسم خلافا لخصمه فإنه كان شديد الاضطراب.
28
لا بد لنا قبل استيفاء حديث المبارزة من ذكر حادثة لها تأثير عظيم على هذا القتال.
يذكر القراء أن روكامبول بعد أن وضع الحراس على منزل الجنرال البولوني وابنته ناديا منذ بضعة أسابيع ذهب بالقارب مع مريس وفيه الأسيران الهنديان مكبلان بالقيود.
فلما توسط القارب ذلك النهر استل روكامبول خنجره وتهدد به أوسمانا بالقتل إذا لم يبح له بأسراره، ففضل الموت على الإباحة خلافا لكيرشي، فإنه خاف ورضي أن يبوح بكل شيء.
فحمل روكامبول أوسمانا وألقاه في النهر، ثم دنا من كيرشي وأعاد عليه الوعود.
أما كيرشي، فقد كان يعتقد أنه وقع في قبضة أعداء الخناقين الذين يلقبونهم بأبناء الإله سيوا.
فاعترف لروكامبول أنه من جمعية الخناقين في لندرا، وأنه خاضع لرئيس يدعى السير جورج ستوي وأنه هو نفسه قضي عليه أن يبقى عازبا كل عمره؛ لأنه موشوم برموز الإلهة كالي.
ثم ذكر له كل ما يعرفه من أسرار هذه الجمعية، وأخبره أن السير ستوي زعيم الجمعية من المتعصبين في عبادة الإلهة كالي، وأنه واسع الثروة ولديه في لندرا عصابة سرية من الخناقين، تلقي الرعب كل يوم في عاصمة الإنكليز، وأخبره أن السير ستوي لا يخشى الملك، ولا يرهب القضاء نفسه، لكنه يضطرب خوفا أمام أبناء الإله سيوا الذين لم يبرحوا الهند إلى الآن.
فخطر لروكامبول خاطر، رجا منه الفوز، وأحضر معه كيرشي إلى لندرا.
وقد تنكر كيرشي، وأقامه روكامبول مع فاندا في منزل واحد.
وفي تلك الليلة التي جرى فيها لروكامبول حادثة مصارعة الكلب وحادثة جيبسي، ترك الفتاة في منزل وذهب إلى فاندا.
وكان كيرشي نائما فأيقظه، فانذعر الهندي حين رأى الخنجر مشهرا بيده.
فقال له روكامبول: أصغ إلي فإنك كنت تحسبني إلى الآن من أبناء سيوا، ولكني لست منهم كما تتوهم، وما أنا من أبناء الهند، بل إن لي أسبابا خاصة سرية تدعوني إلى مقاومة الخناقين.
والآن اعلم يقينا أنك إذا لم تبح لي بكل ما سأسألك عنه فإني أقضي عليك بطعنة واحدة من هذا الخنجر.
فذعر كيرشي وقال له: ماذا تريد أن تعلم؟ - أريد أن أعرف إذا كان لأبناء سيوا علامات خاصة يمتازون بها في أجسامهم كما يمتاز أبناء كالي بوشومهم. - نعم، فإنهم عندما يكرسون الرجل لهذه الآلهة يشمون صدره وشما مؤلفا من رسم حية وعصفور بحبر أزرق لا يمحى. - أتستطيع أن ترسم هذه الرسوم؟ - دون شك. - إذا ابدأ بالعمل.
ثم أخذ روكامبول زجاجة من الحبر العادي الأزرق وقلما، وأعطاها للهندي، وكشف عن صدره قائلا: أسرع ما استطعت.
فرسم الهندي على صدر روكامبول حية وعصفورا، ثم قال له: يجب أن أوخز الرسم بدبوس حتى يسيل الدم، وأحرق فوقه نوعا من الرشاش، كي لا يمحى.
فأبى روكامبول قائلا: لا حاجة لي بذلك.
وبعد ذلك ببضع ساعات كان روكامبول يبارز السير ستوي، فشعر السير أنه يقارع خصما شديدا، فاضطرب واصفر وجهه.
ولكن اضطرابه واصفراره لم يلبثا أن زالا بعد هنيهة قصيرة، وتغلبت عليه عاطفة الحذر.
أما روكامبول فقد كان على نقيضه باسم الثغر منبسط النفس يبارز خصمه ويحادثه في وقت واحد.
وقد طعنه السير ستوي طعنة حاذقة، فخلا منها روكامبول، وقال له وهو يبتسم: لا أنكر أنك ماهر في فن المبارزة، ولكني أعرف هذه الفنون التي تبارزني بها.
وكان روكامبول مقتصرا إلى الآن على الدفاع، فقال لخصمه: ولكني أرى يمينك تضطرب على مهارتك في القتال، فاحذر وتشدد.
فحمل عليه عند ذلك السير جورج حملة منكرة وقد برقت عيناه حين علم أنه هو الذي سار مع جيبسي وطعنه طعنة هائلة.
غير أن الطعنة ذهبت في الهواء، فقال له روكامبول: احذر فقد أخطأت ولو شئت لاغتنمت فرصة خطئك وكنت الآن من الهالكين.
وفيما هو يتكلم هذا الكلام انكشف قميصه، فصاح السير ستوي صيحة رعب، ذلك أنه رأى رسم الحية والعصفور اللذين رسمهما كيرشي فوق صدر روكامبول.
وقد ذعر ذعرا شديدا حتى انكشف لروكامبول، فجرحه بسيفه جرحا خفيفا أسال بعض نقط من دمائه.
وعند ذلك خاطبه روكامبول باللغة الهندية: أما وقد عرفت الآن من أنا، كما اتضح لي من ذعرك، فاعلم أن عراكنا لا يجب أن يكون في هذا المكان.
فاضطرب السير جورح، ورأى الشهود قميصه ملوثة بالدماء، فتداخلوا بينهما وقالوا: كفى! لقد سلم الشرف بما أريق على جوانبه من الدم.
فأجابهم السير ستوي: كما تريدون.
وجعل ينظر إلى روكامبول نظرات ملؤها الرعب والانذعار.
29
ولندخل الآن إلى منزل فاندا في لندرا، فإن روكامبول أنزلها حين قدومها في فندق دنبورغ، وفي اليوم التالي استأجر لها منزلا في شارع سانت بول.
كانت فاندا تخفر كيرشي ليلا ونهارا في ذلك البيت.
أما الهندي فقد تمكن منه الرعب؛ لاعتقاده أن روكامبول من أبناء الإله سيوا؛ فباح له بجميع ما يعلمه من أسرار ستوي.
وكان روكامبول قد قال لفاندا: إني وعدت هذا الرجل بالإبقاء على حياته بحمايته من الخناقين؛ لشدة خوفه منهم بعد خيانته إياهم، ومع ذلك احرصي على مراقبته كل الحرص، واحذري أن يخرج خطوة من هذا المنزل.
وكان روكامبول واثقا من مقدرة فاندا على ما عهد به إليها، فذهب مطمئنا بعد أن وشمه الهندي، غير حاسب حسابا لكيرشي، وما يمكن أن يتنازعه من الأفكار.
أما الهندي فإنه كان شديد التمسك بدينه، ولهذه الديانة الهندية مبدآن، وهما: مبدأ الخير، ومبدأ الشر، ولهذين المبدأين إلهان: أحدهما الإله سيوا، والآخر الإلهة كالي.
وفي معتقد الهنود أن الناس جميعهم في قبضة هذين الإلهين، وأن الإلهين في معترك دائم، وأن الحرب سجال بينهما.
وقد قدم كيرشي من قلب الهند بمهمة دموية، فوجد في باريس قوما يتكلمون بلغته الهندية، ويتغلبون عليه فجأة، فأيقن أنهم من عباد الإله سيوا، وأن النصر لهذا الإله، فاعتقد بالتالي أن الإله سيوا أشد من الإلهة كالي؛ فخضع لروكامبول لاعتقاده أنه من عباد ذلك الإله.
وقد كان له في أسر روكامبول ثلاثة أسابيع يحاول في خلالها عقد الصلح مع الإله سيوا، والتدرج على الكفران بالإلهة كالي، إلى أن جاءه روكامبول قائلا له فجأة: «إني لا أعرف الإله سيوا، ولا عباده، وإني أقاتل الخناقين لأسباب خصوصية، ولكن من أغراضي أن أظهر بمظاهر أبناء سيوا، فإذا لم تشمني بوشوم عباده قتلتك بهذا الخنجر.»
فاضطر مكرها إلى إجابته حذرا من الموت، ولكنه لم يلبث أن سمع منه هذا التصريح حتى زالت أوهامه، وذهب خوفه من الإله سيوا، وعاد له تعصبه القديم للإلهة كالي، فلم يعد يخطر في باله غير الفرار والذهاب إلى السير ستوي، والاعتراف له بكل شيء.
وكان كيرشي يعلم أنه مخفور، وأن التي تتولى خفارته امرأة، ولكنه كان يعلم أيضا أن خديعة المرأة أصعب من خديعة الرجل.
وكانت مهنته ملاعبة الأفاعي، وهي مهنة كثيرة الشيوع بين الهنود، وكان يتعاطاها في مدينة مدراس قبل أن ترسله لجنة الخناقين من الهند إلى السير ستوي عميلها في لندرا.
وكان قد أحضر معه من مدراس صندوقا ملآن بالأفاعي المختلفة الألوان والأنواع، وهو يحبها حبا عظيما، بل هي الشيء الوحيد الذي كان يحبه بعد الإلهة كالي.
فلما أرسله السير ستوي من لندرا مع أوسمانا لخنق الجنرال وابنته أخذ معه بعض تلك الأحناش، وقد شاهدوه يلاعبها في باريس أمام المتفرجين، فتسرح على جسمه، وتلتف حول عنقه.
وعندما أسره روكامبول أراد أن يعرف أين يقيم، فذهب به إلى غرفة حقيرة كان يسكنها، ففتشها روكامبول فلم يجد فيها شيئا كما كان يرجو أن يجده، كأوراق ورسائل سرية وغيرها، بل وجد كيس الأحناش.
فحاول روكامبول أن يطرحها إلى النهر فجعل كيرشي يبكي ويتوسل إليه أن يبقيها له، فرضي وسمح له أن يأخذها معه إلى لندرا، فكان يداعبها للتسلية بها حين كان مسجونا في منزل فاندا.
وقد أذن له روكامبول بإحضارها معه بعد أن تأكد أنه لا يوجد بينها حية قاتلة، فكانت تلك الأفاعي تسعى في غرفته، فيبيت بعضها على الأرض، وبعضها حول عنقه وعلى صدره.
ولم يكن بين هذه الأفاعي غير حنش واحد يؤذي، وهو صغير أصفر اللون عليه نقط سوداء، إذا لسع المرء لا يشعر بألم، ولكنه ينام نوما عميقا.
وقد عقد كيرشي كل رجائه منذ خطر له الفرار على هذا الحنش.
وكانت فاندا كلما ذهب روكامبول لقضاء مهمة في لندرا أو في ناحية وينغ تضع سريرا في غرفة تتقدم غرفة كيرشي، ولم يكن للغرفتين غير مخرج واحد من غرفة فاندا، بحيث كان لا يستطيع كيرشي الخروج إلا إذا مر من فوق السرير.
ولم تنم فاندا تلك الليلة؛ لأنها كانت تنتظر روكامبول، فلما عاد إليها حضرت عملية الوشم، وكان الصباح قد طلع حين ذهب روكامبول لمبارزة السير ستوي.
فوضعت كرسيا عند مدخل غرفة كيرشي، وجلست عليها بحيث لا يستطيع الخروج من غرفته إلا إذا مر فوقها.
أما كيرشي فكان ملتحفا في سريره، ويوهم أنه نائم، ولكنه كان يكشف اللحاف عن رأسه من حين إلى آخر، وينظر إذا كانت فاندا قد نامت.
وكان النعاس يجاذب عيني فاندا، إلى أن تغلب عليهما فأطبقتهما، ولكن يدها كانت قابضة على المسدس، الذي كانت تنذر به كيرشي في الليل والنهار.
فلما أيقن الهندي أنها نائمة، أخرج ذلك الحنش الأصفر من الكيس، وأطلقه على فاندا، فزحف حتى وصل إليها فصعد إلى ركبتيها، ثم تغلغل بين طيات ثوبها .
30
ولنعد الآن إلى السير ستوي، فإن روكامبول ذهب مع شاهديه، وكان نويل لا يزال ينتظر في المركبة، فركب السير ستوي مع شاهديه، وأوصلهما إلى منزليهما، ثم أمر نويل أن يذهب به إلى منزله.
وكان مصفر الوجه، يضطرب اضطرابا شديدا بعد أن رأى تلك الوشوم على صدر روكامبول، وسمع لغته الهندية؛ فأصيب بما أصيب به كيرشي من الذعر يوم كلمه روكامبول بتلك اللغة، وجعل يقول في نفسه والمركبة سائرة به إلى منزله: إن سيوا قد انتصر، والإلهة كالي قد تخلت عنا.
فلما وصلت المركبة به إلى المنزل خرج منها وفتح باب البيت، فرأى نويل أن يده تضطرب، وسمعه يتنهد تنهدا عميقا.
فاجتاز السير جورج حديقة منزله بخطوات غير متوازنة لشدة اضطرابه حتى دخل إلى المنزل فرأى صينية من الفضة على طاولة وفوقها كتاب مختوم.
فأخذ الرسالة وتأمل بعنوانها، فرأى خطا لطيفا احمر له وجهه هنيهة؛ إذ علم أنه خط امرأة، ففض الرسالة، وقرأ ما يأتي:
سيدي العزيز
إننا لم نرك منذ يومين في هيد بارك، فماذا جرى لك؟ ألعلك نسيت أن أمي دعتك إلى شرب الشاي يوم الأحد أم أنت مريض؟
إن عمي اللورد شارنج في لندرا الآن، فاعترفت له بكل شيء وهو من أنصارنا، فاحضر إذن إلى هيد بارك؛ لأني سأتنزه في هذا البستان في الساعة الثانية.
حبيبتك
سيسيليا
فتنفس السير جورج تنفسا طويلا بعد تلاوة الرسالة، واتقدت عيناه، وظهر على وجهه علائم الرضا التام.
ولكن ذلك لم يطل فإن رسم روكامبول عاد فانطبع في ذاكرته وحل محل سيسيليا.
وكان هذا الرجل المتلبس بالمدنية قد خدع بجماله وبمدنيته الكاذبة تلك الفتاة الإنكليزية، ولكنه لم يحفل بها في تلك الساعة، ولم يخطر في باله غير مناجاة الإلهة كالي معبودته الوحيدة التي ظهر له أنها تخلت عنه في ذلك الحين، أو أن الإله سيوا قد انتصر عليها، وكان السير جورج ستوي يقيم وحده في منزله، فيأكل في النادي، ولم يكن لديه غير خادم واحد، كان لا يزال نائما حين عاد السير ستوي إلى المنزل.
فبعد أن قرأ الرسالة صعد إلى الدور الأول، وكان مؤلفا من غرفة للنوم، وغرفة للكتابة، وغرفة للبس، والرابعة مقفلة فلا يدخل إليها سواه، وكان مفتاحها دائما معه، وقد ربطه بسلسلة وعلقه في عنقه مبالغة في الحذر.
وكان النور يصل إلى هذه الغرفة من السقف كسائر الهياكل الهندية، وجدرانها الأربعة معلقا عليها قطع من القماش رسم فوقها رسوم غريبة، وفي كل زاوية قاعدة من الحديد عليها تمثال من النحاس يمثل إلها من آلهة الهنود.
وكانت أراضيها مفروشة بحصير عليها أيضا كثير من الرسوم الغريبة، وفي وسطها رسم فيل عظيم.
غير أن أغرب ما كان في هذه الغرفة المقدسة عند السير جورج بركة من الرخام الأبيض يصل الماء إلى حافتها، وفي وسط هذه المياه سمكة جميلة حمراء تسير ذهابا وإيابا في غور المياه، وتصعد إلى سطحها من حين إلى حين.
وقد كتب على أربع جدران البركة بحروف ذهبية باللغة الهندية ما يأتي:
أوسمانا ابن راجوت الذي ينتهي نسب أجداده إلى بيح أمير ابن ويشنو ضحى نفسه للإلهة كالي إلهتنا، ومات في مياه نهر كنج حين كان يجتازه سباحة لخنق صبيتين رغبت الإلهة كالي أن تصعد روحهما إليها.
وإن حفيده رتجب الذي يسميه الإنكليز السير جورج ستوي عكف على الصلاة والتوسل إلى إلهة كالي أن ترد إليه روح العابد النقي أوسمانا، فأجابت إليه، وأذنت لروح أوسمانا أن تقيم في جسم سمكة حمراء أخذت من نهر كنج المقدس، ووضعت في هذه البركة.
وكان من عادة السير جورج قبل أن يدخل إلى هذه الغرفة المقدسة ويناجي فيها روح أبيه الكامنة في السمكة أن يدخل إلى غرفة اللبس فيخلع جميع ملابسه، ويلبس كلسونا، ويتعمم بعمامة من الحرير الأبيض، ويبقى جميع جسده عاريا، ثم يدخل إلى الغرفة المقدسة فيركع فوق الحصير، وينعكف على الصلاة.
وبعد أن يفرغ من صلاته يدنو من بركة الرخام، وينظر إلى السمكة الحمراء ويناجيها ...
وقد دخل في ذلك اليوم بعد أن لبس ملابسه كما وصفناه، فصلى وقام إلى البركة فجلس على حافتها، ونظر إلى السمكة وهي كامنة في الغور، فقال يخاطبها: يا أبتي إني بحاجة إليك.
فلم تتحرك السمكة.
وعاد إلى مخاطبتها، وقال: أيتها الروح المجيدة، ألعلك طرت إلى الإلهة كالي تسألينها الأوامر التي يجب إصدارها إلى ولدك؟ فبقيت السمكة على حالها. - يا أبي، إن أبناء سيوا قد جاءوا إلى لندره يضطهدون عباد الإلهة كالي، فقل لي ماذا يجب أن أصنع؟
وعند ذلك وضع يده في ماء البركة للتبريك بها، فاهتزت المياه وصعدت السمكة الصغيرة إلى سطحها. - لقد علمت يقينا أيتها الروح المجيدة أنك تسمعين ندائي وتقبلين على مساعدتي، فقولي ماذا أصنع، أأهرب وأعود إلى الهند أم أواصل العراك؟
فسبحت السمكة ببطء متوانية؛ فاضطرب السير جورج حين رأى تثاقلها، وتابع بلهجة القانط: لقد عرفت ما تريدين أيتها الروح المجيدة، فإنك تعنين أن النصر للإله سيوا.
وعند ذلك غاصت السمكة في الغور، ولبثت جامدة لا تتحرك.
فاستدل من غوصها وسكونها أنها أجابته على سؤاله بما أيد ظنه، فضرب صدره، ولطم خديه وهو يقول: لقد انتصر سيوا.
ثم خرج من غرفته المقدسة بعد أن مزق صدره بأظافره ليأسه.
وفيما هو داخل إلى غرفة النوم سمع جرس باب المنزل يدق، فأسرع إلى النافذة كي يرى الطارق.
31
وكان الخادم نائما كما قدمناه، ولما سمع صوت الجرس هب منذعرا، وأسرع إلى الباب ففتحه.
أما السير جورج فقد كان واقفا وراء ستائر النافذة كي يرى الداخل دون أن يراه، فصاح صيحة غريبة حين رأى ذلك الزائر الذي قرع الباب؛ لأنه كان كيرشي، ذلك الخائن الذي خان الخناقين، وانضم إلى أبناء سيوا، كما أخبره أوسمانا.
فهاج غضب السير ستوي، وتغلب على يأسه، فأخذ مسدسا كان على المستوقد، وحاول أن يطلق النار على كيرشي من النافذة، ولكن كيرشي كان يجتاز الحديقة مسرعا.
ورأى السير ستوي على وجهه علائم السرور، وأعاد المسدس إلى مكانه، ووقف ينتظر.
وكان الخادم يحاول أن يمنع كيرشي عن الدخول، غير أن الهندي لم يكترث له، فدفعه ودخل دخول الواثق من حسن القبول ، وجعل يصعد سلم المنزل مسرعا.
حتى إذا وصل إلى غرفة السير جورج، ورآه لا يزال بملابس الصلاة ركع أمامه قائلا: أيها النور، إن حياتي لك تتصرف بها كيف تشاء باسم الإلهة كالي، ولكن أصغ إلي ...
فقال السير ستوي: يا غبار الأرض وحشرة القبور من أين أتيت؟ - إني كنت في قبضة الأعداء. - أي أعداء تعني ... أبناء سيوا؟
فضحك كيرشي، وقال: لا يوجد أبناء لسيوا في لندرا.
ورجع السير خطوة إلى الوراء وقال: كيف ذلك؟ - أصغ إلي أيها النور إلى النهاية تعلم أننا خدعنا أنا وأوسمانا. - ولكنك من الخائنين. - إن حياتي بين يديك، ودمي يكفر عن خيانتي، إنما يجب أن تعرف كل شيء قبل أن تقتلني. - تكلم ...
ولبث كيرشي راكعا، وقص على السير ستوي جميع ما عرفه من أوسمانا بشأن بعثة باريس، وكيف وقع الاثنان في قبضة رجل يتقن اللغة الهندية، وحسباه زعيم أبناء سيوا. - إذن هذا الرجل الذي بارزته منذ ساعة لم يكن من أبناء سيوا؟ - كلا أيها النور ... - ولكنني أراهن أنه منهم.
فابتسم كيرشي، وأخبره بما جرى له مع روكامبول، وأنه هو الذي وشم صدره رموز أبناء سيوا.
ففرح السير جورج فرحا لا يوصف، وقال له: إذن من هذا الرجل؟ - لم أعرفه ... - وماذا يريد منا؟ - لا أعلم ... - ولكني سأعرفه أنا؛ فإنه فرنسي بحت، أما وقد أيقنت الآن أنه ليس من أبناء سيوا فسوف يرى ماذا يكون بيننا.
ثم أخذ مسدسه فوضعه فوق صدغ كيرشي قائلا له: يا غبار الأرض، إنك خائن في كل حال، فصل إلى الإلهة كي تدع نفسك هائمة في الفضاء إلى الأبد؛ لأني حكمت عليك بالموت.
فلم يجزع كيرشي وقال: أيها النور، إن حياتي بين يديك، فافتكر قبل أن تقتلني. - بماذا؟ - بأني أنفعك في خصامك مع هذا الرجل.
فأرجع السير جورج مسدسه إلى مكانه، وقال له: قد تكون مصيبا فيما تقول، فقل لي الآن ماذا تعرف عن هذا الرجل؟ - لا أعرف منه غير اسمه. - ما هو اسمه؟ - روكامبول ... - أين يقيم؟ - في منزل أدلك عليه متى شئت. - كيف نجوت من أسره ؟ - بواسطة حنش أصفر. - أيقيم هذا الرجل وحده؟ - كلا، بل إنه يقيم مع امرأة شقراء تطيعه طاعة العبيد لمواليهم. - حسنا تعال معي، فإني أحب أن أستشير أبي.
وإنما أذن له بالدخول معه إلى غرفته المقدسة؛ لأنه مثله من عباد الإلهة كالي خلافا لخادمه؛ لأنه كان من الإنكليز.
ودخل السير جورج إلى الغرفة وتبعه كيرشي، ولكنه لم يلبث أن نظر إلى البركة حتى صاح صيحة فرح؛ لأنه وجد السمكة تسبح قرب سطح المياه بعظمة وجلال، فاتخذ ذلك دليلا على الفوز وقال: لا شك أن روح أوسمانا قد فرحت لهذا التغيير، فبدت السمكة بمظاهر الخيلاء.
وكان كيرشي راكعا أمام البركة بملء الخشوع، فدنا السير جورج من السمكة وقال: ماذا ترين يا روح أبي أأنتصر على هذا الفرنسي الذي يحاول إحباط ما أسعى إليه في خدمة الإلهة كالي؟
فسبحت السمكة كما كانت تسبح من قبل، وعلم أنها تجيبه بالإيجاب. - قل لي يا أبي أيجب أن أحرص دائما على عفاف جيبسي النورية؟
وغارت السمكة عند ذلك في الغور.
وتحمس السير جورج لهذا الجواب وقال: الويل إذن لمن يتعرض لهذه الفتاة بالزواج.
ثم خرج الاثنان من هذه الغرفة المقدسة، وقال السير ستوي للهندي: اذهب الآن في شأنك.
وسأله كيرشي: متى تريد أن أعود أيها النور لأتلقى أوامرك. - عد في هذا المساء إلى خمارة الملك جورج.
فانحنى كيرشي وانصرف، وخلع السير ستوي ملابسه المقدسة، ولبس رداء النوم، ثم كتب الرسالة الآتية:
إلى الآنسة الفاتنة مس سيسيليا
لم أنس شيئا، ولا أزال أعبد جمالك الفتان، وسأمتثل لأمرك، فأذهب في الساعة الثانية بعد ظهر اليوم إلى بستان سانت جيمس، وتفضلي بقبول فائق الاحترام من خادمك المطيع مدى الحياة.
جورج ستوي
ثم ختم الرسالة بختمه الخاص، وأرسلها مع خادمه الإنكليزي.
32
كانت مس سيسيليا التي علقت بشرك السير ستوي، فتاة غريبة الأطوار، لها فتنة النساء ونشاط الغلمان، تركب الجياد المطهمة، وتصافح الرجال في المنتزهات، ولها ثروة نادر أن تكون لسواها من أغنياء الإنكليز.
وكانت في ريعان الصبا لم تتجاوز تسعة عشر ربيعا، وهي بارعة الجمال تلقب بالسمراء لسواد شعرها.
وكان أبوها قائد بارجة إنكليزية قدمت حديثا من الهند الغربية، فكان يقيم في لندرا في عهد سياق هذا الحديث.
وكانت أمها تحبها حب عبادة وهي وحيدة أبويها، نشأت على الترف والدلال، وكانت تسمع الناس يقولون إنها لو جمعت أراضيها المتفرقة لبلغت مساحتها مساحة ولاية بجملتها، فجهرت بالقول منذ بلغت السادسة عشرة من عمرها أنها لا تتزوج إلا من تختاره، وتحن إليه نفسها.
فمر بها ثلاثة أعوام لم يبق في خلالها نبيل من أغنياء الإنكليز إلا خطب ودها، وطلب الاقتران بها، ولكنها رفضت جميع هذه المطالب حتى أدهشت الناس، وكثرت فيها الأقاويل.
وقد كانت ساحت في الشرق وإيطاليا، وتمرنت على ركوب الخيل ولعب السلاح والموسيقى والتصوير، وهو ما يندر إنفاقه عند الإنكليز.
وهي تقيم مع أمها في قصر لها في بيكاديللي، تحيط به حديقة غناء، غير أنه كان لهذا القصر مدخلان: أحدهما عام، والآخر خاص بالفتاة، حيث كان يزورها الناس من هذا المدخل، فتستقبلهم في المكان الذي أعدته للتصوير.
وقد اتفق أنها رأت يوما السير ستوي في سباق سكوت فجذبت الأسمر السمراء، واختلجت حين رأت ذلك الرجل الذي تدل هيئته على أنه من ذلك النسل الجديد الذي أنشأه الإنكليز في بلاد الهند، فتعرفت به على الفور.
وبعد ثلاثة أيام قالت لأمها بصراحة: لقد وجدت الزوج الذي أتمناه.
فأنكرت أمها عليها هذا الاختيار كل الإنكار، وأنفت من تزويج ابنتها برجل يجول في عروقه دم هندي، فقالت لها الفتاة ببرود: إن أبي سيوافق على هذا الزواج لأني أرضاه.
وكان أبوها في لندرا كما قدمناه، فخيب ظنها، وأيد رأي أمها، وحكم باستحالة هذا القران.
غير أن مس سيسيليا لم تيأس، ولم تعتبر نفسها مغلوبة، فقد كان لها عم يدعى اللورد سارتج وافر الثروة يحبها حبا غريبا، وقد جعلها وريثته الوحيدة، فكانت ترجو أن يكون لها خير نصير.
فذهبت إليه في اليوم الذي أرسلت رسالتها إلى السير ستوي، وقالت له: أرجوك يا عماه أن تحرمني من إرثك .
فذعر عمها، وقال لها: لماذا؟ - لأنهم لا يريدون أن يزوجوني بمن أهواه، فأرجوك أن تجعل هذا الإرث متعلقا على هذا الزفاف.
ثم حكت له عن حبها للسير ستوي بشكل ألان قلبه، وأثار عواطف حنوه، فوعدها أن يكون لها خير نصير، فعادت مطمئنة راضية، فكتبت إلى السير تلك الرسالة التي تقدم ذكرها.
وفي الساعة الثانية بعد ظهر اليوم المعين للقاء، اجتمع السير ستوي بالمس سيسيليا، فقالت له: إن أمها لا تزال تعارض زواجها به، لكن عمها قد ضغط على أبيها حتى أوشك أن يرضى.
فقبل السير ستوي يدها، وجعل ينظر إليها نظرات تشف عن التدله بالغرام.
فقالت له الفتاة: ليس هذا كل ما أرجوه، فقد وجدت أيضا نصيرا آخر وهو ابن خالي آرثر نويل، فإنه طلب أن يقترن بي فأبيت كما تعلم، ولكنه يحبني حب الإخاء حتى جعلته مستودع أسراري.
فلم يظهر ستوي اكتراثا للسير آرثر، وظل معها في تلك الحديقة يناجيها بأرق أحاديث الغرام، والناس من حولهما يعجبون لهذه الفتاة كيف استبدلت نبلاء الإنكليز بهذا الهندي.
إلى أن حانت ساعة الفراق فافترق العاشقان، وهي تقول له: إلى اللقاء في هذا المساء.
ثم انطلقت تنهب الأرض بجوادها، يسير وراءها خادمان على جوادين لحراستها.
فلما وصلت إلى المنزل وحاولت دخوله، رأت شابا قد تقدمها، فنادته قائلة: أهذا أنت يا آرثر؟
فحياها ابن خالها قائلا: كنت أخشى أن لا أجدك هنا. - إذا كنت لم تجدني في هذه الساعة، فإنك تجدني دون شك في ساعة العشاء. - نعم، ولكني أحب أن أراك قبل العشاء. - ماذا حدث؟ - حدث أنه يجب أن أحادثك الآن بشأن خطير، فهلمي بنا إلى مكان التصوير. - ولماذا لا ندخل إلى المنزل؟ - لأني لا أحب أن تسمع أمك حديثنا.
فذهلت الفتاة وحسبته مازحا، لكنها تبينت في وجهه ملامح الجد، فقالت له: إذا اتبعني.
ثم سارت أمامه حتى وصلت إلى معملها التصويري، فجلست على كرسي وقالت له: قل إني مصغية إليك.
فأغلق السير آرثر الباب، وجلس بقربها فقال: إن الناس يلهجون بك كثيرا يا سيسيليا حتى أصبحت مضغة في الأفواه في هذه الأيام. - ولماذا؟ - لأنك عازمة على الاقتران بالسير جورج ستوي.
فلم تكذب سيسيليا هذا الخبر، ولكن علائم الضجر ظهرت على وجهها كأنها كانت تقول له: وأي شأن لك بهذا الأمر؟
غير أن السير آرثر لم يكترث لما أبدته من الملل، فقال لها: يجب قبل التوغل في الحديث أن أعترف لك بأمر لا بد لي من الاعتراف به إليك. - لي أنا؟ - نعم، إني يئست منذ زمن بعيد من زواجك. - ولكننا لا نزال صديقين؟ - بل أخوين، إني أحبك كما يحب الأخ أخته، ولأجل ذلك وجب علي تحذيرك! - من أي شيء تحذرني؟ - من خطر عظيم يتهددك. - أي خطر هذا؟ - هو خطر اقترانك بستوي.
فأجفلت الفتاة وقالت: ماذا تقول؟ - أقول الحقيقة؛ لأن هذا الاقتران يستحيل عقده بينكما.
فذعرت سيسيليا ذعرا شديدا، وحاولت أن تعترض عليه، لكنها وجدت بين عينيه ملامح الاعتقاد التام، فخافت وقالت: ماذا تعني بهذه الأقوال؟ أوضح كل شيء. - سأبذل جهدي. - كيف ستبذل جهدك؟ - لأن التصريح صعب، ويجب أن أذكر أمورا، قد لا يحسن وقعها لديك. - لا بأس، قل كل شيء. إني أريد. - إذا اعلمي أن السير ستوي غير مسيحي.
فقالت بلهجة المشكك: إذا بأي دين يدين؟ - يدين بدين الهنود. فإنه يعبد الإله سيوا والإلهة كالي، وغيرهما من آلهة الهنود.
فهزت سيسيليا كتفيها قائلة: إن ما تقوله غير معقول. - ولكنه الحقيقة. - أية حقيقة هذه؟ إني واثقة كل الثقة من أن هذه الحكاية قد استنبطها أحد الذين رفضت الاقتران بهم. - لا يخلو ظنك من بعض اليقين، فإن الذي علم هذه الحقيقة هو أحد خطابك السابقين، ولكنه لم يخترع هذه الحكاية اختراعا، بل اكتشفها اكتشافا. - لم أفهم ما تقول؟ - أصغي إلي أيتها العزيزة، فإنك رفضت منذ حين السير رالف أوندربي. - نعم، إني أبيت الاقتران به؛ لأنه أبله لا عقل له. - ولكن هذا الأبله قد علم أنك تحبين السير ستوي. - وبعد ذلك؟ - جعل يقتفي أثره. - وإلى أين يذهب السير جورج كي يقتفيه. - إنه يذهب في البدء إلى منزله فيغير ملابسه، ويتنكر بزي بحار، ثم يذهب إلى وينغ.
وكانت هذه الناحية مشهورة بفساد قومها عند جميع أهل لندرا، فما شاءت أن تصدق أن مثل السير ستوي يذهب إليها، فقالت: إن هذا الكلام نميمة لا صحة لها. - اصبري أيتها العزيزة؛ إني لم أتم حديثي بعد. - قل. - إن السير رالف لم يقتنع باقتفاء أثره، بل إنه رشا خادمه بالمال، فعلم منه كثيرا من الأمور. - ماذا علم؟ - إنه رشاه بمائتي جنيه كي يدخله إلى منزل السير جورج في مدة غيابه، ففعل وعلم السير رالف عند ذلك أنه يوجد في منزل هذا الرجل غرفة خاصة لم يدخل أحد إليها سواه.
وكانت سيسيليا تنظر إليه مبتسمة إشارة إلى عدم تصديقه، ولكنها مع ذلك كانت مصغية إليه أتم الإصغاء، حتى إنها كانت تقطب جبينها بعض الأحيان إشارة إلى اهتمامها.
أما السير آرثر فقد مضى في حديثه قائلا: وهذه الغرفة مقدسة عنده؛ لأنه يصلي فيها، ويوجد في وسطها بركة من الرخام تسبح في مياهها سمكة حمراء، يعتقد السير ستوي أن روح أبيه كامنة فيها.
فاصفر وجه سيسيليا وقالت: كيف علم السير رالف أنه يوجد سمكة في بركة الغرفة، وأنت تقول إنه لا يدخل إليها أحد؟ - ذلك لأن هذه الغرفة ينفذ إليها النور من السطح، وفي سقفها قبة من الزجاج الشفاف متصلة بهذا السطح.
وقد أصعد الخادم السير رالف إلى السطح، فكمن فوق القبة إلى أن عاد السير جورج إلى منزله، فأقام فيه هنيهة، ثم دخل إلى هذه الغرفة وهو عاري الصدر، وعلى رأسه عمامة من الحرير الأبيض، فركع أمام البركة، وجعل يخاطب تلك السمكة الحمراء، والسير رالف يراقبه من فوق الزجاج. - أهو السير رالف نفسه الذي أخبرك هذا الخبر؟ - نعم. - ألم يخبر أحدا سواك؟ - نعم، فقد أخبر أيضا البارون نيفلي، حين كنا أمس في نادي بال مال.
فقالت الفتاة ببرود: إذا اعلم أن السير ستوي سيقتل غدا السير رالف، وأنا أنصحك أن لا تقص هذه الحكاية المضحكة على أحد، وأن لا تدع لستوي سبيلا إليك.
ثم نهضت، وأظهرت لقريبها إشارة أنها لا تريد أن تسمع بعد.
فنهض السير آرثر قائلا: ليكن ما تريدين، فقد فعلت ما يجب علي، وستذكرينني إذا أصبت بمكروه.
فلم تجبه الفتاة، وذهب كل من باب، ولكن آرثر لم يتجاوز العتبة حتى عاد، وقال: لي كلمة أيضا أيتها العزيزة.
فالتفتت وقالت: أية فائدة من الكلام في هذا الصدد؟ - كلمة واحدة فقط.
فغضبت الفتاة وقالت: لا ينقصك بعد ذلك إلا أن تتهم السير جورج بأنه زعيم لصوص. اذهب لا أريد أن أسمع شيئا.
فانحنى السير آرثر، وذهب دون أن يفوه بحرف، فلما بلغ منتصف السلم التقى برجل عجوز يصعد ذلك السلم وعليه علائم الاضطراب الشديد.
وكان هذا الشيخ اللورد شارنج عم سيسيليا، فحياه آرثر باحترام قائلا: ماذا أصابك، وما هذا الاضطراب؟
فأجابه بلهجة المنذعر: لقد علمت نبأ هائلا، فأين هي ابنة أخي؟ - في معمل التصوير. - أرأيتها؟ - إني تركتها الآن.
فأكره اللورد شارنج آرثر على أن يعود معه.
فلما اجتمع الثلاثة في المعمل، ذعرت سيسيليا لاضطراب عمها، وسألته عما أصابه.
فقال وهو يرتجف: لقد سمعت خبرا غريبا، أتعرفين السير رالف؟ - كيف لا أعرفه، وقد خطبني منذ حين فرفضت طلبه؟ - إذا اعلمي أنك لو تزوجت به لكنت الآن أرملة.
فصاحت الفتاة صيحة انتصار، ونظرت إلى السير آرثر كأنها تقول: أرأيت كيف ينتقم السير جورج؟
وعاد اللورد إلى الحديث، فقال: إن السير رالف وجد مخنوقا بعد ذهابه من النادي.
فصاحت سيسيليا صيحة أخرى، واصفر وجهها، وقال السير آرثر: لا شك أن اللصوص خنقوه ليسرقوه.
فقال اللورد: كلا؛ لأن نقوده وأوراقه وساعته كانت باقية معه.
عند ذلك تراخت عزيمة سيسيليا حتى أوشكت أن تسقط عن كرسيها، وخشيت أن يكون ابن خالها السير آرثر صادقا في ما قاله عن ستوي.
33
ولنعد الآن إلى السير ستوي، فإنه بعد أن فارق مس سيسيليا في حديقة هيد بارك عاد إلى نادي بال مال.
وكان النادي مزدحما بالمشتركين، وكلهم مجتمعون في قاعة واحدة، يقامرون حول مائدة طويلة بين وقوف وجلوس ، لا ينصرفون إلى غير الورق، فلم ينتبه أحد لقدوم السير ستوي غير شاب يدعونه السير جمس نيفلي كان بين الواقفين.
وكان هذا الشاب أسمر اللون، متقد العينين بأشعة الذكاء، وهو من أب إنكليزي وأم هندية.
وقد مات أبوه على أثر ولادته، فتولت تربيته أمه.
فلما دخل السير ستوي إلى النادي، ورأى السير جمس نظر إليه نظرة سرية علم السير جورج منها أنه يريد مباحثته بشأن خطير، فقال له: أتريد أن تلعب بالورق؟
فأجابه السير جمس بالامتثال، ودخل الاثنان إلى غرفة من غرف النادي لم يكن فيها أحد لانشغال الأعضاء بالمقامرة، فأتاهما الخادم بالورق، فجعلا يتظاهران باللعب ويتحدثان.
فقال السير جمس بلهجة الاحترام: أيها النمر، يوجد في منزلك خائن. - أتعني به كيرشي؟ - كلا، بل خادمك جون الإنكليزي. - ماذا فعل هذا الخادم؟ - إنه خانك. - كيف خانني؟ - أصغ إلي أيها النور أتم الإصغاء، إنك تحب مس سيسيليا أليس كذلك؟ - كلا، إني لا أحبها، ولكن أحب أن أتزوجها. - كلاهما واحد عندنا، ولست هذا الذي أريد أن أقوله، بل أريد أن أقول: إن لهذه الفتاة كثيرا من الملايين، وإننا في حاجة إلى ملايينها لقضاء مهماتنا، أليس كذلك؟ - دون شك، وبعد ذلك؟ - وإن هذه الفتاة قد خطبها معظم نبلاء لندرا. - أعرف كل ما تقول. - ولكنها تحبك حبا لم يرض عنه أولئك النبلاء الذين خابت أمانيهم في هواها، فرشا أحدهم خادمك فأهداه إلى سقف غرفتك المقدسة، ورآك من زجاجها تخاطب روح أبيك.
فاصفر وجه السير ستوي من الغضب، وقال: من هو هذا الرجل كي أقتله؟ - صبرا أيها النور، فإن هذا الشخص قد أتى إلى هذا النادي مساء أمس، فأخبرني وأخبر السير آرثر بما رآه. - السير آرثر ابن خال سيسيليا؟ - هو بعينه. - ومن هو الشخص الذي أخبركما؟ - السير رالف أوندربي. - إذن سيموت. - لا فائدة من ذلك. - لماذا؟ - لأني ذهبت أمس وإياه من النادي، فأوصلته إلى باب منزله، وهناك خنقته فلا يعود بعد ذلك إلى الكلام. - والآخر؟ - أصدرت أوامري بشأنه. - أتظن أني لا ألقاه الليلة في منزل سيسيليا؟
فابتسم السير جيمس، وقال : هذا ما أتمناه.
وعند ذلك نهض السير ستوي، فقال له السير جمس: إلى أين أنت ذاهب أيها النور؟ - لأقضي على الخادم الذي خانني. - لقد افتكرت بعقابه. - كيف ذلك؟ - ذلك أني سأعود إلى منزلي، وأنت تعلم أني مقيم في منزل معتزل في شارع سانت جمس. - نعم. - إذا اعلم أنه يوجد في هذا المنزل بئر عميقة. - لقد فهمت كل شيء. - أرسله إلي بحجة من الحجج، وأنا أتكفل به، فلا يدل بعد الآن أحدا على طريق السطح. - إذا هلم بنا الآن لنتعشى، وسأرسله لك بعد العشاء.
وذهب الاثنان من قاعة اللعب في النادي إلى قاعة الطعام، فتعشيا ثم خرجا، فقال له السير جمس: إني ذاهب إلى منزلي لانتظار خادمك. - حسنا سأرسله في الحال، إنما قبل أن نفترق قل لي: ما هي الأوامر التي أصدرتها بشأن هذا الأبله السير آرثر؟ - إني استعلمت عنه في الصباح فعلمت أن له خليلة. - أين؟ - في وايت شابل، وأنا أقول الآن على سبيل الافتراض، إذ لم أتحقق بعد هذا الأمر، ولكن الذي علمته أنه في كل يوم بعد أن يفرغ من عمله في الأميرالية البحرية يذهب إلى تلك الناحية الهائلة، وسيقتفون أثره اليوم، فإذا لم يكونوا قد خنقوه الآن فسيخنقونه الليلة.
فقال له ستوي ببرود: حسنا فعلت.
ثم افترقا، وذهب كل إلى منزله.
ولما وصل السير جورج إلى منزله وجد خادمه ينتظره، فدخل إلى غرفته، وبعد هنيهة ناداه وقال له: أتعرف منزل السير جمس نيفلي؟ - نعم. - إذا اذهب بهذه الرسالة فسلمها إليه يدا بيد، وعد إلي بالجواب.
ثم أعطاه غلافا مختوما عليه عنوان السير جمس، فأخذه المسكين وسار به، وهو لا يعلم أنه يحمل بيده الحكم عليه بالموت.
وبعد انصرافه أخذ السير جورج يغير ملابسه، ولم يكد يبدأ حتى سمع جرس المنزل يقرع.
فنزل السير جورج نفسه لغياب الخادم وفتح الباب، ولكنه لم يكد يفتحه حتى تراجع منذهلا إلى الوراء، وسقط المصباح من يده لفرط دهشته.
ذلك لأن هذا الزائر كان امرأة، وهذه المرأة كانت مس سيسيليا.
ثم مشى السير جورج معها في الحديقة، التي كان يكتنفها الظلام لسقوط مصباحه، وقد أراد أن يأخذ يدها فمنعته، وقالت له بلهجة التعنيف والتهكم: إني آتية لأتفقد السمكة الحمراء التي تقيم فيها روح أبيك.
ثم تقدمت بعزم ثابت إلى المنزل بينما كان السير جورج واقفا، وقد تضعضع عقله كأنما الصاعقة قد انقضت عليه.
34
ولبث السير جورج هنيهة على تلك الحالة من الاضطراب ناظرا لسيسيليا، فإنها ذهبت إلى ردهة المنزل، وكان مصباح معلقا في سقفها، فجلست على موقد تنتظر قدومه.
غير أن السير جورج قاوم نفسه مقاومة الحالم أصيب بكابوس، وسار لمقابلة الفتاة وقد عاد إليه رشده في هذه الآونة اليسيرة، حتى إنه حين وصل إليها تمكن من أن يبتسم ابتسام الرجل السعيد، وقال لها: ما أبهج هذا اللقاء أيتها الحبيبة، فإني أحسب نفسي من الحالمين.
فقالت بلهجة عنيفة: إني أتيت لأبحث معك في شأن خطير.
فأنار السير جورج مصباحا، وسار أمامها إلى قاعة الاجتماع، فتبعته وجلست على كرسي وهو واقف أمامها، فقالت ببرود: إني كنت أحبك منذ ساعتين يا سيدي.
فاصفر وجه السير جورج، واستدلت الفتاة من اصفراره أنه يحبها، فلطفت لهجتها، وقالت: أتريد أن تقول لي أين ولدت؟ - إني ولدت في كلكوتا يا سيدتي. - بأي دين تدين.
فاضطرب السير جورج لهذا السؤال الفجائي، وقال لها: إن أبي كان هنديا وأمي إنكليزية، والحق أني لم أهتم يوما بالأمور الدينية. - ألا تعبد الإله وشنوا؟ - إن هذا الإله يعبده عامة الهنود يا سيدتي، وما أنا منهم. - أتؤمن بالمسيح؟ - لا أعلم. - تريد أن تقول إنه لا دين لك؟
وكان السير جورج قد عاد إليه رشده في تلك المدة، فقال لها: إني أحبك أيتها الحبيبة حبا صادقا يدعوني أن أقص عليك حقيقة أمري. - قل إني مصغية إليك. - لقد قلت لك إن أبي كان هنديا وأمي كانت إنكليزية، فكانوا يعلمونني في حداثتي مبادئ الديانات الهندية، فعبدت ما استطعت من هؤلاء الآلهة الكثيرين دون أن أفرق بين إله وآخر.
وبينما كان أبي يعلمني ديانة وشنوا كانت أمي تعلمني ديانة المسيح، فخرجت من تلك المعركة لا بوذيا أعرف ولا مسيحيا أوصف، أي إني لست على دين، على أنني لو تلقيت الآن أسرار الديانة المسيحية من كاهن لاعتنقت شاكرا راضيا هذا الدين. - أتقول الحق؟ - إنك تعلمين قدر حبي لك، فلا يرضيني إلا ما يرضيك. - ولكنك أعددت في منزلك غرفة، فبنيت فيها بركة؟ - نعم. - ووضعت في البركة سمكة؟ - نعم. - واعتقدت أن السمكة تضم في جسمها روح أبيك؟
فضحك السير جورج وقال: إن أرواح الناس لا تدخل في الأسماك، والحقيقة أن كل من ربي في الهند يتفاءل بسمك نهر الكنج خيرا، وأنا قد وضعت هذه السمكة، وهي من ذلك النهر في منزلي لما دعوته من حسن التفاؤل ليس إلا. - ولكنك تعبدها. - ومتى كانت الأسماك من المعبودات؟
فنهضت سيسيليا وقالت: إذا أنت تغير دينك، وتعتنق الدين المسيحي؟ - دون شك. - وإذا رضيت أنا بزواجك، أترضى أن يعقد زواجنا في كنيسة لندرا الكاتدرائية؟ - كل الرضا.
وكان السير جورج قد تكلف هيئة تدل على ملء الحرية والبساطة، فلما رأى أن الفتاة فرغت من جميع أسئلتها، قال لها: وكيف عرفت كل ذلك؟
فارتعشت سيسيليا وقالت: أتعرف السير رالف أوندربي؟
فلم يظهر عليه شيء من آثار الاضطراب عند ذكر هذا الرجل الذي قتله عامله، وقال: كلا لا أعرفه. - إن السير رالف طلب أن يقترن بي منذ عامين، فرفضت طلبه، وكان يعلم أنك تحبني فغار علي منك، وجعل يقتفي أثرك. - أهو الذي أخبرك؟ - لم يخبرني أنا، بل أخبر صديقا له فنقل إلي الحديث. - إذا سأدعوه اليوم إلى المبارزة، وسيكون لي معه شأن.
فنظرت سيسيليا إليه محدقة به، وقالت في نفسها: يستحيل أن يكون مخادعا لي، ولا شك أنه لا يعرف السير رالف.
ثم أجابته قائلة: لا سبيل إلى المبارزة. - لماذا؟ - لأن السير رالف مات في الليلة الماضية.
فأظهر السير جورج دهشة صادقة أزالت من فؤاد الفتاة كل ريب، فمدت يدها إليه، وقالت له: أتصفح عني فقد كنت فاقدة الصواب؟ - ماذا تعنين؟ - لا شيء.
فضم يديه وقال لها بلهجة المتوسل : بالله قولي لي ماذا تعنين، فقد شغلت بالي؟ - عفوا أيها الحبيب فقد كرهتك واحتقرتك عدة ساعات. - أنا؟ - نعم؛ لأني كنت أعتقد أنك أنت قاتل السير رالف.
فرفع السير جورج يديه وقال لها: أقسم لك بشرفي، إني بريء من دم هذا الإنسان. - وأنا صدقتك، وسأكون امرأتك.
ثم أفلتت من يديه، وذهبت فاجتازت الحديقة، وخرجت إلى الشارع والسير جورج واقف ينظر إليها حتى توارت عن أبصاره، فتنهد تنهد المنفرج، وقال: سيرى آرثر نويل أنه لا يستطيع وشاية بعد اليوم.
وفيما هو يتوعد آرثر نويل هذا الوعيد دخل رجل مسرعا إلى غرفته، وقال له: أيها النور، إن الإلهة كالي قد خدعت وأهينت؛ لأن جيبسي النورية لها عشيق.
35
ولنذكر الآن شيئا عن آرثر نويل الذي يتوعده السير جورج بالقتل، فقد كان هذا الرجل من نبلاء الإنكليز، وهو شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من سنيه، جميل الوجه، وافر الأدب، فتنت به كثيرات من فتيات قومه، غير أنه كان يأبى الزواج كل الإباء.
وكان الناس على اختلاف بسبب نفوره من الزواج، فيرى بعضهم أنه قد يئس بعد أن أبت مس سيسيليا الاقتران به، ويرى آخرون أنه كان يمتنع عن الزواج؛ لأن ثروته لا تناسب مقام أسرته، إنه ينتظر أن يرث إرثا كبيرا أو تهبط إليه ثروة من السماء، يقول بعضهم - وهم قلائل: إن السير آرثر يحب حبا سريا.
وما دعاهم إلى هذه الأقوال غير ما رأوه من تغير أخلاق هذا الرجل، واختلاف عاداته مع أصحابه منذ عامين، فقد كان كثير التردد على منتدياتهم، ثم انقطع عنهم فجأة، فلا يرونه فيها إلا في القليل النادر.
وكانت عادته الجديدة أنه يخرج في الساعة السادسة كل يوم من دار الأميرالية التي كان موظفا بها، فلا يرونه إلا في ظهر اليوم التالي.
وكان مقيما في منزل بديع في شارع بيكانيلي، لكن الذين دفعهم الفضول إلى اكتشاف أسراره بعد أن تغيرت أخلاقه، كانوا يراقبون منزله فيجدونه مقفلا على الدوام، ولا أثر للنور فيه.
وذلك أن السير آرثر لم يكن يقيم في هذا المنزل إلا ظاهرا، فكان يخرج من مكتبه في الساعة السادسة من مساء كل يوم إلى شاطئ التايمز، فيمشي في شارع يكثر فيه تردد الناس، ويلتفت في كل حين يمنة ويسرة كأنه يخشى أن يتبعه أحد، ويلبث سائرا حتى يقف عند منزل صغير مؤلف من دور واحد.
ويحمل في جيبه مفتاحا يفتح به باب المنزل ويدخل، ولكنه لا يكاد يدخل حتى تسرع إلى استقباله امرأة كهلة فتأخذ ثوبه وعصاته فتضعهما في موضعهما، وتعود إلى المطبخ.
وكانت هذه المرأة تدعوه المسيو فيليام؛ لأنه كان يبالغ في التنكر، فلا يريد أن يعرف باسمه الصحيح، ولا أن تعرف تلك المرأة وجيرانها أنه من الأشراف، ولولا ذلك لكانت دعته السير فيليام.
وكان يظهر من حديثه معها أنه هو صاحب المنزل، وأنها تخدمه فيه، فإذا وصل ذهب توا إلى قاعة الطعام فيجد المائدة مهيأة فيأكل ويدخل إلى غرفة الكتابة، وهناك منضدة تكدست فوقها الكتب والأوراق، فينعكف على المطالعة، ولكن جسمه كان يرتعش لأقل حركة يسمعها، فيدنو من النافذة وهي لا تعلو أكثر من مترين عن الأرض، ويصغي إصغاء تاما، ثم يعود إلى شأنه الأول.
ويلبث على هذه الحال إلى منتصف الليل، فيسمع قرعا على النافذة المغلقة، فيختلج ويسرع إلى المصباح فيطفئه، ثم يفتح النافذة بيد تضطرب، فيشعر بجسم لطيف قد انسل من النافذة، ويحس بمعصمين ناعمتين طوقا عنقه، وشفتين رقيقتين قبلتا شفتيه، ويسمع كلمات حنونة تسحر عقله وتجذب فؤاده.
ويلبث العاشقان أحيانا إلى مطلع الفجر، فتفارقه وتذهب كما أتت، وهي تقول: إلى اللقاء غدا ...
وكان السير آرثر يعيش هذه العيشة منذ عامين، تزوره تلك الفاتنة كل ليلة إلا ما ندر دون أن تدري الخادم العجوز بشيء من أمره، وهي تحسبه من أهل الكمال.
وكان يتفق له بعض الأحيان أنه يتأخر في النادي، فتنتظره العجوز إلى الساعة العاشرة، ثم تنام فيأتي السير آرثر دون أن تراه أو تشعر بقدومه.
ففي المساء السابق لذلك اليوم الذي قدم فيه إلى مس سيسيليا، وأخبرها بما علمناه من السير جورج ستوي تعشى في النادي خلافا لعادته، فالتقى بالسير رالف، وهناك أخبره وأخبر السير نيفلي بما عرفه القراء.
وكانت تلك الليلة محصية الحوادث، فقد حدثت فيها مصارعة الكلبين، واقتفاء روكامبول ونويل أثر السير جورج إلى وينغ.
وفي تلك الليلة قصت الإرلندية في خمارة الملك جورج حكايات أزواج جيبسي الستة، وخطب روكامبول تلك الفتاة، وذهب بها إلى منزلها.
وفي تلك الليلة نفسها عاد السير آرثر إلى التسمي باسم المستر فيليام، وأقام ينتظر في منزله بفارغ الصبر قدوم العشيقة، ولكن العشيقة لم تحضر.
وقد انتصف الليل ومضت الساعة الأولى والثانية ثم الثالثة بعد انتصاف الليل، ولم يسمع نقيرها على النافذة، فكان عرضة للاضطراب والقلق الشديد من اضطرابه إلى أن فرج الله كربته، وسمع الصوت فأطفأ المصباح، وقام إلى النافذة وهو يرتجف، ففتحها ودخل منها غلام لابس ملابس البحارة، وقبعة كبيرة من القش بحيث لا يسع من يراه لأول وهلة إلا أن يحكم بأنه من البحارة.
ولكنه لم ينزع تلك القبعة حتى انسدل من تحتها شعر جيبسي على كتفيها؛ لأن هذه العاشقة المتنكرة لم تكن سوى جيبسي النورية.
36
ولنذكر الآن كيف تعارف الاثنان وتعاشقا، فإن هذا الحب بينهما متصل منذ عامين.
وتفصيل ذلك أن السير آرثر حين أبت ابنة خاله مس سيسيليا أن تتزوجه حزن حزنا شديدا، وقد محق هذا الرفض قلبه؛ لأنه كان يحبها حبا صادقا، وخشي أن يتهمه الناس بأنه إنما أراد أن يتزوجها طمعا بمالها.
وكبر عليه الأمر، وأشار عليه أصدقاؤه بالسفر ترويحا للنفس، والتماسا للسلوى، فنال إجازة من الأميرالية وسافر إلى فرنسا.
غير أن هذه السياحة لم تشفه من وله غرامه، بل زادت من شدة دائه، وعاد إلى لندرا واليأس ملء قلبه، فإن داء الحب لا يدفعه غير الحب، ولبث على هذا الهيام إلى أن نفذت إلى قلبه أشعة حب جديد بالصدفة والاتفاق.
والحكاية أنه ذهب يوما من الأميرالية قبل غروب الشمس، وجعل يطوف هائما في شوارع لندرا المقفرة إلى أن انتبه لنفسه، فوجد أنه واقف عند باب مقبرة في ناحية وايت شابل.
وكانت أبواب تلك المقبرة مفتوحة، وليس فيها شيء يدل على العظمة؛ لأنها كانت خاصة بطائفة الفقراء، إذ لم يكن فيها ضريح كبير، أو عمود من الرخام كتب فوقه اسم الميت بحروف ذهبية، بل كان يوجد فيها صلبان من الخشب الأسود عليها كتابة محت الأمطار نصفها، وفي الجملة فإن جميع مظاهرها كان يدل على أنه لا يدفن فيها غير الفقراء.
ودخل السير آرثر إلى المقبرة، وجعل يمشي فيها دون قصد إلى حيث يدفعه فكره المضطرب ونفسه القانطة.
وكان يظهر له أن المقبرة منفردة ليس فيها أحد من الناس، غير أنه نظر شبحا أسود في إحدى زواياها، وتحقق أنه شبح امرأة راكعة فوق قبر، واقترب منها.
ولما أحست المرأة وهي بملابس السواد بقرب الرجل منها نهضت منذعرة، ووقف السير آرثر باهتا منذهلا؛ لأنه رأى المرأة، بل تلك الفتاة، تذرف الدمع السخين، وهي لا تتجاوز السابعة عشرة من عمرها.
ولكن هذه الفتاة كانت تشبه بدموعها ذلك الوادي المنفرش بخضرة الربيع، تسقط عليه الأمطار ساعة، ثم تسطع الشمس فوقه، ويبتسم لدموع الغيث التي تستحيل إلى لؤلؤ.
ولما نظرها السير آرثر جزم أن مس سيسيليا التي كانت ملء قلبه تعد قبيحة بالقياس إلى هذه الفتاة الحسناء.
أما تلك الفتاة فقد صاحت صيحة رعب حين رأته، وحاولت في البدء أن تهرب مما أصابها من الخوف، لكنها عادت إلى صوابها، وقالت للسير آرثر بلهجة اضطراب شديد: ألعلك تعرفني يا سيدي؟
أجابها: هذه المرة الأولى التي تشرفت فيها بلقائك يا سيدتي.
وكأنما ظواهر النبل المرتسمة على محيا السير آرثر قد سكنت من روع الصبية، وحملتها على الثقة به، وأخذت يده بيدها، وقالت له بلهجة المتوسل: أترفض ملتمسي يا سيدي إذا عرضت عليك التماسي؟
قال لها بلسان يتلعثم: قولي يا سيدتي. - أتعدني يا سيدي أنك إذا لقيتني بعد الآن، وإذا ذكروا لك اسمي أن لا تقول أمام أحد أنك شاهدتني في هذا المكان. - إني أقسم لك على الكتمان.
فشكرته، ومضت مسرعة في سبيلها .
أما هو فبقي واقفا قرب ذلك الضريح الذي لم يكن فوقه صليب، ولا أثر من آثار الكتابة، وجعل ينظر إلى تلك الفتاة تبتعد عنه، ويشعر بارتعاش كأنما أوحي إليه أن هذه الفتاة سيكون لها شأن عظيم في مقتبل حياته.
وبعد أن احتجبت عن أنظاره خرج من المقبرة، وهام بقية الليل في تلك الشوارع المجاورة للمقبرة، ولم يجد أثرا للصبية.
وفي اليوم التالي كان السير آرثر مجهم الوجه، منقبض الصدر، وقد شعر أنه أصيب بداءين وتنازع قلبه غرامان لا يعلم إلى أيهما يخضع.
وفي اليوم الثالث عاد إلى المقبرة في الساعة نفسها التي لقي فيها الفتاة ولم يجدها، وعاد في اليوم الذي تلاه، وفي الأيام التابعة ولم يرها.
وجعل يتردد كل يوم إلى أن رأى ذات يوم آثار أقدام صغيرة عند باب المقبرة؛ ففرح كثيرا لاستدلاله من خطواتها على حضورها، ولكنه لم يرها.
وذهب إلى الحفار وهو يقيم في غرفة عند مدخل الباب الكبير، فأعطاه جنيها، وسأله أن يخبره عن صاحب القبر الذي رأى الفتاة راكعة عليه.
وحكى له الحفار هذه الحكاية الغريبة، وهي أن هذه الفتاة جاءت منذ ستة أشهر إلى كاهن هذا الشارع، وهو رجل عجوز من أهل الصلاح، وخلت معه ساعة، ثم خرجت وإياه، وناداني الكاهن وأمرني أن أسير معه، فركبنا مركبة مقفلة، وسرنا بها إلى خارج لندرا.
وما زلنا نسير من قفر إلى قفر حتى انتهينا إلى مقبرة النور، وهي خاوية خالية لا ناس فيها ولا حراس، وأوقفت الفتاة المركبة، وذهبت بي وبالكاهن إلى قبر يظهر من ترابه أنه حديث الحفر، وقالت للكاهن: هذا هو القبر.
وأمرني الكاهن أن أنبشه، فامتثلت وأخرجت منه تابوتا لا أعلم إذا كان دفن فيه جثة رجل أو امرأة، ثم ساعدني الكاهن ونقلنا التابوت إلى المركبة، وجئنا به إلى هذه المقبرة، ودفناه في هذا القبر الذي رأيت الصبية راكعة عليه.
ويظهر أن هذه الفتاة شديدة الفقر، حتى إنها لم تستطع أن تضع صليبا فوق الضريح، غير أن الكاهن بارك التابوت، وصلى على من فيه، وهو الآن في أرض مقدسة.
أما هذه الفتاة فإنها تزور الضريح مرة في الأسبوع، وتبكي البكاء الشديد، ولكنها لا تأتي في يوم معين وساعة محدودة؛ لأنها تخشى المراقبة.
ونفح السير آرثر هذا الحفار بجنيهين وانصرف.
وفي اليوم التالي عاد إلى المقبرة، ووضع صليبا فوق القبر، وعلق عليه إكليلا من الزهر.
ثم جعل يتردد على المقبرة كل مساء دون أن يراها إلى أن جاء يوما ورأى إكليلا موضوعا بإزاء إكليله ففرح فرحا عظيما، وعلم أن الصبية قد وضعته.
وبينما هو خارج في ذلك اليوم من المقبرة التقى بالفتاة داخلة إليه، وصاح كلاهما صيحة واحدة، ودنت منه الفتاة وقالت: ألست أنت الذي وضعت الصليب والإكليل؟
واعترف السير آرثر بصوت يتهدج من الاضطراب، وشكرته الفتاة، وذهب كلاهما إلى القبر وركعت فوقه وركع السير آرثر مقتديا بها، وجعلت تصلي بلغة غير مفهومة.
ولما فرغت من صلاتها نهضت ونظرت منذعرة إلى السير آرثر وقالت: رباه ماذا أفعل إذا وجدنا في هذا المكان؟
وقال لها: انظري ألا تعلمين أنه لا يوجد سوانا؟
وكانت المقبرة صغيرة، فأجالت نظرها في أطرافها، ولم تجد أحدا، وقالت بلهجة الرعب: إنهم لو رأونا هنا ...
فانذهل وقاطعها قائلا: ماذا علينا، ألا يحق للمرء أن يبكي على من يحبه؟ - ليس كل حين يا سيدي.
ثم ودعته شاكرة، وانصرفت مسرعة.
غير أن السير آرثر تبعها هذه المرة وخرج في أثرها.
37
وجعلت الفتاة تسير بخطوات سريعة دون أن تلتفت إلى ما وراءها.
وكان الليل قد أرخى سدوله، ولكن الشوارع كانت لا تزال مقفرة في تلك الساعة لعدم انصراف العمال من معاملهم، ولم تكن المصابيح قد أنيرت بعد، فكان يصعب تمييز الناس.
وكانت الفتاة لابسة رداء أبيض، وعلى كتفها شال من الصوف، فوضعته على رأسها كي لا يراها أحد.
إلا أن السير آرثر كان يجد السير بغية اللحاق بها، وإذا اختلطت بين الناس عرفها من ثوبها الأبيض.
ولكنها كانت تريد أن لا يهتدي إلى مكانها، وجعلت تسير من زقاق إلى زقاق وهي تحاول الاختفاء عنه، ولم تجد إلى ذلك سبيلا إلى أن أدركها في زقاق، ولم يكن فيه أحد من المارة وناداها.
فالتفتت الفتاة عند ذلك، وقالت له بلهجة المؤنب: أرجوك أن لا تتبعني يا سيدي، لقد أسأت إلي بعد ذلك الإحسان.
غير أن لهجة تأنيبها كانت عذبة لطيفة، وكانت نظراتها تدل على الرضا.
فقال لها: أتعدين يا سيدتي من الذنوب أن أتبعك وأنت على ما رأيتك به من الكآبة لا سيما وقد علمت بعض أمرك من الحفار؟
فاضطربت لهذا القول اضطرابا شديدا، وقالت: رباه لقد خفت. - ومم تخافين يا سيدتي؟ تأبطي ذراعي لأني من الأشراف، ومتى كنت معي فلا خوف عليك.
ونظرت إليه الفتاة محدقة، فرأت الإخلاص يجول بين عينيه، ثم رأت علائم الحب الصادق بادية بين ثناياه، فسرت إلى فؤادها تلك العاطفة السريعة التي تضيء أشعتها نفسين كما تضيء أشعة الكهرباء، فتجمع بينهما جامعة الإخاء، وقالت: لقد صدقت يا سيدي، وركنت إليك.
ثم تأبطت ذراعه، وقالت له وهي ترتجف: إنك كلمتني عن الحفار؟ - نعم فإني أعترف لك بما جنيت، وألتمس منك الغفران. - ألعله أخبرك بكل شيء؟ - إنه أخبرني بما يعلمه على الأقل. - إذن لنذهب إلى شاطئ التاميز؛ إذ لا نجد هناك من يعرفني، فإني معرضة لخطر شديد، إلا أني رأيت بين عينيك النبل وصدق الطوية، فأحببت بأن أخبرك بكل شيء، إني وحيدة في هذا الوجود، وقد لقيتني جاثية على ضريح آخر من أحبتهم نفسي.
وكانت تحادثه وصوتها يضطرب حتى وصلا إلى شاطئ النهر.
لم يكن هناك أحد تخشى أن يعرفها، فاستأنفت حديثها وقالت: إن هذا الميت الذي أبكيه هو الرجل الذي رباني، وقد كان مثلي يتظاهر أنه يدين بدين النور، لكنه كان مثلي أيضا يعتنق الديانة المسيحية بالسر.
ولما ذهبت في الليل إلى ذلك الكاهن، واعترفت له بحكاية هذا الرجل الذي كان يدعى فارو، فأخرجناه من مقبرة النور ودفناه في أرض مقدسة.
على أن قبيلة النور إذا عرفت هذا السر تقضي علي القضاء المبرم، وتعاملني دون إشفاق. - لقد فهمت ما تريدين، وقد عاهدتك على الكتمان ، فلا أبوح بسرك ما دمت حيا. - أشكرك يا سيدي، والآن أرجو أن تنساني، فإننا ما خلقنا لنتفق.
فاصفر وجهه عند سماعه هذا القول، وشعرت الفتاة أنه أوشك أن يسقط لارتعاشه، ثم سمعته يقول لها: أواه لو تعلمين حبي لك.
وكأن الفتاة قد حنت عليه، أو أصيبت بما أصابه، فقالت له: إذن سنلتقي هنا بعد ثلاثة أيام في مثل هذه الساعة.
ثم تركته فجأة، وانصرفت في سبيلها.
أما السير آرثر فإنه عاد إلى منزله، وقد امحت مس سيسيليا من فؤاده، وحلت تلك الفتاة محلها فيه، وشعر أنه يحب تلك الفتاة المجهولة التي رآها أول مرة تبكي فوق ضريح حبا أنساه كل حب.
ومرت الأيام الثلاثة به كانت كالأجيال إلى أن حانت الساعة المعينة للموعد، فأتت الفتاة وجاء السير آرثر.
وكانت السماء تمطر إلا أن الأمطار لا تحول دون اجتماع العشاق.
ووضع يده بيدها، وجعل يقبل تلك اليد الناعمة، فتدعه يفعل ولا تجذب يدها.
ولكنها نظرت إليه نظرة ملؤها الشغف، وقالت له: إني لا أعرف اسمك إلى الآن، ومع ذلك إني أثق بك كما يثق المؤمن بالله؛ إذ لم يعد في الوجود من يحبني، وأنا لم أحب أحدا على أني كنت أعد الدقائق منذ 3 أيام وأنا لا أعرف منك حتى اسمك.
فتأثر السير آرثر لكلامها، وقال لها: أتريدين أن أكون لك زوجا؟
ولكن كلامه أثر عليها تأثيرا شديدا لم يكن ينتظره، فإنها قالت له وقد ظهرت عليها ملامح الرعب الشديد: كلا، إن ذلك لا يكون.
ثم جعلت ترتعش، وحاولت أن تفر منه.
فانذهل ومنعها من الفرار، وهو يقول: بماذا أسأت إليك، ولماذا هذا الاضطراب؟ - لأنك إذا تزوجتني يحكم عليك بالموت، وربما حكم علي به أيضا. - ماذا تريدين بهذا القول، فإني لا أفهم شيئا. - إذن أصغ إلي، إنك تحبني وأنا أحبك أيضا، وقد رفع الموت رايته الخفية علينا منذ الآن ... على أن الوقت لا يزال فسيحا لدينا، فاهرب مني، ولنجتهد بنسيان ما مضى. - وإذا لقيت أنا هذا الموت الخفي غير هياب أتقتدين بي وتخاطرين مثلي؟
فطوقت عنقه بذراعيها، وقالت: نعم نعم، إني أحبك، ولكني أخاف عليك. - لا تخشي أيتها الحبيبة، فإن للعشاق إلها يرعاهم.
وفي اليوم التالي عادا إلى الاجتماع في نفس المكان، فقالت له: اعلم أيها الحبيب أني لا أستطيع أن أندفع لتيار هواك إلا بشرط واحد. - ما هو هذا الشرط؟ - هو أن لا تحاول أن تعلم شيئا من ذلك السر الرهيب الذي يمنعني عن الزواج بك، ويجعلنا معرضين لخطر الموت. - أقسم لك أجل قسم على الامتثال. - وأنا أتسمى باسم حنة، وهو غير اسمي، فعدني أن لا تبحث عن اسمي الحقيقي، ولا تحاول كشف أسرار حياتي. - أعدك وعد شريف لا يحنث بيمينه.
عدني أيضا أنك لا تعود إلى تلك المقبرة التي لقيتني فيها، وأنك لا تذهب إلى ناحيتي ويت شابل ووينغ. - إذن أين أراك؟ - أين تقيم؟ - في شارع بيكاديللي. - إنه شارع يكثر فيه مرور الناس، فلا يسعني الذهاب إليك فيه، فابحث عن منزل صغير في شارع مقفر، ثم استأجره باسم غير اسمك الحقيقي فيكون محل اجتماعنا. - أتزورينني فيه كل يوم؟ - كلما استطعت للزيارة سبيلا. •••
في هذا المنزل الذي رأينا السير آرثر فيه متنكرا باسم ويليم، كانت جيبسي تجتمع بحبيبها كل ليلة منذ عامين.
وكان السير آرثر من الأشراف، فوفى بجميع تعهداته، ولم يحاول أن يكشف شيئا من أسرار النورية، لكنه كان يثق بها ثقة لا حد لها، فلو قالت له إني ملاك هبطت إليك من السماء لصدق ما تقول.
هذه هي أسرار هذا الرجل الذي كانت تأتيه جيبسي متنكرة بملابس بحار، وقد أقام معها عامين لم يعرف من أمرها غير أنه يهواها، ولا يعرف سواهما أسرار هذا الحب.
38
وفي الليلة التي نقص حوادثها كان السير آرثر يعانق جيبسي، ويقول لها: لقد كاد يفرغ صبري لطول الانتظار، فأين كنت وما هذا الغياب؟ - آه لو كنت تعلم ... - ماذا حدث؟ - أظن أن الخطر الذي يتهددنا أوشك أن يزول. - كيف ذلك؟ - سأخبرك بكل شيء حين تنقضي أسباب الخوف كلها، وأكتفي بأن أقول لك الآن إنه يوجد عصابة في لندرا أقسمت على قتلي إذا أحببت رجلا، وعلى قتل الرجل الذي يحبني. - وبعد ذلك؟ - وجدت حاميا يقيني ويقيك شر هذه العصابة.
وكأنما قد مست كبرياؤه، فقال بلهجة المنكر: ما هذا القول وأين أنا، ألا أستطيع أن أحميك؟ - كلا ...
وقد لفظت جيبسي هذه الكلمة بلهجة الواثق المعتقد كل الاعتقاد فيما يقول.
فأطرق السير آرثر برأسه وقال: لقد صدقتك.
أجابت: وغدا، إذا أتيت إليك، فإني أحضر متأخرة كما حضرت هذه الليلة.
وكان السير آرثر قد تعود أن لا يعترضها في شيء، ولا يسألها عن أمر، ولكن عقرب الغيرة لسعته عند هذا الكلام، فقال لها: أتعلمين يا حنة أنه يمر ساعات أحسب نفسي في خلالها من المجانين؟ - كيف ذلك ولماذا؟ - لأني صرت أغار عليك.
فضحكت جيبسي ضحكا عاليا دلت به على السلامة والصدق، ثم طوقت عنقه بذراعيها، وقالت له: لقد قلت الحق فإنك من المجانين لا محالة، ولكني لو أقسمت لك بهذا القبر الذي رأيتني أبكي عليه، أول مرة رأيتني فيها، إن شفتي لم يقبلهما رجل سواك منذ خلقت إلى الآن، أتصدق بهذه اليمين؟ - لا أحتاج إلى اليمين؛ لأني صدقتك دونها. - ومع ذلك إني أقسم لك بهذا القبر إن قلبي لم يمتلكه سواك.
فركع السير آرثر أمامها وقال لها: أيها الملاك الهابط من السماء، أتتزوجين بي زيجة طاهرة أمام الله والناس إذا زالت هذه الأخطار السرية التي تتهددنا؟
فلم تصح الفتاة صيحة سرور حين سماعها كلامه، ولم تبرق عيناها بشعاع من أشعة الفرح، بل ظهرت على وجهها ملامح الحزن العميق، وقالت: كلا إني غير جديرة بك، وإنك لا تعلم من أنا. - وماذا يهمني أن أعرفك إذا كنت أحبك؟ - أصغ إلي أيها الحبيب، إني عشت كما تعيش الفراشة بين الحشرات الكريهة، وأنفقت زمن حداثتي نقية كالسماء الخالية من الغيوم بين قوم أسافل، فكنت كأشعة الشمس المشرقة فوق الوحول.
فإذا دعيت يوما بلقب اللادي أخشى أن يراني أحد من أولئك القوم فيشير بإصبعه ويقول: هذه فلانة. - إذن من أنت؟ - أنا امرأة لم تحب سواك، ألا ترى أننا سعيدان بهذا الحب؟ - لقد أصبت.
ثم أطرق برأسه، وسقطت دمعة على خده، فمسحتها جيبسي بقبلة وقالت: ربما عرفت سر حياتي يوما من الأيام.
فنظر إليها دون أن يجيب.
وظهرت علائم التردد على الفتاة هنيهة، ثم قالت: ولكني مع ذلك لست من زمرة أولئك الناس الذي أعيش بينهم، فانظر يدي وانظر إلي.
فنظر إليها بإعجاب، وقال: إنك تشبهين بنات الملوك. - إن أمي لم تلبس التاج، بل كانت من النبيلات. - أمك أنت؟ - نعم، وقد ماتت الآن وكنت السبب في موتها.
ثم نهضت مسرعة كأنها خافت أن تتسع في البحث، وتبوح بما لا تريد أن تبوح به، فودعته وقالت: إلى الغد.
فلم يمنعها السير آرثر عن الرحيل، وجعل يشيعها بالنظر وهو مفكر حائر مبهوت.
وفي اليوم التالي عاد السير آرثر إلى ذلك المنزل حسب عادته، ودخل إلى غرفة القراءة، فجعل يقرأ ويكتب إلى الساعة العاشرة.
وفي تلك الساعة دخلت الخادمة إلى غرفته تقدم له الشاي، فوضعته على المائدة، وبدلا من أن ترجع حسب عادتها لبثت واقفة وعليها مظاهر التردد كأنها تريد أن تقول للسير آرثر شيئا لا تجسر على قوله.
فأنكر السير وقوفها وترددها، وقال لها: ما بالك؟
فكلمته العجوز بألقاب التعظيم على غير عادتها، وقالت له: إنهم سألوا عنك اليوم.
فأجفل وقال: سألوا عني أنا؟ - نعم يا سيدي، وقد ذكروا لك اسما غير اسمك الذي أعرفه. - ماذا تعنين بذلك؟ - إن اثنين من الشرفاء قدما إلى منزلك في الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم، وقالا لي: هل السير آرثر نويل في المنزل؟
فقلت لهم: لا يوجد في هذا المنزل رجل يدعى بهذا الاسم، وإن الذي يقيم فيه ليس له شيء من الألقاب، وهو موظف في أحد البيوت المالية يدعى المستر وليم.
فضحك الاثنان ضحكا عاليا، وقال أحدهما: لسنا نحن المنخدعين، بل أنت المنخدعة.
ثم وصفا لي أوصافك، فكانت منطبقة عليك كل الانطباق.
فاصفر وجه السير آرثر وقال: أتمي حديثك.
فقالت العجوز: إني لم أجادلهما فيما قالا، ولكني قلت لهما إنك لم تعد بعد فانصرفا. - ألم يقولا شيئا حين انصرافهما؟ - نعم قالا إنهما سيعودان في الغد.
فصرفها، وبعد أن مضت العجوز خلا في غرفته، وجعلت الأفكار تتنازعه، فخطر له في بدء الأمر أن أعداء جيبسي قد عرفوا منزله، واطلعوا على سره، فوجف قلبه وخاف على حبيبته خوفا شديدا.
ثم خطر له أن ذلك قد يكون من صنع أصدقائه الذين أشكل عليهم أمر انقطاعه عنهم، فجعلوا يتبعونه خفية حتى علموا موضعه.
وقد تكدر حين خطر له هذا الخاطر؛ لأنه سيضطر في كل حال إلى تغيير المنزل، والتنكر باسم آخر حذرا من أن يراقبوه، فيعلموا سر غرامه.
وقد مضى قسم كبير من الليل وهو عرضة لعوامل الاضطراب.
ومما زاد في انقباض نفسه أنه سمع الساعة الثالثة تدق دون أن تحضر جيبسي، ولكنها كانت أخبرته في الليلة السابقة أنها ستتأخر في الغد.
وفيما هو يفكر في أمره تفكير المهموم إذ سمع القرع على النافذة، فطار فؤاده سرورا، وأسرع إلى المصباح فأطفأه، ثم بادر إلى النافذة ففتحها بيد تضطرب وهو يقول: لقد أتيت أخيرا فأهلا بك.
وفيما هو يفتح ذراعيه ليضمها، وقد رأى أنها دخلت إلى الغرفة شعر بيدين قويتين كأنهما من الحديد قد ضغطتا على عنقه، ثم شعر بيد أخرى ألقته على الأرض، فكبلت يداه ورجلاه وسد فمه قبل أن يتمكن من الاستغاثة.
وبعد ذلك سمع صوت رجل يقول له بلهجة الهازئ المتهكم: إنك تجاسرت على حب جيبسي النورية، وسترى إلى أين يقودك هذا الحب بل هذا الجنون.
39
ولنعد الآن إلى روكامبول، فقد غادرناه مع السير جورج، وقد ملأ فؤاده ذعرا حينما رأى صدره وما عليه من الوشوم الدالة على أنه من عباد الإله سيوا.
وكان الشهود حكموا بانتهاء المبارزة بعد جرح السير جورج، ورضي الفريقان بحكمهم، فافترقا وذهب السير جورج مع شاهديه بمركبة نويل إلى لندرا، وسار روكامبول إليها مع شاهديه بالسكة الحديدية.
وكان روكامبول قد ترك فاندا بحراسة ميلون، وترك كيرشي بحراسة فاندا، ولما وصل إلى المنزل وجده بظواهره العادية، فإن نوافذه كانت لا تزال مقفلة؛ لأن الساعة لم تكن تجاوزت التاسعة ونصف، ولا تفتح النوافذ قبل هذا الوقت في تلك العاصمة التي جعل ليلها نهارا.
فأخرج روكامبول مفتاحه من جيبه ففتح الباب ودخل، وصعد إلى الدور الأعلى، فدهش حين رأى باب غرفة فاندا مفتوحا على غير عادة.
وناداها فلم تجب، ونادى ميلون وكان لا يزال نائما، فصحا من رقاده منذعرا، وأسرع إلى تلبية رئيسه وهو لا يزال بملابس النوم.
غير أن روكامبول كان قد دخل إلى غرفة فاندا، فما أصاب نظره داخلها حتى صاح صيحة هائلة، ذلك أنه رأى فاندا ساقطة عن الكرسي الذي كانت نائمة عليه.
وكان روكامبول قد ناداها ثلاث مرات فلم تجب.
فوقف وقد جمد الدم في عروقه، وانصب العرق البارد من جبينه، ولم يجسر على الدنو منها ولمسها إذ كان يظهر له أنها ميتة.
ثم التفت لسماعه صوت ميلون الذي أسرع إليه وهو يقول: ماذا تريد يا حضرة الرئيس؟
غير أن ميلون ما لبث أن رأى روكامبول على ما كان فيه من الاصفرار والاضطراب، حتى سكت ووقف في مكانه لا يجسر أن يخطو خطوة واحدة.
أما روكامبول فإنه ما لبث عشر ثوان، مرت كالأجيال، ثم صاح صيحة أخرى؛ وذلك لأنه رأى صدر فاندا يهبط ويرتفع بنفس هادئ منتظم.
فدنا منها ووضع يده على قلبها، فوجده ينبض، فناداها فلم تجب.
وعند ذلك أمسكها وهزها بعنف بغية إيقاظها، فسمع فحيح الأفعى، ثم رأى ذلك الثعبان قد انسل من صدرها إلى الأرض، فداسه روكامبول بقدمه وسحقه وهو يقول: لقد علمت الآن كل شيء.
ثم أزاح الكرسي ودخل إلى غرفة كيرشي فوجدها خاوية خالية، وعاد إلى سكينته التي لا تفارقه إلا في الأخطار، وقال: لا يجب أن أبحث عن السر؛ لأني أردت أن أخيف السير جورج، فطمأنت كيرشي، والغلط غلطي، فلا ينبغي أن يؤاخذ به أحد.
وكان ميلون واقفا أمام فاندا وقد وقف شعره من الخوف عليها، ولكنه لم يجسر أن يسأل عنها، فقال له روكامبول: اذهب أيها الأبله إلى قاعة الطعام، وائتني منها بصندوق العقاقير.
فامتثل ميلون ونزع روكامبول قميص فاندا، فوجد فوق ثديها الأيسر أثر لسع الأفعى، فضغط اللحم الملسوع ضغطا شديدا بأصبعه؛ فخرجت نقطة سوداء من الدم لا يزيد حجمها عن رأس الدبوس.
فاطمأن روكامبول، وقال: إن الأفاعي الصفراء لا تقتل لحسن الحظ، ولكن كيرشي سيدفع غاليا ثمن هذه الخيانة.
وعند ذلك عاد إليه ميلون بصندوق الأدوية، فاختار زجاجة ووضع منها بضع نقط في فم فاندا، فما وصلت إلى جوفها حتى فتحت عينيها، ونظرت إلى روكامبول نظرة المنذهل وقالت: أين أنا، وماذا حدث؟ - لا شيء سوى أن كيرشي قد عبث بك وبميلون.
فأجفلت فاندا وقالت: أهرب كيرشي؟
ففتح روكامبول الباب وقال: انظري ألا تجدين غرفته خالية؟
فصاحت فاندا صيحة منكرة وقالت: تبا لي من شقية. - ليس الخطأ منك بل مني، والآن فلندع هذا البحث ولنصلح الخطأ.
فقال ميلون: ماذا ينبغي أن أعمل؟ - يجب أن تجمع كل أعضاء العصابة. - متى؟ - اليوم لأني محتاج إليهم في المساء. - سأجمعهم، ولكن أين يكون الملتقى؟ - في خمارة الملك جورج. - في أي ساعة؟ - في الساعة الثامنة من المساء، فاذهب في الحال؛ لأن الوقت غير فسيح.
ولبس ميلون ثيابه، وانطلق مسرعا إلى حيث أمره الرئيس.
ولما خلا روكامبول بفاندا قال لها: إني سأمثل الليلة أول رواية مع الخناقين، وقد كنت أيقنت من الفوز النهائي قبل فرار كيرشي، أما الآن فقد تجدد كل شيء. - ألا تحتاج إلي في هذا المساء؟ - كلا وربما احتجت إليك غدا، فأودعتك امرأتي.
فقالت له وقد اصفر وجهها: امرأتك؟
فابتسم روكامبول وقال: اطمئني لأني سأتزوج حسب طريقة النور. - ولكن لم أفهم شيئا بعد. - إذا اعلمي أنه ليست ناديا ابنة الجنرال هي وحدها ضحية الإلهة كالي، لقد وجدت فتاة أخرى من أحسن الأسرات جعلت ضحية لتلك الإلهة، وخبأها أهلها بين النور.
ثم حكى لها جميع ما يعلمه من حكاية جيبسي.
ولما أتم حكايته قالت له فاندا: ألا ترى أنك معرض لأخطار هائلة؟ - ربما. - وهذه النورية، أبلغ من عنايتك بها أن تخاطر بنفسك إلى هذا الحد بغية إنقاذها؟ - يجب أن أبدأ بالعراك مع الخناقين.
ثم سكت سكوتا قصيرا كانت فاندا تنظر إليه في خلاله نظرات الإعجاب، وقال: أتحسبين أني رضيت بالعودة إلى الحياة، أنا الذي لا أطمع إلا بالراحة الأبدية؛ كي أعيش عيشة المتنعمين؟
فتنهدت فاندا وقالت: هو الحق ما تقول.
أما روكامبول فإنه أطرق برأسه إلى الأرض، وسقطت دمعة من عينه على يد فاندا، فارتعشت وقالت له بصوت يتهدج: ألا تزال تشكو ذلك الغرام القديم؟
ولما سمع روكامبول قولها برقت عيناه ورفع رأسه وقال: إن الحزن يطهر النفوس من الآثام.
فلم تجبه فاندا بحرف، ولكنها قالت بصوت منخفض كأنها تناجي نفسها: رباه، لماذا لقي مدلين وأحبها ذلك الحب الذي لا رجاء فيه؟
40
في الساعة الثامنة من الليلة نفسها كانت خمارة الملك جورج غاصة بالناس كما يتفق في أيام الأعياد من خباز ونجار ومتشرد وبحار إلى غيرهم من زبائن تلك الخمارة الذين عرفوا أمس ما حدث لزوج جيبسي السادس مما قصته عليهم المرأة الإرلندية.
فجعل الحاضرون يتساءلون ويقولون: أيصيب هذا الزوج السابع ما أصاب الأزواج الستة من قبله؟ ومن عسى أن يكون هذا الزوج؟ ومن أين أتى؟ فإنهم لم يروه قبل هذه المرة في ناحية وينغ، وأخيرا أين يعقد هذا القران؟
هذه هي المسائل التي كانت دائرة على الألسن في خمارة الملك جورج.
فكانت الإرلندية رائدة القوم في حل هذه المشكلات، فقالت: أتعلمون أن النور لا يتزوجون كما نتزوج نحن؛ لأنهم يجتمعون في مكان معتزل، فيوقدون نارا عظيمة، ويجعلون يقفزون من حولها بينما يكون الخطيبان واقفين في وسط حلقة هذا الجمع.
ولما يفرغون من الرقص يأتون للعروسين بفطيرة من الدقيق معجونة بالزبدة والعسل وبإبريق من النبيذ.
فيأكل العروسان الفطيرة، ويشرب كل منهما جرعة من الخمر بالتوالي حتى يفرغ الإبريق.
وعند ذلك يدنو منهما شيخ القبيلة، ويقول لهما: ألا تزالان عازمين على الاقتران؟
فيقولان: نعم.
فيقول لهما الشيخ: إذا اكسرا هذا الإبريق.
فيأخذ العروسان الإبريق، ويمسكه كل منهما بيد ويرفعانه إلى ما فوق رأسيهما، ويقذفان به إلى الأرض فيتحطم، وعند ذلك تتم الحفلة ويصبح هذا الاقتران شرعيا نظاميا لا شك فيه.
فقال أحد الحاضرين: أتظنين أن عرس جيبسي سيكون هذه الليلة؟ - دون شك. - كيف عرفت ذلك؟ - إني لقيت الفتاة اليوم فأخبرتني. - ولكن أين يعقد هذا القران؟ - هذا ما يصعب معرفته؛ لأن النور يبالغون في إخفاء أماكن حفلاتهم. - إني أدفع نصف راتبي لمن يرشدني إلى ذلك المكان. - وماذا يفيدك حصور حفلات أولئك النور، وفوق ذلك فإن كل غريب يحضر حفلاتهم يخاطر بنفسه، وقد لا يسلم من هذا الخطر؛ لأنهم لا يتساهلون بحفلاتهم الدينية.
وهم في حفلات أعراسهم كما هم في حفلات مآتمهم، فإنهم يدفنون موتاهم أيضا في أماكن لا يعلمها أحد.
وكان قد دخل في ذلك الحين بحار ضخم، وسمع الحديث فقال: من هو هذا العريس؟
فقالت الإرلندية: بحار. - وما هي هويته؟ - إنكليزي.
وهنا اختلف الحاضرون، فقال أحدهم: بل هو إيكوسي.
وقال سواه: أراهن أنه إيرلندي.
وقال كلكراف صاحب الخمارة بصوت عالي: بل هو فرنسي.
فأجفل القوم لكلام كلكراف لاعتقادهم بصحة روايته، وتنبه فيهم ذلك الحقد القديم، وبعد أن كانوا مشفقين على ذلك الشخص الذي تجاسر على الاقتران بجيبسي أصبحوا غير مكترثين له بعد أن علموا أنه فرنسي حتى إن بعضهم بات يتمنى له الهلاك.
وبينما هم يتباحثون في هذا الشأن، دخل شخصان إلى الخمارة وأعطى كل منهما قطعة من النحاس لكلكراف، فأخذ كلكراف القطعتين وقال همسا باللغة الفرنسية: في الساعة العاشرة، وراء كنيسة سانت بول.
وكان أحد هذين الشخصين الفتى مرميس، والآخر مورت، فقال مرميس: حسنا سنذهب في الوقت المعين.
ثم جاء بعدهما بقية أفراد العصابة التي جمعها روكامبول في باريس، فكان كل واحد منهم يقدم لكلكراف القطعة النحاسية، فيقول له صاحب الخمارة ما قاله لمرميس.
وبعد أن عرفوا المكان المعين للاجتماع شربوا كأسا من الوسكي، وذهبوا واحدا إثر واحد بعد أن تبادلوا نظرة سرية مع ميلون الذي كان متنكرا مثلهم بملابس البحارة.
ولو كان زوار الخمارة غير منهمكين بحكاية عرس النورية لانتبهوا إلى محادثة أولئك البحارة السرية مع كلكراف، غير أن حديثهم عن ذلك الشخص الجسور شغلهم عن كل ما سواه.
وقد عادوا إلى المباحثة في هوية هذا العريس، فقال لهم كلكراف: أؤكد لكم ما قلته إنه فرنسي.
فقال أحدهم: إذا فهو نوري فرنسي؟ - دون شك. - وهل يوجد نور فرنسيون؟ - كما يوجد منهم عند الإنكليز والألمان والترك والعرب، فإنهم منتشرون في كل مكان.
ولما عرف الحاضرون أن هذا العريس من قبائل النور خفت وطأة حقدهم، وباتوا يتمنون له السلامة من الخطر المحدق به.
فقال ميلون: نعم إنه نوري مثلي.
وقالت الإرلندية: أأنت نوري؟ - نعم. - إذا تعال أعانقك، فقد كنت أحسبك فرنسيا من قبل.
وانكبت على عنقه تقبله، ولكنها لم تلبث أن عانقته حتى صاحت صيحة ألم، وسال الدم من يدها، فنظرت إلى عنقه فوجدت عليه طوقا من جلد التمساح تحيط به قطعة ناتئة من الفولاذ دقيقة الرءوس كالإبر.
ولما رأى ميلون أن الناس قد احتشدوا من حوله وهم يعجبون لهذا الطوق الغريب، قال لهم: إذا كان لزوج جيبسي الجديد مثل هذا الطوق لا تجزعوا عليه؛ إذ لا يستطيع أعداؤه خنقه في هذه الليلة.
ثم تركهم منذهلين وانصرف، فكان كلكراف يبتسم وينظر إلى الدماء التي كانت تسيل من يد الإيرلندية.
41
كان السرور سائدا في تلك الليلة على النور في لندرا، وكان البوليس يرحم تلك القبائل ويتغاضى عنها، حتى إنه كان يساعدها ويحميها عند الاقتضاء.
ومن عادة النور أنهم يقيمون في خيم قرب أبواب المدن الكبرى، غير أن بعضهم كانوا يلتمسون الإذن من ملكتهم فتأذن لهم بالمبيت في لندرا إذا كانت مهنتهم تقضي عليهم بالمبيت فيها على شرط أن ينقطعوا عن القبيلة كل الانقطاع.
وإنما قلنا ملكتهم؛ لأن النور لا يختارون زعماءهم عادة إلا من النساء، فصدر أمر ملكة النور منذ أمس إلى القبيلة أن تذهب بخيامها إلى المكان الذي كانت فيه منذ عدة أشهر، فسارت بخيامها وجيادها وكلابها في ستر ليلة حالكة الظلام دون أن يشعر بها أحد إلى مكان خفي، ونصبت فيه الخيام، وكانت تقيم من قبل في ضواحي سانت بول.
وكانت تلك الليلة التي حدثت فيها هذه الحوادث، شديدة الظلام، كثيفة الضباب، فلم يكن يهتدى إلى أولئك النور إلا بأنوارهم التي كانت تنبعث من الخلاء خارج أبواب لندرا.
وفي هذه الليلة خرج اثنان من باب لندرا، واتجها إلى مكان ذلك النور وهما روكامبول وجيبسي.
فكانت الفتاة تقف من حين إلى آخر، وتقول: رباه، إني خائفة، ويخال لي أنهم يقتفون أثرنا. - كيف تخافين وأنا معك؟ - أصبت إن ثقتي بك لا حد لها، غير أن قلبي ينذرني بمصاب جلل، وندر أن تخطئ هواجس قلبي.
فطمأنها روكامبول ما استطاع، وسار الاثنان يتقدمهما شخص من القبيلة كان يسير على مسافة شاسعة بعيدا عنها.
وكان هذا الشخص قد أرسلته القبيلة إلى منزل الفتاة في ويت هايل؛ كي يخبرها أن القبيلة نقلت خيامها من مكانها القديم في سانت بول، وأنه أتى كي يذهب بها ويرشدها إلى المكان الجديد.
فاستاء روكامبول لهذا الانتقال؛ لأنه واعد عصابته على اللقاء بجوار سانت بول، فهي تنتظره في ذلك المكان برئاسة ميلون، وهو يتعرض وحده لفتك الخناقين في مكان خفي لا تعرفه العصابه.
غير أن روكامبول لم يخف، ولم يظهر لجيبسي شيئا من علائم قلقه.
ولبثا يمشيان مقتفين أثر النوري حتى اقتربا من القبيلة، وسمعا صوت الطبول، فرأى روكامبول نارا مشبوبة ينبعث دخانها الكثيف فيمتزج بالضباب، ورأى خيام مضروبة حول تلك النار، والرجال والنساء يرقصون حول هذه النار.
ولما وصل روكامبول وجيبسي انقطع الرقص وسكتت الطبول، وساد السكوت على الجميع.
وعند ذلك نزلت امرأة حسناء عن دكة عالية كانت جالسة فوقها، فمشت لاستقبال العروسين يحيط بها أهل القبيلة بمظاهر الاحترام؛ لأنها كانت ملكة النور.
وكان روكامبول مرتديا تلك الثياب التي كان يلبسها في خمارة الملك جورج، فدنت منه الملكة وقالت له: أيها الغريب، أتعلم الخطر الذي يتهددك؟ - نعم. - إن جميع أزواج جيبسي قتلوا. - أعرف ذلك. - ولا يزال الوقت فسيحا لديك الآن، فإذا شئت الرجوع عن زواجها لا نعترضك. - كلا لا أرجع أبدا. - تأمل قليلا ، واعلم أنه عندما تغدو جيبسي امرأتك لا نستطيع أن نحميها؛ لأنك غريب عنا، ولست من قبيلتنا. - لا بأس أنا أحميها.
فالتفتت الملكة إلى جيبسي وقالت لها: وأنت أيتها الفتاة ألا تزالين مصرة على الزواج بهذا الغريب؟
فقالت بلهجة تدل على الثبات: نعم، إني لا أتزوج سواه.
ردت الملكة: إذا ليكن ما تريدان.
ثم أشارت بيدها فعاد الراقصون إلى الرقص، وغنى المغنون بلغة سرية وهم يطوفون حول روكامبول وجيبسي.
حتى إذا انتهى الرقص جاءوا بفطيرة من الدقيق معجونة بالعسل فقسمها روكامبول قسمين، فأكل قسما، وأعطى قسما لجيبسي فأكلته.
ثم جاءوها بالإبريق فشربا ما فيه، ورفعاه ثم ألقياه على الأرض فتحطم، فصاح جميع النور عند ذلك صياحا واحدا خلاصته الدعاء للعروسين بالتوفيق.
فشكرهم روكامبول، وعادوا إلى الرقص والغناء.
وكان روكامبول قد عرف عادة القوم من جيبسي، فلما تم القران ورآهم عادوا إلى الرقص حملها على كتفه عادة الأزواج عند النور، وذهب بها من بين الخيام وهو يقول: إنها امرأتي.
42
وكان يسير بها مستعجلا وهو يقول في نفسه: لا شك أن النور لم ينقلوا خيامهم في الليلة الماضية إلا لحكمتهم ولحذرهم من أعداء الفتاة إشفاقا عليها، ولكن هل فازوا بما يريدون؟ ... إنهم لو بقوا بجوار سانت بول لما خشيت أمرا؛ لأن ميلون ورفاقه يقاومون جيشا، أما الآن فإني فرد.
وقد كان يحدث نفسه بهذا الكلام دون خوف، فإنه بعد أن ألقى في أيام غروره أستاذه أندريا في تلك الهوة لم يعد يخاف على نفسه، بل على من يتولى حمايته؛ ولذلك كان كل خوفه على الفتاة.
ولما خرج بها من القبيلة سار توا في ذلك إلى الخلاء إلى لندرا مسترشدا بمصابيحها البعيدة التي كانت تبدو لعينيه كالنجوم خلال الضباب الكثيف.
على أن قلقه كان يتزايد كل حين، ولم تكن جيبسي أقل منه اضطرابا، فكانت تقول له: دعني أمشي، فيأبى روكامبول ويقول لها: كلا، إنك لا تستطيعين الإسراع بالسير، وخير لنا أن أحملك، فتعود إلى الرجاء وتقول: رباه، لقد خفت فيسرع بالسير بها دون أن يجيب.
ولبث على ذلك وهو ينظر من حين إلى حين إلى نار القبيلة حتى تباعدت عنه، ولم يعد يرى منها غير القليل، فقالت له: كفى دعني أمشي. - كلا حتى نصل إلى أبواب لندرا.
ثم جعل يسير بها سيرا مستعجلا غير مكترث بثقلها، وفيما هو يسير هذا السير شعر بأن ساقيه قد اصطدما بحبل مشدود فعثر به، وسقط على الأرض وجيبسي بالقرب منه.
وصاح روكامبول صيحة غضب، وصاحت جيبسي صيحة ذعر، وهجم عليهما في الحال رجلان كانا مختبئين وراء الأدغال، وأسرع روكامبول إلى النهوض، ولكنه ما لبث أن وقف حتى شعر أن حبلا قد التف على عنقه فضغط عليه، وأن يدا جذبت ذلك الحبل فسقط روكامبول على الأرض، وقد فعل به أعداؤه نفس ما فعله بالهندي الذي كان في منزل والد ناديا.
وكان الحبل ملتفا على عنقه، فلم يستطع أن يقول غير كلمة واحدة قالها بصوت مختنق لجيبسي، وهي لا تخافي.
وعند ذلك انقض أحد الرجلين على جيبسي وهي توشك أن يقضى عليها من الرعب، وحملها وسار بها.
ودنا الرجل الآخر من روكامبول وهو ممدد على الأرض لا حراك به، تدل ظواهره على أن الحبل قد قضى عليه، فقال باللغة الهندية: إن حبل أوسمانا لا يخطئ الغرض، فإذا أصاب به عنق عدوه أماته في الحال، وقد علمتنا أيها الفرنسي اللعين كيف ننصب لك الشرك حين نصبت لنا الحبل بين الأشجار لتغتال عباد الإلهة كالي، وأوهمتنا أنك من أبناء سيوا.
ثم ضحك ضحكا عاليا، وجعل يقلب روكامبول ظهرا لبطن، فرآه نائما نوم الموت، فصاح صيحة انتصار وقال: ادع الآن إلهك سيوا لنجدتك، فإن سيوا لا يساعد غير عباده، وأما أنت فإنك مسيحي ضال، بل أنت لا شيء؛ لأني أظن أن روحك قد فارقت جسمك، وهامت في الفضاء.
وكان يقول هذا القول ويفحص روكامبول كي يتأكد موته، ففتح صدرته، ووضع يده على قلبه كي يرى إذا كان ينبض أو بقيت فيه آثار الحياة.
وفيما هو على ذلك إذ شعر فجأة بيد قوية قد ضغطت على عنقه؛ لأن روكامبول الذي كان يحسبه ميتا قد انبعث ودبت فيه الحياة، وانقض عليه على غرة انقضاض الصاعقة، فركع فوق صدره وهو يقول له: إنك كدت تخنقني أيها الأبله لولا هذا الطوق الذي يحيط بعنقي من جلد التمساح.
ثم استل خنجره وأغمده في صدر الهندي، فسقط قتيلا دون أن يفوه بكلمة ...
وعند ذلك نهض روكامبول فرفص الهندي الأثيم برجله، وقال: يجب الآن إنقاذ جيبسي.
وقد مرت هذه الحادثة في زمن وجيز يوازي زمن حكايته، فقال روكامبول في نفسه: لا بد لي من إدراك الهندي الآخر، فإني أعدو في أثره حرا مطلقا وهو حامل جيبسي.
ثم سار في أثره يعدو عدوا سريعا حتى ظهر له بعد بضع دقائق ثوب جيبسي الأبيض يتماوج في الهواء فوق كتف الرجل الهندي الذي كان يعدو بها أيضا دون أن يبدو منها ما يدل على الممانعة.
فاستنتج روكامبول من سكونها أنها مغمى عليها، وأنه لو كان خنقها لما تكلف حملها، بل تركها مكانها.
فأسرع في عدوه بغية إدراكه قبل أن يدخل بها إلى لندرا، وقبل أن يصل إليها رأى قبسا قد لمع، ثم تلاه دوي شديد تلته صيحة عظيمة بلغت إلى أذن روكامبول، ورأى ثوب جيبسي الأبيض قد تحرك فجأة، ثم استقر على الأرض دون حراك.
فأسرع أيضا وهو يعدو، ورأى رجلا وقف بجانب الثوب الأبيض، ووضع إحدى رجليه على صدر ذلك الرجل الذي كان صريعا يتحرك حركات النزع.
وكانت لندرا قريبة من مكان الحادثة، وقد بددت مصابيحها المشرقة ظلام تلك الليلة الكثيف، فرأى روكامبول أولئك الثلاثة وفهم كل شيء.
فكانت جيبسي ملقية على الأرض مغميا عليها، والرجل الصريع الهندي الذي اختطفها، أما الرجل الذي كان واضعا رجله فوق صدره ولا يزال المسدس في يده فقد كان مرميس، ذلك الغلام الهائل الذي قتلت رصاصته الهندي دون أن تصيب جيبسي.
ولما رأى مرميس روكامبول صاح صيحة فرح وقال: ألا توافق أيها الرئيس على أني أتيت حين الحاجة إلي؟
43
وقد عظم مرميس في عيني نفسه حين رأى رضا الرئيس عنه، فكان يضطرب لدى نظراته اضطرابا ممزوجا بالكبرياء.
وكان هذا الغلام في الثامنة عشرة من عمره، ولكنه كان غض الشباب، متوقد الذكاء، يجول ماء النشاط بين عينيه، فيحسب الناظر إليه أنه لم يبلغ هذا السن لغضاضة شبابه.
وقد كان أبوه سكيرا مقامرا، وأمه سارقة شريرة، فنشأ فاسد التربية لا يعرف غير اللصوص، ولا يخالط غير الأشرار، ولكنه كان على فساد سيرته كريم الأخلاق، فكان يسرق بيد ويتصدق بيد على المساكين، لو لم يدركه روكامبول لكانت تغلبت العشرة الفاسدة على تلك الأخلاق الكريمة، وقضي عليه أن يكون من اللصوص.
غير أن روكامبول أدرك تلك العاطفة الكريمة فيه فمال إليه، ورجا إصلاحه، وصرفه إلى الخير، وسمع مرميس بعجائب روكامبول، ورأى بعض أعماله المدهشة؛ ففتن به، ومال إليه كل الميل.
هذه هي حالة مرميس الذي قدر له أن يلقى خير مرشد يصرفه عن الشر قبل استحكام ملكته من قلبه الطري الصغير، فلما رآه روكامبول واضعا رجله فوق صدر الهندي الذي قتله، ابتسم له ابتسام الرضا، وحسب أن ميلون قد جاء بجميع العصابة لنجدته، غير أن مرميس كان وحده، وهذا بيان ما جرى.
عندما أمر روكامبول ميلون أن ينتظره بالعصابة قرب سانت بول لم يكن عالما أن قبيلة النور غيرت مكانها، فكان يحسب أن زواجه بجيبسي سيتم في ذلك المكان.
ولم يعرف هذا التغيير إلا حين وصوله مع جيبسي إلى منزلها في ويت شابل، ورأى النوري ينتظرها فيه لإرشادهما إلى المكان الذي انتقلت إليه القبيلة، فلم يكن لديه فرصة للذهاب إلى ميلون وإخباره بهذا التغيير.
أما ميلون فقد كان شديد الخضوع لروكامبول، فسار بالعصابة كما أمره إلى سانت بول، وكان كل واحد من رجالها مسلحا بمسدس وخنجر، وفي عنقه ذلك الطوق من جلد التمساح الذي اخترعه روكامبول للوقاية من الخناقين.
فلما وصلوا إلى المكان المعين قال لهم ميلون: أتعلمون أيها الرفاق لماذا اجتمعنا هنا؟
قال شانوان: أظن أن الرئيس أراد أن نحضر زواجه.
وكان جميع رجال العصابة يخضعون لروكامبول، وينفذون أوامره دون أن يسألوه عن قصده أو يدركوا المراد منها ما خلا مرميس فإنه كان يعمل الرؤية، ويدقق في كل أمر، فقال لميلون: أين يعقد هذا الزواج؟ - في قبيلة النور. - ولكني لا أجد أثرا للقبيلة. - لا بأس، فإن الرئيس أمرنا أن نحضر إلى هذا المكان.
فحاول مرميس أن يعترض، ولكن مورت انتهره، وقال: هذا أمر الرئيس، لا سبيل إلى الجدال فيه.
غير أن مرميس لم تقنعه هذه الأقوال، وقال: ستعلمون أني غير مخطئ، فما دامت القبيلة قد رحلت فلا فائدة من وجودنا هنا؛ لأن الزواج سيعقد في غير هذا المكان.
فغضب ميلون مما رآه من إلحاحه، وقال له: إذا أبيت البقاء معنا فاذهب إلى حيث تشاء.
وكان مرميس ينتظر أن يسمع مثل هذا الكلام، فقال: سوف ترون أن الرئيس يستصوب ما قلته، ثم تركهم وانصرف.
ولم يكن مرميس يعرف اللغة الإنكليزية، وفوق ذلك فقد لاحظ أن الإنكليز لا يكرمون الفرنسيين في بلادهم، فقال في نفسه: إني أجهل لغة القوم، ولا أعرف من اللغات غير الفرنسية، إذا تكلمت بها هزأوا بي، وربما أساءوا إلي، فخير لي إذن أن أدعي الخرس، فإن الأخرس لا يحاسبونه عن موطنه؛ إذ لا يعرفونه، ولا يحتقرونه للغته إذ لا لغة له، فلما وصل إلى شوارع لندرا صار يتكلم بالإشارة.
ذهب في البدء إلى منزل جيبسي، فوجد أنها قد برحته فسار إلى خمارة قريبة، فطلب كأس شراب بالإشارة، ورأى فيها كثيرا من الناس، وسمع اسم جيبسي تتداوله الألسنة، فأصغى إلى الحديث.
وكان بين الذين رآهم اثنان من الهنود سمعهما يذكران أيضا اسم جيبسي، وبعد ربع ساعة خرج الهنديان من الخمارة.
فاقتفي مرميس أثرهما حتى إذا وصلا إلى منعطف الشارع انضم إليهما هندي لم يلبث مرميس أن رآه حتى ارتجف إذ عرف أنه أوسمانا، فقال في نفسه: لقد بلغت المراد، وإني لا أفارق هذا الإنسان.
ثم انفصل أحد الثلاثة عن رفيقيه، فتبعهما مرميس إلى أبواب لندرة، ثم سارا في تلك الخلاء وهما يتحدثان بلغة لا يفهمها ، ويشيران إلى نار القبيلة، فأدرك قصدهما.
وكان يتبعهما على مسافة بعيدة حتى رآهما اختبآ بالأدغال، فاختبأ مثلهما، وبقي كامنا إلى أن رأى الهندي يختطف جيبسي ويعدو بها، فأطلق عليه مسدسه وقتله كما تقدم.
أما روكامبول فإنه انحنى على الصبية، وجعل يفحصها بقلق شديد، وهو يخشى أن يكون قد أصابها رصاص المسدس، ولما علم أنها مغمي عليها اطمأن، وقال لمرميس: لقد أحسنت، وأنت وحدك الذكي الفؤاد بين أفراد العصابة.
أما روكامبول فكان يحمل دائما قنينة صغيرة من الخل في عنقه، فعالج بها جيبسي حتى استفاقت، وحكى لها ما حدث فأعجبت به إعجابا شديدا، وباتت ثقتها به لا حد لها لا سيما بعد أن علمت منه أنه لا يعتبر هذا الزواج الذي عقد، وأنه إنما فعله بالظاهر لمقاومة الخناقين.
ثم ساروا جميعهم حتى وصلوا إلى منزل جيبسي، وكان مرميس قد حكى لروكامبول جميع ما اتفق له مع العصابة، فقال له روكامبول: لقد عينتك رئيسا عليها بدلا من ميلون، فاذهب إليهم وعد بهم، فقفوا في الشوارع المحيطة بمنزل جيبسي، وكونوا متأهبين لكل طارئ. - وأنت أيها الرئيس؟ - إذا احتجت إلي تجدني دائما على السلم قرب باب غرفة جيبسي.
فامتثل مرميس، وذهب معجبا بسيادته الجديدة إلى سانت بول حيث كانت العصابة.
أما روكامبول فإنه دخل مع جيبسي إلى منزلها، وقال لها: ادخلي إلى غرفتك ونامي مطمئنة، أما أنا فسأحرسك وأنام خارج الباب.
فدخلت الفتاة وتظاهرت أنها تحاول الرقاد، فأطفأت المصباح، وصعدت إلى سريرها، ثم قالت: يجب أن أذهب إلى السير آرثر نويل، فقد وعدته بالذهاب إليه.
وبعد أن أقامت في سريرها نحو ساعة، ووثقت أن روكامبول نائم نهضت وتنكرت بملابس البحارة حسب عادتها في كل ليلة، وخرجت من النافذة إلى السطح ونزلت منه إلى الشارع.
44
وكانت تسير هنيهة، ثم تقف موقف المتردد الوجل، كأن قلبها يحدثها بنكبة، وكانت تارة تذكر السير آرثر فتثور عوامل غرامها، وتندفع في سيرها غير خائفة، وتارة ينكمش قلبها لمخالفتها روكامبول، فتقف حتى خطر لها لفرط ثقتها بروكامبول أن تعود إليه ، وتلتمس منه أن يوصلها إلى منزل حبيبها.
لكنها لم تجسر على شيء من هذا.
إلى أن تغلبت عليها عواطف الغرام، فاندفعت في سيرها غير مكترثة بشيء، وغير مبالية بالخطر.
وبينما هي تسير مرت بخمارة على الطريق، فحانت منها التفاتة فرأت غلاما جالسا على طاولة وأمامه قدح من الخمرة، فارتعشت وعلمت أن هذا الغلام مرميس الذي أنقذها من الهندي، وقد كان مقيما في الخمارة خلافا لما أمر به روكامبول من التفتيش على العصابة.
ولما رأته جيبسي خافت خوفا شديدا أن يعرفها، فمرت بسرعة البرق حتى إذا وصلت إلى الخارج سارت بطريق التايمز، واجتازت واترلو فجعلت تتلفت يمنة ويسرة كالغزال الشارد من الصياد.
ولكنها لم تر أحدا يقتفيها، ولم تفطن لامرأة كانت تتقدمها وهي بملابس الإرلنديين؛ لاعتقادها أنها إذا كانت جاسوسا حقيقة لا تتقدمها بل تسير في أثرها.
وما زالت تسير والمرأة تتقدمها كأنهما يسيران إلى شارع واحد حتى انتهت إلى الشارع الذي يقيم فيه السير آرثر.
وكان هذا الشارع مقفرا لندور مرور المتسولين فيه، وفيما هي تسير رأت أن الإرلندية قد وقفت أمام منزل، وجعلت تنظر إلى كتابة منقوشة عليها كأنها تريد أن تقرأها، فواصلت النورية سيرها حتى وصلت إليها.
وعند ذلك دنت منها الإرلندية، ومدت إليها يدا تطلب إحسانها، وبينما كانت تفتش في جيبها على قطعة نقود هجمت عليها الإرلندية فألقتها على الأرض بسرعة، ثم ضغطت بإحدى يديها على عنقها كي تمنعها من الاستغاثة، وأدخلت أصبعيها في فمها وصفرت، ففتح للحال باب المنزل وخرج منه رجلان شديدان، فانقضا عليها وهما يقولان: لقد ظفرنا بها أخيرا.
ثم وضعا كمامة في فمها، وأوثقا يديها ورجليها وحملاها، فسارا بها إلى ناحية جسر لندرا. •••
ولا بد لنا من إيضاح السبب في اختطاف جيبسي أن نعود بضع ساعات إلى ما حدث قبل هذا الاختطاف، أي بعد أن ذهبت مس سيسيليا من منزل السير جورج ستوي، فإن السير نيفلي دخل إليه بعد ذهابها، فأقفل باب الغرفة ووقف أمام رئيسه السير ستوي.
وكان السير جورج رئيس الخناقين في لندرا يحكم حكما مطلقا على جميع أعضاء تلك الجمعية الهائلة، ولا يتلقى الأوامر إلا من الرئيس العام المقيم في غابات الهند.
وكان السير نيفلي مساعده ويده اليمنى في تنفيذ أغراضه، ولما رآه السير جورج واقفا بحضرته قال له: تكلم.
فقال له السير نيفلي: لقد قلت لك أيها النور منذ بضع ساعات إني أرسلت من يقتفي أثر السير آرثر نويل، فعلمت أنه يقيم في شارع سوتوراث متنكرا باسم وليم. - لماذا تنكر بهذا الاسم؟ - كي يستقبل فتاة تزوره كل ليلة منذ عامين. - ومن هي هذه الفتاة؟ - هي جيبسي.
فذعر السير جورج وقال: هذا محال، لقد راقبت جيبسي في الليل والنهار، وخنق أعواني جميع من تعرض للزواج بها، وسيخنقون أيضا في هذه الليلة ذلك الفرنسي الجريء الذي تجاسر على الزواج بها.
غير أن السير نيفلي كان متسلحا بالبراهين، فأوضح لرئيسه كيف أن الفتاة تخرج من نافذة غرفتها، متنكرة بملابس الغلمان، وكيف أن رجلين كانا كامنين أمام منزل السير آرثر رأياها تدخل إليه من النافذة.
فغضب السير ستوي غضبا شديدا، وقال: احذر أن تكون كاذبا فيما تقول. - إني لا أكذب أيها النور ولا سيما عليك. - إذن إنها عاشقة؟ - نعم، وهي تزور عشيقها كل ليلة، فبماذا تأمر أيها النور؟ - بقتل العاشقين، فإن كل فتاة تضحى للإلهة يجب أن تبقى بتولا عذراء مدى الحياة، فإذا مست شفتاها شفتي رجل وجب أن تموت. - أعرف ذلك يا حضرة النور، ولكن كيف تريد أن يكون موتها أبالخنق حسب العادة؟ - كلا بل أريد أن تموت على المحرقة. - أي يوم تعينه للتنفيذ؟ - يوم غد. - سيكون كما تريد، ثم ماذا نفعل بعاشقها السير آرثر؟ - لا يجب أن يخنق، بل يجب أن يحرق معها على محرقة واحدة. - ومتى أراك أيها النور؟ - متى وقع الاثنان في قبضتك. - والفرنسي ماذا تريد أن نصنع به؟
فقطب السير ستوي حاجبيه، وقال: لقد أرسلت أوسمانا لخنقه، فإذا لم يفلح بمهمته فلا يجب الاهتمام به. - لماذا؟ - لأني أنا أتعهد بأمره، والآن اذهب في شأنك، واعلم أنه غدا يجب إحراق جيبسي وآرثر على محرقة واحدة.
فانحنى نيفلي ممتثلا وذهب، أما السير جورج ستوي فإنه دخل إلى غرفته المقدسة كي يستشير روح أبيه.
45
ولنعد إلى جيبسي فإنها حين قبض عليها الرجلان وقيداها حملها أحدهما على كتفيه، وسار بها يتبعه رفيقه والإرلندية حتى بلغا جسر لندرا.
وكان هناك مركبة كانت تنتظرهم دون شك بدليل عدم اكتراث السائق لما رآه، فوضعها جيبسي في المركبة، وتكلما بلغة غير مفهومة، وسار أحد الرجلين والمرأة عائدين، ودخل الرجل الآخر إلى المركبة، فقال للسائق باللغة الإنكليزية: سر بي إلى هامبستد فانطلق السائق بسرعة ممتثلا للأمر.
وعند ذلك فك الرجل الكمامة عن فم النورية كي تتمكن من التنفس، وقال لها: إذا فهت بكلمة، أو خطر لك أن تهربي أو تستغيثي قتلتك في الحال دون إشفاق.
ولم يكن الفرار قد خطر في بال هذه المسكينة لشدة ما تولاها من الرعب، فسكتت ولم تجب بحرف.
وبعد نصف ساعة وصلت المركبة إلى تلك القرية التي سارت إليها، ووقفت عند باب منزل تحيط به حديقة عالية الأشجار.
وكان هذا المنزل داعيا إلى بحث كثير من أهل الفضول، فإنه بني حديثا في تلك القرية بشكل غريب، وقد ارتفعت أسوار حديقته، حتى إن الناظرين لا يستطيعون أن يروا شيئا من داخله.
لذلك اختلفت الأقاويل، فذهب بعضهم إلى أنه سكنه أحد الهنود الهاربين من شمسها المحرقة، وقال آخرون: إنه منزل قائد خدم في الهند؛ لأن بناءه كان على الطريقة الهندية، فكانوا يلقبونه بالمنزل الأحمر؛ إشارة إلى لون جدرانه، ولكنهم لم يروا مرة ذلك الرجل السري الذي يقيم فيه.
غير أنهم كانوا يرون بعض الأحيان أنوارا تنعكس أشعتها من نوافذ المنزل إلى الأشجار الباسقة التي كانت أكثر ارتفاعا من الأسوار، وكانوا يرون أيضا - وذلك في القليل النادر - مركبة مقفلة تدخل إليه وتخرج دون أن يروا من فيها، فيقفل الباب حالا عند دخولها أو خروجها.
إلا أن أحد القرويين في تلك القرية أوعز أنه سمع مرة من ذلك المنزل الأحمر أصوات آلات موسيقية غريبة تعزف ألحانا غير مألوفة، وأصوات غناء بلغة غير مفهومة، ثم صوت امرأة تستغيث وتصيح صيحات اليأس، وأتم روايته بقوله إنه رأى بعد هذا الصراخ لهبا عظيما عقد عمودا كثيفا من الدخان.
فانتشرت هذه الرواية بين أهل القرية، وأصبحوا يخشون هذا المنزل، ويبتعدون عنه، ويدعونه بالمنزل الشرير.
فلما وصلت المركبة إلى بابه وقفت ونزل السائق، فأمره الرجل الذي كان في المركبة أن يقرع الباب ففعل، وللحال سمع صوتا من الداخل يقول: من الطارق؟
فقال له الرجل من المركبة: أنا رسول النور.
وقد قال هذا القول وهو واضع خنجره فوق صدر جيبسي ينذرها به حذر صياحها، ففتح الباب وأسرع الرجل، فأخذ جيبسي وهي تكاد يضيع رشادها لما أصابها من الرعب، ودخل بها فأقفل الباب أثر دخولهما، وذهب السائق في شأنه دون أن يطالب بأجرة؛ مما يدل على أنه من أتباع العصابة.
ونظرت جيبسي نظرة رعب إلى ما حولها، فرأت حديقة متسعة، باسقة الأشجار، عالية الجدران، ثم نظرت إلى الذي فتح لهم الباب فرأت أمامها امرأة بارعة الجمال، محلاة بالذهب، فعرفت من لونها أنها من الهنود.
أما تلك المرأة فإنها نظرت إلى الفتاة نظرة الفاحص، ثم نظرت إلى الرجل وقالت له بالإنكليزية: ما هذا الفتى؟ - إنها ليست فتى، بل هي من الفتيات.
ثم نزع قبعتها؛ فانحل شعرها، وسقط على كتفيها.
فقالت المرأة: ماذا تدعى؟ - جيبسي. - وماذا يريد قدس النور؟ - يريدون أن تلتمس هذه الفتاة الغفران عند هيكل الإلهة كالي.
فلم تفهم جيبسي المراد من هذا القول، ولكنها نظرت إلى المرأة فرأتها تبتسم ابتساما هائلا؛ فارتعشت وأيقنت أنها مقدمة على خطر عظيم.
46
وأخذت تلك المرأة الفتاة بيدها، وقالت لها: تعالي معي.
فامتثلت وهي لا تعلم مرادها، لكنها على عرفانها بأنها معرضة لخطر مجهول اطمأنت حين رأت المرأة تكلمها بصوت رخيم بدلا من ذلك الرجل العاتي الذي كان يتهددها بالخنجر.
وكانت جيبسي قد نشأت بين النور، فتعلمت منهم مبدأ الاتكال على الأقدار، فكانت تقول في نفسها: أنا الملومة، فلو لم أخدع روكامبول وأخرج من غرفتي دون أن أخبره لما أصبت بما أصابني الآن.
ثم أطرقت برأسها إلى الأرض، واستسلمت للقضاء، وسارت مع تلك المرأة إلى حيث كانت تقودها.
فاجتازت بها الحديقة، وأدخلتها إلى قاعة مفروشة حسب اصطلاح الإنكليز، فاطمأنت الفتاة بعض الاطمئنان لهذا المنظر.
ثم رأت تلك المرأة الهندية قد وضعت المصباح على طاولة ودنت من الفتاة، فسألتها عن اسمها، وعن الساعة التي قبضوا عليها فيها، ثم سألتها إذا كانت جائعة فزاد اطمئنان الفتاة، وأبت أن تأكل.
فقالت لها الهندية: خير لك أن تأكلي، فإنك متى دخلت إلى الهيكل لا تستطيعين أن تأكلي وتشربي.
وأبت الفتاة أن تأكل أيضا، وعند ذلك سارت بها الهندية في دهليز طويل حتى إذا انتهت إلى باب ففتحته ودخلت بجيبسي، ثم أغلقت الباب، فلم تستطع الفتاة أن ترى شيئا لشدة الظلام.
ولكنها علمت بعد هنيهة أنها وحدها فوجف قلبها، ولبثت في مكانها لا تجسر على التقدم أو الرجوع، فركعت وذكرت اسم شخص استغاثت به، ولكن هذا الشخص لم يكن السير آرثر، بل روكامبول، فلم يجبها أحد، وأين لروكامبول أن يلبيها في هذا المكان؟
ثم ظهر شعاع شق حجاب الظلام، وقد بدأ الشعاع بلون مصفر يكبر ويتسع، حتى أصبح شبيها بالشمس، فرأت جيبسي أنها في محل متسع، وأن هذا النور ظهر من السقف، فجعلت تنظر إلى ما حواليها فرأت الجدران العالية رسمت عليها رسوم ما رأت أغرب منها، ثم رأت تمثالا هائلا من البرونز، وعند ذلك بزغت أنوار كثيرة من ثقوب في السقف كانت تشبه النجوم حول تلك الشمس، فانجلى التمثال لجيبسي، وعلمت أنه تمثال الإلهة كالي التي يعبدها الخناقون، وأنها مسجونة في معبد الهنود.
ثم سمعت صوت باب قد انفتح، فالتفتت فرأت أربع نساء لابسات ملابس بيضاء دخلن من ذلك الباب ومشين ببطء إلى جيبسي، حتى إذا وصلن إليها وضعت إحداهن يدها على كتفها، وقالت لها: إنك سعيدة؛ فإن روحك سترف على قدمي الإلهة كالي.
فطاش رأس الصبية، وشعرت أنها لم يعد لها خطوة بينها وبين الموت.
وكانت جيبسي قد علمت بما أعد لها من العقاب لا سيما حين قالت لها إحدى تلك النساء: إنك لا شك من أسعد النساء؛ لأنك ستصعدين إلى عرش الإلهة كالي حيث ترين مجدها وجلالها، ولكن يجب أن تستعدي.
وقد أشارت إشارة حين قالت هذا القول، فأسرع النساء الثلاث إليها، وجعلن ينزعن ملابسها، فلم تعترض بشيء؛ لأنها كانت شبيهة بالأموات لما أصابها من الرعب، فلم تجد قوة للدفاع، ولكنها كانت تردد من حين إلى آخر اسم روكامبول.
فلما تم تجريدها من ملابسها تقدمت رئيسة النساء إلى العرش، وكان يوجد على قاعدته - وهي من المرمر - مصباح فأضاءته، ثم عادت إلى جيبسي فجاءت بها إلى ذلك العرش وأكرهتها على الركوع وهي عارية.
فأخذ النساء عند ذلك ينشدن الأغاني الغريبة، ويرقصن حولها وهي حائرة ولهانة لا تفهم شيئا مما يجري حولها.
ودام الرقص والغناء ساعة، فلما فرغن فتحت الرئيسة خزانة فأخرجت منها ثوبا كبيرا لا أكمام له، وهو من الحرير الأصفر عليه نحو ألف رسم من رسوم عباد وشنو، وفي صدر الثوب رسم الفيل الأبيض العظيم الذي يعبده بعض الهنود، فأكرهوها على لبس هذا الثوب.
ولما لبسته قالت لها إحدى النساء: تأهبي للصوم والصلاة والظهور أمام الإلهة كالي، فإن روحك ستفارق جسمك مساء غد حين تظهر النجوم في قبة السماء، فتسافر تلك الروح سفرها الطويل.
فردد النساء بعدها: صومي أيتها الفتاة واستعدي.
ثم أشارت الرئيسة إشارة للنساء فخرجن جميعهن، ولبثت جيبسي جالسة على قاعدة التمثال تشيع النساء بنظرات تائهة تشبه نظرات الجانين إلى أن خرجن وأقفل باب المعبد.
وكانت الأنوار لا تزال منبعثة من ثقوب القبة، ثم جعلت تضعف وتنطفئ الواحد بعد الآخر حتى لم يبق غير ذلك التمثال الموضوع على المثال.
أما جيبسي فكانت تنظر نظر الذعر إلى مثال تلك الإلهة، فلما رأت أن الأنوار قد انطفأت، ولم يبق غير التمثال انجذبت إليه بقوة عظيمة، فدنت منه فجعلت تنظر رسومه الغريبة، فرأت على ساقه الأيسر رسم فتاة ترقص وتحيط بها عائلتها بين الأشجار، والعبيد السود يعزفون حولها بآلات الطرب ، وبعضهم يقرعون الطبول ، وتحت أقدامهم زهور متناثرة تشبه الزهور التي كانت متناثرة أيضا تحت قدميها، فخيل لجيبسي أن هذه الفتاة تشبهها.
ثم نظرت ساق المثال الأيمن فرأت تلك الفتاة نفسها، ولكن على غير ما رأتها مرسومة في الساق الأخرى، فإنها كانت موثوقة اليدين والقدمين، محمولة على جواد وهي مرعوبة منذعرة، والفارس ينظر إليها ويضحك ضحك الساخر المنتقم بما يدل على أنه قد اختطفها من عائلتها.
ووراء هذا الفارس فرسان آخرون مسلحون بالسهام وبأيديهم تلك الحبال الهائلة التي يستخدمها الخناقون.
وكان الرسم ممثلا أبدع تمثيل، وكانت جيبسي تتمثل لها تلك الفتاة حتى إنها أوشكت أن تسمع صوت استغاثتها.
ثم نظرت إلى ذراع التمثال الأيسر وعليه بقية حكاية الفتاة، فرأت رسما غريبا يدل على أن حكاية جيبسي نفسها رسمت على هذا المثال، فإنها رأت الفتاة واقفة بين أربع نساء وهن يخلعن ثيابها عنها، ويلبسنها ثوبا كالثوب الذي ألبسنه لجيبسي.
فوجف قلبها، وانصب العرق البارد من جبينها، ونظرت إلى الذارع الأيمن كي تعلم بقية الحكاية، فرأت الفتاة مقيدة، ورأت رجالا يدخلون إليها وهم يحملون على أكتافهم حطبا وآلات الوقود.
فصاحت صيحة منكرة كأنها أدركت مصيرها، وأرادت أن تصرف نظرها عن التمثال لهول ما رأت، ولكنها لم تستطع، بل أرادت أن تعرف تتمة حكاية الفتاة، فنظرت إلى صدر التمثال فرأت الفتاة منطرحة فوق محرقة، وحول المحرقة أولئك النساء اللواتي ألبسنها الثوب بلا قميص، وقد تصاعد اللهب، وعلق بأطراف الصبية، وقد حضر هذا المشهد كثير من الناس.
فلما رأت جيبسي ما رأته أيقنت أنها ستموت محروقة كما ماتت تلك الفتاة، فنزلت عن التمثال وملأ الذعر قلبها، وخطر لها الانتحار فرارا من مثل هذا الموقف الرهيب.
وفيما هي تنظر إلى ما حواليها سمعت صوت باب المعبد قد فتح، فالتفتت وصاحت صيحة دهش، ذلك أنها رأت رجلين هنديين يدفعان إلى داخل المعبد ثالثا كان يحاول مقاومتهما دون فائدة.
أما سبب صياحها فهو أنها عرفت هذا الرجل الثالث وهو عشيقها السير آرثر نويل.
47
ولنعد بالقراء ساعة كي يعلموا ما مضى وجرى للسير آرثر، وكيف وصل إلى هذا المعبد، فقد تقدم لنا القول إن هذا النبيل الإنكليزي بينما كان ينتظر عشيقته جيبسي في منزله، وقد أطفأ المصباح حين سمع قرع النافذة وفتحها دخل عليه رجلان فأوثقا يديه ورجليه، ووضعا كمامة على فمه بحيث لم يعد يستطع الدفاع والاستغاثة.
وقد جرى ذلك بسرعة غريبة ودون حركة، حتى إن الخادمة العجوز لبثت تغط في نومها دون أن تسمع حسا.
وقد غطى أحد الرجلين وجه السير آرثر كي لا يرى إلى أين يذهبان به، ثم حملاه وخرجا به من منزله، فوضعاه في مركبة مقفلة، وأمرا السائق أن يسير مسرعا.
فسارت بهم المركبة نحو ساعة حتى وقفت، ففك الرجلان قيد رجلي السير آرثر وأخرجاه من المركبة، ثم أمراه أن يمشي أو يقتل، فامتثل ومضى معهما عدة خطوات على رمل، وهو لا يرى شيئا من العصابة التي كانت على عينيه، ثم قال له أحدهما: لقد وصلنا إلى سلم فاصعد.
فامتثل وصعد عدة درجات، ومشى بعد ذلك في دهليز طويل انتهى بعده إلى غرفة مفروشة خير فرش.
فأمره أحدهما أن يجلس على كرسي فامتثل، وعند ذلك نزعت العصابة عن عينيه، والتفت منذعرا فلم ير الرجلين، ورأى أنه مقيم وحده في هذه الغرفة.
فحار في أمره، وأخذ يفحص فرش الغرفة، فرآه إنكليزيا، وكانت يداه لا تزالان موثوقتين، فدنا من الباب، ونظر فيه فرآه محكم الإقفال، ثم رأى نافذة عليها ستار، فدنا منها وأزاح الستار بكتفه، فرآها مقفلة، فوقف وقفة الحائر المبهوت لا يعلم أين هو وما يريدون من أسره.
ولكنه ما لبث على هذه الحال بضع دقائق حتى فتح الباب ودخل منه رجلان، أحدهما بملابس الإنكليز، والآخر بملابس الهنود، فلما وصلا إلى السير آرثر أمر الإنكليزي الهندي بإشارة أن يخرج، فانحنى بملء الاحترام وامتثل.
وكان على وجه الرجل قناع، فقدم كرسيا للسير آرثر باسمه، فانذهل السير آرثر حين سمع هذا الرجل المقنع يناديه باسمه.
فقال له: ماذا تريدون مني وبأي حق دخلتم إلي، ولماذا جئتم بي إلى هنا؟
فقال له المقنع: أصغ إلي، إنك تدعى السير آرثر نويل، وأنت ابن خال مس سيسيليا، وقد كنت مقيما في المنزل الذي اختطفناك منه متنكرا باسم ويليم كي تستقبل فتاة تزورك فيه.
فانتفض السير آرثر وقال له بجفاء: ماذا يعنيك هذا الأمر؟ - إنك مخطئ كل الخطأ، ألم تقل لك الفتاة التي كانت تزورك أنها معرضة في حبك لخطر شديد؟
فظهر السير آرثر ما كانت تظهره جيبسي من الرعب، وقال: نعم.
فقال الرجل المقنع: أتعلم من هي هذه المرأة؟ - ... كلا! - ولكنك كنت تحبها. - حبا لا يوصف أضحي من أجله حياتي. - إذن أنت لا تخشى الموت، فإن هذه الفتاة التي كانت تهواك لم تكن تخاطر بحياتها فقط، بل بحياتك أيضا، ولكن هل علمت اسم هذه الفتاة الحقيقي؟ - كلا ... - أعلمت مهنتها؟ - كلا، أكان لها مهنة؟
فضحك الرجل المقنع ضحكا عاليا، وقال: إنك أنت النبيل وابن خال مس سيسيليا تحب منذ عامين راقصة من الراقصات في الطرق، وفتاة من فتيات وينغ تدعى جيبسي النورية ...
فصاح السير آرثر صيحة منكرة، وهاجت به عواطف الكبرياء، وصبغ وجهه بحمرة الخجل، فلو لم تكن يداه موثقتين لغطى بهما وجهه إخفاء لذلك الخجل.
ومن يعلم ما فطر عليه نبلاء الإنكليز من حب الذات، والمحافظة على التقاليد، واحتقارهم للنور يتمثل تلك العواطف الهائلة التي ثارت في نفس السير آرثر حين علم بأنه كان يهوى راقصة نورية في أقذر محلات لندرا.
فقال له المقنع: ألم تر على صدر تلك الفتاة رسوما عجيبة؟ فاعلم أن هذه الرسوم هندية، وإذا كنت تريد أن تعلم السبب الذي وجدت من أجله في هذا المكان فأصغ إلي. - قل فإني مصغ إليك. - إن هذه الفتاة ولدت في الهند وكرست للإلهة كالي.
وماذا يهمني جميع ذلك. - أصغ إلي ... فإن كل فتاة تضحى للإلهة كالي، يقضى عليها أن تموت بتولا. - فابتسم السير آرثر وقال: إن الإلهة كالي قد خدعت هذه المرة. - نعم، لكنها ستنتقم عن هذا الخداع بالموت. - ماذا تريد أن تقول؟ - إن جيبسي حكم عليها بالموت. - ومن حكم عليها؟ - نحن ... - ومن أنت؟ - أنا في لندرا من أعيانها وكبرائها، أما في الهند فإني رئيس جمعية الخناقين أعرفت الآن من أنا؟
فارتعش السير آرثر، أما المقنع فعاد إلى حديثه، وقال: إن ما تأمر به الإلهة كالي يجب على خدامها الأمناء تنفيذه، ولهذا فإن جيبسي ستحرق وهي في قيد الحياة، وسيكون لرفيقها بالجريمة - أي أنت - نفس العقاب.
فذعر السير آرثر ذعرا شديدا، وولد له الرعب قوة شديدة تمكن بها من قطع قيود يديه، لكن الرجل المقنع صفر بصفارة كانت معه ففتح الباب في الحال، ودخل منه عشرة رجال أشداء من الهنود، فأحاطوا به ومنعوه عن كل دفاع.
ولما رأى السير آرثر موقفه، وعلم ما يتهدده صاح بهم يقول: - أيها الأشقياء، إنكم تستطيعون أن تحرقوا راقصة نورية لا تهتم الحكومة بالبحث عنها، أما أنا فإني من أشراف الأسرات النبيلة في بلاد الإنكليز.
وقال لهم المقنع: إنه ابن خال مس سيسيليا.
ثم أزاح القناع عن وجهه، فانتفض السير آرثر وقال: من أرى أأنت السير جورج؟ - نعم أنا هو السير جورج الذي سيتزوج مس سيسيليا، ولا بد له من إبعاد السير آرثر إلى الأبد.
ثم التفت إلى الهنود وقال لهم: كبلوه الآن، وادخلوا به إلى حيث تقيم جيبسي النورية كي يتأهب وإياها للموت، فإنهما يعيشان أربعا وعشرين ساعة بعد.
هذا هو السبب في قدوم السير آرثر إلى المعبد الذي سجنت فيه جيبسي، فلما رأته تلك الفتاة صاحت صيحة فرح، ونسيت موقفها الهائل، وحسبت أنها في الفردوس.
إلا أنها رأت ما لم تكن تتوقعه مما يدل على الضعف الإنساني، فإن السير آرثر خاف من الموت، ويئس يأسا لا يوصف حين علم أنه سيحرق حيا مع خليلة من النور، وقد أيقن مما رآه بين عيني السير جورج أن الحكم عليه بالموت لا بد من إنفاذه، وأنه لا يشفق عليه، فأوشك أن يجن من يأسه؛ لأنه لا يريد أن يموت هذه الميتة الشنعاء، ولما رأى جيبسي قادمة إليه صاح بها يقول بملء الغضب: إلى الوراء أيتها النورية الشقية، ارجعي فإنك علة شقائي، وأنت السبب في ما سألاقيه من الموت الذريع.
وسقطت جيبسي على ركبتيها وقد هالها هذا الانقلاب، حتى لم تعد تعلم ما تقول.
وكان الهنود قد خرجوا من المعبد بحيث لم يبق فيه سوى العاشقين، وجعل آرثر يشتم جيبسي أقبح شتم حتى جمد الدم في عروقها، فنظرت إلى ذلك الذي طالما أحبته نظرة احتقار، وقالت: إنه نذل جبان، فأهلا بالموت الآن؛ لأني لم أعد أخشاه.
48
وكانت جيبسي مطلقة اليدين والرجلين خلافا للسير آرثر، فإنه كان مقيدا، ولكل إنسان ساعة بسالة وساعة خوف، وقد حلت ساعة الخوف لدى هذا الرجل، فإنه رهب الموت رهبة شديدة أزالت من قلبه كل حب لتلك الفتاة البائسة.
وقد ألقى بنفسه إلى الأرض، وعاد إلى شتم تلك المسكينة التي طالما أحبها، وأراد أن يضحي حياته في سبيلها، ثم مل هذا الشتم وانقلب على ظهره، فجعل ينظر إلى القبة والتمثال، وما يحيط به في هذا المعبد إلى أن استوقفت نظره، فرأى أن التمثال الهائل يكاد يصل إليها بحيث لو وقف شخص على قمته يبلغ إلى سقفها.
وقد رأى في تلك القبة فوق رأس التمثال نافذة من الزجاج ينفذ النور منها إلى المعبد، فاتقدت عيناه بأشعة الأمل، وخطر له خاطر الفرار من تلك النافذة، وذلك أنه يتسلق التمثال حتى يبلغ قمته فيكسر الزجاج، ويخرج منها إلى السطح.
غير أنه لا يقدر أن يتسلق التمثال وهو موثق اليدين والرجلين، ومن يفك له وثاقه غير جيبسي.
ولكن هذا الرجل الذي خاف من الموت حتى إنه أهان فتاة خاطرت في سبيل حبها إياه بالحياة خطر له أن يلتجئ إليها.
وكانت الفتاة منطرحة على أقدام التمثال وهي شبيهة بالأموات؛ لما لقيته من قسوة حبيبها، ودناءته، حتى إنها خجلت لحبها هذا الإنسان بمقدار خجلها حين قيل لها من قبل إنها من النور.
أما السير آرثر فإنه لم يكن يخطر في باله غير الفرار، فالتفت إلى الفتاة وناداها باسمها بصوت منخفض، فلم تجب وأعاد النداء فارتعشت، ونظرت إليه نظرا باهتا جامدا، فقال لها: أأنت مصممة يا جيبسي على الموت؟
فأشارت برأسها إشارة المصادقة، وعادت إلى ما كانت عليه من ظواهر اليأس.
فقال لها: إننا نستطيع النجاة إذا أردت.
فلم يظهر على الصبية شيء من دلائل الاهتمام بهذه النجاة، وقالت له: كيف تنجو؟ - انظري إلى هذه القبة، ألا تجدين فيها نافذة فوق التمثال؟ فإذا فككت وثاقي، فإننا نتسلق التمثال ونهرب من النافذة.
وكان هذا الرجل يكلمها بلهجة المتوسل المستعطف بعد أن كان يشتهما أقبح شتم.
فدنت منه جيبسي وقالت له: أدر كتفيك لأحل وثاق قدميك ووثاق يديك.
وكان السير آرثر نائما على ظهره فانقلب على بطنه، وبدأت الصبية تفك وثاقه عقدة عقدة، حتى فكت وثاق يديه، ففك هو وثاق قدميه وصاح صيحة فرح.
أما جيبسي فإنها عادت إلى النوم تحت قاعدة التمثال، وقد عاد إليها يأسها، فلم ينتبه آرثر إليها، وأسرع إلى التمثال فتسلقه حتى بلغ قمته، فوقف على رأسه ومد يده إلى تلك النافذة فرأى أنها لا تفتح وهي من الزجاج الشفاف مشبكة بحيث لو كسر الزجاج لأمكن الإنسان أن يهرب من خلاله دون أن يعيقه الحديد.
وكان السير آرثر يخشى إذا كسر الزجاج أن يصل صوت كسره إلى الهنود، ففطن إلى خاتم من الماس كان بإصبعه فقص به الزجاج بهدوء، وأخذ القطعة التي قصها وضعها على رأس التمثال، ونادى الفتاة بصوت ضعيف قائلا: تعالي واتبعيني.
غير أنها لم تتحرك، وبقيت في موضعها.
فقال لها: ما بالك تعالي، ألا تريدين الفرار؟
فهزت جيبسي رأسها دون أن تجيب.
وعند ذلك بلغ آرثر بنذالته إلى أقصى حدودها، فامسك بالقضيب الحديدي، وهرب من النافذة فتوارى عن الأبصار، فأدارت الفتاة رأسها وقالت: أين أنت يا موت، ومتى تأكلني النار؟
أما السير آرثر فإنه صعد إلى سطح المعبد، وكان الفجر قد بدأ ينبثق، فعلم أنه في قرية همستد، ورأى شجرة باسقة اتصلت أغصانها بالسطح، فنزل عليها إلى الحديقة، ثم مشى إلى سورها فتسلق شجرة حتى انتهى إلى الجدار، فألقى نفسه منه إلى خارج ذلك المنزل الهائل، وتنفس نسيم الحرية.
وكان في وسعه أن يسرع في الحال إلى البوليس، فيخبره بما حدث في ذلك البيت، ولكنه إذا فعل ذلك أنقذ الفتاة من الحريق، وإذا أنقذها فقد تقابله ويضطر إلى الخجل منها، فشعر عند ذلك أنه من أدنى خلق الله، ولكنه على هذا الشعور لم ينثن عن عزمه، وانطلق مسرعا في طريق لندرا، مغادرا تلك التي طالما أحبها تحترق وهي في قيد الحياة، بعد أن أنقذته من ذلك الموت الهائل المخيف.
49
ولنعد الآن إلى روكامبول، وإلى مرميس الذي أرسله روكامبول لإحضار ميلون والعصابة، وقد كان مرميس شديد الذكاء، كثير المطامع، وأخص مطامعه أن تروق أعماله لروكامبول. ولما أمره روكامبول بالذهاب إلى العصابة أسرع لتنفيذ أمره، فمر بالخمارة التي لقي فيها الهنديين منذ ساعتين، وحانت منه التفاتة فرأى امرأة إرلندية لم يكن رآها من قبل في المكان، فحدثه قلبه أن لهذه المرأة علاقة بأعداء جيبسي، ودخل فجلس بالقرب من طاولتها، وطلب بالإشارة كأسا من الشراب.
وكان جالسا مع هذه المرأة رجل إنكليزي وهما يتحدثان، ولم يكن مرميس يعرف اللغة الإنكليزية، غير أنه يوجد كثير من ألفاظ تلك اللغة تشبه الألفاظ الفرنسية، فأصغى إليهما وسمعهما يذكران جيبسي وآرثر نويل، وجسر واترلو، فأيقن أن حديث قلبه كان صادقا، وعول على الصبر إلى النهاية.
وفيما هو على ذلك رأى جيبسي قد مرت قرب الخمارة فعرفها، بالرغم من تنكرها، ثم رأى أن الإرلندية قد رأتها أيضا، وأنها اضطربت اضطرابا شديدا، وأسرعت إلى الخروج من الخمارة، وهي تقول للرجل: جسر واترلو.
فذهب في أثرها، وذهب مرميس في أثرهما، فرأى الرجل قد صعد إلى مركبة كانت تنتظره هناك، وجلس في مجلس السائق، فعلم أنهم عزموا على اختطاف جيبسي، وأنهم عهدوا إلى هذا السائق بانتظارهم في جسر واترلو لنقلها إلى المكان الذي أعد لسجنها.
فحار في أمره وهو لا يدري أيقتفي أثر الإرلندية أم أثر السائق؟ ثم نظر فرأى الإرلندية قد توارت عن أبصاره، ورأى السائق دفع المركبة إلى المسير، فأسرع إليها وتعلق بين دواليبها، وسارت تنهب الأرض حتى استقرت عند جسر واترلو.
ولم يمض على وقوفها نصف ساعة حتى رأى مرميس تلك الإرلندية ومعها شخصان يحمل أحدهما جيبسي، فوضع يده على مسدسه، وحاول أن يهجم عليهم، غير أنه لم ير من الحكمة مهاجمة أربعة وهو فرد، فلبث مختبئا بين الدواليب، وحاول الصبر إلى النهاية وهو يقول في نفسه: إنهم لم يختطفوا الفتاة إلا كي يبحث عنها روكامبول، ويسقط في الفخ الذي ينصبونه له، فلأرى إلى أين يذهبون بها.
وقد خدع مرميس بهذا الظن، غير أن انخداعه أسفر عن نتيجة صالحة كما سنرى، فإنه حين بلغت المركبة إلى ذلك المنزل وفتح بابه أدخلوا جيبسي إليه، وسمع صوتا يقول للسائق: آرثر نويل.
وكان مرميس قد سمع هذا الاسم بالخمارة. وهو لو كان يعلم أنهم سيحرقون الفتاة في ذلك المنزل لدخل إليه، ودافع عنها بمسدسه، غير أنه كان يعلم مما سمعه في خمارة سانت جورج عن حكايات جيبسي أن الفتاة لا يحق لها الزواج وإذا تزوجت قتلوا زوجها، وأما هي فلا ينالونها بسوء.
وكان هذا كل ما يعلمه من حكايات الفتاة، ولما عادت المركبة بقي مختبئا بين دواليبها حتى وصلت إلى جسر واترلو، فصعد إليها شخصان كان ينتظرانها هناك، وسمع للمرة الثالثة اسم آرثر نويل.
ثم سارت المركبة حتى اقتربت من منزل آرثر، فخرج منها الرجلان، وعادا بعد حين بالرجل مكبلا، فوضعاه في المركبة، وأمرا السائق أن يسير إلى همستد، فعلم مرميس أنهما أسرا آرثر نويل، وأنهما ذاهبان به إلى حيث سجنت الفتاة، فلما وصلت المركبة إلى جسر واترلو أفلت منها وهو يقول في نفسه لقد عرفت كل شيء، ولم يبق علي إلا أن أخبر الرئيس، ثم انطلق يعدو في شوارع لندرا إلى ويت هايل.
وكان روكامبول لا يزال ملتفا بردائه، وهو جالس على باب غرفة جيبسي يحرسها، ويحسب أنها لا تزال فيها، وأن العصابة تحرس البيت؛ لأنه مضى ساعتان ولم يعد مرميس إليه، فلم يعد لديه شك أنه عاد بالعصابة وأقام معها.
وفيما هو جالس وقد خاض في بحار التأملات إذ رأى مرميس قادما وعليه دلائل الاهتمام، فسأله: ماذا حدث ألم تجد العصابة؟ - إني لم أذهب إليها؛ لأني اهتممت بما هو أهم منها، فإني أعرف إلى أين ذهبوا بجيبسي؛ لأنك تحسب أنها في الغرفة، ولكنها ليست فيها.
فاضطرب روكامبول وقال: ويحك ماذا تقول، وكيف تخرج جيبسي من هذه الغرفة وأنا أحرسها؟ - لا أعلم، ولكني على يقين مما نقلته إليك.
فذعر روكامبول ودفع الباب بيده ففتح ولم يجد الفتاة في سريرها، ولكنه رأى نور القمر ينبعث من نافذتها، فانتبه إليها، وعلم أنها خرجت منها، فأسف أسفا شديدا، وقال: إنها تركن إلي كل الركون، فليأخذ الله بناصرها؛ لأني غير مسئول عن خطئها.
فقص عليه مرميس جميع ما اتفق له، فافتكر روكامبول هنيهة، وقال: إما أن يكون الوقت فسيحا لدينا فنستطيع إنقاذها، وإما أن يكون فات الأوان؛ لأنهم لم يذهبوا بحيبسي وعشيقها السير آرثر إلى ذلك المنزل إلا ليقتلوهما سوية، ولكن للخناقين عادة أن يصوموا ضحاياهم أربعا وعشرين ساعة قبل قتلهم، وإذا كانت هذه العادة لا تزال متبعة عندهم إلى الآن فلا بد لنا من إنقاذ الفتاة، والآن هلم معي.
ثم ذهب روكامبول من ذلك المنزل يتبعه مرميس، فسارا في الشارع حتى مرا بالخمارة المعهودة، فهز مرميس ذراع روكامبول، وقال له: هذه هي الإرلندية والسائق الجالسان على الطاولة الأولى، وهما يتحدثان بما فعلاه دون شك.
فقال له روكامبول: إذن لنجلس بجانبهما؛ لأني أعرف لغتهما، ولا يفوتني حرف من حديثهما.
ودخل الاثنان فطلب مرميس بالإشارة كأسين من الخمر، وجعل روكامبول يحادثه بالإشارة أيضا وهو يسمع حديث الإرلندية والسائق، وكان السائق يطلب إليها أن تقترن به وهي تعتذر لفقرها، فيعللها بما سيقبضه من الذين دفعوها إلى اختطاف جيبسي وآرثر، وظهر لروكامبول من حديثهما أنهما كانا يأملان أن يقبضا 10 جنيهات، وقد ختم حديثهما بقول السائق: أتعديني بالزواج متى قبضنا هذا المبلغ؟ - سوف نرى.
ودفع السائق ثمن ما شربا، وخرجا من الخمارة.
وبينما هو يدفع ثمن الشراب قال روكامبول لمرميس: اذهب واكمن في ضواحي ذلك المنزل الذي حبست فيه الفتاة، وانتظرني هناك، وانتبه لكل ما يحدث، وإذا رأيت أحدا خرج من المنزل اقتفي أثره حتى تعرف الطريق التي يسير فيها.
ثم ذهبا، فسار مرميس إلى تلك القرية، وذهب روكامبول في أثر السائق فأدركه على مسافة مئة خطوة من الخمارة، ووضع يده على كتفه وباغته بقوله: أتحب الإرلندية حبا صادقا؟
فانذهل السائق، ولكنه ما لبث أن ثاب إلى رشده فقال: إني أحبها أصدق حب، ولكنها تأبى الاقتران بي لفقري. - وإذا كان لديك مئة جنيه أترضى بك بعلا؟
اندلع لسان السائق؛ لأنه لم يحلم في حياته بمثل هذه الثروة، وقال: إنها ترضى بي دون شك، ولكن من أين لي هذا المبلغ؟ - إنك تستطيع نيله متى أردت إذا فعلت ما أريد.
ثم سار به إلى زاوية الشارع، وأخرج من جيبه محفظة مملوءة بالأوراق المالية، ففتحها وقال له: انظر، فإني أعطيك مائة جنيه متى أردت. - ماذا يجب أن أصنع؟ - لا شيء، سوى أن تذهب بي إلى المكان الذي ذهبت إليه بجيبسي والسير آرثر.
فعلم السائق أنه مطلع على كل شيء، ووازن بين العشرة التي كان يتأمل أن يقبضها من الخناقين وبين المائة جنيه التي سيقبضها من روكامبول؛ فرأى أن خدمة روكامبول أوفق له، فقال: رضيت بما تريد.
فتأبط روكامبول ذراعه ومشى وإياه، وأخذا يتحدثان.
أما مرميس فقد ذهب كما أمره الرئيس إلى المنزل الذي سجنت فيه الفتاة، وبينما هو يفتش عن زاوية يكمن فيها رأى رجلا قد وثب من سور الحديقة، وانطلق يعدو فعدا في أثره حتى أدركه، فقال له: عفوك يا سيدي، أما أنت السير آرثر نويل؟
فتعلثم السير آرثر، وكان هو بعينه، وقال له: كلا، إني لا أسمى بهذا الاسم.
ثم حاول المسير، فحال مرميس دونه، وحاول أن يمنعه فضم السير آرثر قبضته وأراد ضربه، ولكن رأى رجلا دخل بينهما وقال له: يجب يا حضرة السير آرثر أن تخبرنا بما حدث لجيبسي النورية؟
وكان هذا الرجل روكامبول أتى به السائق إلى همستد ليرشده إلى ذلك المنزل الذي سجنت فيه الفتاة.
50
بعد أن هرب السير آرثر من المعبد بقيت جيبسي فيه لا تتوقع الخلاص إلا بالموت بعد أن مكر بها عشيقها، وأيقنت أنه نذل جبان حين علم بموته، فأهانها وغادرها في ذلك المعبد، وهي التي أنقذته منه، فكانت تنتظر الموت بفارغ الصبر، ولكنها كانت بعد يأسها غير جازعة منه.
وأقامت في ذلك المعبد بعد هربه عدة ساعات، فانطفأت الأنوار، وبزغت أشعة الشمس من نافذة المعبد فانجلت لها رموز هائلة.
وبقيت منطرحة على قاعدة التمثال، فأحست بالجوع، وقامت تتفرج على النقوش كي تتسلى عن ذلك الجوع.
وفيما هي على ذلك فتح الباب ودخلت النساء الأربع فدنون منها، وهن ينشدن الأناشيد باللغة الهندية، ثم انقطعن فجأة عن الغناء وعليهن مظاهر الاضطراب؛ لأنهن رأين أن السير آرثر غير موجود في المعبد، فعلا صياحهن، ودخل على أثر ذلك الصياح رجلان، فوقفا على العتبة منذهلين، ثم دنا أحدهما من جيبسي وقال لها: أين الرجل الذي كان حكم عليه أن يموت معك؟
فرفعت الفتاة يدها مشيرة إلى سماء القبة دون أن تفوه بحرف، فحسب الحاضرون أنها تشير إلى السماء، ولم يفطن أحد منهم إلى زجاج النافذة؛ لأنها كانت عالية جدا، فسألها أحد الرجلين: أين هو السير آرثر؟
وكأن الفتاة على فرط نفورها من عشيقها كانت لا تزال مشفقة عليه، فما أرادت أن تخبرهم كيف هرب، وقالت لهم بملء السكينة: إن الإلهة قد استجابت توسلي بعد صلاتي، فأرسلت ملاكين اختطفاه.
وكان تعبد الخناقين لإلهتهم كالي شديدا، فجعلوا اختفاءه على محمل مقدس تمجيدا للإلهة وركعوا.
وجعل النساء يتلاثمن أطراف ثوب الفتاة لحدوث هذه الأعجوبة ببركة صلاتها، وقالت لها إحداهن: ليتمجد اسمك؛ لأن الإلهة لم تجب نداءك إلا لأنها غفرت لك، واعتبرتك من الصالحات.
ثم تعاقد الرجال والنساء بالأيدي وأخذوا يرقصون حول جيبسي.
وبينما هم على هذا الرقص والغناء دخل السير ستوي والسير نيفلي، فرأيا أن السير آرثر قد نجا، وعلم السير ستوي في الحال كيف كانت نجاته، فقال لرفيقه: إنه هرب من النافذة ، وسيدعو البوليس دون شك، وإذا لم نسرع بإحراق الفتاة باغتنا البوليس وأنقذها. - هو ما تقول يا حضرة النور، فأمر بالإسراع.
وأشار إليهم السير ستوي إشارة رمزية، فذهب جميع من كان في المعبد، ثم عادوا بعد هنيهة وهم يحملون معدات الوقيد، ووضعوها على المحرقة، وعاد النساء إلى الرقص والنشيد، والسير ستوي واقف مع رفيقه وقفة الاحترام.
ثم أشار السير ستوي إشارة أخرى، فهجموا على الفتاة فقيدوها، ووضعوها فوق المحرقة، فجعلت تصيح صياحا يقطع القلوب، فكان صياحها يضيع بين نشيد النساء.
وعند ذلك أخذ السير ستوي مشعلا، وأوقد بلهيبه الحطب الموضوع تحت المحرقة، فاشتعل وأخذ لهيبه يتصاعد حتى أوشك أن يصل إلى جيبسي، كل ذلك والنساء ينشدن، والسير ستوي ينظر إلى هذا المنظر الهائل نظر الرضا، وقد أغمي على الفتاة لما نالها من الخوف، فانقطع صوتها، ولم تعد تستغيث.
وكان الهنود يدورون حول المحرقة، وينشدون هذا النشيد:
سلام على تلك التي تطهرها النار، وسترى الإلهة بجلالها.
سلام على جيبسي التي اختارت لها الإلهة خطيبا من الخناقين في السماء.
إن سماء الهند الصافية، وزرقة مياه البحر، وأشعة الكواكب الذهبية جميع ذلك إليها لا يذكر بإزاء فردوس الإلهة كالي.
إن قصر الإلهة كالي مشيد بالذهب والفضة والرخام والمرمر، ورصعت جدرانه باللؤلؤ واليواقيت، ورقصت فيه الحور والولدان، فالمجد للإلهة كالي.
إن في هذا القصر يقيم اللواتي يمتن عذارى، ويضحين للإلهة كالي فينعمن بنعيم الخلود.
السلام عليك يا جيبسي، فإن روحك ستصعد قريبا إلى أقدام الإلهة كالي فتبعثها في أجمل جسم.
وبينما كان النساء ينشدن الأناشيد طائفات حول المحرقة، وبينما كان السير جورج والسير نيفلي يسمعان الأناشيد باحترام، وينظران إلى النار يتزايد ضرامها دون إشفاق، وبينما جيبسي مغمى عليها، وقد ارتفع اللهب حتى اتصل بطرف ثوبها، سمع دوي شديد، وصفير رصاصة خرجت من مسدس، فأصابت السير نيفلي بدلا من أن تصيب السير جورج، فسقط على الأرض.
ثم رأوا أن زجاج النافذة الكبيرة في سقف القبة قد تحطم، وأن كثيرا من الرجال قد اندفعوا منها إلى التمثال ، وسقطوا إلى المعبد ، فغصت بهم رحبته.
وكانوا جميعهم عراة الصدور، وفوق صدورهم وشوم تدل على أنهم من أبناء الإله سيوا.
فأسرع أحدهم الذي كان يظهر أنه رئيسهم، فانتشل جيبسي من فوق المحرقة، وأطفأ النار العالقة بثوبها دون أن تلحق جسمها.
وقد انخدع الهنود بوشوم أولئك الرجال، وحسبوا أن الإله سيوا قد انقض عليهم، فركعوا جميعهم كأنهم قد صعقوا، فتركهم الرئيس وشأنهم، وصعد بجيبسي إلى التمثال، فخرج بها من النافذة، ثم تبعه جميع من كان معه، وجعلوا يتسلقون التمثال واحدا بعد آخر.
ولم يبق ريب لدى جميع من كان في المعبد أن أولئك الرجال من أشياع سيوا، فكانوا لا يجسرون أن ينظروا إليهم من المهابة خلافا للسير جورج، فإنه كان يعض كفيه من اليأس؛ لأنه علم أن هذا الرجل الذي اختطف جيبسي هو روكامبول، ولم يكن يستطيع مقاومته لكثرة رجاله، فاضطر إلى الهرب من المعبد حين رآه داخلا بهذه القوة.
51
مضى ثلاثة أيام على هذه الحادثة كان في خلالها رجلان من رجال هذه الرواية مقيمين في منزلهما لا يخرجان منه، وهما السير نيفلي، والسير آرثر.
وأما السير ستوي فإنه خاف خوفا شديدا من روكامبول، فهرب من المعبد، واختبأ مدة بين أدغال القرية؛ كي لا يهتدوا إلى أثره، ثم عاد إلى منزله في لندرا، وكان يرجو أن يرى كيرشي فيه؛ لأنه هو وحده يستطيع إقناع عصابة الخناقين أن الذين هاجموهم في المعبد لم يكونوا من عباد الإله سيوا، فإن انتصار هذا الإله على الإلهة كالي يضعف عزائمهم، ويحط من منزلة ستوي في عيونهم، ولكنه لم يره في المنزل فأيقن أنهم اختطفوه؛ لأنه كان واثقا من وفائه فلا يمكن أن يهرب.
وكان معظم خوفه من مس سيسيليا، فإنه كان يخشى أن يكون السير آرثر أخبرها بما اتفق له، وأن تكون صدقت كلامه، فإنها لم تكتب إليه كلمة منذ ثلاثة أيام بعد أن وعدته في مقابلتها الأخيرة بالزواج به، فلم يعد لديه شك أن السير آرثر أخبرها بجميع ما اتفق.
أما السير آرثر فإن خوفه من الخناقين كان أكثر من خوف السير جورج من فقد خطيبته، ولذلك فإنه بعد أن أخبر روكامبول بجميع ما حدث له مع السير جورج، وقص عليه حكاية فراره من النافذة بمساعدة جيبسي تنكر باسم آخر، وأقام في فندق مبالغة في التنكر لشدة خوفه من الخناقين، وقد تجسم الخوف في نفسه حتى إنه هجر الأميرالية، فلم يعد يذهب إليها، وعول على مغادرة إنكلترا إلى خلكيدونيا الجديدة، فأرسل خادم الفندق فقطع له تذكرة السفر في سفينة تسافر بعد 3 أيام، وأعد معدات الرحيل.
وفي اليوم الثالث بينما هو يتأهب للسفر إذ سمع قرع بابه فلم يجب، فأعاد الطارق مرة ثانية فلم يجب أيضا، وعند ذلك فتح الباب ودخل رجل عرفه السير آرثر لأول نظرة إنه روكامبول، بالرغم عن تغيير زيه فإنه كان بملابس البحارة حين لقيه المرة الأولى بجوار المنزل الأحمر، وهو الآن مرتد بملابس الأعيان، فأقفل روكامبول الباب بعد دخوله، وقال له: أسألك المعذرة يا سيدي، فإني لم أعلم أنك مسافر صباح غد إلى خلكيدونيا، ولا تتوهم يا سيدي أني أريد بك شرا، فإني لست من رجال الشر، ولا مأرب لي بانثنائك عن قصدك إلا أني أتيت أسألك قضاء أمر يسير.
ثم أخرج مسدسا من جيبه، وقال: إن جيبسي أخبرتني بكل شيء، وعلمت أني أستطيع أن أنال منك ما أريد متى حملتك على الخوف مني، واعلم الآن أنك إن لم تكتب الكتاب الذي سأمليه عليك في الحال ... وكنت أود إنقاذك من الخناقين، إلا أني أحتقرك، فلا أمد لك يد المساعدة فاهرب متى شئت، ولكن اجلس على هذه المائدة قبل فرارك، واكتب ما أمليه عليك.
فتنهد السير آرثر تنهدا طويلا، وامتثل لما أراد روكامبول. •••
ولنعد الآن إلى مس سيسيليا، فإنها كانت قد تولهت بحب السير جورج ستوي لا سيما بعد اجتماعها به في منزله، واعتقادها الراسخ في ذهنها أن كل ما قيل عنه من وشايات المفسدين.
وكانت قد التجأت إلى عمها اللورد شارنغ فوعدها خيرا، فاجتمع بالسير جورج، وراقت له عشرته، وأعجب بحسن أدبه، وقال له: إنك تحب ابنة أخي وهي تحبك إلا أن أخي لا يزال معارضا لهذا الزواج، فاتكل علي واصبر.
فاطمأنت مس سيسيليا لوعد عمها، ولكنها كانت منشغلة البال، مضطربة الحواس؛ لأن السير جورج لم يرها، ولم يكتب لها كلمة منذ أربعة أيام؛ وذلك لأنه كان يعتقد أن السير آرثر نويل أخبرها بما اتفق له، فلم يجسر على مكاتبتها.
وبينما هي جالسة في معملها التصويري، وهي مفكرة مهمومة بمناجاة السير جورج إذ دخل عليها الخادم يحمل رقعة زيارة مكتوبا عليها روكامبول.
فنظرت الفتاة إلى الرقعة، ولم تعرف صاحبها، فقرأت سطرا كان مكتوبا تحت الاسم بالقلم الرصاص خلاصته: إن هذا الزائر قادم بشأن خاص بالسير جورج ستوي.
فأمرت الخادم بإدخاله في الحال.
ودخل روكامبول وحياها، وبعد أن دعته إلى الجلوس، قال لها: إني قادم أولا لأحمل إليك وداع ابن خالك السير آرثر، فإنه سافر في هذا الصباح إلى لفربول، ومنها إلى خلكيدونيا الجديدة.
فانذهلت الفتاة، وقالت: كيف سافر؟ ولماذا؟ - إنه سافر يا سيدتي وقاية لنفسه، فقد حكم عليه منذ أربعة أيام بالإحراق حيا مع خليلته النورية، لكنه تمكن من الفرار بعد القبض عليه؟
فارتعشت لهذا الخبر الغريب، وقالت له: ما هذه الأنباء التي أسمعها أفي يقظة أنا أم في منام؟ - كلا يا سيدتي لست حالمة، وما أقوله لك هو الحقيقة بعينها، فإنه يوجد في قلب العاصمة الإنكليزية محكمة سرية حكمت على السير آرثر أن يحرق حيا، ورئيس المحكمة يا سيدتي هو ذلك الرجل الذي قرأت اسمه على رقعة زيارتي، أي السير جورج ستوي.
وصاحت الفتاة صيحة إنكار، ولكن نظرات روكامبول السحرية ضغطت عليها، فتذكرت حديث ابن خالها القديم.
وعند ذلك قال لها روكامبول: إنك قد تشكين بكلامي يا سيدتي؛ لأنك لا تعرفينني من قبل، ولكنك لا تستطيعين الشك بأقوال ابن خالك.
ثم دفع إليها ذلك الكتاب الذي أملاه على السير آرثر في الفندق، وقد اعترف به لسيسيليا بجميع حوادثه بالتفصيل منذ بدء حبه لجيبسي إلى حين نجاته من معبد الهنود .
وكانت لهجة كتابه تدل على حقيقة لا ريب فيها، فصاحت الفتاة عند تلاوتها.
ولكن عواطف حبها تغلبت على إرشاد عقلها، فالتفتت إلى روكامبول وقالت له: أتعلم يا سيدي أن السير آرثر كان يهواني؟ - نعم يا سيدتي. - إذن ألا يمكن أن يكون كتابه هذا نميمة دفعته إليها الغيرة؟
وعلم روكامبول أن صوت قلبها أشد من صوت عقلها، وأن إقناعها بالكلام محال، فقال لها: إنك إذا أمهلتني 3 أيام أريك السير جورج ستوي يرأس مجتمعا للخناقين مرأى العين.
فأهاجت هذه الكلمات الفتاة، وقالت له: إنك إذا أريتني إياه على ما تمثله الآن فإن حبي له يستحيل إلى كره شديد لا حد له، فلا تهنأ لي حياة إلا حين يعاقب على جرائمه بالموت. - هي 3 أيام يا سيدتي، فاصبري وكل آت قريب.
ثم تركها وانصرف.
52
مضى خمسة أيام على حوادث المعبد والسير جورج مقيم في منزله دون أن يرده كتاب من سيسيليا، ولم يكن يجسر على الخروج لاعتقاده أن حادثة المعبد وقتل السير نيفلي لا بد من ظهورها، فكان يتوقع قدوم البوليس الإنكليزي إلى منزله من حين إلى حين، ولكنه لم يحدث شيء من ذلك.
وفي اليوم الخامس اطمأن بعض الاطمئنان، وخرج من منزله إلى النادي الهندي.
واستقبله أصحابه فيه حسب العادة إلا أن بعضهم عجب لغيابه، فقال له: إنه كان يصطاد الضواني.
وسأله آخر عن السير نيفلي، فقال له: ربما سافر مع الجيش إلى الهند.
ودار الحديث أمامه عن الخناقين بمناسبة خنق ذلك الرجل الذي خطب مس سيسيليا، فأجمع الحاضرون على أنهم طائفة من اللصوص بحيث اطمأن السير جورج، وعلم أن تلك الحوادث لم تنفضح أسرارها بعد.
وبعد أن أقام معهم مدة خطر له أن يذهب إلى المعبد ليتفقد الأحوال، فركب مركبة وسار إلى قرية همستفاد، فأطلق سراح المركبة، ودخل إلى خمارة كي يتجسس من قبيل الحذر، واختلط بين الحضور، فسمعهم يتحدثون بالانتخابات، وغير ذلك من الحوادث العمومية.
وسار عند ذلك مطمئنا إلى باب المعبد، ففتحه بمفتاح خاص، وبرزت تلك المرأة الهندية، واستقبلته بما تعوده من الاحترام ، ثم قالت له: إن السير نيفلي ينتظر قدومك بفارغ الصبر يا حضرة النور.
فانذهل وقال: ماذا تقولين، ألا يزال حيا؟ - نعم يا سيدي، فإن الرصاصة لم تصب منه مقتلا، بل جرحته في الصدر جرحا خفيفا كان سريع الاندمال.
فتنهد السيد جورج تنهد المنفرج، وسار في أثر المرأة إلى الغرفة التي يقيم فيها السير نيفلي.
ولما خلا به قال له السير نيفلي: إني كنت أنتظر عودتك بفارغ الصبر، فإن جماعة الخناقين قد ضعفت عزائمهم لحسبانهم أن الذين هاجموهم من أبناء سيوا، ولكني تمكنت من إقناعهم وإعادة الحمية إليهم. - إذن لم يحدث شيء هنا؟ - كلا، وأرجو أن تكون بددت ذلك الفرنسي الجريء وعصابته. - لم أفعل شيئا من ذلك؛ لأني ما رأيت أحدا منهم إلى الآن. - ألم تستعد جيبسي؟ - كلا ... - ولكنك قبضت على السير آرثر على الأقل؟ - كلا ... - وماذا فعلت بقرانك، ومتى يتم العقد؟ - لم أرها منذ ذلك العهد، وقد كتبت لها فلم تجب.
فأظهر السير نيفلي عند ذلك انذهالا شديدا، وقال: إذن ماذا فعلت في هذه الأيام الخمسة؟
وقد نظر إليه حين قال هذا القول نظرة غريبة ما تعود أن يراها من حاشيته؛ لأنه كان الرئيس المطلق لطائفة الخناقين في لندرا، وله الحق في أن يعامل جميع رجال تلك الطائفة معاملة العبيد، فلما سمع هذا القول من نيفلي نظر إليه نظرة إنكار وتأنيب، فلم يحفل به، وقال له: كيف أنك لم تفعل شيئا من مدة أسبوع كامل، ألعلك خفت أعداءك؟
فاحمر وجه السير جورج من الغضب، وقال له: ويحك أيها العبد، أنسيت من أنا فتجرأت على مخاطبتي بهذا الكلام؟ - كلا، ولكنك أصبحت أنت العبد وأصبحت أنا السيد بما ورد لي من السلطة السرية.
ثم أخرج من جيبه ورقة مختومة بأختام سرية وأطلعه عليها، فلم يكد السير جورج يقرؤها حتى صاح صياح القانطين، ثم ركع أمام السير نيفلي، وقال له: ألتمس منك الغفران، فإن النور قد انتهى إليك، فلك الأمر وعلي الطاعة.
ولا بد لنا لإيضاح أسرار هذا التغيير الفجائي أن نذكر بالإيجاز شيئا عن تلك الجمعية الهائلة التي يدعونها جمعية الخناقين، فإنها لم تكن دينية كما كان يتوهم الأكثرون، بل كانت سياسية محضة يديرها كبار الرجال، فيسترون مقاصدها بحجاب الدين، وإنما كانوا يريدون بها مقاومة الإنكليز، والخروج عليهم تخلصا من نير أحكامهم.
ولم يكن أحد يعرف رئيس هذه الجمعية، وأما أعضاؤها فكانوا مختفين، ومعظمهم من المتعبدين المتشيعين للإلهة كالي، فكانوا إذا أرسلوا رئيسا من أولئك المتعصبين يرسلون معه رجلا حاذقا، يخضع له بالظاهر، ويراقب جميع أعماله حتى إذا رأى منه بادرة، أو رآه مقصرا في واجباته خلعه من منصبه، وتولى عنه الرئاسة بما يكون لديه من الأوامر السرية، لذلك أرسلوا مع السير جورج السير نيفلي، وزودوه بتلك الأوامر، فلما رآه مقصرا تولى عنه الرئاسة وعزله.
وكان السير جورج شديد التعصب في عبادة الإلهة كالي، يعتقد بفردوسها كما يعتقد عامة الهنود خلافا للسير نيفلي كما سيجيء، فإنه كان من أعضاء الجمعية السياسيين.
فلما نزع السير نيفلي الرئاسة من السير جورج كما تقدم قال له: أصغ إلي الآن لأخبرك عن السبب في عزلك، فإني كنت واثقا حين برحنا الهند أنك غير كفء للرئاسة، وقد أيدت الحوادث ظني، وماذا فعلت منذ قدومنا إلى لندرا؟ إنك أرسلت أوسمانا وكيرشي لخنق ابنة الجنرال الروسي فلم تفلح، وكان لجيبسي خليل منذ عامين وأنت لا تعلم، وقدر الاتفاق أن يكون خليل هذه الفتاة ابن خال خطيبتك، الذي يستطيع أن يمنع زواجك بها ويحرمنا من أموالها، فنجت جيبسي، ونجا السير آرثر وأنت مقيم في منزلك آمنا مطمئنا تنظر الحوادث.
فاقرأ الآن هذه الأوامر التي زودتني بها الرئاسة العليا، فإني منحت بها السلطان المطلق، وإذا أشرت إشارة سرية إلى رجال هذا المعبد هجموا عليك وقتلوك، إذ يحق لي قتلك، ولكني لا أقتلك إذ لا بد من بقائك حيا، وإذا كنت لا تعرف أن ترأس، فقد تعرف أن تطيع.
والآن فأصغ إلي فإنك ألهبت صدر مس سيسيليا بغرامك، وهي أغنى غنيات الإنكليز، ويجب أن نرجع للهند تلك الأموال التي يأخذها الإنكليز من الهند؛ ولذلك يجب أن تتزوج سيسيليا.
ثم أحب أن أكشف لك سرا جديدا وهو: أتحسب أن الجمعية تأمر بوشم صدور الفتيات، وتقضي عليهن بالبتولية الأبدية لمجرد إرضاء الإلهة كالي؟
فارتعش السير ستوي لهذا القول، ولكن السير نيفلي لم يحفل به ومضى في حديثه، فقال ببرود: إن شرائعنا الدينية الهندية هي من أوضاع الناس، وإنما وضعوها لتساعد الحكومات في السيطرة على الشعوب، أما أنت فإنك من المتعصبين في الدين، ولا تزال تعتقد إلى الآن بوجود الإلهة كالي.
فانقضت هذه الكلمات على السير ستوي انقضاض الصاعقة، وأخذ ينظر إليه نظرات البله، ويقول في نفسه: كيف يكفر هذا الكفر بالإلهة وهي لا تصعقه؟
أما السير نيفلي فإنه عاد إلى تتمة حديثه فقال: إن جمعيتنا تأسست منذ ستين عاما، ولها مبدآن تجمع بأحدهما العامة أمثالك، وهو مبدأ عبادة الإلهة كالي، وتجمع بالآخر العقلاء الراشدين، وهو مبدأ كره إنكلترا وإبادتها، أعرفت الآن حقيقة أسرارها؟
ثم اعلم أنه حين افتتحت إنكلترا الهند اجتمع أمراؤها وزعماء قبائلها وعلماؤها فقرروا مقاومة الإنكليز، وارتأوا أن يفعلوا من الفعال الهمجية ما يوافق مدنيتهم المموهة، ولهذا فإن جميع الذين لا يعتقدون بالإله وشنو، وأمثاله، وإلهة الشر كالي، وإله الخير سيوا، بل يريدون أن تكون الهند للهنود من البحر الأحمر إلى منابع الكنغ يعتمدون في تنفيذ مآربهم على تعصب المتعصبين، فأنشئوا طائفة الخناقين، وبثوها في جميع أنحاء البلاد، ولنا كثير من الأحزاب من غير هذه الطائفة بعضهم يخدموننا كرها للإنكليز، وبعضهم لأغراضهم الخاصة، وإذا أردت البرهان فاسمع.
إنك تعرف حكاية ناديا التي تزوجت أمها مس أنا هاريس وهي مكرسة للإلهة كالي، فخنقت يوم ولادتها لابنتها ناديا، وأنت تعلم أن ناديا وابنتها محكوم عليهما بالموت، ولكنك لا تعلم لماذا حكم عليهما هذا الحكم؟
فقال السير ستوي متحمسا: لأن الإلهة كالي أرادت لهما الموت. - كلا، فإن هذه الإلهة لا تريد إلا الذي تريده، والحقيقة أن والدة ناديا كانت ابنة الجنرال هاريس حاكم كلكوتا، وكان يعذب الهنود، فأراد الخناقون أن ينتقموا منه ، وكان بوسعهم أن يكتفوا بقتل الأب والإبقاء على البنت، إلا أنه كان لها أخت، وكان لأبيها أخ يدعى اللورد هارنس، وهو من جمعيتنا، فأراد هذا الأخ أن يقتل أخاه الحاكم، ثم يتزوج ابنته الصغرى، فإذا قتل ابنته الكبرى تدفقت ثروة أخيه بجملتها إلى خزائنه.
ثم تزوج ابنة أخيه الصغرى بعد قتل أبيها، وقتلت ابنة أخبه الكبرى إلا أنها ولدت قبل مقتلها بنتا وهي ناديا، فإذا لم تقتل ناديا وابنتها فإنها تطالب بثروة أمها أمام المحاكم الإنكليزية، وتنقض كل ما بناه اللورد هاريس، ولهذا يجب قتل ناديا وابنتها صيانة لثروة اللورد هاريس؛ لأنه من جمعيتنا، أعلمت الآن؟
فاضطرب السير ستوي وقال: إذا كانت البنات توشم وتقتل لهذه الأغراض، فلماذا حاولنا إحراق جيبسي النورية، ومنعها عن الزواج؟ - ذلك لأن لها حديثا آخر ليس موضعه الآن؛ إذ لدينا من المهام ما هو أهم منه، فاعلم إذن أني رئيسك المطلق، ولكن لا يجب أن تعلم الطائفة شيئا من هذا التغيير، فإنك تبقى الرئيس المطلق أمامها، ويبقى لديك النور، ولكنك تتلقى الأمر مني بالسر، وتكون لي أطوع من العبيد. والآن قل لي: من هذا الفرنسي الذي تجاسر على مهاجمتنا؟ - إني لا أعرف من أمره أيها النور سوى أنه يقيم في هاي ماركت مع امرأة بارعة في الجمال. - حسنا سأراها، أما أنت فلا تهتم بهذا الرجل، ولا تبحث عن جيبسي بعد الآن، فإني سأتولى هذه المهمة.
فقال السير جورج: ولكني أقسمت بأن أنتقم من هذا الفرنسي.
فأجابه ببرود: إن الانتقام لا يجب أن يطبع إلا في نفوس الرؤساء، وأما أنت فلم تعد إلا شبه آلة، ويجب عليك أن تطيع.
فانحنى السير جورج ممتثلا، ومن الغريب أن جذوة حقده على روكامبول قد انطفأت فجأة، واستحال كل بغضه لهذا الرئيس الجديد.
وبعد حين افترقا، فعاد السير جورج إلى منزله واليأس ملء قلبه، فكان أول ما بدأ به أنه دخل إلى غرفة معبده وقد زالت من نفسه كل عقائده الدينية، فضرب تمثال الإله وشنو برجله وهو يقول: انتقم لنفسك إذا كنت قادرا ، فسقط التمثال ولم يصعقه الإله.
ودنا من تمثال كالي وقال: أنت أيها التمثال الذي كرست له شبابي إذا كنت تمثل الإلهة كالي فلتنتقم مني، فإني أنكر وجودها.
ولما رأى أن الإلهة لم تجبه رفس التمثال برجله فسقط وتحطم.
ثم قام إلى البركة فأخرج السمكة وقتلها، ومزق جميع الصور، وأتلف كل ما كان هنالك من الرموز المقدسة وهو يجدف تجديف المجانين.
وبعد ذلك عاد إلى غرفة نومه، فوضع رأسه بين يديه، وجعل يفكر فيما صار إليه أمره، وصدره يتأجج حقدا على نيفلي.
وفيما هو يمعن في طريقة للانتقام منه خطرت له وسيلة رجا أن ينال منها ما يريد، وهي أن يحالف بالسر روكامبول عدوه القديم على نيفلي عدوه الجديد، ويطلعه على جميع أسرار جمعية الخناقين، فيكون له خير عون على بلوغ مأربه من الانتقام، ولما تجسم هذا الخاطر في مخيلته خرج من منزله، وذهب توا إلى حيث يقيم روكامبول مع فاندا.
53
مضى على ذلك ثمانية أيام ولم ير السير نيفلي السير ستوي في خلالها، فإنه لم يحضر إلى المعبد، ولم يعد إلى منزله منذ تلك الليلة التي سحق فيها تمثال الإلهة كالي، وقتل تلك السمكة التي كانت تقيم فيها روح أبيه.
وبقي السير نيفلي مطمئنا لا يهتم له 3 أيام؛ لأنه كان يعتقد أن السير ستوي يخجل أن يظهر أمامه إلا بعد أن يعمل عملا خطيرا يدفع تهمة تقصيره السابق، وبعد أن يثق بأمر زواجه بسيسيليا.
فلما مضت الأيام الثلاثة بدت على محيا السير نيفلي دلائل القلق، وأخذ يبحث عنه، فغادر المعبد سرا في ليلة مدلهمة، وذهب إلى منزل ستوي فطرق بابه مرارا دون أن يجيبه أحد، وكان سور حديقة المنزل واطيا، فتسلقه ونزل إلى الحديقة، ثم صعد منها إلى المنزل فكسر الباب ودخل إلى غرفته، ففتشها بجملتها حتى انتهى إلى غرفة، ورأى آثار التخريب، وعلم أنه أثر على السير جورج حتى نزع منه عقائده الدينية.
ولكنه بقي منشغل البال لانقطاع أخباره عنه، واحتجابه عن الأنظار، فذهب إلى النادي الهندي، وهو النادي الذي كان يتردد إليه السير ستوي؛ عله يقف من أعضائه على شيء من أخباره، فلقيهم يتحدثون بأمر جليل قد استعظموه، وهو أن السير ستوي قد خطف مس سيسيليا برضاها؛ لأن والديها كانا مصرين على عدم تزويجه بها.
إلا أن الحب كان متمكنا منهما، فوافقته على الفرار، ولا يعلم أحد حتى الآن إلى أين ذهبا.
فاطمأن خاطر السير نيفلي، وقال في نفسه: إن السير جورج لا يقدم على اختطاف الصبية إلا إرضاء لي كي أنفي عنه تهمة التقصير، فما بعد الاختطاف إلا الزواج.
ولكنه لا بد أن يكون كتب لي عما حدث.
ثم برح النادي إلى منزله كي يرى ما كتب إليه السير ستوي، فوجد كتابا باسمه.
ففضه وأسرع بنظره إلى التوقيع، ورأى بدلا من توقيع السير جورج توقيع فاندا، فانذهل وقرأ ما يأتي:
إذا كانت السير جمس نيفلي صديق السير جورج ستوي من خيار النبلاء كما يذاع عنه، فإنه يسرع إلى مساعدة امرأة توشك أن تجن من الحزن واليأس وهي خادمته فاندا.
وقرأ بعد ذلك عنوان المحل الذي تقيم فيه، فوجده نفس المنزل الذي أخبره السير جورج أن الرجل الفرنسي يقيم فيه مع امرأته، فجعل يفحص الخط، فرأى ما يدل على أن يدا مضطربة قد كتبته، فسر لهذا الدليل، ولم يعد يخشى أن يكون ذلك دسيسة.
إلا أنه لم يذهب في الحال، وأجل الزيارة إلى الصباح كي يتمعن.
ونام تلك الليلة في منزله، وفي الصباح تأنق بملابسه، وذهب ماشيا إلى هاي ماركت حيث كانت تقيم فاندا بعد أن تسلح بمسدسين وخنجر.
حتى إذا وصل إلى المنزل وقرع بابه فتحت له فاندا، وقالت: أنت هو يا سيدي السير جمس نيفلي؟
فدهش نيفلي لجمالها، وأشفق لما رآه من احمرار عينيها لكثرة البكاء، ولظواهر يأسها، وقال لها: نعم يا سيدتي أنا هو، وقد أتيت لنصرتك إذا كنت لا تزالين في حاجة إلي.
فأخذت فاندا يده وقالت: تفضل يا سيدي بالدخول، لقد عقدت عليك آمالي، وكنت مشككة بحضورك؛ لأن الحزن دفعني إلى القنوط من كل نصير.
ثم دخلت به إلى قاعة صغيرة، وسقطت على مقعد فيها كأنما رجلاها قد ضعفتا عن حملها، وقالت: أرجوك العفو يا سيدي، فإني لا أعلم كيف أنا عائشة إلى الآن.
فنظر إليها السير نيفلي وحن عليها وهو عميد جمعية الخناقين، والشخص الذي شاهد جيبسي تحترق دون أن يتأثر، وقد دفعته عاطفة غريبة إلى هذا الحنو.
فقالت له فاندا وقد فهمت معنى نظراته: إنك تجدني جميلة يا سيدي أليس كذلك؟
فارتعش ولم يجب، ولكن عينيه كانتا تجيبان عنه.
فقالت: لقد كنت أمس جميلة، أما اليوم فقد زالت آثار هذا الجمال، وأنا تلك المرأة التي كانت تقيم مع ذلك الفرنسي الذي بارز صديقك السير ستوي، ولكن هذا الرجل قد تخلى عني منذ 3 أيام بدناءة لا تخطر في بال.
وكانت عينا فاندا تتقدان، فقرأ السير نيفلي سور الحقد الهائل بين نظراتها، وقال لها: لماذا تخلى عنك؟ - لهيامه براقصة نورية من راقصات الطرق، سافر بها إلى فرنسا، وقد تخلى عني من أجلها بشكل يورث الخزي والعار، ويدل على انحطاط نفسه الدنيئة، فإني كنت أفديه بالحياة، ولكنه هجرني هجر بنات الهوى بعد أن سرق مالي ومجوهراتي، وغادرني وليس معي فلس.
فجلس السير نيفلي بالقرب منها، وأخذ يدها بين يديه، وقال لها: من عسى أن يكون هذا؟
فتنهدت تنهد القانطين وقالت: لا تسلني عنه، فإني أجهل اسمه الحقيقي، فقد كنت أحسبه من النبلاء الأغنياء، فركنت إليه وأحببته بقدر ما أبغضه الآن.
ثم نزعت شالا كان يغطي صدرها، فظهرت فوقه أثر ضربة خنجر لا يزال داميا.
فارتعد نيفلي وقال: ما هذا؟ - إني كنت عولت على الانتحار، فطعنت صدري بخنجر، وكدت أجهز على نفسي بضربة ثانية إلا أني عدت عن هذا القصد، وعولت على الانتقام من هذا السافل، ومن خصيمتي فيه، ولكن وا أسفاه كيف أبرح لندرا وأدركهما في باريس وليس لي مال؟ فخطر لي عند ذلك أن ألجأ إلى عدوه السير جورج، فعلمت أنه غائب عن لندرا، ثم قيل لي إنك من أصدقائه ، فلجأت إليك وأنا أرجوك الآن يا سيدي أن تعطيني مائة جنيه كي أسافر بها إلى باريس، ومتى وصلت إليها أرجعت إليك مالك.
وكانت عيناها تتقدان بأشعة الحقد والغضب، فتبثان سحرا، وتؤثران على فؤاد السير نفلي أشد تأثير إلا أنه لم يندفع في تأثره، ورجا أن يكون له بها خير معين، فقال في نفسه: هو ذا ساعد هبط إلي من السماء وقذفته لي جهنم.
ثم مد إليها يده وقال: إني يا سيدتي من أولئك الإنكليز الذين اشتهروا بغرابة الأطوار، والملل من المعيشة الثابتة، فأنا أشاركك في انتقامك إذا أردت وأسافر معك إلى فرنسا.
فصاحت فاندا صيحة فرح، وقالت: أنت تفعل هذا؟ - نعم يا سيدتي، ومتى أردت السفر أكون طوع أمرك.
فقالت بلهجة تبين منها ما طوي عليه فؤادها من الحقد والغيرة: إنك إذا انتقمت لي أحببتك، وكنت لك أطوع من الإماء.
فركع السير نيفلي أمامها، ولثم يدها؛ فابتسمت فاندا نفس ابتسامها في تلك الليلة الهائلة حين ألقت نقولا أرسوف في البركة، وفتحت حنفية الماء وهو فيها.
54
كان الليل شديد الحلك، والهواء عاصفا، والبحر تهدر أمواجه، فيسمع هديرها من مسافة بعيدة، ومع ذلك فقد كان الدخان يتصاعد من مطعم سومون؛ مما يدل على أنه لا يزال يستقبل الناس بالرغم من تلك الساعة المتأخرة من الليل.
وقد كان جاء إلى هذا الفندق اثنا عشر رجلا بملابس نظيفة، ولكن ملامحهم لا تدل على أنهم من الأعيان، فاستقبلتهم صاحبة الفندق وهي توشك أن تقفل أبوابه، ثم علمت من حديثهم أنهم فرنسيون، فضعفت ثقتها بهم، وترددت في أمر قبولهم، فأدرك كبير هذه العصابة قصدها، وقال بالإنكليزية: لا، لا تخشين شرا فما نحن لصوص ولا سفاكون، بل نحن من مهربي البضائع، وسنسافر على باخرة سترسو على الشاطئ القريب من هذا الفندق، فأحضري لنا ما لديك من الطعام، ثم دفع لها مقدما ثمن ما طلبه، فارتاح فؤادها، وأحضرت لهم جميع ما طلبوه.
وكانت هذه العصابة عصابة روكامبول، فجلسوا على المائدة، وجعلوا يتحدثون، فقال مورت: أرأيتم كيف أن هذا الغلام مرميس بات على حداثة سنه نائب الرئيس، وتقدم في ليلة واحدة هذا التقدم السريع؟
فأجابه ميلون: ذلك لا ريب فيه؛ فإنه فعل ما يستحق من أجله التقدم.
وقال شانوان: لا ريب أن مرميس أصاب، فإن النور إذا لم يكونوا في جوار سانت بول فلا بد أن يكونوا في مكان آخر.
وكأنما ميلون قد حسد مرميس لانتزاعه الرئاسة منه، فقال مجيبا شانوان: هو ما تقول، ولكن الرئيس أصدر لي أمره أن نبقى في ذلك المكان فلم يكن بد من البقاء. - نعم إن مرميس لو لم يهتد إلى مكان الخناقين لكانوا فتكوا بالرئيس.
فتنهد ميلون وسكت.
وعاد مورت إلى استئناف الحديث فقال: كذلك الفتاة، فلولا مرميس لكانوا أحرقوها، فمن العدل أن يعينه نائبا علينا.
فقال أحدهم: لقد أصاب الرئيس فيما فعل.
وقال آخر وقد أساءته هذه الرئاسة: سوف نرى إذا كانت تبقى له متى عدنا إلى فرنسا، أما الآن فإنه القائد علينا؛ لأنه يعرف أوامر الرئيس، ولا بد لنا من طاعته.
ثم انتقلوا بحديثهم إلى موضع آخر كثر فيه الجدال، وعلت الغوغاء، فأسرع إليهم مرميس وهو يقول: كفاكم صياحا فإن الفتاة نائمة، وقد أشار بقوله إلى جيبسي، فإنه كان قد صعد بها إلى الدور العلوي من الفندق، وصبر إلى أن نامت بينما كان رفاقه يتحدثون بأمره، فلما سمع ضجتهم أشفق على جيبسي أن تصحو من رقادها، فأتى يزجرهم أن يسكتوا.
وكانت المسكينة قد فقدت صوابها لما مر بها من الحوادث الهائلة، فلم تعد تعرف أحدا غير روكامبول، فإنها كانت تنقاد إليه انقياد الأطفال، ومرميس الذي كان يعتني بها اعتناء الأخ بأخته.
فلما صدر إليهم أمر مرميس جعلوا يتكلمون بأصوات منخفضة، فقال شانوان لميلون: أأنت واثق أننا نسافر هذه الليلة؟ - نعم. - أتظن أن الرئيس يسافر معنا؟ - ربما.
أما مرميس فإنه لم يقل شيئا، بل إنه خرج من الفندق، وجعل ينظر إلى البحر، فرأى نورا يشق حجاب الظلام وهو يدنو من الشاطئ، وكلما دنا كبر وارتسم، فأطلق مرميس طلقا ناريا فأجابته بمثله؛ مما يدل على اتفاق سابق، فأيقن أنها السفينة التي سيسافرون عليها، فعاد إلى الفندق، وقال لرجال العصابة: أسرعوا بالتأهب فإن السفينة دنت، ولا بد من السفر هذه الليلة.
بينما كان رجال العصابة يتحدثون بالشئون التي بسطناها كان روكامبول ونويل سائرين في مركبة كانت تنهب الأرض نهبا في طريق دوفر.
وكان روكامبول قد استأجر سفينة شراعية لتنقل العصابة إلى فرنسا؛ لأنه خشي على رجاله أن يسافروا على باخرة نظامية؛ حذرا من البوليس الفرنسي، فإن أكثرهم كان محكوما عليهم أحكاما مختلفة وهم هاربون.
وفيما هما سائران قال روكامبول لنويل: أرأيت فاندا؟ - نعم يا حضرة الرئيس. - ألعلها اجتمعت بالسير جمس نيفلي؟ - نعم. - إذن لا بد لها أن تكتب لي. - هو ذا، فإننا سنجد تلغرافا منها في دوفر.
فأمر روكامبول بالإسراع، وبعد حين وصلت المركبة إلى دوفر، أسرع روكامبول إلى مكتب التلغراف، وقال لعامله: إني أدعى ويليم بيرتريك، فهل لي عندك رسالة برقية؟
جمس لنا. وقع الطير في الشرك. نسافر هذه الليلة إلى باريس. الاجتماع فيها يوم الثلاثاء. أنت تعلم أين.
ف ...
ولم يكن روكامبول يريد أن يعرف أكثر مما عرف، فخرج من مكتب التلغراف إلى المركبة التي كان ينتظره فيها نويل، وقال له: إني مسافر معكم، فإني أخشى إذا سافرت على الباخرة التي يسافر عليها نيفلي وفاندا أن يعرفني. - ولكنه ما رآك ولا يعرفك. - هو ذاك، ولكني أخشى أن تبدو نظرة من فاندا تفضح أمري، وقد يتفق أن يكون عرفني وأنا لا أدري، فهلم بنا إلى الفندق حيث تقيم العصابة.
فسارت بهم المركبة حتى وقفت أمام باب الفندق، فخرج منها روكامبول، ودخل إلى الفندق فرأى رجاله يتأهبون.
ولما رأوه داخلا ذهلوا، وقالوا بلهجة الاحترام: هو ذا الرئيس.
فقال لهم: هلموا بنا يا أولادي، فقد حان وقت السفر.
وقال ميلون بلهجة السرور: لقد كان قلبي يدلني أنك مسافر معنا، ولكن مرميس لم يقل لنا شيئا من هذا.
فابتسم روكامبول، وقال: لقد أصاب بسكوته، فإنه هو نفسه لم يكن يعلم، والآن قل لي كيف حال جيبسي ؟
فقال له ميلون : إنها لا تزال مجنونة، ولا تسمح لأحد أن يدنو منها ما خلا مرميس. - وأين هي الآن؟ - إنها نائمة في الدور العلوي. - اصعد وأت بها.
فامتثل ميلون وجلس روكامبول على المائدة، فجعل يأكل ورجال العصابة وقوف وراءه.
ثم فتح الباب ودخلت جيبسي وهي متكئة على ذراع مرميس باطمئنان وارتياح، ومرميس ينظر إليها نظرات ملؤها الحب والاحترام، فلم تخف هذه النظرات على روكامبول، فتنهد وقال: ما أبلغ تأثير الشباب.
أما جيبسي فإنها لما نظرت روكامبول صاحت صيحة فرح، وأسرعت إليه فعانقته وهي تقول: لم أكن أرجو أن أراك.
فقبل روكامبول جبينها، وتأبط ذراعها، ثم مشى معها أمام رجال العصابة، وقال لهم: هلموا بنا إلى الرحيل. •••
بعد ذلك بعدة ساعات كانت السفينة تمخر بروكامبول ورجاله، وقد بزغ النهار، وغابت الشواطئ الإنكليزية عن الأبصار.
وكان رجال العصابة نائمين بعضهم فوق بعض على ظهر السفينة، وفي مؤخرها غرفة صغيرة كانت جيبسي نائمة فيها على فراش من القش، ومرميس راكع أمامها يتأمل محاسنها، ويحبس أنفاسه حذرا من أن تصحو.
وقد طال تمعنه بها إلى أن قال بملء البساطة بصوت منخفض: الله ما أبدع هذا الجمال!
ولم يكد يتم قوله حتى شعر بيد وضعت على كتفه، فالتفت وتراجع منذعرا مضطربا وهو يقول: الرئيس.
وقد كان روكامبول باغته وهو يقول هذا القول، غير أنه لم يقطب جبينه، ولم يظهر استياءه، بل قال له بلهجة الحنو: أتحبها يا مرميس؟
فغطى مرميس وجهه بيديه إخفاء لاضطرابه، إلا أن روكامبول رأى دمعتين سقطتا بين أصابعه فقال له: طب نفسا، فإن الأقدار ألقتك بين يدي حين كانت أبواب السجون مفتوحة أمامك، والمشنقة تنتظرك، ولكني رأيت بين جنبيك قلبا حنونا، ومن كان له مثل قلبك ينجو من تلك الهاوية، وسأنقذك بإذن الله.
فركع مرميس أمامه، وجعل يقبل يديه.
فتنهد روكامبول، وقال: اندفع في حبها يا بني ما استطعت؛ فإن الحب الصادق يطهر الآثام.
فانتثر الدمع من عيني مرميس، وقال بصوت مضطرب: أيها الرئيس، إني أفعل كل ما تريد، وأذهب إلى حيث تشاء ... وأكون شريفا طاهرا حسب إرادتك؛ لأنك أنت أول من قال لي: إن لي قلبا يحن.
ملايين النورية
ملايين النورية
ملايين النورية
ملايين النورية
روكامبول (الجزء التاسع)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
ملايين النورية
1
كان الهواء يهب عاصفا، والغيث يهطل منهمرا، وقد ثارت عاصفة تحطم - لشدتها - زجاج النوافذ في قصر روشربيم في بيكارديا، وهو القصر الذي تبدأ فيه حوادث هذه الرواية.
وكان هذا القصر على بضع مراحل من طريق أميانس، وهو قديم يتصل عهد بنائه بأيام الصليبيين، ولكنه هجر نحو مائة عام لم يسكنه أحد، حتى رويت عنه الأحاديث الخرافية المزعجة، وبات الناس يخافونه ولا يدنون منه؛ لكثرة ما روي عنه من الحوادث المخيفة؛ وأخصها أنه مسكون من الجان!
وكان ينتقل من وريث إلى وريث، فلا يقيم به، ولا يجد من يستأجره. إلى أن جاء يوما سائحان من الإنكليز إلى تلك الجهة وسمعا ما يروون من الخرافات عن ذلك القصر فزاراه وتفقداه، ثم اشترياه من صاحبه وأقاما فيه، وذلك منذ 5 أو 6 أعوام.
وكان أحد السائحين امرأة يبلغ عمرها نحو الخامسة والثلاثين، عصبية المزاج بارعة الجمال، غير أن آثار الهم والتفكير كانت بادية بين ثناياها وجميع ظواهرها تدل على أنها من الأعيان.
أما السائح الآخر؛ فقد كان أبيض الشعر مصفر الوجه، إلا أن آثار القوة كانت تبدو من اتقاد عينيه، وخفة حركاته، وكان يدعوها بلقب ميلادي، ويخاطبها بلهجة الاحترام، وهي تدعوه باسم بب دون كلفة مما يدل على أنها مولاته وأنه وكيلها.
وقد حاول هذا الوكيل حين إقامتها في هذا القصر أن يجد خداما من أهل القرية فلم يلق من يجسر على المبيت فيه؛ لكثرة ما تداول على الأسماع من سمعته السيئة، فاضطر إلى إحضار الخدم من باريس.
وكان من عادة ميلادي أن تخرج في صباح كل يوم ممتطية جوادا فتتنزه ساعة وتعود، لكنها تجتنب الحقول والمزارع والمنازل والقرى المجاورة فلا تكلم أحدا من الناس، حتى سكان القصر، ولا يأتي إلى هذا القصر أحد حتى الشحاذين.
وأغرب من هذا أن الخدم أنفسهم لم يكونوا يكلمون أحدا كأنما الأمر قد صدر إليهم بهذا السكوت، غير أنهم كانوا يحدثون بعضهم بأسرار هذا القصر كما تراه من هذه المحادثة الآتية:
فقد اجتمع في المطبخ السائق وخادم والطباخة فقال الخادم: مسكينة هذه السيدة؛ فقد كانت ليلتها أمس من أسوأ الليالي.
فقالت الطباخة: هو ما تقول؛ فقد سمعناها تصيح وتطلب العفو.
وقال السائق: حبذا لو كنت أعرف اللغة الإنكليزية؛ فإني كنت أفهم حديثها حين تصيح في الليل.
فقال الخادم: لا شك أن الأرواح مقيمة في هذا القصر، وأنها ستعود هذه الليلة.
فقال السائق: إنها تأتي كل ليلة منذ حين غير بعيد.
فقالت الطباخة: ولكن أتعلمون في أية غرفة من غرف القصر تنام ميلادي؟
فقال خادم الغرفة: ذلك يستحيل معرفته؛ فإن غرف القصر كثيرة وهي تنام كل ليلة في غرفة؛ راجية أن لا تهتدي الأرواح إليها كأنما الأرواح تخفاها خافية!
فقالت الطباخة: أظن أن سيدتنا لا تهبط إليها الأرواح ولا تناجيها، وأنها قد تكون أذنبت ذنبا عظيما ندمت عليه، وما نسمعه منها إنما هو مما يصيبها من تقريع الضمير.
فقال السائق: وأي تقريع هذا؟! بل أي ذنب يمكن أن تجترمه مثل هذه الحسناء؟!
فقالت الطباخة: إني عقدت كلامي على الظن، ومع ذلك فإني أعتقد أنها ارتكبت جريمة وعندي برهان!
لكنها قبل أن تتم حديثها وتذكر ذلك البرهان، قرع باب القصر الخارجي قرعا شديدا فتوقفت عن الحديث.
وانذهل جميع الخدم؛ لأنهم لم يتعودوا قدوم الزائرين فشغلهم الانذهال عن فتح الباب، ثم توالى القرع بشدة، فأسرع بب إلى المطبخ وأمر أحدهم أن يفتح الباب وينظر من الطارق.
فذهب أحدهم وعاد بعد هنيهة، فقال للوكيل: إنهما يا سيدي اثنان؛ أحدهما: رجل، والآخر امرأة صبية، وقد ابتلت ثيابهما بمياه المطر.
فسأله الوكيل: ماذا يريدان؟ - إن مركبتهما قد انكسرت على الطريق وهما لا يعلمان أين يذهبان، فقلت لهما: إن سكان القصر لا يضيفون أحدا! - وهل ذهبا؟ - كلا، فإنهما لا يزالان يلحان بالدخول.
فلم يجبه الوكيل بحرف، ولكنه قطب حاجبيه وغادر المطبخ، فذهب إلى السيدة وعاد إلى الخادم كي ينفذ الأمر، وبقي الخادمان الآخران في المطبخ ينتظران.
2
بعد ذلك بساعة كان الضيفان جالسين في قاعة من قاعات القصر يتدفئان قرب النار، وقد مضت عليهما ساعة دون أن تحضر ميلادي أو وكيلها بب؛ فلم يريا غير الغلام.
ولم يكن هذان الضيفان إلا السير جمس نيفلي وفاندا، وقد كانا قادمين إلى باريس للانتقام من روكامبول بعد أن خدعت فاندا السير نيفلي، كما تقدم في الرواية السابقة (ضحايا الهند).
فلما وصلت المركبة القادمة بهما إلى أميانس سقطت في هوة في ذلك الوادي الذي كان يشرف عليه قصر روشربيم، فلم يصب ركابها بأذى إلا أن المركبة انكسرت ولم تعد صالحة للسير ...
وكانت الساعة العاشرة من الليل، والأمطار تنهمر غزيرة، فحارا في أمرهما ولم يعلما أين يسيران. فقال لهما السائق: إنه لا يوجد هنا ملجأ قريب غير قصر روشربيم، لكنه روى لهما جميع ما كان شائعا من الخرافات عن ذلك القصر، فلم يحفلا بها، وقالت فاندا: ما زال سكان القصر من الإنكليز؛ فإني أرجو أن يأذنوا لنا بالمبيت في هذه الليلة.
فوافقها السير جمس، وبعد ساعة كانا في تلك القاعة كما ذكرنا، وكان السير جمس ينظر إليها نظرات ملؤها الغرام وهي مقطبة صامتة تمثل دور اليأس والحقد الدفين خير تمثيل.
إلا أن السير جمس أراد أن يشاغلها بالحديث عن هواجسها، فقال لها: كيف رأيت هذا القصر؟ ألا يشبه تلك القصور التي كنا نقرأ عنها في الروايات الخرافية؟ - هو ما تقول؛ فإن كل ما فيه يدل على الغرابة. - ولقد يخال إلي أننا في منزل إحدى بنات الجان، ولكن هذه الجنية لم تتنازل بعد إلى مقابلتنا. - ربما هي تتأهب لاستقبالنا، فلنصبر.
فأطرق السير جمس برأسه إلى الأرض وقال: إني لا أرى كما ترين.
وفي ذلك الحين دخل عليهما الخادم وقد رأى من لهجتهما في حديثهما أنهما غير زوجين، فوقف أمامهما وقفة المتردد وقال: أسألكما العفو يا أسيادي، فإني متلجلج ولا أعلم ماذا أقول؛ فإن المسيو بب نائم .
فقالت فاندا: من المسيو بب هذا؟ - إنه وكيل القصر، ولا أجسر على إيقاظه. - ألعلك محتاج إليه؟ - كل الاحتياج يا سيدتي؛ فإن المسيو بب كان يحسب أنكما زوجان. - كلا، إنه منخدع؛ فإن الذي تراه هو من أصدقائي ... - وهذا الذي يقلقني يا سيدتي. - لماذا؟ - لأن المسيو بب أمرني أن أهيئ لكما الغرفة الحمراء، لكنه لا يوجد في هذه الغرفة إلا سرير واحد. - كيف ذلك؟! ألا يوجد سوى غرفة واحدة للضيوف في هذا القصر العظيم؟! - يوجد نحو عشرين غرفة، لكنها جميعها لصاحبة القصر؛ لأنه ليس بيننا من يعلم في أية غرفة تنام، ولهذا ترينني مضطربا؛ فإني إذا أدخلت صديقك إلى الغرفة الحمراء، فأين تنامين أنت؟ - أنام على كرسي في هذه القاعة. - إن ثيابك مبتلة يا سيدتي والبرد شديد؛ فلا تسلمين من الخطر إذا نمت على الكرسي، ولكني سأفتح لك غرفة من غرف ميلادي فتبيتين فيها وعند الصباح أصلح سريرها فلا تعلم بشيء مما جرى.
ثم أخذ مصباحا فسار أمامها وسألها أن تتبعه، فودعت السير جمس وسارت في أثر الخادم حتى أوصلها إلى غرفة متسعة مفروشة بأفخر الرياش على الطريقة الإنكليزية، فوضع شيئا من الحطب في المستوقد وخرج، فأقفلت فاندا الباب وخلعت ملابسها، ثم أطفأت المصباح وصعدت إلى السرير؛ بغية أن تنام ولكن لم تنم.
وكانت نار المستوقد لا تزال متأججة، يخرج منها نور ضعيف، والأمطار لا تزال تنهمر على النوافذ، فيضيع صوت سقوطها بين هزيم الرعود القاصفة.
وكانت فاندا تقول في نفسها: من عسى تكون هذه المرأة التي تغير غرفة نومها في كل ليلة؟!
وأقامت في سريرها نحو ساعة وهي تمعن الفكرة في حل هذا اللغز دون أن تهتدي إلى حل.
وفيما هي أرقة مفكرة؛ خيل لها أنها تسمع صوت تنهد من بعد، ثم قرب هذا الصوت وانجلى، فرفعت رأسها عن المخدة وأصغت كل الإصغاء إلى هذا الصوت.
وكانت تسمع مع صوت التنهد، صوت قيود من حديد، كأنما صاحب هذا الصوت كان أسيرا يرسف في قيوده، فجعلت أصوات التنهد تتوالى والخطوات تتدانى، وأخذ لهب نار المستوقد يخمد وتنطفئ أشعته التي كانت تنير الغرفة.
ولم تكن فاندا من اللواتي يعتقدن بالخرافات والأرواح، ولكنها على بسالتها لم تنج من الاضطراب، إلى أن سمعت أن الخطوات وقفت عند باب غرفتها؛ فجعل العرق ينصب من جبينها.
وكانت فاندا قد أقفلت باب غرفتها، ومع ذلك فقد رأت أن الباب انفتح ورأت من بقية نور المستوقد الضعيف خيالا دخل إلى هذه الغرفة يجر وراءه قيدا كبيرا من الحديد ويتنهد تنهدا متصلا، ثم رأت أن الخيال يمشي مشيا بطيئا إلى السرير.
وعند ذلك انطفأ نور المستوقد وساد الظلام، فلم تعد فاندا ترى الخيال ولكنها كانت تسمع صوت القيد ينجر على أرض الغرفة.
3
وكانت فاندا باسلة كما يعهدها القراء، ولكن قلبها قد انقبض حين شعرت أن هذا الخيال يدنو منها، وحاولت أن تصرخ وتستغيث لو لم يخطر في بالها ذكر روكامبول فتتشدد.
وما زال الخيال يدنو متباطئا متوانيا حتى وصل إلى السرير فوضع يده على فاندا ثم تنهد تنهدا عميقا وقال: يا مس ألن هو ذا أنا عدت إليك، أعرفتيني؟
فعلمت فاندا أن هذا الخيال أو هذه الروح الهائمة يحسب أنه يخاطب الإنكليزية صاحبة المنزل فزال خوفها في الحال ...
أما الخيال فإنه عاد إلى الحديث فقال: ألم تندمي إلى الآن حق الندم يا مس ألن؟
ولم تجب فاندا بحرف، وعاد الخيال إلى الحديث فقال: إن الله قد أذن لي أن أخرج من القبر كل ليلة كي أذكرك بذنوبك وأوبخك على قتلي ... مس ألن ماذا فعلت بأختك؟ ألم تمت مخنوقة بأمرك؟ وماذا صنعت بأبيك، وهو أنا؟! ألم تحبسيني في سجن عميق وتقيديني بالسلاسل عشرة أعوام حتى قتلني الشقاء والجوع؟ ثم ماذا فعلت بابنة أختك؟ إنك لا تريدين أن تقولي شيئا عنها، إلا أن الوقت لا يزال فسيحا لديك فاندمي؛ فقد ينفعك الندم، وابحثي عن الفتاة المفقودة، وردي لها تلك الثروة العظيمة المسلوبة.
وكان الخيال قريبا من فاندا، وكانت تشعر بأنفاسه تقع على يديها، فاطمأنت وقالت في نفسها: إن الأرواح لا يكون لها أنفاس ولا عيون ، ثم إنه إذا كان الله يسمح لأرواح الموتى بالخروج من قبورها؛ لأن هذه الأرواح لا تخطئ الناس الذين تسير إليهم، فكيف أخطأ هذا الخيال وحسب أني مس ألن؟
وعند ذلك أيقنت أن الرجل يخدع تلك الإنكليزية منذ أعوام هذه الخدعة الهائلة وأنه متنكر بشكل خيال.
ثم عاد الخيال إلى الكلام، وقال: مس ألن، إن البرد شديد وإن الأموات يشعرون به أكثر من الأحياء! وقد اجتزت طريق الأبدية للوصول إليك وهي طريق شاسعة، فاستغفري الله واندمي على ذنوبك أعد إلى قبري ولا أخرج منه بعد الآن، وأستغفر لك الله.
وكان يقول هذا القول ويمشي عائدا إلى المستوقد، وكان بقية لهب، تمكنت فاندا من نوره الضعيف أن ترى الخيال، فرأت أنه شيخ عجوز مرتد بملابس ضباط الإنكليز.
ثم انطفأ اللهب وساد الظلام فقال الخيال: إني عندما أتيت إليك المرة الأخيرة ظهرت عليك دلائل الندم؛ لأنك بكيت البكاء الشديد وجعلت تصيحين وتستغيثين، وطلبت إلي أن أعود إلى قبري ووعدتني بالتوبة والطاعة لي، فماذا فعلت؟ إنك لم تفعلي شيئا، بل إني أراك صامتة لا تجيبين فاحذري؛ لأن العقاب هائل شديد.
ثم هز قيوده هزا عنيفا وقال: إنك تخافين في الليل وتعزمين عزما صادقا على التوبة والندم وإرجاع الأموال المسلوبة، فإذا أقبل النهار محا توبة الليل وعدت إلى الآثام! أيتها الشقية قاتلة أختها وأبيها إن عقابك سترتجف له الأبدان!
وبعد أن قال هذا القول فتح الباب بسكينة وخرج منه، فأقفل وراءه، وجعل يمشي مشيا بطيئا فتسمع فاندا صوت قيوده، وما زال هذا الصوت يتباعد حتى انقطع.
فتنفست فاندا الصعداء، ولكنها لم يغمض لها جفن في تلك الليلة.
ولما أشرق الصباح نهضت من سريرها وفتحت نافذة الغرفة المطلة على حديقة القصر، ورأت السير نيفلي يتنزه فيها والخادم واقف عند باب الحديقة، فلبست ملابسها وخرجت من تلك الغرفة إلى الحديقة، وكان أول من قابلها الخادم فسألها: أعلمت ميلادي يا سيدتي أنك نمت في إحدى غرفها؟ - كلا، كن مطمئنا. - ألم تسمعي شيئا مدة نومك؟ - كلا ، ما خلا صوت الأمطار وهزيم الرعد. - ألم تسمعي صوت الخيال؟ - أي خيال تعني؟
فخشي الخادم أن يزيد في التصريح، وقال لها: ألتمس من سيدتي أن تبرح القصر قبل أن يستيقظ بب. - إننا مسافران في الحال.
ثم نادت السير جمس وقالت له: أتريد أن نسافر الآن؟ - إنك تعلمين أني أطوع لك من البنان.
وبعد ساعة كان السير نيفلي وفاندا في قطار الإكسبرس المسافر إلى باريس.
4
ولنذكر الآن شيئا عن ميلادي؛ فإنه مضت ساعتان على سفر فاندا ونيفلي ولم يكن بب قد استيقظ من رقاده بعد.
وكان الخادم قد عاد إلى المطبخ بعد سفرهما، وفيما هو جالس مع الخدم؛ إذ سمع قرع الجرس في المطبخ فقال: هو ذا ميلادي قد استيقظت.
وأسرع إلى حيث الجرس؛ كي يعلم نمرة الغرفة التي باتت فيها ميلادي؛ فإنه كان يوجد في المطبخ أزرار كهربائية متصلة أسلاكها بغرف ميلادي وتحت كل زر نمرة الغرفة المتصل بها السلك، ورأى الخادم أن نمرة الغرفة التي قرع جرسها كان 9 فاطمأن باله كل الاطمئنان؛ لأن الغرفة التي نامت فيها فاندا كانت نمرتها 3.
وكانت الغرف التي تنام فيها منقسمة إلى قسمين: قسم في الدور العلوي ونمرها 1 إلى 10، والقسم الثاني في الدور الأسفل ونمر غرفه من 11 إلى 20، وكانت إذا اختارت غرفة من هذه الغرف للنوم أقفلت بابها من الداخل، ولكن كل هذا الحذر لم يكن يفيدها؛ فإن الخيال كان يزورها مرة في كل ثلاث ليال.
وكان الخدم يعلمون بزيارة الخيال من وجه سيدتهم؛ فإنه حين يزورها في الليل تصبح نحيلة مضطربة مصفرة الوجه ولا تقوى على الكلام، وإذا لم يزرها أصبحت مرتاحة النفس براقة العين باسمة الثغر؛ لأنها تنام تلك الليلة، خلافا لحالها في الليلة التي يزورها الخيال؛ فإن عينيها لا تذوقان طعم الرقاد.
ولما دق الجرس أسرع الخادم إلى الغرفة نمرة 9، فطرق الباب بلطف فأذنت له بالدخول، وعلم من هيئتها وارتياحها أن الخيال لم يزرها في الليلة السابقة.
وكانت جالسة قرب المستوقد متشحة برداء من الكشمير، وقد فتحت نوافذ الغرفة فملأتها أشعة الشمس، فلما دخل الخادم قالت له: أين هو بب؟ - إني لم أره بعد يا سيدتي. - إذن، قل لي أنت؛ أرأيت الغريبين اللذين باتا ليلة أمس في القصر؟ - نعم يا سيدتي. - صفهما لي. - إنه شاب وصبية، ويظهر أن الزوج استاء؛ لأنه لم ير سيدتي.
وقد استعمل الخادم لفظة زوج؛ حذرا من أن تعلم أنه أدخل فاندا إحدى غرفها.
فقالت له: أهي حسناء تلك الصبية؟ - إنها بارعة الجمال. - أعرفت اسمها؟ - كلا يا سيدتي. - أهما باقيان في القصر أم سافرا؟ - إنهما سافرا منذ الفجر.
فذهبت ميلادي إلى النافذة ونظرت في الفضاء نظرة فاحص، ثم عادت إلى الخادم فقالت: إن الطقس جميل، اذهب وأسرج لي جوادي في الحال.
فخرج الخادم مسرعا، ولما بلغ آخر السلم التقى بالوكيل فسأله الوكيل فأخبره أن ميلادي ستخرج للنزهة، وأنه ذاهب لإسراج جوادها، فقال له: ألعلها سألت عني؟ - نعم يا سيدي، فقلت لها: إني لم أرك. - حسنا، امض في شأنك وأنا صاعد إليها.
فصعد بب إلى الدور الأول وذهب توا إلى الغرفة التي نمرتها 3 وهي الغرفة التي كانت نائمة فيها فاندا، فطرق بابها فلم يجبه أحد، فطرق ثانية دون جدوى! وعند ذلك فتح الباب ودخل فلم يجد أحدا في الغرفة، لكنه وجد رمادا في المستوقد، ورأى الفراش مختل النظام، فقال في نفسه: ألعل ميلادي باتت هذه الليلة في غرفتين؟
ثم برح هذه الغرفة، وجعل يطرق جميع الأبواب حتى انتهى إلى نمرة 9، فأجابته ميلادي من داخلها، وأمرته بالدخول فدخل، ورآها تلبس ملابس الركوب وعليها علائم السكينة والارتياح، فتقدم منها وقبل يدها، وقال: أرى أن سيدتي قد نامت مستريحة هذه الليلة؟ - نعم، فلم أزعج في رقادي. - ويسرني أن أراك اليوم ناعمة البال رضية الأخلاق. - نعم، إننا في اليوم السابع عشر من الشهر، وإنه في مثل هذا اليوم من كل شهر يحضر رجل من باريس. - لقد أصبت، فقد سهوت عن التاريخ.
ثم خرجت ميلادي وخرج بب في أثرها حتى انتهت إلى الحديقة، فأعانها وكيلها على امتطاء الجواد وصحبها إلى الشارع، فأطلقت عنان الجواد إلى أن توارت عن الأنظار.
أما بب فإنه عاد إلى القصر وصعد وهو يضطرب إلى الغرفة نمرة 3 وجعل يفحص الفراش فحصا مدققا، فرأى على المخدة شعرة علم من طولها أنها من رأس امرأة، ولكنه ما لبث أن نظر إلى لونها حتى ارتعش؛ لأن هذه الشعرة كانت شقراء وشعر ميلادي أسود! فأيقن أن ميلادي لم تبت الليلة الماضية في هذه الغرفة، وجعل العرق ينصب من جبينه؛ ليقينه أن تلك المرأة التي باتت أمس في هذا القصر، برحته في هذا الصباح وهي تحمل سر الخيال.
5
وسارت ميلادي على ظهر جوادها تقطع تلك البراري وهي طلقة المحيا، فكانت تسير في طريق خاص كأنها تسير لموعد مضروب، وما زالت مجدة في سيرها حتى انتهت إلى روضة في آخر القرية، كائنة على الطريق المؤدية إلى باريس.
وهناك أوقفت جوادها وجعلت تتلفت يمنة ويسرة، ولم يطل وقوفها حتى برز لها رجل من وراء الأكمة كان متنكرا بملابس القرويين، ولكنها عرفته في الحال وقالت له بصوت يتهدج: أهذا أنت يا فرانز؟ قل لي ما وراءك من الأخبار.
فحياها هذا الرجل، الذي دعته باسم ألماني، وقال لها: إن الأخبار حسنة. - وكيف ولدي؟ - إنه زاد جمالا. - أهو سعيد؟ - دون شك، ولكنه عاشق مفتون وهو سيتزوج.
فاضطربت ميلادي وقالت: رباه! وماذا أصنع؟! - لماذا تضطربين فإنه سيكون أسعد الناس بهذا الزواج؛ لأن التي يحبها بارعة الجمال، ولكنها فقيرة مدينة له بكل شيء حتى بهنائها؛ فإنها أيضا هائمة بهواه.
فزالت آثار الاضطراب عن وجه ميلادي وأخذت يد فرانز وقالت: إنه بلغ من العمر أربعة وعشرين عاما، وإني لم أعد أراه بعد أن تجاوز عمره خمسة أعوام. - إني يا سيدتي لم أجسر أبدا على اعتراضك؛ بل إني كنت أمتثل لأوامرك وأنفذها كما تنفذ الآلة أغراض الصناع، وها أنا الآن لا أزال في موقفي القديم، أحب أن أتكلم ولكني لا أجسر على الكلام. - قل: إني أريد أن تتكلم. - ألا تظنين يا سيدتي أن حب الأم يكفر عن الذنوب؟ - اسكت.
ولكن فرانز أتم حديثه فقال: إنك أردت أن أتكلم وسأتلكم؛ فاعلمي يا سيدتي أنه قد مضى 25 عاما على موت أبيك.
فغطت ميلادي وجهها بيدها؛ إخفاء لاضطرابها، فقال فرانز: وقد مضى أيضا على قتل أختك ستة أعوام، فممن تخشين؟! ومن الذي يطالبك بعد أبيك وأختك بهذه الثروة الطائلة التي تتمتعين بها منذ عهد بعيد؟! فلماذا لا تظهرين لابنك أنك أمه؟! ولماذا لا تقيمين في باريس؟!
وكانت دموع ميلادي تتساقط، ولكنها مسحت دمعها حين سمعت هذا القول، وقالت له: ألا تعلم أيها التعس، ما ألقاه من العذاب منذ ستة أعوام؟ - ماذا تعنين بما تقولين؟ - ألم تقل إن أبي مات؟ - ولا أزال أردد هذا الكلام؛ لأني واثق من موته.
فابتسمت ميلادي ابتسام القنوط وقالت: ولكنه يخرج من قبره حين يريد! - إن الأموات لا يخرجون يا سيدتي من القبور! - ولكن أبي لم يجر على منوالهم؛ لأنه يخرج من قبره كل ليلة وهو يجر جميع القيود التي كبلناه بها. - ما هذا الوهم؟! بل ما هذا الجنون؟! - ليس ما أقول لك وهما؛ بل هو حقيقة ثابتة؛ فإنه يدخل إلى غرفتي ويجلس على سريري، ويقول لي: توبي واستغفري وأرجعي الأموال المسلوبة.
فهز كتفيه قائلا: لمن يريد أن ترجعي هذه الأموال؟! - لابنة أختي. - ما هذا الخوف؟! إنك تعلمين أن إرجاع الأموال محال؛ لأنك إذا أردت إرجاعها فإن الآخرين لا يريدون.
فذعرت وقالت له: بربك لا تكلمني عنهم.
فقال فرانز بلهجة قاسية: إنك يا سيدتي قد جريت في صحبتي شوطا بعيدا ولم تكتمي عني أمرا، ولذلك أسألك بحق ما بيننا من الصلات أن تبوحي لي بكل شيء.
فقطبت حاجبيها وقالت: إذن أنت تريد؟ - نعم!
فنزلت عن جوادها وتأبطت ذراعه، ثم مشت وإياه وجعلت تبوح له بأسرارها الغامضة.
ولم يعلم أحد ما دار بينهما من الحديث عن الخيال وغيره من الأسرار، ولكن يظهر أن ميلادي قد اطمأنت بعد هذا الحديث، فعادت إلى القصر وعليها مظاهر السكينة والارتياح، خلافا لوكيلها بب؛ فقد كان مضطربا أشد الاضطراب، ولكنه لم يسأل الخادم عن المكان الذي نامت فيه فاندا.
ولما عادت ميلادي دخلت إلى قاعة الطعام، ودخل معها بب، وكان من عادته أن يخدمها على المائدة، لكنها كانت تعتبره صديقا بل حليفا لها، فكانت تتخلى عن كبريائها الإنكليزية وتكلمه من غير كلفة؛ لما كان بينهما من الروابط السرية.
غير أن ميلادي كانت ملازمة للصمت مدة الأكل؛ على ما كان يبدو عليها من ظواهر الارتياح، فبدأ بب الحديث وقال: أرى على سيدتي مظاهر السرور؛ فهل وردتها أنباء حسنة من باريس؟ - نعم، إن ابني سيتزوج.
فأظهر بب سروره ودعا له بالهناء والعمر الطويل، غير أن ميلادي قاطعته وقالت له: أتعتقد بالأرواح يا بب؟
فتكلف هيئة البلاهة وقال: لا أعلم. - ولكنك تعتقد مثلي فيما أظن أن أرواح الموتى تظهر للأحياء! - لا، لا أعلم أيضا، ولكني أصدق بكل ما ترويه لي يا سيدتي. - ألم تر الخيال ولم تسمع رسف قيوده؟ - كلا، ولكن ...
فنظرت ميلادي إليه نظرة ارتياب وقالت: لكن ماذا؟! - ولكني أرى أن هذا الخيال وهذه القيود وهم يمثله لك فكرك المضطرب ولم ير أحد من سكان القصر شيئا من هذا، غير أني سمعتك في إحدى الليالي فأصغيت، فخيل لي أنك تجيبين على مسألة تعرض عليك، ولكني لم أسمع صوتا غير صوتك، وأظن أن تلك الخرافات التي أشيعت عن هذا القصر قد دعت إلى هذا الاضطراب في أفكارك!
فقالت له ميلادي: قد يكون ما تقوله حقا، ولكن هذا الخيال كان يزورني أيضا في غلاسكو وفي لندرا؛ أي في غير هذا القصر الذي كثرت عنه الخرافات؛ لأن أبي كان يخرج إلي من قبره في كل ليلة، أتعلم ما كان يريد؟!
ثم قلبت شفتها إشارة إلى الاحتقار وقالت: إنه يطلب إلي أن أرجع إلى تلك الفتاة النورية تلك الثروة التي ما وصلت إلي إلا بعد أن سفكت كثيرا من الدماء! وهو يقول: إني إذا أرجعت هذا المال يصفح عن الزلة التي ارتكبتها في صباي، ويصفح عن حبي لذلك الهندي، وعن قتلي إياه وقتل أختي.
فارتعش بب وقال: أهو يطلب منك هذا الطلب؟! - نعم، إنه يريد أن أحرم ولدي الذي تعود بسطة الكف وعيش السعة والإنفاق دون حساب، وأجعله فقيرا معدما يعيش من شق القلم، أو يرتزق من صناعته.
ثم ضحكت ضحك الهازئ، وقالت: إنه ينذرني بالنار الأبدية، وماذا تهمني النار إذا بقي ولدي سعيدا؟
وقامت بعد ذلك فجعلت تمشي بخطوات غير متوازنة وقالت: لقد اسود هذا القصر في عيني وأريد أن أبرحه. - إلى أين تبرحين يا سيدتي؟ - إلى باريس؛ أريد أن أرى ولدي وأهنأ بسعادته.
فلم يجب بب بحرف، لكنه خرج من القاعة بحجة أنه يريد إصدار بعض الأوامر إلى الخدم وبقيت ميلادي وحدها.
ولما أقبل الليل ودنت ساعة الرقاد ترددت ميلادي هنيهة باختيار غرفة تنام فيها، إلى أن وقع اختيارها على الغرفة التي نمرتها 11 وكانت نوافذها تشرف على حديقة القصر.
ولكنها لم تصعد إلى سريرها بل جلست فوق مقعد قرب المستوقد، وجعلت تنظر إلى الساعة من حين إلى آخر وعليها دلائل القلق.
ولبثت على ذلك إلى أن دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فسمعت صفيرا من الحديقة، فأسرعت إلى خزانة ففتحتها وأخرجت منهلا من الحرير، ثم فتحت النافذة المشرفة على الحديقة فربطت طرف الحبل بحديد النافذة، وأطلقت الطرف الآخر فبلغ أرض الحديقة.
ولم يمض على ذلك دقيقتان حتى رأت ميلادي رجلا يتسلق الجدار، مستعينا بهذا الحبل.
وتنحت عن النافذة ودخل ذاك الرجل منها إلى الغرفة، فأسرعت ميلادي إلى المصباح وأطفأته، فساد الظلام في تلك الغرفة.
6
غير أن نار المستوقد كانت حامية، فكان ينبعث منه نور ضعيف ينير إنارة الشفق فيمكن مشاهدة الرجل الداخل من النافذة، ويعرف الناظر إليه أنه فرانز الألماني الذي التقت به ميلادي في آخر القرية، فقال لها عند دخوله: ألعلي تأخرت وجئت بعد فوات الأوان؟ - كلا، لأن الخيال لا يحضر إلا في منتصف الساعة الأولى بعد انتصاف الليل.
فنظر فرانز إلى ما حواليه وقال: أين يجب أن أختبئ؟ - هنا وراء السرير فلا يفصل بيننا غير ستار.
فاختبأ وقال لها: قد يمكن أن يكون الزائر خيالا، ولكني أعتقد أنه جسم مركب من لحم وعظم ودم ، فإذا كان ذلك فلا بد لي من مقاتلته.
فاتقدت عيناها ببارق من الغضب، وقالت: ألديك سلاح؟ - نعم، مسدس وخنجر، وأنت لديك مسدس أيضا، فنامي في سريرك بثبات ولننتظر قدوم الخيال.
فامتثلت ميلادي، وجعل فرانز يخاطبها من وراء الستار همسا، فقال لها: أواثقة أنت أن الخيال خيال أبيك؟ - ليس لدي ريب؛ لأن الوجه وجهه واللباس لباسه، ولا يختلف عنه إلا اختلافا قليلا في الصوت.
وفيما هي تقول ذلك سمعت تنهدا، فقالت له: كفى لقد حضر.
ثم استحال التنهد إلى زفير وشهيق، تلاهما صوت القيود، فغطت ميلادي رأسها بلحاف وقالت لفرانز بصوت منخفض: أسمعت؟ - نعم، اسكتي ولا تفوهي بحرف.
وكان الخيال قد بلغ الباب ولكنه لم يسرع بالدخول إلى الغرفة، فوقف عند الباب وانطلق لسانه بالكلام، فقال: رباه! ألا تريحني من هذا العذاب؟! أقضي علي أن أخرج كل ليلة من قبري؛ كي ألين قلب هذه المرأة التي قتلت أباها وأختها دون إشفاق، إنها تقنع بالرجاء ولا تخاف من الوعيد، بل هي تنكر جلالك ولا تخشى بأسك، رباه عفوك؛ لأن كفرانها شديد.
وعند ذلك فتح الباب بعنف ودنا من المستوقد وقال: إن البرد شديد وأنا في حاجة إلى الدفء.
ثم وقف هنيهة أمام النار، فجعلت أسنان ميلادي تصطك من الخوف، خلافا لفرانز؛ فقد وقف موقف التأهب.
وبعد هنيهة دنا الخيال من ميلادي، فهز سريرها وقال: مس ألن، أتسمعينني؟
فاضطربت ميلادي وقالت له بصوت متلجلج: ماذا تريد مني؟ - أريد أن ترجعي الأموال المختلسة أيتها السارقة السفاكة.
فلم تجبه بشيء، فدنا منها ووضع يده على كتفها، وقال لها: ألا تذكرين أباك؟
فصاحت تقول: رحماك. - أتذكرين أختك؟ - نعم نعم، إني أذكر كل شيء، فأشفق علي. - إذن أترجعين الأموال المسروقة؟ - لمن تريد أن أرجعها؟ - إلى ابنة أختك. - وإذا كانت هذه الفتاة قد ماتت؟ - كلا، فهي لا تزال في قيد الحياة وأنا أرشدك إلى مكانها.
فقالت له بصوت المتوسل: كيف ذلك؟ أتريد أن أحرم ولدي وأجعله فقيرا بعد غنى؟ - نعم؛ لأنه ابن الجريمة، وفوق ذلك فإنك إذا لم ترجعي المال إلى ابنة أختك فإن ابنك لا يستفيد منه بشيء؛ لأنه يموت ليلة زفافه قرب عروسه.
فصاحت ميلادي صيحة يأس وقالت: إني أرد كل شيء على أن يبقى ولدي حيا.
ولكنها قبل أن تتم كلامها خرج فرانز من وراء السرير، وقال له بصوت الساخر المتهكم: لكنك تموت قبله أيها المنافق.
ثم انقض بسرعة على الخيال وضغط على عنقه ضغطا شديدا حتى كاد يخنقه، فرأى الخيال أنه لا يستطيع دفاعا؛ فطلب العفو، وشعر فرانز أن قناع وجه ذلك الخيال قد سقط على الأرض.
وكان هذا القناع مصنوع من الشمع على مثال وجه والد ميلادي، فلما سقط عن وجهه ورأت ميلادي أنه يطلب العفو؛ أيقنت أن فرانز قد تغلب عليه، فهبت من سريرها وأنارت الشمعة ونظرت إلى ذلك الخيال وهو تحت أقدام فرانز، فرأت أنه وكيلها بب! ولكنها لم تهجم على ذلك الرجل الذي كان يخدعها منذ عشرة أعوام بهذه الحيلة الهائلة، بل قالت لفرانز: يجب على هذا الرجل أن يعترف بكل شيء قبل أن يموت.
ثم قالت لفرانز، وكان راكعا فوق صدره: انهض عنه كي يستطيع أن يتكلم؛ لأنه إذا حاول الفرار ألهبت دماغه بنار المسدس.
فامتثل فرانز، ونهض بب فألقى سلاسل قيوده وتغير فجأة من الرعب إلى الارتياح والاطمئنان؛ كأنه لم يعد يرهب الموت، وقال لميلادي: إنك تريدين أن تعرفي كل شيء؟ - إن دقائق حياتك باتت معدودة، ولكني أريد أن أعرف سرك قبل أن تموت.
فقال بلهجة المتهكم: إني سأبوح بكل شيء، ولكني لا أبوح بما تريدين لرهبتي من الموت، بل إني أقول ما أقوله بملء الرضا، وأنت لم تعلمي السبب الذي حملني على أن أظهر لك بمظهر الخيال منذ عشرة أعوام، وكيف أني أقنع وجهي بقناع من الشمع يشبه وجه أبيك.
ثم قهقه ضاحكا وقال: إذن اسمعي.
إنك تعلمين يا ميلادي، بل يا مس ألن، أني اتهمت أباك حين كنت خادم غرفته، أنه دنس عرضي وأغوى امرأتي، فحالفتك مع فرانز على قتل أبيك، ولا شك أنك تعجبين كيف أني انقلبت عليك هذا الانقلاب؟! - نعم، وأريد أن أعرف أيها الشقي من دفعك إلى هذه الخيانة!
فحملق بب بعينيه وقال: أتسألينني من أغراني؟ ومن عسى يغريني غير خيانتك وفظاعتك؟
اسمعي الآن: إنه كان لي امرأة طاهرة حسناء أحبها وتحبني كما تعلمين، فأتيت إلي يوما وأنت لا تتجاوزين الخامسة عشرة من عمرك الدنس، وأخذتني بيدي وأكرهتني على أن أنظر من النافذة المطلة على حديقة قصرك في غلاسكو، ورأيت امرأتي جالسة بالقرب من أبيك وهو يعانقها، فطلقت امرأتي، وأصبحت منذ ذلك الوقت آلة بيدك للانتقام من أبيك.
ومضى على ذلك أربعة أعوام وأنا أساعد فرانز على قتله، ثم مضت عشرة أعوام أخرى وأنا أطوع لك من البنان، إلى أن انقلبت عليك هذا الانقلاب، وإليك بيان السبب:
جاءني رجل ذات ليلة وقال لي: إن امرأة تحتضر وهي تريد أن تراك قبل أن تموت.
وذهبت إلى حيث كانت تقيم فوجدت أنها امرأتي وأنها مشرفة على الموت، فنظرت إلي نظرة قطعت قلبي، وقالت: إنك طردتني يا بب من منزلك كما تطرد الزوجة الخائنة، ولكني كنت طاهرة عفيفة بريئة، فما أحببت أن أموت قبل أن أطلعك على سر عظيم؛ وهو أن والد مس ألن الذي رأيتني وإياه في الحديقة لم يكن عاشقا لي بل كان أبي!
ثم أعطتني لفافة تقادم عهدها من الأوراق وقالت لي: اقرأ هذه الأوراق يثبت لك ما قلته.
فقرأتها وعلمت أن امرأتي كانت بنت أبيك من زواج غير شرعي وهي أختك يا ميلادي، أعلمت الآن؟
إنك لا تفقهين مرادي؛ لأن قلبك الدنس لا يعرف غير الذنوب، أما أنا فقد ندمت على ذنبي القديم وذكرت أنك أنت السبب بالتفريق بيني وبين امرأتي، فأردت أن أرجع أموال أبيك إلى من هو أحق منك؛ أي إلى بنت أختك التي خنقتيها في لندرا، وهي فتاة تدعى جيبسي النورية وترقص في الشوارع، فإذا رجعت إليها ثروتها كانت أغنى أغنياء الإنكليز.
فهاجت ميلادي هياج الضواري وقالت: ستموت أيها الشقي دون أن تراها على هذا الغنى .
ثم أطلقت عليه مسدسها، فوقعت رصاصته بصدره، فوقع صريعا تتدفق منه الدماء.
ثم نظرت إلى فرانز وقالت: لقد أصبت؛ إن الأموات لا يرجعون.
أما بب فكان لا يزال قادرا على الكلام فقال لها: إنك يا مس ألن، قد أضفت جريمة جديدة إلى جرائمك القديمة، ولكن لا بد من عقابك وهو قريب.
فضحكت ميلادي وقالت: ألعلك تقوم ثانية من بين الأموات؟! - كلا، ولكن يوجد من يعرف سري بين الأحياء.
ورأى بب أن وجهها قد اصفر فقال لها: لقد بدت عليك دلائل الخوف، وإذا أردت أن تعلمي كل شيء فاعلمي أيضا أنه جاء إلى قصرك أمس غريبان، وأمرت باستقبالهما فبات الرجل في الغرفة الحمراء وباتت المرأة في إحدى غرفك؛ فخدعت بها حين دخلت إلى غرفتك وحسبتك إياها، فمثلت أمامها دور الخيال وذكرت جميع ذنوبك.
فصاحت ميلادي صيحة جزع أمام بب، فكان صوته يتلاشى فقال لها: إن يوم العقاب قريب وسيكون هائلا أيتها الأفعى.
ثم أدار وجهه كي لا ينظر إليها، وقد خفت صوته وأطبقت عيناه. •••
فقال فرانز لميلادي: لا تضطربي لمثل هذه الأمور التافهة، ولنبرح المكان قبل الصباح. - إلى أين نذهب؟ - إلى باريس حيث ترين ولدك. - لقد أصبت، لنذهب.
ثم انحدرت دمعة حنو من عين تلك النمرة التي سفكت دم أبيها وأختها، كأنما ذكر ولدها أعاد إليها قلب المرأة!
7
وبعد أن رحلت فاندا مع السير نيفلي بساعتين على قطار الإكسبرس إلى باريس، كان روكامبول - بطل هذه الرواية - في شارع الكبوشيين في باريس يسير سيرا مستعجلا، تدل ظواهره أنه ذاهب إلى موعد، ثم رأى مركبة أجرة فأوقفها وأمر سائقها أن يسير به إلى شارع سربنت.
فلما وصل رأى نويل ينتظره، فكان أول سؤال بادره به قوله: هل أتت فاندا؟
فقال له نويل: كلا أيها الرئيس، إني كنت أنتظرها أمس فلم تأت، وذهبت اليوم إلى المحطة ورأيت جميع الركاب دون أن أراها بينهم، ولكني علمت أن القطار خرج عن الخط قرب أميانس فلم يصب أحد من الركاب بضرر، غير أن بعضهم تركوا القطار وذهبوا إلى أميانس وأنا الآن واثق ...
وقبل أن يتم كلامه فتح الباب، ودخلت منه امرأة، فارتعش روكامبول حين رآها؛ لأنها كانت فاندا، فسلمت عليه سلام المحبين وقالت له: وصلت منذ ساعة، فأفرغت جعبة حيلي حتى تمكنت من الحضور؛ لأن السير جمس نيفلي بات يعاملني معاملة العشاق ويغار علي أشد الغيرة، في حين أن شفتيه لم تلثما أطراف أصابعي بعد.
فابتسم روكامبول وقال: شرط أن تكوني علمت أسراره على الأقل. - كلا، لم أقف على شيء منه بعد. - ولكني أريد أن أعلم تاريخ حياة جيبسي؛ لأن السير جورج ستوي الذي انضم إلينا لم يعلم حقيقته. - ولكني علمت بعضه؛ لأن الصدفة أوقفتني على شيء منه.
فاندهش روكامبول وقال: أوضحي ما تقولين! - إن جيبسي غنية وتقدر ثروتها بالملايين الكثيرة.
ثم قصت عليه جميع ما حدث لها من الحوادث في قصر روشربين، وكيف أنها جاءت مع السير جمس نيفلي إلى ذاك المكان من أميانس، ومبيتها في إحدى غرف ميلادي، وظهور الخيال وما علمت منه من الأمور، إلى أن أتمت حديثها قائلة: إما أن أكون منخدعة أو تكون جيبسي ابنة أخت مس ألن صاحبة تلك الملايين.
وكان روكامبول مصغيا إليها بانتباه عظيم، فقال لها: إذا كان ذلك فلا خوف على جيبسي، لقد وضعتها في محل أمين وتولى مرميس حمايتها، وهو يحرص عليها أكثر من حرصه على نفسه. - وما صنعت بالسير جورج ستوي؟ - أقمته في إحدى فنادق سانت جرمن وأمرته أن لا يبرح الفندق في النهار، غير أني مضطر الآن بعد ما سمعت منك هذه الحكاية أن لا آذن له بالخروج في الليل أيضا؛ حذرا من أن يراه السير جمس نيفلي قبل أن أعود. - كيف إلى أن تعود؟ ألعلك راحل؟ - نعم، فلا بد لي من زيارة قصر روشربين، والمباحثة قليلا مع ذاك الخيال.
وبعد ليلة كان روكامبول ينزل من قطار السكة الحديدية إلى أقرب محطة من قصر روشربين.
وكانت فاندا قد أرشدت روكامبول إلى طريق القصر ووصفته له خير وصف، فكان يتوقع حين وصوله إليه أن يرى السكينة سائدة من حوله ، ولكنه رأى نقيض ما كان يتوقع. إذ رأى كثيرا من الناس واقفين عند بابه، وخادم القصر يقص عليهم ما حدث فيه لوكيله بب، فيقول: إنه كان خدام القصر سمعوا في الساعة الأولى بعد منتصف الليل، دوي مسدس، ولكنهم لم يجسروا على الدخول إلى غرف مولاتهم، غير أنهم سمعوا بعد ذلك ميلادي تنادي أحدهم، فأسرع إليها، فأمرته أن يسرج لها جوادين، فامتثل وهو منذهل؛ لأنه رآها مع رجل غريب لم يكن رآه في المكان من قبل.
ثم رحلت ميلادي مع فرانز، وعند الصباح تجاسر الخادم على الدنو من غرف ميلادي فسمع أنينا، فتقدم حتى اهتدى إلى مصدر الأنين، ففتح الباب ووجد بب سابحا بدمائه، لكن قلبه لا يزال ينبض.
ولما وصل روكامبول كان الخادم قد بلغ بحكايته إلى هذا الحد، فزحم الحضور واخترقهم إلى الخادم قائلا: ألا يزال حيا؟ - نعم، ولكني لا أظنه يحيا أكثر من ساعة. - سر بي إليه في الحال فإني طبيب.
فدخل به الخادم إلى القصر، وظل الفلاحون المتجمهرون وقوفا عند الباب.
8
ولندع الآن روكامبول في ذلك المكان، ونخبر شيئا عن ابن ميلادي التي ارتكبت ما ارتكبته من الجرائم؛ حفظا لثروته، فنسمع الآن حكايته من فمه يتلوها لصديق له في باريس.
كان ابن ميلادي يدعى لوسيان وله صديق يدعى بول، فكانا مختليين في غرفة من منزله، ولوسيان يقص عليه حكايته قائلا:
إن ما تتصل إليه ذاكرتي أني عندما كنت في الخامسة من عمري كنت في قصر كبير لا أعلم في أي بلد، على كثرة بحثي عنه حين بلوغي سن الشباب، ولكني أظن أنه كان في إنجلترا أو إيكوسيا.
ولا أزال أذكر أمي؛ فقد كانت صبية حسناء، إذا رآها أحد معي حسبها أختي الكبرى، ولا أعلم كيف افترقت عنها، وإذا كان هذا الفراق برضاها. ولكني أذكر أنها كانت تضمني إلى صدرها وتبكي، ولم أدر إلى الآن سبب هذا البكاء.
وبينما أنا ذات يوم نائم في القصر، صحوت، فإذا أنا بيدي امرأة عجوز راكبة في قطار ينهب الأرض، فقضيت أياما أنوح وأبكي، ثم تناسيت أمي وألفت الصغار الذين كانوا يلعبون معي.
وعندما بلغت العاشرة من عمري أرسلت إلى مدرسة داخلية كان يتولاها أستاذ كهل يحبني كما يحب ابنته، فأقمت في تلك المدرسة وربيت في منزل ذلك الشيخ إلى أن بلغت السادسة عشرة من عمري، وكنت في كل يوم أسأل الأستاذ - وهو يدعى برتود - عن أمي فيجيبني أنه لا يعلم شيئا من أمري، وكان آخر ما قاله لي في هذا الشأن: إن رجلا ألماني اللهجة دفعني إليه وجعل يرسل له كل عام خمسة آلاف فرنك أجرة تعليمي ونفقاتي فعلمتك اللغات الشائعة وأحسنت تربيتك جهد ما استطعت.
وبعد عام ورد إلى هذا الأستاذ كتاب ألماني يقول فيه: إن لوسيان قد أتم دروسه فأطلق سراحه وأعطته هذه الحوالة في طيه.
وكانت الحوالة على أحد المصارف الكبرى وقيمتها ألف جنيه ولهذا الأستاذ الفاضل فتاة في الرابعة عشرة من عمرها وهي كزنبقة الحقول وقد كنت بها من الهائمين، فلما أخذت هذه الحوالة ورأيت أني لم أكد أبلغ السابعة عشرة من العمر حتى كان إيرادي مائة ألف فرنك في العام بفضل ما كان يرد لي كل ثلاثة أشهر من هذه الحوالات السرية، جئت والد الفتاة واسمها ماري فبحت له بغرامي بها ورجوته أن يأذن لي بزواجها فأبى معتذرا عن ذلك بحداثتي، وما زلت به حتى رضي أن يزوجني بها متى بلغت، وبلغت سن الرشد؛ أي بعد ستة أعوام.
وأنت تعرف أيها الصديق تتمة حكايتي، فإني تجولت سائحا مدة عامين بصحبة أستاذي، ولما عدت أنشأت منزلا ودخلت في سلك أعضاء النادي باسم لوسيان دي هاس؛ لأني لا أعرف اسمي الحقيقي، فجعل ذلك المكاتب السري الذي كان يكاتب أستاذي في عهد حداثتي يكاتبني رأسا ويرسل لي في كل ثلاثة أشهر ثلاثة آلاف جنيه بدلا من ألف. فلم أعد محتاجا إلى شيء من أسباب الراحة، غير أن الذي نغص عيشي أني عدت من سياحتي في البلاد المصرية فلم أجد أستاذي القديم برتود ولا ابنته ماري ولا المدرسة التي كان يدرس فيها، فبحثت عنهما في كل مكان حتى يئست، إلى أن أخبرني أحد رفاقي أن الأستاذ مات وأن ابنته ماري تزوجت، وكنت لا أزال متدلها في حبها. فاندفعت مع تيار البذخ والإسراف بغية النسيان، فكنت أسكر وأقامر، أتعرض لهوى كل حسناء حتى جرى لي مع إحدى بنات الهوى حادث غريب.
فقال له صديقه: ألعلك برحت باريس منذ عام واحتجبت عن الأنظار من أجلها؟ - هو ذاك، وأنا الآن من أسعد الناس. - ألعل سعادتك من هذه الفتاة؟ - كلا، فإني هجرتها بعد أن أرسلت إليها كتاب وداع وفي طيه مائة ألف فرنك. - لقد أحسنت، غير أني لا أعلم سبب انفصالك عنها قبل فتور حبها لك. - كلا، فإنها كانت تهواني هوى لا يوصف، وهي التي لم يدخل إلى قلبها من قبل شعاع من أشعة الغرام، ولكني لقيت ماري برتود التي أحببتها الحب الأول. - ألقيتها أرملة؟ - كلا، فإنها لم تتزوج، ولا يزال أبوها حيا يرزق، وهي الآن في العشرين من عمرها تفتن النساك بجمالها الطاهر، وسأقترن بها بعد ثمانية أيام. - ولكن كيف لقيت خطيبتك؟ - إنه حديث يطول شرحه، فأشعل هذا السيكار واجلس أقصه عليك.
9
ولنذكر شيئا عن لوسيان قبل تتمة حكايته، فقد كان في الرابعة والعشرين من عمره ممشوق القوام شديد الساعد أسود الشعر أزرق العينين، يبتسم ابتساما يدل على السويداء، وهو حلو الكلام حاضر النكتة، كثير اللطف على بسالة نادرة، فقد اتفق له مرة وهو في ألمانيا أنه سمع أحد الضباط الألمانيين يطعن بفرنسا طعنا شائنا، فدعا جميع فرقة ذلك الضابط إلى المبارزة وبارز في يوم واحد ستة من رجالها ففاز عليهم جميعا.
لكنه كان مع هذه البسالة والجراءة طاهر النفس رقيق الحاشية يحبه جميع أصدقائة حبا أكيدا؛ لما يرون به من مخائل النجابة والسلامة.
ولما أشعل صديقه سيكارة وعاد إلى موضعه، قال له لوسيان: أسمعت باسم تلك الفتاة التي تدعى جوزفين؟ - ومن لم يسمع بها؛ فإنها أشهر بنات الهوى، ألعلها هي التي علقت بحبها؟ - نعم، فقد اختطفتها ذات ليلة، بل هي التي اختطفتني ؛ فإن هذه الفتاة كانت تفتخر أنها لم تهو أحدا في حياتها من عشاقها الذين كانوا يترامون على أقدامها وينتحرون من أجلها، ولكنها أحبتني حبا قويا، واعترفت أن هذا أول عهدها بالحب الصادق.
فعشنا عاما أو يزيد ونحن لا نفترق لحظة، ثم جاء دور الفتور وشعرت أن جذوة غرامي أخذت بالخمود، وفتح الصواب قلبي، وعلمت أن هذه المومس ستقذف بي إلى الهاوية، وجعلت أتهيأ للانفصال، خلافا لما كنت أراه منها؛ فإن تعلقها بي كان يزيد في كل يوم.
وقد أصبحت يوما وشعرت أن حبها قد زال من قلبي، بل وجدت نفسي أخافها وأرتعد لذكرها. فخرجت من ذلك المنزل المعتزل، الذي كنا فيه، أطلب النزهة وما زلت أنتقل من شارع إلى شارع حتى انتهيت إلى حديقة عمومية، كان كثير من الصغار مع مربياتهم يلعبون فيها.
فوقفت أمامهم أتأمل جمال الحداثة ثم حانت مني التفاتة، ورأيت شيخا أحنت ظهره الأيام، يمشي متوكئا على عصاه مشي المتعب الضعيف تصحبه فتاة صبية.
وكان وقور الهيئة لطيف الملابس، غير أن ملابسه كانت تدل على الفقر وكذلك ملابس الفتاة التي كانت تصحبه؛ فإن قبعتها بسيطة دون أزهار، غير أني عرفتهما للحال؛ فإنهما كانا الأستاذ برتود وابنته ماري.
ولا تسأل عن دهشتي؛ فإني أسرعت إلى أستاذي القديم، وكدت أخنقه عنقا وأنا أقول له: كيف بعثت بعد الموت؛ فإني بكيتك كثيرا؟!
ولم يكن اضطرابه أقل من اضطرابي، فاضطر إلى الجلوس في مقعد في الحديقة وقال لي: كلا يا بني إني لم أمت، ولكني لقيت من الأمراض ما هو أشد من الموت. فنظرت إلى ماري، فأطرقت بعينيها، وعند ذلك حكى لي الشيخ جميع ما حدث له ولابنته منذ خمسة أعوام، وحكايته أنه خسر ماله في مصرف أصيب بالإفلاس، ثم جعلت تلاميذه تترك المدرسة واحدا إثر واحد حتى اضطر إلى بيعها، وبقي عامين يدرس دروسا خاصة في المنازل إلى أن أصيب بمرض أقعده عن العمل، فامتنع مرغما عن التدريس واضطر إلى الإقامة مع بنته في منزل صغير، فكانت تشتغل 10 ساعات في اليوم؛ كي تقي أباها شر العوز.
فتأثرت لحكايته وقلت لماري: أين زوجك، ألعله هجرك؟
فذهلت الفتاة وقالت: ليس لي زوج، ولم أفترق لحظة عن أبي.
فضممتها إلى صدري وقبلت جبينها وقلت لها: أخطأت؛ فإن لك زوجا وهو أنا.
ثم ركعت أمام أستاذي القديم وقلت له: ألعلك نسيت وعدك لي؟ - صديق لوسيان: لقد عرفت الباقي؛ إذن فأنت ستتزوج؟ - نعم، بعد ثمانية أيام، وإنما ذكرت لك أمري؛ كي تكون شاهدي في هذا الزواج. - ومن يكون الشاهد الثاني؟ - لا أعلم، ولكني أرجو أن يكون ذلك الرجل الألماني الذي بت أظن أنه هو الذي يتولى شأني منذ حداثتي، وهو يدعى الماجور هوف، ولست أعلم متى أتى إلى باريس، ولكني عرفته منذ 4 أعوام وهو ينظر إلي في بعض الأحيان نظرات ملؤها الرفق والحنان، فيحدثني قلبي أن هذا الرجل غير غريب عني. - ألم تكلمه أبدا؟ - نعم، فكان يجيبني ببرود؛ بل بقسوة، ولكني كنت أرى أنه يتكلف هذا البرود تكلفا كأنه مكره عليه. - إذن تعتقد أن الماجور هو والألماني الذي كان يعتني بأمرك هما واحد؟ - نعم، ولهذا أرجو أن يكون شاهدي الثاني. - أين تجده؟
أجاب: في نادي اسبرج؛ فإنه من أعضائه، وسنذهب إليه في هذه الليلة. - ليكن ما تريد، وسأوافيك إلى هذا النادي.
وبينما هو يلبس قبعته ويحاول الانصراف، سمع دق جرس الباب الخارجي فقال لوسيان: من ترى هذا الزائر؛ فإني لا أستقبل أحدا في هذه الساعة؟
وبعد هنيهة، فتح الباب ودخل رجل يناهز الستين من العمر فنظر إلى الشابين وقال: من منكما يا سيدي يدعى لوسيان؟ - لوسيان: هو أنا. - لقد عهد لي يا سيدي مصرف دفيس هامغري وشركاه أن أدفع لك مائة ألف فرنك وأعطيك هذا الصندوق الصغير، وهذا الكتاب.
فانذهل لوسيان؛ لأنه منذ عشرة أيام ورد إليه هذا المبلغ فأخذ المال والصندوق ثم فتح الكتاب فرأى 3 أسطر مكتوبة بخط دقيق، يدل على أن يد امرأة قد كتبتها وقرأ ما يأتي:
ولدي العزيز
قدم بالنيابة عني هذه الهدية التي تجدها في الصندوق إلى خطيبتك، وفي طي الكتاب مفتاح الصندوق.
والدتك
فاحمر وجه لوسيان، وكان يرجو أن يعرف اسم والدته على الأقل، ثم فتح الصندوق الصغير فوجد فيه عقدا من الماس لم ير أبهج منه، ولا تقدر قيمته بأقل من نصف مليون، فتنهد لوسيان وانحدرت دمعة من عينه وقال: إذن أمي لا تزال على قيد الحياة فما يدفعها إلى هذا الاحتجاب؟ وما بالها تكتم حتى اسمها عني؟
ثم خطر له أن يسأل موظف البنك الذي جاءه بالحوالة والصندوق، فقال له: إنك تستطيع الكلام يا سيدي أمام صديقي هذا؛ إذ لا أكتم عنه شيئا من أسراري.
فذهل الشيخ الصراف وقال له: ماذا تريد أن أقول يا سيدي؟! - أتأذن أن أسألك، كم بقي لك في خدمة هذا البنك الذي أنت فيه؟ - أربعون عاما. - إذن أنت عرفت كل شيء؟ - ماذا تعني يا سيدي؟ - أعني أنك ستقول لي كل ما تعلمه.
فأبدى الصراف حركة انذهال صادقة وقال: أعيد عليك القول يا سيدي، إني لا أفهم شيئا مما تقول. - إذن اصغ إلي فستفهم ما أريد، إنه يردني من مصرفكم كل ثلاثة أشهر مبلغ كبير، فمن يرسل إلي هذا المال؟ - يرد إلينا من فرع بنكنا في لندرا. - ممن؟ - لا أعلم. - ولكنهم في لندرا يعلمون؟ - لا أظن. - ولكن مدير البنك يعلم دون شك؟ - لا أستطيع أن أقول لك يا سيدي غير واحد ذكرته الآن وهو أني كنت منذ 30 عاما عاملا في بنكنا في لندرا، وجاء رجل أعرفه دون شك إذا رأيته مرة ثانية؛ لأنه لا يزال ممثلا في ذهني، ودفع إلى البنك مبلغا عظيما قسمه إلى قسمين متساويين، فوضع أحد القسمين باسم غلام يدعى لوسيان يتربى في فرنسا، والقسم الآخر باسم رجل هندي يدعى علي رمجاه.
وفي اليوم التالي جاء الهندي وقبض حصته من المال، وفي العام الثاني جاء الرجل فوضع أيضا مبلغا جسيما قدر المبلغ الأول، نصفه للوسيان والنصف الآخر باسم علي رمجاه، وجاء في اليوم التالي وقبض المال الذي وضع باسمه.
فسأله لوسيان: وفي العام الثالث؟ - لم أكن في لندرا؛ فقد نقلوني إلى مصرف باريس. - أهذا كل ما تعلمه؟ - أقسم لك أني لا أعلم غير ما ذكرت.
فقال لوسيان: إذا أظهرت لك الرجل الذي أظن أنه هو الذي كان يدفع المال في لندرا أتعرفه وتقول لي هذا هو؟ - إني لم أتقيد بالكتمان يا سيدي. - إذن أعتمد عليك؟ - دون شك ...
فقال لوسيان في نفسه: إذا كان هذا الرجل هو الماجور هوف فلا بد له من أن يقول لي أين أمي.
ثم ذهب الصراف ولبث الصديقان يتحدثان هنيهة، وبعد ذلك افترقا على أن يجتمعا في المساء في نادي اسبرج.
10
وأرسل لوسيان كتاب الانفصال إلى عشيقته القديمة جوزفين، وأرسل إليها تلك المكافأة المالية وهو يحسب أنها سوف ترضى عن كرمه وتذكره بالخير، وما علم ما أثاره هذا الكتاب في نفسها من العواصف؛ فإنها بعد أن ورد إليها الكتاب أصابها مس من الجنون وكادت تبتلى باليأس، ثم عادت إلى صوابها وجعلت تبحث عن الأسباب التي حملته على هجرانها، وراقبته سرا حتى علمت أنه يهوى ابنة أستاذه القديم، وأنه عازم على الزواج بها، فهاجت عوامل الحقد واستحال ذلك الحب القديم إلى كره دفين وعولت على الانتقام.
وكان لهذه الفتاة حظوة عظيمة لدى شبان باريس؛ لفرط جمالها، ووفرة دلالها، وكثرة بذخها، فلما خطر لها خاطر الانتقام عادت إلى عيشتها القديمة في باريس، فاتخذت لها قصرا شائقا واشترت المركبات الجميلة، فما تجولت منتزهات باريس يومين حتى ازدحم الأغرار على أبوابها، والتف حولها العشاق.
وكان بين أولئك العشاق شاب جريء يدعى المركيز روكرول، علمت جوزفين بعد طول تردد عليها أنه خير آلة لقضاء أغراضها، فاختارته من بين عشاقها، وجعلت تمد له سبل غرامها حتى فتنته ولم يعد يطيق الصبر عنها، كل ذلك وهي تشغفه حبا وتقصيه عما يريد فتقلبه من هجرها ورضاها على أحر من الجمر.
إلى أن أعياه أمرها وكاد يجن بهواها، فخلا بها ليلة وعرض عليها كل ما تطمع به أمثال أولئك النساء من مال وعقار وجواهر، فابتسمت له جوزفين وقالت: إني لا أطمع بمالك ولا أشك بصدق هواك، ولكني سأكشف لك حقيقة أمري، وأبوح لك ببعض سري وإنما اخترتك من بين عشاقي؛ لما توسمت فيك من دلائل الحب الأكيد ولشعور نفسي بميلها إليك، ولكني لا أقول لك شيئا إلا متى تعهدت لي بالموافقة على ما أريد، وإلا فلا تطمع مني بمراد. - سيدتي، إن حياتي وقف لأمرك، فمريني أن أموت أو أنتحر فأسفك دمي على قدميك. - إني لا أريد أن تموت بل أن تكون رسول الموت، أما وقد رضيت بشرطي فاسمع: إني ما أحببت في عمري سوى مرة واحدة، وهذا الرجل الذي أحببته وهجرت من أجله باريس ورضيت معه بعيش أشبه بعيش السجون، أصبحت أكرهه بقدر ما كنت أهواه ولا يطيب لي عيش إلا إذا انتقمت منه بالموت؛ فقد لقيت منه ما هو أشد من الموت.
فقال المركيز: إذن ليمت. - ولكنه من الماهرين بأساليب المبارزة. - وما يهمني؟ - إنه ماهر بإطلاق الرصاص. - وأرجو أن أصيب المرمى؛ فإن الحب يشد ساعدي.
ثم ركع أمامها وقال: بالله؛ اذكري لي اسمه فلم أعد أطيق الصبر. - سأرسل لك اسمه. - لماذا لا تقولين الآن؟ - لي في ذلك مأرب، قل لي أين أنت ذاهب الآن؟ - إلى نادي اسبرج. - اذهب الآن وانتظر فيه، فسأرسل لك اسم هذا الرجل.
فقبل يدها وذهب وهو يتنهد؛ فقد جعله غرام هذه المومس من المجانين.
ولنعد الآن إلى لوسيان؛ فإن موعد التقائه بصديقه في نادي اسبرج كان في الساعة العاشرة، ولكنه لم يحضر إلا في منتصف الليل؛ لأنه ذهب لزيارة خطيبته فأنسته مجالستها ذلك الموعد.
وكان عضوا في ذلك النادي وقد عرف لجميع أعضائه أنه ظريف وغني، والظرف والغنى كافيان لإكثار الأصدقاء من حوله.
ولما دخل إلى القاعة التي كانت غاصة بأعضاء النادي لاحظ أن قدومه أثر على الحاضرين تأثيرا غريبا لم يفقه له معنى، ولم يسلم عليه بينهم غير صديقه بول.
ورأى أن جميع الأنظار متجهة إلى المركيز دي روكرول؛ لأنه كان واقفا بينهم موقف الخطيب يكلمهم عن أمور غريبة، فاندهش لوسيان وأصغى إلى المركيز فسمعه يقول ما يأتي:
الحق أيها السادة أن مثل هذه الأمور لا يتفق حدوثها إلا في باريس؛ فإن الرجل يأتي إليها بثروة لا يعلم الناس موردها فينتحل لنفسه اسما؛ إذ لا يكون له أب معروف، ويدعى من النبلاء؛ فيقبل عليه الناس ويحوم حوله الأصدقاء والنبلاء وهو ليس من النبل في شيء.
فارتعش لوسيان لسماعه؛ لأن كلامه كان ينطبق عليه!
وعاد المركيز إلى حديثه فقال: لو جاءكم رجل يوما وقال لكم: إن هذا الرجل الذي يقيم بينكم منتحلا أسماء الأعيان وما هو إلا مزور محتال، وإن المال الذي لديه يورثه الخزي والعار، وهو لكم من الأصدقاء فماذا تقولون؟
وقال له أحد الحاضرين: إنك جريت شوطا بعيدا أيها المركيز. - لا بأس فإني قد أحسن إلى كثيرين بفضيحة هذا الرجل.
وكان لوسيان قد اصفر وجهه، ولكنه كان ينظر إلى المركيز بسكينة فقال له: من هذا الذي تريد فضيحته أيها المركيز؟ - هو رجل ينتحل اسما لا حق له بانتحاله. - يوجد كثير من الناس على هذه الشاكلة؟ - نعم، ولكن هذا الرجل غني لا يستطيع أن يظهر مورد ثروته وأظنه ابن مومس، إلا إذا استطاع أن يبرهن عكس ما أقول.
فوقف لوسيان عند هذا القول، ولكنه لم يجب بشيء غير أن وقفته كانت هائلة، وبات جميع الذين سمعوا كلمات المركيز الأخيرة يتوقعون حدوث أمر خطير بين الاثنين.
وساد السكون بضع ثوان حتى أوشكت أن تسمع الأنفاس، إلى أن عاد المركيز إلى الكلام فقال: إني لا أتهم أحدا إلا وأنا مستعد لإعطاء من أتهمه حق الدفاع.
فقال لوسيان: من هو الذي تتهمه؟
فأجابه المركيز ببرود: هو أنت.
فوقعت هذه الكلمات من صدر لوسيان وقوع الشرارة في لغم بارود، فجحظت عيناه وارتخى صوته، وقال: أيها المركيز، إني سأقتلك غدا، وإن كان دمك لا يكفيني. - هذا حق. - نعم، ولكنه أحب قبل ذلك أن تكشف النقاب عما قلته. - سأفعل ما تريد، فاعلم أنك لا تدعى لوسيان دي هاس، بل لوسيان فقط. - وبعد ذلك؟ - ليس لك غير هذا الاسم. - وبعد ذلك؟ - إنك لقيط ، لا أب لك تعرفه ويعرفه الناس. - إنك لا تعرف شيئا من ذلك مثلي. - كلا، بل أعرف أنك ابن فتاة من بنات الهوى. - كفى!
ثم هجم عليه وصفعه على وجهه، والتفت إلى الحضور فقال: إن هذا الرجل كان أمس من أصحابي ولم أسئ إليه مرة في حياتي، ولكن هذه الفضيحة التي يتهمني بها لا تغسل إلا بالدماء، على أني عشت بينكم زمنا طويلا؛ فهل يذكر واحد منكم أني أسأت إليه أقل إساءة؟
فأجابه بعض الحاضرين: كلا.
وقال صديقه بول: إني أعدك من أشرف رجال النبل، وقد أهنت، فأنا أكون شاهدا لك في المبارزة.
ثم التفت إلى الحاضرين قائلا: من منكم أيها السادة يريد أن يكون معي الشاهد الثاني؟
فحدث عند ذلك اضطراب عظيم؛ إذ لم يتقدم أحد للقبول.
فأوشك لوسيان أن يجن من يأسه، وغطى وجهه بيديه وهو يقول: أماه، أين أنت؟ إني لا أجد بين هؤلاء الناس من يريد أن يكون شاهدي للانتقام لك؟
وعند ذلك دخل رجل في الأربعين من عمره، وعليه مظاهر الكآبة، فاخترق القاعة ووقف بين الجمهور، فأقبل كثيرون للسلام عليه، وكانوا يدعونه الماجور أفاتار.
أما الماجور أفاتار (أي روكامبول)؛ فإنه رأى علائم الاضطراب بادية عليهم فسألهم عما هم فيه، فأخبره بول بجميع ما اتفق، فتقدم روكامبول من لوسيان وقال له: أنا شاهدك الثاني يا سيدي.
فصافحه لوسيان شاكرا ممتنا.
أما المركيز فإنه قال للوسيان: إن الرجل إذا صفع لا يستطيع أن ينام قبل أن ينتقم، وهذا القمر يسطع نوره في السماء فيجعل الليل نهارا، فما تقول في المبارزة الآن؟ - إني طوع لك. - إن الحق حقي في اقتراح السلاح، وأنا أقترح القتال بالسيف، فلا نرجع حتى يقتل أحدنا الآخر. - هو ما تقول، فليكن ما تريد.
وبعد ربع ساعة كان المركيز وشاهداه ولوسيان يسيرون في المركبات إلى الغابات.
فقال روكامبول للوسيان: إني لا أعلم إلى الآن سبب المبارزة، فهل لك أن تذكر لي السبب؟ - إن المركيز أهان أمي.
فاقتصر روكامبول على هذا السؤال، كما تقتضيه آداب اللياقة، وقال : فهمت.
وسارت بهم المركبات حتى وصلوا إلى ساحة القتال، فاقترع الخصمان على السيفين ووقفا في موقف المبارزة، إلى أن أشار إليهما روكامبول بالمبارزة، فأطبق كل منهما على الآخر وكلاهما باسل شجاع.
ومرت بهما دقيقتان لم يكن يسمع في خلالهما غير صوت قرع السيفين، ثم بدأ لوسيان بالحديث قائلا: إن واحدا منا سيقتل قريبا يا حضرة المركيز، أفتأبى علي في مثل هذه الساعة أن تخبرني عن السبب الذي دعاك إلى إهانتي وقتالي؟ - إن جوزفين وعدتني بحبها إذا قتلتك.
ثم حمل عليه بسيفه حملة منكرة وطعنه بصدره طعنة نجلاء، فاخترق السيف صدر لوسيان، لكنه لم يقع ولم يسقط السيف من يده.
وبينما المركيز يتأهب للدفاع والوقوف موقف الحذر انقض عليه لوسيان وهو يقول: إن جوزفين لن تفي بوعدها.
ثم طعنه بسيفه طعنة صائبة، فاخترق حسامه قلب ذلك المركيز وسقط على الأرض قتيلا، وعند ذلك تلاشت قوى لوسيان، وجعلت الدماء تتدفق من صدره.
11
ولنعد الآن إلى روكامبول؛ لنروي للقراء كيف اتفق وجوده في نادي اسبرج حين كان لوسيان محتاجا إلى شاهد، ولا بد لنا لذلك من العودة إلى قصر روشربين؛ حيث دخل إليه روكامبول بصفة طبيب.
وكان الخادم دخل به إلى الغرفة التي كان فيها بب، فكان ملقى على نفس السرير الذي كانت نائمة فيه ميلادي، وهو بملابس الضباط الإنكليز والقيود والقناع ملقاة على الأرض.
فدهش الخدم؛ لأنهم لم يروا من قبل بب مرتديا بهذه الملابس، خلافا لروكامبول؛ فإنه ذكر حكاية فاندا، فعلم لأول وهلة أن هذا الشخص يعرف حكاية جيبسي، ويريد إرجاع المال إليها ولا بد له من الوقوف على أسراره، وإتمام مشروعه.
ولم يكن روكامبول كاذبا في قوله: إنه من الأطباء؛ فقد تعلم من أستاذه القديم أندريا، ومما جرى له من الحوادث في أيام غروره، أكثر أنواع الجراحة، ففحص الجريح وعرف موضع الرصاصة، فقال له الخادم: أيموت؟ - لا أعلم، اذهب وأحضر لي ماء باردا وعصابات.
فامتثل الخادم، وغسل روكامبول الجرح، ثم تحايل على الرصاصة فأخرجها، ورأى أن الجريح قد اتقدت عيناه ببارق يشف عن الأمل بالحياة ورغبة في الانتقام، فرجا خيرا، وقال للخدم الثلاثة الذين كانوا مجتمعين في تلك الغرفة: يجب أن أبقى وحدي هنيهة مع الجريح.
فخرج الثلاثة وأقفل روكامبول الباب في أثرهم، ثم عاد إلى الجريح فنظر إليه بب نظرة يتخللها الرجاء، وقال: أتراني أموت؟ - إن جرحك خطر ولكنه غير مميت فيما أراه، وفي كل حال، إن الخطر غير قريب.
وقد عرف روكامبول أنه يجب السرعة؛ إذ قدر أن بب لا يعيش أكثر من ساعتين، فقال له باللغة الإنكليزية: إني آت إليك أحمل أخبارا من جيبسي النورية.
فذعر بب عند سماعه اسم جيبسي، وقال: ماذا تقول؟ جيبسي؟! - نعم، ابنة أخت مس ألن.
فزاد ذهول بب وقال: كيف تعرف هذه الأمور؟! ومن أنت؟! - إني رجل مثلك يريد إرجاع الأموال المختلسة إلى أصحابها. - إذن أنت تعرف جيبسي؟ - دون شك؛ لأني أنقذتها منذ أسبوعين من أيدي الخناقين.
فاصفر وجه بب وقال: لا تذكر لي شيئا عن هؤلاء الناس.
ثم ظهرت عليه مظاهر التردد كأنما داخله الشك بصدق روكامبول، فقال له: إني لا أصدق ما تقول.
فقال له روكامبول بلهجة الكآبة: لماذا لا تصدقني؟ - لأن ميلادي أرسلتك إلي؛ كي تعلم كل شيء، لكنها لن تعلم شيئا.
فأخذ روكامبول يده بين يديه وقال له بلهجة تشف عن الصدق: إذن ألا تريد إتمام مشروعك؟
فهز بب رأسه قائلا: إن ميلادي وشركاءها قادرون ولا سيما فرانز القاتل السفاك الذي ينتحل لنفسه اسم الماجور هوف.
فعلق هذا الاسم بذهن روكامبول وقال له: أتعتقد إذن أني من أتباع ميلادي وأحد شركائها في الجرائم؟ - نعم. - وإذا برهنت لك عكس ما تعتقد، أتثق بي؟ - دون شك، لكني أريد البرهان. - إذن اسمع.
ثم حكى له ما اتفق لفاندا في قصر روشربين، وكيف أنه مثل أمامها دور خيال، وهو يعتقد أنه يخاطب ميلادي، فأيقن بب من صدق روكامبول.
لكن بقي له شيء من الشك في مقاصده، فسأله: لماذا يهمك أمر جيبسي؟ ولماذا تريد أن تخدمها هذه الخدمة؟
فرأى روكامبول أنه لا بد له من الكلام ، فقال له: ذلك لأني أحب جيبسي حبا صادقا، ومن أجل ذلك أنقذتها من أيدي الخناقين، بعد أن كادوا يحرقونها.
فزال عند ذلك كل أثر للشك من نفس بب، وقال له: لقد صدقتك فيما تروي، ولكن أتحسب نفسك قادرا على مقاومة ميلادي؟ - إني إذا وقفت على حقيقة أمرها عبثت بها كما أشاء وأرجعت الأموال إلى أصحابها. - أتقسم لي أنك ترجع المال إلى جيبسي؟ - أقسم لك بالله العلي على صدق ما أقول.
فتنهد بب وقال له: إني لا أستطيع الكلام؛ لضعفي، ولكني كتبت جميع أسرار مس ألن. - أين وضعت ما كتبته؟ - في غرفتي وهي في الدور الأول ونمرتها عشرة، وقد خبأت ما كتبته تحت أول بلاطة بعد العتبة.
فدق روكامبول عند ذلك الجرس فأسرع إليه الخادم، فقال له: اذهب بي إلى الغرفة التي يبيت فيها المسيو بب.
فنظر الخادم إلى بب، فأشار إليه إشارة المصادقة، فمشى وتبعه روكامبول.
فلما وصل إلى غرفة بب جعل روكامبول يفتكر بطريقة يبعد بها الخادم؛ كي لا يرى ماذا يصنع فقال له: ماذا تدعى؟ - جاك. - أأنت من هذه القرية؟ - كلا، بل أنا من ماينس. - كم بقي لك في خدمة ميلادي؟ - عامان. - إنك ستصبح من غير خدمة.
فذعر الخادم وقال: رباه كيف ذلك؟! - ذلك أن بب سيموت قريبا، وميلادي لن تعود إلى هذا القصر، وستقفل الحكومة أبوابه وتختمها، ولكن لا تيأس فسأتخذك لخدمتي وتكون معي في باريس وأضاعف راتبك، على شرط إذا لقينا ميلادي في باريس ترشدني إليها.
فسر الخادم سرورا عظيما؛ لأنه كان يتمنى من دهر طويل أن يرى باريس، فقال له: إن ذلك سهل ميسور يا سيدي، وسأكون في خدمتك من المخلصين الصادقين.
فأعطاه روكامبول مائة فرنك وأرشده إلى المكان الذي يقيم فيه بباريس، ثم سأله: هل أبلغتم البوليس عن الحادثة التي جرت؟ - كلا يا سيدي. - إذن أسرع إلى إبلاغه، قبل أن يموت بب، فتغدو أنت ورفاقك من المتهمين.
فلما خلا المكان بروكامبول أخرج خنجره ودنا من البلاطة التي أرشده إليها بب، فاقتلعها ورأى تحتها علبة صغيرة من الحديد الرفيع، فأخذها وأرجع البلاطة إلى ما كانت عليه ثم عاد إلى بب فأخبره بما فعل وأراه العلبة، فقال له بصوت خافت: نعم هذه هي وهذا مفتاحها.
ثم أشار إلى مفتاح صغير كان معلقا في عنقه، فأخذه روكامبول ووضعه مع العلبة في جيبه، وخرج فسار توا إلى محطة السكة الحديدية.
وبعد ساعة أقبل رجال البوليس، وكان لا يزال في بب بقية رمق فلم يستطع أن يظهر لهم الجريمة ولكنه تمكن من نفي التهمة عن الخدم.
وبعد هنيهة أسلم الروح فحملوه إلى المستشفى وأقفلوا القصر فوضعوا الأختام على أبوابه، وتفرق الخدم فذهب كل إلى قريته ما خلا جاك؛ فإنه جعل يتأهب للسفر إلى باريس.
أما روكامبول فإنه صبر في المحطة إلى أن أتى القطار، فدخل إليه ولما سار به فتح تلك العلبة، فوجد فيها دفترا مطويا يظهر أنه متقادم؛ لاصفرار أوراقه، ورأى في أسفل العلبة مدالية عليها رسم صبية بالغة غاية في الجمال، وقد حفر تحتها هذه الكلمات: «مس ألن في العاشرة من عمرها»، ثم فتح الورقة الأولى من الدفتر، فوجد عنوانه: «تاريخ قاتلة أبيها».
12
وفتح الدفتر وجعل يقرأ والقطار سائر فيه إلى باريس ما يأتي:
في ليلة عيد الميلاد سنة 1835، وهو العيد الذي يجله الإنكليز كل الإجلال، كان الضباب كثيفا حتى لم يعد يستطيع المارة الاهتداء إلى سبيلهم، واضطر البوليس أن يحمل المشاعل بدلا من العصي لكثافة الظلام.
ولم يكن يوجد أحد في الشوارع ما خلا فتاة في ريعان الصبا والجمال كانت تسير مسرعة على غير هدى، وهي باسطة يديها إلى الأمام كالعميان؛ حذرا من أن تصطدم بشيء؛ لأنها لم تكن ترى غير الظلام الكثيف.
وفيما هي تسير رأت خمارة مفتوحة فوقفت عند بابها وسألت صاحبها أن يهديها إلى الشارع الذي تسير فيه، فأجابها صاحب الخمارة، وهو يتأمل محاسنها، وذكر لها اسم الشارع، فشكرته وانصرفت.
ولكنها لم تسر خطوتين حتى خرج لها رجل كان في الخمارة ودنا منها قائلا: إني خبير بشوارع العاصمة يا سيدتي ، فقولي لي أين تقيمين أقودك إلى منزلك؟
فنظرت إليه الفتاة وارتعشت لما رأته من ملامحه الجاذبة؛ فقد كان في الخامسة والثلاثين من عمره أسمر اللون أسود العينين، فوق الربعة، كان لابسا ملابس البحارة، غير أن نعومة يديه وأسلوب حديثه كانا يدلان على أنه ليس من هذه الطائفة، ولعله أصيب بما أصيبت به الفتاة من الارتعاش حين رآها فأراد أن يوصلها إلى منزلها.
غير أن الفتاة حاولت الامتناع، فما أمهلها وتأبط ذراعها وقال لها: هلمي بنا فإني سأوصلك إلى حيث تشاءين دون أن يكون عليك أقل خطر.
فجعلت الفتاة تضطرب وترتجف من الغريب، وإنها على اضطرابها وارتعاشها أنست به، ولم تعد تبدي مقاومة، فسألها: أين تقيمين؟ - في بيكاديللي. - إذن تعالي معي من هذا الشارع، ولا تخشي مكروها؛ لأني من الأصدقاء. - كيف تكون من الأصدقاء وأنت لا تعرفني؟ - هو ما تقولين، غير أني حين رأيتك واقفة بباب الخمارة هاجت بي عاطفة لا تغلب، وشعرت أني أكون عبدا لك لأول أمر تصدرينه إلي، فثقي، إني لك من المخلصين.
فتنهدت وقالت: ليس لي أصدقاء، وما أنا إلا فتاة شقية حرمت من إرثها. - أنت حرمت من إرثك؟! وكيف تحرمين منه ولك مثل هذا الجمال؟ بالله يا سيدتي، قولي لي عن اسمك؛ لأن ملامحك تدل على أنك من الأسرات النبيلة. - إني أدعى مس ألن. - وأنا من تحسبينني؟ أتظنين أني بحار كما تدل عليه ملابسي؟ كلا يا سيدتي، المسي يدي تعلمي أني لست من البحارة.
فارتعشت مس ألن حين شعرت بنعومة يده، وعاد الرجل إلى الحديث فقال: سأخبرك في غير هذا المكان من أنا ولكني أخبرك الآن أني أستطيع أن أخدمك أجل خدمة. - وأنا أصدق ما تقول. - إذن أخبريني عن السبب الذي حرمت من أجله. - ذلك؛ لأن لي أختا أكبر مني ولأن أبي لا يحبني؛ لاعتقاده أن أمي ولدتني بالإثم، فحرمني من إرثه وكتب جميع ماله لأختي الكبيرة. - أرضيت بهذا الحرمان؟ - إني رضيت به؛ لأني لا أستطيع منعه. - وإن أتاك صديق من السماء؟
فثارت في فؤاد الفتاة كوامن الحقد، وقالت : ليكن هذا الصديق من جهنم أو من السماء، فإني أرضى به صديقا إذا كان يساعدني فيما أريد. - مس ألن، إني أحبك وأحب أن تكوني غنية قادرة، وسأسحق أعداءك تحت قدميك، فقولي لي ماذا يدعى أبوك؟! - يدعى الكومندور بروكنس. - حسنا، سترد إليك أخباري، والآن إننا وصلنا إلى بيكاديللي، فنادي البوليس الواقف أمامنا، يرشدك إلى منزلك، أما أنا فسترينني قريبا.
ثم عانقها طويلا وقبلها في ثغرها، فصاحت الفتاة صيحة اضطراب، واحتجب الرجل عنها في جنح الظلام.
ويظهر أن بب لم يعلم ما حدث بعد هذا اللقاء السري؛ لأنه لم يذكر شيئا من ذلك في دفتره.
لكنه قال فيه: إنه بعد ذلك بعدة أشهر كانت مس ألن مقيمة في قصر قديم في إيكوسيا مع أبيها.
وكان أبوها عجوزا، ترمل ثم تزوج مرة ثانية وهو في الخمسين من عمره بامرأة ماتت على أثر ولادتها مس ألن ابنته الثانية، وكان له ابنة من امرأته الأولى تدعى مس أنا، فكان يحب الكبرى بقدر ما كان يكره الصغرى، حتى كان يظن بعضهم أن السبب في كرهه لابنته الثانية ظنه أنها ثمرة حب غير شرعي.
وكانت أختها تقيم في أجمل قصر من قصور أبيها في لندرا، خلافا لمس ألن؛ لأن أباها كان يقيم معظم شهور السنة في إيكوسيا فيصحب معه ابنته مس ألن؛ كي لا تتمتع بملاهي العاصمة.
ولم يكن في منزله كثير من الخدم إذ لم يكن فيه غير وكيله بب مع امرأته وخادم غرفة يدعى فرانز أصله من الألمانيين وثلاثة من صغار الخدم لم يكونوا يخرجون من المطبخ.
وكان يظهر من فرانز أنه شديد الإخلاص لمس ألن على حداثة عهده في خدمة هذا المنزل، فكان يخرج كل يوم في وقت معين إلى البوسطة ويعود برسالة إلى مس ألن فتقرأها وتبكي بكاء شديدا.
وقد اتفق ليلة أن أباها كان جالسا في غرفته وكانت مس ألن جالسة في القاعة وهي تتوجع، وقد حاولت أن تبرح هذه القاعة فلم تستطع وصاحت صيحة عظيمة، فوصلت صيحتها إلى مسمع أبيها، فجاءها وقال لها بلهجة تدل على الاستياء: ما هذا الصياح؟ - إني مصابة بصداع شديد.
ثم بدرت منها صيحة أخرى فنادى أبوها فرانز؛ كي يعتني بها، فأقبل فرانز ونظر إليها نظرة سرية، فامتنعت عن الصياح وتكلفت السكينة، فقال لها أبوها: إن أختك ستتزوج بعد شهر، فاجتهدي أن تنالي الشفاء في هذه المدة واذهبي الآن إلى غرفتك ونامي؛ فقد حان وقت الرقاد.
ثم تركها وانصرف.
ولم يكد يذهب حتى عادت إلى التوجع والصياح، فأسرع فرانز إليها قائلا: عضي منديلك واخفتي صوتك وإلا كنا من الهالكين. - أتظن أن الوقت قد دنا؟ - نعم. - ما هذا المصاب؟ وهو، إنه لم يرجع بعد. - إنه سيحضر بعد ثلاثة أيام.
وعند ذلك عادت إلى التوجع والصياح فوضعت منديلها في فمها وعضته؛ إخفاء لصياحها، فحملها فرانز وخرج بها إلى غرفة في الدور الأسفل؛ كي لا يصل صوتها إلى مسامع أبيها.
وكان أبوها يكرهها كرها شديدا كما تقدم، ولكنه يندم في بعض الأحيان إذا بالغ في الإساءة إليها ويشفق عليها، فلما دخل إلى غرفته بعد أن غادر ابنته وهي مصابة بصداع أليم - كما كانت تدعي - خلع ملابسه وصعد إلى سريره فجعل يفكر بابنته ويندم لقسوته؛ بحيث أرق ولم يستطع الرقاد.
وفيما هو آرق يتأمل، سمع أصواتا متتابعة كانت تصل إليه شبه الأنين! فقام ولبس رداء طويلا، وأخذ بيده مصباحا وذهب إلى غرفة ابنته فلم يجدها فيها، فأصغى، فسمع أن الصياح صادر من الدور الأسفل.
فاضطرب ونزل في السلم فانتهى إلى دهليز، فمشى فيه إلى الجهة التي يصدر منها الصوت، حتى انتهى إلى غرفة رأى نورا فيها، ففتح بابها ودخل فرأى ابنته في سريرها، وفرانز واقفا أمامها، وهي تصرخ وتتوجع من آلام الولادة، فصاح صيحة هائلة وتراجع منصعقا وهو يقول: تبا لك من شقية!
ولما وصل روكامبول بقراءته إلى هذا الحد، كان القطار قد وقف في محطة باريس، فأعاد الدفتر إلى العلبة، وأعاد العلبة إلى جيبه، وخرج من القطار وركب مركبة وذهب إلى المنزل الذي كان استأجره باسم الماجور أفاتار.
وكانت الساعة تدق مؤذنة بانتصاف الليل، فلم ينم؛ بل إنه وضع العلبة في موضع أمين، وقال في نفسه: يظهر من رواية بب أن فرانز والماجور هوف واحد، وهذا الماجور عضو من أعضاء نادي أسبرج، فلأذهب إليه.
13
وقد عرف القراء ما حدث لروكامبول حين وصوله إلى هذا النادي؛ فإنه بحث عن الماجور هوف ولم يجده فسمع آخر خصام لوسيان مع المركيز ورضي أن يكون شاهده.
وقد تقدم لنا الكلام أن المركيز قتل في ساحة المبارزة، وأن لوسيان أصيب بجرح في صدره، فحمل شاهدا المركيز ذلك القتيل إلى أهله وأخذ روكامبول وبول الجريح إلى بيت صديقه بول، وبعد هنيهة أقبل الطبيب فغسل الجرح وضمده وقرر أنه غير خطر، ولكن الجريح لا يستطيع الخروج من البيت قبل شهر.
وكان روكامبول قد شعر بميل وانعطاف إلى لوسيان وقد وقف على بعض حكايته من صديقه، فأشفق عليه إشفاقا شديدا حين علم أنه كان عازما على الاقتران بعد أسبوع.
وكان بول حائرا في أمره، لا يعلم كيف يخبر خطيبة لوسيان بهذا النبأ المحزن، فقال له روكامبول: أنا أتولى عنك هذه المهمة، فأرشدني إلى منزلها.
فدله على البيت الذي تقيم فيه.
وأقام روكامبول أمام سرير الجريح إلى الصباح، ولوسيان نائم نوما هادئا، ولما فتح عينيه وجد روكامبول واقفا أمام سريره، فشكره بابتسامة؛ لأن الطبيب منعه عن الكلام، فخاطبه روكامبول قائلا: إنك نمت نوما هادئا وقد وثقت أن جرحك لا يحمل على الخوف فأنا ذاهب الآن، وسأعود في المساء لعيادتك.
ثم تركه تاركا عنده صديقه بول، وذهب وهو يقول في نفسه: لقد اشتركت في هذه الحادثة فلأندفع بها إلى النهاية، وسأهتم بعد الفراغ منها بأمور جيبسي.
ولذلك لم يعد إلى منزله بل سار مشيا على الأقدام في الشارع المؤدي إلى بيت خطيبة لوسيان، فكان كلما سار بضع خطوات يقف مفكرا ويخاطب نفسه: إني أرى شبها غريبا بين لوسيان وبين صورة ممثلة في ذهني لا أذكر صاحبها، فمن عسى أن يكون شبيهه؟
ومشى في شارع الجزائر ومنه إلى شارع سانت أونوريه ، ثم انتهى إلى شارع سوردبير؛ حيث تقيم ماري، وجعل يبحث عن نمرة منزلها، ولكنه لم يدخل إلى هذا الشارع حتى انذهل فجأة؛ لأنه رأى رجلا دخل إلى الشارع أيضا وجعل ينظر مثله إلى نمر منازله فكان سبب انذهاله، فعرف أن هذا الشخص كان الماجور هوف الذي أتى عند منتصف الليل يبحث عنه في نادي أسبرج، وقد كان رآه مرة أثناء حوادث كارل مورليكس فخاطب نفسه: ما شأن هذا الشخص في هذا الشارع؟! وماذا يبغي من المجيء إليه في هذا الصباح؟!
أما هوف فإنه مر دون أن ينتبه إلى روكامبول، وكان يحمل علبة بيده وعليه دلائل الاهتمام.
وبقي يبحث عن النمر حتى اهتدى إلى نمرة 17، فوقف وزادت دهشة روكامبول؛ لأنه هو أيضا كان يبحث عن تلك النمرة؛ وهي نمرة البيت الذي تقيم فيه خطيبة لوسيان.
فتردد الماجور هنيهة، ثم دخل وأسرع روكامبول في أثره ووقف وراء الباب فسمعه يخاطب البواب: أهذا البيت الذي تقيم فيه المدموازيل ماري برتود مع أبيها؟ - نعم. - أهي في منزلها الآن؟ - نعم، ولكنها نائمة. - إذن أعطها هذه العلبة.
ثم سأله: في أية ساعة تخرج الفتاة من منزلها؟ - إنها تخرج في صباح كل يوم؛ لتوصل شغلها إلى العامل، ولكنها بعد أن خطبت لم تعد تبرح البيت في الصباح. - ألا تذهب إلى النزهة في التوبلري مع أبيها كل يوم بعد الظهر؟ - نعم، حين يكون الطقس صاحيا. - حسنا، لا تقل لها: إني سألت عنها.
ثم نفحه بدينار فحياه البواب إلى الأرض.
وكان روكامبول قد سمع كل هذا الحديث، فخاطب نفسه: إذا صدق حديث بب؛ أية علاقة لهذا الرجل مع خطيبة لوسيان؟
ثم سمع أن الماجور قد أنهى حديثه مع البواب، فأسرع إلى الاختباء وراء الباب، وعند ذلك خرج الماجور هوف وسار في طريقه دون أن يرى روكامبول.
فخاطب روكامبول نفسه: سأخبر ماري بجرح خطيبها بعد عودتي؛ لأن المهم الآن أن أقتفي أثر هذا الرجل.
فمشى الماجور وروكامبول في أثره حتى رأى مركبة فأوقفها وقال لسائقها: سر بي إلى الجران أوتيل .
فسمعه روكامبول وكان هذا كل ما يريد أن يعرفه؛ لأنه إذا لم يكن مقيما في هذا الفندق فيكون ذاهبا ليرى شخصا فيه، وقد يمكن أن يكون هذا الشخص ميلادي؛ لأن فرانز كان شريكا لها في قتل بب في قصر روشربين، وما دام موجودا في باريس، فلا بد أن تكون هي أيضا فيها.
وجعل روكامبول يمعن في التفكير؛ عله يهتدي إلى علاقة فرانز بخطيبة لوسيان فلم يهتد إلى مراد، وفيما هو يجهد فكره خطر له خاطر ارتعش له؛ إذ ذكر ما قرأه في دفتر بب؛ وهو أن مس ألن ولدت غلاما ففكر في نفسه: ألا يمكن أن يكون لوسيان ابن ميلادي؟
وكأنما هذا الخاطر قد أزعجه فجعل العرق ينصب من جبينه وهو يفتكر في نفسه: أيكون مثل هذا الفتى الباسل ابنا لتلك النمرة الضارية التي تقتل أباها وأختها؛ كي تنهب نقود تلك المسكينة جيبسي؟ فشبه عند ذلك ميلادي بذلك النذل الفيكونت كارل دي مورليكس، وشبه ابنها لوسيان بابن أخيه أجينور الذي تزوج أنطوانيت كما تقدم في الأجزاء السابقة.
وخطر له أن يدخل إلى الجران أوتيل في أثر الماجور هوف لكنه فضل الرجوع إلى منزله؛ لأنه ذكر أن لوسيان يشبه شبها غريبا ذلك الرسم المنقوش على المدالية التي وجدها مع دفتر بب في العلبة، وقد قرأ تحت الرسم مس ألن في السادسة عشرة من عمرها ... فأحب أن يعيد النظر إلى هذا الرسم؛ ليزيل من نفسه كل أثر للريب، ولما عاد إلى منزله وجد ميلون ينتظره مع الخادم جاك الذي كان في خدمة ميلادي في قصر روشربين فدنا منه ميلون وقال له: إن فاندا قد حضرت مدة غيابك.
فاضطرب وسأله: متى حضرت؟ - منذ عشر دقائق، وقالت إنها لا تعود اليوم ولكنها ترجو أن تحضر في نصف الليل مغتنمة فرصة ذهاب السير جمس إلى النادي وقد تركت لك هذه الرسالة، ففضها روكامبول فإذا بها ما يأتي:
يا رئيسي المعبود
إن حب السير جمس بدأ يقلقني، ولكنه لم يتجاوز بعد حد الاحترام ، وهو لا يزال متكتما ينكر معرفة جيبسي أتم الإنكار، ولكن لا بد لي من إغوائه وحمله على الإفشاء.
وقد ورد إليه أمس كتاب عليه كثير من الطوابع الغريبة، ورده من الهند إلى لندرا، فأرسله إليه عماله فيها، فقرأه وأسرع إلى تخبئته في محفظته وهو حريص عليها، فلا يضعها إلا في جيبه.
وأنت أيها الرئيس ماذا علمت؟ إلى اللقاء في منتصف الليل.
عبدتك فاندا
أحرق روكامبول هذه الرسالة بعد الفراغ من تلاوتها، ثم ذهب إلى خزانة فأخرج منها العلبة التي كان فيها دفتر بب وأعاد النظر إلى المدالية، فصاح صيحة دهش؛ لأنه رأى الشبه تاما بين لوسيان وميلادي، فعلم عند ذلك السبب في سؤال الماجور هوف عن موعد خروج خطيبة لوسيان للنزهة وأن ميلادي تود أن ترى خطيبة ابنها.
وعند ذلك نادى روكامبول ميلون وقال له: ألبس جاك ثيابا يتنكر بها ما أمكن، ثم عد به إلي فإني في انتظارك.
فخرج ميلون وعاد روكامبول إلى دفتر بب فقرأ فيه ما يأتي:
14
بعد أن ولدت مس ألن غلاما بثمانية أيام، قدم أبوها إلى غرفتها وهو مقطب الجبين، غير أنه كان يظهر من ملامحه أنه لم يكن يريد أن يندفع بالحدة ويخرج عن حد الاعتدال، فدخل إلى غرفتها وهي لا تزال في سريرها وطفلها في مهد بجانبها، فدنا منها وقال لها بصوت يتهدج: مس ألن، إني ما أتيت إليك لأوبخك؛ فإن سلوكك لم يمسني إلا لأنك تلقبين باسمي ولا أريد أن يتلطخ اسمي بالعار؛ وقد ارتكبت ذلة عظيمة، ولكني لا أبحث عن شريكك بالجريمة ولا أحاول الجمع بينكما بزواج يغسل هذا العار، فإن زواجك لم يخطر لي في بال؛ ولذلك جئت أخيرك بين أمرين؛ وهما: إما أن تدخلي إلى الدير فتقضين العمر بالتوبة والاستغفار، أو يذهب بك وكيلي بب إلى فرنسا.
فإذا ارتضيت بالشرط الأول تعهدت بتربية غلامك كما يستحق أن يتربى غلام لا يعرف أبوه، وإذا اخترت الشرط الثاني؛ وجب عليك تغيير اسمك فيذهب بك بب إلى المدينة التي تختارينها في فرنسا ، فيعطيك عند وصولك مائة ألف فرنك تستطيعين بها تربية غلامك كما تشائين.
فمدت مس ألن يدها متوسلة إلى أبيها أن يصفح عنها، غير أنه صدها بعنف وقال: إن الطبيب الذي يتولى العناية بك أقسم لي بشرفه وعرض امرأته على كتمان سرك وأكد لي أنك تستطيعين السفر بعد 4 أيام فأنا أمهلك ثمانية أيام لا أزيدها ساعة؛ فإن أختك ستحضر قريبا مع خطيبها، ولا أريد أن يتدنس بيتي بوجودك فيه أكثر من هذا الحد.
وعادت إلى التوسل ونادته بأبيها رجاء استعطافه، فقال لها: لا تعودي إلى ذكر اسمي أيتها الشقية؛ فإني لست أباك.
ثم خرج وهو يهدر ويزمجر.
وبعد خروجه دخل فرانز فوجدها مندفعة في البكاء وهي تقبل طفلها وتقول: إني أبغض هذا الرجل الذي ينكر أني فتاته وأبغض تلك الأخت التي يضحونني من أجلها، وأبغض ...
وقبل أن تتم كلامها سمعت صوتا يقول لها: لا تبغضي أكثر من هؤلاء يا مس ألن.
فالتفتت وصاحت صيحة فرح لا توصف؛ لأنها رأت أن العناية قد لاحظتها عيونها وبدلت خوفها بأمان وأرسلت لها ذلك الرجل الذي لقيته تلك الليلة الهائلة.
أما الرجل فإنه أسرع إليها وعانقها عناقا كثيرا، ثم أخذ الولد من مهده فجعل يقبله ويقول: ولدي!
وقد انقطع بعد ذلك بكاء مس ألن وجعلت تنظر إلى زوجها نظرات الإعجاب ثم قالت له: ألعلك أتيت لإنقاذي من هذا الرجل الذي ينكر أني فتاته؟ - جئت أنتقم لك.
فاتقدت عيناها بنار الحقد وقالت: نعم، انتقم لي كيف شئت وعلى أفظع شكل فلا تروق لي حياة بغير الانتقام.
فأشار هذا الرجل عند ذلك إشارة إلى فرانز كي يخرج وقال له: احذر أن يعود أبوها وإذا عاد ...
فابتسم فرانز وقد برق الخنجر في يده وقال: لا تخف فإنه لا يصل إليكم حيا ... ثم خرج.
وجلس الرجل فوق سرير مس ألن وأخذ يدها بين يديه وقال: أتريدين الانتقام؟ - لا أريد سواه. - أتكرهين أباك؟ - كما أكره الموت. - وأختك مس أنا؟ - إن كرهي لها لا يوصف؛ فهي علة مصائبي. - ولكنك لا تعلمين إلى الآن من أنا؟ - أعرف أنك جميل وقوي وأعرف أني أرتعش لنظراتك وأهتز لنبرات صوتك، وأني أحبك وأكون أسعد النساء إذا أتيح لي أن أعيش العمر عبدة لك! - ولكني لست إنكليزيا. - كن كيف شئت؛ فإني كرهت هذه البلاد التي يؤذن فيها الشرع للأب أن يحرم ابنته. - ولست مسيحيا أيضا. - وماذا يهمني معتقدك فلك دينك ولي ديني. - ألعلك سمعت بتلك الجمعية الهائلة التي نشأت في غابات الهند ودعيت جمعية الخناقين. - نعم ... - إن هذه الجمعية قادرة على ما تشاء؛ فهي تسن الشرائع في الهند وتغرس الهول في نفوس الإنكليز فإذا شاءت عدلت، وإذا شاءت ظلمت. ثم إنها تنثر المخاوف والموت من حولها وهي مطمئنة آمنة.
فتنبهت مس ألن وقالت: ألعلك من أعضائها؟ - بل أنا رئيسها الأعظم الذي يدير حركاتها من الغابات في الهند وفي عواصم البلاد.
فأعجبت الصبية إعجابا شديدا وقالت: كنت أرى من عينيك أنك ما خلقت لتطيع بل لتطاع.
ثم طوقته بذراعيها وقالت له: مر يا سيدي ورئيسي بما تشاء أطعك طوع الإماء. - احذري يا مس ألن؛ فإنك إذا رضيت أن أنتقم لك وجبت عليك الطاعة المطلقة؟
فنظرت إليه نظرة جمعت بين الافتتان والإعجاب وقالت: سأطيعك طاعة لا حد لها. - ليكن إذن ما تريدين، واعلمي الآن أني أدعى علي رمجاه.
ولم يعلم أحد ما جرى بين رئيس الخناقين الأعظم وبين مس ألن، فإن بب نفسه لم يعلم؛ لأنه وضع كثيرا من النقط عند وصوله في حكايته إلى هذا الموضع. ففكر روكامبول هنيهة ثم قلب الصفحة وأتم القراءة ما يأتي:
بعد هذه الحادثة بأربع وعشرين ساعة كان والد مس ألن جالسا في غرفته وأمامه وكيله بب وهو يظهر له رغبته بسفر مس ألن في القريب العاجل؛ لقرب قدوم ابنته الصغرى، دون أن ينتبه إلى نظرات بب التي كانت تسفر عن الحقد الدفين، ثم سأله: أين امرأتك با بب؛ فإني لم أرها اليوم؟
فارتعش بب واتقدت عيناه ولكنه أسرع فكظم غيظه وقال: إنها سافرت يا حضرة الميلورد في هذا الصباح إلى أدمبرج ؛ كي ترث عما لها توفي منذ أيام ... - ولكنها ترجع قريبا، أليس كذلك؟
وثارت العواصف في فؤاد بب ونوى قتله منذ ذاك الحين ولكنه كظم غيظه وقال: إن في الباب يا سيدي الميلورد غريبا يريد مقابلتكم، وهو يقول إنه قادم من لندرا يحمل أنباء من ابنتكم مس أنا.
فاضطرب الشيخ وقال له: أسرع بإدخاله إلي.
ففتح بب الباب وأدخل ذلك الغريب وهو رجل في الخامسة والثلاثين من عمره، طويل القامة براق العينين، وقد كان الكومندور خدم في الهند وبحارها مدة طويلة فعرف من هيئة ذاك الرجل أنه هندي إنكليزي.
ولما دخل هذا الرجل خرج بب، فدنا منه الكومندور، وقال له: إني أتيت لمباحثتك في بعض الشئون. - أأنت قادم من قبل ابنتي؟ - نعم، ولا، سيدي الميلورد.
فانذهل وقال: كيف ذلك؟! - إنك أقمت يا سيدي مدة طويلة في الهند، وعرفت دون شك احترام بعض الهنود للإلهة كالي، وأريد بهؤلاء الهنود الذين يلقبونهم بالخناقين.
فظهرت على وجه الميلورد علائم الاشمئزاز وقال: نعم عرفت هؤلاء الأوغاد الأشقياء.
وكان هذا الرجل الهندي علي رمجاه نفسه زوج مس ألن، فلم يحفل باشمئزاز الشيخ وقال له: قد يكونون من الأشرار كما تدعيه، ولكنهم إذا صدر إليهم أمر من رؤسائهم ينفذونه لا محالة، وأنت تعلم يا حضرة الميلورد أن للإلهة كالي رغائب شتى، منها أنها تريد أن يضحى لها في كل عام بعض البنات الإنكليزيات؛ فتنقش على صدورهن الوشوم، ويقضى عليهن بالبتولية الدائمة.
فاضطرب الشيخ وقال له: إني أعرف كل الأمور، ولكني لا أعلم لماذا تقولها لي؟! - لأن الإلهة كالي قد افتكرت بك. - بي أنا؟! - نعم، فإن لك ابنتين: إحداهما تدعى مس أنا، والثانية مس ألن. - وهذه الإلهة قد ضحت مس ألن؟
فقال علي رمجاه: كلا يا سيدي، بل إنها ضحت أختها.
فانقلبت سحنة الشيخ واتقدت عيناه الغائرتان بأشعة الغضب، فانتهز الهندي وقال له: اخرج من هنا أيها الشقي.
فلم يتحرك علي من موضعه وقال له ببرود: إني أتيت لأبلغك أن مس أنا لا يحق لها الزواج؛ لأنها ضحية الإلهة كالي، وأن ثروتك يجب أن تعطى لابنتك مس ألن.
فنهض الشيخ من مكانه مغضبا وقال: خسئت أيها السافل؛ فإن ذلك لا يكون، ثم جعل يدق جرسا أمامه وينادي بب بصوت مضطرب.
ففتح الباب وبدلا من أن يدخل بب دخل فرانز.
وكان في يد فرانز حبل من تلك الحبال التي يستعملها الخناقون، فأشار له علي عند دخوله إشارة سرية، فأطلق الحبل من يده على الشيخ فالتف على عنقه ثم شد فسقط على الأرض وهو يكاد لا يعي من الذعر.
أما علي فإنه أسرع إلى المغسلة فوضع قليلا من الماء في كأس وأخرج من جيبه زجاجة فصب بعض نقط منها في الكأس فوق الماء، وجاء إلى الشيخ فركع فوق صدره وفتح له فمه، ثم صب فيه الماء الممزوج بنقط الزجاجة، فما وصل المزيج إلى جوفه حتى صاح صيحة منكرة وسقط صريعا لا يعي.
فنهض علي عنه، وأمر فرانز أن يجلسه على كرسيه فأجلسه عليه، فكانت هيئته تدل على أنه مات بالسكتة الدماغية.
وعند ذلك أخذ علي مفتاحا كان معلقا بسلسلة في عنق الشيخ، وفتح به صندوقا من الحديد كان الشيخ يضع فوقه فيه أوراقه الخطيرة، ففتش بين الأوراق حتى عثر بظرف مختوم بختم الكومندور.
وكان هذا الظرف يتضمن وصية الشيخ التي حرم بها مس ألن من الميراث ووهب جميع ثروته لبنته الكبرى، ففتحه علي وقرأ الوصية ثم أدناها من نور الشمعة فأحرقها وهو يضحك ويقول: أما وقد أحرقت الوصية؛ فإن الإرث يقسم بين الأختين وسيكون لنا مع الأخت الكبرى شأن.
وفي الليلة نفسها أرسلت مس ألن إلى أختها مس أنا هذا التلغراف الآتي:
أكاد أجن من الحزن ... إن والدنا توفي على كرسيه. احضري حالا لتشييع الجنازة.
أختك ألن
فقال روكامبول: لقد بدأت أن أفهم، ثم أتم تلاوة دفتر بب وقرأ ما يأتي: في صباح اليوم التالي أقبلت مس أنا مع خطيبها، فوجدت أختها مس ألن منهوكة القوى من الحزن وعيناها جاحظتان من كثرة البكاء، فكانت ساعة مؤثرة وقد تظاهرت مس ألن بالحزن الشديد حتى وهم الناس أنها كانت أشد حزنا من أختها.
وقد حكم جميع الأطباء أن الشيخ مات بالسكتة، وطلبت مس أنا تشريح جثة أبيها وتحنيطها، فاعترضتها مس ألن أنها سمعت أباها يقول مرات كثيرة: إنه يحب أن تبقى جثته على حالها بعد موته. فأذعنت أختها لها، وأخذوا يهتمون بدفنه وإعداد مشهد حافل.
وقد قرروا أن يكون الدفن في اليوم التالي، فلفوا الجثة بالأكفان ووضعوها في تابوت عظيم ووضعوا فوقه وسامات الكومندور، ونقلوه إلى أقرب كنيسة فوضعوه فيها إلى الصباح؛ حيث يحتفلون بتشييع الجنازة.
وقد عينوا كاهنا لحراسة الجثة والصلاة عليها في الليل، فأقام الكاهن يحرسها وفي يده كتاب صلاته، ثم شعر فجأة أن الكتاب سقط من يده فتراخت عيناه وأطبقتا فنام نوما عميقا.
وعند ذلك دخل إلى هذه الكنيسة رجلان وهما فرانز وبب يحملان مثالا من الشمع يمثل هيئة الكومندور أتم تمثيل، وألبساه نفس ملابسه الحمراء فوضعاه قرب التابوت، ثم فتحوا التابوت ونزعوا الأكفان وأخرجوا الجثة، فكفنا مثال الشمع بأكفانها ووضعاه في التابوت وأقفلاه كما كان.
ولما فرغا حملا الجثة فقال فرانز، يجب أن نسرع؛ فإن قلبه بدأ ينبض ونخشى أن يستفيق.
فقال بب: لنسرع إذن؛ إذ لا يجب أن يستفيق إلا في المكان المعد له، ثم حملاه وذهبا به إلى القصر في جنح الظلام.
وفي الصباح دفنوا مثال الشمع وهم يحسبون أنهم دفنوا الشيخ.
وكان علي رمجاه قد اكتشف بإرشاد مس ألن قبوا في ذلك القصر ينزل إليه بسلم يبلغ طولها 30 درجة تحت الأرض، فلما فتح الشيخ المسكين عينيه وجد نفسه في حالة تقشعر لها الأبدان؛ فإنه كان مقيد اليدين والرجلين بسلاسل من الحديد وفي وسطه سلسلة غليظة مشدودة إلى وتد في الجدار.
فحسب نفسه حالما لأول وهلة، إلى أن سمع صوت قيوده فلم يشكك أنه في يقظة، وجعل يصيح صياح القانطين فلا يجيبه غير الصدى.
وبعد ذلك ببضع ساعات فتح باب القبو ودخل فرانز يحمل إبريقا للماء وقطعة من الخبز، فقدمهما له وقال بلهجة المتهكم: هذا ما أرسلته إليك ابنتك المحبوبة مس ألن.
ولبث هذا الشيخ المنكود ستة أعوام في هذا القبو إلى أن أشفق عليه فرانز فخنقه. •••
أما ما جرى للأختين بعد دفن المثال؛ فهو أن مس أنا كانت تعلم أن أباها جعلها وريثته الوحيدة في وصيته، فبحثت بحثا طويلا عن الوصية فلم تجدها، فاقتسمت الأختان تلك الثروة الواسعة.
وبعد ستة أشهر؛ أي بعد انقضاء أيام الحداد، تزوجت مس أنا خطيبها، فلما صحت في اليوم التالي لعرسها وجدت صدرها موشوما بنقوش غريبة وعرفت أنها نقوش لخناقين فارتعشت؛ لأنها لم تعلم كيف تمكنوا من وشمها وهي نائمة.
وفي المساء وجد زوجها مخنوقا على قارعة الطريق؛ فإن الخناقين قتلوه؛ كي لا تلد امرأته البنين، فترملت في اليوم الثاني لزواجها، ولكنها أحست بعد بضعة أشهر أن جنينا يتحرك في أحشائها فولدت فتاة خشيت عليها من الخناقين فعهدت بتربيتها إلى رجل من النور يدعى فيروا، واحتجبت عنها كل الاحتجاب.
غير أنها رأتها مرة ترقص في حفلة عمومية فهاجت بها عواطف الأمومة وأغشي عليها، وبعد ذلك ببضعة أيام خنقها الخناقون وهي تعانق ابنتها في منزلها، فعادت ثروتها كلها إلى أختها مس ألن زوجة علي رمجاه رئيس الخناقين الأعظم في الهند.
إلى هنا انتهى دفتر بب وقد بقيت فيه مسائل غامضة، مثل السبب الذي دعا ميلادي؛ أي مس ألن، أن تعيش بعيدة عن ولدها، غير أن روكامبول رجا أن يجلي هذه الغوامض بدهائه المعروف.
وقد أتم روكامبول تلاوة الدفتر الساعة الرابعة بعد الظهر، وكانت أشعة الشمس تنفذ إلى غرفته فقال في نفسه: إن الطقس جميل وفي مثل هذا الطقس تخرج ماري خطيبة لوسيان للنزهة، ولا بد لميلادي أن تراها لتعرفها، فنادى خادمه الجديد جاك وخرج وإياه.
15
أما خطيبة لوسيان فإنها بعد أن صحت من رقادها صعد إليها البواب وأعطاها ذلك الصندوق الذي أحضره لها الماجور هوف، فسألته عن الذي أرسله فقال لها: لا أعلم. فحسبت أنه هدية من لوسيان وأطلقت سراح البواب.
وكان هذا الصندوق من خشب الصندل ومفتاحه معلقا به، وذهبت به إلى غرفتها ففتحته بيد تضطرب، ووجدت به قطعا من الدانتيلا الثمينة مصفرة مما يدل على تقادم عهدها، وأنها أثر عائلي قديم، ووجدت في الصندوق أيضا كتابا معنونا باسمها ففتحته وأسرعت بنظرها إلى التوقيع فاضطربت اضطرابا شديدا؛ لأنها لم تجد توقيع لوسيان، فنادت أباها وقرأت وإياه هذه الرسالة، وهي كما يأتي:
ابنتي المحبوبة ...
اسمحي لي أن أدعوك بهذا الاسم، فإنك الملاك الذي أرسله الله لحراسة ولدي الحبيب. إني في باريس من عدة ساعات فقط، ومنذ ثلاثة أيام لم أكن أطمع بالحضور إليها، وقد أرسلت إلى ولدي مع رجل أئتمنه عقدا من الماس هدية لك، ولا أعلم إذا كان لوسيان قدمه لك أو أنه أبقاه إلى يوم العرس.
أما أنا فإني أرسلت إليك هذه الدانتيلا القديمة التي تجدينها في الصندوق؛ لأنها كانت على الثوب الذي لبسته يوم عرسي، وأنا لا أعلم إلى الآن وا أسفاه إذا كان يؤذن لي أن أضم ولدي إلى صدري، ولكني طامعة بهذا الرجاء، وفي كل حال فإني أحب أن أرى تلك التي اختارها ولدي عروسة له، وعلمت بعد الاستقصاء أنك تخرجين للنزهة في التويلري مع أبيك، فأرجو أن تذهبي اليوم حسب العادة؛ لأن والدة لوسيان تعرفك حين تمرين بها من دقات قلبها.
وكانت الرسالة موقعا عليها باسم ألن، ففرحت ماري فرحا لا يوصف وقالت: ما عسى أن يكون من لوسيان بعد أن يعرف أمه فإني أخشى أن يقتله الفرح.
وأقامت مع أبيها وهي تناجي نفسها بأعذب الأمالي، إلى أن دنت ساعة الأصيل، وزهت سلطانة الكواكب في سمائها، فلبست ثيابا بسيطة تزيدها جمالا وسارت مع أبيها إلى النزهة في التويلري وقلبها يخفق خفوق الطائر؛ لرجائها أن ترى لوسيان، فما رأت أحدا عند وصولها، وجلست على مقعد من مقاعد الحديقة تراقب المتنزهين وتتوقع أن ترى من تحب من حين إلى حين.
وبعد أن استراح أبوها هنيهة، نهض وإياها وجعلا يتنزهان بين أشجار الحديقة، وعند ذلك وقفت مركبة بالقرب من الحديقة وخرج منها رجل وغلام وهما روكامبول وخادمه جاك ، الذي كان في خدمة ميلادي، ودخلا إلى الحديقة وكانا متنكرين تنكرا عظيما، ولا سيما جاك؛ حذرا من أن تعرفه ميلادي، ووقفا في ظل شجرة وجعلا يراقبان القادمين إلى الحديقة.
وكان والد ماري قد تعب من المشي فجلس على مقعد مع ابنته، وبعد هنيهة أقبلت مركبة وخرجت منها امرأة تناهز الأربعين، وهي بارعة في الجمال ولابسة ملابس تدل على بساطتها أنها من النبيلات، فمشت تلك المرأة في الحديقة دون أن تراها ماري، وجلست على مقعد في ظل شجرة بحيث كانت ترى كما تشاء دون أن تراها الفتاة.
وعند ذلك قال جاك لروكامبول: هذه هي ميلادي يا سيدي.
وتفرس فيها روكامبول حتى انطبعت صورتها في ذهنه وخرج مع جاك من الحديقة إلى المركبة التي كانت تنتظره خارجا، ودخل إليها معه وأرخى ستائر نوافذها، ثم عمد إلى صندوق كان أبقاه فيها ففتحه وأخرج منه ملابس جديدة وتزيا بها، وخلع تنكره القديم، وعاد إلى شكل الماجور أفاتار.
وعند ذلك خرج من المركبة وقال لجاك: اذهب الآن وحدك إلى المنزل وانتظرني به.
وعاد روكامبول إلى الحديقة وهو بملابس الماجور أفاتار وذهب توا إلى الفتاة وأبيها وقال لها بعد أن حياها ألست الآنسة ماري برتود؟
فاضطربت ماري وقالت: نعم يا سيدي! - إني صديق للوسيان.
وزاد اضطراب ماري وقالت: ألعله قادم؟! - كلا يا سيدتي، لذلك أرسلني.
فذعرت ماري وقالت: رباه كيف أرسلك؟! ولماذا لم يحضر؟! - لا تضطربي يا سيدتي؛ إذ ليس ما يدعو إلى الاضطراب، والحكاية أنه اختصم مع أحد أعضاء النادي فتبارزا وأصيب بخدش خفيف بعد قتل خصمه.
وصاحت ماري تقول: ويلاه، أهو جريح؟ قل لي بربك: أأصيب بمكروه؟ قل ولا تخف عني شيئا بالله؟ - لا تجزعي يا سيدتي، فإنه جريح وجرحه بسيط.
وصاحت ماري صيحة ثانية، ثم سمع روكامبول صيحة أخرى شديدة، والتفت فرأى أن هذه الصيحة خرجت من صدر ميلادي المختبئة في ظل الشجرة، وأنها أغمي عليها من الحنو والخوف.
16
ولنعد الآن إلى فاندا؛ فقد علم القراء أن السير جمس نيفلي الذي استلم رئاسة جمعية الخناقين من السير جورج ستوي فتن بها حين رآها وأنها كانت توهمه أن روكامبول خدعها وخانها، وأنها لا تحيا إلا بالانتقام، وأن السير نيفلي كان مندفعا إلى الحضور معها إلى باريس بعاملين؛ وهما: عامل حبها، والتفتيش عن جيبسي التي اختطفها روكامبول من معبد الهنود في لندرا وهي فوق المحرقة.
ولقد علم القراء أيضا كيف أنهما باتا ليلة في قصر روشربين ولم يعلم بسر الخيال ولم يخطر له في بال أنه يقيم في قصر امرأة تخدمها جمعية الخناقين بملء الغيرة والإخلاص.
ولما وصل مع فاندا إلى باريس أقام وإياها في فندق اللوفر وهو أجمل فنادقها، غير أنه كان واسع الثروة، فكره أن تقيم حبيبته في الفندق، واشترى لها في اليوم التالي منزلا جميلا بما فيه من الرياش وأقام معها، وركع أمامها وقال لها: هو ذا قصرك أيتها الحبيبة فاحكمي فيه وبي كما تشائي.
فابتسمت له فاندا ألطف ابتسام وقالت له: إذن أنت تحبني؟ - إن سعادتي أن أكون لك عبدا ما حييت. - وأنا أوافقك في هواك، لكن على شروط أحب أن تسمعها. - وأنا لا أشترط إلا أن أمتثل لشروطك، فمري بما تشائين. - لقد قلت لك: إن لي شروطا والحق أني لا أشترط غير شرط واحد، وهو أن تنتقم لي، فإذا انتقمت كما أريد أحببتك حب الهائمين، وصرت أنا العبدة وأنت السيد المطاع.
وكانت فاندا في باريس منذ ثلاثة أيام ولكنها لم تستطع أن تخرج من المنزل إلا مرة واحدة، فلما انتقلت مع السير نيفلي إلى المنزل الجديد لم يكن يفارقها لحظة فقالت له فاندا في اليوم الثالث: إنك وعدتني أن تنتقم لي وأنت تعلم بأني لا أحبك إلا على هذا الشرط، فما بالك تناسيت هذا العهد؟ وإذا كنت تنفق ساعاتك بقربي فكيف تستطيع أن تعثر بهذا الشقي الذي اختطف جيبسي؟
فابتسم السير نيفلي وقال لها: إن لدي قوما يشتغلون بأمري ويضحون أنفسهم لكلمة تخرج من فمي فهم ينفذون إرادتي، وهم الذين يبحثون الآن عن هذا الرجل وينتقمون لك منه كما تريدين . - ومتى يعثرون به ؟ ومتى يكون هذا الانتقام؟ - بعد يومين أو ثلاثة أيام، وأنا أنتظر نتائج مساعيهم في هذا المنزل.
وتنهدت جزعا وقالت: كيف أطيق الصبر ثلاثة أيام؟
وفيما هم على ذلك دخل الخادم يحمل رسالة إلى السير نيفلي، فارتعش حين رأى طوابع البريد الغريبة عليها، ثم فضها وقرأ ما فيها ووضعها في محفظة جيبه دون أن يطلع عليها فاندا.
وعاد إلى فاندا فحادثها بضع دقائق ثم قال لها: إني مضطر أن أذهب إلى إدارة بنك دافيد همبري.
أما فاندا فإنها كانت تنظر خلسة إلى الرسالة حين كان يقرأها، ولم تعلم من أمرها إلا أنها مكتوبة بلغة هندية، وكانت الرسالة واردة إليه من كلكوتا وهي كما يأتي:
علي رمجاه يأذن للمس ألن أن تعرف ولدها، وعلى السير جمس نيفلي نائبي في أوروبا أن يبلغها هذا الأمر.
ولم يكد السير نيفلي يخرج من المنزل حتى أسرعت فاندا وركبت مركبة وانطلقت بها إلى المنزل الذي يقيم فيه روكامبول، ولكنها لم تجده فيه كما تقدم، وكتبت إليه تلك الرسالة التي أخبرته فيها بما علمته ووعدته أن تعود إليه في منتصف الليل وسلمت الرسالة إلى ميلون.
أما السير نيفلي فإنه لم يكن يكاتب مس ألن؛ أي ميلادي، إلا بواسطة بنك همبري، فذهب إلى البنك وكتب إليها ما يأتي:
إن وكيل علي رمجاه يريد أن يرى الماجور هوف، فليرسل الجواب إلى السير جمس نيفلي في شارع جبرائيل في الشانزليزيه وليعين مكان الاجتماع.
وبعد ربع ساعة ورد إليه الجواب الآتي:
إن الماجور هوف ينتظر السير نيفلي بين الساعة 11 ومنتصف الليل في نادي إسبرج.
وقد وصل هذا الكتاب إلى منزل السير نيفلي قبل عودته من البنك بمدة عشر دقائق، وكانت فاندا في المنزل فأخذ الخادم الكتاب من عامل البريد فدفعه إليها وانصرف.
فأسرعت فاندا إلى شفرة رقيقة فحمتها وأدخلتها برفق بين طيات الظرف؛ فانسال الغراء وانفتح الظرف دون أن يتمزق ورقه، فاطلعت على الرسالة وأرجعتها إلى الظرف وأقفلته.
ثم أتى السير جمس ففتح الرسالة وتلاها دون أن يهتدي إلى ما فعلته فاندا، فلما أذنت الساعة الحادية عشرة خرج من المنزل وأخبر فاندا أنه سيعود متأخرا.
ولم يكد يبرح المنزل حتى أسرعت فاندا إلى روكامبول؛ حيث كان ينتظرها، وأخبرته بمضمون الرسالة فقال لها: حسنا فعلت، وقد بلغنا المراد فيما أظن، ولم يبق علينا إلا أن نضع الخطة التي يجب أن ننتهجها، فاجلسي بجانبي واصغي لما أقول.
17
بينما كان روكامبول يشرح خطته لفاندا كان يجري في الشارع الأميريكي أمور خطيرة لها علاقة عظيمة بمشروع روكامبول.
وكان يوجد في هذا الشارع قهاوي؛ وهي: قهوة النعيم، وقهوة الأبرياء، وقهوة الألدورادو.
أما قهوة النعيم فكان يتردد إليها المتشردون الذين لم يمهروا بعد في مهنة اللصوصية ولم يحصلوا على شهاداتها. وأما قهوة الأبرياء فلم يكن يدخل إليها غير الذين سجنوا ست مرات على الأقل لجرائم مختلفة. وأما قهوة الألدورادو فكان يجتمع فيها كبار اللصوص، ويحق حضور مجتمعاتهم وحفلاتهم لصغارهم، فكانت تغص كل ليلة، بعد منتصف الليل، بلصوص هذا الشارع.
وكان في هذا الشارع كثير من الأفران والآبار التي نزحت مياهها، فكان هؤلاء اللصوص ينامون في الشتاء فوق الأفران الدافئة، وينامون في الصيف في تلك الآبار الرطبة؛ ولذلك كثر وجود اللصوص في هذا الشارع.
ففي تلك الليلة التي كان روكامبول مجتمعا فيها بفاندا، كان بعض أولئك اللصوص في قهوة الألدورادو وبينهم فتاة تبحث في مباحث الغرام، فاعترضتها رصيفة لها قائلة: أتعتقدين أنت بالغرام يا زبلي؟ - كيف لا أعتقد به؟ ولو كنت تعرفين غرامي بغوستاف وشغفه بي لما اعترضت علي هذا الاعتراض، لكنه سجين لا يستطيع الوصول إلينا كي يثبت لك صدق الغرام، أما أنا فإن إيمان قلبي بالحب لا يتزعزع، وفوق ذلك إني أعرف من يحب الحب نفسه. - كيف ذلك؟ ومن هو هذا الأبله؟ وأين يجدونه؟ - يجدونه في المنزل الذي كنت فيه وطردوني منه لعجزي عن دفع أجرة الشهر، وما هو أبله، بل هو متوقد الذهن تدل مخائله على النجابة والذكاء، وحكايته أنه يهوى فتاة ما رأت عيناي أجمل منها لكنها مجنونة، لا تطيق أن ترى سواه وتضحك وتبكي في حين واحد. - ألعله يحبها لجنونها؟
فقالت زبلي: لا أعلم، لا أعلم، ولكنه فتى جميل في الثامنة عشرة من عمره، ووالله ما حنت أم على ولدها حنو هذا الفتى على تلك الفتاة؛ فإنه ينام عند قدميها ويبيت طول ليله ساهرا عليها، وقد اشتدت أعراض جنونها في إحدى الليالي فرأيته يبكي بكاء يقطع القلوب.
فقالت السارقة: ويح لنفسي! إني لو عثرت بمثل هذا العاشق لحبسته وأوثقته؛ خوفا من أن يسرقوه! وماذا يدعى هذا العاشق المفتون؟ - إنه يدعى باسم غريب، لم أسمعه غير مرة من غوستاف، وهو مرميس!
فلم تكد تلفظ هذا الاسم حتى برز رجل من بين الجمهور وقال: افسحوا لي كي أرى هذه الفتاة.
فتباعد الحضور احتراما له وهم يقولون: هو ذا باتير!
كل من طالع الأجزاء السابقة يعرف أن باتير هو زعيم تلك العصابة التي انتزعها منه روكامبول وخلف في قلبه الحقد الدفين، فكان باتير هذا لا يزال محترما في تلك القهاوي، غير أن الفتاة زبلي كانت حديثة العهد في المهنة فلم تحفل به احتفال أولئك اللصوص، ودنا باتير من زبلي قائلا لها: إنك تعرفين إذن مرميس؟ - نعم!
فاتقدت عيناه ببارق نفذت منه أشعة الحقد، وأضاف: إني لم أر هذا الغلام منذ عهد طويل، فهل تقولين أين يقيم؟ - كلا، إني أرى من عينيك أنك تريد به شرا؛ فلا أرشدك إلى مكانه.
فقال بلهجة المتوعد: بل ترشدينني إليه. - كلا؛ لأني خائفة عليه منك.
عند ذلك دنا منها صاحب القهوة وقال لها همسا: لقد أخطأت أيتها الفتاة لا يجب معاداة رجل مثل باتير.
غير أن الفتاة كانت باسلة فلم تخف هذا الوعيد وقالت: كلا، إني لا أرشدك إلى مكانه.
فضم باتير يديه وهجم عليها يريد أن يضربها، فتداخل صاحب القهوة بينهما قائلا لباتير: لا حاجة لضربها؛ لأن الرجل لا يضرب المرأة إذا كان قادرا على نيل مأربه بواسطة أخرى.
فاصفر وجه باتير وأجابه: إني أضرب من أريد.
ثم تقدم منها فاعترضه صاحب القهوة أيضا وقال: اصغ إلي وتأن. إن هذه الفتاة قد دلت على مكان مرميس دون أن تريد. - كيف ذلك؟! - ألم تقل: إن الفتى الذي يدعى مرميس يقيم في المنزل الذي كانت هي مقيمة فيه وطردت منه؛ لأنها لم تدفع الأجرة؟
فقالت زبلي: ولكن لا يوجد بينكم من يعرف أين كنت أقيم؟
فبرزت لها عند ذلك إحدى الفتيات وقالت: إنك منخدعة، أنا أعرف منزلك القديم؛ لأنك كنت تقيمين في منزل خمار، في شارع فيرلابو، وهذا المنزل في وسط الشارع من الجهة اليسرى، وبالقرب منه دكان بائع تبغ.
فأنكرت زبلي كل الإنكار، غير أن باتير علم من اضطراب صوتها أنها غير صادقة في إنكارها، فقال: لقد علمت الآن ما أريد أن أعلمه.
ثم ترك الألدورادو وذهب إلى سطح فرن فاضطجع قرب رفيق، فسأله رفيقه: ماذا صنعت بالألدورادو؟ - علمت عنوان مرميس.
فاستغرب الرجل هذا الاسم وقال: من هو مرميس هذا؟! - لقد أصبت، إنك لم تعرفني إلا بعد اعتزال الرئاسة! - نعم، إني لم أعرفك، غير أني أرى من تحية الرفاق لك أنك كنت من قبل شيئا مذكورا.
وتنهد باتير وقال: وا أسفاه! لقد انقضت تلك الأيام، وأنا أحاول منذ ستة أشهر أن أؤلف عصابة ولا أظفر بمراد، فكان بعض أولئك اللصوص يعتذر بقوله: إن مهنة اللصوص بائرة في هذه الأيام، وبعضهم يجيب: أية ثقة تريد أن تكون لنا برجل غلبه روكامبول وانتزع منه عصابته؟
فقال له اللص: وأي عجب لهذا؟! إن روكامبول قد غلب كثيرين سواك.
فثارت كوامن الحقد في صدر باتير وأجاب: إنه سلبني رجالي ونفوذي، حتى صاحبة الخمارة التي كنا نأوي إليها؛ لأني أردت أن أستدين منها ريالا واحدا فأبت، ولو لم يتيسر لي سرقات صغيرة من حين إلى حين لمت من الجوع. - هو ذاك، ولكنك لم تذكر لي شيئا عن مرميس. - إنه غلام ربيته وعلمته أساليب المهنة، فكان أذكى لص بين العصابة، فسلبني إياه روكامبول. - ألعلك تريد أن تدخل في العصابة، أو أنت تبحث عنه لتراه؟
فامتعض وجه باتير وارتسمت على محياه علائم الحقد الوحشي وقال : أنا أخضع لهذا الرجل؟ ولكني أريد أن أراه لأنتقم. - اصغ إلي أيها الصديق؛ إني ما عرفت روكامبول ولكني سمعت من أخباره ما يدعوني إلى نصحك بعدم التعرض له. - قد أصبت، إنه قد يغلبني إذا كنت وحدي ولكني أجد أصحابا يعينوني عليه، وسوف ترى.
ولم يزد باتير على ما قاله شيئا، لكنه عاد إلى الاضطجاع وجعل يراقب الداخلين والخارجين من الألدورادو، حتى بلغت الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
وانطفئت أنوار القهوة، وتفرق من كان فيها، فقام باتير وجعل يتأهب للذهاب، فسأله رفيقه: إلى أين؟ - إلى حيث أقضي القضاء المبرم على روكامبول.
فقال له: إني أعيد عليك النصح، فارجع عن التصدي لهذا الرجل؛ إذ لست كفؤا له. - إن الأيام بيننا، ومن يعش ير.
ثم تركه ومضى.
18
سار باتير إلى باريس، فجعل يجتاز شوارعها المقفرة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، فلا يرى غير بعض المارة من حين إلى حين ولا ينتبه إليهم؛ لانشغاله بروكامبول، وهو لو رأى أحدهم منفردا في مثل ذلك الوقت وفي غير هذه الأحوال لانقض عليه وسلبه ما معه، غير أن انشغاله بالانتقام صرفه عن كل أمر سواه.
وما زال سائرا حتى بلغ إلى شارع بلوفند، في الشارع الذي حبس فيه تيميلون أنطوانيت وفاندا. وهناك وقف باتير عند أحد أبواب المنازل ووضع إصبعيه في فمه وصفر صفيرا خاصا، فلم يفتح الباب لكن النافذة المطلة على الشارع فتح بعضها، وأعاد باتير الصفير ففتحت النافذة كلها، وسمع صوت يقول: ها أنا قادم إليك؟
وبعد حين فتح الباب وخرج منه رجل، وكان هذا الرجل تيميلون عدو روكامبول الألد الذي طالما ورد ذكره في الأجزاء السابقة.
وكان ظهره قد انحنى وبدت عليه دلائل الكبر وتغير وجهه، حتى لو رآه روكامبول نفسه لما استطاع أن يعرفه.
وقد عاد هذا الداهية إلى باريس غير حافل بروكامبول؛ لأنه لم يعد إلى تلك العاصمة إلا للانتقام منه؛ لأن هذا الرجل لم يكن يحب في الوجود غير ابنته، ولا يطمع إلا بالمال، وقد ماتت ابنته وضاع ماله، ولم يعد يتشوق إلا للانتقام من روكامبول.
وكان قد لقي يوم عودته باتير، وهو يعرفه كما يعرف جميع اللصوص، وسأله عن أحواله فقص عليه باتير جميع ما حدث له مع روكامبول، ولما أتم حديثه سأله: إذن أنت تكره روكامبول؟ - كرهي له لا يوصف. - وأنا أكرهه بعض الكره؛ إذ بيني وبينه حساب قديم يجب تسديده، فقل لي: أين تبيت في الليل؛ كي أجدك حين الحاجة إليك؟ - على سطح الفرن في الشارع الأميريكي. - حسنا، لا بد لنا أن نلتقي. ثم افترقا.
وبعد يومين علم تيميلون أن روكامبول في لندرا، فسافر إليها ثم عاد منها بعد ثمانية أيام، فلقي باتير وقال له: إن روكامبول عاد من لندرا إلى باريس، فابحث عنه في الليل والنهار، وفي أية ساعة تقف فيه على أثره أسرع إلى إخباري في شارع بلفوند.
ولذلك أسرع باتير إلى موافاته في تلك الليلة حين علم مقر مرميس، ولما سمع تيميلون صفيره فرح فرحا وحشيا؛ لوثوقه من أن باتير قد اهتدى إلى روكامبول، ولما برز له من الباب سأله: أوجدته؟ وأين هو؟ - إني لم أجده، ولكني علمت أين يوجد مرميس.
ثم قص عليه كلمة كلمة، جميع ما حدث له في الألدورادو.
وسر تيميلون من تقريره وقال له: إذن إن مرميس يقيم مع امرأة؟ - كلا، بل مع فتاة حسناء. - إنها مجنونة ولا تتكلم غير الإنكليزية. - لا أعلم بالحقيقة من أمرها بعد؛ غير أن زبلي تكلمت عنها هذا الكلام.
فاتقدت عينا تيميلون ببارق من السرور، ووضع يده على كتف باتير قائلا: أظن أنك اكتشفت اكتشافا عظيما. - أحق ما تقوله؟ - لم أعلم الحقيقة بعد، ولكني أظن أنه يوجد في باريس أو في لندرا من يدفع كثيرا من النقود؛ للاستيلاء على هذه الفتاة التي تقيم مع مرميس، وهلم بنا. - إلى أين؟ - إلى شارع فيرابو، ألم تقل أنها تقيم هناك؟ - ليكن ما تريد، غير أنه يجب الحذر الشديد من مرميس؛ لأنه يعرفني ويعلم أني لا أحب رئيسه روكامبول. - ولكنه لا يعرفني أنا، فقف أنت بعيدا وأرشدني إلى المنزل ، فهذا كل ما أريد. - إذن هلم بنا.
وسار الاثنان إلى ذلك الشارع، وقد نفض تيميلون عنه غبار الشيخوخة وقوم حب الانتقام عوج ظهره، فسار وهو يقول: أي روكامبول! إن ابنتي قد ماتت، ولم أعد أخشاك، وأنا أضحي حياتي مقدما في سبيل الانتقام منك!
19
ولنبسط للقراء الآن السبب الذي حمل روكامبول على إقامة مرميس وجيبسي في شارع فيرابو؛ فإنه حين عاد من لندرا إلى باريس قال في نفسه: إني أحضرت اثنين يجب أن أبالغ في إخفائهما؛ وهما: السير جورج ستوي الذي أستعين به على السير جمس وطائفة الخناقين، وجيبسي التي يجب أن أحجبها عن السير جمس.
أما السير جورج؛ لا أجد له محلا أفضل من شارع سانت جرمان؛ لأن الإنكليز لا ينتابون هذا الشارع، وإذا كانت فاندا قد أحسنت تمثيل دورها لا بد أن تكون مثلتني لدى السير جمس بأني من أولئك الخناقين الذين يلبسون أحسن الثياب وينتحلون أفضل الألقاب وينتابون أجمل الشوارع وأشهر النوادي، وإذا كنت قد اختطفت جيبسي واتخذتها خليلة لي كما يعتقد، لا بد لي من أن أتخذ لها منزلا جميلا في الشانزليزيه، أو في شارع ملهرب. إذن يجب أن أقيمها في شارع لا يطرقه إلا العوام؛ إذ لا يخطر في باله أني أقيمها في مثله.
ولذلك أرسل نويل كي يبحث له عن منزل حقير في شارع يسكنه الفقراء، واستأجر غرفتين في منزل خمار أقام فيها مرميس وجيبسي.
وكان قد أصدر أمره إلى مرميس أن لا يفارق جيبسي لحظة، ولكن مرميس لم يكن في حاجة إلى تلقي مثل هذا الأمر؛ لأنه كان مشغوفا بحب الفتاة، وقد استأجر اثنان من العصابة؛ وهما: مورت وشانوان غرفة تحت غرفة جيبسي، وكانا يلعبان بالورق في حانوت الخمار ويراقبان.
أما جيبسي فقد كانت مجنونة، وجنونها لم يقلق روكامبول؛ لاعتقاده أنه متى عرف الداء وجد الدواء، وكان واثقا أن جنون جيبسي لم يكن ناتجا، كما يتبادر إلى الأذهان، عما لقيت من الرعب يوم وضعها الخناقون على المحرقة في معبدهم وأضرموا النار في الحطب، بل إن جنونها كان لفرط شغفها بآرثر نويل، ولما لقيته بعد ذلك الحب من جفائه واحتقاره، وكان خبيرا بعواطف القلوب فقال في نفسه: إن هذا الحب القديم لا يدفعه غير حب جديد، ولذلك سر سرورا عظيما حين باغت مرميس مع جيبسي ورأى تلك النظرات التي تشف عن الغرام الأكيد.
ولم تكن جيبسي تخرج من غرفتها ولا تقبل الطعام إلا من مرميس، وكان مرميس يعتني بها منذ ثمانية أيام اعتناء الأم بولدها ولا يكلمها إلا بالإشارة؛ لأنه كان يجهل اللغة الإنكليزية، فأحضر له روكامبول كتبا بهذه اللغة وقال له: إن جيبسي لا بد لها أن يعود إليها الصواب، فادرس لغتها؛ فقد يروق لك أن تحادثها بعد شفائها.
فجعل مرميس يدرس هذه اللغة بملء الاجتهاد، وهو يرجو أن يعرف أن يقول لها يوما: أحبك.
وكان ميلون ونويل يزورانها أيضا، فكانت لا تنظر إلى نويل وتبتسم لميلون؛ لأنها لم تكن تعرف غير ميلون ومرميس!
وفي اليوم التالي الذي اجتمع فيه تيميلون بباتير وأرشده إلى المكان الذي يقيم فيه مرميس مع جيبسي، كان رجل مارا في شارع فيرابو عليه ملامح المسكنة وهو يرتدي ثيابا بدت عليها آثار القدم، فكان ينتقل من بيت إلى بيت يحاول استئجار غرفة وفي يده قطعة من الخشب الأسود مكتوب عليها بحروف بيضاء هذه الكلمات: مكتب معد للتخديم.
وما زال يتنقل وهو لا تعجبه غرفة حتى انتهى إلى منزل الخمار الذي تقيم فيه جيبسي، فنادى البواب فبرز له الخمار نفسه وقال له: لا بواب عندي؛ فماذا تريد؟ - أريد غرفة أجعلها مكتبا لي. - أتدفع مقدما؟ - نعم.
فدخل به إلى الخمارة ودخلا من باب فيها إلى ساحة، وصعدا سلما مظلمة حتى انتهيا إلى الدور الأول، وهناك صف من الغرف فأخذ الخمار مفتاحا، وبينما هو يفتح إحدى الغرف نظر الرجل من ثقب قفل الغرفة المجاورة ورأى مرميس جالسا يقرأ أمام سرير جيبسي فعرفه للحال؛ لأن هذا الرجل المتنكر بشكل شيخ الخدامين لم يكن إلا تيميلون.
وبعد أن فتح الخمار بابها دخل تيميلون في أثره وتفحصها تفحصا دقيقا ، واعترض اعتراضات شتى حتى انتهى الأمر بقبوله ونقده أجرة شهر مقدما قائلا: سأحضر غدا أثاثي.
ثم خرج وإياه وعلق إعلانه على باب المنزل وانصرف.
وبعد ساعة عاد إلى الخمار وقال له: أعطني مفتاح الغرفة؛ لأني أحب أن أقيس نوافذها؛ كي أعرف قياس الستائر.
فأعطاه المفتاح، وصعد تيميلون وحده ودخل إلى الغرفة المجاورة لغرفة مرميس، وجعل يتأملها فوجد أن الغرفتين لا يفصل بينهما غير جدار رقيق من الخشب ملصوق فوقه ورق ملون، فأغلق باب الغرفة وأخرج مدية من جيبه، وأزاح الورق وجعل يثقب الخشب بملء الرفق؛ كي لا يسمع مرميس، حتى أوشك أن يتم الثقب، ثم قال في نفسه: كفى اليوم، وسأعود غدا إلى إتمام الثقب، وأعاد الورق إلى ما كان عليه ونزل إلى الحانوت ورد المفتاح إلى الخمار وانصرف.
وفيما هو ذاهب رأى امرأة دخلت إلى الشارع لابسة ثياب الخادمات، فعرف للحال أنها فاندا وقال في نفسه: إما أن يكون الشقاء قد بلغ منها فاضطرت إلى الخدمة، وإما أن تكون متنكرة بهذه الثياب.
ومشى الهويناء وهو يراقبها خلسة، فمرت به دون أن تعرفه، ودخلت حانوت الخمار فانجلت له الغوامض وقال: إنها دون شك رسول روكامبول إلى مرميس.
كان يوجد بإزاء الخمارة دكان لبيع التبغ وتتولى البيع فيه امرأة ثرثارة، فذهب تيميلون إليها واشترى مقدارا من التبغ وبادأها بالحديث، وهي تزن له التبغ، فما صدقت أن رأته يريد المحادثة حتى اندفعت بكلامها كالسيل فما أبقت على شيء مما تعلمه عن سكان هذا الشارع.
وكان تيميلون يسمع حديثها وعيناه ناظرتان إلى الخمارة فرأى رجلين دخلا إليها من بابها الداخلي وجلسا يلعبان بالورق، وعلم أن أحدهما شانوان والآخر مورت، ثم رأى رجلا ثالثا قد انضم إليهما وعرف أنه ميلون، وقال في نفسه: يظهر أن روكامبول شديد الحرص على تلك الفتاة، فبعث جميع رجاله لحراستها.
وعند ذلك خرجت فاندا، فقطع تيميلون حديثه مع المرأة على الكره منه، واندفع يقتفي أثرها حتى رأت مركبة في الطريق صعدت إليها وقالت للسائق: سر بي إلى شارع سانت لازار نمرة 28.
وكان تيميلون سمعها تدل السائق على هذا المنزل، ولم يكن يوجد في تلك الساعة مركبة غير هذه، ولكنه رأى في الوقت نفسه أن مركبة من مركبات الأومنيبوس، التي تسير إلى شارع سانت لازار، قد دنت منه وركب فيها، غير أن الأومنيبوس لا يدرك المركبات، فتوارت مركبة فاندا عن أبصاره.
وكانت المسافة بعيدة إلى ذلك الشارع الذي كانت فاندا ذاهبة إليه، غير أن تيميلون لم يبال بذلك البعد؛ لأنه عرف نمرة المنزل. ولما وصلت مركبة الأومنيبوس إليه رأى مركبة جميلة واقفة عند بابه، وأن امرأة خرجت منه، وقالت لرجل كان يصحبها: سأفعل ما تريد، وإلى اللقاء في هذا المساء.
وارتعش تيميلون؛ لأنه عرف أن هذه المرأة هي فاندا وقد خلعت تنكرها ورجعت إلى روائها القديم، وقد زاد ارتعاشه حين رأى الرجل يعين المرأة على الصعود إلى المركبة ويقول للسائق: إلى الشانزليزيه؛ إذ عرف أنه الماجور أفاتار؛ أي روكامبول.
وقال في نفسه: لقد علمت الآن أن روكامبول يقيم في سانت لازار وأن جيبسي تقيم في فيرابو، ومتى عرفت إلى أين ذاهبة فاندا أستطيع أن أعلم أين يقيم السير جمس نيفلي.
ثم سار به الأمنيبوس إلى الشانزليزيه حيث كانت فاندا ذاهبة.
20
ولندع تيميلون يقتفي أثر فاندا، ولنقص على القراء ما حدث بين فاندا وروكامبول في الليلة السابقة حين اغتنمت فرصة خروج السير جمس من المنزل، وأسرعت إلى سانت لازار لمقابلة روكامبول؛ فقد قال لها حين خلا بها: لم يعد حاجة إلى الاهتمام بمعرفة أسرار السير جمس؛ فقد عرفت حكاية مس ألن؛ أي ميلادي، بالتدقيق وذهب وقت البحث، وآن أوان العمل. اعلمي أن ميلادي قد قتلت أختها ونهبت مال ابنتها ويجب أن ترد إلى ابنة أختها؛ أي إلى جيبسي، الأموال المسروقة. - ألا يجب أن نعرف أين توجد هذه الأموال؟ - إن السير جمس لا يعرف أين موضعها؛ لأنها بيد ميلادي، والذي أراه أن الثروة لم تمس بل إيرادها كان يقسم إلى قسمين: تأخذ ميلادي قسما، ويرسل القسم الآخر إلى خزينة الخناقين؛ كي يستعينوا به على إخراج الإنكليز من الهند متى توفرت لهم الأسباب، لكني لا أزال أجهل السبب الذي حمل علي رمجاه على هجر ميلادي ومنعها عن رؤية ولدها.
ثم قص عليها ما حدث أمامه في حديقة التويلري وقال لها: إن ماري برتود عرفت أن ميلادي والدة خطيبها، ولما رأت ما أصاب ميلادي من الإغماء استعانت بي، فحملتها إلى مركبة سارت بنا إلى منزل ماري، واقتنعت ماري ونحن في الطريق أن جرح لوسيان سريع الاندمال، ولما استفاقت ميلادي من إغمائها جعلت تبكي بكاء شديدا، فقالت لها ماري: يجب أن نذهب إلى منزله؛ لأن وجود أمه بقربه يعجل في شفائه.
فاضطربت ميلادي حين سماعها هذا الاقتراح وقالت: كلا، إن ذلك محال؛ إذ لا أستطيعه! ثم استحلفت ماري أن لا تذكر شيئا من أمرها أمام لوسيان، واستحلفتني أنا أيضا نفس اليمين؛ لاعتقادها أني من أصحاب ابنها.
تعجبت فاندا وقالت: كيف تأبى أن ترى ابنها وهو جريح؟! - ليست هي تأبى هذا اللقاء لكن علي رمجاه يمنعها عن الاجتماع بابنها لسر ستكشفه الأيام. - إذن أنت موطد العلائق مع ميلادي. - ومع الماجور هوف أيضا، لقد جددت معرفتي به حين أعدت ميلادي إلى الجران أوتيل. - وعلى ماذا عولت الآن؟ - إني لم أر في صدر ميلادي غير عاطفة واحدة؛ وهي حبها لابنها، ويجب أن نضربها في موضع ضعفها. - كيف ذلك؟! - افترضي أن ماري برتود قد اختفت، وأن لوسيان علم أن أمه قد اختطفتها. - حسنا، وبعد ذلك؟ - نرشد لوسيان على ميلادي ونقول له: هذه أمك، وهي وحدها تستطيع أن ترشدك إلى خطيبتك.
وقالت فاندا: ولكن ميلادي تثبت لابنها أنها بريئة، وأنها لا تعلم أين هي ماري. - نعم.
ثم سكت هنيهة وقال: أتظنين أنه حين ترى ميلادي ابنها في حالة يأس لاختفاء خطيبته، وأتى أحدهم قائلا لها: ماذا تدفعين إذا أنقذت ابنك وأعدت له الصبية ألا تدفع له ثروتها؟ - ربما. - وهذا الذي أبتغيه. - ولكن كيف السبيل إلى اختطاف الفتاة وأين نضعها؟ - ذلك سهل ميسور علي لا سيما ولي مثل هذه العصابة.
وسكتت فاندا هنيهة ثم قالت: أيها الرئيس، أعزمت على أن تبقيني مدة طويلة مع السير نيفلي؟ - إلى أن يتم لي النصر الأكيد على الخناقين وعلى ميلادي. - إن ذلك يطول! - بل هو أقصر مما تظنين. - سأفعل ما تريد، إنما بقي أمر أراك لم تفطن له؛ وهو أن لوسيان وماري شريفان، وكلاهما نقي القلب، طاهر السريرة، أليس من الظلم أن نضربهما هذه الضربة القاضية؟
ووضع روكامبول يده فوق جبينه شأن المفكر المهموم وقال: لقد خطر في بالي جميع ما تقولين، ولكني رأيت ولا بد من إرجاع الملايين لجيبسي، ومتى عادت إليها فهي تعطي دون شك ابن ميلادي شيئا من هذا المال. - ولكنها مجنونة؟ - إنها تشفى ولا خطر عليها من هذا الجنون. - ليكن ما تريد، والآن بماذا تأمر؟ - ليس لدي اليوم شيء أقوله، ولكن يجب أن أراك غدا.
وذهبت فاندا، وفي صباح اليوم التالي عادت إلى روكامبول فقالت له: لدي أخبار عن علي رمجاه.
ثم أخبرته أن السير نيفلي لم يعد في تلك الليلة إلا قرب الفجر وكان معه رجلان هنديان قدما من لندرا، فخلا بهما في غرفة مجاورة لغرفتي، وقد أنصت إلى حديثهم ولم أفهم شيئا؛ لأنهم كانوا يتكلمون باللغة الهندية، لكني سمعتهم يذكرون اسم جيبسي مرات كثيرة واستنتجت من ذلك أنهم وقفوا على أثرها.
فقال روكامبول: لا بأس، إذا كان الخناقون جاءوا إلى مساعدته فإني لا أدعهم يساعدونه. - كيف ذلك؟!
فقام روكامبول إلى خزانة وأخرج منها زجاجة فيها رشاش أبيض وأعطاها إياها، وقال لها: يجب أن تسقي السير نيفلي هذا المخدر هذه الليلة، وإنه حين يستقر في جوفه يسقط صريعا فتضعين عند ذلك مصباحا على نافذة الغرفة المشرفة على الحديقة فأعلم أن الأمر قد تم. - وبعد ذلك؟ - إن البقية خاصة بي، اذهبي الآن، ولكن قبل أن تعودي إلى السير نيفلي، اذهبي إلى فيرابو واسألي ميلون عن جيبسي، وإذا كان رأى ما يوجب الحذر.
فامتثلت فاندا وتنكرت بالشكل الذي رآها فيه تيميلون، ثم خرجت وعادت بعد ساعة، فخلعت تنكرها، وأوصلها روكامبول إلى المركبة وقال للسائق: إلى الشانزليزيه، وهي الكلمة التي سمعها تيميلون.
21
بينما كان الماجور هوف عند ميلادي في الفندق الذي كانت فيه، جاءه عامل دافي همبري برسالة السير جمس، وكانت ميلادي تقول لفرانز: إلى متى هذا الصبر على ظلم علي رمجاه؟ أيكون لي ابن، وهو أبوه، ويكون هذا الابن مريضا جريحا معرضا لخطر الموت، ثم لا يأذن لي أن أراه؟
فقال لها فرانز: إنك تعلمين أن ثروتك مرهونة لإرادة علي رمجاه والخضوع له، فافتكري واحذري. - لا أبالي إذا كنت فقيرة؛ فإني أحب أن أرى ابني. - ولكنك إذا كنت فقيرة ألا يكون ابنك فقيرا مثلك؟!
فردت هذه الكلمات الصواب إلى ميلادي وقالت: يا للشقاء! ولكني لا أعلم لماذا هذا الرجل يمنعني عن أن أرى ولدي وهو قد هجرني منذ خمسة عشر عاما. - أنا أعلم.
فدهشت ميلادي وقالت: أنت؟!
وقبل أن يجيبها دخل الرسول برسالة السير جمس، وتلاها فرانز وعرضها على ميلادي فقالت: من هو السير جمس هذا؟ - هو وكيل علي رمجاه وخلف السير جورج ستوي. - أهو الآن هنا؟ - دون شك، إنه يريد أن يراني.
ثم قام إلى المائدة فكتب إلى السير نيفلي تلك الرسالة التي فتحتها فاندا واطلعت على فحواها، كما تقدم، وعاد إلى ميلادي فقالت له: لقد قلت لي إنك تعرف السبب في حرماني من أن أرى ولدي. - ولكني أستمهلك في إيضاح السبب إلى الغد فربما غنيت عن ذلك بعد مقابلة السير نيفلي.
فلم تجد ميلادي سبيلا إلا الإلحاح، وفي المساء ذهب فرانز إلى نادي أسبرج وبعد حين جاءه الخادم برقعة زيارة السير جمس، فاستقبله في القاعة المعدة لاستقبال الغرباء.
وبعد أن تبادلا الإشارات السرية وتعارفا، قال السير جمس: إني حامل أوامر علي رمجاه.
فانحنى فرانز وقال: بماذا يأمر الرئيس؟
إنه يأذن لميلادي أن ترى ولدها.
فإن هذا الرئيس الأعظم سيتخلى عن الرئاسة؛ لأنه يتولاها منذ خمسة وعشرين عاما ولا يجيز نظام الخناقين تولي رئيس واحد أكثر من ربع قرن، وأنا أقول لك هذا القول مقدمة للبحث في ثروة مس ألن؛ فإن نصف إيراد هذه الثروة كان يدفع حتى اليوم إلى الخزينة الهندية، ولكن علي رمجاه متى تخلى عن السلطة يضطر إلى التصفية.
قال فرانز: ماذا تريد بذلك؟ - أريد أنه يجب عليه أن يدفع للخزينة أصل المال وليس الإيراد. - إن مس ألن لا تخالف لعلي رمجاه أمرا. - هو ما يرجوه، ولكني أعد نبأ آخر إلى مس ألن وهو أن رئيس جمعيتنا الأعظم يجب عليه أن يكون عازبا مدة توليه الرئاسة ولكنه يحق له الزواج متى تخلى عنها ولا يزال علي رمجاه يهوى ميلادي ويحب ولدها؛ لأنه ولده أيضا.
فاضطرب فرانز وقال: ماذا تعني بذلك؟ - أعني أن علي رمجاه قادم إلى أوروبا وهو يريد أن يتزوج ميلادي.
فارتعد فرانز وقال: هذا إذا رضيت ميلادي؟ - إن هذا شأنها وليس شأني، ولكن لا بد لي من أن أطلعك على أمر وهو أن ميلادي وإن تكن قد دفعت نصف مالها إلى الخناقين مقابل قتل أبيها؛ فإنها لا تزال تحتاج إلى هذه الطائفة لصيانة النصف الآخر؛ لأن الفتاة النورية أي جيبسي لا تزال في قيد الحياة وهي تستطيع مطالبتها بهذه الثروة كل حين. - إني أعلم أنكم تكلفتم بجيبسي. - ولكنها أفلتت من أيدينا وغادرت إنكلترا إلى باريس. - أجاءت وحدها؟ - كلا، بل مع رجل يحبها ويحميها وقد يمكن أن ينتقم لها؛ لأنه رجل شديد. فاضطرب فرانز اضطرابا عظيما وقال: يجب أن تموت هذه الفتاة.
وأنا ما أتيتك إلا لمثل هذا.
22
وافترق السير جمس نيفلي عن فرانز في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ولكنه لم يعد إلى منزله إلا حين شروق الفجر، وقد عاد إليه مع الهنديين اللذين تقدم ذكرهما في حديث فاندا، فأقام معهما ساعة ثم صرفهما ونام نوما هادئا إلى الظهر، بينما كانت فاندا مع روكامبول.
ولما صحا أحضر له الخادم رسالة ففضها وقرأ ما يأتي:
إن رجلا عاش زمنا طويلا في لندرا يسأل السير نيفلي أن يقابله؛ لأنه يستطيع أن يخدمه خدمات جليلة.
ولم يكن السير نيفلي في ظروفه الحاضرة وورد مثل هذه الرسالة لمزقها دون أن يجيب عليها، غير أن الهنديين أبلغاه أنهما يئسا من لقاء جيبسي فأمل خيرا بصاحب هذه الرسالة وأمر الخادم أن يدخله إليه.
وبعد هنيهة دخل الخادم بالرجل، ونظر السير نيفلي هذا الزائر فرأى عليه ملامح نبلاء الإنكليز، وما شكك لحظة أنه منهم، أما الرجل فإنه حياه وفاجأه بقوله: أيها الميلورد، إني أعرف أين هي جيبسي.
ولو فوجئ السير نيفلي بدوي مدفع لما بغت كما بغت بقول هذا الرجل، وقال في نفسه: هب أن هذا الرجل عرف أين تقيم جيبسي؛ فكيف عرف أني أهتم لها؟!
أما الرجل فإنه كان يتوقع منه مثل هذا الانذهال، فوضع إصبعه على شفتيه وقال له: أيوجد لديك غرفة معتزلة إذا خلونا بها لا يسمع حديثنا أحد؟ - لا يوجد في المنزل غير امرأة لا تعرف الإنكليزية وأنا واثق منها كل الثقة.
فابتسم الرجل وقال: إذا كان الحذر واجبا فإنما هو من هذه المرأة.
وارتعش السير وقال: أوضح لي ما تقول ...
فاستأذن الرجل السير نيفلي وأغلق الباب ثم عاد إليه قائلا: أيها الميلورد، إننا لسنا الآن في لندرا، وإذا كان لديك في باريس عصابة من الخناقين فليست هي الآن في هذا المنزل، وإذا خطر لك أن تستعمل العنف لا تجد من يعينك؛ لذلك أقول لك: إنك إذا خفت أو حملتني على الانصراف تفقد خير فرصة تعينك على إيجاد جيبسي والاستئثار بثروتها التي قد تطالب بها يوما من الأيام، فاصغ إلى حديثي ولا تلمني إذا حذرت من تلك المرأة التي تثق بها.
ولم يسع السير نيفلي بعد ما رآه من هذا الشخص الواقف على داخل أسراره إلا الإذعان له فقال: إننا في الدور الثاني من هذا المنزل والمرأة التي تخشاها مقيمة في الدور الأول، ولا سبيل لها إلى سماع حديثنا. - إذن اصغ؛ فإني أبدأ بذكر شيء عن أمورك فإنك تدعى في لندرا السير جمس نيفلي، وأنت زعيم جمعية الخناقين، وقد خلفت بهذه الزعامة السير جورج ستوي؛ لعدم كفائته، ثم إنك أتيت باريس لسببين؛ أحدهما: لخدمة الجمعية التي تمثلها، والثاني: غرامك بهذه المرأة المقيمة في منزلك.
وإن هذه المرأة تدعى فاندا، وقد أخبرتك عنها أن عاشقها تخلى عنها واختطف فتاة نورية تدعى جيبسي، وأنت آت إلى باريس؛ كي تنتقم لفاندا من عاشقها القديم؛ لأنها لا تحبك إلا على هذا الشرط، وكي تظفر بجيبسي، ولذلك أحضرت اثنين من الهنود؛ كي يبحثا عن الصبية وعن خاطفها، وخابت مساعيهما ومساعيك؛ لأن هذا الشخص أعظم من الهنود، وقد طالما عجز عنه بوليس باريس.
فاندهش السير نيفلي وقال: من هو هذا الرجل؟! - هو رجل يدعى روكامبول كان من كبار المجرمين، ثم تاب توبة صادقة، أتريد أن أقص عليك بإيجاز؟ - نعم ...
فحكى له حكايته وكيف هرب من سجن طولون وما جرى له البارون مورليكس.
حتى إذا فرغ من حكايته قال له السير نيفلي: - أهو الذي اختطف جيبسي؟ - نعم ... - ألعله يهواها؟ - كلا، ولكنه يهوى تلك المرأة التي تهواها أنت. - كيف يكون ذلك وهو قد هجرها شر هجران؟! - إني يا حضرة الميلورد أدعى تيميلون، وقد عرفت روكامبول وفاندا حق العرفان وهما يسخران بك، وفي كل يوم.
فاضطرب السير نيفلي وقال: إن هذا محال! - بل هو الحقيقة وقد اجتمعا في صباح اليوم.
فضحك جمس ضحكة مرة ثم قال: إذا كان حقا ما تقول فإنها موتا تموت.
وجعل يخطو في أرض الغرفة خطوات مضطربة وآثار الغضب الوحشي بادية بين عينيه، ثم وقف أمام تيميلون وقال له: إني لا أعلم من أنت، ولكن اصغ إلى ما أقول، فاعلم أنه إذا كان ما تقوله حقا؛ فإن هذه المرأة تموت، وأما إذا كنت كاذبا فأنت الذي تموت دونها.
فابتسم تيميلون وقال: إني أرجو أن أعيش بعدها عمرا طويلا، ثم أرجوك أن تعلم يا سيدي أني ما أتيت إليك كي أخبرك فقط بما ينذرك من الأخطار. - إذن ماذا تريد؟ - أن أتفق وإياك، فقد قلت لك: إني أعرف أين جيبسي، وأنا أستطيع أن أسلمها لك، وأن أثبت أن روكامبول وفاندا لا يزالان متعاشقين يتراسلان ويهزأون بك. - إذن أنت قادم لتبيعني هذه الأسرار؟ - إن الانتقام فوق المال .
ثم اتقدت عيناه ببارق من الغضب وقال: إن روكامبول قتل ابنتي. - إذن أنت تريد الانتقام؟ - اصغ إلي يا حضرة الميلورد، إني شديد الفقر، ومع ذلك فإني لا أسألك من المال إلا قدر ما أحتاج إليه من النفقة؛ لإنفاذ مشروعنا، فإذا سلمت إليك جيبسي وعلقت روكامبول على المشنقة وأحببت أن تنعم علي بشيء من المال أسد به عوزي كنت لك من الشاكرين.
وكان السير نيفلي قد تمرس بالآفات ودرس أخلاق الأمم وعلم أن عاطفة الانتقام، أشد العواطف الإنسانية، فوثق مما قاله تيميلون وقال له: لقد صدقتك. - إذن نحن على اتفاق وأنت راض أن أخدمك؟ - نعم ... ولكني أريد قبل كل شيء، أن تبرهن لي على اتفاق روكامبول وفاندا. - هو ذاك، وسأبرهن لك عن ذلك في منتصف هذه الليلة. - إذن؛ فإن فاندا تموت. - كلما عجلت بموتها أحسنت؛ فإنها أعظم مساعد لهذا العدو الشديد الذي يدعونه روكامبول، ولا بد لي قبل انصرافي من أن أنبهك إلى أمر يا سيدي الميلورد، وهو أني عندما كانت ابنتي في قيد الحياة لم أكن أخشى إلا روكامبول، أما الآن؛ فإن روكامبول لا يخشى سواي، ولهذا أحذرك من أن تذكر اسمي أمام أحد من الناس، فإذا وصل إليه خسرنا كل شيء. - كن مطمئنا؛ فقد نسيت اسمك. - هذا جل ما أتمناه ...
ثم ودعه وانصرف.
أما فاندا فإنها لم تر تيميلون حين دخوله وانصرافه، وأما السير نيفلي فإنه بعد انصراف تيميلون، الذي أرسلته الأقدار لنصرته، أبلغ فاندا أنه منحرف الصحة فلا يتعشى هذه الليلة ولكنه يتناول معها الشاي في الساعة التاسعة، وأقام في غرفته وهو يحاول إخفاء اضطرابه؛ كي يتمكن من الاجتماع بها دون أن تظن به ظنون السوء.
وكذلك فاندا فقد كانت أيضا شديدة الاهتمام بالأوامر التي أصدرها إليها روكامبول وهي «أن السير نيفلي يثقل علينا فإذا شرب هذا الرشاش ضعي مصباحا على النافذة المشرفة على الحديقة وعلي الباقي.»
وكان لفاندا ثقة عظيمة بروكامبول ولكنها كانت تقول في نفسها، كيف يستطيع اختطاف السير نيفلي من شارع الشانزليزيه ؟! وماذا يريد أن يصنع به؟! وكيف أمهد له سبل هذا الاختطاف؟!
وبعد أن أمعنت في التفكير أبعدت جميع الخدم بطرق مختلفة؛ كي يخلو الجو لروكامبول، وبعد حين جاءها السير نيفلي وكانت فاندا قد أعدت الشاي ووضعت في كأس السير نيفلي ذلك الرشاش الذي أخذته من روكامبول.
وكان السير نيفلي قد آلى على نفسه أن يقتل فاندا إذا ثبت له ما قاله عنها تيميلون، ولكنه آلى على نفسه أيضا أن يحتفظ بمظاهر السكينة إلى أن يأتيه تيميلون بالبرهان. فدنا من فاندا فقبل يدها حسب عادته، ثم جلس حول مائدة الشاي فقالت له: أتريد كأسا من الشاي؟ - دون شك.
فأخذت الإبريق وصبت في كأسه وكأسها وهو ينظر إليها نظرات تدل على مبلغ افتنانه بها، في حين أن العواصف كانت ثائرة في قلبه ولم يرها مرة أجمل مما كانت عليه في هذه الساعة، فثارت الغيرة في فؤاده ونسي ما عقد النية عليه من التزام السكينة فنظر إليها قبل أن يشرب جرعة من الشاي وقال لها بلهجة المتهكم: كيف حال صديقك روكامبول؟
فاضطربت فاندا بالرغم من دهائها لهذه المباغتة وبدت عليها ملامح الذعر بشكل ظاهر، فلم يعد السير نيفلي محتاجا إلى برهان تيميلون؛ إذ قرأ خيانتها بين عينيها فاستل خنجره وهجم عليها وهو يقول: أيتها الخائنة، إنك خدعتيني فاستعدي للموت.
23
ورأت فاندا أنه لم يعد لها مناص وأن خنجر جمس سيخترق قلبها فلا ينقذها غير الصدفة والاتفاق، ولكنها عاشت زمنا طويلا مع روكامبول فتعلمت الحيلة في مثل هذه المواقف، واستعانت على عدوها بدهائها، فوثبت إلى آخر الغرفة وسقط الرداء عن منكبيها فظهر من تحته كتفاها ونصف صدرها، فوقفت يد السير جمس وتراجع وهو ينظر مبهوتا إلى جمال هذا الصدر الذي لم يره قبل الآن، ثم ضحك، وقد هاجت به العواطف الوحشية وقال: إنك ستموتين دون شك ولكني أحب أن يكون انتقامي تاما ... ولم يتم كلامه.
فتنفست فاندا الصعداء، وعلمت أن الوقت لا يزال لديها فسيحا بما رأته من ظواهر افتتانه بها، وركعت وقالت: ماذا يهمني الموت والعار إذا كنت تنقذ ولدي؟
فاندهش السير جمس وقال: ولدك؟! ألعل لك ولدا؟!
فضحكت فاندا ضحك القانطين وقالت: أتحسب أنه لو لم يكن لي ولد في قبضة روكامبول أكنت أطيع مثل هذا الشقي السافل؟
ثم كشفت صدرها وقالت له بلهجة المتوسل: افعل بي ما تشاء ثم اقتلني بعد ذلك؛ فقد استحقيت القتل، ولا أبالي بالموت، ولكن عدني أنك تنقذ ولدي من قبضة روكامبول.
فانقلب السير جمس انقلابا غريبا، حتى إن يده سقطت إلى ركبته وهي لا تزال مسلحة بالخنجر، فوقفت فاندا وقالت له: إذا أبيت أن تجيب طلبي وتعدني هذا الوعد فإني أنجو من قبضتك بالموت، ثم أدنت من فمها خاتما كان بإصبعها؛ فخدع السير جمس بهذه المظاهرة وحسب أنه يوجد في خاتمها سم يقتل في الحال، وهو لم يكن يريد قتل فاندا فقط ...
فعاد إلى المائدة وجلس أمام كأس الشاي المعد لذلك فقال لها: إذن لك ولد كما تقولين؟ - نعم. - أتحبينه؟ - وأية أم لا تحب ولدها؟
قال: أتقولين إنه في قبضة روكامبول، وإنك تخافين أن يقتل هذا الولد؟
وكان يسألها هذه الأسئلة وعيناه تنظران إلى كتفيها العاريتين وصدرها الجميل فيتزايد هياجه بالتدريج، وهي تنظر إليه نظرات توسل تفتن الجماد، فثار في فؤاده جمر ذلك الحب الشائن، ونوى على إجابتها إلى سؤالها وإدراك سؤاله منها ثم قتلها.
فقال: تكلمي بإيجاز، ماذا تريدين أن أصنع بولدك؟
فعلمت فاندا أنه قد حكم عليها بالموت، وحاولت أن تطيل الوقت راجية أن تجد منفذا للخلاص فقالت: أريد أن تنقذ ولدي فعدني وعد الصادقين. - إني أعدك بذلك ولكني أريد أن أعلم أين هو؟ - ليس من يعلم مقره غير روكامبول. - وروكامبول أين يقيم؟ - في شارع سانت لازار نمرة 28. - أهذا كل ما تطلبينه إلي؟
فنظرت إليه نظرة ساحرة وقالت: نعم.
ولكن السير نيفلي لم يكن من الذين تلين قلوبهم هذه النظرات فقال لها: إننا الآن وحدنا في هذا المنزل؛ فإن جميع الخدم قد ذهبوا والمطر ينهمر في الخارج؛ فلا يسمع أحد صراخك، فاعلمي أنه يجب أن تطيعيني ... وتموتي .
ثم أخذ الخنجر وحاول أن يهجم عليها فقالت له: دعني أصلي وأستغفر الله قبل أن تقتلني.
وعادت إلى الركوع. - إنك تؤمنين بالآلهة وتعتقدين بالخلود؟! إذن صلي ولكن أسرعي بالصلاة.
ثم أخذ كأس الشاي كأنه يريد أن يشغل نفسه كي لا يطول انتظاره، وشرب ما فيه.
وبعد ذلك هجم بخنجره على فاندا فصاحت صيحة يأس فألقى خنجره على المائدة وأوقفها وضمها إلى صدره وجعل يقبلها، ويقول: إني أحبك وأبغضك في حين واحد.
غير أن فاندا هبت لها قوة من السماء فتخلصت منه وصدمته صدمة قوية وأسرعت إلى المائدة فقبضت على الخنجر، وقالت له: إذا دنوت خطوة فأنت من الهالكين.
وضحك السير نيفلي وقال: أتحسبين أن الخناقين يخشون خنجر امرأة؟!
ثم تراجع إلى الوراء وأخرج من جيبه ذلك الحبل الذي اشتهر باستعماله الخناقون، وخافت فاندا خوفا شديدا وأيقنت أنها مائتة لا محالة، وأما السير نيفلي فإنه أطلق الحبل فالتف على عنق فاندا فأطبقت عينيها وتأهبت للموت وهي تذكر همسا اسم روكامبول.
على أنها شعرت أن الحبل لم يضغط على عنقها، ففتحت عينيها ورأت السير نيفلي واقفا وقوف الصنم وقد اصفر وجهه اصفرار الأموات، وهو يتمتم كلمات لا معنى لها ...
ثم أن أنينا مزعجا ووهت رجلاه وحاول أن يشد الحبل؛ كي يضغط على عنق فاندا، ولكن الحبل أفلت من يده وانقلب على الأرض صريعا؛ بفعل ذلك المخدر الذي وضعته له فاندا في كأس الشاي.
ثم انطبقت عيناه وأخذ جسمه يهتز ويتشنج كأنه في حالة النزع، ولم يكن غير دقيقة حتى سكن جسمه وأصبح شبيها بالأموات.
وتنهدت فاندا تنهد المنفرج بعد اليأس، وبقيت بضع دقائق مضطربة لا تعمل شيئا غير النظر إلى هذا الرجل الذي كاد يقتلها، ثم ذكرت روكامبول وذكرت معه الواجب، وقامت إلى المصباح وأخذته عن المائدة ووضعته على النافذة حسب الاتفاق، فرأت رجلا يمشي في الحديقة ثم رأت رجلا آخر، فعلمت أنهما روكامبول وميلون.
وبعد هنيهة دخل روكامبول إلى الغرفة وسألها: أقضي الأمر؟
أجابته بلهجة المضطرب: نعم، وها هو ملقى على الأرض.
ونظر إليه روكامبول ثم نظر إلى فاندا، ورأى الحبل لا يزال في عنقها، فذعر وقال: ما هذا؟ - لولا دقيقة واحدة لكنت من الأموات.
ثم قصت عليه جميع ما حدث لها معه، فقال لها: لا بأس، إنك لا تخشينه بعد الآن ... - ألعله مات؟ - كلا ... ولكنه في نفس الحالة التي كانت فيها أنطوانيت حين أخرجناها من سجن سانت لازار، إذا كنت تذكرين، لو كنت في الزمن القديم لكنت قتلته دون إشفاق، أما الآن فقد آليت على نفسي أن لا أسفك دما بشريا إلا حين أضطر الدفاع عن نفسي. - إذن على ماذا عولت؟ وماذا تصنع به؟ - سأسجنه في قبو منزل الخمار الذي تقيم فيه جيبسي إلى أن أسترجع ملايين جيبسي، وأخدره مرة ثانية، وأضعه في صندوق وأشحنه إلى لندرا بعنوان أحد الخناقين كما تشحن البضائع.
ثم التفت إلى ميلون وقال له: أتسمع حركة؟ - لا ...
وقالت فاندا: لا يوجد سوانا في المنزل فإني صرفت الخدم لهذا الغرض. - أحسنت ...
ثم أمر ميلون أن يحمل السير جمس وينتظره عند باب الحديقة، فحمله ميلون وخرج به ممتثلا.
وعاد روكامبول إلى فاندا وقال لها: أستودعك الله وسنتقابل غدا. - كيف ذلك أتتركني وحدي في هذا المنزل؟! - نعم، إذ يجب أن تبقي فيه ولا خطر عليك ... - لماذا؟ - ألم أقص عليك قصة المس ألن؟ إذن اعلمي أن علي رمجاه رئيس الخناقين الأعظم في الهند تجدد غرامه بميلادي بعد أن هجرها عشرون عاما، وهو يريد أن يتزوجها، غير أن ميلادي تأبى هذا الزواج؛ لأنها استرسلت في هوى فرانز، الذي يدعو نفسه الماجور هوف ...
وهي ستحضر غدا إلى هذا المنزل؛ كي ترى فيه السير جمس وهي لا تعرفه من قبل ولكنها تعرف أنه نائب علي رمجاه، وغرضها من هذه المقابلة أن يحمل علي رمجاه على الرجوع عن قصده من زواجها، وأريد أن تبقي في هذا المنزل كي تستقبليها. - وأنت أين تكون؟ - أكون معك دون شك، وسأحضر إليك قبل الساعة الثامنة صباحا.
ثم ودعها وقبل جبينها وخرج.
ووقفت فاندا في النافذة تشيعه بالنظر ، حتى توارى عن نظرها مع ميلون، وعادت إلى الغرفة وتنهدت تنهدا طويلا قائلة: لقد سلمت الليلة من أشد الأخطار ...
ولم تكد تتم كلامها حتى سمعت صوتا من ورائها يقول: إذا سلمت في المرة الأولى فلا تسلمين في الثانية.
والتفتت منذعرة، فرأت رجلا وامرأة واقفين دون حركة على عتبة الباب، أما الرجل فكان تيميلون، وأما المرأة فكانت شيفيوت التي جرحتها فاندا بالرصاص حين أنقذت أنطوانيت من مخالبها.
وعرفتها فاندا للحال، وصاحت مستغيثة صيحة منكرة غير أن صياحها لم يبلغ إلى روكامبول؛ لأنه كان قد خرج من الحديقة.
24
أما روكامبول فإنه سار في أثر ميلون، وكان ميلون حاملا السير جمس على كتفيه، وألقوه في مركبة كانت تنتظرهم بقيادة نويل، فصعد إليها روكامبول وميلون ووضعا السير نيفلي بينهما، وأمر روكامبول نويل أن يسير بهم إلى منزل الخمار، الذي تقيم فيه جيبسي.
وسارت المركبة بهم تقطع الأرض نهبا حتى وصلت إلى منزل الخمار، وأخرجوا السير نيفلي ووضعوه في إحدى الغرف مؤقتا، ودخل روكامبول مع الخمار إلى أقبية المنزل يتفقدها، ورأى بينها قبوا تحت قبو آخر له باب سري على سطح أرض القبو الذي فوقه، لا يظهر له أثر، واختار روكامبول هذا القبو بعد أن فحصه فحصا دقيقا، وأمر ميلون فأنزل السير نيفلي إليه ثم أقفل بابه وقال: إن هذا الرجل سيصحو بعد يومين وسترى إذا كان يبقى له شهية للطعام حين يستفيق.
ثم خرج إلى الشارع وتبعه ميلون، وكان نويل لا يزال ينتظر في المركبة وسأله ميلون: أأذهب معك أيها الرئيس؟ - كلا، ابق هنا، وغدا لا تنس موعدنا في الساعة التاسعة.
وركب روكامبول المركبة قائلا لنويل: سر بي إلى الجران أوتيل.
وبعد ذلك بربع ساعة وقفت المركبة أمام باب الفندق، وهناك قهوة خاصة بالفندق، ولم يدخل روكامبول إليه بل دخل إلى القهوة؛ حيث رأى فرانز وميلادي جالسين حول مائدة، يشربان الشاي وهما منهمكان انهماكا عظيما، بمحادثة يظهر أنها كانت خطيرة جدا، حتى إنهما لم ينتبها إليه حين دخوله، ولكنهما لو رأياه لما عرفاه؛ لأنه كان متنكرا بزي الإنكليز.
وجلس روكامبول قرب مائدة مجاورة لمائدتهما، وطلب إلى الخادم أن يأتيه بكأس شراب وبجريدة التيمس، ولما جاءه بالجريدة أدناها من وجهه حيث لم يعد أحد يراه، وجعل يوهم أنه يقرأ وهو في الحقيقة يسمع حديث فرانز وميلادي ولم يفته منه حرف.
وكانت ميلادي تقول لفرانز: ما أجمل ولدي لوسيان فإني ما كنت أحسب أنه جميل إلى هذا الحد، فإنه أبيض البشرة مثلي ولكنه حاد النظر براق العينين كأبيه.
ورد فرانز: بالله لا تذكري اسم أبيه؛ لأني شديد الغيرة عليك منه.
وهزت ميلادي كتفيها إشارة إلى عدم اكتراثها بعلي رمجاه.
وتابع فرانز: لا تحاولي الإنكار؛ فإنك لا تزالين تحبينه.
وضحكت ميلادي ضحكا أزال من فؤاده كل شك وقال لها: إن الغيرة بقدر الحب. - كن مطمئنا؛ فإني لا أنكر أني أحببت علي رمجاه أصدق حب، غير أنه هجرني وتخلى عني فتناسيت حبه حتى نسيته، ولو لم يكن والد ابني لما ذكرته بلسان، وكفى أنه هجرني 20 عاما، ولما فرغ من شئونه السياسية قال في نفسه: إن لي ولدا وامرأة في أوروبا فلأذهب إليهما.
والآن اعلم أني أحتقرك، وعندما أذكر أني من النبيلات أذكر أيضا أنك كنت خادما في منزل أبي، ولكن الجريمة جعلتنا متساويين، وأنا أحتقرك وأحبك في حين واحد؛ لأنك ألفتني دهرا طويلا فتمكن هواك مني وجرى حبك في عروقي مجرى دمي وفي مفاصلي؛ لأن يدي سفكت دم أبي وأنت كنت تقبل هذه اليد، إذن لا تغار علي بعد الآن لأني لا أحب علي رمجاه. - لا ريب عندي فيما تقولين، ولكن علي قد يكون باقيا على حبك، فلو خطر له أن يتخذك زوجة شرعية فماذا تفعلين؟ - ماذا تظن؟ أأتزوجه؟! - ربما.
فابتسمت ابتسام الأبالسة وقالت: اصغ إلي يا فرانز، إن علي رمجاه لا يزال الرئيس الأعظم للخناقين ولديه جيش من أولئك الجنود السريين يستطيع أن يفعل بمساعدتهم ما يشاء، ولكنه سيتخلى عن هذه السلطة كما يقال، فإذا بقيت له فلا بد له من البقاء في الهند فلا نخشاه، وإذا تخلى عنها وحضر إلى أوروبا لا يبقى له شيء من وسائل النفوذ السرية، ويصبح رجلا عاديا كسائر الأشخاص، فكيف نخشاه؟ - لكنه إذا عاد وطلب الاقتران بك، أترفضين؟ - كلا، بل أقبل.
فامتعض وجه فرانز وقال: كيف ذلك؟! - إني أقبل كي يكون لولدي والد معروف، وأما البقية فهي عليك؛ لأنك ذكي الفؤاد، وإذا عاد علي رمجاه إلى أوروبا يكون خاليا من كل سلطة كما تقدم؛ إذ يكون قد اعتزل رئاسة الخناقين، وإذا كان الخنجر لا يخترق صدره؛ فإن السم يمزق أحشاءه.
وعقب هذا الحديث سكوت قصير دل على الرضى، ثم عاد فرانز إلى الحديث قائلا: على ماذا عولت؟ - على أن أرى نائب علي رمجاه. - وماذا تقولين له؟ - أقول له: إني مستعدة لاستقبال علي رمجاه للامتثال لما يريد، لكني أشترط شرطا واحدا، وهو قتل تلك النورية التي قد تطالبني بثروة أمها؛ أي أختي. - ومتى عزمت على مقابلة السير جمس؟ - غدا. - هل أصحبك إليه؟ - كلا، لأني أذهب إليه وحدي في الساعة العاشرة.
فانحنى فرانز إشارة إلى الامتثال، ثم شرب جرعة من الشاي ونظر إلى ما حواليه، كأنه خشي أن يكون أحدا سمع الحديث، فلم ير أحدا؛ لأن روكامبول كان قد توارى عن الأنظار، وكانت الساعة الأولى بعد منتصف الليل.
بعد ذلك ببضع ساعات؛ أي في الساعة الثامنة من الصباح، ذهب روكامبول إلى منزل السير نيفلي وطرق الباب، ففتح له أحد الخدم فقال له: السير نيفلي في المنزل؟ - كلا يا سيدي. - والسيدة؟ - هي أيضا خارج المنزل. - كيف ذلك؟ - إنها خرجت من المنزل مساء أمس ولم تعد بعد. - في أية ساعة؟
فاضطرب الخادم وقال: الحق يا سيدي أني لا أعلم شيئا من الحقيقة، كسائر خدم المنزل، لقد أذنوا لنا أمس بالانصراف ولما عدنا في الساعة الثالثة من الصباح، رأينا جميع الأبواب مفتوحة، ولم نر السيد ولا السيدة.
فارتعش روكامبول؛ إذ كان يعلم أنهم لا يجدون السير نيفلي، ولكن اختفاء فاندا لم يخطر له في بال، فدخل إلى المنزل والعرق البارد ينصب من جبينه وقلبه منقبض أشد الانقباض.
25
لنعد الآن إلى فاندا، لقد تركناها منذعرة وقد رأت تيميلون وشيفيوت واقفين في الباب بعد ذهاب روكامبول.
وكل من قرأ الأجزاء الماضية يذكر ما كان في صدر شيفيوت هذه من الحقد على فاندا حين أطلقت رصاصة على صدرها وأنقذت أنطوانيت من قبضتها، وقد عرف القراء في الجزء السابق أن روكامبول لقيها وهي تحمل تلك الطفلة الموشومة، وهي ابنة ناديا، فضمها إلى حزبه يوم جرد باتير من عصابته، وعهد بالطفلة إليها وإلى صاحبة الخمارة.
فأقامت شيفيوت مع صاحبة الخمارة، بعد سفر روكامبول إلى إنكلترا، ثم وسوس الخناس بين المرأتين فاختصمتا، واضطرت شيفيوت إلى ترك الخمارة والطفلة.
ولم تكن شيفيوت قد خضعت لروكامبول إلا لما تولاها من الرعب، فذهبت في البدء إلى خمارات باريس، وعادت إلى عيشتها السابقة ومشاركة اللصوص إلى أن طاردهم البوليس، فالتجأت معهم إلى الشارع الأميريكي، وهناك لقيت باتير فحكت له ما اتفق لها مع صاحبة الخمارة وحكى لها اتفاقه مع تيميلون وهي واثقة من فوزه، لا سيما بعدما عرفت أن ابنته قد ماتت وبات حرا مطلقا لا يخشى روكامبول.
أما فاندا فإنها لما رأت هذين العدوين الشديدين واقفين بالباب ذعرت ذعرا شديدا، وخطر لها أن تفر منهما وتلقي نفسها من النافذة إلى الحديقة، وأسرعت إلى النافذة، غير أن حبل السير جمس كان لا يزال معلقا في عنقها وطرفه ملقى على الأرض، فأسرع تيمليون ووضع رجله عليه وأسرعت شيفيوت إلى الخنجر الذي تركته فاندا إلى الطاولة. أما تيميلون فإنه أخذ طرف الحبل بيده وشده فضغط على عنق فاندا، واضطرت مكرهة إلى أن تتبعه؛ حذرا من أن تختنق.
وقد حدث جميع ذلك بسرعة عظيمة فقال لها تيميلون: لقد قبضنا عليك هذه المرة ولا سبيل لك إلى النجاة بعد الآن.
ودنت منها شيفيوت وصفعتها صفعة شديدة صاحت لها فاندا صيحة ألم بصوت مختنق، وحاولت شيفيوت أن تخنقها بيديها فحال تيميلون دون قصدها وقال: ارجعي، لا أريد أن تخنقيها.
فاعترضته شيفيوت وقالت: من عساه يكون أولى مني بخنقها ولا يزال أثر رصاصها بصدري؟ - هو ما تقولين، ولكن الوقت لم يحن بعد، وثقي أني لا أدع أحدا يخنقها سواك.
وعند ذلك دخل باتير فقال لهما تيميلون بلهجة السيادة: أوثقا يديها وضعا منديلا في فمها كي لا تصيح؛ لأننا سنجتاز مسافة شاسعة قبل الوصول إلى حيث نسير.
وبعد ذلك بربع ساعة كانت فاندا ملقاة في مركبة وهي موثوقة اليدين والرجلين بحراسة شيفيوت وباتير، فركب تيميلون بإزاء السائق وسار بالمركبة إلى جهة الشارع الأميريكي.
ولقد وصفنا هذا الشارع للقراء، وكان من شأنه في ذلك العهد الذي نقص فيه هذه الرواية أنه كان ملجأ أمينا للصوص؛ لأن الجنود طالما طاردتهم في ذلك المكان فكانت تندحر عنهم كل مرة بخسائر؛ لكثرة ما كان فيه من العقبات والدهاليز الخفية التي يلجأون إليها، ولما عجزت الشرطة عنهم تركتهم وشأنهم.
وقد اتفق مرة لتيميلون حين كان بوليسا سريا، أنه اكتشف موضعا في ذلك الشارع لا يعرفه أحد؛ وذلك أن لصا سرق مرة مبلغا كبيرا من المال، فقبضت الحكومة عليه ولكنها لم تعثر بالنقود، فأرسلت إليه تيميلون كي يغريه على الإقرار فاتفق معه على أن ينقذه من السجن، ويقتسم وإياه النقود إذا أرشده إليه، فرضي اللص؛ كي ينقذه كما وعد، فأعطاه مبردا لكسر قيوده، وقال له: إذا أقبل الظلام وكسرت قيدك، أسرع إلى النافذة تجد حبلا معلقا فيها، فتمسك به واخرج من السجن تجدني في انتظارك.
وفي المساء كسر اللص قيده وكان الظلام حالكا والنافذة على علو شاهق فخرج إليها واعتصم بالحبل، فما نزل خطوة حتى انقطع الحبل بدهاء تيميلون فانقلب يهوي إلى الأرض وتحطم ومات وفاز تيميلون وحده بالنقود وبمعرفة ذلك المكان الخفي.
فلما وصلت المركبة التي يقودها تيميلون إلى الشارع الأميريكي سار بها إلى منعطف خفي فأوقفها، ونزل إلى فاندا فحل قيود رجليها وقال لها: يجب أن تسيري معنا الآن إلى حيث نريد وإني لا أريد قتلك لكنك إذا حاولت الهرب قتلتك في الحال دون إشفاق.
فلم تجد فاندا أولى من الامتثال وسارت يخفرها باتير وشيفيوت ويتقدمهم تيميلون ؛ ليرشدهم إلى الطريق.
وساروا نحو ربع ساعة حتى اقتربوا من الآبار، فقال باتير: أعرف بئرا خفية، ألا تريد أن تراها أيها الرئيس؟
فقال تيميلون: إن الآبار التي تعرفها أنت يعرفها سواك، ولا أريد أن يرى أحد هذه الأسيرة الجميلة. - إلى أين إذن نسير؟ - إلى بئر الشيطان. - إنها بئر شهيرة لا يذهب إليها أحد من الناس. - ذلك؛ لأنه لا يوجد بينكم من يعرف مدخلها، أتعرف مدخلها أنت؟ - كلا، ولم أجد أحدا من الرفاق يعرفه. - إذن، اتبعوني؛ لأني أقدم منكم في المهنة وأعرف ما لا تعرفون، وأنت أيتها الحسناء لا تنسي ما قلته لك؛ لأن حياتك موقوفة على إشارة تبدو منك.
وسار بهم تيميلون في طريق مقفرة لا يسلكها أحد من الناس، حتى انتهى إلى سور قديمة تهدم معظمها؛ لتقادم عهدها.
فدخل منها إلى حديقة مهجورة ذلت أغصانها، فسار إلى آخرها ووجد هناك كثيرا من الأحجاب والأدغال بعضها فوق بعض، فالتفت إلى شيفيوت وقال لها: احرصي جيدا على الأسيرة، وأنت يا باتير هلم معي إلى إزاحة هذه الأدغال والحجارة.
فاقترب باتير منه وتعاون الاثنان على إزاحتها؛ فانكشف لهم فم بئر عمقها نحو مترين، فألقى تيميلون نفسه فيها وأخرج من جيبه شمعة وكبريتا فأنار الشمعة وجعل يفتش في البئر ويمر يديه على جدرانها، فكان باتير وشيفيوت ينظران معجبين وفاندا تنظر نظرة الرعب، وقلبها ينذرها بمصاب، وأن هذا الرجل يعد لها عقابا هائلا لا يخطر إلا في بال الأبالسة.
وعثرت يد تيميلون، بالجدار بينما كان يبحث، فرأوا أن ذراعه قد دخلت في الجدار، ثم شاهدوا حجرا ضخما قد سقط وفتح فيه منفذا يكفي لمرور إنسان، فعاد وعليه دلائل الفوز إلى الطرف الأخير من البئر وقال لباتير: هات الأسيرة الآن.
فحمل باتير فاندا بين يديه وأدلاها إلى البئر بالحبل الذي كانت موثوقة به، ولما بلغت إلى البئر قال لها تيميلون: انزلا أنتما الآن.
فنزل باتير وتبعته شيفيوت فرأيا أن ذلك المنفذ الذي فتح في الجدار يؤدي إلى سرداب طويل.
فقال لهما تيميلون : احرصا على الأسيرة الآن.
فقالت له شيفيوت: أتريد أن أخنقها؟ - كلا، لم يحن الوقت بعد.
ثم دخل من المنفذ إلى الدهليز قائلا: اتبعوني.
فدخلت فاندا وتبعتها شيفيوت وهي تنهال عليها بأقبح الشتائم، وسار باتير وراءهم فكان تيميلون يتقدمهم وبيده الشمعة، فيضطر إلى الانحناء من حين إلى حين؛ لقلة ارتفاع قبة السرداب.
ثم وقف أمام باب ضخم من الخشب، وكان له قفل كبير مفتاحه فيه، فأدار المفتاح ففتح الباب وهب منه هواء بارد؛ يدل على شدة الرطوبة في هذا المكان.
فدخل تيميلون وتبعه جميعهم، ووجدوا قبوا متسعا لا منفذ منه، وجعلت الجراذين والفيران تتراكض منذعرة بين أرجلهم، فقال تيميلون لفاندا بلهجة المتهكم: أرجو على الأقل أن لا تمل سيدتي في هذه القاعة؛ لأن لها رفاقا فيها!
ثم أشار إشارة إلى باتير فقلب فاندا إلى الأرض، وتعاون مع شيفيوت على تقييد رجليها وتركاها ملقاة على ظهرها، فدنا تيميلون وأخرج الكمامة من فمها وقال: لا بأس من أن تصرخي وتستغيثي فعسى أن ترسل إليك الأقدار من يعينك.
فنظرت فاندا نظرة احتقار وقالت له: إني لم أخف، ولن أخافك، فافعل بي ما تشاء.
فقالت لها شيفيوت: سيكون لك خير غذاء فكلي من هذه الجراذين إلى أن تأكلك.
فاضطربت فاندا وهالها ما سمعته من هذه الشقية فقالت: ليكن ما يريده الله، ولا بد لروكامبول أن يبحث عني ويجدني، والويل لكم أيها الأشقياء.
فقال لها تيميلون: وأنا في انتظار ذلك، أتمنى لك ليلة مباركة.
ثم خرج مع رفيقيه فساد الظلام في القبو وسمعت فاندا صوت قفل الباب وصرير المفتاح، ثم سمعت خطوات أولئك الأشقياء هنيهة، وانقطع بعد ذلك ولم تعد تسمع غير صوت الجرذان.
ولما صعد تيميلون إلى سطح البئر الأول، وضعوا الحجارة والأدغال على بابه كما كانت.
وقالت شيفيوت لتيميلون: لقد أحسنت بهذا الانتقام، غير أني كنت أؤثر أن أخنقها بيدي. - لماذا؟ - لأننا نضمن موتها. - نعم، ولكنها إذا ماتت خنقا تموت دون عذاب. - لقد أصبت أيضا، ولكني أخشى أن يدركها روكامبول.
فضحك تيميلون وقال: وأنا أرجو أن يدركها روكامبول فقد نصبت له الفخ. - أي فخ تعني؟ - فاندا.
ثم سار الثلاثة في سبيلهم دون أن يوضح لها تيميلون مقاصده.
26
في صباح اليوم التالي؛ أي بعد بضع ساعات من زمن القبض على فاندا والسير جمس، حيث وقع أحدهما في قبضة روكامبول والآخر في قبضة تيميلون، فتح صاحب الخمارة التي يقيم فوقها مرميس وجيبسي خمارته، جاء حمالان يحملان أثاث تيميلون؛ ليضعاه في الغرفة التي استأجرها في منزله بصفة شيخ الخدامين.
وكان تيميلون يسير وراءهما متنكرا، فدخل إلى الخمارة وطلب إلى صاحبها أن يعطيه مفتاح غرفته، فأعطاه المفتاح وقال له: لقد انتظرتك أمس فلم تحضر!
فاعتذر له تيميلون عذرا مقبولا، ثم دعاه إلى أن يشرب كأسا معه فرضي الخمار شاكرا وجلس الاثنان حول مائدة بينما كان الحمالان ينقلان الأثاث إلى الغرفة.
وفيما هما يتحدثان بدرت التفاتة من تيميلون إلى سطح القبو المعد لتخزين الخمر؛ فانتبه وجعل ينظر نظرة المراقب.
والعادة في أيام الشتاء حين تكثر الوحول، أن كل خمارة وتاجر وصاحب قهوة وغيرهم يضع الرمال في أرض دكانه أو مخزنه كي لا يلوثها الداخلون إليها بالوحول فتظهر آثار أقدامهم على تلك الرمال.
وقد استلفت أنظار تيميلون أنه رأى آثار أقدام مختلفة فوق سطح قبو الخمارة ورأى أولا آثار قدمين حافيين فعلم أنهما قدما الخمار نفسه؛ لأنه خلع حذاءه حين النزول إلى القبو، ثم رأى آثار قدمين ضخمين ورأى بينهما آثار حذاء لطيف، فداخلته الظنون وترك الخمارة هنيهة بحجة مراقبة أثاثه وخرج إلى الشارع.
وكانت الوحول لا تزال على حالها في ذلك الشارع من الليلة السابقة؛ لأن الكناسين لم يكونوا قد أزاحوها بعد، ورأى فوق تلك الوحول آثار الأقدام نفسها التي رآها على رمال سطح القبو.
فاقتفاها، ورأى أثر عجلات مركبة وقفت قرب منزل الخمار ولاحظ آثار الأقدام قد احتجبت عند هذه العجلات، فأيقن أن الذين دخلوا إلى القبو هم الذين قدموا بالمركبة.
وعاد تيميلون إلى غرفته وأطلق سراح أحد الحمالين وأعطاه أجرته وبقي الآخر وهو باتير الذي كان متنكرا بملابس حمال، فقال له باتير: إني أنتظر أوامرك. - صبرا لأرى إذا كان الطير لا يزال في القفص.
ثم قام إلى الجدار وأزاح عنه الورق ونظر من الثقب الذي ثقبه فيه كما تقدم، فرأى منه أن جيبسي لا تزال نائمة، ورأى قرب سريرها مرميس جالسا حول مائدة عليها كتاب مفتوح وقد وضع رأسه بين يديه وجعل يقرأ في ذلك الكتاب؛ لأنه كان يدرس اللغة الإنكليزية كما أمره روكامبول باعتناء عظيم؛ رجاء أن يتعلمها ويتمكن يوما من محادثة من يحب فيها.
فسأله باتير: ألا يزال في الغرفة؟
أشار إليه تيميلون إشارة المصادقة، ثم سد الثقب بقطعة من العجين كانت في جيبه وأعاد الورق إلى ما كان عليه وعاد إلى باتير قائلا: إن الطير لا يزال في قفصه ولم يبق علينا إلا إيجاد السير نيفلي. - من يعلم ماذا صنع به روكامبول؟ - أظن أني أعلم؛ لأن روكامبول قد جاء أمس مع ميلون إلى هذا المنزل ودخلا إلى الخمارة. - كيف عرفت ذلك؟!
فضحك تيميلون وقال: إنك أيها الأبله لم تكن إلا لصا، ولكنك لم تخدم البوليس، اصغ إلي الآن تعلم.
ثم ذهب وإياه إلى آخر الغرفة فجلس كل منهما على كرسي، وجعل تيميلون يكلم باتير همسا قائلا: أتذكر أننا حين ذهبنا ليلة أمس إلى منزل السير نيفلي رأينا مركبة واقفة قرب باب الحديقة؟ - نعم. - إن هذه المركبة كانت لروكامبول استخدمها لاختطاف الإنكليزي، ولم نكن نستطيع عند ذلك مقاومته؛ لأنه كان مع رجاله وهو أشد منا، فاكتفينا باختطاف فاندا.
فقال باتير، عند ذكر فاندا: إني لا أزال على رأي شيفيوت بشأن هذه المرأة. - ما هو رأي شيفيوت؟ - أن نقتلها في الحال ونأمن شرها.
فهز تيميلون رأسه وقال: لقد قلت لك إن لي مأربا في الإبقاء عليها، فلا تجادلني.
وأحنى باتير رأسه إشارة إلى الخضوع، وعاد تيميلون إلى حديثه السابق وقال: إن روكامبول اختطف الإنكليزي في مركبة، وقد وجدت آثار عجلات مركبة قرب منزل هذا الخمار، ورأيت في خمارته أثر حذاء ضخم عرفت مساميره في الأرض، وهو حذاء ميلون دون شك الذي كان يحمل الإنكليزي على كتفه، ورأيت بقربه حذاء لطيفا لا شك عندي أن صاحبه روكامبول. - أتظن أنهم جاءوا به إلى هنا؟ - بل أؤكد. - إذن، إن الخمار شريك لهم؟ - وهذا لا ريب فيه. - أين تظن أنهم وضعوا الإنكليزي؟ - لم أعلم بعد، وربما وقفت على الحقيقة هذا المساء، اصغ إلي الآن؛ إنه يجب أن تجتمع بشيفيوت. - إنها تنتظرني في زاوية شارع مرتين. - إذن اذهب إليها وسيرا معا إلى بئر الشيطان بالطعام إلى فاندا؛ لأني لا أحب أن تموت جوعا، بل أحب أن تبقى في قيد الحياة لحاجتي إليها الآن، ولا أظن أن الجرذان أكلتها.
وحاول باتير أن يعترضه فقال له تيميلون ببرود: ألا تريد أن تنتقم من روكامبول؟ - أعندك شك في ذلك؟ - إذن اعلم أنك إذا خالفت أقل أمر من أوامري لا أكون مسئولا عن شيء، بل إني أفعل خيرا من هذا؛ وهو أني أعقد الصلح مع روكامبول وأدعك تفعل ما تشاء.
فاضطرب باتير لهذا الإنذار وقال: كفى، مر بما تريد. - تذهب إلى فاندا بسلة من الطعام، ولا تفارقها إلا متى رأيتها اكتفت من الأكل. - أيجب أن أحل وثاق يديها؟ - دون شك، ولكنك تعيد وثاقها متى فرغت من الطعام، ويجب أن تأخذ معك غدارة. - لماذا؟! - لقتل شيفيوت إذا تعرضت لفاندا بشيء من القسوة. - سأمتثل لما تريد.
ففكر تيميلون هنيهة ثم قال لباتير: انظر إلى هذه النافذة، إنها تطل على الشارع، ويجب أن تحضر إليه عند منتصف الليل، فإذا رأيت النافذة مفتوحة اخلع حذاءك واصعد إلى غرفتي وادخل إلي؛ كي نفتش عن الإنكليزي.
فامتثل باتير وانصرف لتنفيذ أوامر تيميلون، أما تيميلون فإنه بقي في غرفته إلى الظهر وهو يراقب راجيا أن يرى روكامبول وميلون فلم يحضر أحد منهما، وفيما هو يحاول الانصراف رأى اثنين من الحمالين يدخلان برميلا ضخما من الخمر إلى قبو الخمارة، والخمار يساعدهم لضخامة البرميل، فعرض تيميلون مساعدته على الرجل فرضيها شاكرا.
وعاونهم حتى أدخلوا البرميل إلى القبو وهو يراقب كل ما يراه، فلما وصل البرميل إلى القبو المظلم أنار الرجل شمعة كي يستنير بها ويضعها موضعه، فاندهش تيميلون؛ لأنه رأى في أرض القبو الموحلة أثر الأقدام الذي رآه في الخمارة وفي الشارع!
وبعد ذلك صعدوا جميعهم إلى الخمارة فراقب تيميلون باب القبو وشرب كأسا من الشراب مع الرجل وخرج، فما مشي هنيهة في الشارع حتى رأى ميلون قادما إلى الخمارة فقال في نفسه: إنه قادم للبحث عن فاندا، ثم مضى في شأنه وهو يضحك ضحك الساخر.
وفي الساعة العاشرة من المساء عاد إلى غرفته وأضاء الشمعة وفتح النافذة المطلة على الشارع، وقال: لننتظر الآن إلى أن تقفل الخمارة أبوابها، ويتفرق الناس.
27
وأقام تيميلون في منزله ينظر من الغرفة المطلة على الشارع فيراقب المارة ويعود إلى الغرفة المشرفة على الخمارة، فيراقب زبائنها، فكان يسمع أقدام المقيمين في هذا المنزل يصعدون إلى غرفهم للمبيت فيها، وبقي على ذلك إلى منتصف الليل، فرأى صاحب الخمارة أقفل باب خمارته المتصل بالشارع، ودخل من الباب المتصل بالمنزل إلى غرفة له عند مدخل المنزل العام فدخل إليها.
كل ذلك جرى وتيميلون يراقب ما حوله كل المراقبة، حتى إذا انتصف الليل وسمع غطيط النائمين، ذهب إلى النافذة المطلة على الشارع فرأى باتير واقفا ينتظره، فأشار إليه أن يوافيه إلى الباب العمومي، ثم خلع نعليه ونزل ففتح الباب برفق دون أن يسمع له أحد حسا، فدخل الاثنان غرفة تيميلون وجعلا يتحادثان بصوت منخفض، فقال تيميلون: أرأيت الأسيرة؟ - نعم. - ألم تمت ولم تأكلها الجرذان؟ - كلا، لأني لم أر في حياتي أشد منها أعصابا، وأثبت جنانا بين النساء. - كيف ذلك؟! - ألا تعلم أننا أوثقنا يديها ورجليها وألقيناها على الأرض؟ - نعم! - ولكننا رأيناها واقفة، ولا أدري كيف تمكنت من الوقوف؟! - ألعلها قطعت وثاق رجليها؟ - كلا، فقد كانت موثقة كما تركناها، لكن يظهر أنها لقيت عناء شديدا من الجرذان؛ لقد لمحت في خدها أثر العض الموجع ولذلك بذلت جهدها فوقفت وسحقت بعض هذه الجرذان. - أكانت عليها علائم اليأس؟ - كلا، بل كانت هادئة رابطة الجأش، وقد حاولت شيفيوت أن تسيء إليها فمنعتها. - وهل أكلت؟ - بشهية عظيمة! فإني حللت وثاق يديها، ولما انتهت من الطعام أعدت الوثاق فما أبدت مقاومة! - أبدر منها شيء يدل على أملها بالنجاة؟ - لم تقل كلمة بهذا الشأن، لكنها هادئة. - سيان عندي كيف كانت، غير أن المهم أن نسرع بالعمل. - أعلمت أين هو الإنكليزي؟ - بالتقريب، هلم بنا.
ثم قام تيميلون إلى خزانة وأخذ منها حبلا وضعه في جيبه وقال لباتير: اعلم أن خطرا عظيما يتهددنا؛ لأن جميع عصابة روكامبول يقيمون في هذا المنزل، وأخصهم من رجال عصابتك القديمة، فإذا شعروا بنا كنا من الهالكين؛ ولذلك يجب الانتباه الشديد ولا سيما حين نزولنا إلى السلم؛ كي لا يشعر بنا الخمار. - سأكون على خير ما تريد، وما زلت أرجو أن أنتقم من روكامبول! - كل آت قريب.
ثم أخذ من خزانته حلقة ضخمة فيها كثير من المفاتيح المختلفة وخرجا من الغرفة إلى السلم، فكان تيميلون يقف عند كل درجة ويصغي فلا يسمع غير غطيط النائمين.
فلما وصلا إلى آخر السلم عطفا إلى قبو الخمار فجعل تيميلون يمر يده على الباب متلمسا قفله حتى عثر به، فقال لرفيقه: إن كسر هذا الباب سهل ولكني أخشى أن ينتبه لصوته النائمين.
ثم أخذ المفاتيح من جيبه يجربها في القفل بصبر عجيب حتى فتح، ودخل إليه مع باتير وأقفل الباب، ثم أضاء شمعته، وجعل يفحص هذا القبو فحصا مدققا فلم يجد أثرا للأسير، فطرق كل موضع في جدرانه عله يجد بابا سريا فلم يجد، ففتح البراميل وأزاحها من موضعها فلم يعثر بشيء، ثم أرجعها إلى ما كانت عليه وجعل يفحص الأرض فرأى عليها آثار الأقدام، واتبعها فرأى أنها انتهت عند منتصف أرض القبو فقال في نفسه: لا بد أن يكون تحت هذا القبو قبو آخر، فأعطى الشمعة لباتير ووضع أذنه على الأرض وأصغى؛ إذ قال في نفسه إن الأسير مهما بالغوا بشد الكمامة على فمه فإنه يستطيع الأنين، لكنه لم يسمع شيئا فعاد إلى تجربة أخرى، وهي أنه جعل يزيل الوحول والأتربة عن المكان الذي انتهت إليه آثار الأقدام فانكشفت له حلقة ضخمة ففرح فرحا عظيما وتعاون مع باتير على رفع الحلقة فارتفع معها باب من الخشب كانت مغروسة فيه وانكشف له من تحت هذا الباب بئر عمقها نحو ثلاثة أمتار.
وعند ذلك أخذ الشمعة من باتير وأدناها من فم البئر فرأى جسما ممدودا على الأرض لا حراك فيه فوقف شعر رأسه من الذعر؛ لأنه خشي أن يكون قتيلا، وإذا مات السير جمس ضاعت أمانيه.
غير أنه بقي له شيء من الرجاء، فأخذ الحبل الذي أحضره معه فلف بعضه على وسط باتير وعقده، فقال له باتير: ماذا تصنع؟! - سوف ترى، ثبت قدميك في الأرض.
ثم أمسك الحبل ونزل إلى البئر والشمعة بيده، ورأى السير جمس ممدودا، فلمس جسمه فرآه باردا، فوضع يده على قلبه فوجده ينبض، فأجال نظره في القبو فرأى طاقة مفتوحة تنفذ إلى المزاريب فانتبه للحال وقال: إنهم لم يدعوا هذه النافذة مفتوحة إلا التماسا للهواء كي لا يموت، فهو إذن غير ميت، وإنما قد سقوه مخدرا فأصابه ما أصاب أنطوانيت حين أخرجوها من سجن سانت لازار.
وحاول أن يستوثق من صحة ظنه؛ ففتح فم السير جمس ونظر إلى لثته فوجدها حمراء؛ وذلك يدل على الحياة فقال في نفسه: سنتم البحث في غير هذا المكان والمهم الآن إخراجه من هذا القبو.
وعند ذلك أخذ حبله الطويل فلفه تحت ذراعي السير جمس وعقده ثم تسلق على الحبل حتى بلغ سطح البئر فاستعان بباتير ونشلا السير جمس من البئر.
فلما رآه باتير اضطرب وقال: إنه ميت! وأية فائدة لنا منه؟! - كلا، ولو كانوا يريدون قتله لقتلوه في منزله ولم يتكلفوا عناء نقله إلى هذا المكان. - ولكن جسمه بارد وقلبه ساكن ولا أثر للحياة فيه.
فضحك تيميلون ضحك المشفق وقال: يظهر جليا أنك لا تعرف شيئا من أعمال روكامبول.
فذعر باتير ذعرا شديدا بدت لوائحه على وجهه فقال له تيميلون: ألعلك كنت تحسب مخاصمة روكامبول من الأمور السهلة؟ - كلا، ولكن لم يخطر في بالي أنه يحيي ويميت؟ - بل هو يفعل أكثر من ذلك، فإذا كان الخوف قد تولاك فلا يزال الوقت فسيحا لديك.
فتحمس باتير وقال: كلا، إن ثقتي بك أعظم من خوفي منه.
وعند ذلك ركع تيميلون أمام السير جمس وهو يعيد النظر إليه، وكلما حدق في وجهه رأى أن حالته تشبه الحالة التي كانت عليها أنطوانيت فيزداد وثوقا بحياته.
وكان باتير يراقبه، فلما رأى دلائل الرجاء على وجه تيميلون قال له: إذن هو حي؟ - دون شك. - ماذا عزمت أن تفعل؟ - يجب أن نرجع كل شيء إلى ما كان عليه، فإنهم لا بد أن يدخلوا إلى القبو ثم يجب أن تحمل السير جمس إلى غرفتي.
فجعل الاثنان يصلحان البراميل وأعادا باب البئر إلى موضعه وأرجعا الوحول والتراب إلى ما كانت عليه حتى اختفى أثر الباب، فأمر تيميلون باتير بحمل السير جمس فخرجا من القبو وأقفلا بابه وصعدا بجمس إلى غرفة تيميلون، دون أن يشعر بهما أحد.
وبعد أن وضعه فوق سريره قال باتير: إنك تؤكد إنه حي، ولكنه ضائع الرشد دون شك، فكيف يرد إليه الصواب؟! - لا حاجة إلى ذلك فهو يفيق من تلقاء نفسه. - متى؟ - إنه شرب المخدر ليلة أمس وسيستفيق ليلة غد كما جرى لأنطوانيت. - وما يجب أن نصنع من الآن إلى الغد؟ - يجب أن نهتم بروكامبول.
فاتقدت عينا باتير بشرر الحقد، وفتش تيميلون جيوب السير نيفلي فلقي فيها أوراقا مالية تبلغ قيمتها ألف ريال؛ فسر بها وقال: سنحارب بهذا المال روكامبول، ويعجبني من الإنكليز أنهم يدفعون نفقات الحروب، ثم أخذ من هذه الأوراق 300 فرنك دفعها لباتير قائلا: اذهب الآن كما أتيت وسأقفل الباب الخارجي بعد ذهابك، وفي صباح غد تذهب إلى منزلي في شارع بلفرند ثم تقابل البواب وتعطيه هذا المال وتكلفه عني أن يشتري لي برميلا من البارود.
فعجب باتير وقال له: ماذا تريد أن تصنع بالبارود؟! - ستعلم ذلك فيما بعد. - أهذا كل ما تأمرني به؟ - كلا، بل يجب أيضا أن تذهب إلى امرأة عجوز تقيم في شارع فيلديو ولا بد أنك تعرفها. - ما اسمها؟ - فيليبيت. - عرفتها. - إذن أرسلها إلي فإني بحاجة إليها. - ومتى يجب أن أعود؟ - في الليلة القادمة في مثل هذه الساعة ...
وانصرف باتير لتنفيذ أوامره وبقي تيميلون وحده أمام السير جمس.
28
بينما كان تيميلون منصرفا بكل قواه إلى الانتقام بعد أن ضحى حياته مقدما في سبيله، وبينما كان يعد الوسائل الجهنمية لبلوغه أمانيه كانت فاندا لا تزال سجينة في بئر الشيطان.
وقد علم القراء كيف دخلت إلى هذا السجن، وكيف أن تيميلون أوثق يديها ورجليها، وأمر باتير حين أرسله بالطعام إليها أن يحميها من شيفيوت.
وقد أقامت في تلك البئر يوما وليلة كانا لديها كالأدهار؛ لفرط ما لقيته من الهول في مطاردة الجرذان، غير أنها لم تيأس وكانت تذكر روكامبول في ساعاتها الهائلة فتطمئن نفسها وتقول: أليس هو الذي أنقذ أنطوانيت من سجن لازار فأماتها وأحياها؟ أليس هو الذي أنقذ مدلين من مخالب مورليكس، وقد ذهب للبحث عنها في أقصى سيبيريا؟ أليس هو الذي أنقذ جيبسي من النار وقد وضعها الخناقون على المحرقة؟ إذن هو ينقذني دون شك ولا خوف علي أن يقتلني تيميلون، إذا كان هذا قصده لفعل، وقد يكون مراده أن يميتني جوعا، لكني أستطيع الصبر على الجوع أربعة أيام، ولا بد لروكامبول أن يهتدي إلى سجني في خلال هذه المدة فإنه يبحث عني الآن دون شك؛ لأنه لم يجدني في منزل السير نيفلي.
وكانت قد ألفت الظلمات المكتنفة بها وتلك الجراذين التي كانت تجول بين قدميها، ولم تكن تعلم المسكينة كم مضى عليها من الزمان في تلك البئر؛ لأن الظلام كان سائدا فيها، ولا ينفذ إليها نور النهار.
وفيما هي على ذلك، سمعت عن بعد أصواتا ووقع أقدام، ورأت أشعة من النور تنفذ إلى سجنها من خلال الباب، وجاشت نفسها بالأمل وقالت: ألا يمكن أن يكون روكامبول قادما لإنقاذي؟ ولكن ساء فألها لسوء حظها؛ لأن الباب انفتح ورأت باتير داخلا تصحبه شيفيوت، فقالت في نفسها: لقد دنت الساعة، وما هما قادمان إلا لقتلي، فعولت على الدفاع بأسنانها؛ لأنها كانت موثوقة اليدين والرجلين.
إلا أن باتير طمأنها بقوله: إننا قادمان بطعام العشاء لسيدتي الدوقة.
وقالت شيفيوت: تبا لك من شقية! لقد أكرهوني على أن أحضر لك العشاء، وأنا لا أريد إلا أن أمتص دم عروقك.
وأجابتها فاندا بنظرة احتقار، وأخرج باتير مسدسا من جيبه وقال لشيفيوت: إنك تعلمين أوامر الرئيس ولا تضطريني إلى تنفيذها فيك أو أقتلك لا محالة.
وعضت شيفيوت شفتها من القهر وقالت: حسنا ... سأصبر.
أما فاندا فإنها استنتجت من ذلك أن تيميلون لم يحكم بموتها بعد، وبالتالي فهي تستطيع أن تأكل آمنة من أن يكون الطعام مسموما.
وبينما كان باتير يحل وثاق يديها كانت شيفيوت تخرج الأكل من السلة وتضعه أمام المصباح الذي جاءت به، وكانت الجرذان تهرب متبددة حين رأت أشعة النور، وشيفيوت تتهكم على فاندا وتشتمها بأقبح الألفاظ.
وكان هذا الطعام مؤلفا من خبز وجبن ودهن خنزير ونصف زجاجة من النبيذ، وجعلت تأكل بشهية وهي غير مكترثة بما تسمعه من الشتائم وتمكنت من أن تأخذ قطعة من الدهن وتجلس عليها.
ولما انتهت من طعامها أوثق باتير يديها وذهب مع شيفيوت وأقفلا الباب وانصرفا، فعادت الظلمات إلى ما كانت عليه.
غير أن فاندا بينما كانت تأكل والنور أمامها كانت تتظاهر بالاشمئزاز من شتائم شيفيوت وتنظر إلى جدران البئر نظر الفاحص، فرأت أن جدرانه كثيرة الثقوب والحفر، ورأت في أعلى أحد الجدران ثقبا يشبه عش الطيور فخطر لها في الحال خاطر الفرار.
وكان باتير قد أوثقها وأبقاها على ظهرها فوق الأرض، غير أن يديها كانتا مقيدتين وبقيت أصابعها مطلقة دون قيد، فجعلت تبحث بأصابعها في الأرض عن قطعة الدهن التي اقتصدتها من الطعام حتى عثرت بها، وجعلت تمسح بها وثاق يديها حتى أذابتها كلها فوق الوثاق.
وعند ذلك انقلبت على بطنها بحيث أصبحت يداها بارزتين؛ لأنهما كانتا مشدودتين وراء ظهرها.
وكان النور قد زال وانقطعت الأصوات، فعادت الجرذان إلى الطواف حول فاندا ولكنها لم تنتهرها في هذه المرة؛ بغية إرهابها وإبعادها، بل إنها سكتت ولم تتحرك كأنها أصبحت تأنس بالجرذان.
وشم الجرذان رائحة الدهن فأقبلت تلتمسه فوق وثاق يدي فاندا فتلحس الوثاق ثم تطلب المزيد فتقرضه بأسنانها الحادة، كل ذلك وفاندا صابرة لا تتحرك والجرذان تلعب فوق ظهرها وتتلهى بقرض الوثاق لما رأت عليه من الدهن.
فلما أحست أن الجرذان قد أكلت كثيرا من الوثاق حتى ضعف تحركت حركة عنيفة، فتفرق الجرذان من حولها ثم شدت الوثاق فقطعته وصارت مطلقة اليدين وعند ذلك حلت بيديها وثاق رجليها، وأصبحت قادرة على استعمال أعضائها وسحق الجرذان برجليها، ولكنها لم تزل أسيرة بسجنها المظلم.
وفيما هي مستندة إلى الجدار تعمل الفكرة في طريقة النجاة، شعرت أن الجرذان تتراكض وعلمت من صياحها أنها منذعرة كأنما فاجأها عدو ولم تكن تتوقع مفاجأته، فرفعت عينيها في إحدى زوايا البئر فرأت نقطتين تنيران كالقبس، فقالت في نفسها: لا شك أنهما عينا هرة وأن الله أرسلها لي معينا على هذه الجرذان.
ولم يطل وقوف هذه الهرة؛ فإن فاندا رأتها وثبت وتلا وثوبها صيحة الجرذان، فدنت فاندا من الهرة وانتهرتها، فهربت وتسلقت مقدار متر من الجدار، ثم وقفت والتفتت فرأت فاندا بريق عينيها، وعرفت الطريق التي سارت فيها، فتقدمت فاندا أيضا فصعدت ووقفت في مركز أعلى فمدت فاندا يديها ومشت إلى الجدار الذي تسلقته الهرة حتى وصلت إليه.
وكانت جدران البئر كثيرة الثقوب، وقد عرفت فاندا ذلك حين كان باتير في البئر؛ فإنها رأت الحفر على ضوء مصباحه.
وقد كانت رأت أيضا شبه كوة في مرتفع الجدار فقالت في نفسها: لا شك أن هذه الكوة منفذ إلى الخارج خفي عن تيميلون وإلا لما نفذت الهرة إلى هذا المكان، فرجح لديها أمل الفرار، فأخذت تتسلق الجدار بصبر عجيب فتبحث بيديها عن الثقوب فإذا ظفرت بها تعلقت بها ثم جعلت تبحث برجليها عن ثقوب أخرى ترتكز عليها، فإذا صعدت واستقرت ترتاح قليلا ثم تعود قليلا إلى البحث عن ثقوب أعلى فتتسلقها وتنشب فيها يديها ورجليها.
كل ذلك والهرة تختفي وتغيب فترشدها ببرق عينيها إلى الطريق.
ولبثت على ذلك نحو ساعة وهي معرضة للسقوط في كل حين، حتى أوشكت أن تبلغ إلى آخر الجدار واختفى عنها أثر المنفذ ولكنها شعرت بأنفاس حامية تهب فوق شعرها فعلمت أنها أنفاس الهرة، فزجرتها فهربت وولجت من المنفذ فاهتدت فاندا إليه، ولم يكن غير هنيهة حتى نشبت يديها بأطرافه وأمنت السقوط.
وكانت هذه الكوة كبيرة يستطيع الإنسان أن يمر بها، وهي منفذ دهليز طويل لا يزيد ارتفاعه عن متر، فدخلت فاندا إليه وعللت نفسها بقرب النجاة، فجعلت تزحف على بطنها فيه زحف الأفاعي فلم يطل زحفها حتى رأت نورا خفيفا يتجلى لها، فعلمت أنه نور النهار.
وكان الدهليز كثير التعاريج، فجعلت فاندا تزحف على بطنها حتى رأت عن بعد عشرة أقدام ذلك المنفذ الذي يخرج منه النور؛ ففرحت فرحا لا يوصف، ولم يعد لديها شك بالنجاة لا سيما وقد رأت الدهليز يرتفع سطحه ويتسع كلما دنت من المنفذ؛ بحيث لم تعد في حاجة إلى الزحف، وبلغت ذلك الثقب الذي يخرج منه النور ورأت أنه يشرف على بئر أخرى لا سطح لها؛ لأنها رأت النور يتدفق فيه من جميع الجهات.
غير أن هذا الثقب كان ضيقا جدا يستحيل على الإنسان أن يمر منه مهما كان نحيلا، ففحصته فاندا وصاحت صيحة يأس؛ لأنها رأت أن المنفذ من صنع الطبيعة لا من صنع الإنسان، وهو في صخر أصم لا يفيد في توسيعه غير الآلات، ومن أين تجدها في سجنها الضيق؟
ولكنها جعلت تنظر من هذا الثقب إلى البئر المشرف عليها فرأت في أرضها كثيرا من الرمال ومصطلى للنار وبعض أخشاب متفرقة وأباريق مكسرة، فاستدلت من ذلك أن بعض اللصوص يلجأون إلى هذه البئر ويبيتون فيها، فقالت في نفسها: إنهم قد يحضرون فأطمعهم بالمال فينقذونني وعند ذلك عاد إليها الرجاء بالنجاة.
ولبثت على ذلك عدة ساعات تستنشق هواء نقيا وهي آمنة من الجرذان، ثم رأت أن النور جعل يضعف بالتدريج فعلمت أن النهار قد انقضى، وبعد حين أقبل الليل وساد الظلام.
وقد خطر لفاندا أن ترجع على أعقابها وتعود إلى البئر التي وضعت فيها؛ حذرا من أن يعود تيميلون ورجاله فيفطنون إليها، ولكنها سمعت عند ذلك حركة في البئر التي يشرف عليها المنفذ فعلمت أنها وقع أقدام، ثم رأت شبحا أسود وسمعت صوت امرأة تقول: حبذا لو كان باقيا أثر للنار؛ فإن البرد يقتلني.
ثم رأتها تبحث في الرماد علها تجد نارا مخبوءة فرأت بقية من نار، فنفخت فيها ووضعت فوقها الأخشاب فرأت فاندا على لهيب النار وجه تلك المرأة، وتنهدت تنهد المنفرج بعد اليأس.
29
ولنعد الآن إلى تيميلون؛ فلقد تركناه أمام السير نيفلي وهو لا يزال غائبا عن الصواب، وكان تيميلون أمر باتير أن يبحث له عن امرأة تدعى فيليبيت ويرسلها إليه وأن يعود هو نفسه إليه في الليلة القادمة.
كان تيميلون قد وضع السير نيفلي في غرفة داخلية بعيدة عن السلم؛ بحيث لو استيقظ وصرخ لما يتولاه من الاندهاش؛ لا يصل صوته إلى الخارج، ويستطيع تيميلون أن يظهر له كل شيء فاضطر لهذا السبب أن يبقى في المنزل إلى أن يستفيق؛ إذ لو صحا ووجد نفسه منفردا وفي الحالة التي كان عليها فلا بد له من الضجر والخروج من المنزل فينفضح الأمر.
وقد فات تيميلون؛ لانهماكه بالسير نيفلي، أن يأمر باتير بإرسال الطعام إلى فاندا وجلس بالقرب من الإنكليزي يراقبه ويتوقع صحوه من حين إلى حين.
أما فيليبيت التي كان ينتظر قدومها؛ فقد كانت في بدء أمرها من بنات الهوى، فلما دالت دولة جمالها، وانقطعت أسباب رزقها، جعلت ترتزق من السرقة، وقد خدمت تيميلون بإخلاص في كثير من الأغراض.
وفي الساعة العاشرة من الصباح جاءت هذه المرأة إلى تيميلون، فأدخلها إلى المنزل وأقفل بابه، ودار بينهما الحديث الآتي، فقال تيميلون: ماذا تصنعين؟ - لا أزال أعمل بالمهنة التي تعرفها، غير أن البوليس منتشر في كل مكان وقد ضيق علينا سبل الارتزاق. - أين تبيتين في الليل؟ - كنت أبيت في الأسبوع الماضي في الشارع الأميريكي. - والآن؟ - اضطررت إلى المبيت في بئر في ضواحي هذا الشارع؛ لكثرة ما لقيته من مطاردة الجنود، وهذه البئر لم يحضر إليها أحد بعد، وإني أبيت فيها منذ ثلاثة أيام وحدي.
فأخذ تيميلون ورقة كبيرة بيضاء ورسم عليها طريق جميع الآبار التي يعرفها، وقال لها: انظري في هذه الخريطة، ودليني على مكان البئر التي تبيتين فيها.
فنظرت إليها نظرا مدققا وأرشدته إلى المكان فانذهل؛ لأنه علم أنها تنام في بئر مجاورة للبئر التي سجن فيها فاندا وقال لها: ألم تجدي في أسفل هذه البئر ثقبا صغيرا تحت صخر أصم؟ - لم ألاحظه. - ولكنك بت فيه ثلاث ليال كما تقولين، ألم تسمعي صوت امرأة تستغيث؟ - كلا! ومن أين تأتي الاستغاثة؟! - من جوف الأرض. - لم أسمع شيئا، وفوق ذلك إني أنام سكرى لا أعي على شيء. - ولكن إن أردت أن نتفق على عمل، أول ما أشترطه عليك أن لا تسكري. - أتريد أن أمتنع عن الشرب مدة طويلة؟ - يومين فقط.
فتنهدت وقالت: كيف أطيق الصبر يومين؟ - متى علمت أنك ستكسبين 200 فرنك. - إذا كان ما تقول فإني أرضى ولا أشرب غير الماء، قل ماذا تريد أن أصنع؟
عاد تيميلون إلى الخريطة ودلها على المكان المسجونة فيه فاندا، فقال لها: إنك تعلمين هذا المكان، ألم تجدي هنالك سورا أو حديقة مخربة؟ - نعم رأيتهما ودخلت إلى الحديقة أيضا. - ألم تجدي بها بئرا مغطاة بالأغصان والحجارة؟ - نعم نعم، ويخال لي أني أراها من هنا. - إذن اعلمي أن هذه البئر يوجد تحتها بئر أخرى لها باب محكم الأقفال، ولهذه البئر كوة في أعلى جدارها تنفذ إلى سرداب يتصل بالبئر التي تنامين فيها، وإذا بحثت في بئرك تجدين في أرضها ثقبا صغيرا يظهر لك منه السرداب، ولكن هذا الثقب ضيق، لا يمكن لجسم أكبر من جسم الهرة أن يمر منه وهو في صخر أصم، بحيث لو أراد البناءون توسيعه بالآلات لما استطاعوا ذلك إلا بشغل يومين على الأقل.
وقد سجنت في هذه البئر امرأة لا بد أن تسمعي صوت استغاثتها. - وإذا سمعتها تستغيث أيجب أن أسكت ؟ - كلا، بل إنك تخرجين من بئرك وتذهبين إلى الحديقة فتزيلين الأدغال وتنزلين إلى البئر التي حبست فيها المرأة، وتجدين بابا قويا لا تستطيعين كسر أقفاله. - وأية فائدة من ذهابي إلى هذا الباب؟ - إنك تحاولين كسره ولا تستطيعين، عند ذلك تعلم تلك المرأة الموثوقة اليدين والرجلين أنك تريدين إنقاذها، فتستغيث بك وتعهد إليك قضاء مهمة في شارع سانت لازار. - أأذهب إلى حيث ترسلني؟ - دون شك، لكن يجب أن أراك في الساعة السابعة من صباح غد في زاوية هذا الشارع. - أهذا كل ما تريد؟ - نعم، وبعد أن أراك تذهبين إلى حيث ترسلك المرأة. - ولكنك أنت الذي سجنت هذه المرأة، فكيف تريد أن ينقذها سواك؟ - اذهبي الآن في سبيلك وستعلمين كل شيء.
فامتثلت العجوز وذهبت، فعاد تيميلون إلى غرفة السير نيفلي وهو يقول: سيكون روكامبول غدا في قبضتي.
30
وقد عرف القراء الآن أن هذه المرأة التي لقيتها فاندا في البئر لم تكن إلا فيليبيت.
وكانت هذه العجوز قد حافظت على عهدها مع تيميلون فلم تشرب قدحا مدة النهار بطوله، فلما عادت إلى البئر كانت صاحية، وقد ذهبت في البدء إلى البئر التي دخلت منه فاندا، فوقفت عند بابه مدة طويلة فلم تسمع صياحا ولا استغاثة.
فعادت إلى بئرها وجعلت تنفخ النار كما تقدم في حين أن فاندا كانت في الدهليز أمام الثقب المشرف على البئر.
وكانت فاندا تنظرها وهي تنفخ النار من الثقب، ولكنها لم تتبين وجهها؛ لضعف نور اللهب، فبعد أن ترددت هنيهة عزمت على الركون إليها والاستغاثة بها فبدأت بالسعال؛ كي تسترعي سمع العجوز، فسمعت العجوز سعالها وتظاهرت بالانذهال العظيم وقالت: من عسى يوجد في هذا المكان؟!
وأجابتها فاندا من الثقب وقالت: يوجد امرأة تعيسة تكاد تموت من الجوع.
فأخذت العجوز قطعة ملتهبة من الخشب وأدنتها من الثقب ورأت وجه فاندا وقالت لها: من أنت؟! وكيف وصلت إلى هنا؟! - إني أسيرة في هذه البئر وقد برح بي الجوع.
وقد أدركت فيليبيت في الحال أنها أسيرة تيميلون، وأنها تمكنت من حل وثاقها والبلوغ إلى الدهليز ، ولكنها تظاهرت بالانذهال وقالت لها: كيف تمكنت من الدخول إلى الدهليز وهذا الثقب ضيق لا يمكن أن يمر به إنسان؟! - إني لم أسجن بهذا الدهليز، بل في بئر تتصل به، وإن في هذه البئر كثيرا من الجرذان فقضمت وثاق يدي، وفككت بعد ذلك وثاق رجلي، وبعد البحث الطويل رأيت منفذا بلغت منه إلى هذا المكان، وكنت أرجو أن أستطيع النجاة، ولكن الثقب ضيق ولا سبيل إلى الخروج منه. - ومن الذي سجنك؟! - رجل يكرهني ويريد أن يميتني جوعا.
فأخذت العجوز قطعة خبز من جيبها وقالت: خذي وكلي فإنك لا تموتين جوعا بعد أن اهتديت إليك، لكن ألا يوجد طريقة لإنقاذك؟! - إنك عجوز لا تستطيعين كسر باب البئر التي سجنت فيها، لكنك تستطيعين أن تدعي لي الرجل الذي يهواني. - ألك عشيق؟ - نعم، وهو من كبار الأغنياء، وسيهبك مالا يكفيك إلى آخر العمر.
فارتعشت فيليبيت كأنما خطر لها أن تخون تيميلون، وكانت فاندا لا تزال بالملابس التي كانت عليها حين اختطفها تيميلون، ولم يكن قد خطر لهم تفتيشها، فأخذت كيسا من جيبها وهزته فسمعت العجوز رنين ما فيه من الذهب ومدت يدها إليها، فقالت لها فاندا: اصغي إلي، إني لست متسولة وإني كثيرة المال وكذلك عشيقي؛ لأنه من أصحاب الملايين، وإذا وصلت إليه وأخبرته بأمري وأنقذني أعطاك مائتي جنيه، عدا ما أمنحه إياك أنا من الهبات.
فاضطربت العجوز اضطرابا شديدا وذكرت أن تيميلون لم يعدها إلا بخمسة عشر دينارا، في حين أن هذه المرأة تعدها بثروة عظيمة، فقالت لها: قولي يا سيدتي، أين هو عشيقك هذا؛ لأنك تريدين أن أذهب إليه دون شك؟ - نعم، وهو يقيم في شارع سانت لازار نمرة 52، واسمه الماجور أفاتار. - إنه اسم غريب أخاف أن أنساه وأنسى اسم الشارع والنمرة.
فأخذت فاندا ورقة من دفتر كان بجيبها، وكتبت عليه باللغة الروسية بضعة أسطر وباللغة الفرنسية اسم الماجور أفاتار ونمرة الشارع ثم أعطتها الورقة، وقالت لها: أسرعي إليه، وإذا لم تجديه في المنزل تجدين رجلا ضخما وهو خادم المنزل وهو يرشدك إلى الماجور أفاتار. - سأفعل ما تريدين، وها أنا ذاهبة في الحال، ولكن ألا تعطيني واحدا من هذه الدنانير؟
كلا، إنك إذا كان لديك دينار فلا تمرين بخمارة حتى تدخلي إليها وتسكري قبل الوصول إليه، ولكنك ستكونين راضية أتم الرضا بعد عودتك، والآن قولي أين نحن من ساعات الليل؟ - في الساعة 11.
فسرت فاندا؛ لأنهم لم يحضروا لها الطعام وقالت: لا شك أنهم لا يحضرونه قبل الصباح؛ لأنهم لو حضروا ولم يروها بحثوا عنها فوجدوها في الدهليز، فلما ذهبت العجوز أقامت فاندا ترجو وتنتظر.
أما العجوز فإنها لما صارت خارج البئر تنبهت لما هي فيه وتنازعها عاملان: عامل الإخلاص لتيميلون، وعامل الطمع بالمال؛ لأن تيميلون وعدها أن يعطيها خمسة عشر دينارا لكن فاندا وعدتها بمائتين، فعزمت في البدء على خيانة تيميلون، لكنها ذكرت أن هذا الداهية كان يخدم البوليس فقالت في نفسها: إني إذا خنته من أجل المال قبض علي وسلبني ما كسبته وعدت بالخسران.
وفيما هي واقفة هذا الموقف من التردد رأت رجلا يدنو منها، ثم سمعت هذا الرجل يناديها باسمها، فعلمت أنه صوت تيميلون، وقالت له: كيف أتيت إلى هنا؟ ألعلك خشيت أن أخونك؟ - كلا، ولكن حدث لي ما لم يكن في الحسبان، بحيث تمكنت من مبارحة المنزل، وأتيت أتجسس في هذا المكان والآن هل سمعت صراخها؟ - بل سمعت ما هو خير من ذلك؛ لأنها كلمتني ورأيتها.
فاضطرب وقال: هذا محال؛ لأنك لا تستطيعين المرور من الثقب. - هو ما تقول، ولكنها هي تمكنت من الوصول إلى الثقب؛ لأن الجرذان قرضت وثاقها؛ فتسلقت الجدار إلى الدهليز ووصلت منه إلى الثقب ووعدتني بإعطائي مائتي دينار إذا أنقذتها.
فغير تيميلون خطته في الحال وقال: حسنا سنقتسم هذا المال. - كيف ذلك؟! - ذلك لأني لم أقبض أجرة سجنها غير 40 دينارا.
فظنت العجوز أنها أدركت قصده وقالت له: إذن اذهب إلى الرجل الذي أرسلتني إليه في شارع لازار نمرة 52؛ لأنها أعطتني رسالة إليه؟ - دون شك.
ثم أخذ منها الرسالة وجعل يقرأها على نور سيكارة كان يدخنها.
31
وقد عرف القراء أن تيميلون كان متقيدا بالبقاء أمام السير نيفلي؛ إذ كان يخشى أن يستفيق فجأة ويفتضح أمره، أما السبب في وجوده عند بئر العجوز، فهو أن السير نيفلي قد استفاق قبل أن يلتقي تيميلون بالعجوز بساعتين.
وكان تيميلون قد أقام طول النهار قرب السير نيفلي وهو يفتح النوافذ من حين إلى حين، وينظر إلى السير نيفلي فيجده جثة باردة، ويذكر أن أنطوانيت لم تستفق إلا بعد 3 أيام، ولا بد إذن للسير نيفلي أن يبقى على هذه الحال يوما وليلة أيضا.
غير أنه كان يقول: إن الأمزجة تختلف وإن بنية الرجال أشد من بنية النساء فقد يصحو قبل هذه المدة.
وقد صحت ظنونه؛ فإنه بينما كان يفتكر بهذه الأمور سمع فجأة تنهدا ضعيفا خرج من صدر السير نيفلي، فارتعش تيميلون وأسرع إليه فوجد أن شفتيه قد فتحتا بعد انطباقهما، ووضع يده فوق قلبه فشعر أن النبض عاد إليه وعادت الحياة.
وعند ذلك أخذ قدحا ووضع فيه خلا وغمس بأطراف منديله وجعل يدلك صدغيه، ثم شفتيه ثم عينيه وكان في خلال ذلك قد خلع تنكره وعاد إلى الهيئة التي عرفه بها السير نيفلي في منزله.
ولم يطل دلكه حتى فتح السير نيفلي عينيه، ثم ابتسم وقال له: كنت أعرف من أنت؛ إذ عرفتك من صوتك.
فتراجع تيميلون منذهلا وقال: كيف ذلك؟! - ذلك أني حين شربت ذلك المخدر فقدت كل صوابي ما خلا حاسة السمع، فعلمت كل شيء وسمعت حديث فاندا مع روكامبول وحديث روكامبول مع ميلون في المركبة التي نقلوني إليها، وعرفت أيضا اسم الشارع الذي نحن فيه وهو فيرابو، وأن جيبسي تقيم في هذا المنزل مع فتى يدعى مرميس، ثم علمت أيضا أنهم وضعوني في بئر وأنت الذي أنقذتني منها.
والآن لنتحدث؛ إذ عرفت أني عالم بكل شيء، لقد علمت من حديثك مع امرأة تدعى فيليبيت أن فاندا في قبضتك.
فقال تيميلون: نعم. - ماذا عزمت أن تصنع بها؟ - أن أستخدمها شركا لقنص روكامبول ثم أقتل الاثنين. - متى؟ - كنت أنتظر لتنفيذ ذلك أن تستفيق. - لماذا، ألعلك محتاج إلي؟ - كلا ...
فابتسم السير جمس وقال: إذن تريد أن تعرض علي شروطك؟!
فقال له تيميلون: لقد قلت لك أيها الميلورد منذ يومين: إن خير جزاء لي هو قتل روكامبول، ومع ذلك إني فقير وقد صرت شيخا، فإذا أردت أن تساعدني بشيء من المال، يقيني شر العوز في شيخوختي، أكون لك من الشاكرين. - كم تريد؟ - مائة ألف فرنك ... - سأعطيك هذا المال، أهذا كل ما تريد؟ - وتعطي أيضا الذين خدموك قدر ما تريد ... - ليعينوا أيضا المبلغ الذي يريدونه فلا أبخل عليهم بشيء، أبقي شيء بعد؟ - كلا، سوى أمر واحد وهو أني أنبهك أن هذا المنزل غاص بأعدائنا ويجب الحذر الشديد، أما الآن وقد صحوت فقد وجب أن أبدأ بالعمل. - افعل ما تشاء.
وعند ذلك سمع صفيرا من الشارع فقال تيميلون: هو ذا باتير قد حضر.
وقال له السير جمس: أهو الرجل الذي واعدته على المقابلة في هذا المساء؟ - نعم ... - إذن أوضح لي أمرا لا يزال خافيا علي ... - قل ما تريد يا سيدي. - لماذا أمرت هذا الرجل أن يشتري برميلا من البارود؟
فأجابه ببرود: كي أنسف به فاندا وروكامبول ...
ثم عاد إلى التفكير وقال له: يجب الآن أن أذهب للقاء باتير. - افعل ما تشاء؛ فإن من كانت له مهارتك لا يتعارض فيما يريد.
32
ولنعد الآن إلى روكامبول، لقد غادرناه حائرا مضطربا في منزل السير جمس حين علم من الخدم أن فاندا غير موجودة فيه، وقد أجابه الخدم كلهم جوابا واحدا؛ وهو أنهم خرجوا من المنزل بالإجازة ولما عادوا إليه، عند الفجر لم يجدوا السيد ولا السيدة.
فقال لهم روكامبول عند ذلك: إني صديق حميم للسير جمس نيفلي، وأنا قلق مثلكم لاختفائه، وإذا كان لا بد لي من إيجاده وإيجاد السيدة التي كانت معه يجب أن تطيعوني، ثم إني مرتاب ريبة شديدة وينبغي لاكتشاف الحقيقة أن لا يعلم أحد من سكان الشارع بشيء مما حدث.
ووعده الخدم بالامتثال له وبالكتمان، فدخل روكامبول إلى القاعة وأقام ينتظر .
وبعد ربع ساعة جاء ميلون فقال له روكامبول: كنا نحسب أن الفوز لنا فإذا نحن مغلوبون.
وحملق ميلون بعينيه وقال: لا أفهم ما تعني. - أين فاندا؟ - يجب أن تكون هنا. - إنهم لم يروها في المنزل منذ الليلة الماضية، ولا حاجة إلى القول أنهم اختطفوها. - من الذي اختطفها؟! - هذا ما يجب أن نبحث عنه، فاتبعني.
ثم مشى أمامه يتبعه ميلون إلى غرفة فاندا، وهي الغرفة التي تخدر فيها السير جمس، ففحص أرض الغرفة وقال له: انظر ألا تجد فيها أثر العراك والنعال الموحلة. - نعم ... - إنهم اختطفوها دون شك، وقد رأيت هذه الأقدام عند الباب الخارجي، وأثر مركبة ذات أربع عجلات ولا بد أن يكونوا استخدموها لنقل فاندا. - إذا لم يكن الإنكليزي الذي اختطفها فمن تراه يكون؟ - أخشى أن يكون ذلك من صنع رجاله، وقد أنفذوا خطة كانت مقررة من قبل.
فقال ميلون: إن ذلك بعيد أيضا؛ لأنه إذا كان الإنكليزي أمر رجاله من قبل كما تقول فلماذا لم يصبر على تنفيذ أمره وحاول قتلها؟!
فاقتنع روكامبول من كلام ميلون ولكنه قال: لا بد أن يكون الذين دخلوا إلى هذا المنزل على اتفاق مع السير جمس، وإلا كيف تمكنوا من الدخول؟! - إني لا أرى ما تراه؛ لأنهم إذا كانوا على اتفاق معه كان يجب أن يفتح لهم الباب بنفسه؛ إذ لم يكن أحد من الخدم في المنزل، وإذا كان ذلك فلماذا لم يقبلوا لنجدته حين اختطفناه؟ - لقد أصبت أيضا، فمن تظنه اختطفها؟! - أظنه ذلك الرجل الألماني الذي تدعونه الماجور هوف.
ففكر روكامبول هنيهة ثم قال: إذا صح ظنك؛ فإن هذا الرجل لم يفعل وحده ما فعل، ولا بد أن يكون لميلادي دخل بهذا الشأن، وستحضر ميلادي؛ لأنها واعدت السير نيفلي على الاجتماع في هذا المنزل.
وفيما هو يقول ذلك سمع صوت جرس الباب الخارجي فأطل من النافذة المشرفة على الحديقة، ورأى امرأة نزلت من مركبة ودخلت وهي مبرقعة ببرقع كثيف، فعلم روكامبول لفوره إنها ميلادي، وأسرع إلى مناداة أحد الخدم وقال له : ادخل بهذه المرأة إلى القاعة وسلها أن تنتظر.
فامتثل الخادم وانصرف.
أما ميلادي فقد كانت واثقة أن الذي يستقبلها هو السير جمس نيفلي نائب زوجها علي رمجاه الهائل، ودخلت دون حذر، ولم تكد تجلس في القاعة حتى دخل روكامبول.
وانذهلت ميلادي حين رأته؛ لأنها ذكرت في الحال أنه ذلك الرجل الذي قال: إنه صديق لوسيان، وأوصلها إلى منزل خطيبته، وقالت له: كيف اتفق وجودك هنا يا سيدي؟! ألعلك تعرف السير جمس؟! - إنه عهد إلي يا سيدتي أن أستقبلك.
فاضطربت ميلادي اضطرابا شديدا ولكنها أخفت اضطرابها وقالت: تريد أن تقول يا سيدي: إن السير جمس اضطر إلى الذهاب لبعض الشئون فعهد إليك أن تدعوني إلى الانتظار؟ - كلا يا سيدتي؛ فإن السير جمس سافر في هذا الصباح إلى لندرا. - إذن لم يبق لي إلا الرجوع من حيث أتيت. - لا حاجة إلى رجوعك يا سيدتي؛ فإن لي سلطة السير جمس، بل لي سلطة علي رمجاه أيضا.
فانذهلت ميلادي انذهالا شديدا وقالت: ماذا تقول؟! - لا يجب أن تنذهلي يا سيدتي؛ فإن لرئيس الخناقين في الهند كثيرا من النواب في أوروبا ... - ماذا تدعى يا سيدي؟ - الماجور أفاتار، وسأذكر لك بأتم الإيجاز، ما تعلمين منه أني واقف على كل أسرارك؛ فإن علي رمجاه والد ابنك وإنك اشتركت معه بقتل أبيك وبينك وبينه أسرار كثيرة تقضي عليك بطاعته.
فأيقنت ميلادي أنه حقيقة نائب علي رمجاه، وقالت له: بماذا يأمر الرئيس؟ - سأطلعك على أوامره بعد ثلاثة أيام، وقد أذنوا لك أمس برؤية ابنك فهل رأيته؟ - نعم ... - إذن بعد ثلاثة أيام في مثل هذه الساعة ترينني عند ابنك، فتعلمين ما يريد علي رمجاه.
ونهضت ميلادي تحاول الانصراف فودعها روكامبول بملء الاحترام، حتى إذا وصلت إلى الباب قال لها: كلمة أيضا يا سيدتي. - ما هي؟ - لا يوجد في باريس من يعرف شيئا من علائقي مع الخناقين، فإذا أردت السلامة لولدك فاحذري أن يعلم باجتماعنا أحد. - لا حاجة إلى توصيتي، وسأكتمها كل الكتمان عن ولدي. - لا أريد كتمانها عن ولدك فقط بل عن فرانز أيضا.
فاحمر وجه ميلادي وقالت: أتعرف هذا السر أيضا؟! - إني أعرف كل شيء، فاحذري.
ثم أعانها على الصعود إلى المركبة وعادت إلى الفندق.
وعاد روكامبول إلى ميلون وقال له: إن هذه المرأة كانت تحسب أنها تجد السير جمس ولا تعلم شيئا من أمر فاندا.
فقال ميلون: إذن لا دخل لها في اختطافها. - إني واثق كل الثقة ...
ثم وضع رأسه بين يديه وجعل يفتكر.
وقال ميلون: اصغ إلي يا حضرة الرئيس، إن فاسيلكيا قد ماتت، والسير نيفلي في قبضة يدنا، وإذا كانت فاندا قد اختطفت فما اختطفها إلا تيميلون.
فاضطرب روكامبول اضطرابا شديدا وقال: ويحك! ما هذا الاسم الذي ذكرته؟! وكيف خطر لك هذا الخاطر؟! - ذلك لأن تيميلون ألد عدو لك. - هو ما تقول، ولكنه غير موجود في فرنسا؟ - من يعلم؟ - وهب أنه الآن في فرنسا فكيف اهتدى إلى فاندا؟ - ألم تقل لك فاندا: إن السير نيفلي حاول قتلها؟ - نعم ... - إذن من الذي أنبأه بخيانة فاندا حتى أراد قتلها وقد كان مفتونا بها؟
واتقدت عينا روكامبول ببارق هائل من الغضب وقال: الويل له إذا كان قد تصدى لي.
وهز ميلون رأسه وقال: أظن يا حضرة الرئيس أن تيميلون لم يعد يخشاك! - لماذا؟! - لأنه لم يعد لديه ما يخافه بعد موت ابنته.
ورجع روكامبول خطوة إلى الوراء وقال: أأنت واثق مما تقول؟ - نعم، وقد علمت ذلك حين كنا في لندرا.
وعاد روكامبول إلى التفكير إلى أن قال له ميلون: أرى يا سيدي، أنه إذا كان تيميلون قد اختطفها فلا يجب أن نضيع الوقت بالتفكير فقد يخشى أن يقتلها.
وجعل العرق البارد ينصب من جبين روكامبول دون أن يجيب، فقال له ميلون: يجب أن نخرج من هذا البيت؛ كي نبحث عن تيميلون. - كلا، يجب أن تبقى أنت هنا فإنه إذا كان تيميلون قد اختطفها فهو حليف السير نيفلي دون شك، ولديه مفتاح المنزل وهو غير عالم باختطاف السير نيفلي، فإذا كان ذلك فلا بد له من العودة إلى هذا المنزل ليراه. - أصبت يا سيدي وسأبقى هنا، وأنت ماذا تصنع؟ - إني ذاهب للبحث عن فاندا. •••
مهما يكن البوليس حاذقا فإنه يضل سعيا حين بحثه عن مجرم لم يهتد إلى أثر من آثاره.
وكان روكامبول أمهر من أحذق بوليس في العالم كما دلت عليه أعماله، إلا أنه في هذه المرة خفي عنه كل أثر؛ فإن ميلون نبهه إلى تيميلون، غير أن مداخلة هذ الرجل لم تكن أمرا أكيدا، ولا ريب أن فاندا قد اختطفت ولكن لم يقم دليل لروكامبول أن الذي اختطفها هو تيميلون، فرأى روكامبول أن يبدأ بالبحث عن فاندا.
فخرج من المنزل وكان أول ما رآه أثر دواليب المركبة التي عاد فيها تيميلون فرأى أنها قد دارت قبل مسيرها، فعلم أنها سارت في جهة الشانزليزيه.
فلقي حمالا كان يرود في ذلك الشارع فسأله، أخبره الحمال أنه شاهد بعد نصف ساعة من منتصف ليلة أمس مركبة مرت بقربه، وسمع رجل يقول لسائقها: سر بنا إلى رومانفيل من الشارع الخارجي، ولم ينظر الحمال إلى داخل المركبة فلم يعلم من فيها.
فلم يستفد روكامبول شيئا مما سمعه؛ لأن هذه المعلومات كانت مبهمة فسار في سبيله، ولكنه لم يبتعد قليلا حتى ناداه العتال وقال له: إن مصابيح المركبة كانت حمراء وكان أحد الجوادين أبيض اللون والآخر أسود.
وهذان اللونان كثيرا الشيوع بين جياد المركبات غير أن روكامبول قال في نفسه: لا بد أن يكون قد استأجروا المركبة من هنا، فلنرى.
وسار روكامبول إلى أقرب إصطبل فرأى تلك المركبة التي وصفها الحمال واقفة عند بابه، وعلى دواليبها أثر وحول حمراء وبيضاء، وهذه الوحول لا توجد عادة في شوارع باريس، فلا بد أن تكون هذه المركبة سارت إلى الضواحي ومرت قبل ذلك بتلك السواقي التي تنحدر فيها مياه المعامل القذرة.
ففتح روكامبول باب المركبة ودخل إليها وقال للسائق: إني أستأجر مركبتك بالساعة. - إلى أين يريد سيدي أن أسير به؟ - فنظر إليه روكامبول تلك النظرات الجافة الخاصة برجال البوليس وقال: إلى إدارة البوليس، فأظهر السائق حركة اشمئزاز تنبه لها روكامبول وسار بمركبته بالكره عنه.
فلما وصلت إلى الشانزليزيه أوقف روكامبول السائق وقال له: إننا ذاهبان إلى دائرة البوليس ولكن لا نصل إليها بوقت قريب كما تظن.
فانذهل السائق وقال: لماذا؟! - لأنه يجدر بنا أن نذهب توا إلى رومانفيل.
فلم يكد روكامبول يتم جملته حتى بدت دلائل الذعر على وجه السائق، فقال روكامبول: يسرني أنك فهمت قصدي كما أرى من اضطرابك فقف قليلا، ثم خرج من المركبة وصعد إلى جنب السائق وجلس بقربه وقال له: سر الآن؛ فإني أحب أن أحادثك في بعض الشئون.
33
إذا كان يوجد فئة بين الناس تخاف البوليس خوفا أكيدا فهي فئة الحوذيين، ولعل ذلك لكثرة ما ترتكب من الهفوات ولشدة غلظتهم في معاملة من يركبون مركباتهم؛ ولذلك حسب السائق أن روكامبول من كبار رجال البوليس السري فهلع قلبه خوفا ولكنه أخفى اضطرابه قدر الإمكان، وحاول أن يتظاهر بالجسارة؛ توهما منه أن ذلك يدفع عنه المظنة، فقال له: ماذا تريد أن تحدثني به؟ وما هذا السلوك الغريب؟ وإلى أين تريد أن تسير؟
ونظر إليه روكامبول نظرة هادئة وقال له: لا تحاول الإنكار مع مثلي؛ فإنه لا يفيدك، وإذا سرت بك إلى دائرة البوليس فإنك تقيم في السجن إلى أن ينتهي أمرك.
وقال له السائق بلهجة الخائف: لكن الأبرياء لا يسجنون؟ - بشرط أن يثبتوا براءتهم ولا أرى ذلك سهلا عليك، على أني سأقص عليك أمرك بإيجاز؛ كي لا تعود إلى الإنكار، فاعلم أنك أجرت مركبتك في الليلة الماضية ... - دون شك، وما يمنعني عن تأجيرها؟ ألا يجب أن أعيش؟ - نعم، ولكن ذلك يتعلق بالرجل الذي أجرته إياها، فإذا كنت لا تريد أن تقول: ماذا فعلت في الليلة الماضية فأنا أقول عنك: إنك خرجت من شارع مارينيان. - هذا الشارع الذي أقيم فيه. - وإنك ذهبت منه إلى رومانفيل.
فاضطرب السائق اضطرابا شديدا لم يبق لروكامبول أقل أثر للريب، فتابع: وكان يوجد في مركبتك امرأة قيدوها ووضعوا الكمامة في فمها.
وتبدل اضطراب السائق باصفرار الوجه، وتابع روكامبول: إن وجهك ينوب عن لسانك بالاعتراف، فلنذهب الآن إلى رومانفيل قبل الذهاب إلى البوليس، واحذر أن تسلك غير الطريق التي سلكتها أمس.
قال له السائق: أرى يا سيدي أنك من كبار رجال البوليس وأحذقهم ولا ينطلي عليك محال.
فابتسم روكامبول قائلا: لقد حاولوا ذلك كثيرا ولم يفلحوا! - لكني أقسم لك يا سيدي أني لا أعرف الرجلين ولا المرأة التي اختطفوها! - إذن كان يوجد رجلان؟ - نعم ... - وامرأة؟ - إنك تعلم ذلك أكثر مني. - ربما ... لكنني أحببت أن أمتحنك لأعلم إذا كنت صادقا، فقل لي الآن: كيف كان هذان الرجلان؟ - أحدهما طويل ضخم الجثة أبيض الشعر. - أيدعى تيميلون؟ - هو ما تقول؛ فإني سمعت الرجل الذي كان معه يدعوه بهذا الاسم. - والآخر، ماذا يدعى؟ - إن اسمه غريب؛ لأني سمعت المرأة تدعوه باتير وهو يدعوها شيفيوت.
وجمدت عروق روكامبول من الخوف والإشفاق على فاندا، وقال في نفسه: ما عسى يكون مصيرها بين هؤلاء الأشقياء الثلاثة؟
وبعد صمت قليل قال للسائق: إن خلاصك موقوف على إخلاصك، وإلا فالسجن يكون نصيبك؛ لأنك اشتركت مع هؤلاء الأشقياء باختطاف امرأة، وربما بقتلها.
وصاح السائق صيحة رعب قائلا: أقسم لك يا سيدي أني كنت أحسب الأمر أمر غرام.
وقد تبين لروكامبول الصدق من مخائله وقال: سر بي الآن إلى رومانفيل وهناك أنظر في أمرك.
وسار السائق في نفس الطريق التي سار بها ليلة أمس، حتى وصل إلى المكان الذي وقف فيه تلك الليلة ووقف قائلا: هنا أوقفوني يا سيدي، وساروا بالمرأة.
ونزل روكامبول ورأى أثر أقدامهم جميعهم فعلم أن هذه الطريق مؤدية إلى الآبار، وقال في نفسه: إما أن يكونوا قد قتلوها، وإما أن يكونوا سجنوها في إحدى تلك الآبار، فإذا كان الأول فقد أتيت بعد الأوان، وإذا كان الثاني فلا يزال الوقت فسيحا لإنقاذها، وفي كل حال فإني لا أستطيع الدخول إلى هذا الشارع بهذه الملابس فصبرا إلى المساء.
ثم عاد إلى المركبة وقال للسائق: عد بي إلى باريس.
فقال له السائق بصوت يضطرب، إلى أين تريد أن أسير بك يا سيدي؟
قال: إلى إدارة البوليس، وقد رأى روكامبول ما أصابه من الرعب، فقال له: لا أنكر أنك اشتركت بالخيانة ولكني واثق أنك اشتركت بها دون أن تعلم.
فرجا السائق بعض الخير وقال: أقسم لك يا سيدي أني بريء. - ذلك أكيد عندي، ولكن قد نحتاج إلى النظر في أمرك، فماذا تدعى؟ وأين تقيم؟ - أدعى إمبرواز جيرود، وأقيم في شارع نقطة الذهب نمرة 3.
فأخذ روكامبول دفتره من جيبه وكتب ما قاله، ثم قال له: سر بي إلى الشارع الذي لقيتك فيه وسوف نرى في أمرك.
فتنهد السائق تنهد الراحة وسار به إلى قرب منزل السير نيفلي، فخرج روكامبول من العربة وقال له: انتظرني، ثم دخل إلى المنزل فرأى ميلون لا يزال فيه، فأخبره بجميع ما اتفق له. - ميلون: إذن يجب أن نذهب إلى الآبار في الحال. - كلا ليس الآن؛ فإن الأشقياء إذا كانوا قتلوا فاندا فلا فائدة من أبحاثنا، وإذا كانوا سجنوها فلا ينفع البحث عنها إلا في الظلام؛ حيث نختلط مع أولئك اللصوص الذين يبيتون في تلك الآبار. - لقد أصبت، فماذا يجب أن أصنع إلى المساء؟ - يجب أن تبقى هنا؛ فإن تيميلون لم يختطف فاندا من هذا المنزل إلا وله مأرب فيه، فلا بد له من العودة إليه.
ثم تركه وعاد إلى السائق وقال له: اذهب الآن في شأنك، ولكني أشير عليك أن تدعي أنك مريض، فترجع المركبة إلى الإصطبل وتذهب إلى منزلك فتقيم فيه.
السائق ببساطة: لماذا؟! - لأننا قد نحتاج إليك بصفة شاهد، وكان يخلق بي أن أرسلك إلى السجن غير أني أشفقت عليك؛ لاعتقادي أنك بريء، ثم أشير عليك بأمر آخر؛ وهو أن الصدفة قد تجمعك بأحد أولئك اللصوص، فاحذر أن تخبرهم بشيء مما جرى، واعلم أنه يوجد من يراقبك.
فبكى السائق لسروره بالنجاة وانطلق داعيا لروكامبول وهو يحسبه من كبار رجال البوليس.
34
وفي المساء اجتمع ميلون وروكامبول فلبسا ملابس قديمة وتنكرا وذهبا إلى الشارع الأميريكي، فدخلا إلى إحدى خماراته وطلبا كأسين من الشراب وجعلا يراقبان زبائن تلك الخمارة وهم خليط من اللصوص والمتشردين.
وفيما هما على ذلك دخلت امرأة وهي تبكي وتستنجد بأولئك اللصوص وتقول: لقد أوشك أن يقتلني هذا الخائن ولم أجد بين الرفاق من يدافع عني، فلو لم أهرب لأجهز علي.
وقال لها أحد الحاضرين: من هذا؟! - هو ليون الذي كان يتفانى في غرامي، ورغب عني بحب زبلي الفتاة التي تقيم في شارع فيرابو.
وانتبه روكامبول انتباها عظيما عند ذكر اسم فيرابو، وعادت المرأة إلى حديثها وقالت: أتعلمون كيف أصبت بهذه الخيانة ... إن هذه الفتاة التي تدعى زبلي جاءت إلى الشارع الأميريكي منذ أسبوع؛ لأن صاحب الخمارة في شارع فيرابو طردها من منزله، وجعلت تقص علينا القصص وتروي لنا حديث غلام يدعى مرميس.
وكان بين الحاضرين باتير، فأراد أن يعرف أين يقيم مرميس فأبت أن تخبره، وحاول ضربها، ولكن صاحب الخمارة تداخل وعرف العنوان، ولا أعلم كيف أني أشفقت على هذه الفتاة وتوليت حمايتها وصحبتها إلى البئر التي أقيم فيه، وفي اليوم التالي جاء ليون وأخبرنا أن البوليس عازم على كبس الشارع؛ فهربنا وأخذت زبلي، ولم يمض 3 أيام حتى ملكت قلبه فطردني وحلت هذه الغادة مكاني.
وفي هذه الليلة هاجني الحقد إلى الانتقام منها فما زلت أبحث عنها حتى عثرت بها في خمارة قرب بئر الشيطان، ولكن ليون كان معها، وبدلا من أن أنتقم منها انتقمت مني؛ فإن هذا الخائن انهال علي بالضرب الأليم، حتى أوشكت أن أموت ولم أجد من يحميني.
ولما وصلت بحكايتها إلى هذا الحد أظهر روكامبول أنه تحمس لحديثها ودنا منها قائلا: أنا أنتقم لك من هذا الرجل، لقد راق لي جمالك.
ونظرت إليه الفتاة نظرة المنتقد وقالت: وأنت تروق لي أيضا؛ لأنك جميل! - نعم وقوي أيضا ... - إذن أحبك بشرط أن تنتقم لي من ليون. - بل أسحقه سحقا ولا يعود بعدها إلى الخيانة.
والتف اللصوص حول روكامبول ولم يكونوا قد رأوه من قبل، وجعلوا يسألونه: من هو؟ ومن أين أتى؟ فأجابهم: أنا منكم وقد أتيت من أميريكا (أي من السجن حسب اصطلاحهم ).
ثم نظر إلى الفتاة قائلا لها: أتريدين أن تذهبي معي الآن للبحث عن هذا الرجل؟ - أتنتقم لي منه أمامي؟ - بلا ريب، بل أنتقم لك من كل من يحاول الانتصار له.
ثم تأبط ذراعها وخرج بها وتبعهما ميلون، وقال لها وهما على الطريق: إني سأنتقم لي ولك على السواء فإنك أنت حاقدة على باتير. - لا أظن أنك تجده في المحل الذي نحن ذاهبون إليه! - لماذا؟! - لأنه منذ عدة أيام لم نره فيه ... - لا بأس وسنرى.
وسارت بهما الفتاة حتى بلغت إلى المكان الذي وقفت فيه المركبة، ورأى روكامبول آثار أقدام تيميلون، فارتعش لا سيما حين رأى الفتاة تسير في الجهة التي سار فيها تيميلون.
وما زالوا يسيرون حتى انتهوا إلى الخمارة المحيطة ببئر الشيطان، ومروا عدة مرات بهذه البئر المسجونة فيها فاندا دون أن يفطنوا لها؛ إذ لم يكن أحد يعرف مدخلها.
وقد ذهبوا إلى كل تلك الخمارات فلم يجدوا ليون ولا زبلي، حتى أضنكهم المسير وانتهوا قرب الفجر إلى خمارة فدخلوا إليها، وكانت الفتاة قد مسها الجوع، فجعلت تأكل وتفرط في شرب الخمر حتى دب النعاس في أجفانها وأطبقت عيناها، وقام روكامبول وتبعه ميلون ودفعا ثمن الأكل والشرب، وخرجا من تلك الخمارة والمرأة نائمة فيها، ولم تنتبه إليهما.
وعاد الاثنان إلى منزل روكامبول فغيرا ملابسهما ثم ذهبا إلى منزل السير نيفلي، وعلما من الخدم أنه لم يحضر أحد إلى المنزل، فعاد روكامبول إلى منزله وأرسل ميلون إلى بيت الخمار؛ حيث تقيم جيبسي، فأخبره الخمار أن فتاة تدعى زبلي جاءت إلى البيت وطلبت أن ترى مرميس وطردتها؛ لعدم ثقتي بها، وعاد ميلون إلى روكامبول وأخبره بما كان، فأمره أن يعود إلى الخمارة وأن ينتظر فيها عودة زبلي، وإذا عادت وعلم منها ما تريد يرجع إليه ويخبره، فامتثل ميلون ومضى.
وأقام روكامبول ينتظر في منزله وكان يثق ثقة تامة بذكاء فاندا ويقول في نفسه: إنها إذا كانت سجينة فلا تعدم وسيلة لإخباري.
ومضى النهار ولم يعد ميلون واستدل من ذلك أن زبلي لم تعد إلى بيت الخمار قبل الليل.
ولما أوشك روكامبول أن ييأس سمع صوت مجادلة في صحن الدار؛ وذلك أن امرأة كانت تريد أن تدخل إلى روكامبول والخادم يمنعها، فأسرع روكامبول ليعلم سبب هذا الخصام، ورأى فيليبيت بملابس المتسولات تحمل بيدها تلك الورقة التي كتبت عليها فاندا إلى روكامبول تخبره أنها سجينة بأمر تيميلون وتدعوه إلى أن يتبع حاملة الرسالة؛ كي ترشده إلى مكانها.
ففرح روكامبول وجعل يتأهب للمسير مع فيليبيت.
35
ولنعد الآن إلى تيميلون؛ ذلك أننا تركناه مع فيليبيت، وقد أخذ منها الورقة التي كتبتها إلى روكامبول فقرأها ثم ردها إلى العجوز.
وكان قبل ذلك غادر السير نيفلي بعد أن أوصاه بالحذر الشديد وذهب لمقابلة باتير فلقيه ينتظره في عطفة الشارع وسأله: ماذا صنعت بالبرميل والفتيل؟
هيأت كل شيء ووضعت كل المعدات في البئر.
فنظر تيميلون في ساعته وقال: نحن في الساعة التاسعة الآن بحيث نستطيع أن نرى فيليبيت قبل ذهابها.
ثم ذهب الاثنان فأقام باتير عند البئر المسجونة فيه فاندا، وذهب تيميلون إلى البئر التي كانت فيه العجوز، فلقيها تتأهب للرحيل.
ولم تكن العجوز تعلم شيئا من مقاصد تيميلون، كما أنها لم تكن تعرف شيئا عن الماجور أفاتار، ولما أطلعته على رسالة فاندا سر بها وقال: أرى أن التوفيق يخدمنا كما نريد. - كيف ذلك؟! وماذا يجب أن أصنع؟! - تذهبين بهذه الرسالة إلى صاحبها وأنت تعرفين عنوانه. - أتظن أنه يعطيني المائة دينار؟ - بلا ريب وسوف نقتسمها. - أقسم بالله إذا وصل هذا المبلغ إلى جيبي لأقضين بقية العمر بين الخمر والقناني فأصل السكرة بالسكرة ولا أستفيق ما حييت.
وضحك تيميلون وقال: ستنالين ما تطمعين به على شرطين؛ أحدهما: أن لا تسكري سلفا، والثاني: أن تطيعيني في كل ما أريد. - سأكون لك أطوع من بنانك فقل ما تشاء.
وأخذ تيميلون بيدها وقال لها: لقد بت عدة ليالي في هذه البئر دون أن تعلمي شيئا من أسرارها، فاعلمي أن هذا الثقب الذي كلمت منه المرأة السجينة منحوت من الصخر الأصم لا يمكن توسيعه إلا بآلات ضخمة تستلزم وقتا طويلا، وفوق ذلك فهو لا ينفذ إلى البئر، بل إلى الدهليز، إلا أنه يوجد في طرف هذه البئر التي تقيمين فيها منفذ آخر ينفذ إلى البئر التي فيه السجينة من دون أن يعترضه الدهليز، وهذا الثقب ضيق كالثقب الأول، إلا أنه منحوت من الحجارة الطرية المبنية وكل من كان معه مطرقة يستطيع توسيعه بأقرب وقت، وإذا كان لديه حبل أدلاه إلى البئر وبلغ ما يريد. - أين هو هذا المنفذ؛ فإني لا أراه؟ - هو في طرف البئر مغطى بالأدغال، وإذا وصلت إلى هذا الرجل الذي أرسلتك إليه السجينة تخبرينه أنه يجب أن يحضر معه حبلا ومطرقة، إنما اجتهدي أن تقبضي منه المال مقدما ... - لماذا؟! - لأني لا أعلم ما يتفق، وقد يهوي إلى البئر عند نزوله إليها.
فابتسمت وقالت: أظن أني فهمت قصدك. - لا شك عندي بذكائك وإذا فقدت جزاءه لا تفقدين جزائي، إنما احذري هذا الرجل كل الحذر. - وأنا أنفقت نصف عمري في السجون.
ثم افترقا فذهبت العجوز إلى روكامبول وذهب تيميلون إلى باتير، ولقيه ينتظره عند فم البئر وقال له: لننزل إلى البئر؛ فإني أحب أن أرى المهمات التي أحضرتها.
ثم نزل الاثنان فأنار باتير مصباحا وجعل تيميلون يفحص برميل البارود والفتيل، فأدخل الفتيل بالبرميل ووضع البرميل عند باب القبو ثم قال: إن هذا البارود يكفي لنسف البئر وما يجاورها. - ألعلك أعددته لروكامبول؟ - بلا ريب، أما هو جدير بهذه الميتة؟!
وبرقت أسرة باتير بأشعة الفرح وأجاب: بورك فيك؛ لأن هذا الانتقام لا يخطر في بال أحد من البشر. - أما الآن فلم يبق علينا إلا أمر واحد. - ما هو؟ - أن نضع أيدينا في جيوبنا وننتظر. - ننتظر من؟ - ننتظر أن يقع الطير في الشرك. - إني فهمت ما ستفعله بالتقريب ولكني لم أعرف طريقة الوصول إلى قصدك ... - صبرا وسترى كل شيء؛ فإن روكامبول لا يستطيع النجاة إلا إذا كان من الأبالسة ...
ثم قال لباتير: لا تفه بحرف ولا تكلمني إلا إذا كلمتك.
أما فيليبيت ؛ فإنها كانت وصلت إلى روكامبول وأعطته رسالة فاندا كما قدمناه، ونظر روكامبول إلى هذه العجوز، وعرف لأول وهلة أنها من أولئك النساء اللواتي نزلن إلى أقصى درجات المجتمع الإنساني، ولكنه أمعن في الرسالة وعلم أن الخط خط فاندا، ولم يكترث بالرسول، ثم إنه أيقن أن فاندا في قبضة تيميلون، وإذا تمكنت من إغراء من يحمل رسالتها؛ فإن هذا الرسول لا يمكن إلا أن يكون من أتباع تيميلون.
أما هذه العجوز فقد كانت متوقدة الذهن شديدة الدهاء حين لا تكون سكرى! وكأنما علمت ما يجول في خاطر روكامبول، فقالت له بلهجة تبين منها الصدق: إني خاطرت يا سيدي خطرا عظيما في سبيل الوصول إليك؛ إذ لو علموا بخيانتي لقتلوني دون شك، ولكن السيدة التي أرسلتني إليك قالت لي: إنك كريم وإنك تمنحني مائتي دينار. - اطمئني، ستنالين هذا المال ...
وذكرت العجوز وصية تيميلون وقالت له: إني أؤثر يا سيدي أن أقبضه في العاجل ... - كلا، إني لا أدفع لك شيئا قبل إنقاذ السيدة التي أرسلتك.
فسكتت العجوز، لكن روكامبول علم من سكوتها أنها لا ترشده إلى مكان فاندا إلا إذا رأت المال، فقال لها: اتبعيني.
ثم تقدمها إلى غرفته وفتح درجا كان فيه كثير من الأوراق المالية فأراها إياها وقال: أتعرفين قيمة هذه الأوراق؟
فهزت العجوز رأسها وقالت: لقد جمعت كثيرا منها في أيام صباي.
وأخذ روكامبول 4 أوراق تبلغ قيمتها 200 دينار ثم أقفل الدرج قائلا لها: متى أوصلتني إلى مكان الأسيرة أعطيتك هذه الأوراق.
ورأت العجوز من صحة عزمه أن كل جدال لا يفيد، فقالت له: لقد رضيت، فهلم بنا ... - إلى أين نمضي؟ - إلى جوار الشارع الأميريكي؛ فقد حبسوا السيدة في بئر لا يهتدي إليها أحد، وليس هذا كل الذي أريد أن أقوله لك؛ إذ يجب التأهب لإنقاذها ولو كنت في عهد الشباب لما احتجت إليك؛ وذلك لأن لهذه البئر ثقبا ضيقا يقتضي لتوسيعه مطرقة ويد قوية ويقتضي لإنقاذها حبل طويل. - سنأخذ ما نحتاج إليه على الطريق، ثم دخل إلى غرفة أخرى فوضع في جيبه مسدسين وتسلح بخنجر وعاد فخرج وإياها، وركبا مركبة فأمر السائق أن يسير بهما إلى شارع فيرابو.
ولما وصل إلى الخمارة ترك العجوز في المركبة ودخل فلقي ميلون ومورت وامرأة عرف روكامبول أنها مرتون، وهي تلك المرأة التي كانت مع أنطوانيت في سجن سانت لازار وكان معها كلبها وهو نائم تحت الطاولة، فأسرع الجميع لاستقباله، وقال روكامبول لمرتون: ماذا تصنعين هنا؟ - أرسلتني فتاة تدعى زبلي؛ كي أحذر مرميس من باتير؛ فإنه يريد به شرا. - لقد عرفت جميع ذلك.
ودنا منه ميلون وقال: أعرفت شيئا عن فاندا؟ - نعم، ثم نادى روكامبول الخمار وقال له: أحضر حبلا متينا طويلا ومطرقة حالا. - أين تذهب أيها الرئيس؟ - لإنقاذ فاندا. - إذن أتيت لتأمرنا أن نصحبك؟ - كلا، إذ يجب أن تبقوا هنا؛ فإن تيميلون وباتير لا بد أنهما يرودان حول المنزل ويجب الحرص على جيبسي.
فقال له ميلون: ألا يكفي أيها الرئيس مورت والخمار ومرميس ومرتون لحراستها؟ فدعني أصحبك في هذه المرة فإني خائف عليك.
فأراه روكامبول المسدس والخنجر وقال: متى كان هذا السلاح معي فلا خوف علي وإنما الخوف على جيبسي، فاحرصوا عليها ولا تغفلوا طرفة عين عنها. - إنما قل لي: إلى أين أنت ذاهب؟ - إلى الآبار المجاورة للشارع الأميريكي.
وعند ذلك جاءه الخمار بالمطرقة والحبل فأخذهما وذهب إلى المركبة؛ حيث كانت تنتظره العجوز، فصعد إليها وقال للسائق: سر بنا الآن إلى الشارع الأميريكي.
36
أما فيليبيت فإنها قلقت حين رأت روكامبول عطف على شارع فيرابو ودخل إلى الخمارة، ولكن ما لبثت أن رأته عاد وحده حتى اطمأنت وقالت في نفسها: ماذا يهمني أن أعلم ما فعل في هذه الخمارة، المهم عندي أن أنال الجزاء من هذا الرجل أو من تيميلون.
وسارت بهما المركبة فجعل روكامبول يسألها أسئلة مختلفة فحكت له ببساطة تاريخ حياتها، وذكرت له كيف أنها سمعت سعال فاندا من الدهليز وهي في البئر وكيف أنها رأتها من الثقب، ثم إنها وصفت له البئر والدهليز والثقب وصفا دقيقا وقالت: إني سمعت حكاية السجينة من فمها فعلمت أنه لا يقدم على هذه الأعمال إلا تيميلون. - أتعرفين إذن هذا الرجل؟ - نعم، وقد اشتغلت معه فيما مضى من زماني إلى أن بات يخدم البوليس، فانفصلت عنه وقد اتفقت مع السيدة السجينة على أن تعطيني مائتي دينار؛ فأنا أرجو أن أعيش بهذا المال بقية أيامي.
ولما وصلت المركبة إلى الشارع الأميريكي أوقفها روكامبول فصرف سائقها وقال للعجوز: اتبعيني فإني أعرف الطريق إلى بئر الشيطان ولكني لا أعرف مدخلها. فسارت في أثره حتى وصل إلى البئر الذي كان مختبئا فيها تيميلون وباتير.
وعند ذلك تقدمته العجوز وقالت: قد وصلنا فاتبعني، فتبعها روكامبول دون أن يخطر له وجود اللصين في البئر، ولو كان معه كلب مرتون لعلم بأمرهما، ولكن الكلاب امتازت عن الإنسان بحاسة الشم.
وعطفت العجوز عطفة فوصلت إلى بئرها ونزلت إليه فنزل روكامبول في أثرها ودنا من الثقب، فنادى فاندا فأجابته بصيحة فرح لا تدرك وصفها الأقلام.
وأمر روكامبول العجوز أن تشعل شيئا من الأخشاب والأعشاب اليابسة ففعلت ورأى بنورها أن توسيع الثقب محال.
فقالت له فاندا: إني لم أدخل من هنا كما ترى، ثم وصفت له البئر وبابه الخشبي والدهليز الذي هي فيه.
فقال لها روكامبول: إذن سأعود إلى باب البئر فأكسره.
قالت العجوز: إن الباب متين ولا تكفي هذه المطرقة التي معك لكسره، غير أني أجد طريقة أسهل وأقرب من كسر الباب. - ما هي؟ - إنه يوجد في طرف هذه البئر ثقب آخر ينفذ رأسا إلى البئر ولا يعترضه هذا الدهليز، وهو من الحجارة اللينة بحيث يمكنك توسيعه بمطرقتك في أقرب حين، ولديك حبل طويل تبلغ به بعد ذلك مرادك. - لقد أصبت، فأين هو هذا الثقب؟
فكشفت العجوز عنه الأدغال، فرأى أنها مصيبة فيما قالت.
فقال لفاندا: ارجعي إلى البئر فسأعمل برأي العجوز. - أسرع؛ فإن قواي قد تلاشت من السهر والجوع، ثم جعلت تزحف في الدهليز حتى وصلت إلى الجدار، فنزلت متمسكة بثقوبه كما صعدت، ولم تكد تبلغ الأرض حتى سمعت صوت سقوط حجارة ضخمة، فعلمت أن روكامبول قد وسع الثقب لا سيما وقد رأت كوة عظيمة قد فتحت في سقف البئر.
وكان روكامبول قد استعان بالمطرقة فبلغ ما أراده من توسيع الثقب وأيقن من صدق العجوز، فنادى فاندا من الثقب؛ كي يعلم إذا كانت قد وصلت إليه، فأجابته.
فقال لها: سأنزل إليك فإنك لا تستطيعين الصعود على الحبل.
ثم أخذ روكامبول ذلك الحبل الطويل المتين الذي أحضره معه وربط طرفه بصخر ضخم، وشد وثاقه، وأيقن من متانته وأمسك الحبل وجعل ينزل إلى البئر.
وكان يجب على العجوز أن تطلب إليه في هذه الساعة ما وعدها به من المال، إلا أنها خشيت أن يفطن إلى الحيلة.
وعند ذلك سمعت العجوز وقع أقدام في البئر، فالتفتت ورأت تيميلون مشهرا بيده خنجرا، وقد أسرع إلى الحبل المشدود بالصخر فقطعه، وسمع على الفور صوت سقوط روكامبول على الأرض، وصيحة صعدت إليه من أعماق تلك البئر.
وكان هذا الصوت صوت ذعر؛ فإن المرء مهما بلغ من بسالته وجراءته لا يسعه إلا الانذعار حين يحدث ما حدث لروكامبول.
وقد أجاب صوته صوت آخر وهو صوت فاندا؛ فإن ذعرها كان أشد من ذعره، وأسرعت إليه وقالت له: رباه! ماذا أصابك؟! ألعلك جرحت؟! - لا أظن، ولكني طائش الفكر ضائع الرشد.
ثم جعل في ذلك الظلام الدامس يحرك أعضاءه كي يعلم إذا كانت كسرت ساقه أو رض جسمه، ثم مشى بضع خطوات فأيقن أنه سليم؛ لأن أرض القبو كانت رطبة فلم يؤثر عليه هذا السقوط.
وعانقته فاندا وهي تقول: لقد اجتمعنا أخيرا. - نعم، لكني أسير مثلك وقد نصبوا لي فخا وسقطت فيه كالأبله.
ثم ضحك ضحك المحتقر نفسه قائلا: إنه لا يزال يوجد على بلاهتي من يثق بي.
وإن من كان مثل روكامبول يعلم في الحال أن انقطاع الحبل لم يكن من قبيل الصدفة بل كان خديعة مدبرة من قبل، فقال: لقد خدعونا ولم نفطن لهم، ويجب علينا أن ننظر في وجوه النجاة.
وكان يحمل دائما في جيبه علبة من الكبريت الشمعي، فأخرجها من جيبه وأنار عودا من عيدانها، وجعل يفحص المكان الذي هو فيه فرأى فوق رأسه في سطح البئر منفذا كبيرا وهو المنفذ الذي فتحه بيده كأنما هو قد حفر قبره بيده، وعلم لأول وهلة أن الصعود محال؛ لأن المنفذ كان في وسط السقف.
ثم أدار نظره ورأى باب البئر الخشبي الذي دخلت منه فاندا، ولكن روكامبول ارتكب كل الأغلاط في تلك الليلة؛ فإنه ترك المطرقة قرب الصخر الذي ربط فيه الحبل، ولم يبق له رجاء لكسر الباب سوى تلك الصخور التي سقطت من القبة، وأعطى علبة الشمع لفاندا وقال لها: أنيري لي؛ كي أرى.
ثم أخذ حجرا ضخما من الحجارة الثلاثة التي سقطت في البئر وصدم به الباب الخشبي صدمة هائلة وهو يرجو أن يكسره، لكنه رأى أن الحجر نفسه قد تحطم وانحل إلى تراب؛ لشدة الصدمة، ولمتانة الباب، وعلم أن الحجر رملي لا فائدة منه، وصدم الباب بالحجر الثاني وأصابه ما أصاب الأول.
وعند ذلك وضعت فاندا يدها فوق كتفه وأطفأت الشمعة وقالت له: اصغ، ألا تسمع؟! - ماذا؟ - حركة وراء الباب ...
فأصغى روكامبول فسمع صوتا يشبه صوت المنشار في الخشب، فقال لفاندا: قفي ورائي ولا تبدي حركة ...
وكان صوت المنشار يتزايد، ثم رأى نورا يضيء من وراء الباب، ثم رأى منشارا يفتح كوة في باب البئر، ودنا روكامبول من فاندا وقال: من يعلم؛ فقد يكون ميلون قادما لإنقاذنا، فلم تجبه فاندا بشيء.
وكان كلما بلغ المنشار من الباب يزداد النور ظهورا، إلى أن فرغت تلك اليد من النشر وسقطت قطعة الخشب المنشور، ففتح منفذ من الباب مستدير بقدر حجم الصحن، وسطع النور في البئر على وجهي روكامبول وفاندا، وسمع روكامبول في الوقت نفسه صوتا يقول بلهجة الساخر: أي روكامبول، إن هذا آخر ما يكون بيننا، وقد أتيح لي النصر عليك.
وعرف روكامبول للحال أن الصوت صوت تيميلون فأجابه: كلا، إن وقت نصرك لم يحن بعد، ثم أطلق غدارة من الثقب.
ودوى صوته دويا شديدا جعل يتجاوبه الصدى نحو عشر ثوان ، ثم انقطع الصوت وعادت السكينة إلى البئر، وانطفأ المصباح الذي كان مع تيميلون، فحسب روكامبول أنه قتل.
إلا أن مدة هذا الرجاء لم تطل؛ إذ سمع قهقهة تيميلون، يضحك ضحك الساخر فتسلح روكامبول بالغدارة الثانية.
وكان تيميلون قد أحنى رأسه حين خرجت رصاصة روكامبول بحيث أخطأه فقال: إنك كنت تصيب المرمى في غير هذا العهد، أما الآن؛ فإن يدك ترتجف؛ لدنو ساعتك.
فأطلق روكامبول عليه غدارته الثانية قائلا: خسئت أيها الشقي؛ لأن ساعتي لا تزال بعيدة.
وعند ذلك سمع أن تيميلون قد صاح صيحة ألم قائلا: لقد أصبت.
فانقض روكامبول على الباب وأمسك بالنافذة التي فتحت فيه، وجعل يهزه هزا عنيفا فلم ينل منه غاية لفرط متانته.
وسمع تيميلون يقول أيضا: لقد أصبت حقيقة ولكني سأنتقم يا روكامبول؛ فإن ساعتك قد دنت.
ثم سمع صوتا آخر قائلا: بل سننتقم كلانا.
فعلم أنه صوت باتير، وجعل يهز الباب هزا عنيفا دون فائدة قائلا: لم تحن الساعة بعد أيها الخاسر.
وكانت فاندا واقفة وراءه ولم تعلم كيف يريد أن ينتقم تيميلون، ولكن قلبها كان ينذرها بانتقام هائل.
فقال تيميلون: أي روكامبول، إنك لم يخطر لك في بال أني أعود، لكنك أخطأت؛ فإن ابنتي ماتت ولم أعد أخشاك، فاقتفيت أثرك واتبعت خطواتك وأحبطت مساعيك؛ وذلك أنك أردت أن تتخلص من السير جمس؛ حذرا على جيبسي، ولكني أنقذت السير جمس وهو سيقتل جيبسي ... إني أريد أن تعرف كل هذه الأمور قبل أن تموت؛ لأنك ستموت ... نعم أيها العزيز، إنك ستموت أفظع موت.
وكان صوته يدل على تألمه وأن جرحه كان بالغا، فأخذ روكامبول علبة الكبريت الشمعي من فاندا ورأى من الثقب باتير وتيميلون ووراءهما جسم لم ينتبه إليه، وكان باتير يعين تيميلون على الوقوف وكلما وقف عاد إلى السقوط وصاح متألما؛ فإن رصاصة روكامبول اخترقت فخذه.
ورأى تيميلون أن روكامبول ينظر إليه فصرخ: لا تفرح لشقائي فإنك ستموت شر موت، ثم زحف قليلا إلى الجهة اليمنى بحيث ظهر برميل البارود لروكامبول، وأدرك قصد تيميلون الهائل، وصاح صيحة رعب وانذعار.
أما تيميلون فإنه قال لباتير: أشعل الفتيل الآن واحملني وهلم بنا للخروج من هذه البئر، فنفذ باتير الأمر.
وكان تيميلون يتألم تألما شديدا قائلا لباتير: لنسرع بالرحيل كي لا يضجر هذا العزيز روكامبول، ووضع باتير الفتيل في البرميل وذهب إلى طرفه الآخر وأشعله، وكان هذا الفتيل يبلغ طوله نحو خمسة أمتار بحيث يقتضي له نصف ساعة لتبلغ ناره للبرميل.
وبعد أن أشعل الفتيل حمل تيميلون على كتفيه وخرج به، والاثنان يودعان روكامبول بأفظع عبارات التهكم ...
وظل روكامبول ناظرا إليهما حتى تواريا عن أبصاره والفتيل يشتعل ببطء.
وبعد عدة ثوان سمع روكامبول صيحة كبيرة من تيميلون تلاها شتم قبيح، وأصغى مع فاندا فسمعا تيميلون يقول: تبا لك من خائن.
ورد باتير: ليس لدي حبل، ولا أستطيع أن أصعد بك إلى سطح البئر، وليس الذنب ذنبي إذا كنت ثقيل الجثة مكسور الساق. - إذن أتتركني هنا؟ - ذلك لا بد منه.
وكان صوته يدل على أنه بات خارج البئر، فصرخ تيميلون: تبا لك من خائن سافل، ثم انقطعت الأصوات.
وسرى إلى نفس روكامبول بعض الرجاء قائلا: لا بد له من إطفاء الفتيل؛ كي لا يموت معنا، إلا أن هذا الرجاء لم يلبث طويلا؛ لأنه شاهد تيميلون يزحف زحف الأفاعي حتى وصل إلى البرميل فنام بقربه قائلا بلهجة وحشية تدل على الانتقام: إذن لنمت جميعنا.
وكان الفتيل لا يزال يشتعل، فأيقن من صدق عزمه، فضم فاندا إلى صدره وتمتم: يجب أن نموت.
37
بينما كان الفتيل يشتعل، وبينما روكامبول وفاندا وتيميلون ينتظرون تلك الساعة الهائلة حين يصل إلى البارود ويحدث ذلك الانفجار، كانت حوادث أخرى تجري في خمارة فيرابو.
وقد علمنا أن روكامبول لم يشأ أن يصحب معه ميلون، وأمره أن يتولى مع أفراد العصابة حراسة جيبسي، فلما خلا ميلون بأصحابه أخبرهم بأمر الرئيس قائلا لهم: إن قلبه ينذره بحدوث مكروه.
وفيما هم يتحدثون في الخمارة رأوا مرميس دخل إليهم وهو حافي القدمين وبملابس النوم، ووضع إصبعه في فمه؛ إشارة إلى وجوب الصمت!
فأيقنوا أن الأمر خطير، وسأله ميلون عما جرى، فقال له: لقد عبثوا بنا وبالرئيس أيضا ونحن غافلون كالأطفال، ثم التفت إلى الخمار وسأله: ألم تضعوا الإنكليزي في البئر؟! - نعم. - ولكنه نجا ...
فذعر الحاضرون وقالوا: كيف ذلك؟! وبأية طريقة؛ فإن الباب لا يزال مقفلا؟! - لا أعلم ولكننا لا نزال قادرين على أسره لحسن الحظ؛ لأنه يقيم بيننا في هذا البيت، وفي غرفة هذا الرجل الذي يدعي أنه شيخ الخدامين، وقد عرفت ذلك في هذه الساعة؛ إذ سمعت جيبسي تصيح وقد أتاها الكابوس، فأسرعت إليها ودخلت إلى غرفتها المظلمة فرأيت نورا ينفذ من ثقب صغير في الجدار الفاصل بين غرفتها وغرفة شيخ الخدامين، فخطر لي أن أعلم ما يصنع هذا الشيخ في هذه الساعة المتأخرة من الليل، فصعدت على كرسي ونظرت من الثقب، ورأيت الإنكليزي بعينه جالسا حول طاولة وعليه علائم التفكير، وإذا كنتم في ريبة مما أقوله فاخلعوا نعالكم واصعدوا إلى الغرفة تروا ما رأيت.
وصعدوا جميعهم إلى الغرفة وجعل كل واحد منهم ينظر من الثقب فيرى السير جمس ويرجع منذعرا.
ولما تحققوا مما قاله مرميس خرجوا من تلك الغرفة؛ كي لا يسمع السير جمس حديثهم، وجعلوا يتشاورون فقال ميلون: ماذا يجب أن نصنع؟
فأجابه مرميس: إن الأمر بسيط. - كيف ذلك؟ - ذلك أن الرئيس لم يسجنه في البئر إلا بغية إبعاده مؤقتا، فتعالوا معي وأنا أقضي هذه المهمة.
ثم مشى إلى الباب فأوقفه الخمار قائلا: إني لا آمن دهاء الإنكليز، وهذا الرجل قد يكون مسلحا، فاصبروا إلى أن أحضر مطرقتي؛ فإنها تقتل بضربة واحدة.
ونزل الخمار إلى خمارته ووقف ميلون ومرميس عند باب الغرفة، ولما عاد الخمار بمطرقته قرع مرميس الباب فسمع صوت اهتزاز كرسي مما يدل على أن جمس وقف بعنف، وصبر مرميس هنيهة ثم قرع الباب ثانية، ولم يفتح، فأوعز إلى ميلون بكسر الباب فصدمه بكتفه صدمة قوية فانفتح ودخل الثلاثة، فرأوا السير نيفلي واقفا وعليه علائم الذعر والرعب؛ إذ عرف مرميس وميلون.
وعند ذلك أشار مرميس إشارة إلى ميلون فانقض على الرجل وضغط على عنقه حتى أوشك أن يخنقه، وأسرع الخمار بمطرقته ورفعها فوق رأسه وهو يقول: إذا فهت بكلمة فأنت من الهالكين.
وأشار السير نيفلي بيده إلى أنه يطيع، فقال مرميس: دعه إذن يا ميلون فإننا سنتحدث قليلا، وأقفل الباب، لكن مرتون دخلت مع كلبها قبل أن يقفله وقالت: وأنا أريد أن أكون معكم.
ثم دنا مرميس من السير نيفلي قائلا: لا حاجة بنا أيها الميلورد أن نسألك عن اسمك فإننا نعرف أنك تدعى السير نيفلي زعيم الخناقين في لندرا، لكننا نريد أن نعلم كيف أصبحت هنا وقد دفناك في القبو منذ يومين؟! - إن معرفة ذلك بسيط؛ فإن أصحابي أنقذوني. - هذا لا يخفى علينا، ولكننا نريد أن نعرف من هم هؤلاء الأصحاب، فإذا بحت لنا بأسمائهم أبقينا عليك حتى يعود الرئيس فإنه لم يصدر إلينا أمر بشأنك، ولكنك إذا أصررت على الكتمان قتلناك ولا ينكر علينا الرئيس هذا القتل.
فاصفر وجه نيفلي ولكنه أصر على الكتمان قائلا: افعلوا بي ما شئتم؛ فإني لا أعرف الذين أنقذوني.
فرد مرميس: احذر؛ فإن وقتنا أقصر من تضييعه في المخابرات.
وقال ميلون: الأمر واضح؛ فإنه لم يوجد في غرفة المستأجر الجديد إلا لأن هذا المستأجر أراده فيها.
فابتسم السير نيفلي وقال: ربما!
ولم يصدق الخمار هذا القول فسألهم: كيف يستطيع مثل هذا الشيخ عمل مثل هذه الفعال؟!
ورد ميلون: لم يبق عندي أن هذا الشيخ شريك الإنكليزي وأنه عبث بنا كلنا.
فنظر مرميس إلى السير نيفلي وقال له: قل لنا اسم هذا الشيخ.
فهز كتفيه قائلا: لا أعلم. - احذر من العناد وإلا قتلتك.
فاعترض ميلون قائلا: كلا إن الرئيس لم يأمرنا بقتله. - ولكن الرئيس قد يكون معرضا لأشد الأخطار في هذه الساعة!
وبرقت عينا السير نيفلي بأشعة الفرح، وعوى كلب مرتون وقد عض ثوبا لتيميلون فقالت: لا شك أن هذا الثوب ثوب عدو.
وخطر لميلون خاطر، فسأل الخمار أن يصف لهم هذا الشيخ، ولما أتم الخمار وصف شيخ الخدامين صرخ ميلون: إنه قد يكون تيميلون!
وعند ذكر هذا الاسم نظر مرميس فجأة إلى السير نيفلي فرأى أنه قد بدرت منه حركة استدل منها على أنه حقيقة تيميلون، وجعل الكلب ينبح نباحا شديدا فقال مرميس: إني أشترك مع ميلون بظنه، بل أثق أن هذا الشيخ هو تيميلون بعينه، وأن الرئيس يحدق به خطر شديد، فإذا لم يقل لنا هذا السير أين هو تيميلون قتلناه.
إلا أنه أنكر فقالت مرتون: لا حاجة إلى ذلك فقد قال الرئيس لميلون: إنه ذاهب إلى الآبار الكائنة وراء الشارع الأميريكي، وأنا أعرف طرق هذه الآبار وكلبي يقتفي أثر تيميلون. - إذن شدوا وثاقه، ولتأخذ مرتون ثوب تيميلون فإنه يعين الكلب على اقتفاء أثره.
وقد عادت إلى مرميس تلك السيادة التي كانت له على العصابة في لندرا، وأمر بإنزال السير نيفلي إلى القبو، ووضعوه في برميل فارغ وهو موثوق اليدين والرجلين، وأمر شانوان بالوقوف بسلاحه أمام البرميل حتى يعودوا، ثم أمر الخمار بالوقوف أيضا على باب غرفة جيبسي فلا يفارقه لحظة، وبعد ذلك أخذ مسدسا وخنجرا وكذلك ميلون وخرجا تصحبهما مرتون وكلبها فركبوا مركبة إلى الشارع الأميريكي.
ولما وصلوا إليه أطلقوا سراح المركبة وأخرجت مرتون ثوب تيميلون وأظهرته للكلب ثم قالت: ابحث عن تيميلون.
ونبح الكلب أمامهم نباحا شديدا، وانطلق أمامهم إلى جهة الآبار في الطريق التي سلكها تيميلون وروكامبول والثلاثة يتبعونه وهم واثقون من فوزه؛ لأنه كان يشم التراب حينا ثم يندفع بالسير بعد أن ينبح مما يدل على أنه عرف الأثر.
وظل هذا دأبه نحو ساعة، وهو يسير بهم من بئر إلى بئر حتى انتهى إلى تلك الحديقة المسورة ودخل إليها، فوقف عند فم البئر المسجونة فيه فاندا فجعل ينبح نباحا شديدا، فدخلوا جميعهم إلى الحديقة وسمع مرميس أصواتا مختلفة كأنها خارجة من جوف الأرض، فوقف مع رفيقيه على مسافة بضع خطوات من فم البئر قائلا لهما: اصبرا لنرى ما يكون من الكلب.
وفي الحال رأوا رجلا خرج من فم البئر فلم يعترضه الكلب، بل إنه دنا من البئر وجعل ينبح، أما الرجل فإنه حين صعد من البئر جعل يعدو كمن يحاول الفرار، ولكن ميلون هجم عليه وقبض على عنقه، فأسرع إليه مرميس ولم يكد ينظر إليه حتى عرف أنه باتير زعيمه القديم.
وحاول باتير التخلص من ميلون قائلا له: دعني.
لكن ميلون صرعه إلى الأرض وركع على صدره وسأله: إذا أردت الحياة فقل لي: أين روكامبول.
فلم يجب فوضع خنجره على عنقه ووخزه به وهو يقول: قل في الحال أو أغمدت في عنقك الخنجر. - لا أعلم أين هو. - كذبت أيها السافل، ثم وخذه في عنقه ثم تابع: قل أو أقتلك.
فصاح باتير صيحة ألم وقال: إنه سيهلك وأنت أيضا تهلك مثله إذا لم تدعني أهرب وتهرب معي.
فنظر إليه ميلون نظرا طائشا وصاح به: أوضح ما قلته! - بعد خمس دقائق ينفجر البارود ونهلك جميعنا.
فذعر ميلون حتى إنه رفع رجله من فوق صدره دون أن ينتبه فنهض باتير وحاول أن يهرب، إلا أن ميلون قبض عليه بيد من حديد فجعل باتير يصيح قائلا: دعني أفر أو يقضى علينا جميعا، وكان يتكلم وأسنانه تصطك من الخوف.
ولما رأى أن ميلون لا يتركه أجاب: إن روكامبول وتيميلون في هذا البئر ويوجد فيها تحت أقدامنا برميل من البارود فيه فتيل يشتعل وسينسف كل ما في هذا المكان.
ولم يكن مرميس قد فاه بكلمة إلى الآن، فلما سمع حديث باتير صاح صيحة منكرة وأسرع إلى البئر فألقى نفسه فيها وكان الكلب قد سبقه منذ حين.
أما ميلون؛ فإن عينيه جحظتا من الغضب فقال لباتير: إنك لا تسمع صوت هذا الانفجار أيها الشقي، ثم أغمد خنجره في صدره فهوى إلى الأرض يتخبط بدمائه.
ومع ذلك فقد كان ذلك الفتيل الهائل مستمرا في اشتعاله وكان تيميلون مضطجعا بجانب البرميل ينتظر الموت بسكينة، وجعل روكامبول يهز الباب هزا عنيفا دون أن يتمكن من كسره حتى سئمت نفسه وأوشك أن يجن من يأسه، فإنه كان يريد الموت لنفسه، غير أنه كان يريد إنقاذ فاندا، فنادى تيميلون من كوة الباب وقال له: أنا أعلم أنك تريد موتي ولا أسألك العفو عني، ولكن أيروق لك أن تدع هذه المرأة تموت؟
ولم يجبه بشيء، وعاد روكامبول إلى الحديث وهو ينظر نظرات الاضطراب إلى دنو النار من البرميل وقال لتيميلون: إني أقسم لك أن أغمد هذا الخنجر في قلبي إذا كنت تنزع هذا الفتيل.
فضحك تيميلون وأجاب: إنك خلقت حسن الطالع؛ فقد تخطئ يدك قلبك. - إنك لا تطفئ النار إلا متى وثقت من موتي؟!
وكان يقول له هذا القول بلهجة المتوسل، فأكبت فاندا على عنقه وقالت: كلا، بل أموت معك.
وعاد روكامبول إلى استعطاف تيميلون: لا أنكر أنك تكرهني كرها لا ألومك فيه على قتلي، ولكن أيخلق بك أن تغمس يدك في جريمة قتل امرأة؟!
فأجابه تيميلون بلهجة المتهكم: ألعلك أشفقت على ابنتي حين أخفتها من الموت فأمتها من الخوف؟
فأطرق روكامبول برأسه هنيهة ثم استل خنجره قائلا: إني سأقتل نفسي ومتى رأيتني قتيلا؛ فقد تشفق عليها وعلى نفسك.
غير أن فاندا انقضت على يده واختطفت منه الخنجر وقذفته من ثقب الباب فوقع بعيدا عن تيميلون وقالت: إن الموت معك أحب إلي من الحياة.
فأن روكامبول أنينا مزعجا وجعل تيميلون ينظر إلى النار تدنو تباعا إلى البرميل، وعند ذلك عانقت فاندا روكامبول فجأة وقالت: أتسمع؟ - ماذا؟! - نباح كلب فوق سطح البئر التي نحن فيها.
وكان هذا الكلب كلب مرتون؛ فإنه بعد أن أزال الأدغال عن فم البئر شم رائحة تيميلون فنبح هذا النباح ثم قالت: إن قلبي يحدثني بأنهم قادمون لإنقاذنا ... - من تظنين هذا القادم؟ - لا أعلم، ولكني لا أزال أرجو.
ثم نبح الكلب نباحا ثانيا ولكن نباحه كان بعيد المدى، فنظر روكامبول إلى الفتيل وقال: أمل باطل. ولكنه ما لبث أن قال هذا القول حتى رأى على نور الفتيل الضعيف شبحا أسود انقض فجأة انقضاض الصاعقة على تيميلون.
فقالت فاندا: هو ذا كلب مرتون فقد عرفته.
فقال روكامبول وقد رآه انقض على تيميلون: ولكنه لا يعرف كيف يطفئ الفتيل، وا أسفاه!
أما الكلب فإنه نشب أظافره في عنق تيميلون فجرى بينهما عراك هائل، وحاول تيميلون أن يأخذ الخنجر الذي ألقته فاندا فلم يهتد إليه فجعل يدافع عن نفسه بيده، ولكن الكلب كان ينهكه أيضا فإذا نجا تيميلون منه هنيهة عاد إلى الوثوب عليه وإرهاقه بالعض، فكان روكامبول يرجو أن يقع حين وثوبه على الفتيل فينزعه من البرميل ولكنه كان محكم الوضع.
أما تيميلون فقد جاهد في وقاية نفسه من الكلب فلم يفلح ولم يمر به هنيهة حتى تغلب عليه الكلب وانقطع صوت تيميلون؛ فإن الكلب خنقه، فقال روكامبول: إننا نموت وقد انتقم لنا على الأقل.
وكان الفتيل قد قرب من البرميل فلم يبق بين النار وبينه غير قيد إصبعين، فقال روكامبول: لقد انقطع كل رجاء، وركع وجعل يصلي إلى الله ملتمسا الصفح عن ذنوبه.
وركعت فاندا أمامه وقالت: أحبك، فإذا لم نلتق في الحياة التقينا بعد الموت، وعزائي أني أموت بين يديك.
ولم يبق غير مقدار دقيقة واحدة لاشتعال البارود.
وعند ذلك سمع الاثنان صوت جسم هبط إلى أرض البئر، وصوت رجل يقول: لقد زال الخطر.
وكان هذا الرجل مرميس؛ فإنه أسرع إلى الفتيل فانتزعه من البرميل.
وعند ذلك شعر روكامبول أن فاندا أغشي عليها بين يديه فقال: إن الله لم يأذن لي أن أموت، فلا شك أنه لم يصفح عني بعد.
38
بعد يومين من هذه الحوادث التي رأيناها؛ أي بعد أربعة أيام من اختطاف فاندا من منزلها، جعل خدم هذا المنزل يتشاورون فيما يفعلونه حينما قنطوا من عودة السير جمس وفاندا، فاقترح أحدهم إبلاغ البوليس، وقال آخر: بل السكوت أولى؛ فإن أسيادنا قد يعودون وربما ساءتهم معرفة البوليس بأحوالهم. وطال الجدال بينهم حتى ارتأى أحدهم سرقة ما خف وغلا من المنزل وتركه وشأنه إلى أن يعود أصحابه، فلقي هذا الفكر استحسانا من الجميع وعولوا على إنفاذه.
وفيما هم يتناقشون في أي الحاجات يسرقون ويعدونها ويتفقون على اقتسامها؛ إذ طرق الباب فاضطربوا جميعهم وأسرع أحدهم إلى الباب وفتحه ، فدخلت فاندا وعليها علائم عدم الاكتراث كأنها برحت المنزل منذ ساعة، حتى إنها لم تسأل الخدم إذا كان أحد قد جاء في غيابها؛ فنقض رجوعها خطة هؤلاء الخدم؛ لأنها سواء كانت خليلة السير جمس أو حليلته؛ فإنها كانت السيدة الآمرة في البيت، ولا يسع الخدم إلا الامتثال لها، فدخلت توا إلى غرفتها ونادت الخادمة فأمرتها أن تعينها على خلع ملابسها.
وبعد ذلك بساعة وقفت مركبة عند باب المنزل وخرج منها روكامبول فدخل وعرف الخدم أنه صديق السير جمس، وكانت علائم السكينة بادية عليه مثل فاندا كأنهما لم يلقيا شيئا من الأخطار منذ يومين.
أما روكامبول فإنه دخل إلى الدار دخول صاحبه، ولم يسأل هذه المرة عن السير جمس بل قال للخادمة: هل السيدة في قاعة الاستقبال أو في غرفتها؟ - بل في غرفتها.
فذهب توا إليها فقبل يدها وجلس بقربها.
وخلا الخدم بعد ذلك إلى بعضهم وكلهم مستغربون مما رأوه، فاتفق رأيهم على أن السيدة كانت خليلة الإنكليزي فاستبدلته بالفرنسي وقرروا أن لا بد من الطاعة وحمد الله؛ لعدم تسرعهم بنهب المنزل.
أما روكامبول فإنه خلا بفاندا ودار بينهم الحديث الآتي فقالت فاندا: لا أزال أيها الرئيس أحسب نفسي حالمة؛ لفرط ما مر بنا من الغرائب في هذه الأيام. - الحق أننا نجونا من خطر لم أجد أشد منه فيما مضى من عجائب حياتي، ولولا أن أدركنا مرميس لكنا من الهالكين. - الحمد لله فقد صفا لنا الجو ولم نعد نخشى تيميلون ولا باتير. - إن تيميلون قد مات، وباتير أصيب بجرح بالغ، وهو إما أن يلقى حتفه كما يقول الطبيب، وإما أن يعيش معتوها، وفي الحالين لا يخشى أن يبوح بأسرارنا. - ألا تقول لي الآن، أيها الرئيس، لماذا أردت أن أعود إلى هذا المنزل؟ - لأن المنزل لك وعقد شرائه مسجل باسمك. - والسير نيفلي ماذا نصنع به؟ - يقيم معك في هذا المنزل.
فانذهلت فاندا وقالت: كيف ذلك؟! أما عزمت على أن تبقيه في قبو الخمارة؟! - كلا، بل يقيم معك، ويكون في أسرك بحراسة ميلون . - والخدم؟ - نطلق سراحهم بعد أن نعطيهم راتب شهر على سبيل المكافأة، ونستبدلهم عند ذلك بنويل ومورت وشانوان وميلون ومرتون ومرميس وجيبسي، فيكون جميع من في المنزل أعوانا لنا، بل يكون لنا جيش نجعل مركزه العام في هذا الشارع.
فلم تفهم فاندا المراد من كل هذا وقالت له: وبعد ذلك؟ - كيف تسألينني هذا السؤال؟ ألا تعلمين أن مشروعنا لم يتم شيء منه بعد؟! وهل قبضنا على ملايين جيبسي؟! - أصبت، ولكن كيف السبيل إلى هذه الأموال؟! - إنه سر من أسراري لا أستطيع أن أبوح به الآن.
39
ولنعد الآن إلى السير نيفلي، لقد تركناه مقيدا في البرميل بحراسة أحد أفراد العصابة، فلما عاد مرميس وميلون إلى الخمارة أخبر مرميس الخمار وحارس نيفلي جميع ما اتفق لهم، وكان السير يسمع الحديث فيئس يأسا شديدا حين علم أن تيميلون قد مات وهو المعين الوحيد الذي كان يعتمد عليه في إنقاذه من روكامبول.
وبعد أن فرغ مرميس من حكايته قال: إن الرئيس لا يحضر إلى هنا ولكنه يأمر أن ينقل هذا الإنكليزي إلى القبو، إلى أن يصدر بشأنه أمر جديد.
فامتثلوا لأمر الرئيس وأخرجوه من البرميل إلى القبو، وأقام فيه ثلاثة أيام لم ير في خلالها غير ميلون؛ إذ كان يأتيه مرتين في اليوم، فيحل وثاقه ويقدم له الطعام إلى أن يفرغ من الأكل فيشد وثاقه كما كانوا يفعلون بفاندا.
وبقي على ذلك ثلاثة أيام، وفي الليلة الرابعة جاء ميلون ومرميس ونويل فأخرجوه من القبو ووضعوه في صندوق كبير معد لنقل البضائع، بعد أن شدوا وثاقه ووضعوا الكمامة في فمه، ثم حملوه على مركبة نقل إلى المنزل الذي تقيم فيه فاندا، وهناك أدخلوا الصندوق إلى المنزل ثم فتحوه وأخرجوه منه، فوجد نفسه أمام روكامبول.
فقال له روكامبول: أسالك العفو يا حضرة الميلورد؛ لأن رجالي قد تعودوا الغلظة.
ثم أشار إلى ميلون ففك قيوده وخرج وبقي روكامبول وحده مع السير نيفلي فسأله: أتريد أن نتحدث الآن؟ - ليكن ما تريد، فلا أحب إلي من هذا . - لكن لا بد لك قبل ذلك من أن تأكل؛ لأنك جائع دون شك، وكذلك لا بد لك من تغيير ملابسك، وهذه غرفتك لا تزال على ما كانت عليه فادخل إليها.
فشكره السير ودخل إلى تلك الغرفة فأقفل بابها، وكأنما قد جال في فكره خاطر الفرار، فأحكم إقفال الباب من الداخل ووضع المزلاج بحيث لا يمكن فتح الباب من الخارج إلا بعد كسره، ثم أسرع إلى النافذة وفي نيته أن يثب منها إلى الحديقة، لكنه تراجع مبهوتا؛ إذ وجد أن قضبان الحديد قد وضعت فيها؛ خلافا لما كانت عليه من قبل، فعلم أنهم حسبوا لفراره حسابا وجعل يفكر في وسيلة أخرى.
وكان من عادته أن يضع مفتاح الخزانة التي يضع فيها ملابسه تحت آنية من الخزف على المغسلة، فرفع الآنية ووجد المفتاح فقال في نفسه: لا شك أن الخزانة لم تفتح؛ لأن المفتاح لا يزال في موضعه.
ثم فتح الخزانة وغير ملابسه المتسخة بملابس نظيفة، وأخرج منها مسدسا وضعه في جيبه بعد أن تيقن أن رصاصاته لا تزال فيه، ولما رأى أن لا سبيل إلى فراره من هذه الغرفة اعتمد على مسدسه، وخرج إلى روكامبول فوجده جالسا حول المائدة وميلون يضع عليها الطعام، فجلس بإزائه وانصرف ميلون فجعل روكامبول والسير نيفلي يأكلان.
وبعد أن أكلا بعد الطعام وشربا زجاجة من الخمر قال له روكامبول: اسمح لي يا حضرة الميلورد أن أبسط لك الحالة؛ كي تفهم ما أريد، فإنك في لندرا زعيم الخناقين. - نعم، ولا أزال مقلدا هذا المنصب. - بورك لك فيه، لكن يظهر أن الخناقين لم يكترثوا لفقد زعيمهم، ثم إني نزعت جيبسي من قبضة السير جورج، فعزلته أنت من منصبه؛ لأنه لم يحسن توليه. - هذا أكيد. - أما السير جورج فإنه برح لندرا دون أن تعلم، وكنت أقل منه كفاءة لهذا المنصب؛ لأنك سقطت في الفخ الذي نصب لك، ووثقت من كره فاندا لي وتدلهت في حبها فعميت عن الرشد، وتبعتها إلى باريس وهنا بدأت حوادثك المكدرة.
فأجابه بجفاء: وبعد ذلك ؟ - أسألك الصبر يا سيدي؛ إذ لا بد لي من إتمام أقوالي؛ كي أصل إلى ما أريد؛ لأن الأقدار دفعت إليك في باريس مساعدا علمت دون شك كيف كانت عقباه، فأصبحت وحدك لا نصير لك غير أولئك الخناقين الذين لا يحضرون لنجدتك، وبالتالي فإنك ستكون أسيري إلى آخر العمر، إلا إذا خطر لي أن أقتلك وأريحك من الأسر الطويل.
أما وقد أظهرت لك حالتك فاسمح لي أن أعرض عليك شروطي علها توافقك، واعلم أن السير جورج كان شديد التعصب يحسب أن روح أبيه كامنة في جسم سمكة حمراء؛ فكان يخدم الإلهة كالي؛ لأنه كان يعبدها، أما أنت فإنك أوفر منه عقلا وأكثر دهاء وأنت تخدم هذه الإلهة بالظاهر، وأما في الحقيقة فإنك تخدم أغراضا سياسية تحجبها بحجاب الدين، وإنك لم تحاول خنق جيبسي وإحراقها؛ لأنها لم تكن عذراء كما كانت تقضي به عليها أحكام الإلهة كالي، بل لأن لهذه الفتاة النورية ثروة عظيمة تريدون اختلاسها.
فاضطرب السير نيفلي وقال: أتعرف أيضا هذا السر؟! - هذه هي الثروة التي سرقتها مس ألن بالاتفاق مع عشيقها علي رمجاه رئيس الخناقين الأعظم في الهند على أن تقتسم بين الاثنين، أما مس ألن فقد ظفرت بها وستكون في قبضتي حينما أريد. - أحق ما تقول؟! - دون شك! ألا تذكر ذلك القصر الذي بت فيه ليلة مع فاندا في بيكارديا، إن هذا القصر كان لمس ألن وأنت لا تدري، وقد باتت فاندا في إحدى غرفها؛ حيث جاءها الخيال بب خادم أبيها، فكلم فاندا وهو يحسب أنه يكلم مس ألن وعدد لها جميع ذنوبها، أعلمت الآن كيف اطلعت على هذا السر؟!
فاصفر وجه السير نيفلي وقال له: ماذا تريد بهذا الكلام؟ - أريد بها أني سأكره مس ألن على رد الثروة بواسطة ابنها وأريد منك أن لا تعارض في شيء، ثم إني توليت بحمايتي جيبسي النورية وناديا ابنة الجنرال الروسي وأحب أن أتفق معك. - قل شروطك. - هي أن يرجع الخناقون عن مطاردة الفتاتين، وفي مقابل ذلك أطلق سراحك فتعود إلى إنكلترا، وأقسم أني لا أتداخل بعد ذلك في شئونك.
وكان السير نيفلي يسمع كلام روكامبول وهو غائص في لجج التفكير فقطع روكامبول تصوره وقال له: لا تؤاخذني يا سيدي إذا ألححت عليك؛ إذ لا بد لي من معرفة حقيقة عزمك في القريب العاجل.
فأجابه السير نيفلي: لا حاجة إلى الانتظار؛ لأنك ستعلم حقيقة أفكاري في الحال وهي رفض شروطك لسببين؛ أحدهما: أني لا أستطيع عصيان علي رمجاه، والآخر: لأني وطنت النفس على الخروج من هنا.
فقال له بلهجة الهازئ: لكن خروجك من هنا لا يكون من النافذة فيما أظن. - كلا إني أعلم أنك طوقت جميع النوافذ بالحديد، لكني لا أجد ما يمنعني عن الخروج من الباب.
ثم وقف فجأة وقد توقدت عيناه كالجمر وأخرج المسدس من جيبه، فوثب روكامبول مسرعا إلى الباب، فقال له السير نيفلي: افتح هذا الباب أو أطلق النار عليك.
فظهرت عند ذلك علائم الخوف على روكامبول وصاح مستغيثا بميلون، فقال له السير نيفلي: إنه يصل إليك لكن بعد أن تموت.
ثم أطلق المسدس فلم تخرج رصاصته ولم يسمع غير صوت الكبسول، فأطلق طلقا ثانيا ثم ثالثا، فكان نصيبهما نصيب الأول، وعند ذلك سمع السير نيفلي قهقهة روكامبول، فعلم أنه قد عبث به وسقط المسدس من يده، وكان روكامبول قد صنع بمسدس السير جمس كما فعل به زامبا من قبل في رواية «الغادة الإسبانية».
وبعد أن ضحك روكامبول ضحكا طويلا نادى ميلون فلما جاءه قال له: أرى أنه صار ينبغي أن نتخلص من هذا الرجل.
فأيقن نيفلي هذه المرة أنه بات من الهالكين.
40
ولنعد إلى لوسيان ابن ميلادي الجريح، فنقول: إنه عرف أمه فكانت معرفته بها داعية إلى التعجيل في شفائه، فلما دخل في دور النقاهة تقرر أن يتزوج خطيبته ماري برتود بعد أسبوعين، وكان سروره عظيما في البدء ثم انقلبت مظاهر هذا الفرح إلى مظاهر السويداء؛ وذلك لأنه أراد أن يعرف أباه كما عرف أمه فقالت له أمه: اكتفي بأنك علمت أمك واعلم أنه يستحيل علي الآن أن أصرح لك باسمي وباسم أبيك. - أهو حي على الأقل؟! - نعم، ولكني أخشى أنك لا تراه في الحياة.
فأطرق لوسيان برأسه وانقطع عن سؤالها.
وكان فرانز كثير التردد عليه وكلما زارته أمه صحبها إليه، فاتفق مرة أنه باغته وهو ينظر إليها نظرة لا تدل على أنها نظرة خادم أو عشيق، فلما خلا بأمه قال لها: لقد عرفت أبي؛ وهو الماجور هوف. - أقسم لك يا بني إنك منخدع.
فعلم لوسيان أن فرانز عشيق أمه، وزاد بلباله منذ ذلك اليوم.
أما ميلادي فقد كانت تتنازعها عوامل كثيرة، فبينما هي فرحة بلقاء ولدها؛ إذ تنكمش ويضيق صدرها كأنما قلبها كان ينذرها بمصاب أليم، فكانت هذه الظواهر كلها تزيد في هواجس لوسيان.
وبينما كانت يوما عند ولدها؛ إذ دخل الماجور أفاتار عائدا فحياها أمام ولدها تحية لا تدل على أن بينهما شيئا من العلائق، وأقام هنيهة ثم انصرف بعد أن قال لميلادي سرا: إني أنتظرك قرب الباب الخارجي.
وأقامت ميلادي عند ولدها مدة وجيزة، ثم ودعته وخرجت إلى الشارع، فوجدت روكامبول ينتظرها في مركبة فصعدت إلى جانبه وأمر السائق أن يسير إلى المنزل الذي تقيم فيه فاندا.
وكانت ميلادي لم تر روكامبول منذ 4 أيام وهي معتقدة كل الاعتقاد أنه وكيل علي رمجاه فقال لها: لقد طال غيابي عنك يا سيدتي لكني كنت في لندرا وأنا قادم منها الآن.
فاضطربت ميلادي ولم تجسر أن تسأله إذا كان لقي علي رمجاه.
وظلت المركبة سائرة حتى وصلت إلى المنزل، فترجل روكامبول وساعدها على النزول، ثم دخل الاثنان إلى قاعة الاجتماع فجلس كل منهما بإزاء الآخر، ودار بينهما الحديث الآتي، فابتدأ روكامبول: قلت لك يا سيدتي: إني قادم من لندرا. - ألعلك رأيته فيها؟ - من هو؟ - علي. - كلا، لكنه سيكون في باريس قبل 8 أيام.
ورأى روكامبول أن وجهها قد اصفر، حتى باتت شبيهة بالأموات، فقال لها: اسمحي لي يا سيدتي أن أخبرك عما جرى في لندرا؛ كي تعلمي ماذا أريد منك. - تكلم. - لقد تغيرت الوزارة في لندرا يا سيدتي، فتعين لوزارة البحرية والمستعمرات رجل ملء قلبه الحزم والثبات والبسالة، فاتفق مع حكمدار الهند وهو لا يقل حزما عنه على إبادة هذه الجمعية السرية التي يدعونها جمعية الخناقين وهي هذه الجمعية الهائلة التي يوجد بين أعضائها كثيرون من أشراف الإنكليز أنفسهم.
فقالت له ميلادي بلهجة الهازئ: إذن قد قضوا عليها بالإبادة! - نعم يا سيدتي، وقد صرح الوزير أنه سيضطر إلى محاكمة كثير من النبلاء؛ لأن أسرار هذه الجمعية التي يتولى رئاستها علي رمجاه قد انفضحت. - من الذي فضحها؟! - هو رجل عرف تاريخ حياة علي رمجاه وماضي مس ألن بركنس.
فأظهرت ميلادي علائم القلق غير أن روكامبول اندفع في حديثه قائلا: وإن هذا الرجل عرف أيضا السبب الذي وشمت من أجله بنات بعض نبلاء الإنكليز بإشارت سرية وكرست للإلهة كالي. - أحق أن هذا الرجل يعرف كل هذه الأسرار؟! - نعم، وقد باح بها للوزير، فوعد الوزير بمعاقبة الآثمين. - إن ذلك صعب لعدة أسباب؛ أحدها: أن هذه الجمعية متسعة متشعبة في جميع الأقطار. - هو ما تقولين، وليس لها على امتدادها وتشعبها غير رئيس واحد وهو علي رمجاه. - ثم إن علي رمجاه لا يقيم في لندرا. - نعم، لكنه سوف يحضر إلى باريس. - وماذا يستطيع البوليس الإنكليزي أن يصنع في هذه العاصمة الفرنسية؟ - لا يستطيع أن يصنع شيئا، لكن الرجل الذي باح بأسرار الجمعية للوزير الإنكليزي تعهد له أن يسلمه علي رمجاه. - دون إذن حكومة فرنسا؟! - دون شك حتى إن البوليس الفرنسي نفسه لم يعلم أن علي رمجاه جاء إلى باريس. - هذا الرجل قد تطرف بوعده ولا أظنه يلاقي غير الفشل.
فتبسم روكامبول قائلا: إنه لم يقتصر في وعده على هذا الحد بل إنه وعد أيضا بتسليم مس ألن.
فاضطربت ميلادي وقالت: كيف ذلك؟! أيسلمني أنا؟! - نعم يا سيدتي؛ إن لديه أوراقا تثبت أن مس ألن قد قتلت أباها الكومندور بالاشتراك مع علي وخادم كان يدعى فرانز. - هذا مستحيل؛ إذ لا سبيل إلى الإثبات. - إنك مخطئة؛ لأن لديه برهانا عظيما، وهو مذكرة كتبها المسيو بب وكيل مس ألن فوصلت إلى هذا الرجل وفيها كل ما يحتاج إليه من البراهين القاطعة.
فلم تكترث ميلادي لهذه البراهين وقالت له: أظن أن لك سلطة علي رمجاه فتستطيع تلافي هذا الخطر. - إنك مخطئة يا ميلادي؛ لأن الرجل الذي سيسلم علي ومس ألن وفرانز وزعماء الخناقين هذا الرجل يا ميلادي هو أنا.
فصاحت ميلادي صيحة منكرة ونظرت إلى روكامبول نظرة ملؤها الرعب كأنما هوة عميقة هائلة قد انفتحت بينها وبين روكامبول.
ثم خطر لها أن هذا الرجل هو حقيقة وكيل علي رمجاه لكنه يحاول تجربتها فبقي لها شيء من الأمل.
غير أن روكامبول ضرب على هذا الرجاء وأضاف: لقد كان لك يا سيدتي أخت تدعى مس أنا.
فاضطربت ميلادي وأجابت: أتعرف هذا أيضا؟! - نعم، وأنك خنقتيها. - لست أنا التي خنقتها، بل علي. - إنك وعلي واحد، أليس كذلك؟!
فأطرقت برأسها ولم تجب، أما روكامبول فعاد إلى حديثه قائلا: وإن أختك ماتت عن فتاة تدعى جيبسي، ولهذه الفتاة الحق بإرث أموال أمها التي اختلستموها.
فوقفت ميلادي، وقد اتقدت عيناها بنار الغضب وقالت: كلا هذه الثروة لولدي.
فضحك روكامبول قائلا: أواثقة أنت مما تقولين؟! - قلت لك: إنها لولدي؛ لأني اشتريتها بحياة ملؤها الجرائم واليأس. - إني كنت أنتظر منك هذا الإقرار. - وأنا لا أفهم ما تقول؛ لأني لا أستطيع حل الألغاز! - إذن اصغي إلي؛ إني موضح لك ما خفي عنك، اعلمي أن ابنك شريف جميل باسل، وهو لا يغمس يده بهذه الثروة المدنسة، وإذا قيل لابنك لوسيان: إن هذه النقود التي ستنفقها على زواجك وهذه الهدايا التي ترسلها إلى عروسك وهذا البذخ الذي تعده لها ولك وجميع هذه الأموال قد وصلت إليك من الجريمة، فماذا تظنين أنه يجيب؟!
ورأى روكامبول أنها أنت أنينا مزعجا وأخفت رأسها بين يديها فقال لها: اصغي إلي؛ إن الموقف خطير، وإني أحب الاتفاق معك.
فنظرت إليه وقالت: على ماذا تريد الاتفاق؟ - إني أعرف كل تاريخك، ولدي ما أحتاج إليه من البراهين لإثبات جرائمك، ولا أسهل علي من تسليمك إلى الحكومة الإنكليزية ، غير أني لا أفعل هذا إلا حين أقنط من الاتفاق معك.
فقالت له بلهجة المتهكم: أراك يا سيدي كثير الإشفاق فهل تريد أن تخبرني سبب هذه الرحمة؟! - نعم، والسبب هو ابنك ولو لم تكوني أم لوسيان لما وجدت في قلبي ذرة من الرحمة. - إذن لا تسلمني إلى الحكومة.
ثم نظرت نظرة سريعة إلى ما حولها، كأنها قد خطر لها خاطر الفرار، فابتسم روكامبول وقال: اطمئني يا سيدتي فليس في نيتي أن أحبسك عندي، لكنك تخطئين كل الخطأ إذا خرجت من هنا قبل أن نتفق الاتفاق النهائي. - قل: ماذا تريد مني؟ - إنك شديدة الجرأة والدهاء وإذا وقفت أمام المحاكم فقد تنكرين كل ما يتهمونك به كل الإنكار، نعم إن القضاة لا يكترثون لإنكارك ويحكمون عليك لكن ابنك قد يبرئك؛ لما يسمعه من شدة إنكارك وهذا ما أريده، بل أريد أن يكون لك قاضيا واحدا وهو ابنك.
فارتعشت ميلادي وقالت: كلا، إنك لا تبلغ بقسوتك هذا الحد. - بل أعمل أعظم من ذلك إذا لم ترجعي الثروة المسروقة. - أأجرد ابني وأجعله من الفقراء؟ - ذلك لا بد منه. - بل ذلك لا يكون ما دام بي عرق ينبض. - اصغي إلي أيتها السيدة، إن أباك الكومندور بركنس قد مات عن ثروة عظيمة، وقد أوصى بهذه الثروة كلها لأختك مس أنا فأصبحت كلها بيديك. - إن ما تقوله قد يكون أكيدا غير أنه يوجد ما تجهله! - ما هو؟! - هو أني خبأت هذه الثروة في موضع لا يمكن أن تهتدي إليه الحكومة ولا أنت ولا علي رمجاه الذي لم يقبض إلى الآن غير نصف إيراد تلك الثروة الطائلة. - لا أنكر أني لا أعلم موضع الثروة؛ ولأجل ذلك رأيت أن أستخدم الطريقة الوحيدة التي تحملك على الإقرار.
فتظاهرت بنفاذ الصبر وقالت: تريد أن تخبرني أن هذه الطريقة هي ولدي؟ - نعم، إذ لا أجد أفضل منها؛ لأن ابنك متى علم جميع جرائمك ينتحر دون شك ويؤثر الموت على العار.
فصاحت ميلادي صيحة تبين منها ضعفها، غير أن مظاهر هذا الضعف تبدلت في الحال، وقالت: ومن يضمن لك أن ابني يصدق ما تقول؟
فتنهد روكامبول وقال: إن إقناعه منوط بي، والآن انظري يا سيدتي إلى الليل؛ فقد أخذ يبسط جناحيه، ولا أحب أن يخطر لك أني ناصب لك فخا؛ لأن أمثالنا يتحاربون وجها لوجه ولا يستعملون الغدر ويستخدمون أفضل ما لديهم من الأسلحة. - لقد عرفت سلاحك فاعلم أني لا أخشاك. - وأنا محضتك خالص النصح وأمهلك إلى الغد. - وإذا أبيت غدا إجابة سؤالك؟ - يعلم ابنك كل شيء ولا تقع التبعة إلا عليك. - إذن إلى الغد.
ثم وقفت تحاول الذهاب فنادى روكامبول ميلون قائلا له: أحضر مركبة للسيدة.
وبعد ربع ساعة كانت ميلادي سائرة إلى الفندق وقلبها ملؤه الحقد واليأس، ولكنها كانت مصممة على أن لا ترجع فلسا من تلك الثروة المخصصة لابنها.
ولما ذهبت دخلت فاندا إلى غرفة روكامبول وقالت له: إني لم أفهم شيئا أيها الرئيس مما فعلت.
أجابها: إن ساعة العنف والإكراه لم تحن بعد؛ لأن ميلادي شديدة العناد والكبرياء، فهي قد تصعد من تلقاء نفسها إلى درجات المشنقة ولا تخبرنا بمكان ملايين النورية، ونحن نحتاج الآن إلى رد هذه الملايين.
41
في الوقت نفسه الذي خرجت فيه ميلادي من عند روكامبول إلى الفندق الذي كانت تقيم فيه في شارع أماريسان، كان قطار باريس قد وقف في المحطة فنزل منه رجل نحاسي اللون أسود العينين والشعر غير أن الشيب كان قد وخط بعض شعره، فكان يظهر في رأسه شبه النجوم وله أسنان ناصعة البياض ولحظ براق.
وكان يصحبه رجلان لهما ذات لونه النحاسي وهما حسنا الملابس، على أنهما لم يكونا غير خادميه.
وكان الرجل قادما من الأستانة إلى باريس بطريق البر، فاجتاز الدانوب وفيينا وألمانيا وهو مسافر بجواز تركي كتب فيه اسمه رستق باشا.
وكان أحد هذين الرجلين اللذين يصحبانه يشغل عنده وظيفة ترجمان، فلما نزلوا من القطار، أحضر مركبة وأمر بنقل الأمتعة إليها، ثم أمر السائق أن يسير بهم إلى الجران أوتيل، وهو الفندق الذي تقيم فيه ميلادي وفرانز.
وبعد هنيهة وصلت المركبة إلى الفندق فخرج منها رستق باشا وأمر أن يعدوا له أفضل مكان في الفندق ولم يكن يتكلم إلا بواسطة الترجمان؛ إذ كان يظهر أنه لا يعرف كلمة من اللغة الفرنسية.
وبينما كان خدام الفندق ينقلون أمتعته وخادماه منشغلان بإعداد الغرف التي عينت له جعل رستق باشا، أو هذا الهندي الذي يدعي أنه من الأتراك، يتنزه ذهابا وإيابا على رصيف الشارع.
وكان على ادعائه أنه من الأتراك لابسا ملابس الأوروبيين فلم ينتبه أحد إليه ولم يزعجه المارة بشيء.
وبعد حين جاء الخادم وأخبره أن الغرف قد تهيأت فأشار له أن ينصرف، وبقي يتنزه على الرصيف وينظر إلى المركبات التي تدخل كل حين إلى هذا الفندق الكبير.
وفيما هو على ذلك؛ إذ رأى مركبة قد دخلت إلى الفندق ورأى فيها امرأة صفراء الوجه تدل هيئتها على أنها في اضطراب شديد، فارتعش حين رآها وقال باللغة الإنكليزية: هذه هي مس ألن.
وعند ذلك أسرع ووقف وراء المركبة بحيث لا تراه حين خروجه، أما ميلادي، وكانت هي نفسها عائدة من عند روكامبول، فإنها لما خرجت من المركبة، أسرع إليها أحد خدام الفندق فقالت له: هل عاد الماجور هوف؟ - كلا يا سيدتي؛ إنه لم يعد بعد.
وكانت ميلادي شديدة الاضطراب، وعلائم القلق والحيرة بادية على وجهها؛ بحيث إنها لم تنظر إلى أحد من الذين كانوا حولها، ولم تر ذلك الغريب الذي كان واقفا وراء المركبة وعيناه تتقدان؛ فإنه لم يكد يسمع اسم الماجور هوف يخرج من شفتيها، حتى اضطرب واصفر وجهه اصفرارا شديدا.
أما ميلادي فإنها صعدت والخادم أمامها إلى غرفتها وخلت إلى نفسها.
وقد كانت أظهرت شيئا من الجلد أمام روكامبول، غير أنها حين أتت وحدها فكرت في أمورها فعلمت أنها شديدة التعقيد؛ لا تحل إلا بارتكاب الجرائم الهائلة أو بالتخلي عن المال.
ثم افتكرت أن ولدها إذا عرف آثامها أنكرها واحتقرها وأنف من مالها، بل ربما أفضى به اليأس إلى الانتحار، كما قال لها روكامبول، فهاجتها عواطف الحنو وأوشكت أن تجن من اليأس.
ولكنها عادت إلى التفكير بهذه الثروة التي لم تنلها إلا بعد إهراق الدماء، وأنها أودعتها في مكان خفي لا يمكن أن تنالها يد مغتصب، فعز عليها تسليمها، لا سيما وقد عودت ولدها عيشة البذخ والترف وقالت له حين عرفته: إنك أغنى غني في فرنسا. فكيف تستطيع أن تقول له الآن: إنك أفقر فقير؟!
وقد علمت من محادثتها مع روكامبول أنه خصم شديد عنيد لا يسلم من يخوض معه في مجال الأخطار، فإذا لم يسرع خصمه بالتأهب كان من الخاسرين لا محالة.
ولم يكن لديها غير رجل واحد يستطيع أن يخدمها في مثل هذه المهمات؛ وهو فرانز، فأسرعت إلى الاجتماع به ولكنها وجدت أنه لم يعد بعد إلى الفندق كما تقدم.
أما فرانز أو الماجور هوف فإنه كان يقيم معظم الليل في النادي مع اللاعبين ولا يعود إلا بعد انتصاف الليل.
وكان جميع من في الفندق يعلمون اتصال فرانز وميلادي، ونادت ميلادي الخادم الذي لقيته حين وصولها وأمرته أن لا ينام قبل عودة الماجور هوف، وأن يخبره حين عودته أنها بانتظاره.
وانصرف الخادم وفتحت ميلادي نافذة غرفتها ووقفت تستنشق الهواء البارد؛ إخمادا لثورة غضبها المتوقد في فؤادها.
ولبثت على هذه الحالة نحو ساعة وهي تفكر في طريقة تعينها على الفرار من روكامبول وإنقاذ ولدها منه وأمنها مطاردته، فلم تجد لذلك وسيلة.
وفيما هي على ذلك سمعت وقع أقدام في الرواق المتصل بغرفتها فقالت في نفسها: هو ذا فرانز قد عاد، ثم سمعت بابها يطرق فأذنت للطارق بالدخول.
وعند ذلك فتح الباب ودخل منه رجل لم تكد تراه ميلادي حتى ذعرت ذعرا شديدا، وكاد يغمى عليها من الخوف.
أما هذا الرجل فلم يكن روكامبول ولا فرانز، بل كان ذلك الرجل الذي انتحل لنفسه اسم رستق باشا، فتقدم من ميلادي ببطء وهو مشبك يديه فوق صدره قائلا لها: أعرفتيني يا مس ألن؟
فوهت ركبتاها وسقطت على كرسي كانت واقفة بالقرب منه وهي تجيب: علي رمجاه!
فاستل علي خنجرا ؛ لأن هذا الهندي المتنكر كان علي رمجاه رئيس الخناقين الأعظم في الهند وأجابها: نعم أنا هو علي رمجاه وقد أتيت لعقاب الخائنين!
42
وكان علي رمجاه ينظر إليها نظرات هائلة ويدنو منها والخنجر مشهر بيده، وهي تنظر إليه مبهوتة وأسنانها تصطك من الخوف.
ثم دنا منها أيضا وقال: أي مس ألن، أين ضاعت تلك العهود والمواثيق؟! وكيف نكثت بذلك الأيمان ...؟ إنك لا تجيبين بحرف ولكني أعرف كل شيء؛ فإن قلبك قد ملكته لسواي وأنت تكرهينني الآن.
فركعت أمامه وقالت: أسألك العفو؟ - لا عفو عندي ولا رحمة وسيكون الموت عقابك وعقاب فرانز، ولكني أريد أن أعرف قبل ذلك: أين ولدي؟
وقد تهدج صوته حين قال ولدي وبدت فيه لهجة الحنان، كأنما هذه اللفظة كانت ماء على جمر غضبه المتوقد.
أما ميلادي فكانت تنظر إليه برعب، لكنها على رعبها كانت تبدو عليها ملامح الإعجاب به؛ لأن شمس الهند المشرقة لم تؤثر على جماله، ولم تحدث تلك الأعوام الطويلة أقل أثر في جبينه، فكان لديها كما نظرته لأول مرة.
وعاد علي إلى القول: أين ولدي؟
وكان الخنجر لا يزال في يده غير أن لهجة حنوه طمأنت ميلادي، فقالت له: إنه في باريس أراه كل يوم وهو يعبد أمه عبادة.
وألقى علي خنجره كأنه يخشى أن تسبقه يده إلى الانتقام وكانت ميلادي لا تزال راكعة فقالت له: لا أنكر أن زلتي عظيمة ولكنني أرجو أن يكون عفوك أعظم، فإنك هجرتني عشرين عاما لم أرك فيها ولم تكتب لي في خلالها حرفا، بل كنت تصدر إلي أوامرك الهائلة بواسطة عبيدك! ألم تمنعني كل هذا الدهر أن أرى ولدي؟ ألم أعش هذا العمر معتزلة عن الناس كما يعيش النساك، وأنا أنتظر عودتك دون أن يتحقق هذا الرجاء؟ - لم يكن أمري بيدي وأنت تعلمين المنصب الذي كنت فيه. - أما أنا فقد كنت وحدي مسترسلة إلى الأحزان تتمثل لي ذنوبي، ويقتلني تقريع الضمير، وليس لدي صديق أئتنس به وأفرج بعشرته همومي، وقد تركت لي في خدمتي رجلا أنت جعلته شريكا لي في الجريمة، وهو رجل شقي سافل، غير أنه كان عارفا بأسرار جرائمي فلزمني لزوم ظلي وتدله بغرامي.
ثم زحفت على رجليها إلى علي رمجاه وقد شعرت أن حب هذا الرجل قد عاد إلى فؤادها، وعادت سلطته القديمة، وهو الرجل الذي أغرت فرانز على قتله، وقالت بلهجة القنوط: نعم، إني كبحت جماح نفسي أعواما طويلة، لكن هذا الرجل الصبور تغلب على علي رمجاه في ساعة ضعفت فيها نفسي ونكثت بعهودي وخنت عهدك المقدس، فأنا أستحق أفظع موت فاقتلني كما تشاء، لكني ألتمس منك أن تأذن لي قبل الموت أن أرى ولدي.
فأوقفها علي بيده ونظر إليها نظرا طويلا وهي منكسة الطرف وقال لها: إنك لا تزالين جميلة.
وعلمت ميلادي أنها نجت من قبضته.
أما علي فقد تابع بعد سكوت طويل: إني أريد قتل هذا الرجل وسأقتله لا محالة.
فأطرقت ميلادي برأسها إلى الأرض وقد تخلت عن الماجور هوف.
وعاد علي إلى الحديث فقال: إني الآن حر وقد سلمت سلطتي الهائلة التي طالما أقصتني عن أوروبا، فلم أعد أدعى علي رمجاه زعيم الخناقين، بل أنا أدعى الآن رستق باشا، فلا تستطيع حكومة الهند والحكومة الإنكليزية وصولا إلي، وأنت غنية وأنا غني وقد أتيت للبحث عنك. - إلى أين تريد أن تذهب بي؟ - إلى البلاد الأميريكية؛ فإن سفينة لي تنتظرني في الهافر. - وولدنا؟! - يسافر معنا ... - ولكنه شاب جميل عازم على الزواج ... - إذن تسافر خطيبته معنا ...
وبينما كان علي رمجاه يخاطبها كانت تتذكر ما قاله لها الماجور أفاتار والشروط التي عرضها عليها قبل ساعة؛ فأخذت يد علي رمجاه بين يديها وقالت له بصوت مضطرب دل على مبلغ خوفها: أتظن يا علي أنك حر؟! - دون شك! - ولكنك منخدع فقد يقبضون علينا ونصبح أسيرين بعد يومين. - ومن الذي يأسرنا؟! - تقبض علينا الحكومة الإنكليزية فتحاكمك بصفتك زعيم الخناقين، وتحاكمني أنا لقتلي أبي.
فضحك ضحكا عاليا وقال: إنك تعلمين أن الحكومة الإنكليزية عينت جائزة عظيمة منذ أعوام كثيرة لمن يأتيها برأسي، ولا يزال هذا الرأس مركبا على هذا البدن كما ترين! - ولكن خطر اليوم غير خطر أمس. - كيف يكون هذا الخطر؟! وكيف يقبضون علي وأنا مسافر بجواز عثماني وأدعى رستق باشا؟! - إنك منخدع فليست الحكومة التي تقبض عليك بل الماجور أفاتار.
ثم قصت عليه جميع ما جرى لها مع روكامبول، ولما أتمت حديثها ضحك علي رمجاه قائلا: أيوجد من يجسر على التعرض لي؟! إذن سأسحقه سحق الزجاج! - وهو يسحقك.
وغضب علي ولكنه ما لبث أن عاد إلى السكينة فقال: تقولين: إن هذا الرجل أمهلك 24 ساعة للتفكير؟ - نعم ... - ولكننا سنكون خارج باريس قبل هذه المدة أنا وأنت وولدنا وخطيبته.
وفيما كان علي يتكلم، سمع وقع أقدام في الرواق ثم قرع باب الغرفة؛ فاصفر وجه ميلادي ثم فتح الباب ودخل منه الماجور هوف؛ أي فرانز، فاضطربت ميلادي اضطرابا عظيما وغطت وجهها بيديها.
43
وقد اضطرب فرانز أيضا حين دخوله؛ لأنه يعرف نفوذ ذلك الهندي الهائل، أما علي فإنه وثب مسرعا إلى الباب فأقفله ووقف بينه وبين فرانز؛ حذرا من فراره.
أما فرانز فإنه نظر نظرة الفاحص إلى ميلادي فأطرقت بنظرها إلى الأرض، وعلم أن الهندي قد عاد إلى تسلطه على قلبها.
ودنا علي رمجاه من فرانز وقال له: أيها العبد الزنيم، إنك تجاسرت على رفع عينيك إلى المرأة التي أحبها فوجب أن تموت.
ثم أسرع إلى الأرض والتقط ذلك الخنجر الذي رماه؛ حذرا من أن تبتدره الحدة فيطعن به ميلادي.
غير أن فرانز لم يكن هيابا وقد دبت الحماسة إلى قلبه بحضور ميلادي، وكان هو أيضا ضخم الجثة عريض المنكبين شديد العضلات كعلي، فاستل خنجره وقال لعلي: إنك مخطئ، فما أنا بعبد، وما أنا بخادم.
فقال علي بلهجة المحتقر: إذن أنت ماذا؟! - أنا رجل رفعتني ميلادي إليها وساوى الحب بيني وبينها في كل مقام.
فلم يجبه علي، ولكنه التفت إلى ميلادي وسألها: أتسمعين ما يقوله هذا الرجل؟!
وأطرقت ميلادي بعينيها دون أن تجيب، فقال لها علي: إن هذا الرجل يفتخر بأنك تحبينه فقولي لي: إنه سافل منحط لا يستحق منك نظرة رفق.
وقال لها فرانز: قولي إذن لعلي رمجاه: إن شفتي تقبل شفتيك منذ عشرة أعوام، وإن الحب قد ألف بين قلبينا فكنا نقتسم السراء والضراء وكنا روحا واحدة في جسمين.
وسكتت ميلادي ولم تجسر على النظر إلى واحد من هذين الرجلين اللذين سيقتتلان من أجلها. أما فرانز فإنه هز الخنجر بيده وقد غضب لصمتها وقال: أرى أن هذا الرجل قد أخافك يا ألن وقد تهددك بسلطته السرية الهائلة، ولكني لا أخشاه، ولا أخشى هذه السلطة.
وكأنما هذه الكلمات قد أذكرت ميلادي ما كانت تعلمه من بأس علي رمجاه ووازنت بين قوة الرجلين ورجحت في تصورها كفة علي، ثم ذكرت أنها ابنة أعظم نبلاء إيكوسيا، وأنها قد انغمست في حب خادم لها، فنظرت إلى فرانز نظرة ساحقة وقالت له: أيها العبد الزنيم، إنك كاذب، فما أنت إلا من أسفل الخدم وما أحببتك في حياتي، بل أنا أحتقرك.
وصاح فرانز صيحة منكرة وطاش رأسه واتقدت عيناه ثم انقض بخنجره على ميلادي وقال: إنك ستموتين قبله أيتها الفاجرة الخائنة.
ولكنه قبل أن يتمكن من الوصول إليها وطعنها الطعنة القاتلة سمع صوتا في الغرفة يشبه الصفير، ثم شعر أن حبلا قد التف على عنقه وجذبه فسقط على الأرض لا يعي.
وقد أطلق على عنقه هذا الحبل علي رمجاه وهو سلاح الخناقين الهائل، ولما رأى علي أن فرانز سقط على الأرض سقوط الأموات أسرع إلى ميلادي، وهي توشك أن تجن من الرعب، فتأبط ذراعها وقال لها: هلمي بنا إلى ولدنا لنأخذه ونهرب. •••
ومع ذلك؛ فإن روح فرانز لم تفارق جسمه الذي لا يتحرك ولا يعلم إذا كان مات أو بقي حيا بعد أن التف ذلك الحبل الهائل على عنقه، غير أن روحه الخالدة لم تضمحل، ولم تفقد حاسة الحقد والغيرة، فحدثت أعجوبة يستحيل تأويلها، غير أنها لم تكن دون مثيل روى العلماء كثيرا من هذه الحوادث العجيبة.
ذلك أن روح فرانز اجتازت الفضاء وجعلت تقتفي أثر علي رمجاه وميلادي خطوة خطوة!
ولا يعلم كم أمضت في طوافها واقتفائها أثر هذين العدوين.
وقد مضى الليل وأقبل النهار ودخل الخدم إلى تلك الغرفة التي تركتها ميلادي، فوجدوا الماجور هوف طريحا في أرضها لا حراك فيه، وأسرعوا إلى إحضار الطبيب، ولما فحصه قال: إنه ميت.
وكان يوجد في الفندق في ذلك الحين رجل روسي جاء لزيارة أحد النازلين في الفندق، ولما ذاع خبر موت الماجور هوف تقاطر جميع من كان في الفندق إلى غرفته وبينهم الروسي، ودنا من فرانز ففحصه وقال للطبيب: أظن يا حضرة الدكتور أنك مخطئ؛ فإنه لم يمت بعد!
واستاء الطبيب وقال له باحتقار: ألعلك يا سيدي من الأطباء؟! - إني أدعى الماجور أفاتار وأنا طبيب حين تدعوني الصدف إلى ممارسة هذه الصناعة، ثم تركه ودنا من سرير فرانز وقال: إني سأحيي هذا الميت!
44
في هذه الليلة نفسها شعر لوسيان بعد أن ذهبت أمه بحزن شديد تولد عن أسرار مولده الخفية وكتمان أمه عنه حقيقة مولده واسم أبيه.
وكان لوسيان قد نسي هذه المشاغل قبل شهر؛ لانشغال فؤاده بحب خطيبته وكان يرى المستقبل باسما له، ولكنه بعد أن لقي أمه أظلم هذا المستقبل في عينيه، وقد حاول تلك الليلة أن ينام فلم يستطع إطباق جفنيه ولم يذق طعم الرقاد، وعادت إليه الحمى كما كانت في أول عهد جرحه.
ودقت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وهو يتقلب على فراشه منكمش الفؤاد، كأنما قلبه كان ينذره بأمر هائل، وفيما هو على ذلك سمع جرس الباب الخارجي يدق فاضطرب قلبه؛ لعلمه أن هذا القادم بعد منتصف الليل لم يحضر إلا لشأن خطير!
وفتح أحد الخدم الباب الخارجي وبعد هنيهة رأى أن باب غرفته قد فتح ودخلت منه أمه، فقال لها: لقد علمت أنك أنت القادمة حين طرقت الباب؛ فإن قلبي كان يحدثني بقدومك لشأن خطير. - لقد صدق حديث قلبك يا بني؛ فإني ما أتيت في هذه الساعة المتأخرة إلا لتوديعك وداع الأبد.
وصاح لوسيان وأخذ يدها بيديه فضغط عليها ضغطا شديدا وقال: كيف تفارقينني فراق الأبد وأنا لم أكد أعرفك؟ أتريدين لي الموت يا أماه؟ - أريد أن تكون أسعد إنسان في الأرض. - كيف أكون سعيدا وأنت تنذرينني بهذا الفراق الأبدي، وأي فرق بينه وبين الموت؟ - إنك ستعيش سعيدا مع امرأتك فتسلو فراقي، وهذا ما قدر لي يا بني فإني ما أتيتك في مثل هذه الساعة إلا لتوديعك وإخبارك بما أشكل عليك من أمري؛ فإنك لم تعرف سوى أني أمك، حتى إنك تجهل اسمي.
ولقد قلت لك: إنك لن تعرف أباك إلى الأبد، ولكني لا أريد في مثل هذه الساعة الرهيبة ساعة الفراق الأبدي أن أدع في فؤادك أقل أثر للريب بي يدعوك إلى احتقاري. - أنا أحتقرك يا أماه وأنت عندي أجل النساء وكفى أنك أمي؟ - اصغ إلي يا لوسيان؛ إن أباك حي وهو يحبك كما أحبك، بل هو الآن في باريس.
فوثب لوسيان من فراشه وقال: أيكون أبي في باريس ولا أراه؟! - لا سبيل إلى أن تراه؛ فإنه سيبرح باريس قبل الفجر فلا يراك ولا تراه إلى الأبد، ولا تعجب لذلك يا بني فإني مسافرة معه قبل الفجر، ولهذا أتيت لتوديعك بعد منتصف الليل، ثم يجب أن تعلم يا بني أن أباك لا يحضر إلى المدينة التي تقيم فيها ولا يراك، وأن أمك لا تفارقك هذا الفراق الذي لا لقاء بعده، إلا وقد حكمت عليهما الأقدار هذه الأحكام الجائرة.
ثم اندفعت في البكاء فكاد لوسيان يجن من إشفاقه وجعل يقبل أمه ويبكي معها، فمسحت ميلادي دموعها وقالت: إن أباك يا لوسيان قد حكم عليه بالإعدام.
وانذعر لوسيان حتى أوشك أن يسقط على الأرض، ثم عاد إليه رشده وسكينته وقال: أريد أن أعرف الحقيقة مهما كانت ومهما كان وقعها شديدا علي. - نعم يا ولدي يحق لك أن تسأل معرفة هذه الحقيقة، فاسمع الآن تعلم كل شيء، إني إنكليزية وأبوك هندي، أما أنا فإني من أشرف أسرات إيكوسيا وأما أبوك فهو أحد أبناء ملوك الهند الذين اغتصب ملكهم الإنكليز.
وتنفس لوسيان الصعداء وقال: إذن، إن أبي لم يكن من المجرمين . - إن أباك أعظم نبيل، وقد أراد الإنكليز أن يستعبدوه كما استعبدوا سواه فأبت نفسه الكبيرة حمل الضيم، ودافع دفاع اليأس عن عرش أجداده وقاتل قتال المستبسل المستميت وطالما كسر جيش الإنكليز شر انكسار؛ لأنه كان يقود الهند بنفسه إلى أن خانته الأقدار وخسر معركة كبرى وقع فيها أسيرا بأيدي الإنكليز، وأرسلوه إلى لندرا وقد عرفته وأحببته وأحبني حبا يشبه العبادة.
وكان أبي حاكما في الهند وقد أقام في تلك البلاد دهرا طويلا، وكان يحتقرهم ويكرههم أشد الكره، ولو علم بحبي له لكان قتلني لا محالة.
غير أن كره أبي للهنود لم يمنعني عن حب هذا الفتى، واتفقنا على الزواج وعقد زواجنا بالسر كاهن من الكاثوليك.
فبرقت أسرة لوسيان بأشعة الفرح وقال: إذن إن ولادتي شرعية ولا شك في نسبي. - هذا لا ريب فيه يا بني؛ لأن أمك لا ترتكب إثما غير أنك ابن رجل مضطهد، ولنعد الآن إلى حكاية أبيك، فإنه تمكن من الفرار من لندرا بعد زواجنا على باخرة تجارية فحملته إلى الهند وهناك جمع بقايا جيشه وعاد إلى مقاتلة الإنكليز وقاتلهم 30 عاما، كان يتراوح في خلالها بين الانتصار والانكسار، فتارة يدحر أعداءه إلى شاطئ البحار وطورا يدحرونه فيعتصم في الجبال.
إلى أن قنط الإنكليز منه فجعلوا يرسلون لقتاله الجيش تلو الجيش حتى أفنوا جنوده واضطر إلى مبارحة الهند والكف عن القتال؛ لامحاق جنده.
ولما علمت الحكومة الإنكليزية بفراره عينت جائزة عظيمة لمن يقبض عليه وبثت العيون والأرصاد في كل مكان، فهي تقبض عليه أينما وجدته.
فسألها لوسيان: أيمكن القبض عليه وهو في فرنسا؟ - نعم؛ فإن القبض عليه لا يكون مباشرة؛ لأنه يوجد في باريس عصابة تنتظر قدومه للقبض عليه بالسر. - أكانوا يعلمون أنه سيحضر إلى باريس؟ - نعم؛ فإنهم كانوا يعلمون أنه له فيها ولد وامرأة ...
ففرح لوسيان وقال: إذن سأراه ... - كلا؛ لأنه يسافر في هذه الليلة إلى الهافر وهناك سفينة تنتظره للذهاب به إلى أميريكا حيث يكون آمنا من الإنكليز؛ ولهذا جئت إليك كي أودعك الوداع الأخير. - إذن أنت تسافرين؟ - لا بد لي أن أتبع زوجي.
فطوق لوسيان عنق أمه بذراعيه وقال: كيف أبقى هنا وحدي؟ وماذا يمنعني من السفر معك؟ - أنت تسافر معنا إلى أميريكا؟! - بلا ريب. - وخطيبتك؟! - تسافر معنا. - أتظنها ترضى بالسفر؟! - إنها ترضى بكل ما أرضاه. - أتعلم أنه يجب أن نسافر بعد ساعة؟ - لا شيء يحول دون سفري وسفر خطيبتي؛ فإن ساعة تكفينا للتأهب.
وعند ذلك سمعا مركبة وقفت عند باب المنزل، فقالت ميلادي: هو ذا قد جاء؛ ليسير بي، ثم طرق الباب الخارجي ففتح ودخل منه علي رمجاه فاجتاز حديقة المنزل وصعد إليه فقالت له ميلادي: أبشر يا بني فسترى أباك.
وبعد ذلك بخمس دقائق كان هذا القاتل السفاك يضم لوسيان إلى صدره وعلائم الحنو بادية بين عينيه، وكانت ميلادي واقفة بالقرب منهما تنظر نظرات الإعجاب إلى الولد وأبيه، وحسب لوسيان أن أباه من أبطال التاريخ، وأن أمه من ملائكة الطهر! فصاح صيحة فرح وقال: إني أسافر معكما إلى أقصى مكان في المعمور.
فقالا: إذن هلموا بنا؛ فإن الوقت غير فسيح.
وأسرع لوسيان إلى لبس ملابسه وخرجوا جميعهم إلى منزل خطيبته ماري وأخبرها لوسيان بجميع ما اتفق، فوافقت على السفر وخرجت معهم فساروا جميعهم إلى الهافر.
أما ميلادي فكانت في جميع تلك المدة مضطربة أشد الاضطراب؛ لخوفها من روكامبول ولم تكن خائفة من أن يمنعهم عن السفر، بل كان معظم خوفها من أن يرى لوسيان ويقول له: إن هذا الرجل الذي حسبته من أبطال التاريخ هو من أبطال اللصوص، وتلك الأم التي حسبتها من ملائكة السماء هي قاتلة أختها وأبيها، وهي شيطان بصورة إنسان. •••
ولنعد الآن إلى فرانز، لقد تركناه فاقد الرشد في الجران أوتيل بين طبيب يقول: إنه ميت لا رجاء منه وبين روكامبول الذي كان يثبت أنه من الأحياء.
وقد خرج الطبيب مستاء وبقي روكامبول وكثير من الناس في الغرفة، فقال لهم روكامبول: إني أحتاج أن أكون وحدي مع هذا العليل، فخرج الجميع ولم يبق في الغرفة إلا روكامبول وفرانز.
وأخذ روكامبول مسحوقا وأذابه في كأس ماء، ثم أجلس فرانز في سريره وفتح فمه وسقاه ذلك المسحوق، وجعل يفرك صدغيه بالخل، ولم تمض هنيهة حتى اهتز فرانز في السرير ثم زاد الاهتزاز وجعل يتنهد.
غير أنه لم يستيقظ ولم يفتح عينيه ولكن شفتيه تحركتا، وخرجت منها لفظة ميلادي بصوت ضعيف يشبه الهمس، فأقفل روكامبول باب الغرفة من الداخل وأقبل يصغي إلى كلماته؛ لوثوقه أنه مصاب بالنوم المغناطيسي وسمعه يقول بصوت متقطع دون أن يفتح عينيه: أي ميلادي، إني أعلم أين هربت وإلى أين رحلت، ولكن الأرض مهما اتسعت فلا يمنعني اتساعها عن طوفها والوصول إليك.
ولم يخطئ روكامبول فإنه كان في حالة النائمين ذلك النوم المغناطيسي، وذكر في الحال باكارا وتلك الفتاة اليهودية التي كانت تنومها فتعلم منها أسرار أندريا وروكامبول، فدنا من فرانز ووقف أمامه كما يقف من يحاولون التنويم، وجعل يشير إلى جبهته تلك الإشارات الاصطلاحية ويمد يده من فوقها دون أن يلمسها، وكان فرانز يظهر مقاومة الجواد العاصي على مروضه إلى أن ظهرت منه إشارة الخضوع، فوضع عند ذلك روكامبول يده على جبينه وقال له: آمرك أن تنظر.
وأظهر فرانز جهدا عظيما يدل على أنه يمتثل بالرغم عنه ثم قال: أراهما، أرى الاثنين.
فقال روكامبول: من هما؟ - ميلادي. - حسنا، ومن الثاني؟ - علي رمجاه؛ فإن الاثنين قد برحا باريس.
فاضطرب روكامبول وقال: متى؟ - هذه الليلة ... - إلى أين ذهبا؟ - إلى البحر. - ألا ترى سفينة؟ - نعم ... - ما نوعها ولونها؟ - من نوع الإبريق مدهونة بالدهان الأسود. - ومن ترى فيها؟ - ميلادي. - ألعلها وحدها؟ - كلا فهي مع علي رمجاه و... - أيوجد معهما أحد أيضا؟ - نعم، رجل وامرأة. - أتعرفهما؟
فسكت فرانز هنيهة ثم قال: نعم عرفتهما؛ فهما لوسيان وخطيبته، وإني أراهما الآن. - ألعل السفينة متأهبة للسفر؟ - كلا ... فإن مراسيها لا تزال في البحر. - ولماذا لا تسافر؟ - لشدة اضطراب البحر، ولأن من يعهد إليه إخراج السفن من الميناء يأبى الخروج بها؛ حذر الأنواء.
فقال روكامبول في نفسه: هذا كل ما أريد معرفته.
وعند ذلك وضع يديه على جبهة فرانز وقال له: آمرك أن تصحو.
وتنهد فرانز لفوره تنهدا عميقا وفتح عينيه فأجال في الغرفة نظرا حائرا إلى أن وقع نظره على روكامبول. - أهذا أنت يا حضرة الماجور؟! وكيف أتيت إلى هنا؟! بل كيف أنا نفسي موجود في هذا المكان؟!
وأجابه روكامبول: اجتهد أيها الصديق أن تتذكر ما جرى لك ليلة أمس وأنا أتمم تذكارك ...
وصاح فرانز صيحة منكرة وقال: نعم ذكرت ذلك الرجل ...
ثم توقف عن الكلام فقال له روكامبول: تريد ذلك الرجل الذي أطلق حبل الخناقين على عنقك وخنقك، انهض وانظر في المرآة أثر الخنق في عنقك.
فاصفر وجه فرانز وأجاب: تبا له من شقي. - إن هذا الشقي هو علي رمجاه زعيم الخناقين ووالد لوسيان وعشيق ميلادي الأول.
وذعر فرانز وسأله: كيف تعرف هذا؟ - اسمع أيضا ... إن ميلادي وعلي رمجاه برحا باريس. - متى برحاها؟! فإني أدركهما ولو ذهبا إلى أقصى المعمور. - إن إدراكهما سهل؛ لأني أعلم إلى أين ذهبا. - كيف عرفت ذلك؟! وإلى أين ذهبا؟ - أسألك المعذرة أيها الصديق فإنك أنت الذي قلت كل ذلك؛ لأني نومتك نوما مغناطيسيا.
وبينما فرانز ينظر إلى روكامبول نظرات الانذهال قال له روكامبول: اعلم إنك مدين لي بالحياة؛ فإن أحد الأطباء حكم أنك ميت منذ ربع ساعة ولو لم أعترضه وأتعرض لإحيائك لكانوا دفنوك حيا، فأنا قد خدمتك خدمة جليلة، غير أني سأخدمك خدمة أجل من هذه؛ وهي القبض على علي رمجاه وعلى ميلادي التي لم تعد تهواك، فاسمع الآن ما أريده.
ثم خلا به روكامبول نحو ساعة ودار بينهما حديث طويل لم يعلم به أحد.
45
كانت فاندا لا تزال مقيمة في ذلك المنزل الذي سجن فيه السير جمس وأقام معها عصابة روكامبول.
وقد لبثت في هذا المنزل 15 يوما لا تخرج إلا للنزهة في حديقته إلى أن جاءها روكامبول فدخل توا إلى غرفتها وقال لها: لقد جئتك بتعليماتي. - كيف ذلك؟! ألعلك عازم على السفر أيضا؟! - نعم ... - إلى أين؟ - لا أعلم الآن، ولكني سأعلم بعد يومين وسأصحب معي في سفري هذا ميلون ومورت ونويل . - وأنا؟ - تبقين هنا مع مرميس لحراسة جيبسي. - والإنكليزي ماذا تريد أن تصنع به؟ - سأصحبه معي.
ثم قرع الجرس فأتى ميلون فقال له: تأهب للسفر بعد ساعة. - أأسافر معك؟ - نعم ...
ثم التفت روكامبول إلى فاندا وسألها: كيف حال جيبسي؟ - إنها ستشفى بعد أسبوع ويعود إليها صوابها وهي قد تعلقت بي بعد قدومها إلى هذا المنزل فلا تفارقني لحظة. - ومرميس؛ ألعله فقد سلطته عليها؟ - كلا لقد وثقت أنها تحبه. - إذا عاد إليها صوابها فإني أريد أن تتزوج مرميس؛ لأنه أهل لها. - والملايين؛ ماذا جرى بها؟ - إني مسافر للحصول عليها.
ثم مد يده إلى جيبه وأخرج منها غلافا ضخما مختوما وأعطاه لفاندا وقال لها: خذي الآن هذا الغلاف وإذا لم أعد بعد ثمانية أيام فافتحيه واعملي بكل ما فيه؛ لأنه يتضمن تعليماتي.
واضطربت فاندا كأنما خشيت أن يصاب روكامبول بمكروه جديد وقالت له: سأطيعك في ما تريد، ولكن كيف لا تعود بعد ثمانية أيام؟! - إني مسافر إلى الهافر. - إلى إنكلترا؟ - لا أعلم إلى أين تكون وجهتي إلا بعد أن أبلغ متن السفينة.
وأطرقت فاندا برأسها ولم تلح بالسؤال.
أما السير جمس فإنه كان لا يزال في القبو موثق اليدين والرجلين، وكان ميلون يحضر له الطعام مرتين في اليوم فيحل وثاقه إلى أن يأكل، ثم يعود إلى شده ويدعه في ظلمات القبر.
وقد كان السير جمس استرسل إلى اليأس في بدء أمره وحاول الانتحار مرارا فلم يفلح، ثم استسلم إلى الأقدار وذهب ما أصابه من اليأس فلم يعد يكترث لما هو فيه.
وأقام في هذا السجن الضيق خمسة عشر يوما، إلى أن فتح يوما باب القبو ورأى ميلون داخلا إليه، غير أن ميلون لم يكن وحده هذه المرة؛ فقد كان يصحبه رجل لم يلبث السير جمس أن رآه حتى ارتعش؛ إذ عرف أنه فرانز؛ أي الماجور هوف خادم ميلادي الأمين.
أما فرانز فإنه أخذ كيسا من جيبه مملوءا من الذهب ودفعه إلى ميلون وقال: خذ جزاء خدمتك، فأخذ ميلون الكيس وتظاهر بالسرور، فأيقن السير جمس أنه أغراه على خيانة روكامبول.
أما ميلون فإنه تركهما وانصرف، فنظر السير نيفلي نظرة ابتهاج إلى فرانز وسأله: أنت هنا؟! وكيف أتيت؟! - أتيت لأنقذك؛ فقد أغريت هذا الخادم الذي نيطت به حراستك وأنت حر الآن. - وروكامبول؟! - ليس في المنزل. - ولكن هذا المنزل غاص بخدامه. - إنك مخطئ أيضا؛ لأنهم قد برحوا المنزل كلهم، ولم يبق فيه أحد، وكل ذلك بفضل ميلون.
ثم فك قيوده وقال له: هلم بنا؛ لأن الوقت ضيق. - أنخرج من هنا؟! - نعم ثم نبرح باريس على الأثر وإذا أردت أن تكون حرا، فإني أطلب إليك أن تقسم لي يمينا أن تطيعني مدة 48 ساعة طاعة لا حد لها مهما كانت أوامري غريبة! - إني أطيعك وأقسم لك على ذلك مهما كانت أوامرك؛ لأني شديد الظمأ إلى الحرية. - إذن اتبعني.
فتبعه السير نيفلي وخرج الاثنان خارج المنزل وكانت مركبة تنتظر على الباب ففتح فرانز المركبة وقال للسير نيفلي: ادخل. - إلى أين نحن ذاهبان؟! - إلى محطة السكة الغربية؛ حيث نسافر في قطار نصف الليل إلى الهافر. - وماذا نصنع في الهافر؟! - نسافر منها إلى إنكلترا.
فاتقدت عينا السير نيفلي بأشعة الحقد وقال: كنت أود أن أنتقم من روكامبول قبل السفر. - إننا سننتقم هناك؛ لأن روكامبول في إنكلترا.
فلم يخطر للسير نيفلي أن فرانز انفصل عن ميلادي وانضم إلى روكامبول وسافر وهو آمن مطمئن لا تدور الخيانة في باله.
46
كان منظر ميناء الهافر غريبا في بابه؛ لأن السفن لم تخرج منذ أسبوع من حوضه؛ لكثرة العواصف والأنواء، ولأن هذه السفن لم تجد مرشدا يجسر أن يخرج بها من الميناء، فكانت الخمارات والفنادق المجاورة للميناء غاصة بالبحارة.
وكانت السفن تراقصها الرياح فوق المياه، فيخشى عليها وهي داخلة الميناء أن تقطع مراسيها؛ لشدة هياج البحر، وندر وجود الناس على الأرصفة؛ لشدة عصف الرياح.
وهناك خمارة تدعى الفتاة المتوحشة، كان فيها نحو ثلاثين رجلا كانوا ينظرون فيها من خلال الزجاج إلى سفينة هندية تدعى سيوا، وقد استلفتت أنظارهم؛ لجمال رونقها، وجعلوا يتحدثون فيها ، وقد افتتح الحديث بحار قديم بينهم أحنت ظهره الأيام، فكان يقول: إن البحر هائج وهذه العواصف لا تهدأ قبل ثمانية أيام على الأقل، ولا يمكن لهذه السفينة الهندية أن تخرج من الميناء.
فقال له أحد البحارة: أرأيت ربانها، فإننا لا نراه يفارقها ولم ينزل مرة إلى البر؟! - نعم رأيته في السفينة نفسها، وأما الربان الثاني؛ فقد جاء في صباح اليوم إلى هذه الخمارة؛ لشحن ما تحتاج إليه السفينة من المئونة، ولكنه لم يتجاوز هذه الخمارة وما ذهب مرة إلى الأسواق؛ لأنهم يحضرون له جميع ما يحتاج إليه في الميناء وهو يتكلم بالإنكليزية والفرنسية وإخاله يتقن جميع اللغات؛ لأني رأيته يكلم الهنود أيضا.
وكان بين الحضور رجل في أذنيه حلقتين كبيرتين من النحاس، فكان يسأل البحارة أسئلة مختلفة عن الميناء ومخارجها، فيعلم منهم كل أمورها بالتدقيق.
ولبثوا على ذلك إلى أن غابت الشمس، فتفرقوا جميعهم وذهب كل في شأنه وبعد ساعة عاد ذلك الرجل الذي كانت في أذنيه الحلقتان وطلب إلى صاحبة الخمارة أن تحضر له العشاء فقالت له: أتريد أن تأكل وحدك، أم تحب أن يكون لك رفيق؟ - بل أود أن يكون لي رفيق؛ فمن هو هذا الرفيق؟ - هو ربان السفينة الهندية الثاني وقد صعد إلى الغرفة العالية. - إذن سأصعد إليه.
ثم صعد إلى الغرفة فلم يكد يراه الربان حتى حياه تحية المرءوس للرئيس، فأقفل صاحب الحلقة الباب وقال له: كل شيء تهيأ؟ - نعم على ما يرام. - ألم يعرفوهم؟ - لم يعرفوا أحدا منهم؛ لأن ميلادي مرت ثلاث مرات بالقرب من فرانز فلم تعرفه. - ولا ميلون؟ - وكذلك ميلون؛ فقد صبغ وجهه بلون نحاسي وصبغ شعره بلون السواد فلم يعد يعرف. - أأنت واثق من بقية البحارة؟ - ثقتي من نفسي. - إني مسرور منك يا نويل؛ لأنك تبرهن لي عن ذكائك منذ عهد بعيد.
فقال له نويل: لقد أقمت عشرة أعوام، يا حضرة الرئيس، في خدمتك. - أترى أننا نستطيع السفر غدا؟ - إن البحر شديد الهياج، ولكن الذي أراه أنه يجب السفر في القريب العاجل .
فقال له روكامبول ، وكان متنكرا بشكل الهنود وواضعا تلك الحلقة في آذانه: وأنا أيضا أرتئي رأيك ولا أبالي بالعواصف؛ فقد ألفتها، ولا يعارض علي رمجاه في السفر؛ لأنه لا ينتظر غير المرشد، وسيحصل غدا على المرشد؛ لأن هذا المرشد هو أنا!
فضحك الاثنان وجعلا يأكلان.
47
كان الظلام مدلهما، والهواء زمهريرا، والسفن ترقص فوق الأمواج المضطربة فتلتطم بالقوارب، وقد أقفرت الأرصفة من الناس؛ لاشتداد العواصف.
وكان على ظهر تلك السفينة الهندية التي تقدم ذكرها، رجلان واقفان قرب الدفة يتحدثان بصوت منخفض؛ وهما: نويل وميلون.
وكان كلاهما متنكرين أتم التنكر؛ بحيث لو دخلا إلى شارع فيرابو وهما بهذا الزي لما عرفهما أحد.
وكان ميلون يسأل نويل: كيف حدثت هذه العجائب؟! وكيف أصبح هو الربان الثاني لهذه السفينة؟!
فقال له نويل: اصغ إلي؛ إني موضح لك كل شيء. - إني مصغ كل الإصغاء والذي أعلمه أنك سافرت مع الرئيس إلى إنكلترا منذ 3 أسابيع. - نعم في اليوم التالي لإنقاذه من البئر. - هو ما تقول، لكن لماذا سافر إلى لندرا؟! - إنه ذهب لمقابلة وزير البحرية في المستعمرات فقال له: «إن الحكومة الإنكليزية عينت جائزة لمن يأتيها بعلي رمجاه رئيس الخناقين الأعظم فأعطني هذه الجائزة.» ثم أخبره بأمور كثيرة عن الخناقين، ويظهر أن الوزير وثق به ثقة عظيمة؛ فإنه أعطاه جميع ما طلبه في الحال وعين له كثيرا من الرجال يمتثلون لأمره فأتينا توا من بريتون إلى هنا. - إني لم أفهم شيئا بعد؟! - اصغ إلي فستعلم كل شيء، إنهم أعلموا الرئيس في الوزارة بأمور كثيرة، مثال ذلك: أنهم أخبروه أن سفينة هندية بحارتها من الهنود، يقودها الربان الثاني، ستحضر من الهافر؛ كي يسافر فيها الربان الأول إلى نيويورك.
فسأله ميلون: ألعل الربان الأول هو ذلك الرجل الذي جاء صباح أول أمس؟ - هو بعينه ولكن كما رأيت لم يحضر وحده بل جاء بعائلته التي سترافقه في هذا السفر. - ولكني لم أعلم بعد كيف اتصلت بهذه السفينة الهندية وصرت ربانها الثاني وصرنا - نحن عصابة روكامبول - بحارتها؟ - إن الأمر بسيط ؛ فقل لي: أتذكر كيرشي والسير جورج ستوي؟ - نعم. - إن كيرشي أطلع روكامبول على بعض أسرار الخناقين، وأطلعه بقيتها السير جورج ستوي وهو حاقد على السير جمس نيفلي وعلي رمجاه حقدا لا يشفيه غير القتل. - إني أعلم كل ذلك. - فاستعبد روكامبول السير جورج، ولا بد لك أن تعلم أن السير جورج قد عزل من منصب رئاسة الخناقين في لندرا، لكنه بقي في الظاهر رئيسا، وبقيت له تلك الأشائر والاصطلاحات السرية الخاصة بالرؤساء، فلما وصلنا إلى لندرا أرسل روكامبول إلى السير جورج تلغرافا يأمره فيه بالحضور فحضر، وأرسله روكامبول إلى هذه السفينة الهندية التي كانت في مياه لندرا، فعرف الربان الثاني بنفسه فاستقبله بملء الاحترام والخضوع.
ولقد فاتني أن أخبرك بأمر آخر وهو أن علي رمجاه حين برح الهند كتب إلى السير جورج ستوي مصدرا إليه الأوامر، ولما كان السير جورج قد استبدل بالسير نيفلي أرسلت هذه الأوامر من لندرا إلى السير نيفلي في باريس، غير أنه كان في قبضة روكامبول، فوقعت هذه الأوامر بيد روكامبول وأطلع عليها السير جورج.
أما السير جورج فإنه حين قابل الربان الثاني علم منه أنه لا يعرف علي رمجاه، وكان منصب الرئيس يدعو الربان إلى طاعته في كل شيء، فأمره أن يركب مع ثمانية من بحارة قارب السفينة، فامتثل وركب السير جورج معهم، فتولى هو نفسه قيادة القارب، ولم يكن باقيا في السفينة غير أربعة من البحارة.
فسار السير جورج بهذا القارب إلى سفينة تجارية إنكليزية، كانت راسية في محل معتزل فأنزلت السفينة كثيرا من القوارب الغاصة بالرجال، فأحاطوا بقارب السير جورج وأسروا الربان والبحارة الثمانية وحبسوهم مقيدين في السفينة.
أما السير جورج فإنه بقي في القارب وبقي معه اثنان من بحارة تلك السفينة الإنكليزية وهما مورت وأنت يا ميلون وأنا.
أما السفينة الإنكليزية فقد كانت أرسلتها الحكومة بطلب روكامبول وعادت بالربان والبحارة الهنود إلى الميناء وسلمتهم للحكومة، أما السفينة الهندية فسارت بقيادتي إلى الهافر، ولما وصلنا إلى هنا اخترت من نحتاج إليهم من البحارة من ميناء الهافر وقيدنا البحارة الهنود الأربعة وهم الآن يئنون ويتوجعون في عنبر السفينة.
أعلمت الآن كيف احتال روكامبول على علي رمجاه، وكيف بات هذا الرجل في قبضتنا؟ فإنه هو الذي أوصى عملاءه أن يرسلوا إلى ميناء الهافر سفينة تنتظره فيها، فأرسلوا له هذه السفينة وأخبروه أن اسمها سيوا فنزل إليها وحبس نفسه فيها دون أن يدري. - متى نسافر؟ - غدا. - وروكامبول، أيكون معنا؟ - إنه متنكر بزي المرشد الذي جاء صباح اليوم.
فدهش ميلون وقال: إني لا أرى أقدر منه على التنكر؛ لأني حدقت فيه كل النهار فلم أعرفه!
فوضع نويل إصبعه على فمه وقال له: اسكت؛ هذه ميلادي قادمة.
48
وكانت ميلادي قد صعدت من غرفتها إلى ظهر السفينة، وتبعها علي رمجاه فتأبط ذراعها ووقف وإياها على مسافة بعيدة من ميلون ونويل؛ بحيث يتعذر وصول صوتيهما إليهما، غير أن الهواء كان يهب من جهة ميلادي إلى جهة ميلون ونويل فيحمل إليهما حديثهما، وهذا ما سمعاه:
قالت ميلادي: أتظن يا علي أننا نستطيع السفر؟ - دون شك! - وهذا البحر؛ ألا ترى أمواجه يبلغ زبدها إلى ظهر السفينة؟! - إن المرشد الذي جاءنا في الصباح يثبت أننا نستطيع الخروج من الميناء، ومتى خرجنا منها وبلغنا إلى عرض البحر تهدأ الأمواج وتسكن الرياح؛ لأنها في الموانئ أشد منها في عرض البحار. - آه لو تعلم كم أود السرعة في الفرار! - ألا تزالين تخافين هذا الرجل؟ - إني أخافه أشد خوف، حتى إن شعري يقف عندما يخطر في بالي وهو ممثل لي في كل مخيل. - لا تخشين أيتها الحبيبة بأسا، فلا تمر بضع ساعات حتى نأمن من كل خطر.
فسكتت ميلادي هنيهة ثم قالت: أأنت واثق من الرجلين اللذين تركناهما في باريس؟ - كما أثق بنفسي. - أتظن أنهما يستطيعان بالتوكيل الذي أخذاه منا أن يقبضا تلك المبالغ الطائلة المودعة في بنك دافيس همفري؟ - دون شك. - أأنت واثق أيضا أنهما يحملان هذه الأموال إلينا في نيويورك؟ - ليس لي أقل ريب؛ لأنهما من عبيدي المخلصين.
فنظرت ميلادي إلى السماء وقد بدأت تظهر منها أشعة الفجر فقال لها علي: اطمئني سنبرح الهافر بعد ساعتين.
فظهرت عليها علائم السرور وقالت: سنأمن روكامبول بعد ساعتين، ولو كنت تعلم ما لقيته في هذه الأيام الثلاثة من العناء، لعزيتني لخوفي من هذا الرجل الذي أنقذ جيبسي من المحرقة؛ فقد خيل لي أنه وقف على أثرنا، وكنت كلما رأيت قاربا يسير في مياه الميناء أحسب أنه قادم فيه. - ما هذا الجنون؟! أفقدت ثقتك بي إلى هذا الحد؟ أنسيت أني علي رمجاه؟
فسكتت ميلادي ولم تجب؛ لأن قلبها كان ينذرها بمصاب أليم، فكانت عرضة لتأثرات هائلة.
واستأنف علي الحديث وقال: إني أخبرت لوسيان أن السفينة ستبحر عند الفجر؛ لأنه يجب أن يكون على ظهرها حين إبحارها؛ كي يودع فرنسا الوداع الأخير. - إذن سأذهب إليه أنا؛ فقد رأيت نورا نافذا من غرفته مما يدل على أنه غير نائم.
ثم تركته ونزلت إلى غرفة لوسيان فوجدته متكئا على فراشه يتأمل في ماضيه ومستقبله، وفي ذلك الأب الذي بقي عشرين عاما لا يعرفه، ثم لما عرفه علم أنه محكوم عليه بالإعدام، واضطر إلى الفرار معه إلى البلاد الأميريكية.
فلما رأى أمه داخلة إلية قال لها: أدنا وقت السفر يا أماه؟ - نعم، فإننا نبرح الميناء بعد ساعة ولا يزال الوقت فسيحا لديك إذا أردت الرجوع مع خطيبتك إلى باريس. - إني أحب باريس؛ لأني ربيت فيها، ولكن الواجب يقضي علي أن أكون مع والدي، وما زالت خطيبتي راضية بالسفر؛ فإني لا آسف لبعدي عن فرنسا ما زلت مع خطيبتي ووالدي.
فقبلته قبلات ملؤها الحنو وقالت: هلم بنا إذن إلى ظهر السفينة؛ فقد بدأوا بنشر قلوعها.
وبعد ذلك بساعة كانت هذه السفينة الهندية تسير في الميناء خارجة إلى عرض البحر بقيادة روكامبول الذي كانوا يحسبونه مرشد الميناء.
وكان روكامبول يصدر الأوامر إلى البحارة بمهارة لا تبقي مجالا لأقل ريب؛ لأنه من كبار العارفين بفنون البحر! فسارت بهم السفينة وجميع ركابها على ظهرها حتى خرجت من الميناء، فجعلوا ينزلون إلى غرفهم تباعا فلم يبق غير علي رمجاه ، وكان واقفا ينظر إلى اضطراب الأمواج غير مكترث لأخطارها بعد وثوقه من النجاة من روكامبول؛ إذ لم تخطر له الخيانة في بال؛ لأن جميع البحارة كانوا يشيرون إشارات الخناقين التي تعلموها من روكامبول، ويستحيل أن يخون أعضاء هذه الجمعية رئيسهم الأعظم.
أما ميلادي فإنها كانت لا تزال موجسة خوفا شديدا وقلبها يحدثها أنها لم تنج بعد من أخطار روكامبول.
وبينما كانت في فراشها عرضة لمثل هذه الهواجس والتصورات، سمعت صوتا يشبه الأنين، فأصغت وعلمت أنه غير صوت الصواري وغير أنين الرياح بل هو أنين إنسان خارج من أعماق السفينة، فاضطربت اضطرابا شديدا وهمت بالصعود لإخبار زوجها، ولكنها رأته جاء من نفسه؛ كي يطمئن عليها فأخبرته بما سمعت فذعر علي وأصغى إلى هذا الأنين، فعلم أنه أنين قوم من الهنود؛ إذ كانت تصل إلى مسمعه كلمات متقطعة باللغة الهندية؛ لبعد المسافة.
فداخله الشك وقال: كيف حبس هؤلاء الهنود في عنبر السفينة دون أن أعلم؟!
فقالت له ميلادي: تنبه؛ فإن قلبي ما أنذرني بمصاب إلا وكان المصاب واقعا لا محالة.
فعاد علي إلى ظهر السفينة فوجد البحارة في مواضعهم والمرشد؛ أي روكامبول، يصدر الأوامر ونويل؛ أي الربان الثاني، في موضعه عند الدفة فلم ينتبه أحد لصعوده غير روكامبول.
وكان الهواء زمهريرا، ونويل قد صبغ وجهه ويديه بلون الهنود، فبينما كان علي يراقبه وهو غير منتبه إليه هبت نسمة شديدة كشفت قميصه عن صدره، فظهر لعلي أنه ناصع البياض خلافا للون وجهه ويديه! فأجفل وقال في نفسه: إن هذا الرجل متنكر وهو من أهل الغرب ولكن كيف يمكن أن يحل محل الربان الثاني المرسل إلي من كلكوتا؟!
وقد أيقن أنهم خانوه فأخذ المسدس من جيبه وهم بإطلاقه على نويل لكنه أعاده فجأة إلى جيبه وقال: الخيانة قد حدثت، وجميع بحارة السفينة تحت إمرة مدبر المكيدة، وقد حبسوا البحارة الهنود دون شك، ولا بد لي قبل كل شيء أن أرى أولئك البحارة الأصليين فأنقذهم من العنبر، وأقف على أسرار المكيدة فأستعين بهم على مقاومة أصحابها.
ثم رجع أدراجه وروكامبول يراقبه دون أن يعلم، فنزل إلى السفينة وذهب إلى العنبر فأصغى لأنين الهنود جليا، ورأى الباب مقفلا فجعل يتمعن الفكرة في وسيلة لفتح الباب.
وفيما هو يبحث عن آلة يتمكن بها من كسر الباب رأى فجأة رجلا قد وقف أمامه فصاح صيحة الرعب وتراجع منذعرا إلى الوراء كأنما رأى ميتا قد بعث من قبره!
أما هذا الرجل الذي خرج إلى علي رمجاه من بين البراميل المكدسة في العنبر فقد كان الماجور هوف؛ أي فرانز، الذي توهم أنه قتله بحبله وأنه بات من الأموات!
أما علي رمجاه فإنه قبل أن يصل إلى منصب زعيم الخناقين الأعظم كان من عصابة الخناقين، وقد نال شهرة خاصة بإطلاق الحبل على العنق، فما أطلق حبله على عنق رجل إلا قتله لا محالة، فكيف أمكن لفرانز أن يسلم من حبله وقد رآه بعينه صريعا على الأرض؟! وهب أنه سلم من الحبل، فكيف اتفق وجوده في هذه السفينة؟!
غير أن لأهل الشرق الأقصى اعتقاد بالأرواح لا يتزعزع ولا يزول من نفوسهم مهما استنارت هذه النفوس بالعلم والمعرفة. ولما كان علي موقنا أن فرانز قد قتل رجع إليه اعتقاده الهندي وأيقن أنها روح فرانز قد ظهرت أمامه فتراجع منذعرا حتى التصق بالجدار وهو يقول: إلى الوراء أيها الخيال إلى الوراء!
وكان علي متسلحا بمسدس وخنجر، فلم يخطر له أن يطلق المسدس أو يستل الخنجر؛ لوثوقه أنه أمام روح فرانز والسلاح لا يؤثر بالأرواح.
غير أن اعتقاده ما لبث أن تزعزع حين سمع صفير فرانز، ورأى رجلين قد أسرعا إليه فانقضوا جميعهم على الهندي فجندلوه وجردوه من سلاحه، وكان اللذان أقبلا لنجدة فرانز ميلون ومورت.
وكان ميلون قد ركع فوق صدره وقال له: إني مأمور بقتلك إذا صحت أقل صياح.
وقال فرانز لميلون: ضع ركبتك فوق صدره ولكن لا تطبق فمه؛ لأني أمنعه عن الصياح ولكني لا أمنعه عن الكلام؛ إذ قد يخطر له محادثتي.
فرفع علي عينيه إلى فرانز وقال له: إذن أنت حي ولم يقتلك الحبل؟! - كلا لم أمت كما تراني. - ألديك أوامر بشأني؟ - ربما. - من الذي أصدر إليك هذه الأوامر، ألعله الربان الثاني؟ - كلا، بل هو مرشد السفينة.
فارتعش علي وعلا عند ذلك أنين الأسرى فقال له فرانز: ألعلك تستغرب هذا الأنين؟!
فأجابه علي: قبحت من خائن، لقد علمت كل شيء؛ إنك وأصحابك قد استوليتم على سفينتي؟! - هي الحقيقة بعينها. - وهؤلاء الأسرى هم خدامي الهنود الأمناء، ولكن الهنود مشهورون بالصبر ولا بد لهم من كسر الباب والمجيء لنجدتي وإنقاذي.
فقال له فرانز بلهجة الساخر: وعند ذلك تأمر بشنقنا، غير أنه بقي أمر لم تعرفه يا حضرة الرئيس، وهو أن بحارتك الاثني عشر قد أصبحوا أربعة فقط، فإذا تخلصوا من أسرهم لا يستطيعون مقاومتنا. - تبا لكم أيها الأشقياء، ألعلكم ألقيتموهم في البحر؟! - كلا بل أرسلناهم في سفينة إنكليزية إلى لندرا.
فأن علي أنين القانطين وقال: ويحك أيها الخائن ماذا فعلت؟! ومن هو هذا الرجل الذي تخدمه؟! - هو نفسه سيخبرك باسمه.
ولم يكد فرانز يتم حديثه، حتى دخل مرشد السفينة، بعد أن عهد بقيادتها إلى نويل، فقال لعلي رمجاه: إذا كنت تريد أن تعرف من أنا، فاعلم أني أدعى أمام «ميلادي» الماجور أفاتار، وأما أمامك فإني أدعى روكامبول.
ثم أشار إلى ميلون بالنهوض عن علي وأمر عليا بالوقوف.
فقال له: إنك أنت وميلادي قد اشتركتما بسرقة ثروة فتاة قد توليت حمايتها فهل تريدان إرجاع هذه الثروة إلى صاحبتها؟
فاتقدت عينا علي بجمر الحقد وأجاب: كلا لا نرجعها ما زال لنا عرق ينبض. - إذن أضطر إلى عمل عملا يكسبني مثل هذه الثروة المختلسة؛ وهو القبض من حكومة الهند الجائزة التي عينتها لمن يقبض على علي رمجاه.
فاصفر وجه علي من الرعب وقد أدرك حرج الموقف، غير أنه لم يجب بحرف فقال روكامبول لعصابته: أحكموا وثاق هذا الرجل وضعوه في السجن مع السير جمس نيفلي.
ثم تركهم وصعد إلى ظهر السفينة، بينما كانوا يقيدون يديه ورجليه بقيود الحديد.
49
لما صعد علي رمجاه إلى ظهر السفينة غادر ميلادي في غرفتها مضطربة الحواس؛ لما سمعته من أنين الأسرى، ولو كان حدث لها هذا منذ عشرين عاما لما اكترثت له؛ لأن ثقتها بعلي في ذلك العهد كانت فوق كل حد. غير أن عليا أصبح كهلا، وهو وإن كان لم يزل وحشي الأخلاق غير أن الأيام قد أخذت إقدامه وثباته، وقد باغتته ميلادي مرات فرأته يقف ويتردد في كل أمر خطير، فضعفت تلك الثقة به واشتدت مخاوفها.
ومع ذلك لم تبرح غرفتها بل لبثت فيها تنتظر عودة علي، إلى أن مضت ساعة دون أن يعود، فزادت هواجسها وصعدت إلى ظهر السفينة؛ كي تبحث عنه، فرأت جميع البحارة في مواقفهم ما خلا المرشد، وبحثت عن علي فلم تجده، فنزلت إلى غرفته فرأت بابها مفتوحا، ورأت رجلا جالسا فيها أمام مائدة وظهره متجه إلى الباب؛ فما شكت أنه علي ودخلت وأغلقت الباب.
وعند ذلك التفت الرجل فذعرت ميلادي ذعرا شديدا وأوشكت أن تسقط على الأرض؛ لأن الرجل الذي رأته كان مرشد السفينة، ولكنه لم يكن أصفر الوجه ولم يكن في أذنه حلقة ولم يكن مسترسل الشعر بل كان بوجه الماجور أفاتار الذي ألقى في قلبها هذا الرعب، فالتفت إليها روكامبول وقال ببرود: إني أنتظرك يا سيدتي منذ حين.
ولما رأى ما كان من انذعارها قدم لها كرسيا وقال: اجلسي يا سيدتي واطمئني؛ فإنك في حاجة إلى صفاء الذهن، فلقد نصحتك في باريس خالص النصح فلم تكترثي لنصحي؛ لأنك توهمت أنك تستطيعين النجاة من قبضتي مع علي رمجاه شريكك في الجريمة، فبرحتما باريس تحت جنح الظلام وصحبتما لوسيان وخطيبته وأباها.
فأطرقت ميلادي برأسها دون أن تجيب وبقيت واقفة، فقال لها روكامبول: اسمحي لي يا سيدتي أن أخبرك عما جرى بإيجاز؛ كي تعلمي حرج موقفك.
ثم قص عليها ما عرفه القراء من استيلائه على السفينة بمساعي جورج ستوي وإرسال ثلثي بحارتها إلى لندرا، إلى أن علمت أنه هو الآمر الناهي في السفينة وأن بحارتها لا يخالفون له أمرا، فقال لها: والآن لقد عزمت على الوفاء بوعدي فأسلم علي رمجاه وعامله السير جمس إلى الحكومة الهندية ومس ألن قاتلة أبيها وأختها إلى الحكومة الإنكليزية لترى رأيها في عقابها.
وكأن ميلادي لم تثق بحديث روكامبول فقالت له: أنت تدعي ما لست قادرا عليه؛ لأنك لا تعلم من هو علي رمجاه!
فابتسم روكامبول وقال لها: إنك مخطئة يا سيدتي؛ فإن علي رمجاه الذي تعتمدين عليه هو الآن مقيد بقيود الحديد وملقى في عنبر السفينة مع أولئك البحارة الذين كنت تسمعين أنينهم.
فارتعدت ميلادي ثم قالت: كلا إن هذا محال، وإنك من الكذابين.
فنادى روكامبول عند ذلك فرانز وقال له: تعال أيها الماجور وأثبت لميلادي أني من الصادقين.
فدخل فرانز، ولما رأته ميلادي أوشكت أن تجن وحاولت الفرار، غير أنها وجدت أن فرانز أقفل الباب من الداخل، فركعت أمامه وقالت له: أسألك الرحمة والعفو.
أما فرانز فإنه ضحك ضحكا شديدا وقال لها: لا يحق لي يا سيدتي أن أرحمك وأعفو عنك فليس أمرك في يدي، وما أنا صاحب السلطة في هذا المكان، إنك تخليت عني وانضممت إلى علي رمجاه، فانضميت أنا إلى أعدائك وأصبحت عبدا لهم لا أخالفهم فيما يأمرون.
فجعلت ميلادي تنظر نظرات الذعر والرعب إلى هذين الرجلين وهي لا تعلم من سيكون القاضي عليها.
وعاد روكامبول إلى الحديث فقال لها: لقد عرضت عليك يا سيدتي طرق الخلاص والعيش عيشة سعيدة إذا كان ضميرك يساعدك على هذا العيش فأبيت وتصاممت عن نصائحي.
فعادت إلى ميلادي حميتها وقالت: كيف أقبل وأنت تريد نهب ولدي؟! - كلا، لا أريد نهبه بل أريد تجريده من ثروة ليست له. - إن هذا محال ولو قطعت إربا، فليس من يعلم هذه الثروة إلا أنا، فلا تصل إليها يد مغتصب.
فانبرى لها فرانز وقال: لقد أخطأت يا ميلادي؛ فإني أعرف موضعها أيضا.
ارتعشت ميلادي وقالت: أنت؟! - نعم، فإني عشت معك عشرين عاما فما فاتني سر من أسرارك، وأنا أعلم الآن أنه إذا عرض على السير جوهن ماك فرسون المقيم في أدنبورج هذه المدالية المعلقة بعنقك يعطي حاملها تلك الثروة المودعة في بنك همبري دافيس وشركاه.
فاضطربت ميلادي اضطرابا عظيما وجعلت تنظر إلى الاثنين نظرات نمر وقع في فخ، وتقول: ولدي ... إنهم يريدون نهب ولدي؟
فقال لها روكامبول: أخفضي صوتك لئلا يسمعك لوسيان. - وإذا سمع؟! - نضطر إلى أن نطلعه على الحقيقة. - ولكنه لا يصدق أقوالك. - ربما كان ما تظنين ولكنه لا يلبث بعد بضعة أشهر حين يحكم عليكم القضاء بالشنق أمام سجن نوجات أن يصدق ما قلناه.
فاختلجت ميلادي وركعت أمام روكامبول وقالت: إنك يا سيدي لا أثر للرحمة في قلبك.
فأجابها بصوت يتهدج: إنك مخطئة يا ميلادي، ولكنها مهمة يجب علي قضاؤها، فاعلمي الآن أن الوقت ضيق، وقد دنونا من شواطئ إنكلترا، فهل تريدين المقايضة؟! - ماذا تعني بها؟ - أعني أن أكتم جرائمك وأدع لك حب ولدك وأبقي لك شيئا من هذه الثروة التي سأرجعها إلى صاحبها. - أتفعل هذا؟ - ليس لي حق التصرف بهذا المال ولكني أثق أن ابنة أختك توافقني على ما أفعل. - وبعد ذلك؟ - هذه شروطي: وهي أن تعطيني هذه المدالية المعلقة بعنقك، وعندما نصل إلى إنكلترا تخرجين من السفينة مع ابنك وخطيبته وأبيها وميلون خادمي الأمين، فيأخذ ميلون المدالية ويبقى معك في إنكلترا إلى أن يقبض المال ويعود معك إلى فرنسا؛ حيث تقيمين فيها مع ابنك وهو لا يعلم شيئا من سابق أعمالك، وعند ذلك يعطيك ميلون من هذه الثروة مليونا؛ وهو يكفيك للعيش مع ابنك وامرأته عيشة سعة.
فأطرقت ميلادي برأسها إلى الأرض وهي لا تزال مترددة ثم رأت أن لا حيلة لها ولا رجاء بالمقاومة فانتزعت المدالية من عنقها ودفعتها إلى روكامبول وهي تتنهد وتقول: وعلي رمجاه؟
فأخذ روكامبول المدالية وقال: إنك لن ترينه بعد الآن. - كيف ذلك؟! - إني سأذهب به إلى كلكوتا وأسلمه إلى حاكم الهند.
ثم التفت إلى فرانز وقال له: أرى أيها الماجور أننا قد دنونا من الشاطئ فاصعد إلى الربان الثاني وقل له ليعد القارب.
فخرج فرانز وقالت ميلادي: لكن كيف تفرق ولدي عن أبيه؟
فابتسم روكامبول وأجاب: سوف ترين، لقد أعددت كل شيء.
فأحنت رأسها وجعلت الدموع تتساقط من عينيها.
وبعد ساعة أنزلوا القارب إلى البحر وأنزلوا فيه جميع أمتعة ميلادي ولوسيان وخطيبته بأمر روكامبول.
وكان روكامبول أمر أن يقدم الشاي للوسيان وخطيبته، فوضع فيه مخدرا حتى إذا شربه مع خطيبته تخدروا جميعهم وناموا، أما ميلون فإنه لما تم نقل الأمتعة عاد إلى روكامبول قائلا: لقد تم كل شيء. - إذن لقد حانت ساعة الفراق.
فتنهد ميلون وسأله: ألعلك تسافر أيها الرئيس سفرا طويلا؟ - لا أعلم. - ولكننا نلتقي بعد ذلك على الأقل؟ - لا أعلم أيضا، اسمع الآن تعليماتي وخذ هذين الكتابين إلى لندرا، فأعط أحدهما إلى مس سيسيليا وهو يتضمن الشكر لها عن مساعدتها لي على مقاومة الخناقين وحسن توصيتها بي لدى وزير البحرية، والثاني للطبيب كرشوف الألماني الشهير.
ثم تصحب ميلادي ولا تفارقها إلا حين سفرها، وبعد ذلك تذهب إلى إيكوسيا ومعك هذه المدالية، فتقبض من الرجل الذي أخبرتك عنه جميع ثروة جيبسي، ثم تعود إلى فرنسا. - وماذا عسى تستفيد جيبسي من هذه الثروة وهي مجنونة؟ - إني واثق من شفائها، ومتى شفيت فإنها تتزوج مرميس وهو ينفق ريع هذه الثروة في أحسن وجوه الخير.
فقال له ميلون بصوت يتهدج من الحنو: إن قلبي ينذرني بأنك مفارق أوروبا فراق الأبد. - وأنا أيضا أعتقد بالأقدار مثلك، وقلبي يحدثني أني لا أموت إلا في باريس، واصغ إلي يا ميلون: إني كنت شر الناس ثم تبت، ولكن الله لا يقبل توبتي إلا إذا كرست ما بقي لي من حياتي لصنع الخير، وقد كنت حسبت بعد حادثة فاسيليكا أن مهمتي قد انقضت فحاولت الراحة بالانتحار، لكني نجوت فكانت تلك الحادثة وحادثة نجاتي من لغم تيميلون أعظم برهان على أن الله لم يرد لي الموت، وأن مقاومتي للخناقين في لندرا وباريس يجب أن أتمها في الهند مقر هذه الطائفة.
فغطى ميلون وجهه بيديه وبكى، ثم التفت إليه وسأله: ألا تصحبني معك أيها الرئيس؟! - كلا، إذ يجب أن تبقى في أوروبا لتنفيذ أوامري.
ثم دفع إليه غلافا ضخما مختوما كتب فوقه اسم مرميس وقال له: والآن قد حان الفراق أيها الصديق، فأستودعك الله.
فأخذ ميلون يد روكامبول فقبلها وغسلها بدموعه وهو يقول: قل يا سيدي إلى اللقاء، واسأل الله معي أن نلتقي.
وبعد ذلك ببضع دقائق أنزلوا إلى القارب لوسيان وخطيبته وأباها وهم مخدرون لا يعون على شيء، ثم نزلت في أثرهم ميلادي، فقال لها روكامبول: لقد أمرت ميلون أن يدفع لك مليونا بعد شهر.
فنظرت إليه نظرة ملؤها العظمة والكبرياء.
فقال لها: لا ينبغي يا سيدتي أن تنظري إلي هذه النظرات، بل يجب أن تحمدي الله الذي أنعم عليك بابن باسل شريف كان السبب في إنقاذك من عقاب الله وعقاب الناس؛ لأن الله لا يعاقب الأم المجرمة؛ كي لا ينسحق قلب ولدها البريء.
فلم تجبه ميلادي بحرف ونزلت إلى القارب، واندفع بهم إلى البر بقيادة ميلون.
أما روكامبول فإنه التفت إلى نويل وقال له: سر بنا الآن في طريق الهند.
50
بعد ذلك بأربعة أشهر كانت جيبسي مع فاندا جالستين على مقعد في حديقة ذلك المنزل الذي أخذته فاندا من السير جمس نيفلي ومعهما رجل هو ذلك الطبيب الألماني، الذي أرسل إليه روكامبول كتابا إلى لندرا مع ميلون يدعوه فيه إلى معالجة جيبسي.
وكانت فاندا تحادث الطبيب بصوت منخفض لا تسمعه جيبسي فتقول: أتظن يا حضرة الطبيب أن جيبسي قد شفيت من مرضها؟ - كل الشفاء. - ألا ترى خطرا عليها بإرجاع الشاب الذي تهواه؟ - بل إن وجوده معها الآن يبعد عنها كل خطر في المستقبل.
فقامت فاندا لفورها ونادت ميلون وقالت له: اذهب في الحال إلى مرميس وقل له يحضر.
وكان الطبيب أمر بإبعاد مرميس عن جيبسي مدة معالجتها، فأقام في منزل خارج المدينة، وقد تغيرت حالته في هذه المدة وتبدلت أخلاقه، فباتت مظاهره وطباعه تدل على الخير بعد أن كان من زمرة اللصوص.
فلما وصل إليه ميلون وأخبره بوجوب عودته إلى جيبسي أوشك أن يجن من فرحه، فما صدق أن سمع حديث ميلون حتى غادر المنزل غير مكترث به، فامتطى جواده وأطلقه ينهب الأرض إلى منزل من يحب.
وكانت فاندا تنتظره عند باب الحديقة فلما وصل إليها ترجل، فأخذت فاندا بيده ودخلت به إلى المكان الذي كانت فيه جيبسي.
فلما رأته جيبسي قادما من بعيد ارتعشت ثم احمر وجهها، والطبيب بعيد عنها يراقب، حتى إذا وصل إليها مرميس مدت إليه يدها وقالت: اجلس بجانبي أيها الصديق؛ فلم أعد مجنونة، وأنا الآن أذكر كل ما مضى، فإنك أنت الذي أنقذت النورية المسكينة، وأنت الذي جئت بي إلى فرنسا، وأنت تحرسني مدة جنوني وتسهر علي سهر الأخ على أخته.
ثم جذبته إليها وقبلت جبينه وقالت له بصوت يضطرب: هذا دليل امتناني وعربون حبي لك.
وكان الطبيب وفاندا واقفين على مسافة بعيدة عنهما يراقبانهما، فقال لها الطبيب: إن الخطر قد زال ولكنه قد يعود، إلا إذا أسرعتم بعقد زواج هذين العاشقين؛ فإن جيبسي إذا صارت أما زال عنها كل خطر.
سنسرع جهد الإمكان لا سيما وأن هذه هي إرادة الرئيس.
وقد تنهدت فاندا حين ذكرت روكامبول، فإنها منذ خمسة أشهر أي منذ غادر باريس لم تره ولم يصل إليها شيء من أخباره. •••
مر على ذلك شهر والعاشقان مقيمان في منزل واحد ولكنهما لم يتزوجا، وعاد الطبيب الألماني إلى محل إقامته في لندرا، وشفيت جيبسي شفاء تاما إلا من غرامها بمرميس، فإنها بلغت بحبها إياه حد الهيام.
على أنها كانت تبدو دائما بمظاهر السويداء على ما هي عليه من الغنى والجمال والصبوة والشباب. فلم تكن فاندا ومرميس يعلمان سر هذه الكآبة، وقد سألتها فاندا مرارا كثيرة، فكانت تندفع في البكاء ولا تجيب بحرف. وكانت حين تباحثها بقرب زواجها بمرميس تتنهد تنهدا عميقا وتسكت، فسرت هذه الكآبة إلى مرميس، والحزن أقرب جار لليأس.
وبينما كان مرميس جالسا يوما مع فاندا يتحدثان بكآبة جيبسي، قطب مرميس جبينه وقال: لقد عرفت الآن سر هذا الحزن؛ وهو أن جيبسي لا تزال تهوى السير آرثر نويل. - إنه فكر بعيد عن الصواب ؛ فإن جيبسي تحتقر عاشقها القديم، والمرأة لا تحب من تحتقر. - من يعلم، إن الطباع تختلف؟ - ألم ترها كيف اضطربت حين رأتك، وكيف قبلت جبينك وقالت لك: أحبك؟ - نعم، ولكن هذا الحب قد يكون حب إخاء وأن قلبها لا يزال يهوى السير آرثر. - أيمكن أن تهوى هذا الذي أهانها وتخلى عنها في ساعة الخطر؟
فاصفر وجهه وقال بلهجة الواثق: كل شيء ممكن.
وكان اضطراب مرميس يحمل على الإشفاق، ولم يزل لفاندا بعض السيادة عليه فقالت له: إن كل ما نقوله مبني على الظنون، اذهب الليلة إلى منزلك ولا تبت معنا، وأنا أقسم لك أني سأقف على الحقيقة، وأطلعك عليها صباح غد.
فامتثل مرميس صاغرا وركب جواده وانصرف.
ولم يكد مرميس يتوارى عن أنظارها حتى ذهبت إلى غرفة جيبسي وطرقت بابها، فأذنت لها جيبسي بالدخول بصوت يضطرب، ولم تكن قد رقدت بعد بل إنها كانت تكتب، فجلست فاندا قربها وأخذت يديها وقالت لها: أتحبين مرميس يا جيبسي؟
فصبغ وجهها بلون الاحمرار وقالت: إن حبي له فوق كل حب، وكل جوارحي تهواه. - إذا كان ذلك ما تقولين، فما هذا الحزن عند قرب موعد زواجكما؟! وما لورد خديك قد ذبل كأنك مكرهة على الزواج، بل كأنك مقدمة ضحية على هيكله؟!
فنظرت جيبسي إلى فاندا نظرة تشف عن فؤاد ملؤه اليأس وقالت: إنك يا سيدتي أحسنت إلي إحسانا عظيما وعاملتني بحنو الأمهات منذ عرفتك، فهل تسمحين لي بمثل هذه المعاملة بضع ساعات؟ - ماذا تريدين بهذا القول؟! - أريد أن أستمهلك إلى صباح غد، فإذا عدت إلي غدا صباحا تعلمين حقيقة السر الذي أشكل عليك.
وكانت تتكلم هذا الكلام بلهجة القانطين، وقد اتقدت عيناها فجأة فخشيت فاندا أن يعاودها الجنون، ولم تلح بالسؤال، فقامت على أن تعود إليها في الصباح، فعانقتها جيبسي عناقا طويلا وضمتها إلى صدرها ضما شديدا.
وأحست فاندا بدمعتين حارتين سقطتا على عنقها، فخرجت فاندا من غرفتها وهي تخشى أن يكون قد عاد إليها الجنون، وباتت تلك الليلة على أحر من الجمر؛ لخوفها عليها حتى إنها جاءت إلى غرفتها مرات لتتفقدها فرأت أنها أطفأت مصباحها ولم تسمع لها حسا.
وعند الصباح جاء ميلون إلى فاندا قائلا لها: لقد شاهدت هذه الليلة جملا في الحلم، وما شاهدت هذه الرؤيا مرة إلى فجعت بموت محب.
فتركته فاندا وذهبت إلى غرفة جيبسي حسب الاتفاق وطرقت بابها فلم تجب، فوالت القرع ولم يجبها أحد وكان المفتاح في قفله ففتحته ودخلت، فرأت جيبسي في سريرها بملابسها ورأت يديها منبسطتين فوق صدرها فحسبتها نائمة، غير أن ميلون دخل في أثرها ونظر إلى جيبسي وقال: رباه! ماذا أرى؟! إنها ميتة لا رجاء فيها!
51
ولم يخطئ ميلون؛ لأن جيبسي كانت ميتة، فأخذت فاندا يدها فوجدتها باردة ولكن آثار السكينة بادية على وجهها، كأنما هي قد ماتت فجأة دون نزع، وكان قرب السرير مائدة رأت فاندا عليها كتابين؛ أحدهما بعنوان فاندا والآخر بعنوان مرميس، وبالقرب من الكتابين خاتم كانت جيبسي تلبسه دائما وتقول: إنه وصل إليها من النور الذين ربوها، ولهذا الخاتم وعاء يشبه القبة ويظهر بمظهر الفص، فرأته فاندا مفتوحا فأيقنت أنه كان فيه سم زعاف وأن جيبسي شربت هذا السم.
وبينما كان ميلون يعول ويصيح كانت فاندا تفض غلاف الكتاب المعنون باسمها بيد تضطرب وقد اصفر وجهها فقرأت ما يأتي:
أسألك العفو يا سيدتي فما تكتمت عنك إلا لأني لم أجسر أن أبوح لك بمكنونات قلبي.
إني أموت يأسا وغراما، لقد أحببت مرميس هذا الفتى الباسل الذي كنت بالأمس تدعيه خطيبي حبا ليس بعده حب، فما تجاسرت على أن أكون امرأته؛ لأني أحببته أصدق حب.
إن جيبسي النورية تستطيع أن تتزوج أي رجل يريد زواجها كيفما اتفق غير أنها ابنة مس أنا، ابنة أعظم نبيل بين الإنكليز، فإذا أرادت أن تتزوج من تحبه وجب عليها أن تكون نقية كالزهرة، طاهرة كالملاك، ولم تكن جيبسي النورية على شيء من هذه الطهارة؛ فإنها كانت ترقص في الحانات، وكانت عشيقة آرثر نويل.
إني إذا تسميت باسم أسرتي عرفني من حضر رقصي، وإذا تزوجت مرميس فقد يراني آرثر نويل، وكلا التذكارين مؤلم شديد فرأيت أن أخلص منهما بالموت.
إني أهب كل ثروتي لمرميس بعد الموت كما وهبته قلبي في الحياة.
وأعتمد عليك يا سيدتي في تبريد لوعته وتخفيف أشجانه وشفائه مما سيصيبه من اليأس؛ فأنت خبيرة بطب القلوب، وهو فتى فقد تشفين فؤاده بتوالي الأيام.
ورجائي أن يتناساني وأن يشغل فؤاده بحب سواي؛ فإنه غني جميل وسيجد فؤادا للغرام في قلوب الفتيات.
هذه أماني تلك الفتاة المسكينة، التي ستموت بعد هذه السطور، وأسأل الله أن يحقق هذه الأماني، فأستودعك الله يا سيدتي، وداعا أبديا.
وألتمس منك المغفرة وألتمس غفران الله لي، وأختم كتابي معتمدة عليك بتعهد مرميس.
جيبسي
وسقط هذا الكتاب من فاندا ووقفت تتأمل وجه تلك الفتاة النائمة فوق سرير الموت نوم الطفل في مهده، ثم توجعت لها وقالت: هنيئا لك فقد عذبت في الحياة واسترحت بالموت.
وقال ميلون: ما زلت أعتقد أنها لم تشف بعد حتى صدق ظني.وا أسفاه! إن انتحارها لهذه الأسباب لا يدل على عقل رجيح.
وبينما كان ميلون وفاندا راكعين أمام سريرها يصليان سمعا وقع حوافر جواد وقف عند الباب وعلما أن القادم هو مرميس، فأسرع ميلون إلى الخارج ووقف في طريقه قائلا له: لا تدخل.
وللمرء ساعات تصدق فيها أحاديث قلبه كل الصدق حتى يصبح كالأنبياء. فصرخ مرميس يقول: إن جيبسي ماتت!
ثم دخل بالرغم عن ميلون إلى غرفة الميتة، فوجدها مسجاة على السرير ووجد فاندا راكعة تصلي.
وإن من اليأس ما تنفد له الدموع، وينحبس به اللسان، وهذا ما أصيب به مرميس؛ فإنه لم يفه بكلمة ولم يذرف دمعة، بل أخذ الكتاب المعنون باسمه ففضه وتلاه.
وقد تضمن هذا الكتاب وداعا يقطع القلوب، ورجت فيه جيبسي من حبيبها أن يقبل ملايينها، وأن ينفق منها باسمها ما استطاع في سبيل الخير، ثم التمست منه في الختام أن يشغل فؤاده عنها، وأن يعيش سعيدا.
فلما أتم تلاوة الكتاب أخذ يد جيبسي الباردة فقبلها وخرج من غرفتها إلى غرفته دون أن يفوه بكلمة ، وأخرج من خزانته مسدسا وضعه على صدغه بملء البرود وأطلقه، ولكن يدا شديدة حولت يده عن صدغه، فوقعت رصاصة المسدس في الجدار فاخترقته، وكانت هذه اليد يد فاندا.
فلما رآها مرميس غضب؛ لتعرضها له فقال لها: دعيني أموت؛ لا رجاء لي بعدها في الحياة.
وحاول أن يطلق النار على نفسه أيضا، غير أن فاندا تمكنت بمساعدة ميلون من تجريده من المسدس وقالت: لا يحق لك الموت؛ لأن الرئيس لا يريد أن تموت.
فاصفر وجه مرميس عند ذكر روكامبول وقال: الرئيس؟! وماذا يريد الرئيس؟! - إنه ترك لك كتابا متى تلوته تعلم ما يريد.
ثم أعطته كتابا ضخما مختوما، كتب على غلافه هذه الكلمات:
إن هذا الكتاب يحتوي على تعليماتي لمرميس، ولا يحق له أن يطلع عليها إلا إذا غبت عاما كاملا عن باريس.
52
بعد بضعة أيام من الحوادث المتقدمة، نشرت جريدة الهافر هذا الخبر الآتي:
بينما كانت السفينة ماري وربانها قونديران قادمة من جزيرة الاتحاد إلى الهافر وجدت قرب جزيرة القديسة هيلانة زجاجة مختومة، ففضت ختامها ووجدت فيها الكتب الأربعة الآتية؛ وهي:
كتب هذا الكتاب في السفينة سيوا المسافرة إلى الهند بقيادة الربان أفاتار تحت راية إنكليزية، وقد كشف على مظهر السفينة في الساعة السابعة من مساء 14 يوليو سنة 81.
إن المطافئ تشتغل منذ 48 ساعة لإطفاء النار الملتهبة في السفينة؛ فقد لعبت في عنبر الزاد ولا تزال تشتعل ببطء.
إن الرياح هادئة والبحر يشبه بسكونه البحيرات، والسفينة لا تستطيع السير؛ لسكون الرياح.
ونحن نبعد الآن خمسا وأربعين مرحلة عن السنغال، ومنذ أمس وقفت السفينة ولم تعد تسير.
وقد عللنا أنفسنا عند ظهر أمس بشيء من الرجاء؛ فإننا رأينا سفينة تسير في عرض البحر على مسافة بعيدة منا، فأطلقنا مدفعا؛ إشارة إلى ما نحن فيه من الخطر، ولكنها لم تقف، وسارت تخترق المياه حتى توارت عن أنظارنا.
لا تزال النار تشتعل وستصل بعد أربع وعشرين ساعة إلى مستودع الذخائر فتنسفنا وينتهي الأمر. •••
في 15 يوليو الساعة السادسة صباحا:
ساد اليأس في السفينة؛ فإن المطافئ لم تفلح وأنهكت قوى البحارة فانقطعوا عن العمل وهم ينتظرون الموت بسكينة.
وعادت الرياح إلى الهبوب، ولكنها هبت متأخرة؛ فإن السفينة لا تجتاز أكثر من ميلين في الساعة وهي تبعد عن الشاطئ 400 ميلا.
الدخان الأسود يخرج من العنبر، وقد قربت النار من مستودع الذخائر، ولا حيلة لنا بعزله، ونحن ننتظر أن تنسف بنا السفينة من حين إلى آخر.
إذا وصلت هذه السطور إلى أوروبا فنرجو من يعثر بها أن ينشرها في الجرائد السيارة؛ فإن اسم أفاتار لا يعرفه غير القليل من الناس، ولكن يوجد في باريس من يهتم له. •••
في اليوم نفسه، الظهر:
رأينا مركبا شراعيا فأشرنا إليه إشارات الخطر، ولكنه توارى عن أبصارنا دون أن يرانا، فأنزلت إلى البحر القارب الوحيد الذي معنا فلم يسع هذا القارب الصغير غير ستة أشخاص ونحن 19 رجلا في السفينة، فأمرتهم أن يقترعوا دوني على من ينزل في القارب؛ لأن الربان يجب أن يبقى في السفينة إلى آخر ساعاتها، فأصابت القرعة ستة من البحارة، فنزلوا إلى القارب وهم يبتعدون الآن عنا ويبكون، أتراهم يصلون سالمين إلى البر؟ إن الله وحده يعلم. •••
في اليوم نفسه، الظهر أيضا:
القارب يبتعد ونحن نشيعه بالنظر، توارى الآن عن أبصارنا فلم نعد نراه، تفقدنا النار بالنظر فعلمنا أنها ستصل إلى مستودع الذخائر بعد ساعة فتنسفنا مع السفينة، ليكن ما يريده الله.
الربان الأول: أفاتار
الربان الثاني: نويل
انتهى تقرير روكامبول الذي كان موجودا في الزجاجة، وقد أضافت جريدة الهافر على هذا التقرير ما يأتي:
كانوا يتحدثون أمس في قهوة الأميرالية أن السفينة مويت سمعت في الساعة العاشرة من 15 يوليو دويا شديدا وهي قريبة من السنغال، فحكم ربانها أن هذا الدوي صوت انفجار حدث في سفينة دون شك، ولكنه تعذر عليه أن يعلم مسافة بعد هذا الانفجار عن البر.
البستانية الحسناء
البستانية الحسناء
البستانية الحسناء
البستانية الحسناء
روكامبول (الجزء العاشر)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
البستانية الحسناء
1
في الساعة الثانية بعد منتصف الليل كان بعض فتيان الباريسيين الأغنياء مجتمعين في ناد لهم يدعونه نادي كريفيس.
وكانوا جالسين في القاعة العمومية يتحدثون بشأن اختفاء دي مورفر أحد أعضاء هذا النادي، فإنه احتجب منذ عامين، ولم يعلم أحد كيف كان اختفاؤه.
وكان بينهم فتى يدعى كازمير، وهو حديث الدخول في هذا النادي، فأشكل عليه فهم هذه الحكاية، فقال للمتحدثين: عفوا أيها السادة، فإني حديث العهد بينكم، فهل يتفضل علي واحد منكم بتفصيل هذا الاختفاء الغريب؟
فانبرى له الفيكونت دي مونتيجرون، وقال: إني أنا أدخلتك إلى هذا النادي، وأنا أقص عليك ما تتوق إليه من معرفة اختفاء دي مورفر، فاسمع.
إن غاستون دي مورفر كان في السادسة والثلاثين من عمره، وهو أديب جميل، حلو الحديث، وافر الثروة، وكان طلق الوجهة، فرح القلب، فلم يحزن مرة، ولم يتدله بغرام، ولم يحدث له في أدوار حياته الآمنة ما يدعوه إلى الانتحار. - ومع ذلك ألعله انتحر؟! - ليس منا من يعلم شيئا من أمره، وحكايته أنه خرج ليلة من هذا النادي مع شارل هدنوت ابن الصراف الشهير، فذهبا ماشيين إلى شارع مدلين فشارع سيرسنس، حيث يقيم المركيز دي مورفر، وهناك افترقا على أن يلتقيا في اليوم الثاني، فذهب شارل في شأنه، ودخل المركيز إلى منزله.
وقد أخبر بواب منزله في اليوم التالي أنه أعطاه حين عودته تلك الليلة كتابا أرسل إليه، ففضه وقرأه وقد بدت عليه علائم التأثر، فألقى الغلاف على الأرض، ووضع الرسالة في جيبه، ثم خرج لفوره من المنزل، وقال لبوابه: إني لا أعود في هذه الليلة.
وفي اليوم التالي لم يحضر، ثم توالت الأيام دون أن يعود، فتداخل البوليس في أمره، ونشرت الجرائد خبر اختفائه، وأرسلت صورة المركيز إلى جميع الأنحاء، فذهبت كل هذه المساعي أدراج الرياح، وقد أرسلت عائلته عمالا على نفقاتها إلى إنكلترا وروسيا والولايات المتحدة كي يبحثوا عنه، فلم يهتدوا إلى أثر من آثاره، ولم يعلموا إذا كان ميتا فيبكى، أو كان حيا فيطمع بلقائه. - وهذا الكتاب الذي ورد إليه، فكان علة اختفائه، ألم يعثروا عليه ؟! - إنهم لم يعثروا عليه، بل عثروا على الغلاف، فعلموا أن خطه خط امرأة. - إذن كان عاشقا دون شك، فكيف تقولون إنه لم يعشق؟! - إنه كان يحب إحدى فتيات المسارح كما يحب الرجل جواده، وقد كلفته كثيرا من النفقات، ولكنه كان واسع الثروة. - ألم يكن منغمسا بالدسائس؟ - ذلك ما لا يعرفه أحد غير أن طرق عيشه لا تدل على شيء من هذا.
أحد اللاعبين: أنا لا أعتقد أنه انتحر.
دي منتجوون: وأنا أعتقد هذا الاعتقاد أيضا، وحقيقة رأيي في هذا الاختفاء الغريب أنه ناتج عن جناية هائلة، وأن يدا أثيمة قد عبثت به، فقد كثرت هذه الجرائم في باريس منذ عشرة أعوام، وكلها خفية هائلة تكتنفها الأسرار، فلقد اتفق أنه بينما كان العمال يهدمون منزلا رأوا في أحد أقبيته هيكلا من عظام الإنسان، ولا يبعد أن يكون المركيز مورفر حبس في قبو من هذه الأقبية السرية، فيتحدث كهول باريس في مستقبل الأيام حين ينقض البناء، ويقولون: هذه جثة المركيز الذي طالما خاضت الجرائد في سر اختفائه الغريب.
وعند ذلك نهض أحد الحضور وقال: لقد مر بنا عام بجملته ونحن لا نتحدث في كل ليلة إلا بحديث هذا المركيز، فتنقبض صدورنا لنكبته، ولا نحلم في الليل إلا بالجرائم والآثام، فبالله ألا رجعتم عن هذا الحديث المحزن، وهلم نتحدث بغرام صديقنا مريون عاشق البستانية الحسناء.
فوافق الجميع على هذا الرأي، وقال مونتجمرون للعضو الجديد: إن غوستاف مريون الذي سنتحدث بأمر غرامه - وهو فتى حلو الشمائل واسع الثروة - عشق البستانية الحسناء منذ عهد قريب، ولا يزال ساعيا لاسترضائها. - ومن هي البستانية الحسناء؟ فإني ما سمعت بها قبل الآن. - لم نعلم شيئا من أمرها قبل ثمانية أيام، وغاية ما علمنا أنها بائعة زهر تقيم في شارع بلفي، ويقول عاشقها مريون: إنها لو ظهرت في الأوبرا لكشف جمالها جميع تلك الشموس الساطعة فيها. - ألعلها تحبه؟ - كلا، ويظهر أنها لا زوج لها ولا عشيق، فإنها دائما تلبس السواد فيزيدها جمالا، وجميع خدامها يحترمونها كل الاحترام، وليس بينهم من يعلم موطنها ، فإن مريون قد أنفق إلى الآن عشرين ألف فرنك في سبيل معرفة شيء من أحوالها، أو إغواء أحد خدامها، فلم يفز بمراد.
فقاطعه أحد الحضور وقال: لقد فاتتك أخبارها يا مونتيجرون، فإن مريون تمكن أمس من إغواء أحد خدامها، وهو الخادم الوحيد الذي ينام في منزلها، فأعطاه مائة دينار، وأخذ منه مقابل ذلك مفتاح الحديقة ومفتاح المنزل، وعليه أن يجد وسيلة للوصول إليها، فقد قال هذا الخادم: إنه منذ دخل في خدمتها لم يرها أذنت لرجل بالدخول إلى منزلها. - إذن ما عساه يصنع؟! - إنه اختار أربعة من أصدقائنا وأنا منهم؛ كي نرافقه في هذه الليلة إلى منزل الحسناء، فنقف في الطريق موقف الحراس ويدخل هو إلى المنزل.
مونتيجرون: ولكن البوليس أيها الصديق منتشر في كل مكان حتى في شارع بلفي. - وماذا يهمنا من البوليس؟ فإننا سنقف خارج المنزل وهو يدخل إليه، فإذا رضيت تلك الحسناء أن يختطفها كان ذلك من حسن توفيقه، وإذا أبت واستغاثت هربنا، فما علم بأمرنا أحد.
مونتيجرون: إذا كان ذلك كما تقول، فأنا أذهب معكم أيضا.
وفيما هو يقول هذا القول دخل مريون الذي يتحدثون عنه، فقال: عافاك الله يا مونتيجرون فأصحبك معنا، فالتفت جميع الأعضاء عند ذلك فرأوا مريون داخلا، فقال له أحدهم: ماذا تقول يا مريون أجاد أم أنت مازح؟ - بل أقول الجد، وقد جئت بمركبة تنتظرني عند الباب، وهي تسع خمسة أشخاص، فمن أحبني فليتبعني.
مونتيجرون (ضاحكا): أيجب أن يكون معنا سلاح؟ - كما تريدون أما أنا فإن مسدسي لا يفارق جيبي.
فقام عند ذلك الخمسة الذين عولوا على الذهاب، فلبسوا قبعاتهم وخرجوا إلى المركبة الواقفة عند باب النادي، وكانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فقال لهم مريون: إننا نصل إلى منزل هذه البستانية الحسناء بعد نصف ساعة، وفي الساعة الثالثة نجتمع على المائدة كلنا في القهوة الإنكليزية، فدعا الرفاق له بالنصر وركبوا المركبة، فسارت بهم إلى شارع بلفي وهم يضحكون ويمازحون مريون.
2
وكان الظلام مدلهما، والبرد شديدا، والهواء زمهريرا، غير أن هؤلاء الفتيان لم يكونوا يكترثون لمثل هذه العوارض الجوية، وقد التهبت في أحشائهم نيران الخمر المعتق.
وما زالت المركبة سائرة بهم حتى وصلت إلى بلفي، فأوقفها مريون، فقال له مونتيجرون: ألعلنا وصلنا؟ - كلا، ولكن صوت المركبة في هذا الشارع المقفر قد ينبه أنظارها، وإنما أريد أن أباغتها، فهلم بنا نسير فإن البيت قريب.
وقال مونتيجرون: إني لا أرى شيئا فأين هو؟ - انظر أمامك إلى هذا النور الضعيف؛ فإنه ينبعث من غرفة رقادها. - ألا يوجد منازل مجاورة له؟ - كلا، إن أقرب منزل منه يبعد عنه مائة متر على الأقل، فهو يعتبر في معزل عن البيوت.
ونزل شبابنا الخمسة من المركبة وساروا في هذا الشارع، الوحل إلى الركب حتى وصلوا إليه، ورأوا حديقة كبيرة تكتنفه والسكينة سائدة في جميع جهاته، ولم يروا غير نور ضعيف ينبعث من النافذة في الدور العلوي.
وقال مريون: قفوا هنا أيها الرفاق، وادعوا لي بالتوفيق ...
ثم أخذ مفتاحا من جيبه، وسار إلى باب الحديقة ففتحه ودخل، واجتاز رواقا فيها إلى باب المنزل، فأخرج مفتاحا آخر من جيبه وفتحه.
كان الظلام شديدا ولديه علبة من الكبريت الشمعي، فانكشف له على نورها سلم فرش فوق درجاته بساط ضيق، وصعد على هذه الدرجات، فكان البساط يخفي صوت وقع أقدامه حتى انتهى إلى آخر السلم، فوصل إلى الرواق ورأى في آخر الرواق نورا، فأطفأ شمعته، ومشى مخففا وطأه كما يمشي اللصوص، وهو يسترشد بهذا النور.
ولما وصل إلى حيث ينبعث النور رأى غرفة نصف بابها الأعلى من الزجاج، فقال في نفسه: هذه غرفة رقادها فلنر.
وعند ذلك مشى إلى الباب بملء الحذر، ونظر من زجاجه إلى داخل الغرفة، فلم يكد نظره يستقر حتى وقف شعر رأسه، وانصب العرق البارد من جبهته، ووقف الريق في حلقه، وانقلب إلى الوراء وقد صاح صيحة رعب بصوت مختنق.
ذلك أنه رأى هذه الغرفة مفروشة بالأثاث الأسود كغرف الأموات، ورأى في وسطها سريرا فوقه جثة، وأمام هذا السرير امرأة واقفة تنظر إلى الجثة والدموع تنهمل من عينيها.
أما المرأة فكانت البستانية الحسناء، وأما الجثة فكانت جثة رجل عرفه مريون حالا، إنه المركيز غوستاف دي مورفر الذي اختفى منذ عام، وذهبت مباحث البوليس وأهله أدراج الرياح بعد أن بحثوا عنه عاما كاملا في جميع أنحاء الأرض.
3
ولم يكن مريون قد أغمي عليه حين سقوطه، ولكنه كان قد أصيب بشلل في جسمه وعقله لهول ما رآه، فلم تعد ساقاه تحملانه، وانعقد لسانه، ولم يعد يستطيع الوقوف بعد سقوطه.
ثم رأى أن الباب قد فتح، وخرجت منه تلك الفتاة التي رآها واقفة أمام جثة المركيز، ولم تكن تبكي، بل كانت عيناها تتقدان كالجمر، وكانت صفراء الوجه مضطربة الأعصاب تدل هيئتها على الغضب الشديد؛ حتى إن جمالها قد استحال إلى قبح، وكاد مريون ينكرها.
فدنت منه، وقالت له بلهجة الأمر: قم.
فنهض مريون لفوره، وقد أثرت به نظراتها النارية أشد تأثير، فأخذت يده وجذبته إلى تلك الغرفة السوداء وهي تقول: ما زلت تريد فادن وانظر.
وكانت تجذبه إلى الغرفة بعنف وتعيد عليه هذا القول بلهجة التهكم، فما مر بهذا الفتى ساعة رعب أشد من هذه الساعة، فأدار وجهه ولم يستطع أن يرى، فجذبته أيضا إلى الشموع الموقدة حول الجثة، وقالت له: قلت لك انظر. ألم تأت إلى هنا كي تقف على أسراري؟
فنظر مريون عند ذلك إلى الجثة والرعب ملء فؤاده، فأيقن أنها جثة المركيز، ورأى أن هذا المركيز لا يزال بملابسه التي كان يلبسها يوم اختفائه، ولكن صدرته كانت مفقودة، وقميصه مفتوح يكشف عن صدره، فرأى في ذلك الصدر جرحا فوق الثدي الأيسر، ورأى الدم عليه، فلم يدر إذا كان أصيب بخنجر فمات غدرا واغتيالا، أو أصيب بسيف فمات موت الأشراف.
وكان يرى من أثر الدم وهيئة الوجه أن المركيز لم يمت إلا منذ بضع ساعات، فكيف اتفق ذلك والبوليس يفتش عنه منذ عام؟! وماذا حدث لهذا المركيز في مدة سنتين كاملتين، وهو لم يقتل إلا منذ ساعات؟! إن ذلك مما تحار في إدراك كنهه العقول.
وكان ينظر إلى جثة المركيز مورفر والبستانية الحسناء واقفة بالقرب منه تقذف من عينيها لهبا، وتقول لمريون بلهجة المتهكم: ما بالك خائفا؟! ولماذا لا تدقق النظر؟!
فكانت أسنانه تصطك من الرعب، وقد خاف من هذه المرأة الحية أكثر مما خاف من ذلك الرجل الميت.
ثم أخذت يده فجأة وهزته بعنف ونظرت إليه نظرة هائلة، فقالت له: والآن أصغ إلي ...
فحاول مريون أن يتكلم فتلجلج لسانه وتمتم بعض كلمات لا معنى لها، فقالت له: قلت لك أصغ إلي، فإنك تأتي كل يوم إلى منزلي منذ شهر بحجة شراء الزهور، ثم لم تر ميلا مني إليك، فأغويت أحد خدمي، وتمكنت بفضله من الوصول إلى هذا المكان، وكنت تحسب أنك آت لترى امرأة حسناء تهواها فوجدت جثة قتيل، هل شفتك هذه الجثة من ذاك الغرام؟!
ولما رأت أنه لم يجبها بحرف قالت له: أشفق عليك؛ لأنك لا تزال في مقتبل العمر وغرور الصبا، ولو لم أكن آليت على نفسي أن لا أسفك دما بشريا إلا في سبيل الدفاع، لما كنت الآن في عداد الأحياء، فإذا شئت أن تحيا سعيدا وتبلغ سن الكهولة فأقسم لي بهذه الجثة أنك لا تبوح بحرف مما رأيت.
فكان مريون يرتجف ويضطرب دون أن يجيب، فهزته هزا عنيفا دل على شدة أعصابها، وقالت له بلهجة التوعد: قلت لك: أقسم بهذه الجثة!
فخيل لمريون من لهجتها أن حياته بين أيديها، وأنها إذا فاهت بكلمة بات من الأموات، وكان فتى لم يتجاوز العشرين من عمره، فزاد اضطرابا، ولكنه لم يقسم، فهزته مرة ثالثة، ونظرت إليه نظرة هائلة تبين منها صدق وعيدها، وقالت له: قلت لك أقسم ...
فوضع مريون يده مكرها فوق الجثة، وقال بصوت مختنق: أقسم على الكتمان.
وعند ذاك أطفئت جميع الأنوار بغتة، كأنما يدا سحرية أطفأتها، وساد الظلام في تلك الغرفة، فأوشك مريون أن يجن من رعبه لما هاله من هذه الأسرار، ثم شعر أن يدها مسكت يده، وسمعها تقول له: اتبعني؛ فتبعها وهو لا يعرف أين يسير حتى وصلت إلى سلم، فنزلت أمامه وهي تقوده كما يقاد العميان، ولما بلغت آخر السلم فتحت بابا، وأخرجت مريون، وعادت فأقفلت الباب.
وكان هذا الباب موصلا إلى الحديقة، فلم يمش مريون خطوتين حتى شعر أن قواه قد تلاشت، فسقط مغميا عليه لا يعي شيئا.
4
بعد ذاك بمدة 48 ساعة كان أعضاء نادي كريفيس مضطربين اضطرابا عظيما، فإنهم لم يروا مريون ولا رفاقه الأربعة منذ يومين، فسهروا ليلتهم بطولها منتظرين قدوم واحد منهم يخبرهم بما جرى، فلم يحضر أحد.
وكان أحد الأعضاء ذهب إلى منزل مريون ومونتيجرون وبقية الرفاق، فأجابه البوابون أنهم لم يعودوا إلى منازلهم منذ ليلتين.
وطال تحدثهم في سبب اختفائهم، فقال أحد الأعضاء: أرى أن هؤلاء المجانين قد أصيبوا بمكروه، فإني ضعيف الثقة بجسارة وشجاعة مريون، وعندي أن لهذه المرأة التي ذهب إليها زوجا أو عشيقا، وأن هذا العاشق ألقى مريون من نافذة المنزل حين دخوله إليه.
فقال أحدهم: إن ذلك ممكن الحدوث.
وقال آخر: إنهم إذا ألقوه من الشباك لا يموت، إن للعشاق وللسكارى إلها يحرسهم، فإذا صح ذلك فقد يكون أصيب بجرح أو برضوض فنقل إلى أحد المنازل المجاورة، ولكن ماذا حدث لرفاقه الأربعة كما تعلمون؟
فقال أحدهم: إن معظم سكان شارع بلفي من الأسافل، فقد يتفق أنهم أساءوا إليهم، أو جرى بينهم خصام فشوهوا وجوههم، وخجلوا أن يظهروا أمامنا بمظاهر الخذلان.
وعند ذلك سمعوا صوتا يقول: لقد أخطأت أيها الصديق، فالتفتوا وصاحوا جميعهم: هو ذا مونتيجرون!
أما مونتيجرون، فقد قال لهم: لقد أخطأتم أيها الأصحاب، فإن أهل بلفي لم يشوهوا وجوهنا، ولم يسيئوا إلينا كما ظننتم ... - ومريون ماذا جرى له؟! - إنه مجنون. - ألعله جن جنون غرام؟ - كلا، بل إنه جن جنونا مطبقا، وأرجو أن لا تضحكوا أيها السادة، فإني لا أقول ما أقوله على سبيل المزاح، بل هي الحقيقة بعينها، وأوردها لكم بملء الأسف.
فانكمشت نفوسهم، وبدت على وجوههم علائم الحزن، وجعل مونتيجرون يحدثهم بما جرى لهم، وأخبرهم كيف ذهبوا إلى منزل البستانية الحسناء، وكيف دخل مريون وحده إلى ذلك، ثم أخبرهم كيف أن النور انطفأ بعد أن دخل بنصف ساعة دون أن يسمعوا صوت استغاثة؛ فقلنا: لقد فاز مريون فيما أراد، وإن هذه الحسناء كانت تخدعه بمظاهر نفورها للاستزادة من هيامه لما رأت من حداثة سنه.
وعزمنا عند ذلك على الرحيل، لكني أردت قبل ذلك أن أخبر الخادم أننا عدنا إلى شئوننا؛ كي يخبر مريون بانصرافنا عند انصرافه.
وكان باب الحديقة مفتوحا، فدخلت إليها ومشيت إلى الباب، ولكني ما سرت بضع خطوات حتى عثرت بجسم ملقى على الأرض، فنظرت وإذا هذا الجسم جسم صديقنا مريون وهو بلا حراك.
فصحت عند ذلك صيحة رعب، وأسرع الرفاق إلي حين سمعوا صياحي، ووجدنا مريون مغميا عليه، ولم يكن في جسمه أثر جرح أو رضوض، فأشكل علينا سبب هذا الإغماء، وخطر لنا أن نطرق باب هذه المرأة، وأن نكسره إذا أبت أن تفتح لنا، غير أن الحكمة تغلبت على حدتنا لحسن الحظ، فقلنا: يجب أن نهتم بصديقنا قبل كل شيء، ثم نعلم منه بعد أن يستفيق علة هذا الإغماء، فننهج في أعمالنا مناهج الحكمة، وفوق ذلك فإنه هو الذي أساء إلى نفسه بدخوله إلى منازل الناس في ظلام الليل دخول اللصوص، وإذا دخلنا دخوله عرضنا أنفسنا للأخطار.
واستقر رأينا أن نخرج مريون من الحديقة، فحملناه وخرجنا به إلى الشارع، ففعلنا كل ما استطعناه، ولم نتمكن من أن نرجع إليه هداه، ولو لم نكن نشعر بدقات نبضه الضعيف لحكمنا أنه من الأموات.
وكان الفجر أوشك أن يلوح، وخشينا أن يرانا أحد من البساتين، فيقف البوليس على أمورنا، فحملنا مريون إلى المركبة، وسرنا به إلى فندق الرأس الأسود، ووضعناه فوق سرير، واستدعينا له طبيبا، فأقام ساعة يعالجه بالدعك وشم الأرواح المنعشة حتى فتح عينيه، وجمد الدم في عروقنا؛ لأنه جعل ينظر إلينا نظرا تائها ولم يعرف أحدا منا.
وكانت أسنانه تصطك من الرعب، وبلغ منه الهذيان شر مبلغ، ثم جعل يبكي ويضحك في حين واحد ويقول: إياكم أن تذهبوا إليها.
ودام هذيانه متصلا إلى مساء أمس، فخف ما به، وعادت إليه السكينة، وكنا لا نزال حول سريره، وعرفنا جميعنا، ودنوت منه عند ذلك، وحاولت أن أسأله عما جرى له، فعاد إليه رعبه القديم وقال: احذروا من الذهاب إليها. - سنمتثل، لكن قل لنا على الأقل ماذا جرى لك ... - لا أستطيع أن أقول شيئا، لقد أقسمت يمينا محرمة ...
ثم عاد إليه الهذيان، ولم يعد يحدثنا بشيء.
وجاء الطبيب ففحصه فحصا مدققا، وقال: إنه مجنون، وأخشى ألا يشفى من هذا الجنون.
وقاطع أحد الأعضاء مونتيجرون، وقال له: أظن أنكم أبلغتم البوليس بما جرى.
فهز مونتيجرون كتفيه، وقال: إن من يعمل ما عملناه، ويدخل البيوت كما دخل إليها مريون لا يسعه الافتخار بعمله، ولا ينظر البوليس إلى عمله نظرة استحسان. - هو ما تقول، ولكن لا بد أن يكون في هذا المنزل سر هائل ذهب بصواب مريون، ويحسن الوقوف على هذا السر. - وأنا أرى رأيك، ولكني أقسمت أن أكتشف هذا السر بنفسي قبل البوليس، وأن أدخل منزل البستانية الحسناء بالرضا أو بالعنف مهما كابدت في هذا السبيل من الأخطار. - أتقضي هذه المهمة وحدك؟ - كلا، بل يصحبني من يريد منكم، لكني لا أقبل غير واحد.
فأقبل كل واحد منهم يقول: أنا لها، حتى اضطروا إلى الاقتراع، فأصابت القرعة ذلك العضو الجديد الذي يدعى كازمير، فدنا من مونتيجرون وسأله: متى تريد أن أذهب إلى هذه السيدة؟ - الآن فإن مركبتي تنتظرني عند باب النادي.
وقال لهم: أستحلفكم بالشرف أيها الأصدقاء أن تكتموا هذا الأمر كل الكتمان إلى أن أعود.
فأقسم له الجميع كما طلب، وخرج لفوره مع كازمير إلى النادي.
5
وكانت هذه الحادثة قد أهاجت فضول مونتيجرون، فعزم على اكتشاف سر الحسناء غير مكترث لما هنالك من الأخطار، ورأى أن رفاقه الثلاثة الذين ذهبوا مع مريون قد ذعروا ذعرا شديدا لما رأوه من جنونه، فلم يكاشفهم بقصده، ولكنه أخذ مفتاحي: الحديقة ومنزل البستانية، وذهب إلى النادي؛ كي يختار رفيقا له في هذه الرحلة، فأصابت القرعة كازمير كما تقدم.
وخرج وإياه، فركبا المركبة التي كانت تنتظره ، وسلحه بخنجر، فسارت بهما المركبة حتى بلغت إلى ذلك المنزل.
وكانت السكينة سائدة والمصباح ينير في نافذة الغرفة كما كان في تلك الليلة، وأخذ مونتيجرون أحد المفتاحين من جيبه، ففتح باب الحديقة، وقال لكازمير: اتبعني، فتبعه وسار بين الأشجار مائة خطوة، فرأى مونتيجرون شبحا أسود يدنو منه، فهمس في أذن صاحبه وقال له: انتبه.
ووضع يده على قبضة خنجره.
أما الشبح الأسود فإنه ما برح يتقدم حتى تبين لمونتيجرون أنه رجل، ثم سمع صوت هذا الرجل يقول: من هنا؟
فلم يجب، فدنا الشخص أيضا ورأى مونتيجرون وكازمير، فقال لهما: من أنتما؟
فانقض عليه مونتيجرون فجأة انقضاض الصاعقة، وضغط على عنقه حتى كاد يخنقه، وهو يقول: إذا فهت بكلمة فأنت من الهالكين.
فذعر الرجل وقال بصوت مختنق: رحماكم لا تقتلوني إذا كنتم من اللصوص. - إني أعرف كثيرا من الخدم يقتصدون. - ولكني أقسم لك بكل مقدس إني لست منهم.
غير أن اضطراب صوته كان يدل على أنه كاذب في ادعائه الفقر.
وذكر مونتيجرون أن صديقه مريون قد رشاه بمائة دينار مقابل إعطائه المفتاحين، فقال له: إذا لم يكن لديك غير المائة دينار التي أخذتها من مريون لكفى.
فاضطرب الخادم وقال: أتعرف هذا؟ - بلا ريب، والبرهان أني فتحت باب الحديقة بالمفتاح الذي بعته إياه.
وغير الخادم خطته للفور، وزالت عنه آثار الرعب فقال: أسألك العفو يا سيدي، لقد حسبتك قبلا من اللصوص، ولكني أرى سيدي من النبلاء. - إذن علمت السبب في مجيئي إلى المنزل. - علمت بعض الشيء ... - إذن اجمع حواسك واستشر نفسك. - ماذا يريد سيدي؟ - أريد أن أخيرك بين أمرين، إما ضربة خنجر أو مائة دينار. - لا شك أن سيدي يمزح؛ لأنه يعلم يقينا أن المائة دينار خير من طعنة خنجر ... - أتختار المال؟ - بلا ريب ... - إذن تكلم ... - ماذا يريد سيدي معرفته؟
فمد مونتيجرون يده إلى النافذة التي يشع فيها النور، وقال له: ماذا يوجد فوق؟
فأجاب الخادم بصوت يضطرب: إني يا سيدي أب لخمسة أولاد لا معين لهم إلاي، وقد بعت المفتاح إلى المسيو مريون فنهج مناهج المجانين، أما أنت يا سيدي فيظهر أنك من العقلاء، فإذا أسديتك نصيحة رجوت أن تعمل بها وتقبل نصحي. - ما هي هذه النصيحة؟ - هي يا سيدي أن تعود إلى منزلك، فإن الليلة باردة والضباب كثيف، وأخشى عليك من الزكام.
فغضب مونتيجرون وقال: ويحك أيها الشقي، أهذا وقت المزاح والحديث عن الطقس؟! قل لي ما أسألك عنه أو أقتلك شر قتل، ثم عاد إلى الضغط على عنقه وإنذاره بالخنجر.
فلما شعر الخادم بوخز الخنجر عاد إليه ذعره، فقال: ليسألني سيدي عما يشاء أجبه. - لمن هذا المنزل؟ - للسيدة. - من هي هذه السيدة؟ - ليس هنا من يعرف اسمها، فإن جميع أهل الشارع يدعونها البستانية الحسناء ... - كم بقي لها هنا؟ - عامين ... - من أين أنت؟ - لا أعلم ...
وكانت لهجة الخادم تدل على الصدق، فأشار مونتيجرون بيده إلى النافذة التي ينبعث منها النور وسأله: أهذه هي الغرفة التي تبيت فيها تلك السيدة؟ - أظنها غرفتها. - كيف تظن؟ - ذلك لأني لم أصعد إلى الدور العلوي من هذا المنزل، ولم يصعد إليه أحد غيري من الخدم أو العمال، الذين يشتغلون عند سيدتي في النهار، وكل ما أستطيع أن أقوله لك هو أن شارل مرسيه بات من المجانين. - من هو شارل مرسيه هذا؟! - هو فتى من فتيان باريس توله بحب سيدتي، فجاء وتسلق جدار الحديقة، ثم أسند سلما إلى جدار المنزل، وتسلق درجاته إلى هذه النافذة التي ترى النور ينبعث منها. - وماذا جرى له؟ ألعلها ألقته من السلم؟ - كلا، ولكنه نزل من تلقاء نفسه، وقد جمد الدم في عروقه، ووقف وجحظت عيناه، فجن لساعته، ولا يزال مجنونا إلى الآن. - ولكن ماذا رأى في تلك النافذة؟ - لا أعلم، لكن سيدي يحسن عملا إذا عاد من حيث أتى. - كلا، إن ذلك لا يكون. - إذن ألا تزال مصرا على الدخول إلى المنزل؟ - دون شك، ويجب عليك أن تكون في مكانك، والويل لك إذا خطر لك أن تتبعني. - لا خطر علي يا سيدي، فإني لا أجسر على الدخول إلى هذا المنزل . - إذا وجدتك في مكانك بعد أن أعود أعطيتك مائة دينار. - ستجدني إن شاء الله جالسا تحت هذه الشجرة في انتظارك.
وقد كان خطر لمونتيجرون أن يبقي كازمير في الحديقة حارسا على الخادم، غير أن كازمير أبى إلا أن يدخل وإياه، ففتح مونتيجرون باب المنزل، ودخل يتبعه كازمير كما دخل مريون منذ ليلتين، ثم أقفل الباب من الداخل، ووضع الزلاج؛ كي يأمن دخول الخادم في أثرهما، وصعد درجات السلم إلى الدور العلوي، حتى انتهيا منه إلى ذلك الباب الزجاجي، فأطل منه ونظر من خلال زجاجه فذعر ذعرا شديدا؛ لأنه رأى نفس ما رآه مريون؛ أي جثة المركيز دي مورفر، ولكن البستانية الحسناء لم تكن في تلك الغرفة السوداء.
ورأى كازمير ما كان من اضطراب رفيقه، فدنا من الباب وصاح صيحة رعب حين رأى تلك الجثة، فشد مونتيجرون على يده، وقال اسكت: وكان مونتيجرون شجاع القلب، فلم تمر به بضع ثوان حتى عادت إليه سكينته، فتفرس بالجثة مليا، ثم همس في أذن رفيقه، وقال: لقد عرفت الآن السبب في جنون مريون؛ فإنه رأى هذه الجثة، وعرف أنها جثة المركيز دي مورفر، ونحن الآن لم نكتشف سرا، بل اكتشفنا جريمة هائلة، ويجب أن نستقصي إلى النهاية.
وكان الباب الزجاجي مقفلا، فحاول أن يفتحه فلم ينجح، فقال: مهما يكن من النتيجة، فلا بد لي من الاستقصاء إلى النهاية.
ثم رفس الباب بشدة، فتحطم زجاجه وفتح.
غير أنه حدث عند ذلك ما يشبه السحر، فإن الشموع التي كانت موقدة حول الجثة أطفئت فجأة، وساد في تلك الغرفة ظلام مخيف.
ولم يبال مونتيجرون بما حدث، فجرد خنجره، وقال لرفيقه: جرد خنجرك، ثم تأبط ذراعه، ومشى الاثنان إلى الجثة، لكنهما لم يمشيا خطوتين حتى صاح مونتيجرون صيحة منكرة؛ ذلك أن الأرض قد هبطت تحت قدميه فسقط مع رفيقه في هوة لم يرها.
6
وشتم مونتيجرون شتما قبيحا، وقال بصوت جلي يدل على أنه لم يسقط من علو شاهق: ما هذه الأسرار التي تكتنفنا في عالم السحر؟!
فأجابه كازمير وقد سقط بالقرب منه: بل نحن في حكايات ألف ليلة وليلة.
مونتيجرون: أأصبت بكسر أو رض؟ - كلا فإني سليم وأنت؟ - وأنا أيضا. - ولكن أين نحن ومن أين سقطنا؟ - لا أعلم، ولكننا سنعلم، ثم فتش في جيوبه فوجد علبة كبريت، فأنار عودا منها، ونظر مع رفيقه إلى ما حواليه، فوجد كثيرا من الأواني مرصوفا بعضها قرب بعض قد زرعت فيها الأزهار الشتوية، ثم رأى مستوقدا ووجد فوقه شمعة قد ذاب نصفها، فأسرع إليها وأنارها، وجعل الاثنان ينظران بجلاء إلى المحل الذي سقطا فيه، فوجدا أنهما في غرفة تشبه الحديقة، وفيها أزهار غريبة لا توجد في أوروبا.
ثم نظرا إلى السقف الذي هبطا منه، فوجدا أن أرض الغرفة العليا التي خسفت بهما كانت من الخشب، وأنها كانت شبه باب يفتح بلولب سري، فلما أدير اللولب فتح الباب إلى الجهة السفلى فسقطا.
وجعل يفحص الغرفة والحديقة، فوجد فيها بابا متينا لا يمكن فتحه إلا بمفتاحه أو بالآلات الضخمة، ونافذة لم يهتد إلى طريقة فتحها، فخطر له أن يكسر برغيا من براغيها، ثم يعالج رواقدها الخشبية بخنجره فيكسرها، ويفر منها إلى الحديقة الكبرى.
غير أنه وجد بعد الفحص أن هذه النافذة من الحديد، وأنها كانت مدهونة بلون الخشب، فلم يبق لديه غير رجاء كسر البرغي.
ثم خطر له أن يرجع كما سقط؛ لأنه رأى طاولة فوضعها قرب الجدار وصعد فوقها، ومد يده فلم تبلغ السقف، وكان الجدار مصقولا فلا سبيل إلى تسلقه، فلم يجد منفذا للخلاص إلا بكسر البرغي، فأخذ خنجره - وكان كازمير ينير له - وحاول كسر البرغي فانكسر الخنجر، فاستعمل خنجر كازمير فانكسر أيضا، فقال: لا سبيل إلى كسره إلا بمبرد، ومن أين نجيء به في هذا السجن؟!
ففطن كازمير أن لديه مدية ذات شفرات كثيرة وأن إحدى شفراتها مبرد، فعرضها على مونتيجرون؛ فسر بها سرورا عظيما، وأخذ يبرد البرغي بصبر عجيب.
وكان كازمير يحمل الشمعة، فقال لرفيقه: إن نورها لا يدوم أكثر من نصف ساعة، فقد التهب معظمها. - لا حاجة لي بها الآن فأطفئها، ومتى أتممت كسر البرغي عد إلى إنارتها، فأطفأها كازمير، وعاد مونتيجرون إلى كسر البرغي.
ولبث على ذلك نحو ربع ساعة، وعلائم الفوز تبدو له كلما اشتغل حتى أوشك أن يفوز بمرامه، فقال له كازمير: ألا تشعر بما أشعر به؛ فإني أشعر بدوار عظيم؟ - كلا، وربما كان ذلك من رائحة الأزهار، فتجلد فإن الفوز قريب.
فجلس كازمير على إحدى أواني الزهر، وقد زاد دوار رأسه فلم يستطع الوقوف، وجعل مونتيجرون يبرد البرغي، فلم تمر به هنيهة حتى شعر هو أيضا بنفس الدوار، فقال: لقد أصبت يا كازمير فقد أصابني ما أصابك، فإني أشعر أن الأرض تدور بي.
فلم يجبه كازمير بحرف، فخاف مونتيجرون وسقطت المدية من يده، وقال لكازمير: أنر الشمعة فإني لا أرى شيئا في هذا الظلام، فلم يجبه أحد؛ فأيقن أن رفيقه قد فقد الحس، ومشى في تلك الغرفة يبحث عنه، فعثر به وسقط فوقه، فجعل يصيح صياح المختنق، ثم حاول أن ينهض، فلم يستفق، ثم أطبقت عيناه فلم يعد يشعر بشيء.
وعند ذلك فتح باب سري في تلك الغرفة لم يكن مونتيجرون وكازمير قد اهتديا إليه، ودخل منه رجل وامرأة: أما المرأة فقد كانت مقنعة، ولكن مونتيجرون لو رآها لعلم أنها البستانية الحسناء، وأما الرجل فقد كان ذلك الخادم الذي لقيه مونتيجرون في الحديقة منذ ساعة وحذره من أن يتبعه.
فقال الخادم للبستانية: إننا لو تركناهما في هذه الغرفة يا سيدتي لما استفاقا إلى الأبد. - كلا، فإني أقسمت أن لا أسفك دما بشريا إلا حين الاضطرار، فقل هل أعددت المركبة؟ - نعم فإنها عند الباب منذ ربع ساعة. - احضر ورفيقك، واحمل هذين المجنونين إلى أحد شوارع باريس المقفرة، فإنهما إذا تنشقا الهواء المطلق يستفيقان من هذا الإغماء. - إذا لم تحذري يا سيدتي، فإن فجيع ما تجريه لا ينتهي بسلام، فهزت كتفيها وقالت له بلهجة الآمر: اصدع بما أمرت.
ثم تركته وانصرفت، فأمر الخادم رفيقه فحملوا مونتيجرون وكازمير، وخرجوا بهما إلى المركبة التي كانت واقفة عند باب الحديقة .
7
بعد ذلك بيومين كان رئيس البوليس السري جالسا في مكتبه في الساعة الثامنة من الصباح، وهو منهمك في تلاوة كثير من الرسائل التي وردت إليه في ذلك اليوم، وكلها مكتوبة بالأرقام الاصطلاحية، وهو رجل حاد البصر تدل هيئته أنه خلق لهذه المهمة، وهو يدعى: المسيو ليبرافيه.
وكانت الحكومة تثق به ثقة شديدة؛ لما أظهره من الحذق في الأعمال الخطيرة الدالة على مهارته، فلما أنشأت قلم البوليس السري - وهو حديث العهد في فرنسا - عهدت إليه برئاسة هذا القلم؛ فحقق الظن به.
غير أنه من يوم توليه هذا المنصب الدقيق لم يرد عليه مشكلة أصعب من مشكلة اختفاء المركيز دي مورفر، فإنه لم يدع محلا في باريس لم ينقبه، وأرسل عماله السريين إلى جميع أقطار الدنيا، فلم يعلم شيئا من أمر هذا الاختفاء الغريب إلى أن قنط من إيجاده فترك البحث عنه، ولكن دلائل الهم كانت بادية عليه لما أصابه من الفشل في هذه المهمة.
وفيما هو منهمك في تلاوة التقارير السرية إذ دخل إليه حاجب بابه، وأعطاه رقعة زيارة مكتوبا عليها اسم الفيكونت دي مونتيجرون، وقال له: إن صاحب هذه الرقعة يا سيدي يرجو أن تأذن له بمقابلتك. - ليصبر قليلا. - إنه يلح يا سيدي بالدخول، ويقول: إن الأمر خطير.
فانتهره الرئيس وقال: قل له أن يصبر إلى أن أفرغ مما أنا فيه.
فخرج الخادم وعاد رئيس البوليس إلى مطالعة التقارير.
وقد رأى بين هذه الرسائل المكدسة على طاولته رسالة علم من طابع غلافها أنها من لندرا، ورأى في زاوية من زوايا الغلاف علامة سرية؛ فارتعش وأسرع إلى فض هذا الغلاف، فسقطت منه صورة فوتوغرافية ما لبث أن تبينها حتى قال بلهجة الدهش: هذا هو بعينه!
وكان هذا الرسم يمثل رجلا في الثلاثين من عمره، بل يمثل جثة رجل جالس على كرسي، وقد مال رأسه إلى كتفه الأيسر، وفوق ثديه الأيسر طعنة خنجر أو سيف ...
ففتح رئيس البوليس درجا، وأخرج منه رسما شمسيا يمثل رجلا واقفا حاملا قبعته وآثار الصحة بادية عليه ، ثم جعل يقابل بين الرسمين، فرأى أنهما واحد وأن كليهما يمثلان المركيز دي مورفر، فوضع الرسمين على الطاولة، وأخذ الرسالة المرسلة من لندرا، فتلا فيها ما يأتي:
إن هذه الجثة التي أرسلت إليك رسما في طي هذا الكتاب وجدت أمس في خمارة الملك جورج، في وينغ، وهذه الناحية من شر النواحي في لندرا.
وصاحب الخمارة يدعى كالكراف، كما يدعى الجلاد في لندرا، ويقال: إنه ابن عمه، وللخمارة شهرة غريبة يخافها الناس خوفا شديدا؛ حتى إن البوليس يخافها ولا يجسر على الدخول إليها بعد منتصف الليل، وقد اتفق مرات كثيرة أن البوليس كان يدخل إليها فلا يخرج منها؛ لذلك لم يكتشفوا هذه الجثة إلا بما أذاعه صاحب الخمارة، وهذا ما قاله: كان رجل فرنسي نجهل اسمه يأتي كل ليلة إلى هذه الخمارة، وتصحبه امرأة إرلندية، وافرة الجمال، وكان ينفق معها جانبا من الليل في تلك الخمارة على معاقرة الشراب.
ولم يكن يكلم أحدا ولا يسيء إلى أحد، ولم يروه مرة في حالة سكر، ولكنه كان مفتونا بتلك الإرلندية.
ومن الغرائب أن تلك المرأة كانت ترتدي ثيابا تدل على الفقر، في حين أنه كان يرتدي خير الثياب، وينفق في تلك الخمارة بملء السخاء، فلم يدفع غير الذهب.
ففي ليلة أول أمس (كما يقول صاحب الخمارة) تخاصم الرجل الفرنسي والمرأة الإرلندية فجأة، فطعنته بخنجر، وقد حاول صاحب الخمارة أن يقبض عليها، غير أنه كان يوجد كثير من البحارة، فحالوا دون قصده، وساعدوها على الفرار.
هذا ما رواه صاحب الخمارة إلى بوليس تلك الناحية، فأخبرني البوليس وذهبت إلى الخمارة فرأيت الجثة، وعرفت في الحال أنها جثة غوستاف دي مورفر الذي نبحث عنه منذ عهد بعيد، ومع ذلك فقد رأيت أن أصوره وأرسل إليك الرسم وأكتب لك أيضا عما أعلمه.
مانويل
ولما فرغ رئيس الشرطة من قراءة هذا التقرير دخل الحاجب أيضا، وقال: إن الفيكونت مونتيجرون يا سيدي يقول: إن لديه أمورا خطيرة خاصة بالمركيز دي مورفر يجب أن يطلعك عليها.
فاهتز الرئيس حين سمع هذا الاسم، وقال: ليدخل في الحال.
ثم وضع الرسم طي التقرير، وخبأه في الدرج.
وعند ذلك دخل مونتيجرون، فأحسن استقباله وسأله عما يعلم، فقال له: إني يا سيدي كنت من أصدقاء المركيز دي مورفر الذي نبحث عنه منذ عام دون أن نجده.
غير أني عرفت باتفاق غريب أن صديقي قد مات مقتولا، وقد رأيت جثته بعيني منذ 48 ساعة.
فقال له الرئيس: ألعلك قادم يا سيدي الفيكونت من لندرا؟ - كلا، فإني لم أبرح باريس ... - ورأيت جثة المركيز دي مورفر؟ - نعم ... - متى؟ - منذ 48 ساعة كما قلت لك ... - أين؟ - على مسافة مرحلتين من باريس في بيت كائن في الخلاء.
فاضطرب الرئيس ثم فتح درجه، وأخرج الرسم الذي جاء من لندرا، فعرضه على مونتيجرون وقال: أتعرف صاحب هذا الرسم؟ - هو هو بعينه، وقد رأيته في الحالة التي رسم فيها.
فنهض الرئيس نهضة الحائر، وقال: أسألك المعذرة يا سيدي الفيكونت، فإن ما ترويه لي يدعو إلى الجنون.
8
وجعل كل منهما ينظر إلى الآخر منذهلا، فيقول الرئيس: ما هذه الحكاية التي يرويها الفيكونت؟! ويقول مونتيجرون: لماذا يدعو سرد روايتي إلى جنون رئيس الشرطة؟ إلى أن افتتح مونتيجرون الحديث، فقال: أرى أن الشرطة قد زارت هذا المنزل بينما كنت مغميا علي لاختناقي برائحة الأزهار، ودليل ذلك أنه وجد الجثة وأخذ رسمها.
فقاطعه رئيس الشرطة فجأة، وقال: لم أرسل أحدا إلى هذا الشارع، ولم يكبس أحد هذا المنزل، ولم أفهم كلمة مما تقول.
فتراجع مونتيجرون مبهوتا، وقال: إذا كنت يا سيدي لم تجد الجثة كما تقول، فكيف وصل إليك رسمها؟!
فبهت رئيس البوليس ونظر إليه نظر الفاحص، وقال: إني لا أرى مع ذلك عليك شيئا من دلائل الجنون. - كلا والحمد لله لست من المجانين. - ولا أنا أيضا. - هذا ما أرجوه لك. - ولكني أرى أننا كلانا من المجانين. - كيف ذلك يا سيدي؟! - تقول: إنك رأيت جثة المركيز دي مورفر؟ - نعم. - في بلفي قرب باريس؟ - نعم. - من هي صاحبة المنزل؟ - هي امرأة يدعونها البستانية الحسناء، ولا يعرفون لها غير هذا الاسم. - وهذه الجثة؟ - هي نفس الجثة التي يمثلها الرسم، وقد رأيت الجرح بعيني فوق الثدي الأيسر.
فجمع رئيس البوليس هداه، وقال له: لنفرض يا سيدي الفيكونت أنني لم أقل شيئا، فلا تهتم لكلامي ولا لانذهالي، بل قص علي جميع ما اتفق لك بالتفصيل.
فحكى له عند ذلك مونتيجرون جميع ما حدث من غرام مرتون بالبستانية الحسناء، وما أصيب به من الجنون، ثم قص عليه ذهابه إلى ذلك المنزل مع كازمير إلى أن هبط به سقف الغرفة، وأغمي عليه وعلى رفيقه من رائحة الأزهار، وأنه حين استفاق من إغمائه وجد نفسه في منزله على سريره والطبيب واقف يعالجه، فعلم أن البوليس لقيه في شارع مقفر مع رفيقه مغما عليهما، ففتش جيوبهما وعرفهما من رقاع الزيارة، فحملهما إلى منزلهما، ثم قال له: إني أقمت في منزلي إلى المساء، وزارني صديقي كازمير، وأخبرني بما جرى له، فاتفقنا على أن نخبر البوليس بما كان، ولهذا أتيت إليك.
وكان الرئيس مصغيا إليه كل الإصغاء، فلما أتم حديثه فتح الدرج وأخذ الرسالة التي وردت إليه من لندرا وعرضها على مونتيجرون.
ولما اطلع مونتيجرون على هذه الرسالة ذهل ذهولا شديدا، فقال له الرئيس: أرأيت يا سيدي؟! أيمكن أن تكون جثة المركيز في لندرا وباريس في وقت واحد؟! - إني أقسم لك بشرفي إني رأيت جثة المركيز، كما هي ممثلة في هذه الصورة! - حسنا، ولكن هذه الصورة أما هي صورة المركيز؟! - دون شك. - تقول: إنك رأيت جثة المركيز؟ - نعم. - أتذكر في أية ساعة؟ - عند منتصف الليل.
فوضع الرئيس إصبعه فوق أحد سطور الرسالة الواردة من لندرا، وقال له: اقرأ، ألم يقل عاملي إنه صور الجثة ليلة أمس، ثم ألم تكن ليلة أول أمس ليلة الخميس؟!
فظهرت علائم الاضطراب على مونتيجرون، وقال: لا أعلم ما أقول! إلا إذا اتفق وجود رجل يشبه المركيز هذا الشبه بالوجه، والتقاطع، والثياب، وبالموت ميتة واحدة في ليلة واحدة بجرح في موضع واحد، لقد صدقت يا سيدي، لا شك أن واحدا منا مصاب بالجنون. - هذا ما أراه، ولكن قل لي أيضا: أأنت واثق من أنك رأيت المركيز نفسه؟ - كل الوثوق.
فجعل كل منهما ينظر إلى الآخر، وهو لا يدري ما يقول.
وعند ذلك رن صوت آلة تلغرافية كانت في غرفة رئيس البوليس، فقام الرئيس إلى الآلة، وعلم أن التلغراف وارد إليه من لندرا، إذ كان له سلك خاص يتصل من غرفته إلى تلك العاصمة، فحل رموزها، وهو كما يأتي:
لندرا: السبت في الساعة الثامنة صباحا
نقلت الجثة مساء أمس إلى المحل الذي يعرض فيه القتلى المجهولون، وكان يحرسها نفران من البوليس فشربا مخدرا ممزوجا بالتبغ وهما لا يعلمان فناما، وسرقت الجثة. التفاصيل بالبريد.
مانويل
فلما تلاها الرئيس عرضها على مونتيجرون، وقال له: اقرأ! ثم قال له بعد أن قرأها: إني أشتغل في مهنتي هذه منذ عشرين عاما، فما وردت علي جناية أعقد من هذه الجناية!
فقال له مونتيجرون: ألا تنوي يا سيدي تفتيش هذا المنزل قبل أن يرد إليك كتاب عميلك؟! - دون شك، وسأذهب وإياك في الحال، وما دام يوجد جثتان لا بد لنا أن نظفر بواحدة!
9
بعد ذلك بساعتين كانت مركبته تجتاز شارع بلفي، فوقفت عند باب منزل البستانية الحسناء، فخرج منها المسيو ليبرفيه رئيس البوليس السري واثنان من رجال البوليس وهم متنكرون بالثياب الرسمية السوداء.
وكان وراء مركبتهم مركبة جميلة فيها مونتيجرون وصديقه كازمير.
فطرق الرئيس باب المنزل، وهو ينظر نظرة الفاحص إلى الحديقة المحيطة به، فوجد كثيرا من العمال يشتغلون بقطف الأزهار وتنسيقها وجعلها طاقات معدة للبيع، وبينهم رجل ضخم الجثة يسير ذهابا وإيابا ويلقي عليهم الأوامر، فلم ير الرئيس في ظواهر هذا المنزل شيئا يدل على الريبة.
فلما طرق الرئيس الباب أسرع إليه الرجل الضخم، ففتح الباب وحيا الرئيس وجماعته بملء الاحترام لاعتقاده أنهم من الزبائن.
فقال له الرئيس: إننا نريد أن نرى صاحبة المنزل. - لا شك يا سيدي أنكم من زبائن مدام ليفيك.
فحفظ الرئيس هذا الاسم في ذاكرته، وقال: نعم إننا من زبائنها، ولكننا نحب أن نراها. - عفوا يا سيدي، ألعلك لم تضطلع على النشرة التي أذاعتها هذه الأرملة أمس؟! فإنها أعلنت انسحابها من الأعمال، وباعتني كل حدائقها، وتخلت لي عن هذا المنزل.
فقطب الرئيس حاجبيه، وقال: ماذا تدعى أنت؟ - خادمك بوليدور كروسيجان. - إذن أنت خلفت مدام ليفيك؟ - نعم يا سيدي. - متى؟ - إن عقد الشراء قد تم بيننا منذ خمسة عشر يوما، ولكني لم أستلم المنزل وحدائقه إلا أمس. - ومدام ليفيك ألعلها باقية في المنزل؟ - كلا يا سيدي، فإنها برحته ليلة أول أمس إلى باريس، فإذا شئت أعطيناك عنوانها، فإنها تقيم في شارع تامبل نمرة 69.
ثم تنهد لخيبة رجائه فيهم، إذ كان يعتقد أنهم قادمون لشراء الأزهار.
فتأبط الرئيس ذراعه وسار به إلى الحديقة، وقال له: أرى أنه يجب أن أخبرك من أنا، فإني أدعى ليبرفيه؛ أي رئيس البوليس السري.
فارتعش بوليدور وقال بلهجة دلت على براءته: ماذا عملت يا سيدي؟ وأي شأن لي مع البوليس؟ - إني تبينت براءتك من عينيك، وأنا واثق من أنك لا دخل لك فيما اضطرني إلى زيارة هذا المنزل وقد يسوءني إزعاجك، غير أني لا أجد بدا من إجراء واجباتي. - واجباتك؟ - نعم. - وكيف ذلك؟ - ذلك أنه يجب علي تفتيش هذا المنزل. - تفتيش منزلي أنا؟! - أي تفتيش هذا المنزل الذي كنت أحسب أني أجد مدام ليفيك فيه؛ لذلك أسألك أن لا تدع أحدا يعلم ما أنا آت لأجله، وأن تستقبلني استقبال صديق تمويها على هؤلاء العمال.
فاحمر وجهه وتندى بالعرق، وقال بصوت يضطرب: إني يا سيدي مقيم في هذه الناحية منذ ثلاثين عاما، فليس فيها من لا يعرفني، ولم أعمل في حياتي ما يحمل على الشك. - لقد قلت لك: إني واثق بك، ويظهر أنك أسأت فهم كلامي، إني لا أبغي تفتيش منزلك بل منزل المرأة التي يدعونها البستانية الحسناء، ونعم إنك اشتريت منها المنزل، وذلك لا يمنعني عن تفتيشه. - لماذا تريد تفتيشه؟ - لحدوث جريمة فيه.
فاضطرب الرجل اضطرابا شديدا، وقال: إذا صح ما روي لك عن حدوث جريمة، فليست مدام ليفيك التي ارتكبتها؛ لأنها من أشرف النساء. - ألعلك تعرفها منذ عهد بعيد؟ - إني أعرفها منذ عشرة أعوام، وقد توفي زوجها بين يدي، فإنه كان من أصدق إخواني، وإذا أردت يا سيدي بعد هذا التأكيد أن تفتش المنزل، فهلم أدخلك إليه، ولكنك لا تجد فيه شيئا؛ لأني لم أحضر أثاثي إليه بعد. - لا بأس فهو واجب لا بد من قضائه.
فمشى بوليدور إلى المنزل، وتبعه رئيس البوليس والبوليسان ومونتيجرون وكازمير، فلما فتح الباب وصعدوا السلم المؤدي إلى الدور العلوي، قال رئيس البوليس لمونتيجرون: هذا هو السلم الذي صعدت إليه؟
أجابه: هو بعينه. وإذا شئت مشيت أمامك إلى الغرفة التي كانت فيها الجثة. - فعل!
فمشى مونتيجرون حتى بلغ تلك الغرفة ذات الباب الزجاجي، ففتح بابها وولج إليها فتبعه الجميع، لكنه لم يجد الجثة، بل وجد أن جدران تلك الغرفة التي كانت موشحة بالسواد زال السواد عنها، وبرزت بلون أزرق جميل كانت تزيده أشعة الشمس جمالا.
فاستاء مونتيجرون أشد الاستياء، وخشي أن يشكك رئيس البوليس في روايته، لكن استياءه لم يطل، فقال للرئيس: لا شك أن البستانية الحسناء بعد خروجها من المنزل لم تترك الذي نبحث عنه في هذه الغرفة، ولكن الذي أراه أن إخراج الجثة من منزل ليس بالأمر اليسير، ولا بد لهذه الجثة التي رأيناها أن تكون باقية هنا في محل خفي.
فذعر صاحب المنزل، وقال بلهجة المستنكر: جثة في هذا المنزل؟!
فنظر إليه رئيس البوليس نظرة الفاحص، فما وجد في ملامحه غير الصدق، فقال له: نعم كان يوجد جثة في هذا المنزل. - ولكن أين كانت؟ - في هذه الغرفة التي نحن فيها، وكانت مغطاة بوشاح أسود، وكذلك جدران هذه الغرفة. - إني لم أر هذه الغرفة إلا كما ترونها الآن.
فقال الرئيس لمونتيجرون: أذكر أنك قلت لي إن أرض هذه الغرفة قد سقطت بك، فسقطت إلى حديقة تحت هذه الغرفة، وأغمي عليك من رائحة زهورها. - هو ما قلته لك، وأظن أن أرض الغرفة مقسومة إلى قسمين: قسم ثابت وقسم يتحرك ويفتح بلولب أو غير ذلك. - وأنا أرى ما تراه فلنبحث عن سر هذا الباب.
وجعلوا كلهم يبحثون في أرض تلك الغرفة الخشبية، فلم يهتدوا إلى طريقة فتح الباب، ولكن رئيس البوليس لاحظ أن الألواح الخشبية المبسوطة في أرض الغرفة جديدة، فخطر له أن البستانية الحسناء قد وضعتها قبيل خروجها من المنزل إخفاء لآثار الباب، فأمر من معه في المنزل أن ينزعوا تلك الألواح، فنزعوها وظهر تحتها أرض خشبية قديمة.
وبعد البحث الطويل وجد في أسفل الجدار لولبا صغيرا مصبوغا بلون أرض الغرفة بحيث لا تراه العين، فما أوشك أن يديره حتى خسف قسم من أرض الغرفة فجأة، وسقط مونتيجرون وكازمير دون أن يصاب أحد بمكروه؛ لأن العلو لم يكن شاهقا، فسر رئيس البوليس، وأسرع فوثب إلى حيث سقطت جماعته، فلما اجتمعوا كلهم في أرض تلك الغرفة الجديدة التي هبطوا إليها، شاهدوا في زاوية منها سجفا، فأزاحوه فوجدوا وراءه ذلك السرير الذي رآه مونتيجرون، وعليه تلك الجثة التي أصيب مريون من أجلها بالجنون.
أما رئيس البوليس فإنه اضطرب اضطرابا شديدا؛ إذ أيقن أنها جثة المركيز دي مورفر، ولكنه ما لبث أن دنا منها ولمسها بيده حتى صاح صيحة انذهال، فأسرع إليه مونتيجرون وقال: ماذا؟ - ما هي جثة إنسان، بل هي جثة من الشمع، وقد هزأت بنا هذه المرأة كما تشاء.
ولقد أصاب الرئيس؛ لأن هذه الجثة كانت تمثالا من الشمع يشبه المركيز أتم الشبه، وهي من تلك التماثيل العجيبة التي تفتخر بها المعامل الإنكليزية.
10
من البوليس مانويل إلى رئيس البوليس السري المسيو بيرفيه:
يا حضرة الرئيس
أرسلت إليك أمس نبأ برقيا لا أجد بدا من إتمام تفصيله بهذا الكتاب، أنت تعلم تعصب الشرائع الإنكليزية بتسليم المجرم إلى حاكمه الشرعي، وبتسليم جثة القتيل قبل عرضه في محل خاص.
وقد كتبت إليك: إني لقيت جثة المركيز دي مورفر، وأرسلت إليك رسمها، ولكني لم أستطع استلام الجثة؛ لأن الشريعة تقضي بعرضها في مكان خاص يدخل إليه من أراد.
وقد عرضت الجثة فعرفها أحد اللوردية وقال: إنه من أصحاب المركيز، وعرفتها أيضا امرأة فقالت: إن المركيز كان مقيما في منزلها، فكتبت عنوان هذه المرأة، وفي المساء ذهبت إليها وأدخلتني إلى الغرفة التي كان يبيت فيها المركيز، فرأيت في المستوقد كثيرا من الأوراق الممزقة والمحروقة، فجمعت منها بعض قطع لم تصل إليها النار، وضممتها إلى بعضها فاتضح لي منها هذه الكلمات: ... وعد لي أيها الحبيب، لقد عفوت عنك وسامحتك.
ورجعت من عندها إلى دار الحكومة، وحصلت على الإذن بنقل الجثة إلى فرنسا في اليوم التالي، ثم ذهبت لإعداد معدات السفر، وفي الصباح دخل علي البوليس الإنكليزي، وقال لي بلهجة المضطرب: إن الجثة قد سرقت.
أما تفصيل سرقة الجثة فهو: أنها كانت موضوعة في غرفة لها نافذة تشرف على البحر، وكان يتولى حراستها بوليسان إنكليزيان، وفيما هما جالسان أمامها يدخنان، تثاقلت أجفانهما وناما نوم تخدير، فتسلق سارقو الجثة إلى نافذة الغرفة، فكسروا روافدها وأنزلوا الجثة إلى قاربهم وهربوا بها.
أما البوليسان فلم يستفيقا إلا في الصباح، ووجدا الجثة قد سرقت.
واتضح بعد التحقيق أن التبغ الذي كانا يدخنان منه كان فيه مادة مخدرة، فقبض على بائع التبغ، وقد شغلت هذه الحادثة جميع بوليس لندرا، فلم يهتد إلى شيء بعد، ولكننا لا نزال نرجو أن نجد الجثة. وسأخبرك غدا بما يكون.
مانويل
ولنعد الآن إلى رئيس البوليس، فإنه عندما ظفر بهذا الوجه الشمعي الذي خدع به كل من رآه، وحسب أنه وجه المركيز دي مورفر، أمر رجلي البوليس اللذين كانا معه بحراسته وبمراقبة صاحب المنزل فلا يأذنا له بالخروج، ثم خرج من المنزل مع مونتيجرون وكازمير، وهو يقول لهما: إني سأقبض على هذه المرأة، فإما أن يكون هذا الشخص الذي دلنا على منزلها صادقا فيكون بريئا، أو يكون كاذبا فيكون شريكا لها في الجريمة.
وذهب مع رفيقه إلى المنزل، وسأل البواب عن البستانية الحسناء فأجابه: إنها سافرت، وقالت: إنها لا تعود إلا بعد ثمانية أيام.
فأخذ الرئيس مفاتيح المنزل منه بعد أن أخبره بصفته، ودخل مع مونتيجرون وكازمير، فلما دخلوا إلى غرفة النوم وجدوا صورة المركيز دي مورفر معلقة بالجدار وهو بثياب الفلاحين، ثم رأى رئيس الشرطة رسالة مختومة فوق منضدة، وعليها هذا العنوان «إلى الفيكونت دي مونتيجرون» فدفعها إليه ففضها وقرأ ما يأتي:
إن هذا الكتاب سيصلك دون شك، بل ربما أخذته بيدك من الموضع الذي تركته فيه، فإنك أردت أن تميط الحجاب عن أسراري، ولما أعجزك الأمر استعنت برجال الشرطة، ولكنك لن تقف ولن يقف الشرطة على شيء من دخائل سري، وسيذهب جهدك وجهدهم عبثا باطلا لا فائدة فيه، لا سيما وأنه لا يوجد بينكم من يعرفني؛ إذ لا يوجد بين عصابتكم غير رجل واحد رأى وجهي، لكنه أصبح من المجانين.
والآن اسمح لي يا سيدي الفيكونت أن أسدي إليك نصيحة، وهي أنك غني ولا تزال في مقتبل الشباب، فارجع عن قصدك من اقتفاء أثري أو أصيبك بنكبة تنغص عليك الحياة.
أما البوليس فسيفرغ جهده في البحث عن دي مورفر الميت أو الحي، ثم يرى أنه لا يظفر بمراد، فيمل ويرجع عن البحث، فاقتد بالبوليس ذلك خير لك.
وإني لا أنصحك هذا النصح إلا لما أعلمه من صداقتك مع المركيز دي مورفر فاقبل النصيحة، أما أنا فإني سأبرح باريس ولا أعود إليها، قد أعود وقد نلتقي كل يوم عشرين مرة وفي عشرين مجلس ولا تعلم من أنا، وفي الختام أعود ما بدأت به من النصح، فاقبله من امرأة أحبت صديقك وتدلهت بغرامه.
البستانية الحسناء
وفتش رئيس الشرطة بعد ذلك كل المنزل تفتيشا دقيقا، فلم يعثر على أقل أثر لهذه البستانية، وأفرغ جهده بعد ذلك فلم يظفر بالجثة ولا بالمرأة، وذاع هذا الخبر في العاصمة، فاضطرب له الناس، وعاد الشرطي مانويل من لندرا بعد أسبوع دون أن يقف على شيء.
ومر على هذه الحادثة عام فتناساها الناس وكفت عنها الشرطة، غير أنه أشيع بعد عام أنهم شاهدوا المركيز دي مورفر حيا في بلاد الهند، واتفق عند انتشار هذه الإشاعة أن إحدى المركبات صدمت الشرطي مانويل فسحقته، وألح وهو في حالة النزع أن يرى رئيس الشرطة في المستشفى، وأسرع إليه الرئيس ولم يعلم أحد إذا كان حديثهما خاصا بالمركيز دي مورفر؛ لأن هذه المداولة بقيت في طي الكتمان.
11
يذكر قراء الجزء السابق - أي رواية ملايين النورية - أن روكامبول ترك رسالة لمرميس تتضمن تعليماته، وأمره أن لا يفتحها إلا إذا مضى على سفره عامان دون أن يعود.
وقد كان مضى على سفره إلى الهند نحو عامين دون أن يعلم أحد شيئا مما حدث له، ولم يعلم أحد في أوروبا إذا كانت السفينة التي ذهبت به وبالأسرى الهنديين التهمتها النار أو سلمت، وإذا كان روكامبول بقي حيا أو ابتلعته الأمواج.
وكانت فاندا ومرميس متلازمين لم يفترقا ومعهما ميلون، وكأنهم ينتظرون عودة الرئيس بفارغ الصبر ولا يتحدثون إلا بأمره.
وكان ميلون أشدهم جزعا عليه وأعظمهم يأسا من لقائه، فكان يهز رأسه بعض الأحيان، ويقول: إنه مات وا أسفاه دون شك!
فتجيبه فاندا: إن هذا محال، وأنا واثقة أنه لا يزال من الأحياء، أتريد أن تعلم ما يحملني على هذا الوثوق؟ - كيف لا أريد، وأنا أكاد أجن من يأسي؟ - إني عصبية المزاج شديدة التأثير، ومن أعظم الناس قبولا للنوم المغناطيسي، وإذا كثرت هواجسي بالذين أحبهم ظهروا لي في الحلم بالحال التي يكونون فيها. - وهل رأيت روكامبول في حلمك؟ - رأيته نحو عشر مرات منذ فراقه.
فهز ميلون رأسه، وقال: إنها أضغاث أحلام، لا تظهر خفيا، ولا تبين غيبا. - لو كان يوجد هنا من يعرف طريقة التنويم المغناطيسي، لنومني أمامكم وأظهرت لكم أين يقيم روكامبول، وماذا يصنع الآن، وإذا كان في نيته أن يعود.
فتنبه مرميس لقولها، وقال: إذا كنا لا نحتاج إلا إلى منوم لمعرفة حقيقة حالة روكامبول، فإن الأمر سهل ميسور؛ لأني أعرف أين أجد هذا المنوم. - اذهب يا بني وائتني به.
فقرع مرميس جرسا وأسرع إليه أحد الخدم، وقال له: قل للسائق ليهيئ لي المركبة في الحال.
وكان مرميس قد تغيرت أخلاقه وحالته بعد موت جيبسي، فبات من الذين يشار إليهم بالبنان لحسن أدبه ولين أخلاقه وشرف طباعه ، وإن حبه لجيبسي ونكبته بفقدها وملازمة فاندا له كل ذلك أدبه خير تأديب، وقد زال اليأس من قلبه، ولم يبق من آثاره غير ظواهر السويداء، وإن القنوط لا يتمكن من قلب الفتى وهو لم يتجاوز العشرين.
وقد كان أتم دروسه في مدة هذين العامين؛ أي في غياب روكامبول، فتخرج على أشهر الأساتذة بفضل ثروته، وبات جميع أصحابه ومعارفه من النبلاء وخيرة المتأدبين.
وكانت النساء تتوددن إليه، والأوانس يخطبن وده لأدبه وجماله وماله، غير أن قلبه لم يكن يتسع لغرام بعد فقده من يحب، فكان إذا مال فؤاده إلى التهتك أو دفعه غرور الصبا إلى الاسترسال إلى الملاذ تمثلت له تلك الفتاة التي كان يهواها، وعاد إلى الاكتئاب وكبحت هذه الذكرى جماح ذلك الغرور (راجع رواية ملايين النورية).
ثم إنه كان يحترم روكامبول احترام الآباء، وكان يعلم أنه عهد إليه بمهمة سرية مختومة لا بد له من قضائها. وإن هذه الثروة التي خلفتها له جيبسي لا يحق له أن ينفقها إلا في وجوه الخير، فكان يقتصد منها كل الاقتصاد إلا في حين إغاثة ملهوف أو إعانة بائس مسكين.
هذه هي حالة مرميس الذي استحال بفضل روكامبول من حال إلى حال، وقد تركناه ذاهبا إلى المنوم المغناطيسي، وهو رجل أميركي اشتهر بهذا الفن شهرة واسعة في باريس، ولما وصل إليه أخبره بالغاية التي جاء من أجلها فخرج وإياه وعاد به إلى فاندا.
ولما استقر به المقام قالت له فاندا: افحصني يا سيدي لنرى إذا كنت خاضعة للتنويم.
ففحصها وقال لها: بل أنت أشد الناس خضوعا له. - إذن نومني وأذن لمرميس أن يسألني ما يشاء أثناء نومي.
فأجلسها المنوم على كرسي كبير، ووضع يديه فوق يديها، وجعل ينظر إليها تلك النظرات الخاصة، ولم يمر حين وجيز حتى أطبقت عيناها، وانحنى رأسها، وتنهدت تنهدا عميقا، فعلم الأميركي أن التنويم قد تم، وقال لها: انظري. إني أريد أن تنظري.
فارتعشت فاندا هنيهة، وظهرت على وجهها علائم المقاومة، ثم زالت هذه العلائم فجأة ففتحت شفتيها وقالت : أرى ...
وكان العرق ينصب من جبين مرميس وميلون لوثوقهما أنهما سيعلمان ما حدث لروكامبول.
وبدأت فاندا بالكلام، وجعلت تفوه بكلمات متقطعة مبهمة مضطربة، كأنما نفسها كانت في عراك لاغتصابها حجاب تلك الظلمات السرية التي تكتنف روح النائم حين طيرانها إلى عالم الأرواح واجتيازها تلك المسافات الشاسعة على بقائها متصلة بجسم النائم.
ثم انقشع الاضطراب عن وجهها وانبسطت نفسها، وظهرت عليها علائم الهدوء والسكينة، وبات كلامها واضحا جليا لا يداخله شيء من الإبهام وقالت: إني أراه. - من هو الذي ترينه؟ - هو.
فأشار مرميس إلى المنوم إشارة مفادها أننا نعرف الذي تعنيه، ثم همس في أذنه قائلا: سلها أين هو؟
فقال المنوم: أين ترينه؟ - إن السماء مرصعة بالكواكب، ومع ذلك فهي قاتمة سوداء ... الحر شديد ... وهذه الرياح التي تثير الأمواج كأنها من نار ... إنها تهب من الغرب ... خط الاستواء غير بعيد. إن شراع السفينة تكاد تمزقه الرياح، والأمواج تنشق أمامها فتسير في وديانها، هذا هو ... إنه جالس في مجلس الربان رابط الجأش عالي النفس ...
إنه يحسن قيادة السفن كما يحسن قيادة الرجال ... الرياح موافقة، وكل شيء منتظم في السفينة ...
ثم سكتت فقال لها الأميركي: قولي ماذا ترين أيضا؟ - لا شيء سوى الضباب ...
وعادت إلى السكوت.
وقال الأميركي همسا لمرميس: إن الحالة ستتغير بعد قليل لنصبر.
وبعد عدة دقائق عادت فاندا إلى الارتعاش، ولكن علائم الرعب الشديد ارتسمت فجأة فوق وجهها، وصاحت صياح المستغيث وقالت: رباه!
فقال لها المنوم: ماذا ترين؟ - النار في السفينة ... إنها ناشبة في العنبر ... ويلاه! ... إنها ستصل إلى مستودع البارود ...
ثم سكتت هنيهة، وعادت فقالت: لا تزال النار تتأجج ... إنهم أنزلوا القارب إلى البحر ... نزل فيه الناس. إنهم يبتعدون عن السفينة المحترقة ... - وهو؟ - هو لا يزال باقيا في السفينة ... إني أراه واقفا على سطحها يشيع القارب بالنظر. رباه! إن لسان النار يندلع ... قرب اللهيب من مستودع البارود.
ثم تحركت حركة عنيفة فوق كرسيها، وصاحت بصوت هائل: الانفجار!
فجعل الأميركي ومرميس وميلون ينظر كل منهم إلى الآخر نظرات الذعر، غير أن فاندا انقطعت فجأة عن الارتعاش، وأشرق وجهها بنور البشر وتنهدت تنهدا طويلا دل على الارتياح.
فقال لها المنوم: ماذا رأيت؟ - إني ما رأيت ولكني أرى. - ماذا ترين؟ - أراه ... إنه يسبح في المياه مستعينا بخشبة كبيرة من بقايا السفينة ... طلع النهار. لا يزال يسبح ... البحر هادئ ... هو ذا سفينة قد ظهرت في عرض البحر وهي تدنو منه، ها هي وصلت إليه، فأنزلت القارب ... واطرباه! إنه نجا.
فصاح ميلون ومرميس أيضا صيحة فرح، أما فاندا فإنها صمتت، ولم تعد تفوه بكلمة، فقال ميلون: يجب أن نوقظها.
فاعترضه مرميس وقال: كلا، إذ يجب أن نعلم أين هو، فلا يكفينا أنه حي، ثم أشار إلى الأميركي أن يسألها.
فوضع الأميركي يده فوق جبهتها، فعادت سلطته عليها، وقال لها: انظري فإني أريد أن تنظري.
فاختلجت فاندا، ولكن وجهها ظهرت عليه علائم الارتياح مما يدل على أنها ترى أمورا تسرها، ثم قالت: إنه فوق صهوة جواد أبيض مسرج بسرج مذهب، وهو يسير بجانب فارس يلبس لباسا أحمر، وعلى كتفيه رمانات من ذهب، وأمامهما رجال ملابسهم حمراء أيضا، وهم يسيرون أمامهما بالموسيقى، ووراءهما جنود مختلفة الملابس، وهم قادمون من معركة قاتل فيها «هو» قتال الأسود، والجميع يسيرون في حقول خضراء.
فقال مرميس: هذه بلاد الهند دون شك.
وقال لها الأميركي: إلى أين هو ذاهب؟ - لا أعلم، فإن الليل قد هجم والشمس قد توارت في الحجاب، ولكن لا أزال أسمع صوت الموسيقى.
فالتفت عند ذلك الأميركي إلى مرميس، وقال له: إن السيدة قد تعبت وصار يجب أن تستفيق. - كما تريد.
فوضع الأميركي يديه على رأسها وذراعيها وكتفيها، وحركها تباعا ففتحت عينيها وأجالت في الحضور نظرا حائرا، ثم ذكرت ما كانت هي فيه فقالت: ماذا جرى للرئيس، أما هو حي؟
قالوا: بلى. - أين هو؟ - في الهند. - ألعلي قلت إذا كان يعود؟
فقال لها الأميركي: كلا، فقد تعبت وسأنومك مرة أخرى.
فنظرت فاندا إلى مرميس نظرة سرية مفادها أننا لا نستطيع أن نتكلم بحرية بوجود هذا الرجل.
وبعد حين ذهب مرميس بالأميركي، فقالت له فاندا: لا تنس يا مرميس أن غدا موعد فتح كتاب روكامبول. - سأحضر في الساعة الثامنة من صباح غد، ثم انصرف مع الأميركي.
فقالت فاندا لميلون: أوثقت الآن يا ميلون أن روكامبول لم يمت؟
12
أما مرميس فإنه أوصل الأميركي بمركبته إلى منزله، ثم أمر الخادم أن يعود بالمركبة إلى المنزل، وسار ماشيا يتنزه في شوارع باريس ويتفكر بروكامبول وبموعد فتح الرسالة، وبما عسى أن يكون قد عهد إليه من المهمات.
وكانت الساعة الحادية عشرة مساء، وقد راقت السماء، واعتل النسيم، وكثر المتنزهون في الشوارع، فبينما كان يسير قرب الأوبرا شعر بيد وضعت فوق كتفه، فالتفت فرأى الفيكونت مونتيجرون.
وكان هذا الفيكونت قد رجع عن البحث عن المركيز مورفر ليأسه من لقائه، فحيا صديقه مرميس، وقال له: لقد أحسنت بالتنزه فإن الهواء عليل. - نعم فإن هذه الليلة تشبه ليالي الربيع، فيحسن استنشاق هوائها. - بشرط أن يكون الفكر نقيا كسمائها طليقا كهوائها، ثم تنهد.
فقال له مرميس: ما بالك تتنهد أيها الصديق، ألعلك فوجئت بنبأ محزن؟! - كلا، ولكنه الغرام يا مرميس فقد بدأ به قلبي حين تفرغ منه القلوب. - كيف ذلك فإني لا أفهم ما تقول؟ - إن التمثيل في الأوبرا ينتهي عند انتصاف الليل، ولا يزال الوقت فسيحا لإطلاعك على سري، تعال معي أيها الصديق إلى هذه القهوة المجاورة للأوبرا أبح لك بأسراري. - ليكن ما تريد فليس لي شاغل يمنعني عن أن أذهب معك.
وذهب الاثنان إلى القهوة، فجلس مونتيجرون في مكان يرى منه كل من يخرج من الأوبرا ويدخل إليها، ثم بدأ حديثه مع مرميس، فقال: إني كنت من سن العشرين إلى الثلاثين أبعد رفاقي عن الاندفاع بتيار الشهوات، فكنت أنفق دخل ثروتي بالحكمة والسداد، وأنهى نفسي عن كل غي، ولا أشغل قلبي بهوى حسناء حذرا من مغبات الغرام، ولا أتجاوز المدى في شأن من الشئون حذرا من العواقب، ولكني حين تجاوزت سن الطيش والغرور، جريت في حلبة هاتين الآفتين كأنهما من حقوق الصبا ، وكأني ندمت لتجاوزي عن هذا الحد، فجعلت أنغمس في كل ملذة، وأتداخل في كل شأن، ألا تذكر حكاية المركيز دي مورفر؟ - أتعني بها حكاية اختفائه؟ - نعم، فقد شغلت نفسي عامين لم يكن همي فيهما إلا اختراق حجب هذا السر ... - ألعلك وقفت على الحقيقة؟ - كلا، وفوق ذلك فقد أوعزت إلي عائلته نفسها أن أنقطع عن الأبحاث؛ وذلك أن لهذا المركيز وريثا فجاءني في صباح يوم، وقال: لقد قابلت رئيس الشرطة، واتفقنا على عدم البحث عن ابن عمي المنكود واعتباره من الأموات، ورجائي أن تكف مثلنا عن البحث عنه. - ألعلك امتثلت وامتنعت؟! - لم أجد بدا من الوقوف عند حدي، لا سيما أني مللت البحث، ويئست من لقاء ذلك الصديق، لكني كنت تعودت المشاغل وألفت الاهتمام، فرأيت أن قلبي بات بحاجة إلى شاغل جديد. - أوجدت هذا الشاغل؟ - دون شك إذ أصبحت من العشاق.
فابتسم مرميس وقال: من هي هذه الفاتنة التي ملأ حبها فراغ قلبك؟ - اسمح لي أيها الصديق قبل ذكر اسمها أن أخبرك كيف أعيش منذ شهر؛ أي منذ باض وفرخ هذا الحب في قلبي، فإني أحضر ثلاث مرات في الأسبوع إلى الأوبرا إذ أجد التي أحبها فيها، وإذا رأيتها أخال أن دقات قلبي تبلغ مسامع الناس، فإذا أشرق الصباح امتطيت جوادا، ومررت به مرتين أو ثلاثا من تحت نوافذ منزلها في الشانزليزيه دون أن أطمع برؤياها، فإنها تكون نائمة، ولكن يرضيني أن أرى نوافذ غرفتها، وأقنع حينئذ أن أرى من يراها.
ثم إني أذهب كل ليلة لا تمثل فيها الروايات في الأوبرا إلى المنزل الذي أعرف أنها تقضي السهرة فيه، فألقاها ولا أكلمها، ولم أكلمها مرة إلى الآن، ولكن عيني كانت تنوب عني فتعرب عن غرامي بأفصح لسان، ولا أدري إذا كانت فهمت لغة عيني وعلمت أنهما رسول قلبي، ولكني لو سئلت الحياة بساعة من قربها لرضيت وما أسفت على الحياة.
فقال له مرميس بلهجة الكآبة: إذن أنت مريض هوى؟ - مجنون غرام لا يرجو الرشاد، وصريع وجد لا يود أن يستفيق . - إذن إن هذه المرأة بارعة في الجمال؟ - لا أعلم فإن عين المحب لا ترى جمال المحبوب، وليس الجمال رائد الهوى إلى القلوب، غير أنها ذات عينين ساحرتين.
إذا نظرت قلبا خليا من الهوى
تقول له كن مغرما فيكون
فهل تريد أن تراها؟ - دون شك، إذ لا موضع في قلبي لهيام العيون. - إذن اذهب الآن إلى الأوبرا، وانظر إلى اللوج الأول تجدها طالعة فيه بين الجميلات طلوع القمر بين النجوم، وإنك تجد بقربها رجلا ينيف عمره على الخمسة وأربعين، وهو زوجها. - أهو فرنسي؟ - كلا، بل هو إسباني. - إذن هي إسبانية مثله. - كلا، بل أظنها روسية، والحقيقة أنه ليس من يعلم شيئا من أمرها، فإنها جاءت باريس منذ شهرين، ولا يعلمون من أين أتت، ولكنها تزور أشرف البيوت، وما جرت حفلة في سفارة إلا ودعيت إليها.
فنهض مرميس وقال: لقد هجت فضولي، فأنا ذاهب لأراها في الحال. أتريد أن تكون معي؟ - كلا، بل أبقى هنا وستجدني عند عودتك في مكاني. - كما تشاء ...
ثم تركه وانصرف توا إلى الأوبرا، وجلس في لوجه الخاص به وكان مجاورا للوجها، فلما رآها ذهل لجمالها الباهر، وكانوا يتحدثون عنها في اللوج المجاور للوجه، فأصغى إلى الحديث دون أن ينقطع عن النظر إليها.
13
وقد رأى مرميس من جمال هذه المرأة ما يفتن الزهاد، فعذر صديقه مونتيجرون لافتنانه بها وأصغى إلى ما يتحدثون عنها باللوج المجاور للوجه.
وكان اثنان مقيمين في هذا اللوج وهما يتحدثان باللغة الإنكليزية، غير أنه كان قد أتقن هذه اللغة منذ عهد حبه لجيبسي، فلم تفته كلمة من حديثهما، وسمع ما يأتي:
قال أحدهما: إذن أنت لا تثق أيها الصديق بزواج دون روميو؟ - على الإطلاق. - ولكنه رقص أول أمس في السفارة الإسبانية؟ - على أي شيء يدل رقصه فيها؟ - يدل على أنه زوج هذه المرأة، إذ لا يجسر أن يصحب خليلته إلى بيت السفير، ويدعي أنها امرأته. - إذا كان دون روميو حقيقة تزوج هذه المرأة، فهو إذن زوجها الرابع. - كيف ذلك؟ - ذلك أني عرفت أزواجها الثلاثة ، وإن هذه المرأة ليست روسية ولا إنكليزية كما يتوهمون، بل هي فرنسية، وأنا واثق أنها ولدت في باريس، ومع ذلك فقد رأيتها أول مرة في لندرا. - متى كان هذا؟ - منذ خمسة أعوام، وكانت في ذلك العهد زوجة اللورد هرنج، فادعت أنها تزوجته في لندرا، وكانت تعيش في لندرا عيشة رخاء كما هي عائشة هنا. - وكانت تدعى اللادي هرنج؟ - كما تدعى هنا دون روميو، وكما تدعى في الآستانة البرنسس كولوتين، وفي مرسيليا مدام كاتلان. - إن ما تقوله عجيب يبعد تصديقه أيها البارون. - ولكنه الحقيقة بعينها، وأنت تعلم أني تركت باريس منذ عهد بعيد، فلا أزورها غير مرة أو مرتين في العام، ولا تطول زيارتي أكثر من يومين، فقد لا تراني في المرة؛ لأني مسافر غدا. - وإذا رأتك؟ - يصفر وجهها وتغدو كالأموات. - ألعل ذلك لما تعلمه من علائقك مع أزواجها؟ - كلا، بل لعلائقي معها، فقد وقفت على الكثير من أسرارها. - لقد هجت فضولي أيها البارون. - ولكني أقسمت أن لا أبوح بشيء مما عرفته من أسرارها. - ألست بصديقك المخلص؟! - ومن أجل أنك صديقي أريد أن أكتم عنك ما عرفته عن هذه المرأة؛ كي لا تلقى بسبب ذلك ما يسوءك، على أني سأخدمك بقدر ما أستطيع، فهل أنت حقيقة مغرم بها؟ - ومن ذا الذي يراها ولا يهواها؟! - إذن فاسمع، إن الفصل الأخير من هذه الرواية سينتهي تمثيله، وسنخرج قريبا من الأوبرا، فتتأبط ذراعي، وتقف عند الباب إلى أن تمر. - تريد بذلك أنها تراك وتراني معك؟ - نعم ... - وبعد ذلك؟ - عليك أن تسعى لمقابلتها في المسرح والمتنزهات أو المنازل، فإذا اجتمعت بها قل لها: إني أحبك يا سيدتي، وأنا صديق البارون «س». - أتظن أني أظفر برضاها بعد هذا؟ - ربما، وقد قال البارون هذه الكلمة وهو يبتسم ابتسام الساخر، فلم تخف الابتسامة عن مرميس، كما أنه لم تفته كلمة من هذه المحادثة، فلما انتهى تمثيل الرواية سبق الرجلين إلى باب الأوبرا ووقف ينتظر.
وبعد هنيهة أقبل البارون «س» ورفيقه، ثم جاءت بعدهما دون روميو وهي متكئة على ذراع زوجها، فجعل مرميس يحدق بها وبالبارون.
أما هذه المرأة فإنها عند بلوغها إلى الباب رأت فجأة هذا البارون، فاصفر وجهها، ووضعت منديلها في فمها كي تكتم صيحة دهش خرجت من صدرها، ثم نظرت نظرة بغض هائلة إلى البارون، وسارت مع زوجها فاقتفى مرميس أثرهما.
14
وما مشى مرميس في أثرهما خطوات حتى وجدت الفيكونت مونتيجرون واقفا في عرض الطريق، وقد اصفر وجهه حين رآها مرت أمامه، ووهت قواه حتى أوشك أن يسقط.
وكانت هي ركبت المركبة مع زوجها وابتعدت، فشغل مرميس بصديقه مونتيجرون عن لحاقها، فإنه حين رآه مقبلا إليه تحول لون وجهه من الاصفرار إلى الاحمرار.
فقال له مرميس: ماذا أصابك ألعلك رأيتها؟!
فتأبط مونتيجرون ذراعه، وجره بعنف إلى القهوة، وهو يقول: تعال معي فإني أظن أن صوابي قد فقد وأصبحت من المجانين.
فاضطرب مرميس للهجة كلامه، وقال له: ماذا دهاك وما دعاك إلى الجنون؟! - إنها ابتسمت لي حين مرورها. - لك أنت؟ - نعم أيها الصديق، فإنني أشعر أن البراكين النارية تتأجج في صدري. إنها نظرت إلي وابتسمت لي، وما كنت أطمع بأكثر من هذا الابتسام. - إذن أي سبب يحملك على الجنون، فإن ابتسامها لك دليل رضاها عنك، وغاية ما يقال عنك أنك رجل سعيد. - نعم غير أن من فرح النفس ما يقتل.
ثم نظر إليه محدقا، وقال: أنت مخلص لي يا مرميس؟ - أعندك شك في إخلاصي؟ - إذن لا تدعني وحدي، فإني أخشى على صوابي، وتعال معي إلى القهوة، فنتعشى ونبقى فيها إلى أن يطلع الصباح. أتريد أن تبقى معي؟
وكان مونتيجرون في أشد حالة من الاضطراب، فما وسع مرميس مخالفته، وقال له: هلم بنا، ولكني لا أجد داعيا لهذا الاضطراب بعد أن ابتسمت لك. - بل إن هذا الابتسام يرعبني. - لماذا؟ - لأنها قد تسألني بعده حياتي وثروتي وشرفي فأبذلها.
فابتسم مرميس وقال: إنه ثمن فاحش.
وفيما هما جالسان حول مائدة يأكلان ويشربان دخل إليهما الخادم يحمل رسالة على صينية من الفضة، وقال: لقد أتى الآن خادم إلى القهوة، وسأل إذا كان الفيكونت مونتيجرون يتعشى هنا، فلما أجبناه بالإيجاب دفع إلينا هذه الرسالة، وقال: يجب إيصالها إليه في الحال.
فاصفر وجه مونتيجرون، وأشار مرميس إلى الخادم أن ينصرف، ثم نظر الفيكونت إلى الرسالة وهي لا تزال على الصينية كأنه لا يجسر أن يفتحها، فاختلج وارتعش وقال: لا أجسر أن أفضها.
مرميس: ماذا أصابك؟ أمن أجل ابتسامة تبلغ هذا الحد من الضعف؟! - ولكنك لا تعلم ممن أتت هذه الرسالة التي لا أجسر على فتحها. - أتحسبها منها؟ - دون شك فخذها وافتحها عني.
فأخذ مرميس الرسالة وفتحها، وقرأ بصوت منخفض ما يأتي:
إذا كان الفيكونت دي مونتيجرون لا يزال شجاعا كما يعهد به أهل باريس، فليحضر في الساعة الثانية بعد منتصف الليل إلى وراء كنيسة العذراء يجد مركبة ذات جوادين.
ولم تكن الرسالة مذيلة بتوقيع، فقال مونتيجرون: إنها منها دون شك؛ فقد أنبأتني دقات قلبي. - ألعلك نويت الذهاب إليها؟! - كيف تشكك في ذلك؟
فقطب مرميس جبينه، وخيل له أن هذه الرسالة شرك نصب لصديقه، ولكنه لم يظهر له شيئا من ريبة، فنظر مونتيجرون في ساعته، وقال: يجب أن أنتظر ساعة أيضا ستكون كالأدهار.
فأجابه مرميس: لا بأس فسنتعاون على قتلها، ولكني لا أعلم بعد ذلك ما ينبغي أن أصنع، فلقد عاهدتك أن أبقى معك إلى الصباح، فإذا ذهبت إلى هذا الموعد فماذا أفعل؟ - تنتظرني هنا. - وإذا لم تعد؟ - إذا لم أعد إلى الساعة السادسة فأنت مطلق السراح.
سأنتظر كما تريد، ولكني أرجوك أن تأخذ معك هذا المسدس من قبل الحذر، فإننا في أيام المرافع، والحذر في مثل هذه الأمور محمود.
فأخذ مونتيجرون المسدس من مرميس، ولما دقت الساعة الثانية ركب مركبته، وسار إلى كنيسة العذراء.
أما مرميس فإنه لبث في تلك القهوة، فجعل تارة يتلهى بالألعاب، وتارة بقراءة الجرائد حتى بزغ الصباح، ودقت الساعة السادسة، فلبس قبعته وحاول الانصارف، ولكنه رأى أن باب الغرفة التي كان فيها قد فتح فجأة، ودخل مونتيجرون وعيناه تتقدان كالجمر، فقال لمرميس: إني سأتبارز بعد ساعة في الغابات، وأنت شاهدي فهلم بنا إلى صديقي كازمير. - ولكن قل لي على الأقل من هو خصمك؟ قال: هلم فسأخبرك باسمه على الطريق، فإن المركبة تنتظرنا على الباب وفيها السيوف.
حين خرج مونتيجرون من القهوة الإنكليزية، وغادر فيها مرميس كان شديد الاضطراب؛ حتى إنه خشي أن يلقاه أحد أصدقائه في الطريق فيعلم أمره، أو يثنيه عن قصده، فركب مركبة مقفلة حتى إذا وصل بها إلى قرب كنيسة العذراء أوقفها ونزل منها، فسار إلى وراء تلك الكنيسة، فوجد المركبة التي وصفت له بالرسالة واقفة في انتظاره.
فمشى مونتيجرون إلى تلك المركبة مشية السكران، وهو يخشى كلما دنا منها أن يسقط لتزايد اضطرابه، فلما وصل إليها برز منها رأس امرأة مبرقع بحجاب كثيف، فلم يعرفها مونتيجرون إلا من دقات قلبه.
ثم شعر أن يدا ناعمة مسكت يده، وسمع صوتا رخيما يقول له: اصعد، فامتثل مونتيجرون، وصعد إلى المركبة وهو بين حي وميت.
وكان السائق قد تلقى الأوامر من قبل دون شك، فأطلق عنان الجياد فسارت إلى جهة الشانزليزيه.
وعند ذلك بدأت المرأة الحديث فقالت: إني أعلم يا سيدي الفيكونت أنك باسل وأنك تهواني. - ماذا تريدين يا سيدتي؟ أتريدين أن أموت من أجلك؟ - بل أريد أن تخاطر بحياتك الثمينة عندي، ثم نظرت إليه نظرة من تحت نقابها اخترقت صميم قلبه، فقال: إني مستعد يا سيدتي أن أبذل في سبيل رضاك أكثر من هذه الحياة. - إذن اعلم يا سيدي أن مبارحتي باريس غدا وعدم رجوعي إليها إلى الأبد؛ منوط بك، فعليك يتوقف بقائي في هذه العاصمة، وأنت وحدك تستطيع أن تحملني على حبك.
وقد قالت هذا القول بلهجة أولئك الإسبانيات اللواتي يعرضن حبهن على البواسل جزاء الانتقام لهن عن إهانة؛ فبرقت أسرة مونتيجرون بأشعة الفرح، وقال: مري يا سيدتي أفعل ما تريدين. - يوجد رجل تجاسر على إهانتي بعد أن يئس من رضاي، فاستحال حبه إلى كره، وتبدل غرامه بحقد عظيم دفعه إلى الانتقام مني، فهو يختلق النمائم والأكاذيب، وكلما رأيته في بلد هربت منه، ولكنه لا يلبث أن يعلم المكان الذي قررت إليه فيدركني فيه.
فأجابها مونتيجرون بملء البساطة: إذن سأقتل هذا الرجل. - إن زوجي غيور وحشي، ولكني لا أحبه، ولا أريد أن أعتمد عليه بانتقامي. - اذكري يا سيدتي اسم هذا الرجل وعلي البقية. - إن هذا الرجل باسل شديد الميل إلى الخصام لا يرهب عدوا، ولكنه إذا علم أني أنا التي سلحت يدك يأبى مبارزتك ولو أهنته كي لا يفوته الانتقام مني، حتى إنه قد يهرب منك ولا يخشى العار.
فتحمس مونتيجرون وقال: تبا له من نذل جبان! - أقسم لي أنك ستجد حجة تمتنع بها عن ذكر اسمي. - أقسم لك أقدس قسم.
فضغطت على يده ضغطا لطيفا، وقالت: إنك إذا قتلت هذا الرجل أصبحت عبدة لك، وتركت كل شيء في هذا الوجود من أجلك، وسرت معك إلى أقصى مكان في الأرض.
فطاش رأس مونتيجرون من الوعود، وقال: اذكري لي اسمه يا سيدتي بالله.
فأظهرت المرأة شيئا من التردد، ثم قالت: وإذا كان هذا الرجل من أصحابك. - لا أبالي. - وإذا كان من أصدقائك المخلصين؟ - إنه الآن ألد عدو لي بعد أن تجاسر على إهانتك. - إذن فاعلم يا سيدي أن هذا الرجل الذي أهانني والذي أريد له الموت، والذي سأبيعك قلبي بالانتقام منه هو البارون هنري «س».
فارتعش مونتيجرون لأن هذا البارون من أصدقائه، وهو من أعضاء نادي أسبرج، وكان يعرف عنه أنه غريب الأطوار، سافر أسفارا كثيرة منذ عدة أعوام، ثم انقطع إلى الإقامة في أراضيه، فلم يكن يزور باريس إلا في القليل النادر، لكنه إذا زارها فلا بد له من الحضور إلى النادي.
ولم يكن بين البارون وبين مونتيجرون علائق وداد متينة، بل كان يعرفه كما يعرف جميع أعضاء ذلك النادي، فلما ذكرت له اسم البارون تنهد تنهد المنفرج، وقال لها: سأقتله يا سيدتي أو يقتلني.
فأوقفت المركبة عند ذلك، وقالت لمونتيجرون: إذن إلى اللقاء، بل إلى الغد؛ فإني أرجو أن أراك. - أين أراك يا سيدتي؟ - في نفس المكان الذي رأيتني فيه الليلة وفي الساعة ذاتها.
ثم أعطته يدها فجعل يلهبها بقبلاته الحارة، وقالت له: اذهب بأمن الله فإن روحي تحميك.
وخرج مونتيجرون من المركبة، وهو يكاد يفقد الرشد، وجعلت عينه تتلفت إلى المركبة فمتى بعدت عنه تلفت قلبه.
ووقف حينا وقفة الحائر المضطرب، ثم ثاب إليه رشده فسار ماشيا كي تطول المسافة ويجد وقتا لتقرير الخطة التي يجب أن ينهجها مع البارون هنري.
وما زال سائرا حتى وصل إلى نادي أسبرج، فوجد أعضاءه يقامرون ويلعبون الباكارا، وكان البنك بيد البارون هنري عدوه الجديد.
15
وكان اللاعبون منهمكين في المقامرة - وجميع أعضاء النادي مشتركون به - فكان كلهم يربحون ما خلا أصحاب البنك؛ أي البارون هنري، فإن الخسارة كانت مختصة به وحده، فكان حين دخل مونتيجرون منقبض الصدر لفداحة خسارته مقطب الحاجبين، على أنه كان وافر الثروة، ولكنه كان من أولئك الذين تؤثر بهم خسارة القمار أشد تأثير، فكان يتململ ويقول: أف لهذه الليلة! ما أنكد بختي فيها! فإني لم أربح مرة واحدة.
ثم لما رأى أن الخسارة مستمرة قال: إني أطلب تغيير هذا الورق فهو شؤم علي.
فنظر إليه الحاضرون بجملتهم نظرات الإنكار، فقال لهم: ما بالكم تنظرون إلي هذه النظرات؟ ألا يحق لي تغيير الورق؟! إني لا أطلب إلا حقي.
فانبرى مونتيجرون من وراء اللاعبين، وقال: أرجوكم أيها السادة أن تعذروا حضرة البارون، فإنه صار من أهل الاقتصاد.
وقد ضحك إثر هذا القول ضحك تهكم واستهزاء، فقطب البارون حاجبيه، وقال: كيف تقول يا حضرة الفيكونت أني بت من أهل الاقتصاد؟!
فأجابه بلهجة المتهكم: هذا ما يقوله الناس يا سيدي وأنا أرويه عنهم. - ألعلك تحسب الاقتصاد جريمة؟ - كلا، بل هو واجب، ولا سيما على من يكون في حالتك.
فنظر إليه البارون ببرود، وقال: ماذا تعني بما تقول؟ - لا أقول شيئا إذ ليس ذلك من شأني. - أتريد بما قلته أني أصبحت فقيرا فاضطررت إلى الاقتصاد؟ - كلا، بل إني أعتقد أنك لا تزال من كبار الأغنياء. - إذن ماذا أردت بما قلت؟ - أردت به يا عزيزي البارون أني سمعت الناس يتحدثون أنك محتاج إلى حفظ ثروتك لورثائك. - أما ورثائي فليس لي وارث غير ابن أخت هو أغنى منى، وأنا أرجو أن لا يرثني إلا بعد دهر طويل. - وأنا أرجو معك هذا الرجاء غير أن الناس لا يقصدون بورثائك هذا الوريث؟ - ماذا يقصدون؟ - يقولون يا سيدي إنك عشت زمنا طويلا في أراضيك. - ذلك لأني أحب الخلاء، وأفضل العيش في اللورين. - ولأن بنات اللورين بارعات في الجمال.
فظهرت على البارون علائم نفاد الصبر، وقال: ما هذا الهزء يا فيكونت، وأي غرض لك فيه ونحن في مقام اللعب؟! - إذا كان لم يرق لك، فعد إلى اللعب وافترض أني لم أقل شيئا.
وكان مونتيجرون يشفع كل كلمة بلهجة تهكم ظاهرة، فوقف البارون هنري وقال: كلا فإنك جريت شوطا بعيدا ولم يعد بد من التوضيح. - أي إيضاح تريد؟ - أريد أن تقول لي من هم هؤلاء الورثة؟ - ولكنك تعرفهم أكثر مني أم تريد أن يعرفهم جميع الحاضرين؟
وقد قال هذا القول وهو يبتسم ابتسام التهكم والهزء، بحيث اتضح لجميع الحاضرين أنه يقصد مخاصمة البارون بانتحال الأسباب.
فاصفر وجه البارون، وقال: نعم، أريد أن يعلم جميع الحاضرين وجميع الناس. - إذن، ليعلموا أن ورثاءك خادمة منزلك وأولادها.
فوقع هذا القول على البارون وقع الصاعقة، وقال بصوت متهدج من الغضب: إنك كاذب نمام، وما هذه الفرية إلا من مختلقاتك.
أما مونتيجرون فإنه أخذ قفازه بملء البرود، وضرب به البارون وهو يقول: إن كلمة كاذب كبيرة يا بارون، وسأعيدها إلى صدرك.
فأخذ البارون القفاز عن الأرض فوضعه على المائدة، وقال: إنك تجدني يا فيكونت في الساعة السابعة من هذا الصباح في الغابات، وأحضر معك سيوفك وغداراتك؛ إذ يجب أن يموت أحدنا أو كلانا في هذا الصباح. - هو ما تقول وسألاقيك في الموعد المعين.
ثم خرج من النادي والناس حائرون لهذا الخصام.
وجعل الحاضرون يستغربون اعتداء الفيكونت الظاهر، ويسألون البارون هنري عن الأسباب إلى أن أقسم لهم بأنه لا يعلم شيئا من أسبابه، وأن الفيكونت كان كاذبا فيما اتهمه به، فكفوا عن سؤاله، وعادوا يلعبون إلى الصباح، فخرج البارون هنري، وذهب إلى صديقين له من الضباط، وطلب إليهما أن يكونا شاهديه، وسار الثلاثة إلى الغابات، والبارون يفكر ويقول في نفسه: لقد فاتني أن أسأل أصحاب مونتيجرون إذا كان مصابا بداء الغرام؛ فإني أخاف أن يكون لتلك المرأة يد في هذا الخصام.
وعند الساعة السابعة وصل مونتيجرون مع شاهديه مرميس وكازمير، فوجد البارون ينتظره مع شاهديه.
16
عندما خرج الفيكونت مع مرميس من القهوة الإنكليزية إلى بيت كازمير، حاول مرميس وهما على الطريق أن يقف على سر صديقه والسبب الذي دعاه إلى المبارزة، فلم يجبه الفيكونت، ولكنه قال له بعد إلحاحه: افرض أني أتبارز مع زوج امرأة أحبها.
فأضل هذا الجواب حساب مرميس، وظن أن مونتيجرون ذهب لمقابلة المرأة، فباغتهما زوجها واضطر إلى مبارزته، ولكنه كان يقول في نفسه: ألعل ذلك خيانة أم هو فخ نصبته تلك المرأة التي سمع ما كان يقول عنها البارون هنري في الأوبرا؟!
وحاول مرات كثيرة وهما على الطريق أن يقف على الحقيقة، ولكنه لم يظفر بمراده إلى أن وصلا إلى بيت كازمير، فدعاه الفيكونت وذهب الثلاثة في مركبة إلى الغابات.
وحاول كازمير أيضا أن يستجلي الحقيقة، فما لقي غير ما لقيه مرميس من الخيبة.
ولما دنوا من المكان المعين للمبارزة قال مونتيجرون لشاهديه: إني أسألكما أن تقسما لي بشرفكما أنه مهما كانت نتائج هذه المبارزة فلا تحاولا البحث عن أسبابها.
فقال كازمير: إذن أنت تريد أن تكون نتيجة هذه المبارزة قتل أحدكما؟ - دون شك، وكل ما أطلبه إليكما أن تقسما لي هذا القسم، كي أقاتل مطمئن البال.
فأقسما له ...
وبلغت المركبة بهم الغابات، فوجدوا مركبة في انتظارهم تقل ضابطين والبارون هنري، فلم يعلموا أيهم خصم صديقهم مونتيجرون حتى نزلوا من المركبة، ورأى مرميس أن الخصم هو البارون هنري صاحب الحديث عن المرأة في الأوبرا، فالتفت منذعرا إلى مونتيجرون، وقال له مشيرا إلى البارون: أهذا هو خصمك؟ - نعم ... - إذا كان ذلك فإني أسألك أن تسمع ما سأقوله لك قبل المبارزة.
فنفر الفيكونت وقال: أية فائدة من ذلك؟ - لو لم تكن هذه المباحثة واجبة لما طلبتها إليك. - وإذا كنت لا أريد؟ - إني ألتمسها منك التماسا.
فأفلت منه وانضم إلى الجماعة، وهو يقول: أرجوكم أيها السادة الإسراع.
غير أن مرميس لم يقنط من صديقه، فدنا منه وقال له بصوت منخفض: لقد علمت الآن لماذا دعتك هذه المرأة إلى مقابلتها، فإنها لم ترد بذلك غير حملك على قتل البارون هنري. - حسنا وبعد ذلك؟ - لا يحق لك أن تبارزه.
فضحك مونتيجرون ضحكا عاليا وقال: ألعلك تطلب إلي أن أسترضيه ونحن في ساحة المبارزة؟!
فتنهد مرميس، وأيقن أنه لا رجاء له بإقناعه فتركه وشأنه.
أما مونتيجرون فإنه دنا من كازمير وقال له: أصغ إلي، واسمع إرادتي الأخيرة، إني أريد أن تكون شروط المبارزة أن لا ينفصل أحدنا عن الآخر إلا بالموت.
فأطرق كازمير وكانت شروطا هائلة، وخلاصتها: أن يقف كل من الخصمين على مسافة ثلاثين خطوة من رفيقه، ويطلق عليه رصاصتين، وإذا لم يسفر القتال عن قتل أحدهما عادا إلى إتمام المبارزة بالسيف.
وكان مرميس مصفر الوجه ينذره قلبه بمصاب أليم، فوقف المتبارزان في المواقف المعينة، وأشار أحد الشهود ببدء المبارزة، فتقدم البارون هنري خطوتين وأطلق غدارته، فلم يتحرك مونتيجرون؛ لأن الرصاصة مرت من فوق رأسه، فأخطأته ولم يطلق غدارته؛ لأنه انتظر أن يطلق خصمه غدارته الثانية.
وبعد لحظة أطلق البارون غدارته الثانية، فسقطت يد مونتيجرون التي كان يقي بها رأسه فجأة إلى جنبه؛ لأن رصاصة البارون كانت قد اخترقتها.
فأخذ مونتيجرون غدارته بيده اليسرى، وأطلقها على خصمه فلم يصبه، فصاح صيحة غضب وأطلق الثانية، فاضطرب البارون لكنه لم يقع، فأسرع الشهود ورأوا أن رصاصة مونتيجرون قد اخترقت ساقه، وقال أحدهم: كفى! إنكما لم تعودا تصلحان للقتال.
أما مونتيجرون فأبى، وقال: إننا نتم المبارزة بالسيف حسب الاتفاق.
فقال له مرميس: إن يدك اليمنى قد أصيبت، ولا تستطيع إدارة السيف بها. - لا بأس، فإني أحسن استعمال اليسرى، إلا إذا كان البارون قد عجز عن القتال .
فأجابه البارون بسكينة : كلا إني لا أزال أستطيع الوقوف.
ولم يجد الشهود سبيلا إلى معارضتهما، فأعطوا كلا منهما سيفا، وعادا إلى القتال.
وجرى بينهما قتال هائل طال زمنه لمهارة الاثنين في قتال السيف.
وفيما هما يتقاتلان، وقد أخذ منهما التعب كل مأخذ، سمع الشهود صيحتين في حين واحد.
وذلك أن مونتيجرون هجم على خصمه هجمة منكرة، فاخترق بحسامه صدر خصمه، ولكن سيف خصمه اخترق صدره أيضا عند هجومه، فسقط الاثنان على العشب في حين واحد.
17
في الساعة التاسعة من مساء ذلك اليوم الذي حدثت فيه تلك المبارزة الهائلة ذهب مرميس إلى نادي أسبرج، فوجد جميع أعضائه يبحثون في سر هذه المبارزة الخفي، وكلهم منقبضو الصدر؛ لأنهم علموا أن مونتيجرون قد مات والبارون في حالة النزع.
وكان مرميس قد بقي أمام صديقه مونتيجرون إلى أن ذهبت روحه، وقد توسل إليه قبل موته بالدموع كي يخبره شيئا عن المرأة التي سببت قتله، فأبر بقسمه ولم يبح بحرف، ولكنه قال له قبل الوفاة: خذ خصلة من شعري بعد موتي، وأرسلها إلى تلك المرأة فإنك تعلم أين تقيم.
ثم مات وهو يناجيها، فكان آخر كلمة قالها: أحبك.
فهاج فضول مرميس؛ لأنه أيقن أن تلك المرأة التي كانت سبب المبارزة هي نفس المرأة التي سمع البارون هنري يتحدث عنها في الأوبرا، ولكنه أحب أن يعلم من هي، فجاء إلى نادي أسبرج عله يقف على شيء من تاريخها.
وكان الأعضاء يتحدثون عن هذه المبارزة كما قدمناه، فاتفقوا جميعهم على القول: إنه لم يكن بين المتبارزين سبب ظاهر يدعو إلى القتال، إلى أن قال أحدهم: إن السبب فيه المرأة، وإن كليهما كانا يعشقانها.
فأجابه مركيز من الأعضاء: وأنا أرى ذلك محالا؛ لأن البارون هنري لم يكن مقيما في باريس ولا يزورها إلا نادرا. - ليس في ذلك ما ينفي غرامه بإحدى نسائها. - إنه كان يهوى الفتاة جورجيت، ولكنه جفاها وتناسى غرامها منذ عامين. - قد يكون عالقا بامرأة من البيوت الكريمة. - ولكن المأثور عنه أنه لا ينتاب المنازل، وإذا جاء باريس لا يذهب إلا إلى الأوبرا وهذا النادي.
فتداخل عند ذلك مرميس، وقال: أما أنا فإني أؤكد لكم، أيها السادة، أن سبب هذا القتال لم يكن إلا المرأة؛ لأن مونتيجرون كان من عشاقها.
فقال المركيز: من هذه التي كان يعشقها؟ - هي امرأة حسناء لا أعرف اسمها، ولكني رأيتها وعلمت أنها واعدته على اللقاء في الليلة الماضية، وقد بقيت معه إلى الساعة الثانية من الصباح؛ أي إلى حين فارقني وذهب للقائها، وعاد في الصباح ينذرني بتلك المبارزة.
فقال له المركيز: تقول إن مونتيجرون ذهب للقائها في الساعة الثانية، وفي هذه الساعة كان البارون هنري في النادي معنا، ولم يفارقنا إلا بعد خصامه مع مونتيجرون، فكيف اتفقت هذه الغيرة والعاشقان لم يجتمعا لدى المرأة؟! - هو ما تقول، غير أن البارون هنري كان في الأوبرا عند نصف الليل، وكنت أنا في لوج مجاور للوجه، فسمعتهم يتحدثون عن تلك المرأة التي يعشقها مونتيجرون. - إذن من هي هذه المرأة؟ - لا أعلم! ولكني سمعت البارون يذكرها بكل سوء، وأنا واثق من صدقه في ما قاله عنها؛ لأنها كانت السبب الوحيد في تلك المجزرة، ثم إني أعتقد أنه يجب أن ننتقم لمونتيجرون، وأن نعاقب هذه المرأة أشد عقاب؛ ولهذا أتيت إليكم.
ونظر الجميع إلى مرميس نظرة انذهال، وقال له المركيز: كيف ننتقم منها ونحن لا نعرفها؟ - لكن البارون يعرفها، وهو لم يمت بعد. - بل إن جرحه مميت وهو في حالة الاحتضار، لكنه لم يفقد الرشد. - إذن ليذهب بي أحدكم إليه؛ لأني أثق أنه يخبرني باسم تلك المرأة متى أخبرته بما عرفته عنها. - أنا أذهب بك إليه فإن منزله قريب.
وعند ذلك خرج مرميس والمركيز من النادي، وبعد عشر دقائق وصلا إلى منزل البارون، وطلبا مقابلته، فقال لهما أحد أصدقائه: لقد جئتما بعد فوات الأوان وا أسفاه!
فاضطرب مرميس وقال: ألعله مات؟! - كلا، لكنه يحتضر، فلندعه يموت بسلام. - ولكن يجب أن ننتقم له بعد الموت؛ لأنه مات ضحية خيانة امرأة، وكلمة تصدر من فمه تكشف لنا السر ، وتمهد لنا سبل الانتقام، فدعني بالله أراه فقد أسمع منه هذه الكلمة.
وكان مرميس يكلمه بلهجة المتوسل، فلم يسعه إلا إجابته إلى ما أراد، فأخذه بيده ودخل به إلى البارون.
وكان البارون في حالة النزع غير أنه لم يفقد رشده، فلما رأى مرميس عرف أنه كان شاهد خصمه، فابتسم له، وتمتم كلمة شكر.
أما مرميس فإنه دنا منه، وقال له: لقد كنت يا سيدي البارون في الأوبرا ليلة أمس، فسمعتك تذكر امرأة دون روميو، وإن مونتيجرون كان يحب تلك المرأة.
فاتقدت عينا البارون، كأنما قد نفض عنه غبار الموت، وأصغى إليه كل الإصغاء، فقال له مرميس: إن هذه المرأة يا سيدي هي التي سلحت مونتيجرون ودفعته إلى مبارزتك، فأستحلفك بالله يا سيدي أن تذكر لي اسم هذه المرأة كي تنال عقابها قبل أن تعاقب في السماء.
فتأثر البارون تأثرا لا يوصف حين سمع أقوال مرميس، واستوى جالسا في سريره، واتقدت عيناه بلهب، ثم انطفأت تلك الشعلة فجأة، وسقط ميتا لا حراك فيه، ولكنه قبل أن يموت خرجت من فمه تلك الكلمة مع نفسه الأخير، وكانت تلك الكلمة «البستانية الحسناء».
18
وكان مرميس يعرف شيئا من تاريخ هذه المرأة منذ عام، فإنه عرف من أعضاء نادي كريفيز حكاية هذه المرأة مع المركيز دي مورفر، الذي أعجز الشرطة أمر اختفائه كما تقدم في أول هذه الرواية، فلما سمع من فم البارون حين موته اسم تلك المرأة الهائلة ارتعش ارتعاشا عظيما، غير أن البارون لم يذكر الاسم إلا لمرميس، فلم يسمعه إلا تلميذ روكامبول.
أما المركيز الذي صحب مرميس والأطباء الذين كانوا في ذلك المنزل، فإنهم لم يعلموا إلا أن البارون قد توفي، فلما خرج إليهم مرميس من غرفة الميت قال لهم: لقد أتيت بعد فوات الأوان.
وبعد هنيهة برح ذلك المنزل مع المركيز.
وكان مرميس يقول له وهما على الطريق: إني واثق من أنه لو علم البارون أن مونتيجرون يريد مبارزته من أجل تلك المرأة، لأكره خصمه بكلمة واحدة أن يرجع عن هذا القتال، وأن يصافحه مصافحة الأصدقاء. - ومن هي تلك المرأة السرية؟ - أصغ إلي أيها المركيز، ألا ترى على وجهي علائم الاضطراب؟! - نعم وأرى أيضا علائم العزم الأكيد على أمر يجول في خاطرك. - هو ما تقول أيها المركيز، لقد أقسمت يمينا منذ خمس دقائق أمام جثة البارون. - وما هذه اليمين؟ - هي أن أنتقم لمونتيجرون وللبارون. - ولكن كيف تنتقم لهما؟ - أتقسم لي بالشرف أن تبقي ما أقوله لك طي الكتمان؟ - نعم أقسم. - إذن اعلم أن البارون قبل أن يموت ذكر اسما، وهذا الاسم سيرشدني بإذن الله إلى كشف جريمة هائلة. - ألعلك محتاج إلي؟! - لا أحتاج إلى مساعدتك الآن، ولكني إذا احتجت إليها أذهب إليك. - وأنا أكون سعيدا لخدمتك. - إذن إلى اللقاء أيها المركيز. - ألا تذهب معي إلى النادي؟ - كلا. - وإذا سألوني عما جرى فماذا أقول لهم؟ - قل إنه مات حين دخولنا إليه، فلم نقف منه على شيء.
ثم افترق الاثنان فعاد المركيز إلى النادي، أما مرميس فإنه نظر في ساعته، وقال: لا تزال أمامي ساعتان لفض رسالة روكامبول.
ثم ذكر أن مونتيجرون أعطاه خصلة من شعره كي يعطيها بعد موته لتلك المرأة، فقال: لا يزال الوقت فسيحا لدي، فلأذهب إليها بهذه الحجة.
وركب مركبة من مركبات الأجرة، فأمر سائقها أن يذهب به إلى الشانزليزيه رقم 69.
وبعد حين وصلت المركبة إلى ذلك المنزل، فأطلقها مرميس، وجعل يفحص ذلك المنزل الذي وقف أمامه، فشاهد منزلا جميلا كائنا في وسط حديقة تكتنفها أشجار باسقة، ولم ير غير نور واحد ينبعث من خلال إحدى النوافذ.
وعول مرميس على الدخول وطرق الباب، فأقبل خادم وفتح له، فلما رآه الخادم أظهر الانذهال، وقال بأدب: أظن أن سيدي مخطئ ضل عن القصد. - كلا، أليس هذا منزل دون روميو فيجير؟ - نعم. - ألعل دون روميو في المنزل؟ - كلا، يا سيدي فهو في النادي. - والسيدة؟ - هي في المنزل، ولكنها لا تقبل زيارة أحد حين غياب زوجها.
فأخرج رقعة زيارة، وقال له: اذهب بها إلى السيدة، فمتى وصلت إليها تستقبلني دون شك.
ثم دخل إلى الحديقة غير مكترث للخادم، ولكنه بدلا من أن يعطيه رقعة زيارة زيارة باسمه أعطاه رقعة من رقاع مونتيجرون.
فسار بها الخادم إلى سيدته وهو يتبعه حتى دخلا إلى المنزل، فسبقه الخادم إلى غرفة السيدة، فأعطاها الرقعة ثم عاد إليه، وقال له: إن مولاتي تنتظر سيدي الفيكونت.
فدخل مرميس إلى تلك المرأة التي قتلت رجلين بكلمة من فمها، فوجدها جالسة على مقعد شرقي، فنظرت إليه نظرة تدل على السلامة، وقالت له: يسرني أن أراك يا سيدي الفيكونت مونتيجرون؛ لأن زوجي دون روميو طالما حدثني عنك.
فقال في نفسه: لقد بدأت تمثل دهاءها فلنحذر، ثم دخل وأخذ يتمعن في وجهها، فوجدها مبتسمة ساكنة، ولم يبد عليها شيء يدل على التأثر.
وبعد أن جلس قالت له: لقد عرفت يا سيدي، ما دعاك إلى هذه الزيارة؟ - كيف عرفت ذلك يا سيدتي؟ - لقد أخبرني زوجي أنه ربح منك في النادي ليلة البارحة مبلغا كبيرا، وأنك آت لوفائه حسب العادة المتبعة بينكم، فإن دين القمار يجب وفاؤه قبل مرور 24 ساعة عليه.
فلما رأى مرميس تماديها في التنكر أراد أن يضع لها حدا، فقال: لقد اشتد بيننا سوء التفاهم يا سيدتي. - كيف ذلك؟ - ذلك لأني لست الفيكونت مونتيجرون.
فوقفت وقالت له بلهجة الإنكار: إذا لم تكن الفيكونت مونتيجرون، فمن أنت؟! - صديق له. - إذن أنت قادم من قبله؟ - دون شك يا سيدتي، ثم أخرج من جيبه محفظة صغيرة فأخرج منها خصلة الشعر التي أعطاه إياها الفيكونت وقدمها لها، فتظاهرت بالانذهال العظيم، وقالت: ما هذا المزاح؟ - إني لا أمزح يا سيدتي، فإن الفيكونت تبارز في صباح اليوم مع البارون هنري.
فلم تظهر المرأة شيئا من علائم التأثر، وقالت: من هو البارون هنري؟ - هو رجل كان قبل هذه المبارزة من أصدقاء خصمه. - ولماذا تبارزا؟ - من أجل امرأة كان البارون يقول: إنها من شر النساء، وكان الفيكونت يحبها حب جنون. - وما كانت نتيجة المبارزة؟ - مجزرة يا سيدتي، الفيكونت مات بعد ظهر اليوم. - والبارون؟ - مات منذ ساعة. - إنك تروي لي خبرا هائلا يا سيدي ، أحقيقة أن هذه المبارزة كانت مجزرة؟ - أصغي إلي يا سيدتي إن الفيكونت عهد إلي قبل موته أن أذهب إلى تلك المرأة، فأقول لها إنه مات سعيدا؛ لأنه مات من أجلها، وكلفني أن أقص خصلة من شعره وأعطيها لهذه المرأة، ثم قدم لها خصلة الشعر.
فتراجعت المرأة إلى الوراء ونظرت إليه نظرة هائلة، ثم قالت: لا شك أنك منخدع يا سيدي، فما أنا تلك المرأة التي مات من أجلها الفيكونت. - ولكنه ذكر اسمك يا سيدتي. - هذا محال. - ألست امرأة دون روميو؟ - دون شك. - إذن أنت هي المرأة التي مات من أجلها الفيكونت.
فقالت له بلهجة دلت على اضطرابها: إن موعد رجوع زوجي من النادي قد اقترب، وإننا وإن كنا في زمن المرافع فقد لا تعجبه منك هذه الممازحة التي جسرت عليها. - قلت لك يا سيدتي: إني لا أمزح، وإذا شئت برهانا على ما أقول فاعلمي أن الفيكونت كان له صديق يدعى المركيز مورفر.
فاضطربت المرأة اضطرابا خفيفا، وقالت: اعذرني يا سيدي فإني غريبة لا أعرف أعيان العائلات الفرنسية. - اصبري يا سيدتي، فإن هذا المركيز قد اختفى ويظنون أنه قتل.
فظهرت عليها علائم نفاد الصبر، وقالت له: ماذا تهمني هذه الأمور؟ - ألم أقل لك: إن المركيز كان صديق الفيكونت؟ - حسنا وبعد ذلك؟ - لقد كان للمركيز المختفي أو المقتول صديق آخر يدعى البارون هنري، ولإحدى النساء يد في اختفائه بل في قتله على الأرجح.
فوقفت عند ذلك وقالت: يظهر لي أنك مختل الشعور، فحوادثك قد تراكمت حتى بت مكرهة لأسألك إرجاءها إلى الغد. - كلمة أيضا يا سيدتي قبل أن تطرديني، ثم وقف بينها وبين الباب كي يحول عدم خروجها، وقال: هذه المرأة التي سببت قتل الفيكونت ومورفر قد ذكر لي البارون هنري اسمها الحقيقي قبيل وفاته، وهذه المرأة تدعى البستانية الحسناء؛ أي أنت يا سيدتي.
فتراجعت منذعرة إلى الوراء وقالت: من أنت أيها الرجل؟ - أنا هو الرجل الذي سيريح الأرض من شرورك، وينتقم للموت بالموت، فذعرت البستانية حين رأت الخنجر يلمع في يد مرميس.
19
وكان ذعر البستانية شديدا، فقالت له بصوت يتهدج: رحماك لا تقتلني.
ثم ضمت يديها وجعلت تنظر إليه نظرة المتوسل، فقال لها: ليس الفضول الذي جاء بي إليك، ولكني أقسمت يمينا لا بد لي من البر بها ... - ماذا تريد مني؟ - أريد أن أعلم. - ماذا؟ - إذا كنت حقيقة تلك المرأة الملقبة بالبستانية الحسناء. - نعم أنا هي. - إذن أنت تعلمين ما حدث للمركيز دي مورفر؟
وركعت وقالت: لا تسألني عن هذا المركيز. - بل أريد أن أعرف كل خفي من أمره، أو أقتلك في الحال شر قتل.
وكانت علائم الرعب بادية في وجهها حتى أيقن مرميس أنها باتت في قبضة يده، فقال لها: إننا الآن في الغرفة، وفيها نافذة تشرف على الحديقة، فإن خطر لك أن تستغيثي قتلتك وهربت من النافذة قبل أن يصل إليك أحد.
فعضت يديها من اليأس، ثم قالت: ولكن أسرار هذا المركيز ليست أسراري. - سيان عندي، فقد أقسمت أن أعلم أين مات المركيز وكيف مات، ولا بد لي أن أعرف كل شيء.
ولما تبينت هذه المرأة صدق العزم من لهجة مرميس، وعلمت من اتقاد عينيه أنه يقتلها لا محالة إذا أصرت على الإنكار، قالت له: إن حكاية المركيز مورفر طويلة يا سيدي، وقد كتبتها بجملتها ووضعتها في هذه الخزانة التي تراها، وهذا مفتاحها.
ثم أخرجت مفتاحا صغيرا كان معلقا في عنقها، فدفعته إليه وقالت: إذا كنت غير واثق بي فافتحها بيدك.
فأخذ مرميس المفتاح وذهب إلى باب الغرفة وأقفله من الداخل، وعاد إلى الخزانة ففتحها، فقالت له: ألا ترى درجا صغيرا في الجهة اليمنى؟ - نعم. - افتحه تجد فيه تلك الأوراق.
ففتحه دون حذر، ولكنه ما لبث أن فتح حتى خرج منه دوي شديد، وبرزت من جوف الجدار المسندة إليه الخزانة آلتان من الحديد امتدتا كالذراعين طوقتا بغتة مرميس، ثم انضمتا عليه فلم يعد يستطيع حراكا.
وذلك أن هذه الخزانة كانت من تلك الخزائن التي اخترعوها للوقاية من اللصوص، فوضعت فيها تلك الآلة السرية للقبض على السارق ، وجعل الدوي للتنبيه إليه، فإذا فتح الدرج يضغط على لولب فيه متصل بالآلة السرية، فيمتد الذراعان الحديدان ويلتفان على من يعثران به.
ويوجد كثير من الصناديق الحديدية التي توضع فيها أموال المصارف إذا فتحت على غير طريقتها المعروفة خرج منها رصاصة قتلت السارق، غير أن خزانة البستانية الحسناء كانت آلتها معدة للقبض على السارق والتنبيه إليه فقط دون أذيته.
ولما علم مرميس بالمكيدة وأحس بتلك الآلة الضاغطة صاح صيحة منكرة أجابته البستانية عليها بقهقة الساخر.
وبينما هو يحاول التخلص من هذا القيد الشديد عبثا دنت منه، وقالت له: إنك أصبحت يا سيدي في قبضة يدي، وبكلمة واحدة تخرج من فمي يقضى عليك، ولكني أشفق على شبابك وأسديك النصيحة نفسها التي أسديتها إلى مونتيجرون من قبلك، وهي: «لا تتدخل في شئوني.»
ونظر مرميس إلى وجهها فوجد عليها علائم الهزء، ولكنه رأى عينيها تتقدان، وكان الخادم قد سمع دوي الآلة فأقبل وطرق الباب، فقالت له البستانية من داخل الغرفة: عد إلى شأنك فلست محتاجة إليك.
ثم ذهبت إلى النوافذ فأقفلتها إقفالا محكما، وأسدلت عليها الستائر ودنت من الجدار، فضغطت على لولب، ففتح باب سري لم يره مرميس من قبل وخرجت منه.
وبقي مرميس وحده يحاول التخلص من قيده فلا يستطيع، وقد أنهكت قواه، ودخل الرعب قلبه، ثم رأى نورا قد اتقد فجأة بالقرب منه، وجعل يخرج منه دخان أبيض كدخان تبغ فيملأ الغرفة، ثم يتكاثف ويصبح كالغيوم المتلبدة.
وانذهل لهذا الدخان الفجائي ورآه يدنو وهو يحمل رائحة عطرية تملأ خياشيمه، ثم تكاثر الدخان وأحاط به، فسر برائحته العطرية ووجد بها لذة عجيبة سكنت غضبه، وكان شأنه شأن من يعالج همه بشرب الراح، فلا يشرب بضع كاسات حتى تنجلي الغمامة السوداء عن مستقبله، ويراه بلون الورد إذ ينظر إليه من خلال أقداح الخمر.
ثم جعل ذلك النور الذي رآه قد اتقد فجأة يضعف ويأخذ بالخمود حتى أصبح كالجمر، ثم انطفأ، ولكن الدخان كان لا يزال يتكاثف، وهو يتنشق رائحته بملء الارتياح ويشعر بتخدير جسمه تباعا.
وبعد ربع ساعة أطبقت عيناه، فأطلقت الآلة الحديدية سراحه وارتدت إلى موضعها، غير أنه لم يخطر له الفرار في بال، وانطرح في أرض الغرفة، وجعل يتلذذ بتلك الرائحة العجيبة، وقد استرخت مفاصله وانحلت قواه، ومع ذلك فقد كان يشعر أنه أسعد إنسان.
20
وكان مرميس في حالة سكر شديد تشبه حالة متعاطي الحشيش، فكانت عيناه مطبقتين، ولكنه لم يكن نائما، بل كان يشعر بكل ما يجري حوله.
وقد حاول أن يقف مرتين فلم يستطع، ولكنه أفرغ جهده في المرة الثالثة، فمشى خطوتين وهو يتمايل حتى وصل إلى الكرسي الذي كانت جالسة عليه البستانية، فسقط أمامها خائر القوى وعاد إلى حالته القديمة.
ثم شعر فجأة أن الدخان قد تبدد، وشعر بنور جديد دخل إلى الغرفة، ففتح عينيه ولم ير شيئا، ولكنه شعر أن جميع حواسه منصرفة إلى البستانية الحسناء، وأن تلك المرأة التي هجم عليها بخنجره قد تمثلت له بجمال باهر يدهش الأبصار، فأغمض عينيه وقال: ما أجمل هذه المرأة! وكم يجب أن تحب؟!
وعند ذلك سمع وقع خطوات في الغرفة، ففتح عينيه ورأى البستانية تدنو منه وهي تبتسم ابتساما يفتن العابد، فجلست على الكرسي وهو منطرح تحت قدميها، وقالت: ألا تظن أنه يجب أن يحبني الناس؟ - نعم فإنك أجمل امرأة على الأرض، ولعلك هاربة من السماء.
فأخذت يده بين يديها، وقالت له بدلال: وأنت ألا تحبني؟
فلم يدر ماذا يجيب، وحاول أن ينهض ويطوق عنقها بذراعه فلم يستطع الوقوف. - أرى أنك تحبني، فكيف أحببتني؟ أما كنت منذ هنيهة عازما على قتلي؟ - لا أعلم سوى أني أحبك، مري أطع فإني أصبحت من عبيدك ...
وطوقته البستانية بذراعيها، وقالت: إنك فتى جميل باسل تستحق أن تحل في قلبي، ولكني أحب أن أعلم لماذا تريد أن تنتقم لمونتيجرون؟
وكأنما هذا الاسم قد أثر تأثير الكهرباء بمرميس، فاتقدت عيناه ببارق من الصواب، وحاول أن يجمع هداه، لكن المخدر كان مؤثرا به شر تأثير، فقال: مونتيجرون من هو هذا الرجل، فإني لا أعرفه؟!
وعلمت البستانية أن جسمه قد تخدر تماما ولا سبيل إلى الوقوف على الحقيقة منه، وعادت إلى مداعبته والهزء به إلى أن أطبق عينيه، وطار فكره إلى عالم الأرواح. •••
ولما استفاق مرميس من هذه السكرة وفتح عينيه شعر بهواء بارد، ورأى أنه كان نائما على أرض رطبة، وتطلع إلى ما فوقه، ورأى السماء ملبدة بالغيوم، وأن الفجر قد انبثق، وكل ما كان يراه من آثار البستانية قد زال.
وقد وجد نفسه مستلقيا على ظهره في أرض يبنون فيها منزلا، وقد رض جسمه، ووجد أن حواسه لا تزال مضطربة من آثار ذلك الدخان الذي كان يستنشقه فأسكره تلك السكرة التي أضاعت رشاده.
ونهض وجعل يحرك أعضاءه حركات عنيفة كي يعيد إليها لينها العادي، ثم خرج من ذلك المكان الرطب الذي نام فيه ليلته فافترش الأرض والتحف السماء.
وكان أثناء سيره يذكر ما مر به من الحوادث، فذكر قتل مونتيجرون والبارون هنري، ثم ذهابه إلى البستانية الحسناء، وتلك الآلة الحديدية التي قبضت عليه وجعلته عاجزا عن الدفاع، ورائحة الدخان العطرية، ونظرات تلك المرأة التي كان منطرحا تحت قدميها، فثار غضبه وهاج فؤاده وقال: إن هذه المرأة قد عبثت بي كما عبثت بمونتيجرون، والبارون هنري، ودي مورفر، غير أني تلميذ روكامبول، وسترى هذه الحسناء ما يكون مني.
وما مشى بضع خطوات حتى اهتدى إلى طريقه، فسار توا إلى منزل فاندا.
وكانت فاندا تنتظره بفارغ الصبر، فقالت له: كيف تأخرت إلى الآن؟ ألعلك نسيت كتاب الرئيس؟ - لقد أصبت؛ فقد كان موعد فتحه أمس في منتصف الليل، فاعذريني فليس الذنب ذنبي.
ثم جلس بقربها دون أن يخبرها بشيء مما جرى له، وفض ذلك الكتاب المحتوي على أوامر روكامبول.
21
إن الغلاف الذي فضه مرميس كان محتويا على رسالة وكراس ضخم، فوضع الكراس على حدة وقرأ الكتاب، وهو كما يأتي:
يا أصحابي
إني بعد دقائق قليلة أكون قد برحت باريس إلى الهند، فإذا صدق حسابي عدت من تلك البلاد بعد عامين، على أني إذا لم أعد فعليكم أن تنفذوا إرادتي فأصغوا إلي.
إنك يا فاندا كنت سيدة عظيمة، ثم هبطت إلى الحضيض قبل أن أعرفك.
وأنت يا مرميس كنت لصا سفاكا قبل أن ألتقي بك وأهديك.
وأنت يا ميلون، إنك الوحيد بيننا الذي لم ترتكب إثما فيما مضى من أيامك الطاهرة، ولكنك أصبحت مثل رفيقيك شريكا لروكامبول الذي انقلب من الشر إلى الخير، ويجب أن تعمل ما يعملانه.
إني عندما هربت من سجن طولون أيها الأصحاب علمت أن الله لم يطلق حريتي إلا على أن أنفق كل ساعة من ساعات حياتي في صنع الخير استغفارا عن زلاتي، وأنتما يا فاندا ويا مرميس قد أذنبتما مثلي وتبتما توبة صادقة مثلي، فوجب عليكما أن تضحيا حياتكما في سبيل الخير مثلي، فإن حياتنا لم تعد لنا، بل لكل بائس منكود وشقي مظلوم.
إذن اسمعوا، إني بينما كنت أمس أعد معدات سفري جاءني كتاب دون توقيع، فقرأت فيه ما يأتي:
إذا كان الرجل الذي يدعو نفسه روكامبول والماجور أفنتار لا يزال نصير المظلومين وعدو الظالمين، فليتفضل بالحضور إلى شارع منيلمونتان نمرة 16 حيث يجد أتعس إنسان في الوجود.
فلما تلوت الكتاب ذهبت مسرعا إلى ذلك الشارع، ولما بلغت المنزل أسرع إلي غلام صغير هزيل تدل عيناه على الذكاء، وسألني: هل أنت يا سيدي الذي يدعونه روكامبول؟ - نعم ...
إذن اتبعني فإن أمي كانت واثقة من حضورك.
ثم سار أمامي فتبعته إلى غرفة حقيرة في آخر دور من أدوار المنزل، ودخل الغلام إلى الغرفة وقال: هو ذا روكامبول يا أماه!
ودخلت في أثره ووجدت سريرا خشبيا في زاوية الغرفة، وعليه امرأة صفراء الوجه هزيلة الجسم تدل عيناها على الضنك، غير أن آثار الجمال النادر لا تزال بادية عليها.
وجعلت تلك المرأة تنظر إلي وتبتسم، ثم مدت إلي يدها، وقالت: لم يكن عندي شك بحضورك، أما أنا فقد خيل لي أني أعرف هذه المرأة منذ عهد بعيد، ولكني لم أذكرها، ولما رأتني أحدق بها هذا التحديق قالت لي: إنك لم تعرفني، ولكني عرفتك، ألا تذكر الفيروزة يا روكامبول ؟ (راجع رواية التوبة الكاذبة).
فانذهلت وقلت: أنت هي الفيروزة؟ - نعم إنك عرفتني منذ عشرة أعوام حين كان عمري 20 عاما. - ولكن ماذا أصابك؟ وكيف بلغت إلى هذا الشقاء؟! - إن حديثي طويل لا أستطيع أن أقصه عليك؛ لأني أشعر بدنو الأجل، لكني كتبت جميع حكايتي.
ثم مدت يدها إلى تحت وسادتها، وأخرجت هذا الدفتر الذي ترونه في طي الغلاف، وأعطتني إياه وقالت: أتعلم أني كنت آخر خليلة للمركيز «دي مورفر»؟
فانذهلت انذهالا عظيما؛ لأني كنت عرفت اختفاء هذا المركيز، فابتسمت وقالت: لقد كنت خاطئة كما كنت أنت، وارتكبت ذنوبا هائلة كما ارتكبت أنت، ولكني تبت توبتك، وبت أرجو عفو الله ولا أبالي بالموت، ولكني مشفقة على هذا الصغير الذي أوصلك إلي.
ألعله ابنك؟ - كلا، إنه يعتقد أني أمه، ولكنه ابن المركيز دي مورفر. - ولكن المركيز دي مورفر قد اختفى. - نعم ... - ألعله قتل؟ - كلا ... - ولكنه مات ... - كلا فإنه لا يزال حيا يرزق. - إذن أين هو؟ وماذا جرى له؟ - اقرأ هذا الدفتر تعلم منه كل ما تريد. - وأعطتني الدفتر وقد اصفر وجهها وغارت عيناها، فقالت: إني واثقة من أني سأموت هذه الليلة. - بل تعيشين عمرا طويلا، وسأهتم بك كل الاهتمام. - بل أقصر همك على هذا الغلام، أما أنا فإني سائرة إلى الأبدية، أما ترى الموت يجول بين عيني؟ فأقسم لي بالله أنك تقرأ ما كتبته في الدفتر، وأنك تنتقم للمظلوم.
ولما أقسمت لها قالت: لقد أصبت باعتمادي عليك، ثم مدت يدها إلي شاكرة واغرورقت عيناها بالدموع.
أما أنا فقد رأيت علائم الموت بادية بين عينيها، وأنها لا تعيش إلا بضع ساعات، ولكني مع ذلك أحضرت لها طبيبا وممرضة، وقلت لها: إني سأعود صباح غد لأراك.
ثم خرجت من عندها ومعي الدفتر.
وفي صباح اليوم التالي أعددت معدات السفر إلى الهافر، وذهبت لعيادة الفيروزة، ووجدت أنها قد ماتت في الليل، وكان الغلام واقفا يبكي، فدفعت إلى بواب المنزل نفقات دفنها، وأخذت الغلام إلى دير للراهبات في شارع البوسطة، فوضعته فيه، ودفعت عنه راتب ثلاثة أعوام مقدما، وقيدت اسمه بدفاتر الدير باسم «مكسيم لوران» فقبلوه بهذا الاسم.
والآن إذا فتحتم كتابي بعد مضي عامين؛ أي إذا لم أعد من الهند قبل انقضاء هذه المدة، فاعلموا أنه يجب عليكم أن تفعلوا ما عهد إلي بفعله، وإذا كنتم قد فتحتم هذا الكتاب، فاعلموا أني قد مت في الهند، وخلفت لكم هذه المهمة إرثا تتقاسمونه على السواء، فاحذروا من التهاون في قضائها، فإني أقسمت يمينا للفيروزة قبل أن تموت.
روكامبول
22
لما تلا مرميس كتاب روكامبول دفعه إلى فاندا، وقال لها: اقرئي.
فقرأته فاندا بصوت مرتفع أمام ميلون، فتحمس ميلون وقال: لنفعل ما يريده الرئيس.
فقال مرميس: أظن أني بدأت بإنفاذ أوامر الرئيس دون أن أعلم.
فقالت له فاندا: كيف ذلك؟! - أصغيا إلي، فسأوضح ما قلت: إن هذا الكتاب الذي قرأناه الآن يدل على أن هذا الدفتر الذي لم نقرأه بعد، خاص بالمركيز دي مورفر، وقد رويت لكم في العام الماضي حكاية اختفاء هذا المركيز، وما كان له من التأثير.
ثم أزيدكما على ما تعلمانه أن صديقه مونتيجرون قد بذل جهده للوقوف على آثاره فلم يفز، وقد قتل هذا المسكين أمس في مبارزة، والذي قتله صديق له يدعى البارون هنري.
فقالت فاندا: وما سبب المبارزة؟ - إن مونتيجرون كان يهوى امرأة تكره البارون هنري. - ومن هي هذه المرأة؟ - هي تلك البستانية الحسناء التي وجدوا في منزلها، منذ ثلاثة أعوام، مثالا من الشمع يشبه المركيز دي مورفر شبها عجيبا خدع به رئيس البوليس نفسه. - إذن هذه المرأة مقيمة في باريس؟ - نعم، وقد أنفقت جانبا من الليل بقربها.
ثم حكى لهما جميع ما اتفق له تلك الليلة مع البستانية الحسناء، التي انتحلت لنفسها اسم دون روميو.
ولما انتهى من سرد حكايته قال لفاندا: والآن فإني أستشيرك فيما يجب أن أفعله، فهل ينبغي أن نقرأ هذا الدفتر الضخم؟ أم نستوثق قبل قراءته إذا كانت البستانية لا تزال في باريس؟!
فقالت فاندا: إني أرى الرأي الأخير أولى بالاتباع، فإننا نستطيع أن نقرأ الدفتر في كل حين.
فقال عند ذلك مرميس لميلون: هلم معي لنغير زينا ونذهب إلى بيت البستانية.
وامتثل ميلون ودخل الاثنان إلى الغرفة، وبعد ربع ساعة خرجا منها وهما متنكران أشد التنكر، بحيث إن فاندا نفسها أوشكت أن لا تعرفهما.
فقال مرميس: إن هذه الحسناء التي كنت عاشقها بالأمس إذا عرفتني بعد هذا التنكر لا أكون من تلامذة روكامبول.
ثم سار مع ميلون إلى بيت البستانية، فقال له على الطريق: إنك ستقول في ذلك البيت الذي نحن ذاهبان إليه أني ابن أخيك، وأني من الماهرين في سوق المركبات، وقد بلغك أن دون روميو محتاج إلى سائق لمركباته، فجئت بي لإدخالي في خدمته، وفي خلال الحديث نعلم إذا كانت البستانية الحسناء باقية في باريس أم لا.
وذهب الاثنان حتى وصلا إلى ذلك المنزل، فقرع مرميس بابه الخارجي ففتح الباب، واستقبلهما الخادم وسألهما عما يريدان. - بلغنا أن الدون روميو محتاج إلى سائق، أليس كذلك؟ - لا أعلم. - إني جئت كي أعرض عليه خدمة ابن أخي هذا، فإنه من حذاق الماهرين في هذه الصناعة. - إن سيدي قد خرج الآن من المنزل على جواده. - متى يعود؟ - في الساعة الحادية عشرة.
وعند ذلك فتحت نافذة الغرفة المشرفة على الحديقة، وبرز منها وجه البستانية الحسناء، فرآها مرميس، وقال لميلون بلغة اصطلاحية: هذه هي، فرآها مليون أيضا.
ثم خرج الاثنان وقالا للخادم: إننا سنعود حين عودة سيدك، ولما بعدا بضع خطوات عن المنزل قال مرميس لميلون: يجب أن تبقى هنا لمراقبة المنزل. - وإذا خرجت منه؟ - اتبعها إلى حيث تسير فلا يفوتك أثرها، أما أنا فإني عائد إلى فاندا، ثم تركه وانصرف.
وجلس ميلون فوق حجر ضخم على بعد عشرين خطوة من المنزل، فكان بابه ظاهرا له بحيث لا يخرج أحد منه دون أن يراه، ولبث على ذلك ساعتين، ورأى الخادم خرج كثيرا، فكان يغيب حينا ثم يعود دون أن ينتبه إليه.
ثم رأى فارسا وصل إلى باب المنزل فترجل عن جواده، ودخل وقد تمعن به ميلون فوجده رجلا قويا يبلغ الأربعين من العمر، أسمر الوجه، تدل ملامحه على أنه من الإسبانيين.
فلما رأى ميلون أنه دخل إلى المنزل ورآه ممتطيا جوادا، أيقن أنه دون روميو نفسه، فأقبل إلى البواب ففتح له، وقال: إنك تريد أن ترى دون روميو؟ - نعم، فإني أحب أن أعرض عليه خدمة ابن أخي. - أين هو ابن أخيك؟ - لقد طال عليه الانتظار، فأرسلته يتجول في باريس، ولكنه سيعود قريبا، فأرجوك أن تذكرنا أمام مولاك. - بل ستكلمه أنت، فإنه سيخرج قريبا مع السيدة، ألست أنت حوذيا كابن أخيك؟ - نعم. - إذا لم يكن لديك عمل فقد وجدت لك عملا. - كيف ذلك؟ - ذلك أن سائق مركبات سيدي مريض، والذي يسوق مركبته الآن يخشى منه، لا سيما وأن الجياد قوية، فإذا جمحت لا يستطيع كبحها.
فقال ميلون في نفسه: إن مرميس أمرني أن أقتفي أثر هذه السيدة أين ذهبت، وهذه خير فرصة لاقتفاء أثرها دون مشقة، ثم قال للخادم: إني اعتزلت هذه المهنة منذ عهد غير بعيد، ولكني سأعود إليها راجيا أن تروق خدمتي لسيدك فيعين ابن أخي. - إذن تعال معي إلى الإصطبل لإعداد المركبة، فامتثل له ميلون.
وبعد ساعة كان ميلون جالسا مجلس السائق في مركبة البستانية الحسناء وبقربه خادم، ثم أقبل دون روميو والبستانية الحسناء وصعدا إلى المركبة.
فسأل ميلون الخادم: إلى أين يريدان الذهاب؟ - إلى سانت مالديه، فإنهما استأجرا منزلا في الغابة للمصيف فيه، وأرسلت إليه العمال لإصلاحه فهما ذاهبان لتفقد الأعمال.
فقال ميلون في نفسه: لم يبق سبيل للخوف من سفر هذه البستانية، وهي قد استأجرت منزلا للمصيف.
وأطلق أعنة الجياد فانطلقت تنهب الأرض من شارع إلى آخر، حتى بلغ بها إلى منزل معتزل تحيط به الأشجار من كل الجهات، أوقفه الخادم عند بابه وقال: لقد وصلنا.
ثم نزل وفتح باب المركبة، فخرج منها دون روميو والبستانية، ودخلا إلى ذلك المنزل.
وكان بالقرب من ذلك المنزل حانة يختلف إليها العمال حين فراغهم، فأشار الخادم لميلون إليها، وقال له: هلم بنا إلى هذه الحانة نشرب كأسا من الخمر، فإن سيدي لا يخرجان من المنزل قبل ساعة. - حبا وكرامة، ونزل ميلون من المركبة فتركها عند باب المنزل، وسار مع الخادم إلى الخمارة فدخلا إليها.
وكانت تلك الخمارة مقفرة لا يوجد فيها غير صاحبتها وهي عجوز شمطاء، فطلب إليها الخادم زجاجة بيرا، وجلس حول مائدة مع ميلون يشربان.
ولم يفرغا من شربها حتى دخل اثنان من العمال إلى الخمارة، ثم دخل عامل آخر، ثم تلاه اثنان أيضا، فجلس جميعهم حول المائدة التي كان جالسا عندها ميلون والخادم.
وعند ذلك قامت تلك العجوز إلى باب الخمارة، فأحكمت إقفاله من الداخل، فداخل الريب قلب ميلون، وقال لرفيقه: لماذا تقفل المرأة هذا الباب؟ - سوف تعلم أيها الرفيق.
ثم أشار إشارة إلى أولئك العمال الذين دخلوا، فانقضوا فجأة على ميلون، وألقوه على الأرض بالرغم عن دفاعه الشديد وقوته الهائلة.
23
وبينما ميلون قد وقع في الفخ، كما تقدم، كان مرميس قد ذهب إلى فاندا، وجعلا يقرآن دفتر الفيروزة الضخم، وكان عنوان هذا الدفتر «الميت الحي»، وهو منقسم إلى أبواب وفصول كالكتب المعدة للطبع.
ففتحه مرميس وبدأ يقرأ ما يأتي:
الفصل الأول من كتاب الفيروزة
في ليلة اشتدت أنواؤها من ليالي الشتاء الباردة سنة 1823، وقفت مركبة في شارع لوفوا، ونزل منها رجل، وكان هذا الرجل متشحا برداء كبير، فدفع أجرة السائق وأطلق سراحه.
ثم سار في ذلك الشارع، وهو كلما سار خطوة يلتفت إلى الوراء، كأنه يخشى من يقتفيه إلى أن اجتاز شارع لوفوا، ودخل في شارع شابانيس فوقف عند المنزل رقم 14 وطرق بابه.
ففتح له البواب ودخل في رواق مظلم انتهى منه إلى سلم.
وكان البواب نائما عند الباب، ففتحه دون أن ينهض عن مضجعه، وقال: من الداخل؟ فلم يجبه الرجل، واستمر في صعوده السلم، وحسب البواب أنه من سكان المنزل وأنه تأخر في أحد المراسح، وتركه وشأنه وعاد إلى النوم.
أما الرجل فإنه حين انتهى من صعود السلم سار في رواق طويل إلى باب كان ينبعث منه نور ضعيف.
وكان مفتاح الباب في قفله من الخارج ففتحه، ودخل إلى ردهة وجد في يمينها ويسرتها بابين، ففتح أحد هذين البابين، ودخل منه إلى غرفة معدة للنوم، وسمع منها أنينا.
غير أن هذا الأنين انقطع حين سمع صاحبه وقع أقدام الرجل، ثم سمع هذا الرجل صوت امرأة تقول بلهجة مضطربة تدل على الألم الشديد: أهذا أنت يا أرمان؟
ولم يجب الرجل بحرف، ولكنه دنا من السرير الذي كانت المرأة نائمة فيه وأزاح الستائر.
ولم يكن من نور في الغرفة غير نور اللهب المنبعث من المستوقد، ورأى الرجل على هذا النور الضعيف امرأة تعض يديها، وعلى وجهها علائم الألم الشديد.
وعادت المرأة فقالت: أهذا أنت يا أرمان؟! ... ويلاه من هذه الساعة! فإني أحسبها ساعتي الأخيرة، ثم جعلت تعض اللحاف كي تمتنع عن الصراخ.
أما الرجل فإنه خلع عنه الوشاح فجأة وكان يستر وجهه، فلما رأته المرأة ذعرت ذعرا أنساها آلامها وصاحت صيحة منكرة ارتجت لها جوانب الغرفة.
غير أن الرجل لم يدعها تصيح غير هذه الصيحة، فضغط على عنقها بيده، وقال لها: إذا فهت بكلمة واحدة قتلتك دون إشفاق.
وكان خوفها عظيما، حتى إنها نسيت ما هي فيه من آلام الولادة؛ لأن هذا الرجل الذي رأته لم يكن أرمان الذي كانت تنتظره بفارغ الصبر.
ولما رأت هذا الرجل وما كان منه جمد الدم في عروقها، وقالت له: أهذا أنت؟!
أما هو فإنه ذهب إلى الباب وأقفله من الداخل، وعاد إليها فقال بصوت الهازئ المتهكم: إني أعلم شيئا من علم الطب والجراحة، وسأغنيك عن الطبيب الذي ذهب أرمان لإحضاره.
وقالت له: اقتلني كما تشاء؛ لأن ذلك من حقك؛ لأني خنتك وأنا امرأتك، ولكن لا تهزأ بي بالله في هذه الساعة. - إني لا أهزأ ولا يدور المزاح في خاطري وأنا في هذا المقام، بل إني أعيد عليك ما قلته لك، وهو أني ملم بفن الطب والجراحة، وسأنوب عن الطبيب الذي تنتظرينه كما سترين. - أواه إني أقرأ بين عينيك صورة العقاب بموتي.
وأجابها ببرود: إنك مخطئة أيتها السيدة، فلا أريد لك الموت. - أين أرمان ، ولماذا لم يعد؟! - لأني قتلته، فهو لن يعود.
فاضطربت اضطرابا شديدا، ونهضت وهزت هزا عنيفا ذلك الرجل الذي كان زوجها فخانته، وأتت تستر زلتها في بيت حقير، واتقدت عيناها بلهب الحقد، وجعلت تهزه وتقول له: تبا لك من قاتل سفاك.
غير أنه لم يغضب لما سمعه من إقرارها، بل جلس على كرسي أمام سريرها، وقال بملء السكينة: لقد عدت يا سيدتي اليوم من إسبانيا، ولم يعلم أحد من الناس بعد أني في باريس، وجميع الناس هنا يحسبون أنك الآن مقيمة في أراضينا في نورمانديا ...
ثم إن زلتك لم يعلم بها أحد بعد، ولا يجب أن يدري بها أحد ويقول: إن الدوقة دي فنسترانج خانت زوجها وولدت بالإثم والخيانة.
وهي خيانة يا سيدتي لا يعلمها غير ثلاثة في الوجود وهم: أرمان، وأنت، وأنا. أما أرمان فقد قضى السهرة بقربك، ولما شعرت بقرب الولادة أسرع لإحضار الطبيب، لكني لقيته في الطريق قبل أن يصل إليه وتصديت له، وقلت: إني عالم بكل شيء.
ففهم ما أردت وذهب معي إلى مكان معتزل، وتبارزنا ولقي الموت من حسامي جزاء بغيه، ولكنه تمكن من أن يخبرني قبل مماته بما أنت فيه وأرشدني إلى مكانك.
بقي ذلك الخادم الذي أخبرني بسر خيانتك، لكني سأصحبه معي إلى إسبانيا، وهناك أتخذ الاحتياطات اللازمة كي لا يعود، ولا يبقى من المطلعين على هذا السر غير أنا وأنت، فلا تروق لك الفضيحة مهما صغرت نفسك بهذه الحياة، فلا تبوحي بسر تكون فضيحتك بعده أكثر من فضيحتي، وأما أنا فإني رجل كثير الطموح إلى المعالي، فلا أشغل نفسي بالاهتمام بخائنة، وقد صغرت في عيني فلا أتدانى إلى الانتقام منك، إذن ثقي أني لا أقتلك.
وأنت الآن مقيمة في هذا المنزل متنكرة باسم غريب، فاتخذي ما تجدينه صالحا من الاحتياطات؛ لتعودي غدا إلى قصرنا في شارع سانت دومنيك دون أن يعلم أحد شيئا.
وكان الدوق يقول لها هذه الأقوال بملء السكينة، غير أن تلك المرأة كانت قد اشتدت عليها آلام الولادة فلم تفقه حديثه.
أما الدوق فقد كان عارفا بفن التوليد كما قال، فأخذ يعالج امرأته إلى أن ولدت في الساعة الثانية من الصباح مولودا ذكرا، وأغمي عليها.
ولف الدوق الطفل بملاية السرير وخبأه تحت وشاحه وانصرف، فلما استفاقت الدوقة من إغمائها لم تجد زوجها ولا ذلك المولود.
الفصل الثاني من كتاب الفيروزة
بعد شهر من هذه الحادثة الغريبة التي وردت في كتاب الفيروزة كانت فرقة من الجنود الفرنسية تحتل قرية من جبال كاتولون تدعى أوجاكا.
وكان احتلالهم لهذه القرية إثر الحرب الثانية التي نشبت مع إسبانيا سنة 1823.
وكانت هذه الفرقة مؤلفة من فصيلتين من الفرسان بقيادة الكولونيل فنسترنج، وهو الدوق دي فنسترنج الذي جرى له مع امرأته ما رويناه في الفصل المتقدم.
وكان هذا الدوق يناهز الثلاثين من العمر، شديد القوى، عرف بالقسوة، وقد خدم في روسيا في عهد الإمبراطورية الأولى، وجرد السلاح على مواطنيه الفرنسيين، ولم يكن الجيش الفرنسي يميل إليه، غير أنه كان معروفا بالشجاعة فلم ينكرها عليه أحد.
على أنه مع شجاعته كان ذكي الفؤاد حسن التدبير شديد الصرامة في تنفيذ النظام العسكري، وإذا غلب لا يعرف قلبه الرحمة بالمغلوب.
وكان قد احتل قرية أوجاكا في الصباح، فأصدر أمره بإعدام اثني عشر رجلا من أهلها اتهموا بإجراء حرب المناوشات ومشاكسة الفرنسيين، ولم يمهلهم غير يوم وليلة، فقبض على هؤلاء المساكين، وزجوا في سجن مظلم كانت تتولى خفارته الجنود، إلى أن تحين ساعة الإعدام، وهي في فجر اليوم التالي.
وكان بين هؤلاء الأسرى شيوخ وفتيان، حتى إنه كان بينهم غلام لا يتجاوز خمسة عشر ربيعا، جاءت أمه باكية معولة، وانطرحت على قدمي الدوق تستعطفه ابنها، فرفسها هذا الدوق الوحشي برجله، وأمر أن يكون ابنها أول المقتولين.
وكان أيضا بين أولئك الأسرى رجل يناهز الأربعين، صبغت أشعة الشمس وجهه الأبيض بلون الذهب، فصار يشبه وجوه العرب، وهو يدعى مينوس.
ومن صفات هذا الرجل أن عينيه كانتا تدلان على الجرأة والميل إلى الفتك، وهو عصبي المزاج، أنوف، قليل الكلام ، وقد انطرح في زاوية من السجن بعيدا عن رفاقه لا يكلم أحدا، وإذا كلموه لا يجيب.
وحكايته أنه لم يكن من أولئك الإسبانيين الذين يدافعون عن بلادهم، ولم يكن أعداؤه تلك الجنود الفرنسية، بل كان ربيب الجبال وعدو الهيئة الاجتماعية بأسرها والناس بجملتهم، فقد كان من مشاهير زعماء اللصوص.
وكان السبب في أسره، أنه كان يهوى فتاة في تلك القرية، فكان يزورها في كل ليلة، ولم يكن أحد من رجال عصابته يعتدي على القرية إكراما لها.
وكانت الفتاة قد أحبته أيضا حبا شديدا، ثم علمت أنه أحب سواها، فأضمرت له الشر وعزمت على الفتك به، إلى أن حانت لها الفرصة يوم احتلال الفرنسيين لقريتها، فسقته مخدرا ممزوجا بالخمر، وذهبت إلى قائد الفرقة فوشت به أنه من الخوارج.
فلما صحا وجد نفسه مقيد الرجلين، مكتوف اليدين، في سجن مظلم وبقربه كثير من الأسرى المقيدين.
وقد علم كما علم بقية الأسرى أن موعد إعدامه عند الفجر. وكان جميع رفاقه قد ناموا في الليل واستسلموا إلى الأقدار، أما هو فلم يغمض له جفن طول ذلك الليل.
وفيما هو يفكر في مصيره، فتح باب السجن ودخل إليه جنديان فرنسيان، وبيد أحدهما مصباح، فأيقظ النائمين، وقال لهم: من منكم يدعى مينوس؟
فانبرى له اللص قائلا: هو أنا، فماذا تريد؟
فدنا منه الجندي ففك قيد رجليه، وقال له: قم واتبعنا.
فأجابه مينوس قائلا: إلى أين؟ ألعلكما تريدان شنقي قبل أن يطلع الصباح؟ - كلا، ولكننا ذاهبان بك إلى قائدنا؛ لأنه يريد أن يراك.
فمشى مينوس بين الجنديين وهو موثق اليدين حتى وصلا إلى حيث يقيم الدوق فنسترنج، فدخل شامخ الرأس، غير مكترث بما رآه من دلائل العظمة، فنظر إليه الدوق، وقال: أتريد أن أعفو عنك؟
فانذهل مينوس وقال: إني أريد العفو دون شك، إذ لم أقنط بعد من الحياة، ولكن لماذا تريد أن تعفو عني؟ - لأني محتاج إليك. - قل إذن شروطك.
وكان يوجد في الغرفة التي كان فيها الدوق مهد فيه طفل لا يزيد عمره عن شهر ، وهو الطفل الذي ولدته امرأته، فأشار بيده إلى المهد، وقال لمينوس: انظر هذا الطفل، إنني أكرهه كرها لا حد له حتى إني أريد له الموت، ولكني لا أحب أن أقتله. - إذن تريد أن تعتمد علي. - نعم، ولكن أصغ إلي. أتعلم ما أريد منك؟ وكيف أنك تشتري حريتك؟ ذلك أني أريد أن تأخذ هذا الطفل إلى الجبل الذي تقيم فيه، فتربيه بين رفاقك اللصوص، وتأتي كل عام إلى بوسطة بايون، وذلك في يوم عيد الميلاد، فتجد كتابا باسمك يحتوي على مائتي ليرة، نفقات الطفل.
فانذهل مينوس وقال: إذن لا تريد قتله؟ - كلا، بل أريد أن تعلمه مهنتك وتجعله لصا مثلك، فقد يأتي يوم يحكم عليه فيه بالشنق. - وإذا نجا من المشنقة؟ - إنك تأتي في كل عام إلى البوسطة، فتقبض النفقات التي أرسلها إليك إلى أن يبلغ هذا الطفل 20 عاما فيأتي ويجد كتابا باسمه. - رضيت وسأفعل ما تريد. - أتقسم لي على الوفاء؟ - أقسم بما تشاء. - حسنا، فخذ الطفل، وسأرسل معك بعض الجنود كي يخفروك إلى الجبل.
ثم نادى أحد الضباط، فأمره بإرسال مينوس والطفل مخفورين إلى الجبل، وبعد ساعة برح مينوس تلك القرية، وهو يحمل بيديه ذلك الطفل الذي ولدته امرأة الدوق دي فنسترنج، وبلغ أمر اختفائه جميع أهل باريس.
الفصل الثالث من كتاب الفيروزة
مر على هذه الحادثة 14 عاما، والغلام يربى بين عصابة مينوس.
وكان ذلك في عام 1837؛ ففي أحد أيام فبراير من هذا العام، كانت مركبة بوسطة قادمة من بيون، فوصلت في الصباح إلى قرية أوجاكا التي تقدم ذكرها.
وكانت سياسة البلاد قد تغيرت في هذا العهد، فوضعت الحرب الأجنبية أوزارها، ونابت منابها الحروب الداخلية، فانقسم الإسبانيون قسمين: قسم تحزب للدون كارلوس وأراده ملكا على الإسبان، وقسم مال إلى تأييد الملكة إيزابيل، ولكل من الحزبين زعيم شديد يدفع البلاد في تيار الحرب الأهلية.
ولذلك كان السفر في إسبانيا شديد الخطر على المسافرين، فلما وصلت المركبة إلى أوجاكا دنا منها أحد الضباط، وأزاح ستارها فوجد فيها امرأة ناحلة مصفرة يظهر أنها مصدورة، وبقربها غلام يبلغ الخامسة عشرة، وعلى الاثنين دلائل النعمة والترف.
فسأل الضابط تلك السيدة عن البلدة التي تسافر إليها، فقالت له: إني أدعى المركيزة دي مورفر، وهذا ولدي يدعى بعد قتل والده: المركيز غوستاف دي مورفر - هو ذلك المركيز نفسه الذي تقدم خبر اختفائه في أول هذه الرواية - ونحن مسافران يا سيدي إلى قاديس للاستشفاء بهوائها من دائي كما وصف لي الأطباء. - إني أدعو لك بالشفاء العاجل يا سيدتي، غير أن الطريق غير آمنة، وسأعطيك جوازا يقيك اعتراض الجنود، غير أني لا آمن عليكما مكر اللصوص في الجبال، إذ لا بد لكما من اجتيازها، ومن يمر بها لا يسلم من قبضة مينوس إلا بفدية عظيمة.
فاصفر وجه المركيزة، وظهرت عليها دلائل الخوف، ورأى ولدها علائم خوفها، فاتقدت عيناه، وقال: ما بالك خائفة يا أماه وأين أنا؟! ألا أستطيع أن أحميك؟!
فتنهدت وقالت: لا أنكر بسالتك يا بني، ولكن ما عساك أن تصنع مع عصابة لصوص؟!
ثم استأنفت الحديث مع الضابط، وقالت: من هو مينوس هذا؟ وكيف السبيل لاتقائه؟ - إنه يا سيدتي زعيم لصوص هائل، وقد عقد حزبنا اتفاقا معه، فهو لا يعتدي على جنودنا، ونحن لا نخفر المسافرين إلى الجبال التي يقيم فيها. - وإذا وقعنا في شركه فهو يطلب فدية كما تقول؟ - نعم، ولكنها فدية جسيمة؛ فهو لا يقنع بالقليل. - وإذا عجزت عن دفعها؟
فأطرق الرجل برأسه دون أن يجيب، وكان جندي واقفا معه يسمع الحديث، فقال: من لم يدفع الفدية يا سيدتي يقتل دون إشفاق.
فنزلت المركيزة مع ولدها من المركبة إلى الفندق الذي وقفت أمامه وهي مفكرة مهمومة، وكانت صاحبة الفندق علمت بأمرها، فدنت منها وقالت لها بصوت منخفض: إنك إذا بت يا سيدتي هذه الليلة في فندقي فقد أرشدك إلى طريقة تنقذك من هذه الأخطار.
فرضيت المركيزة شاكرة، وأقامت يومها في غرفتها ولم تخرج منها.
ولما أقبل المساء، وترصعت سماء تلك القرية بالكواكب اللامعة، تفرقت الجنود، ولم يبق في ذلك الفندق غير صاحبته والمركيزة وابنها وبعض الخدم.
وعند ذلك دخلت صاحبة الفندق إلى غرفة المركيزة، وقالت لها: لقد وعدتك يا سيدتي أن أسهل لك سبل الوصول إلى قاديس دون خطر، وها أنا سأفي بوعدي.
ففرحت المركيزة، وقالت: كيف ذلك؟ - إننا في هذه القرية يا سيدتي نحب اللصوص، فإن زعيمهم مينوس لم يسئ إلينا بشيء.
وكانت صاحبة الفندق جميلة وهي في ريعان الشباب، فأدركت المركيزة قصدها وابتسمت، فقالت الفتاة: إن هؤلاء اللصوص لا يأتون إلى قريتنا في النهار، بل يأتون في الليل للادخار والتموين، فيتغاضى الجنود عنهم لما بين الفريقين من الاتفاق. - نعم لقد عرفت أمر هذا الاتفاق من الضباط. - وإن بيدرو يأتي كل ليلة إلى هذا الفندق. - من هو بيدرو هذا؟ - هو نائب الزعيم مينوس في رئاسة العصابة، وإن الزعيم يحبه كما يحب الغلام برديتو. - ومن هو برديتو؟ - هو غلام تبناه مينوس منذ 14 عاما.
فالتفت المركيز إلى أمه، وقال لها باحتقار: أيكون لهؤلاء اللصوص أولاد كسائر العائلات؟
فنظرت إليه أمه نظرة الموبخ، وعادت صاحبة الفندق إلى الحديث، فقالت: لا بد أن يأتي بيدرو هذه الليلة، ومتى أتى طلبت إليه أن يحميكما فيفعل. - أنستطيع عند ذلك اجتياز الجبل آمنين؟ - إذا وعد بيدرو بحمايتكما فلا خطر عليكما، وسأحمله على أن يعد، صبرا إن زمن حضوره قد دنا.
وبعد هنيهة سمعت صاحبة الفندق وقع حوافر جواد، فاحمر وجهها وقالت: هو ذا قد حضر.
ثم أخذت مصباحا ووضعته على النافذة، إشارة إلى أنه يستطيع الدخول إلى الفندق. فلم يمض زمن وجيز حتى فتح باب الغرفة ودخل منه هذا اللص.
وكان هذا اللص فتى يبلغ الثلاثين من العمر، رشيق القوام، حلو الشمائل، تدل عيناه على السلامة، وعلى أنه لم ينخرط في سلك اللصوص إلا لأسباب أكرهته على امتهان هذه المهنة السافلة، ولما رأى المركيزة وابنها قطب حاجبيه، ولكنه ما لبث أن ارتاح لرؤيتهما لما رأى عليهما من مخائل النبل والدعة.
أما صاحبة الفندق فإنها خرجت به من تلك الغرفة وتداولت معه هنيهة، ثم عادت إلى المركيزة وقالت لها: إن بيدرو رضي يا سيدتي أن يتولى حمايتكما، وأقسم لي على الوفاء بالقديس يعقوب حامي إسبانية، لكنه يقول: إنه يجب أن تسافرا الآن؛ لأن الزعيم مينوس عازم على الغارة على الضواحي عند الفجر. - أية علاقة لغارته بسفرنا؟ - ذلك لأنك لا تستطيعين اجتياز الجبل آمنة إلا بجواز من مينوس، ويريد بيدرو أن يدركه قبل الفجر للحول على هذا الجواز.
فوافقت المركيزة على السفر، ونفحت صاحبة الفندق بمبلغ من المال جزاء إخلاصها، وبعد حين سارت المركبة بها وبولدها وهي واثقة ملء الثقة بيمين هذا اللص.
الفصل الرابع من كتاب الفيروزة
وسارت بهم المركبة، فكانت المركيزة وابنها جالسين في داخلها، وبيدرو جالسا بجانب السائق.
وبينما كانت المركبة تسير في ظلام الليل في تلك الطرق المقفرة دار بين المركيزة وابنها الحديث الآتي، فقال المركيز: إنني قد بلغت السادسة عشرة من عمري وصرت رجلا، أليس كذلك يا أماه؟
فتنهدت والدته وقالت: نعم يا بني. - إنك تستطيعين الآن أن تخبريني بكل شيء.
فبدت عليها علائم الاضطراب، وقالت: ماذا تعني بهذا القول؟ - أحب يا أماه أن أعرف ...
أريد أن أعرف كيف مات أبي؛ لأني حين كنت صغيرا وكنت أسأل يجيبونني أنه في الجيش. - وهو كذلك يا بني، فقد كان ضابطا في الجيش. - وبعد ذلك قيل لي إنه قد مات. - وهذا أكيد أيضا. - ولكن كيف توفي؟
فتنهدت المركيزة وسكتت، فقال لها بلهجة احترام: بالله لا تخفي الحقيقة عني يا أماه، فقد علمت أن أبي قتل غدرا، وإنما أقول غدرا؛ لأن الأطباء وإن كانوا قرروا أنه قتل بضربة سيف، غير أننا لم نعثر على الشهود ولا الخصم، وأنا أنتظر يا أماه أن أعرف الحقيقة منك؛ لأنك تعلمينها دون شك.
فتنهدت والدته أيضا وقالت: إن دائي قد استفحل يا بني، وأنا أعلم أن ساعات حياتي باتت معدودة، وكنت أنتظر إلى أن تبلغ العشرين من عمرك لأبوح لك بهذا السر، غير أني لا أعيش وا أسفاه إلى ذلك اليوم، ولا أجد بدا من الإباحة لك بالسر. - تكلمي يا أماه، فإني لا أبلغ غير الخامسة عشرة من عمري ، ولكني أعد نفسي في مصاف الرجال، ولا بأس من إطلاعي على الحقيقة قبل الأوان. - إني يا غوستاف أبكي أباك منذ أربعة عشر عاما، وكنت أعبده عبادة مع أنه كان مسيئا إلي، واعلم يا بني أنك ولدت بعد أن مضى على زواجنا عامان، كنا في خلالهما أسعد خلق الله، لتبادل الحب بيننا، وكنا نحيا كالحمامتين في قصرنا في مورفان، وكنا نحسب حدائقه جنات أعدت لنا.
ثم انتهت أجازة أبيك، فعاد إلى منصبه في الجيش، وعدت معه إلى باريس، فما مر بنا ثلاثة أشهر حتى أصبحت أتعس امرأة في الوجود؛ ذلك أن امرأة أخرى جذبت فؤاد أبيك وحلت في قلبه مكاني.
ودام ذلك نحو عام وأنا مقيمة حول مهدك، متآسية بقربك، لا أراك تبتسم لي حتى أتوجع لشفاء أبيك، وكان لا يجيء إلى المنزل إلا في آخر الليل، ثم انقطع عنه عدة أسابيع لم أره فيها مرة.
وفيما أنا ساهرة ذات ليلة، وقد ثارت هواجسي لاحتجابه، وبزغ الفجر وأنا جالسة أبكي قرب مهدك، سمعت طرق الباب الخارجي فأوجست شرا، وقلت: من عساه يجيء في هذه الساعة؟
ثم أسرعت إلى النافذة المطلة على الباب فرأيت البواب يفتحه، ثم رأيت جنودا يتقدمهم بوليس دخلوا بعده، وتلاهم أربعة رجال يحملون جثة وضعوها فوق محمل، وكانت الجثة جثة أبيك.
وهنا لا أذكر لك ما أصابني من اليأس، فسألت البوليس عن القاتل، فقال: إنه لا يدري، وذهبت إلى الملك وانطرحت على قدميه، والتمست منه إجراء التحقيق فأصدر أوامر مشددة، وبحث البوليس ثلاثة أشهر فلم يهتدوا إلى القاتل.
غير أن رئيس البوليس جاءني مساء يوم، وقال لي: إن زوجك يا سيدتي لم يقتل غيلة، بل أثر مبارزة. - ومن كان خصمه؟! - زوج المرأة التي كان يهواها.
فقال المركيز: لكن ألم يخبرك رئيس البوليس عن اسم هذا الرجل؟ - كلا؛ لأنه أبى أن يخبرني، لكني عرفته من سواه. - بالله إذن اذكريه لي.
وفيما كانت تحاول إخباره، إذ وقفت المركبة فجأة، وأحاط بها كثيرون من لصوص الجبال وجميعهم مسلحون .
وكان هؤلاء اللصوص قسما من عصابة مينوس، والمكان الذي وصلت إليه المركبة محطتهم الأولى، فلما عرفهم بيدرو وثب من المركبة، وأسرع إليهم قبل أن يطلقوا نيرانهم، فعرفهم بنفسه، فامتثلوا له وأذنوا للمركبة بمواصلة السير، فاطمأنت المركيزة وعادت إلى حديثها، فقالت لابنها ما يأتي: مر على مقتل أبيك يا بني خمسة أعوام، ففيما أنا مقيمة في قصرنا في باريس ذات يوم، جاءني خادم عجوز بيضت السنون شعره، وقال لي: يوجد يا سيدتي امرأة على فراش الموت، تحب أن تراك قبل وفاتها، لأمر خطير.
وتفرست في وجه الخادم فرأيت علائم السلامة تجول بين عينيه، فقلت له: من تكون هذه المرأة؟ - لا أستطيع أن أذكر لك اسمها، وإنما تريد أن تستغفر منك قبل الموت! - أين هي؟ - في بيت قريب من هنا إذا شئت يا سيدتي سرت بك إليه.
وكان يتكلم بلهجة المتوسل المستعطف، ودلائل الصدق بادية في حديثه، فما وسعني إلا الامتثال له، لا سيما وقد خطر لي أن هذه المرأة قد تكون هي التي سببت قتل أبيك؛ لأنها تقول: إنها تريد أن تستغفر مني، ولم يسئ إلي أحد سواها.
فأمرت الخادم أن يسير أمامي، وتبعته حتى وصلنا إلى ذلك المنزل، ففتح بابه بمفتاح كان معه، ودخل بي إلى منزل كبير سرنا به من رواق إلى ردهة، فانتهينا إلى غرفة أدخلني إليها وانصرف.
ورأيت في تلك الغرفة امرأة مضطجعة فوق سرير، فكانت آثار الجمال بادية عليها، غير أن دلائل قرب الموت كانت ظاهرة على وجهها المصفر.
فلما رأتني اتقدت عيناها كأنما قواها قد عادت إليها، وقالت لي: حسنا فعلت يا سيدتي المركيزة بقدومك إلي؛ لأني أنا هي تلك المرأة التي كان يهواها زوجك، وأنا الدوقة دي فنسترنج.
فنظرت إلى تلك المرأة التي كانت السبب في قتل أبيك نظرة شفت عما في قلبي من الاحتقار، وكأنها أدركت معنى هذه النظرة، فقالت لي: رحماك لا تنظري إلي هذه النظرات، إني على فراش الموت.
فتهيبت هذا الموقف وزالت من قلبي آثار الضغينة، فمددت يدي إلى يدها ، وقلت لها: إني غفرت لك فموتي بسلام وعسى أن يغفر الله لك.
فاغرورقت عيناها بالدموع وقالت: أشكرك خالص الشكر يا سيدتي، ولكني لن أموت قبل أن أطلعك على سر هائل. - تكلمي يا حضرة الدوقة إني مصغية إليك.
ثم دنوت منها لما رأيت من خفوت صوتها؛ كي لا أحملها مشقة الكلام، فقد كان صوتها خفت وتجمعت كل دقائق حياتها في عينيها.
واعترفت لي عند ذلك بكل ما حدث، وقالت: إنه حين سقط المركيز قتيلا من سيف الدوق فنسترنج، كانت تعاني آلام الولادة في منزل استأجرته خاصة لستر زلتها، وجاءها زوجها بعد ساعتين، وولدت بحضوره غلاما هو في الحقيقة ابن المركيز دي مورفر لا ابن زوجها الدوق، فهو يا بني أخوك من أبيك.
فارتعش المركيز وقال: إذن لي أخ؟
فأجابته أمه: لا أعلم إذا كان لا يزال حيا، أو أنه بات من الأموات؛ لأن الدوقة لم تكن تعلم حقيقة أمره قبل وفاتها؛ لأنها عندما ولدته أغمي عليها، ولما استفاقت من إغمائها لم تجد زوجها، ولم تجد الطفل، وقد طالما سألت زوجها الدوق عن الطفل فلم يجبها بحرف.
واتقدت عينا المركيز بأشعة الغضب، وقال: أرجو على الأقل أن يكون هذا الدوق باقيا في قيد الحياة. - دون شك، وفوق ذلك لقد ترقى في مراتب الجندية حتى بلغ إلى رتبة جنرال. - ليكن مارشالا إني لا أدعوه إلا بقاتل أبي. - هو ذاك يا بني. إن أباك قتل دون أن ينتقم له أحد. - سأكون أنا هذا المنتقم، يا أماه، وإني أقسم لك على ذلك بتربة أبي.
وفيما هو يقسم هذا القسم وقفت المركبة لإحاطة اللصوص بها في محطة، فأسرع إليهم بيدرو وعرفهم بنفسه، وتابعت المركبة سيرها، لكنها عادت إلى الوقوف بعد ربع ساعة.
وفي هذه المرة دنا من المركبة أحد هؤلاء اللصوص، ففتح بابها وقال باللغة الإسبانية: من أنتم؟
وقد انعكست أشعة مصباح المركبة على وجهه، فلم تلبث أن رأته المركيزة حتى صاحت صيحة دهش ممتزجة بالرعب، وذلك أن هذا الوجه الذي رأته كان وجه غلام في الرابعة عشرة من عمره، أسمر الوجه، أسود الشعر، براق العينين، وكان يشبه ولدها المركيز شبها عجيبا لا يتفق إلا بين الأخوين.
وكذلك الغلام فإنه لما رأى المركيز صاح مثل تلك الصيحة؛ لأنه رأى ما رأته المركيزة من الشبه العجيب.
الفصل الخامس من كتاب الفيروزة
كان مينوس قد شاخ لتقدم الأيام به وابيض شعره، ولكن رونق الشباب كان لا يزال جائلا بين عينيه، ولا يزال لصوته الرنان لهجة السيادة؛ لأنه يتولى منذ 20 عاما السيادة المطلقة على الجبل.
فكان الإسبانيون بجملتهم يخافونه، حتى قواد الأحزاب، فكان كل منهم يخطب وده كي يضمه إليه ويستعين بعصاباته على خصمه، فتردد مدة طويلة في الأمر، ثم قرر أن يكون مستقلا.
ومن أقواله المأثورة في هذا المعنى: إن الملوك لا يستحقون أن نقاتل لأجلهم، وإن مهنة نهب المسافرين أشرف من مهنة القتال من أجل الملوك، فبقي لصا مع افتخاره بأن الملوك تكاتبه وتسترضيه.
وكان في جباله يشبه الملوك في عواصمهم؛ إذ كان له بلاط وحاشية وأعوان.
وكان في عهد شبابه كثير الشغف بالنساء وله في كل قرية حظية، وقد اتفق مرة أن عصابته عثرت بستة من البدو وأربع نساء من البدويات بينهن فتاة في الرابعة عشرة من عمرها وفتاة في العاشرة، فقتل الرجال الستة وتزوج إحدى المرأتين على الطريقة النورية وهي كسر الإبريق، وأمر رجاله أن يقترعوا على المرأة الثانية.
أما الفتاتان فإنه أنعم بواحدة منهما على نائبه بيدرو، فأبى قبولها مدعيا أنه مولع بحب سواها، فاتخذها الزعيم لنفسه، وأدخل في ذلك الجبل مبدأ تعدد الزوجات، أما الفتاة الصغيرة التي عمرها 10 أعوام فإنه جعلها خطيبة لبرديتو، ولنذكر الآن من هو برديتو.
يذكر القراء تلك الليلة التي كان فيها مينوس سجينا في قرية أجاكا يتوقع تنفيذ إعدامه عند الفجر، وكيف أن جنديين أتيا به إلى الدوق دي فنسترنج، فأعطاه طفلا وعهد إليه أن يربيه مقابل إنقاذه من الإعدام.
وكان برديتو ذلك الطفل، فتبناه مينوس وكان يذهب في عيد الميلاد من كل عام إلى بوسطة بايون، فيجد كتابا باسمه وفي طي الكتاب نفقة هذا الغلام التي كان يرسلها الدوق.
وقد وفى الدوق بما وعده به من إرسال النفقة، وكذلك مينوس فقد أبر بيمينه، وربى الغلام كما أراد الدوق، فقد قال له حين دفعه إليه: أريد أن تجعله لصا مثلك، فجعله كما أراد ولم يخل بشيء من الوصية.
وأفضى الأمر بمينوس أنه بات يحب برديتو كابنه، وعلمه جميع أسرار مهنته بإخلاص، فشب الغلام على القسوة والجرأة، وما بلغ ال 14 من سنيه حتى فاق معلمه.
وكان حين يقضي مينوس بقتل أسير لم يدفع الفدية، يبادر برديتو إلى مينوس ويلتمس منه أن يأذن له بقتله، إذ كان يجد لذة عظيمة بسفك الدماء.
وكانت تلك الفتاة النورية التي جعلها مينوس خطيبة لبرديتو فتاة متوقدة الذهن، بارعة الجمال، تدعى روميا، وكانت معجبة بخطيبها كل الإعجاب، حتى إنها كانت تصحبه في غزواته، وتبدي من دلائل التفنن والدهاء على حداثة سنها، ما يدل على أنها خليقة بهذا اللص وأنه أهل لها، فكان مينوس يحب الخطيبين حبا مفرطا؛ لاعتقاده أنهما زرع يده وأنهما يدعيان إلى المباهاة.
وكثيرا ما كان يتفق أن مينوس يضطجع في ظل شجرة، فتجلس روميا عند قدميه وتنشد له أناشيد البدويات حتى ينام متلذذا بصوتها الرخيم.
لذلك كان برديتو وروميا الوحيدين بين أهل العصابة الحائزين على ثقة الزعيم وحنوه، فكانا يدلان عليه كل الإدلال، ويحكمان في ذلك الجبل كما يريدان دون أن يرد لهما حكم.
ففي تلك الليلة التي كانت فيها المركيزة تجتاز الجبال مع ولدها في مركبة بحماية بيدرو، كان مينوس جالسا بظل شجرة يعد خطة غزو ضيعة مجاورة وأسر شيخها طمعا بثروته، فاختار من رجال العصابة من يصلح لهذه الغزوة، وأمر نائبه بيدرو الذي كان يذهب كل ليلة إلى ضيعة أجاكا أن يعود قبل الصباح.
وقبل الصباح كان مينوس قد صحا من رقاده، وجعل ينتظر عودة بيدرو، فجاءه برديتو وهو تام العدة والسلاح، فقال له مينوس: لماذا تأهبت هذا التأهب؟ ألعلك تريد أن ترافق الغزاة؟
وكانت روميا واقفة بجانبه، فقالت: وأنا أذهب معه.
فحاول مينوس أن يمنعها قائلا: إنه قد تحدث معارك أخاف عليك فيها؛ إذ لا بد من تبادل إطلاق الرصاص.
فاتقدت عيناها وقالت: إنه مشهد جميل، وهذا جل ما أتمنى أن أراه.
وقال برديتو: ألا تصحب اللبوة الأسد يا أبي في طلب القنص؟! - إذن اذهبا يا ولدي وكونا حذرين.
فذهب الاثنان، وبعد ذلك بربع ساعة عادت روميا وحدها إلى مينوس، وكانت عيناها متقدتين بلهب، وشعرها منبوش تعبث به الرياح وعليها علائم الهياج الشديد.
فاضطرب مينوس عندما شاهدها، وقال لها: ما هذا الهياج؟ ولماذا عدت وحدك؟ - إن برديتو وبيدرو يتخاصمان. - لماذا؟ - لأن بيدرو يريد حماية امرأة وغلام عثرنا بهما في مركبة، وإن برديتو يريد قتل أحدهما فيمنعه بيدرو. - لماذا يريد قتله ألعله لم يدفع الفدية؟ - كلا، إنه لا يريد قتله لهذا السبب ... - إذن لماذا يريد قتله؟ - لأن الغلام المسافر يشبهه شبها عجيبا، ثم قالت بكبرياء: ويحق لبرديتو أن لا يشبهه أحد من الرجال.
فارتعش مينوس لذكر هذه المشابهة، وقال: هلمي معي إلى محل الحادثة، فإني أريد أن أتحقق بنفسي.
الفصل السادس من كتاب الفيروزة
لما وصل مينوس إلى حيث كانت المركبة دهش دهشا عظيما لما رآه من التشابه بين المركيز وبين برديتو، ولم يشكك في أنهما أخوان.
وقد رأى الاثنان ينظر كل منهما إلى الآخر نظرات العداء والحقد، ويحاول الهجوم على خصمه لو لم يكن بيدرو حائلا بينهما يمنع الخصام، والمركيزة واقفة تضطرب اضطراب الريشة في مهب الريح، وهي لا تدري ما يكون.
وكان برديتو يقول للمركيز: بأي حق أيها الكلب الفرنسي تشبهني؟
فيقول المركيز: لا أعلم أي اتفاق سيئ جعل بيننا هذا الشبه، ولكني أمنعك أن تمد يدك إلي.
ولم يكن للمركيز سلاح غير نظراته، ولكن هذه النظرات الدالة على الغضب والاحتقار كانت تهيج برديتو كل الهياج، ولولا بيدرو لأطلق عليه النار.
وكانت المركيزة تتوسل إلى ابنها أن يعود إلى المركبة، فيجيبها بيدرو ويقول: لا تخشي يا سيدتي، فقد وعدتكما بالسلامة، ووعدي مقدس لا ينكث.
وعند ذلك دخل مينوس بين اللصوص، وقال : ما بالكم وماذا جرى؟!
وابتعد اللصوص حين سمعوا صوت زعيمهم بملء الاحترام حتى إن برديتو نفسه انقطع عن إنذار المركيز.
فتقدم بيدرو وقال: إني وجدت يا حضرة الزعيم في قرية أجاكا هذه السيدة وابنها وهي مريضة كما تراها، وصف لها الأطباء الذهاب إلى قاديس استشفاء بهوائها، وقد أخذت جوازا من زعيم حزب دون كارلوس ومن زعيم حزب الملكة إليزابيث غير أنها لا تستطيع اجتياز الجبال إلا بإذن منك.
فقال مينوس: ألعلك توليت حمايتها؟ - نعم ... - أتعهدت لها بحمايتها؟ - نعم يا حضرة الرئيس، وأقسمت لها.
فنظر الزعيم إلى برديتو نظرة تأنيب، وقال: يجب احترام العهود يا ابني.
فتراجع برديتو منخذلا صاغرا، ولكنه التفت بعد أن تراجع بضع خطوات وتهدد المركيز بنظرات هائلة، فأجابه المركيز بنظرة احتقار.
أما مينوس فإنه دنا من المركيز، وقال لها: اطمئني يا سيدتي، فإن نائبي قد تعهد بحمايتك، وستخرجين من هذا الجبل آمنة كما دخلت إليه.
فانحنت المركيزة شاكرة، وعاد مينوس إلى التأمل بالمركيز، فقالت له المركيزة: أراك تعجب نفس إعجابي لما تراه من الشبه بين الغلامين، فهل هذا الغلام ولدك؟ - كلا ... - من أين أتى إليكم، وكيف اتفق وجوده بينكم؟! - ذلك سر يا سيدتي لا أستطيع الإباحة به، وقد تعهدت بكتمانه للرجل الذي عهد إلي بهذا الغلام. - لا أحاول اكتشاف أسرارك يا سيدي، ولكني ألتمس منك أن تخبرني في أي عهد دفع إليك هذا الغلام. - منذ أربعة عشر عاما، وكان طفلا في المهد.
فذكرت المركيزة ما قالته لها الدوقة دي فنسترنج، وقالت: لقد عرفت الحقيقة الآن، فإن الرجل الذي دفع إليك الغلام هو فرنسي يدعى الدوق دي فنسترنج، وهو برتبة كولونيل في الجيش. - يسوءني يا سيدتي أني لا أستطيع أن أبوح بشيء.
فقالت له بلهجة المتوسل: بقيت لي كلمة واحدة عن هذا الغلام أرجو أن تأذن لي بقولها. - ألعله ابنك؟! - كلا، بل هو ابن زوجي، وقد خلفت له أمه ثروة عظيمة في فرنسا، فإذا رضي أن يسير معي إلى فرنسا لاستلام تلك الثروة أتعترضه؟
فارتعش زعيم اللصوص وامتعض لون وجهه، وبات فريسة الاضطراب الشديد، فإنه كان يحب برديتو حب الآباء للأبناء، ولكنه تغلبت عليه عوامل المروءة، فقال: كلا يا سيدتي، لا أعترضه، وآذن له بالذهاب معك إذا شاء.
بعد ذلك بساعتين أمر مينوس أن يعدوا مركبة المركيزة وابنها، وأمر بيدرو أن يخفرها مع عشرة من أعوانه إلى آخر الجبل، وجعلت المركيزة تكلم برديتو بواسطة مينوس، فقالت له: إني أعرف أهلك، فإذا رضيت أن تسير معي إلى فرنسا تغدو من النبلاء الأغنياء.
فنظر إليها باحتقار وقال: لماذا تريدين أن أسير معك؟ - لأني كنت صديقة لأبيك ... - ليس لي أب غير مينوس.
فقالت له بلطف: إني عرفت أمك يا بني.
فهز كتفيه وقال: ولكنك لست أمي في كل حال؛ لأن الإنسان لا يكره أمه، وأشعر أني أكرهك وأكره ابنك أشد الكره.
ثم نظر إلى المركيز نظرة حقد، فأجابه المركيز بمثلها وكأن كليهما كان يقول للآخر: سوف نلتقي.
ولما رأت المركيزة أن لا رجاء لها بحمله على السفر أمرت المركبة بالمسير، وانطلقت تجري بخفارة بيدرو.
الفصل السابع من كتاب الفيروزة
بعد خمسة أعوام - على هذه الحوادث التي بسطناها - كان شاب وصبية يظهر من ملابسهما أنهما من الإسبان يدخلان مدينة بايون في يوم من أيام الصيف الشديد الحر، وطافا في شوارعها حتى انتهيا إلى مطعم فدخلا إليه.
كان الشاب في الثانية والعشرين من عمره، والفتاة في السابعة عشرة، وكلاهما جميل الوجه، غير أن جمالهما كان مختلفا، فكانا يلفتان إليهما أنظار الناس.
وكان الفتى طويل القامة، أبيض الوجه، أسود الشعر، براق العينين تدل عيناه على القسوة والشراسة، على أنه بالرغم عن ملابسه الدالة على الفقر المدقع، فإنه كان يمشي مشية المعجب بنفسه المحتقر لأبناء جنسه، كأنما كل ما في الوجود تحت مطلق سلطانه.
وكانت الفتاة تسير متوكئة على ذراعه، وهي شقراء الشعر يتدفق النور من محياها، وقد لوحت الشمس وجهها فصبغته بأشعتها الذهبية، ولها عينان سوداوان تنفثان السحر وتبسطان نفوذهما في كل قلب، وهي ربعة القوام عصبية المزاج، أحسن ما فيها أن كل ما فيها حسن.
وكان الناس ينظرون إليها معجبين بهذا الجمال، فينظر إليهم الفتى نظرات وحشية، كأنه يخشى عليها العين من تلك العيون.
وجلس معها حول مائدة في ذلك المطعم، وجاءهما الخادم ليسألهما ما يأكلان، فقال الفتى: خبز وجبن وخمر، وقد قال هذا القول بلهجة المباهاة، كأنه طلب أثمن مأكولات المطعم، وامتثل الخادم وأحضر لهما ما طلبا.
وجلسا يأكلان ويتحادثان، فقال الفتى: يا روميا أرى هؤلاء الناس كثيري الفضول، فلنتحدث بلغة النور التي علمتني إياها أيام الحداثة. - ليكن ما تريد يا برديتو، فإني بعد موت مينوس لم أعد أحب سواك، فأنت حبيبي وسيدي.
فتنهد برديتو متأسفا على زعيمه، وقال: لقد سلبتنا إياه الأقدار، وكنت أرجو أن يكون معنا في هذه المدينة.
فقالت الفتاة: ليست يد الأقدار التي سلبتنا إياه بل يد الخيانة، فإنه كان يثق بجواني كل الثقة، فخانه وباح بسر قدومنا إلى الجيش الملكي. - لقد صدقت وإن نجاتنا نحن كانت من العجائب. - هو ذاك فإن رجال عصابتنا أبيدوا بين قتيل وأسير، أتظن أنهم شنقوا مينوس؟ - دون شك؛ فإنه حاول أن يقتل نفسه، ولكنهم طوقوه وأعدموه شنقا. - إن بيدرو كان أشد منه حظا، فإنه قتل في ساحة المعركة.
فقاطعها برديتو، وقال لها بعنف: لا تذكري لي اسم هذا الرجل. - ألعلك لا تزال حاقدا عليه؟! - دون شك إذ لولاه لما منعني مينوس عن قتل ذلك المركيز الفرنسي الذي يشبهني. - تريد به أخاك؟ - لا أعلم إذا كان أخي، ولكن الذي أعلمه أني إذا لقيته في أي مكان قتلته لا محالة ... - أعلمت السبب الذي يدعوك إلى هذا الحقد عليه والسعي لقتله؟ - كلا، ولكني أشعر أني أكرهه كرها لا حد له حتى إني قد ألتذ بمص عروقه وشرب دمائه. - إذن فسأكرهه أنا أيضا نفس الكره، وأتمنى له الموت. - بل لا بد لي من قتله متى ظفرت به، فإن حياته قد طالت. - أرى هذا الكره دليلا على أنكما أخوان. - قلت لك: لا أعلم، ولكني سأعلم هذه الحقيقة بعد ساعة.
فانذهلت روميا، وقالت: كيف ذلك ؟ - أصغي إلي، فإنه منذ عشرين عاما؛ أي منذ ولادتي كان يحضر مينوس في كل عام مرة إلى بايون، فيأخذ كتابا يحتوي على مبلغ كبير من المال لنفقاتي، ولأجل هذا أتيت بك إلى هنا مشيا على الأقدام كي أستعلم عن أمر هذا الكتاب. - أيعطونك الكتاب؟ - دون شك، فإنه سيكون هذه المرة معنونا باسمي. - كيف علمت ذلك؟ - من مينوس، فإن الرجل الذي دفعني إليه في عهد طفوليتي قال له: سأرسل لك نفقاته باسمك عشرين عاما، وبعد ذلك أرسل إليك كتابا باسمه يتضمن تعليماتي. - أتظن أن الكتاب يحتوي على المال حسب العادة؟ - هذا ما أرجحه، لكن اهتمامي بهذا الكتاب ليس من أجل المال؛ بل لأني أرجو أن أقف منه على أسرار مولدي، بل أرجو أن تصدر لي الأوامر فيه بالتفتيش على ذلك الفرنسي الذي يشبهني وأقتله. - إذن هلم بنا إلى البوستة.
ونادى برديتو الخادم، فدفع له ثمن الطعام، وانصرف مع روميا وهو يقول لها: هذا آخر فلس بقي لدي.
وخرجا من المطعم تشيعهما الأبصار.
ووصل الاثنان إلى البوسطة، فلقيا موزع البريد جالسا قرب شباكه يطالع جريدة، فنظر إلى برديتو بازدراء، وقال له: ماذا تريد؟ - إني أدعى برديتو بن مينوس، ولا بد أن يكون لديك كتاب باسمي فإني جئت أطلبه. - ألديك أوراق تثبت أنك صاحب هذا الاسم. - كلا. - اذهب من حيث أتيت إلى أن يتيسر لك الحصول على هذه الأوراق.
ثم عاد إلى مطالعة الجريدة دون أن يكترث له، فتداخلت عند ذلك روميا في أمره، وقالت للموزع وهي تبتسم خير ابتسام: إننا لا نعرف أحدا يا سيدي في هذا البلد، وقد جئنا من محل بعيد وكابدنا كثيرا من المشاق فلا سبيل لنا إلى الرجوع.
فلما رأى الموظف ذلك الجمال الفتان رق فؤاده، وعاد إلى برديتو، وقال له: أعد ذكر اسمك.
فذكر له اسمه، فأخرج الموظف غلافا ضخما وأعطاه إياه، فشكرته الفتاة وخرجت بخطيبها.
وخرج الاثنان إلى الشارع، فذهبا إلى منعطف مقفر وفتح برديتو الكتاب، فتناثرت منه أوراق التقطتها روميا، وفرحت بها فرحا لا يوصف إذ وجدت أنها أوراق مالية.
أما برديتو فإنه أخرج الكتاب من الغلاف وقرأ ما يأتي:
إن الغلام الذي تبناه اللص مينوس إذا وصل إليه هذا الكتاب، يجب عليه أن يخلع ملابسه الإسبانية ويتزيا بزي الفرنسيين، ثم يذهب إلى فندق تولوز فيستأجر خير غرفة فيه.
وفي طي الكتاب، كتاب آخر مختوم، فإذا لم يحضر إليه أحد بعد ثمانية أيام، فليفتح الكتاب الثاني ويطلع على ما فيه.
وكان الكتاب خاليا من التوقيع، لما قرأه أمام روميا قال لها: ماذا تشيرين علي أن أفعل؟ - أرى أنه يجب أن تمتثل لما جاء في هذا الكتاب.
فوافقها برديتو على ذلك، وذهب الاثنان إلى أشهر محلات بيع الملابس، فاشتريا أفضلها وخلعا ثيابهما الرثة، ثم انطلقا بذلك الزي الجديد إلى الفندق الذي ذكر لهما في الكتاب فنزلا فيه، وجعلا كل يوم يخرجان إلى النزهة بأجمل المركبات، فتحوم عليهما الأبصار كالنطاق.
إلى أن قال برديتو لروميا في ليلة: لقد حان لنا أن نفتح هذا الكتاب ونرى ما فيه. - كلا، إذ لم يبق لنا في هذا الفندق غير ثمانية أيام، وموعد فتحه غدا فلنصبر إلى الغد. - وقبل أن تتم كلامها دق باب الغرفة التي كانت فيها مع برديتو، فقام برديتو إلى الباب ففتحه، فظهر له رجل طويل القامة وخط الشيب رأسه، وقد وضع في عروة سترته زرا أحمر إشارة إلى أنه من أصحاب الرتب، فدخل إلى الغرفة وقال لبرديتو: أنا هو ذلك الرجل الذي تنتظره.
الفصل الثامن من كتاب الفيروزة
لندع هذا الرجل يتباحث مع برديتو وروميا في فندق تولوز في بايون، ولنعد إلى باريس فنقول: كانت المركيزة دي مورفر قد توفيت مصدورة لم يجدها نفعا هواء قاديس، وكان ابنها المركيز دي مورفر قد بلغ الحادية والعشرين من عمره.
وكان غنيا جدا تقضي عليه تلك الثروة والحرية بالجري في مضمار الشباب، غير أنه لم يكترث بملاهي الصبى ولم يغتنم اللذات، بل كان دائم الهم كثير التفكير؛ لأنه كان أقسم على أن ينتقم من قاتل أبيه، لم يتيسر له البر باليمين، ولبث الدوق فنسترنج في قيد الحياة تكتنفه المهابة والاحترام.
ولم يكن ذلك جبنا من المركيز، فقد كان مشهودا له بالبسالة، غير أن السبب في ذلك أنه يوم وفاة أمه لم يكن قد بلغ سن الرشاد، فذهب إلى منزل الدوق وكان يعيش في الشانزليزيه عيشة العزلة، فلقيه وقال له: لقد دفنت يا سيدي أمي التي ما قتلها غير الحزن على أبي الذي قتلته، أعلمت السبب في قدومي إليك؟ - نعم فإنك تريد الانتقام لأبيك ومعرفة السبب في قتله. - دون شك. - إن طلبك حق لا سبيل إلى مراجعتك فيه، غير أني أسألك الإذن بإبداء ملاحظة بسيطة، وهي أنك لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرك بعد. - وماذا يهمك عمري؟ - يهمني إذ لا يحق لي أن أبارزك قبل سن البلوغ، فاذهب وعد إلي بعد خمسة أعوام تجدني طوعا لأمرك.
فعلم المركيز أن الدوق مصيب في اعتراضه فتركه وانصرف.
وبعد خمسة أعوام؛ أي في اليوم الذي جاء فيه برديتو وروميا إلى بايون، بلغ المركيز سن الرشد، فدفع إليه الوصي أمواله وسلمه حساباته ووصية أمه، ففتح الوصية وقرأ فيها ما يأتي:
أكتب يا بني هذه السطور من قاديس، فلا تقرأها إلا حين بلوغك سن الرشد؛ أي حين يكون الموت أقصاني عنك وحكم علينا بفراق الأبد.
وإني أطلعتك على كل شيء حين اجتيازنا الجبل، ولكني أخبرتك عن مقابلتي مع الدوقة دي فنسترنج وهي على فراش الموت، واعلم الآن بقية حديث هذه الدوقة:
إنها أعطتني قبل وفاتها أوراقا مالية أودعتها باسمك عند وكيل أعمالك، وقالت: إن الولد الذي سلبني إياه الدوق دي فنسترنج هو ابن زوجك المركيز أرمان دي مورفر، فأقسمي لي باسم هذا المركيز الذي أحببناه كلانا وبكيناه أنك تفعلين كل ما أطلبه إليك.
فلما أقسمت لها قالت لي: إني بعت جميع ما لدي، وحولت ثروتي إلى هذه الأوراق المالية التي أعطيتك إياها، وهذه الأوراق تبلغ قيمتها ثلاثة ملايين فرنك، وهي لابني، فأسألك أن تبحثي عنه فإذا وجدته فادفعي إليه هذا المال، وإذا وثقت من موته فإن هذه الأموال ترجع إليك، وتكون ملكا حلالا لك ولابنك من بعدك.
إذن فاعلم يا بني بأنك رأيت كما رأيت أنا ذلك اللص الذي عهد بتربيته إلى مينوس وهو ابن الدوقة وابن أبيك، فمتى فتحت كتابي هذا فابحث عنه جهدك وادفع إليه هذه الأموال، وإذا وثقت من موته فاحفظ الأموال لنفسك.
هذا هو الكتاب الذي كتبته المركيزة قبل وفاتها، فلما اطلع عليه المركيز قبله باحترام، وقال: سأصدع بأمرك يا أماه، ولكني قبل ذلك يجب أن أنتقم لأبي.
ثم وضع الكتاب في محفظة بين أوراقه، وخرج من منزله إلى منزل الدوق دي فنسترنج، فسأل البواب عنه فقال: إنه مسافر. - إلى أين؟ - لا أعلم. - متى يعود؟ - بعد شهر ... - حسنا، سأنتظر عودته.
وعاد من حيث أتى ...
وفي المساء ذهب إلى النادي وجعل يطالع الجرائد، فاستلفت نظره المقطع الآتي وهو:
تمكنت الحكومة بعد الجهد من القبض على مينوس زعيم اللصوص الشهير وجميع عصابته، فقتل بعضهم بالبنادق، وقتل الآخرون شنقا بحيث لم يبق أحد من أولئك اللصوص، واستراح الناس من شر تلك العصابات التي تعيث فسادا في جبال إسبانيا منذ 20 عاما.
فأيقن المركيز أن برديتو قد هلك مع رجال العصابة، وقال: إذن قد أصبحت تلك الملايين لي.
الفصل التاسع من كتاب الفيروزة
ولنعد الآن إلى برديتو الذي غادرناه مع روميا والدوق دي فنسترنج في فندق طولون، فإنه حينما دخل عليهما هذا الرجل الأشيب، وقال لبرديتو: أنا هو الرجل الذي تنتظره.
حاولت روميا تأدبا أن تخرج من الغرفة كي تخلي لهما المكان فمنعها الدوق، وقال لها: ابقي بيننا يا ابنتي، فإنك الفتاة التي طالما كنت أبحث عن مثلها كي تكون عونا لهذا الصديق العزيز، فاجلسي بيننا واسمعي حديثنا.
وكان يقول هذا القول بلهجة الساخر، وهو يبتسم ابتسام الأبالسة، وينظر إلى برديتو نظرات كهربته، فلم يستطع مقاومته على الرغم مما عرف به من الجسارة.
ثم جلس بجانب روميا وأخذ يدها بين يديه، وقال لها: إن جمالك فتان تستطيعين أن تغوي به كل قلب.
فاضطرب برديتو ونظر إليه نظرة وحشية، فقال: لا تقل لها مثل هذه الأقوال.
فأجابه بلهجة الساخر: لماذا يا بني؟ - لأنها إذا خانتني فلا يكون جزاؤها غير القتل. - لقد أحسنت، ولكننا لا نريد الآن البحث في هذه المواضيع. - إذن ماذا تريد؟ - لقد قلت لك: إني أنا الرجل الذي تنتظره. - ولكني لم أعلم من هذا القول من أنت. - أنا الرجل الذي عهد بك إلى مينوس منذ 30 عاما. - إذن أنت المركيز دي مورفر؟ - كلا ... - لقد حسبت أنك أبي. - كلا لم يكن لي هذا الشرف. - إذن لماذا عهدت بي إلى مينوس، وكنت تدفع نفقاتي في كل عام؟ - هذا سري. - إذا كنت تكتم عني هذا السر، فلماذا أردت أن تراني؟
فارتعش الشيخ وقال: لقد كانت تمر بي ساعات أرتاب فيها بفساد أخلاقك، فلقد كنت أقتفي آثارك منذ ولدت إلى اليوم، وعلمت من نفسك فوق ما تعلمه منها إلى أن بلغت العشرين من سنيك، وصرت من مشاهير اللصوص والسفاكين حتى أوشكت أن تقتل أخاك. - إذن أنت تعرف أني ابن المركيز دي مورفر؟ - دون شك. - أي أخو ذلك الفتى الذي يشبهني كل الشبه؟ - هي الحقيقة بعينها ...
فقال له برديتو بلهجة وحشية ارتعش لها الدوق: إني إذن لم أقتله فليس الذنب ذنبي، ولولا مينوس لما كان الآن في عداد الأحياء. - أكنت تكرهه إلى هذا الحد؟! - بل وددت لو شربت من دمه. - ألا تزال تكرهه إلى الآن؟ - لا أزال على كرهه ما دام بين جنبي قلب ينبض. - ولكن هذا الفتى لم يسئ إليك بشيء. - إني رأيته مرة فأثار الحقد في نفسي عليه، والبغض مثل الحب؛ قد يكون من أول نظرة. - إذن لو علمت أن هذا الفتى قد اختلس ثروتك، فماذا كنت تصنع؟ - هو سرقني؟! - دون شك، وقد اختلس منك ثروة عظيمة تقدر بالملايين.
ففتح برديتو سترته فظهر من تحته قبضة خنجر هائل، وقال: إني إذا التقيت به أغمدت هذا الخنجر في قلبه.
فابتسم الدوق وقال: إني لا أمنعك عن قتله غير أن الوقت لم يحن بعد. - ماذا تريد بهذا القول؟ - أريد أنك محتاج الآن إلى إتمام تربيتك . - كيف ذلك؟ - لأن طعنة الخنجر لا يقدم عليها غير العوام، فإنها تقتل الخصم بلحظة فتريحه، وما هكذا يكون الانتقام. - وكيف تريد أن أقتله؟ - أريد أن تميت المركيز دي مورفر، لكن بعد نزع طويل هائل ترتعد لذكره الفرائص. - يبدو أنك تكرهه مثلي ... - بل إن كرهي له فوق كل حد. - ولم هذا الكره؟ - لأنه ابن الرجل الذي ثلم عرضي ودنس شرفي. - إذن قد عرفت من أنت فإنك زوج أمي. - هو ما تقول ...
فنظر إليه برديتو نظرة مستطيلة، وقال: أرى أننا خلقنا لنتفق. - لأني لم أقتصد في تربيتك يا ولدي العزيز. أريد بعد أن أفسدت نفسك وجعلتك من أفظع اللصوص أن أنير فكرك وأهذب عقلك، فإنك الآن لص جاهل، وأنا أريد أن تكون ممتازا على أقرانك في كل شيء. - وبعد ذلك؟ - بعدها أخبرك بذلك الانتقام الرهيب الذي أعددته لأخيك المركيز دي مورفر.
ثم أخذ الدوق يد روميا، وقال لها: وأما أنت أيتها الحسناء، فإني أريد أن تكوني بين العالم مثال الهول، فتلقي الذعر في القلوب وتزرعين الابتسام فتجني الجثث، فإنك خير امرأة صالحة لإلقاء المفاسد والشرور، فاستعدي للسفر فإننا مسافرون غدا جميعنا. - إلى أين؟! - إننا سنطوف أوروبا، وإني قد تبنيتكما منذ اليوم فأنتما ولداي.
وفي اليوم التالي برح الدوق دي فنسترنج وبرديتو وروميا مدينة بايون إلى إيطاليا. •••
لما وصلت فاندا ومرميس إلى هذا الحد من كتاب الفيروزة توقف مرميس هنيهة عن القراءة ونظر إلى الساعة، وقال: لقد بلغت الساعة الأولى بعد الظهر، ولم يعد ميلون بعد، وأظنه باقيا في موقفه يراقب البستانية الحسناء.
وجعلت فاندا تقلب صفحات الكتاب، وتقول: إننا لم نعلم أمرا جوهريا مما طالعناه إلى الآن.
فقال لها مرميس: لقد أخطأت فإني علمت منه أمرا خطيرا، وهو أن البستانية الحسناء هي نفس روميا. - وأنا أرى رأيك. - إذن لنتم قراءة الكتاب.
قالت فاندا: أظن أن الأولى بنا أن نعلم ما فعل ميلون في مراقبته البستانية الحسناء. - إني واثق من أنه لا يزال في موقفه. - إذن عد إلى القراءة.
فأخذ مرميس الدفتر وقرأ ما يأتي:
الفصل العاشر من كتاب الفيروزة
وبينما كان الدوق دي فنسترنج مسافرا إلى إيطاليا مع برديتو وروميا، كان المركيز دي مورفر ينتظر بصبر عودة قاتل أبيه، ولكن الوقت الذي عينه الخادم لعودته انقضى دون أن يعود الدوق، ثم مضى شهر وتلاه آخر إلى أن مضى عام ولم يعد.
وكان المركيز قد أفرغ جهده في سبيل البحث عن عدوه فلم يعلم مكانه.
ثم أشيع في باريس أن هذا الدوق قد مات، ولكن هذه الإشاعة لم تثبت، فلم يعول عليها المركيز إلى أن ورد إلى باريس جريدة اسمها أوريان؛ أي الشرق، وهي جريدة عثمانية، فقرأ فيها الباريسيون ما يأتي:
خرجت الباخرة مركيز من ميناء كندا أمس مستظلة بالراية العثمانية، وثارت عاصفة شديدة أغرقتها بمن كان فيها على مسافة 10 أميال على الشاطئ.
وقد حدثت هذه الفاجعة في الليل، وكان الضباب كثيفا، فمرت بها باخرة حين غرقها، وحاولت إنقاذ ركابها فلم تستطع، فغرق جميع البحارة والركاب، وكان فيهم كثير من أهل الوجاهة والشهرة بينهم الجنرال الفرنسي الدوق دي فنسترنج، الذي كان مسافرا إلى أزمير لأسباب صحية، ولا شك أن فقد هذا الجنرال سيكون له دوي شديد في فرنسا، فقد كان من مشاهير رجال الجيش.
ولما اطلع المركيز دي مورفر على هذا النبأ تنفس الصعداء، وقال: لقد عاقبه الله عني، فالحمد لله.
وصفا باله بعد ذلك، وجعل يعيش عيشة هادئة مطمئنة وهو واسع الثروة بما خلفه له أبوه، وقد زاد ماله بثروة برديتو؛ لاعتقاده أن هذا اللص قد شنق؛ فضم ماله إلى أمواله.
وقد بدأ بالتجول والسياحة، فساح نحو أربعة أعوام في جميع أنحاء الأرض، ثم عاد إلى باريس وعاش عيشة راضية لا تكدرها الهموم، ولا تعكر صفوها الحوادث، إلى أن بلغ الثامنة والعشرين من عمره فنفذت إلى قلبه أشعة الغرام، وغيرت عيشه كل التغيير.
وحكاية غرامة أنه كان عائدا في إحدى الليالي من النادي إلى منزله، فلما وصل إلى الشانزليزيه سمع صوت امرأة تستغيث وهي في مركبة قريبة منه كان يراها على ضوء القمر، فأسرع ورأى رجلين واقفين عند بابها يحاولان إرغام المرأة على النزول منها.
وكان السائق قد أركن إلى الفرار؛ لأنهما تهدداه بالقتل، وكانت المرأة تصيح مستغيثة منهما وقد ملأ الخوف قلبها.
ولم يكن لدى المركيز من السلاح غير عصا في داخلها حربة، فجردها من غمدها وهجم بها على الرجلين، فدافعا في البدء وطعنه أحدهما بخنجر فخدش كتفه خدشا صغيرا، ثم تركاه مع المرأة وهربا.
فلما أمن المركيز كيدهما أقبل على هذه المرأة، فرآها تضطرب اضطرابا عظيما، وقد بللت دموعها ثيابها.
وكانت صبية بارعة في الجمال، وقد زادها الخوف والبكاء جمالا، فقالت له بصوت حنون: أشكرك يا سيدي ألف شكر، فقد أنقذتني من مخالب الموت، ولولاك لما أبقى علي هذان الرجلان. - ماذا كانا يبغيان منك يا سيدتي؟ ألعلهما يريدان سرقة ما عليك من الحلي؟!
فهزت رأسها وقالت: كلا؛ فإن أحدهما زوجي، والثاني أخي. - لا بأس عليك، إني سأتولى حمايتك، فهلمي معي نذهب سيرا على الأقدام، فإن سائق المركبة سيعود إليها.
فامتثلت وتأبطت ذراعه فسار وإياها.
أما هذه المرأة فإنها ابنة تاجر في أنفرس، وقد تزوجت جوهريا هولانديا، فسلب الزوج مهرها بعد أن عاملها أسوأ معاملة، ثم تخلى عنها.
وكان لها أخ طلبت إليه أن يحميها فجاءها إلى باريس؛ لأن زوجها كان فيها، وكانت لا تزال تحبه، فاعتقدت أن أخاها سيصلح بينهما.
غير أن أخاها كان فاسد الأخلاق فاتفق مع زوجها على قتلها لاتهامها بالخيانة، ودس لها السم في الطعام فلم تمت إلى أن لقيها هذه الليلة في الشانزليزيه، فجاهر بقصده وحاول قتلها، وكاد يقتلها لو لم ينقذها المركيز.
هذه هي حكايتها التي قصتها عليه فصدقها، ورأى أنه لم يعد له بد من حمايتها فعرضها عليها، فقبلتها شاكرة وأتت معه إلى منزله.
الفصل الحادي عشر من كتاب الفيروزة
وأحبها المركيز حبا عظيما وأحبته، فاستأجر لها منزلا معتزلا، وجعل يزورها فيه وولدت منه غلاما، ولم يكن يكدر صفوهما مكدر.
وقد مضى على عهد حبهما عام لم يلق الحبيبان فيه غير الغبطة والنعيم. إلى أن جاءها ليلة ورآها واجفة جازعة، وقرأ بين عينيها صورة الرعب الشديد، فقال: ما بالك أيتها الحبيبة وما أصابك؟! - لقد خفت يا غوستاف خوفا شديدا هذه الليلة، فإني رأيت رجلين يدوران حول المنزل وينظران إليه نظرات منكرة، فما شككت أنهما يريدان قتلي. - إن ذلك محال فإنك لا تخرجين من هذا المنزل المعتزل، ولا سبيل لهما إليك، وبعد أفلست أنا جنبك ومن يجسر أن يمد إليك يدا؟ - إنهما إذا رأياني يغتنمان الفرصة ويقتلاني دون إشفاق، وأنا أحبك يا غوستاف حبا لا يحيط به وصف كاتب، ولكني بت ميالة إلى الهرب.
فارتعش وقال: لماذا؟ - لأن لي سرا خفيا أحب أن يبقى طي الكتمان. - إني أقسم لك بشرفي أني لا أسألك عن سرك، ولا أسعى أقل سعي للوقوف عليه. - وأنا واثقة من قولك، ولكني أرجوك أن تنقذني، فلست آمنة على نفسي في هذا المنزل. - ممن تخشين؟ أمن زوجك؟! - لقد خدعتك أيها الحبيب قبل أن أحبك فليس لي زوج. - إذن تخشين من الذي كان يحبك؟ - لم يكن لي عشيق، وقد أقسمت لي أنك لا تسألني عن سري. - وإنني أجدد القسم. - إذن، إذا كنت تحبني فأنقذني.
وكانت تقول هذا القول وأسنانها تصطك من الخوف، فارتعش المركيز، وقال لها: ولكن ممن تريدين أن أنقذك؟ - لا أستطيع أن أقول ... - أتريدين أن أبقى معك في الليل والنهار فلا أفارقك لحظة؟ - كلا بل يجب أن أسافر من هنا، وأن تخبئني في مكان خفي خارج باريس.
وكان المركيز يحبها حبا شديدا ولا يطيق بعادها، فاتفقا على أن يموها على الخدم بأنهما قد انفصلا، فتسافر هي إلى بلجيكا فتقيم فيها أسبوعا، ثم تعود متنكرة، فيطردان الخدم بعد أن يذيعوا أن العاشقين قد انفصلا وأن العشيقة قد سافرت، وتعود إلى المنزل بزي جديد، ويعينان خدما جددا فيعتقد الذين تخشاهم ويزول عنها الخطر.
وفي الحال تظاهرا أمام الخدم بالانفصال، فأعطاها أمامهم مائة ألف فرنك تمويها عليهم أنه أرضاها بهذا المبلغ من المال، ثم ركبت القطار في الليلة نفسها وسافرت إلى بلجيكا.
وبعد أسبوع عادت إلى المنزل نفسه وهي متنكرة بزي الإنكليزيات، وأحضرت معها خادمين إنكليزيين، وعاد المركيز معها إلى عيشهما السابق وهو يحسب أن كل خطر قد زال.
وقد احترم المركيز يمينه، فلم يسألها شيئا عن أسرار حياتها، وغاية ما كان يعلمه عنها أنها تدعى جوليا وأنها لا عائلة لها، وأن اللذين كانا يريدان قتلها لم يكونا زوجها وأخاها.
ولكن جوليا على ما كانت فيه من الأمن كانت تخشى دائما هذين الرجلين، وتقول: إنهما إذا عثرا علي فلا بد لهما من قتلي.
وكان المركيز يأتي ممتطيا جواده، فاتفق أنها بينما كانت ليلة بانتظاره في النافذة سمعت صفيرا فهلع قلبها، ثم رأت شبحا أسود ظهر في الحديقة على أثر الصفير، فتراجعت خائفة إلى الغرفة وأيقنت بوقوع المصاب.
أما هذا الشبح الذي رأته جوليا فقد كان يدنو من النافذة، وهو شبح رجل معتدل القامة خفيف الحركات، فإنه حين وصل إلى النافذة وثب إليها كما يثب النمر، وولج منها إلى تلك الغرفة التي كانت فيها جوليا بين حية وميتة لما تولاها من الرعب.
وكان رعبها شديدا حتى إنها لم تفطن إلى دق الجرس ومناداة الخدم به، وعقد لسانها فلم تستطع أن تستغيث، ولكنها ركعت أمام الرجل الذي كان يتهددها، وقالت: رحماك لا تقتلني.
أما الرجل فقد كان مشهرا خنجرا بيده، فنظر إليها نظرة هائلة، وقال لها: أبحث عنك أيتها الخائنة منذ عام.
فجعلت تستجير به وتقول: رحماك لا تقتلني. - كيف لا أقتلك أيتها الخائنة وقد هزأت بنا ونكثت بعهودك؟! - إني لم أجسر على تنفيذ أوامركم. - لماذا؟
فنهضت بعد أن كانت جاثية، ورجعت إلى الوراء وقد عادت إليها جسارتها، فقالت: اقتلني كما تشاء، فإني أوثر الموت على أن أكون آلة لتنفيذ أغراضكم السافلة. - ولكن لماذا لا تجسري على تنفيذها؟ - لأني أحبه.
فزأر هذا الرجل زئير الوحوش الضارية، وقال: أنت تحبينه؟ - وسأحبه ما بقيت في قيد الحياة.
فبرق الخنجر بيده وهوى عليها، وكاد يطعن أحشاءها بخنجره، ولكنه صاح فجأة صيحة دهش وتوقف عن قتلها؛ إذ رأى بقربها مهد طفل، فأن أنين الموجع وقال: لقد عرفت السبب الآن ...
وكأنما جوليا أدركت قصده فأسرعت إلى طفلها، وحومت حول مهده كأنها تريد أن تحميه.
وكان هذا الرجل برديتو تلميذ مينوس، وشقيق المركيز دي مورفر، فقال: لقد علمت السبب الآن، وسيكون هذا الطفل الذي حملك على خيانتنا رهينة عندنا إلى أن تعودي إلى الوفاء.
وكان الخنجر قد سقط من يد برديتو حين انذهاله لرؤية الطفل، فلما علمت جوليا قصده التقطت الخنجر عن الأرض، ووقفت بين برديتو وطفلها، وهي تقول: ادن منه الآن إذا استطعت.
فضحك برديتو ضحك الساخر، وقال: إني أستطيع قتلك متى شئت، ولكني أحب أن أحادثك قبل استعمال القسوة، فقد أصبحت أما كما يظهر. - إنك ترى ولدي الذي أدافع عنه. - وأنت تحبين مورفر؟ - أعظم حب. - أهكذا تبرين بقسمك، وبمثل هذه الخيانة يكون وفاء الوعود؟ - لا أنكر أني وعدتكم أن أكون آلة بيدكم لتنفيذ أغراضكم، ولكني ما حسبت قلبي يهوى المركيز. - أظن أن هذه هي المرة الأولى التي عرف قلبك فيها الغرام.
فأطرقت جوليا هنيهة، ثم رفعت رأسها وقالت: إني لا أعلم ما كنت فيه حين ساقتني الأقدار إليكم ورمتني بين أيديكم، ولا أنكر أني كنت فتاة سافلة لا أتردد في الاتفاق مع أمثالكم على ارتكاب كل منكر، فأقمت مع المركيز ثمانية أيام وأنا عازمة على تنفيذ مقاصدكم ثم ... - ثم أحببته أليس كذلك؟ - نعم أحببته وأحبه وسأحبه إلى آخر ساعة من حياتي. - ستحبينه كما تشائين، ولكن لا بد لك من الامتثال لنا. - هذا محال. - ولكني أراه سهلا ميسورا، أليس هذا ابنك الذي أراه؟ - إذا كنت تجسر على الدنو منه فافعل.
فهز برديتو كتفه إشارة إلى الاحتقار، وقال: دافعي بخنجرك ما تشائين، فإننا إذا لم نأخذ ابنك اليوم أخذناه غدا، وهو يكرهك على الخضوع لنا متى بات في أيدينا.
قال هذا وتقدم منها خطوة، فوقفت جوليا في موقف الدفاع، فقال لها: أجيبي أتخضعين لنا؟ - كلا. - لم يبق علي لوم، فقد حذرتك.
ثم انقض عليها انقضاض الصاعقة غير مكترث لخنجرها ، فجعلت تصيح وتستغيث وتضربه بخنجرها بيد مضطربة، وجرحته بذراعه وكتفه جراحا أسالت دمه على ثيابه، فهاج برديتو لمنظر الدماء، وحمل عليها حملة منكرة وهي تصيح وتطعنه حتى قبض على وسطها وألقاها إلى الأرض.
وعند ذلك سمع وقع خطوات الخدم وقد أسرعوا منذعرين لصياح مولاتهم جردها من خنجرها، وأغمده في صدرها، وهو يقول: إنك لا تبوحين بشيء على الأقل.
ثم أسرع إلى النافذة فهوى منها إلى الحديقة، وتوارى عن الأنظار.
أما الخدم فقد جاءوا بعد فوات الأوان، فلم يستطيعوا القبض على القاتل، ووجدوا سيدتهم غارقة بدمائها ويداها ممدودتان إلى مهد طفلها، كأنها تحاول أن تحميه حتى بعد الموت.
الفصل الثاني عشر من كتاب الفيروزة
بينما كانت خادمة غرفة جوليا تحاول إنهاضها، وثب أحد الخدم من النافذة في أثر القاتل وجعل يستغيث، ولكن المنزل كان معتزلا فلم يسمع صياحه أحد وكان برديتو قد احتجب.
أما جوليا فإنها كانت لا تزال حية، فلما سمعت صياح الخادم قالت لخادمتها: ناديه لا فائدة من صياحه.
وكان الدم ينصب غزيرا من جرحها، فتمكنت الخادمة من إنهاضها، فأجلستها على كرسي وقالت لأحد الخدم: أسرع وائتنا بطبيب.
فأوقفته جوليا وقالت: إن جرحي قاتل لا تنفع فيه حيلة الأطباء، فأقفلوا النوافذ والأبواب وأصغوا إلي.
وكان الطفل نائما في مهده نوم الملائكة، فقالت جوليا: إني قد أعيش ساعة بعد، فاجتهدوا أن تسدوا الجرح بما يمنع سيل الدماء.
فأخذت الخادمة منديلها وضمدت جرحها، فنظرت جوليا نظرة حنو إلى طفلها، وقالت لمن حولها من الخدم: احرصوا عليه كل الحرص إلى أن يعود المركيز دي مورفر، ولا تفارقوه لحظة حتى يأتي.
وكان صوتها يخفت، وبدأت قوتها تتلاشى، فنظرت إلى الخادمة، وقالت لها: إنك تجدين في عنقي مفتاحا صغيرا، وهو مفتاح صندوق صغير في غرفتي، فإذا مت انزعيه من عنقي وأعطيه للمركيز، وقولي له: إنك تجد في الصندوق إيضاح السر.
وكان هذا آخر ما قالته، فتلاشت قواها وتجمعت حياتها في عينيها التي كانت تنظر بهما طفلها النائم، ثم أطفئ نظرها وأطبقت عيناها، فأدركتها الوفاة وعادت تلك الروح إلى مبدئها.
وجعل كل من أولئك الخدم ينظر إلى رفيقه نظرات تدل على الرعب، وكانوا حديثي العهد بخدمتها، فلم يتعلقوا بها بعاطفة الإخلاص، غير أنهم كانوا شاعرين بثقل وطأة تبعة هذه الحادثة عليهم، فجعلوا يتساءلون عما يجب أن يصنعوه.
فقالوا: إن سيدتنا أوصتنا بالحرص على الطفل، وهو ما يدل على أن الطفل معرض للخطر. وإذا بقينا بقربه، ألا نتعرض نحن أيضا لهذا الخطر؟
فاعترضتهم الخادمة وقالت: لقد وعدنا هذه السيدة القتيلة أن نحمي طفلها، وأن لا نبرح هذه الغرفة حتى يأتي المركيز.
فخجل الخدم حين رأوا تحمسها، وحملوا القتيلة إلى سريرها، وعادوا إلى الغرفة التي كان فيها الطفل، فلم يطل انتظارهم حتى سمعوا وقع حوافر جواد؛ فأيقنوا أنه جواد المركيز.
ودخل المركيز إلى ذلك المنزل وهو يتوقع أن يرى جوليا في الدار، فلم ير أحدا.
وكان الخدم حين حملوها إلى غرفتها مروا بها من الدار، فسالت دماؤها عليها، ولم يكن هناك نور، فشعر المركيز أن قدميه تدوسان فوق مادة سائلة، فأخذ علبة الكبريت من جيبه وأشعل عودا من عيدانها، فرأى الدم وصاح صيحة منكرة وجعل ينادي جوليا فلم يجبه أحد.
فأسرع عند ذلك إلى غرفتها، وفتح بابها بيد تضطرب، فوجد شمعتين منارتين حول سريرها، ورأى حبيبته مسجاة على السرير ميتة لا حراك فيها، فأيقن أن أحد هذين الرجلين الخفيين قتلها، فتهدد السماء بقبضته، وأقسم على الانتقام من قاتلها، وكانت ساعة يأس هائلة.
ثم جاءه الخدم وأخبروه بما كان، وأعطته الخادمة مفتاح الصندوق، فأمر الخدم أن ينصرفوا إلى غرفهم، وأخذ الصندوق ففتحه وأخرج منه كتابا مختوما مكتوبا على غلافه هذا العنوان:
إن هذا الكتاب إلى غوستاف دي مورفر الذي طالما أحببته بعد وفاتي، ولا يحق له فتحه ما زلت في قيد الحياة.
وجلس المركيز على كرسي بجانب سرير القتيل، وفض الكتاب، وقرأ فيه ما يأتي:
حبيبي غوستاف
كنت كل ليلة حين تفارقني أخاف أن لا يكون بعد الفراق لقاء، فينقبض صدري ويستولي علي رعب شديد.
إني محكوم علي بالقتل، أيها الحبيب ، وإنما هم يريدون قتلي؛ لأني عصيتهم فيك.
ألم تسمع بتلك الجمعيات السرية، التي كانوا يدعونها في العصور الوسطى بجمعيات القضاة الأحرار؟!
إن قوانين هذه الجمعيات كانت تقضي بإعدام كل من لا ينفذ أوامرها، إذا ما عينته لقتل عدو لها.
وأنا أصبت بهذا الحكم؛ لأنهم أمروني بقتلك، ولكنهم لم يريدوا أن تموت موتا سريعا، بل موتا بطيئا سريا فعصيتهم، وكنت أقسمت لهم على تنفيذ أوامرهم فنكثت بهذه اليمين.
وبدلا من أن أقضي عليك ذلك القضاء الهائل أحببتك وعبدتك، وكان قلبي يحدثني أني سأموت من أجلك وفي سبيل هواك.
ولقد خدعتك يا غوستاف شهرا كاملا وكذبت عليك؛ لأني لم أكن تلك المرأة المسكينة التي يضطهدها زوجها وأخوها كما قلت لك؛ لأن ما حدث يوم لقيتني في الشانزليزيه لم يكن غير فخ نصبناه لك.
ويا ليتك لم تمر تلك الليلة في تلك الساعة، ويا ليتني لم أرك، فمن يراك ولا يهواك وأنت على ما عرفتك به من النبل والجمال؟
إني كنت من شر خلق الله نفسا وأدبا، فلما أحببتك طهرت نفسي من آثامها، وتمثل لي ذلك الإثم الفظيع الذي عهد إلي تنفيذه بأقبح الصور، فأنفت من الجرائم كأني لم أرتكبها في حياتي.
ولو علمت ماضي سيرتي وكيف اتصلت بأولئك الذين استخدموني؛ لقتلك العجب مما طرأ علي من الانقلاب.
وهذه خلاصة سيرتي فاسمعها: إني في جميع ما رويته لك من الأكاذيب لم أكن صادقة، إلا فيما رويته لك عن أصلي، فإني بلجيكية وقد ولدت حقيقة في بروكسل.
وبدء سيرتي أن أحد الألمان اختطفني وأنا في السادسة عشرة من عمري، وكان يحبني حب جنون، فأنفق علي أموالا كادت تذهب بثروة أهله.
وكان في مقتبل الشباب، فلما رأى أهله ما فعل بسببي فصلوه عني، وحبسوني في أحد السجون عامين.
ثم خرجت من السجن، فعدت إلى بلدي فقيرة معدمة، ولم يكن لي أهل ولا أصدقاء، فنزعت منازع الفساد وسرت أقبح السير، فبدأ سواد تاريخي منذ ذلك العهد.
ثم برحت بروكسل إلى باريس، وبرحت باريس إلى هولاندا مع رجل كان يعيش عيشة السعة، ويدعو نفسه الكونت بت، وحقيقة أمره أنه كان رجلا يهوديا من فينيسيا برع براعة عظيمة في سلب باعة المجوهرات.
وكان لديه عصابة منظمة لا تخالف أمره، فتسير معه إلى عواصم أوروبا، ويرتكبون فيها أقبح المنكرات.
وقد كنت خليلة هذا الرجل، ولكني كنت أجهل جرائمه، وأحسب أنه حقيقة من الأشراف، فكان يحسب الناس أنني امرأة له.
فاتفق أننا كنا مرة في لاهاي، فذاع خبر سرقة محل من أعظم محلات باعة الألماس.
ولم يكن في سبيل إلى الظن بالكونت بت؛ لاتصاله بالعائلات الكبرى ورفعة منزلته، ولكن أحد رجال عصابته خانه، إذ لم ينل ما يستحقه من الغنيمة، فهرب من هولاندا بعد أن ترك كتابا لرئيس البوليس يخبره فيها بتفاصيل السرقة.
وفي اليوم التالي كبس البوليس المنزل الذي كنا فيه، فوجد المجوهرات المسروقة، وقبض على هذا الكونت الكاذب وعلى من معه، فحاولت إثبات براءتي ولكنهم لم يصغوا إلي، وبعد التحقيق علموا أن هذا الكونت يهودي من لصوص فينيسيا وأني شقية من بنات الهوى.
وقد صدر الحكم علي وعليه بالسجن وبالكي في الكتف إشارة إلى جرائمنا، إنما كان الحكم علي شديدا لا يحتمل، فقد كان منه أنه بعد أن يكوى كتفي بتلك الإشارة الخاصة بالمجرمين، أنفى إلى إحدى المستعمرات، وأزوج على الكره مني بأحد المجرمين المنفيين، وهو حكم هائل لو وجدت سبيلا للانتحار حين صدوره لفعلت.
والعادة في هولاندا أن تسفير المجرمين إلى المنفى يجري مرة كل ثلاثة أشهر، وقبل السفر بليلة يحضرون آلة الكي إلى السجن، فيحمونها بالنار ويكوون المجرم الذي يريدون تسفيره أمام المسجونين.
فأقمت في ذلك السجن أحد عشر أسبوعا أنتظر ذلك العقاب الهائل في سجن فسد هواؤه، وقل الطعام فيه، فكنت في أسوأ حالة من القنوط، غير أن رفيقاتي في ذلك السجن المظلم، كن يقضين النهار والليل ضاحكات لاعبات، يترنمن بالأغاني والأناشيد، كأنهن في حفلة طرب، بل كن يتغزلن بأولئك الأزواج الذين سيتزوجن بهم في المنفى، كأنهن سائرات إلى نعيم.
أما أنا فكنت إذا تمثلت يد الجلاد يكوي كتفي، وما سألاقيه في المنفى، يجمد الدم في عروقي من الرعب.
وفيما أنا على هذه الحال أرسلت إلي الأقدار شيطانة بصورة إنسان، فعرضت علي إنقاذي من السجن على أن أعدها بقتل رجل أعرفه.
ولما وصل المركيز إلى هذا المقطع من الكتاب خيل له أنه سمع وقع خطى في الحديقة، فقام إلى النافذة وأطل منها، فلم ير أحدا فحسب نفسه واهما لاضطرابه، وعاد إلى الكتاب يتم تلاوته فقرأ ما يأتي:
إن هذه المرأة التي اقترحت علي هذا الاقتراح كانت تلقب المصرية، وهي في الثانية والعشرين من عمرها بارعة الجمال، وكانت مسجونة مثلي ومحكوما عليها كما كان محكوما علي. إنما لم يعلم أحد منا نوع جريمتها التي سيقت من أجلها إلى السجن.
ولما جاء مأمور السجن، وأبلغنا أن موعد كي أكتافنا غدا، شعرت بخوف هائل، وتمكن مني الذعر فجعلت أبكي بكاء شديدا وأعض كفي من اليأس.
فدنت مني تلك التي يلقبونها بالمصرية، وقالت لي وهي تبتسم: يظهر أنك خائفة. - كيف لا أخاف وموعد تنفيذ العقاب غدا؟!
فتمعنت بي هنيهة ثم قالت لي: إنك بارعة في الجمال، ولا بد أن تكوني فتنت كثيرا من القلوب.
فأجبتها: ولكني سيقضى علي غدا، ولا أحسب أني أحيى إلى تنفيذ العقاب. - بماذا تكافئينني إذا أنقذتك من السجن؟ - أهبك حياتي وأسفك من أجلك دمائي بشرط أن لا يمسني الجلاد، وأن لا ينفوني إلى مستعمراتهم فيزوجوني بأحد اللصوص.
فنظرت إلي نظرة طويلة ثم قالت: ألديك سر مقدس تقسمين به فلا تنكثين؟ - ليس لدي أقدس من تذكار أمي التي توفيت حين ولدتني. - أتريدين النجاة؟ - لا أريد سواها، ولكن من عساه ينقذني؟! - أنا!
فنظرت إليها نظرة انذهال، ثم غلب علي الشك بأمرها، وحسبتها تهزأ بي. فعدت إلى البكاء وقلت لها: ولكنك سجينة مثلي فكيف تستطيعين إنقاذي؟ - إني أنقذك وأنقذ نفسي.
وقد قالت لي هذا القول بلهجة تبينت منها الجد فأجبتها: إذن اشترطي علي ما تشائين. إني أرضى بما تقترحين. - أتقسمين على الوفاء؟
ورفعت يدي وحاولت أن أقسم، فأوقفتني وقالت: لا تقسمي الآن إذ يجب أن تعلمي قبل القسم ما أريده منك. - تكلمي إني مصغية إليك. - لي عشيق يهواني ويغار علي غيرة شديدة، حتى إنه ليقتلني إذا نظرت إلى سواه، وأنا أهواه كما يهواني. غير أن له عدوا شديدا نغص عيشنا وقد أقسمنا على قتله.
ولكن طريقة الموت التي أعدها له لا تتم إلا على يد امرأة تحمله على الوقوع في شرك هواها وهي ميتة بطيئة هائلة.
وقد عرضت نفسي لهذه المهمة، فرفض طلبي باحتقار وقال لي: إنه إذا لمس يدك فإني أقتلك قبله.
وإنما رفض طلبي لشدة غيرته علي وشغفه بي، فهل تريدين أن تكوني تلك المرأة التي نطلبها؟
فارتعشت لهذا الاقتراح، وقلت: ما هذه الجريمة التي تعرضينها علي؟ إنها عظيمة هائلة؟
فقالت لي ببرود: إذا أبيت الامتثال لنا إني أجد كثيرات يقبلن بشرطي بين هؤلاء السجينات، وإني أمهلك ساعة فاختاري بين ما تعده لك الحكومة من العقاب وبين ما أعده لك من النجاة.
فاضطربت ونازعت نفسي إلى أن تمثل لي ذلك الجلاد بناره، فذعرت وهانت لدي الجرائم.
وبعد ساعة عادت تلك المرأة وقالت: إن الصباح أوشك أن ينجلي، وقرب وقت مجيء الجلاد، فوافقيني على النجاة قبل فوات الأوان.
فتغلب الرعب على عواطفي، وقلت: إني أرضى بما تريدين.
ثم أقسمت لها على الوفاء والخضوع مدة سنتين لها ولعاشقها وشيخ هو صديق العشاق، فقالت لي: إذن قري بالا، فستخرجين من هذا السجن بعد ساعة.
فانذهلت وقلت: كيف يكون خروجنا؟ - إنه سهل ميسور، فإننا رشونا السجان بالمال الجزيل، وسوف ترين أننا نخرج منه دون أن يعترضنا أحد كما يخرج المرء من منزله.
وقد وفت بوعدها فإنها غادرتني هنيهة، ثم عادت إلي وقالت: أسرعي فقد حان موعد قدوم الجلاد.
فاضطربت لذكر هذا الاسم، وخرجت معها متأبطة ذراعها إلى ردهة السجن، فلم يعترضها أحد، ثم دنونا من السجان وأنا لا أصدق بالنجاة، ورأيت السجان قد غض نظره كأنه لا يرانا.
فخرجنا وقد بدأت أشعة الصباح تنجلي، وركبنا مركبة وانطلقنا بها إلى الميناء ، وركبنا قاربا صغيرا وسرنا به إلى سفينة شراعية كبيرة كانت متأهبة للمسير، فاستقبلنا فيها عاشق تلك المرأة، وسارت بنا السفينة إلى فرنسا فبلغناها بعد ثمانية أيام.
وبعد شهر عزم أولئك الأشقياء على قتلك قتلا فظيعا، لا يخطر في بال الأبالسة.
أتريد أيها الحبيب أن تعرف كيف كانت طريقة هذا القتل الهائل؟ إذن فاسمع. •••
وكانت الصفحة قد انتهت عندما وصل بالقراءة إلى هذا الحد، وبينما هو يقلب الصفحة التي بعدها ليقف على حقيقة هذا السر الرهيب سقط فجأة على قفاه.
وذاك أن الشمعتين أطفئتا، وسمع دوي غدارة، وشعر بمادة مائية أصابت وجهه. فسقط على الأرض طائش الرشد، وأفلت كتاب جوليا من يده.
وعند ذلك دخل رجل من النافذة المفتوحة، فأسرع إلى المركيز والتقط الكتاب، ثم عاد مسرعا من حيث أتى قبل أن يثوب المركيز إلى رشده ويتمكن من النهوض.
أما ما أصاب المركيز فقد كان مؤلما وغريبا في حين واحد، ووجه الغرابة فيه أنه سقط على الأرض بقوة غير منظورة إلا أنه لم يرها، وأما كونه مؤلما فإنه شعر أن جميع جسمه كأنه قد احترق بمياه غالية، وأحس بمادة أكالة قد دخلت في عينيه.
وقد أصيب بألم شديد، حتى إنه بقي عدة دقائق ضائع الرشد، لا يعي على شيء، ولم يستفق من إغمائه إلا بعد ربع ساعة، فشعر باختناق، وشم رائحة في هواء الغرفة تهيج القيء.
وكان أول ما فعله أنه أسرع إلى النافذة وهي لا تزال مفتوحة، فاستنشق الهواء النقي، وعاد إليه صوابه، فافتكر بما حدث له، وأيقن أن ذلك من نتائج مادة أطلقت عليه ففعلت هذه الفعال.
وحاول أن يدنو من المستوقد ليقرع الجرس، فلم يستطع لملاشاة قواه؛ ولأن هذه الرائحة المقيتة قد زادت فلم يجد بدا من الالتجاء إلى النافذة التماسا للهواء النقي.
وكانت الغرفة المقيم فيها مشرفة على الحديقة، والخدم يبيتون في غرفة لهم في تلك الحديقة، فنادى أحدهم بصوت أبح فأجابه، فقال له: اصعد إلي حالا بمصباح فلا نور عندي.
فأنار الخادم مصباحا ، وصعد به إلى مولاه، ولكنه ما خطا خطوة في تلك الغرفة حتى حدثت أعجوبة أخرى، ارتعدت لها فرائص المركيز والخادم.
ذلك أنه حدث انفجار عظيم والتهبت النار تلك الغرفة فجأة، كأنما كانت مملوءة من الغاز، فعلقت النار بشعر الخادم وملابسه، فترك المصباح وهرب منذعرا، وهو يصيح صياح الألم لا يلوي على شيء.
ثم علقت النار بعده بالمركيز دي مورفر، لكنه لما رأى أن الغرفة بجملتها قد التهبت وأنها أصبحت كانون، أسرع وألقى بنفسه من النافذة إلى الحديقة، فوصل إليها سالما وأطفأ ما علق بثيابه من النار.
لكنه على ما أصابه من هذه الكوارث الفجائية لم يفقد رشده، ففكر بطفله وركض إلى الغرفة التي كان نائما فيها، فوجده في مهده ورأى الخادمة جالسة بقربه وهي لا تعلم ما حدث.
فأخذه من مهده وخرج به فتبعته الخادمة، ولو تغافل عنه هنيهة لذهب فريسة النار.
وامتد اللهيب بسرعة من غرفة إلى غرفة حتى التهم المنزل بجملته، وباتت تلك القتيلة المسكينة كتلة رماد. •••
وقد مضى زمن طويل على تلك الحادثة الهائلة التي خفي سرها على المركيز إلى أن ذهب عنه تأثيرها وراق باله، فذكر أنه قرأ مرة في إحدى الصحف الهولاندية عن اختراع علم من سر ذلك الحريق.
وهذا الاختراع هو أن أحد علماء هولندا اكتشف طريقة لصيد الطيور بالبنادق، دون أن تقتل أو تجرح أو تصيب بأذى.
وذلك أنه يحشو البنادق بالبارود حسب العادة المعروفة، ثم إنه بدلا من أن يضع فوق هذا البارود قطعا من الورق والقماش حسب المعتاد، يضع قطعة من الشمع تسد مخرج البارود سدا محكما، ويملأ أنبوبة البندقية من الماء، ثم يسد فم الأنبوبة بقطعة أخرى من الشمع، فتمنع القطعة الأولى اتصال البارود بالماء، وتمنع القطعة الثانية خروج الماء من أنبوبة البندقية، قبل إطلاقها.
ثم يخرج بعد ذلك إلى الصيد، فإذا رأى طائرا أراد صيده وحفظه سالما، صوب عليه البندقية وأطلقها، فينفجر البارود ويطرد بقوته المياه. فتخرج شبه إعصار وتسقط على الطائر، فتضيع رشده، وتبل أجنحته فلا يستطيع الطيران ويسقط على الأرض ؛ فيأخذه الصياد حيا بفضل هذه الحيلة الغريبة. •••
فلما ذكر المركيز دي مورفر هذا الاختراع، أيقن أنهم أطلقوا عليه بندقية حسب الطريقة نفسها، ولكنهم بدلا من أن يضعوا فيها ماء وضعوا مادة غازية، فلما أطلقوها انتشر الغاز بالغرفة، ثم دخل الخادم بالمصباح فالتهب.
غير أن هذه الحيلة لم تخطر له في تلك الليلة لشدة ما أصابه من الاضطراب، فلم يكن يعي على شيء.
ولقد تقدم لنا القول إن هذا المنزل الذي كان يقيم فيه المركيز مع جوليا كان معتزلا في شارع مقفر، فلما أنقذ الطفل من الحريق خرج به إلى الحديقة، وتطلع إلى المنزل ورأى أن النار قد علقت بجميع جوانبه، ولم يجد سبيلا لإطفائها، فهرع مع الخدم إلى الخارج وجعلوا يصيحون ويستغيثون، فأسرع الناس لنجدتهم.
ولكن النار كانت قد التهمت المنزل بجملته، وجعلت تأكل نفسها إذ لم تجد ما تأكله.
أما جثة جوليا فقد ذهبت طعمة للنار، كأنما الأقدار أرادت كتمان سر مقتلها الذريع، وعاد المركيز دي مورفر إلى منزله في باريس، وقد أخذ منه الاضطراب كل مأخذ.
ثم أطلق سراح الخادمين الإنكليزيين والخادمة الذين كانوا في خدمة جوليا، بعد أن أنعم عليهم بالمال الجزيل، وسألهم كتمان سر مقتل سيدتهم.
قالت الفيروزة: وفي اليوم التالي عهد المركيز بطفله إلى مرضع، فعنيت بهذا الطفل دون أن تقف على سره الهائل، الذي لا يزال إلى الآن من الألغاز الخفية.
الفصل الثالث عشر من كتاب الفيروزة
إني أكتب هذا الكتاب لك يا روكامبول؛ لأنك موضع ثقتي، وأنت رجائي الوحيد.
إنك علمت ماضي حياتي حين كنا ننغمس سوية في حمأة الجرائم والآثام، وحين كنت وإياك آلة لتنفيذ أغراض أندريا السافلة.
وأنت تذكر دون شك تلك الضربة الهائلة التي ضربتنا إياها باكارا، فكانت السبب في توبتنا الصادقة.
وأما أنا فإني جننت بعد تلك الضربة الشديدة، فنقلوني إلى مستشفى المجانين، وأقمت فيه خمسة أيام.
ثم قدر لي الشفاء فخرجت تائبة مستغفرة، ألتمس عفو الله عن ذنوبي السابقة، وأرتزق بالعمل الشريف، وإن تلك الحسناء التي كانوا يلقبونها بالفيروزة، والتي لعبت بفرناند روشي وليون رولاند، والتي كانت تجرح خطرات النسيم خديها، ويدمي الحرير بنانها، باتت عاملة فقيرة تشتغل الليل والنهار، فتعيش من كسب يديها، وتنفق ما زاد عنها على الفقراء لإيثارها عيشة الصلاح على عيشة الفجور.
إن ما لقيته من المتاعب والمشاق لم يؤثر على جمالي، فكنت أبذل كل جهد كي أحجب هذا الجمال، فلا أتأنق بملبس ولا أحفل بزينة، ولكن كل ذلك لم يمنع ازدحام العشاق، فكانت رسائلهم ترد إلي من كل صوب، فلم أكترث لأحد منهم لاعتقادي أن قلبي ماتت فيه عواطف العشق.
وكان بجوار منزلي أرملة تناهز الأربعين، وعندها غلام في الثانية أو الرابعة من سنيه، فاستحكمت أواصر الصداقة بيننا، وكنت أحسب في البدء أن الغلام ولدها، ولكنها أخبرتني أنه ليس ولدها، وأنها لا تعرف اسمه ولا أهله؛ لأن رجلا عهد به إليها، وعين لها نفقته مائة فرنك في الشهر، فكانت تعيش وإياه من هذه النفقة.
وكان يجيئها في الأسبوع رجل شاب، يرتدي بملابس العمال، فيتفقد الغلام.
وقد قال لهذه الأرملة: إني لست والد الطفل، لكن أهله عهدوا إلي بمراقبته والاعتناء بأمره، وهم من غير هذه البلاد.
وكنت أزور جارتي في كل يوم، فاتفق مرات كثيرة أني رأيت عندها ذلك الرجل، فكنت أتمعن به وأتفرس في وجهه، فلا أرى هيئته توافق ملابسه الرثة، وعلمت من يديه الناعمتين أنه من أهل الترف، وليس من أهل المهن في شيء، وإنما كان متنكرا بأزياء العمال لغرض من الأغراض خفي علي في ذلك الحين.
وكان صبوح الوجه، جميل الطلعة، رشيق القوام، حلو الحديث، ولا يتسع المقام الآن لتفاصيل الحب، فأقتصر على القول: إني شعرت بعد ستة شهور أني جذبت إليه، وأن قلبي تنبهت فيه تلك العواطف القديمة فأحببت هذا الرجل، وهو المركيز دي مورفر.
وكان المركيز قد أسف أسفا شديدا على جوليا وبكاها زمنا طويلا، ثم دملت الأيام جرحه وتحول حنانه إلى غلامه، وبقي مفكرا مهموما؛ لأنه كان يخشى على الغلام من الذين قتلوا أمه، ولهذا كان يتنكر بملابس العمال حين يتفقده كي لا ينبه إليه أنظار أولئك الأعداء الذين لم يعرفهم فلا يعرفون مكان الطفل.
وبعد عام كنت أراه في خلاله معظم الأيام، فقد ماتت تلك الأرملة وعهد بغلامه إلي، فعشت معه وأحبني حبا شديدا، وباح لي بجميع تلك الأسرار التي بقيت خفية، ولو لم ينتزعوا منه كتاب جوليا لزال الخفاء عن كل هذه الغوامض.
وكان كلما كبر الولد ونما يزيد قلق المركيز عليه، ويكثر اهتمامه بمستقبله، وقد قال لي يوما: أصغي إلي، إن الذين قتلوا أمه هم أعدائي، وذلك لا ريب فيه عندي.
غير أني لا أعرف هؤلاء الأعداء، فإني أعرف أنه كان لي عدوان لدودان وهما: الدوق دي فنسترنج وبرديتو وكلا الاثنين ماتا، فإن أحدهما مات غريقا، والآخر أعدم شنقا، فلا بد إذن أن يكونوا غير هذين العدوين، وقد يكون أعدائي محيطين بي وأنا لا أعلم إذ لا أعرف لي عدوا غير هذين.
وإن لي ثروة عظيمة ولست بمتزوج، فإذا مت فجأة أو قتلت دون أن أكتب وصيتي يرث هذه الثروة الطائلة أقارب بعيدون عني يتسمون باسم عائلتي لكني لا أعرف منهم أحدا.
ولذلك اتخذت الاحتياطات اللازمة حتى إذا مت فجأة لا يصبح ولدي من غير مال.
فقلت له: ماذا فعلت؟ - إني أخذت ثروة الدوقة دي فنسترنج، وأضفت إليها كل ما لدي من المال، بحيث لم أبق غير ما عندي من المنازل والأراضي.
وقد بلغ هذا المال الذي جمعته أربعة ملايين فرنك، وكله أوراق مالية فخبأته في مكان لا يستطيع أحد أن يدري به إلا أنا وأنت، وإني أحب أن أدلك على المكان كي تدفعي بالمال لولدي إذا أصبت بمكروه.
وكانت الساعة العاشرة حين كان يقول لي هذا القول، وكان الغلام نائما فقال لي: هلمي معي إلى منزلي في الشانزليزيه فقد خبأت المال فيه.
وكان عندي خادمة شديدة الإخلاص فعهدت إليها بالطفل، وسرت مع المركيز فركبنا مركبة وذهبنا إلى منزله في الشانزليزيه.
الفصل الرابع عشر من كتاب الفيروزة
وكان للمركيز قصر في ذلك الشارع له باب خاص في شارع سيرسنس لا يدخل منه سواه ويكتنفه حديقة متسعة الأرجاء.
فدخل بي المركيز من الباب الخاص، واجتاز بي الحديقة ثم دخلنا إلى المنزل، ولم يكن فيه أحد، فسر المركيز وقال: يسرني أن لا يراك أحد عندي كي لا ينتبه أحد إلى ولدي.
ثم دخل بي إلى غرفة متسعة، فأنار شمعة كانت على المستوقد، وقال لي: يوجد في هذه الغرفة 4 ملايين فرنك أتعلمين أين هي؟ - أين لي أن أعلم؟ ألعلها في هذه الخزانة؟ - كلا. - أفي هذا الدرج؟ - كلا، ولكن تقضين العمر باحثة على هذا المال في هذه الغرفة دون أن تهتدي إلى مكانه.
ثم أشار بيده إلى إناءين من الأواني التي توضع فيها الأغراض المنزلية، وقال لي: إن المال في أحد هذين الإناءين فابحثي عنه. - في أيهما؟ - لا أعلم، إن الخدم يغيرون مواضعهما في كل يوم.
فدنوت من أحدهما ورفعت منه صندوق الصفيح الذي توضع فيه الأزهار فلم أر تحته شيئا.
ابتسم وقال لي: ابحثي علك تجدين.
حسبت أنه يوجد أيضا صندوق سري، فمددت يدي وجعلت أبحث راجية أن أظفر بلولب سري فلم أظفر بشيء.
وكان بجانب الإناء عمودان من الخشب ملتصقان به بالظاهر، فدنا المركيز من أحد العمودين، فضغط على زر يشبه طابع المسمار، فانفصل العمود عن الإناء، فأخذه المركيز وقال لي: إن هذا العمود مثقوب من الداخل، وقد خبأت فيه المال فانظري ...
ثم ضغط على زر آخر في العمود، ففتح غطاء الثقب، فمد يده وأخرج لفافة من الأوراق المالية قيمتها 4 ملايين فرنك، وبعد ذلك ردها إلى موضعها، وأرجع العمود إلى جانب الإناء فالتصق به كما كان.
فقلت له: لقد أجدت غاية الإجادة باختيار هذا المكان لتخبئة المال؛ إذ لا يخطر هذا الموضع لأحد في بال، ولكننا لنفرض أنك مت ذلك الموت الفجائي الذي تخشاه ألا يبدءون بوضع الأختام على منزلك؟! - دون شك. - ألا يستولي ورثاؤك على ما فيه، فكيف أنال هذين الإناءين؟ - لقد أخطأت، إني توقعت كل شيء، وذلك أني كتبت وصيتي، فأوصيت بجميع أملاكي وأطياني لعائلتي التي تسمى باسمي، ولكني وهبت كثيرا من أصدقائي هدايا مختلفة مثال ذلك: أني وهبت مكتبتي للفيكونت مونتيجرون، ومجموعة أسلحتي للبارون هبنسون، ووهبتك أنت هاتين الآنيتين باسم حنة دلاكور الملقبة بالفيروزة، فمتى اطلع ورثائي على هذه الوصية يقنعون بأموالي، ويسلمون هذه الهدايا لأصحابها، فتأخذين الإناءين وفي إحداهما المال. - لقد علمت الآن، وقاك الله ما تخشاه ولا أصابك مكروه.
ومر على ذلك العهد عدة شهور، وكان الولد يشب وينمو والمركيز يهدأ ويطمئن، إلى أن ورد إليه ذات يوم كتاب من لندرا اضطربت له حواسه، فدفعه إلي بعد تلاوته، وقرأت ما يأتي:
بينما المركيز دي مورفر يتنعم بملذاته آمنا مطمئنا في باريس، وهو يعتقد أنه ليس عليه واجب يقضيه، نجد عدوه الهائل وعدو كل أسرته يهزأ به وهو مقيم في إنكلترا على أتم الهناء والغبطة.
إن المركيز دي مورفر حسب أن الدوق دي فنسترنج قد مات وأكلته أسماك البحار، ولكنه أخطأ في زعمه فإن هذا الدوق لا يزال حيا يرزق، وقد أوهم المركيز دي مورفر أنه مات كي ينجو من انتقامه.
فإذا كان المركيز دي مورفر لم ينس اليمين التي أقسمها لأمه قبل موته، وإذا كان لا يزال راغبا في الانتقام لأبيه، فليبرح باريس في الحال وليسرع إلى لندرا، فإذا وصل إليها فليذهب توا إلى خمارة الملك جورج في ناحية وينغ، وليقل لصاحب هذه الخمارة واسمه كالكراف: أنا ذلك الذي كتب إليه أن يحضر وهو يخبره عند ذلك أين يقيم الدوق دي فنسترنج وكيف يجده.
وكان هذا الكتاب دون توقيع، فلما قرأت ما فيه حدثني قلبي أن هذا الكتاب فخ نصب للمركيز، وقلت له: إياك أن تذهب إلى لندرا.
انذهل لكلامي وقال: لماذا؟! - لأني أخاف أن يكون الكتاب مكيدة.
لم يكترث لكلامي، وقال: إذا كان الدوق حيا كما يقولون في هذا الكتاب لا بد لي من الانتقام لأبي.
وقد بكيت كثيرا وتوسلت إليه أن لا يسافر فلم يجد البكاء، ولم ينفع التوسل وسافر في الليلة نفسها.
وفي اليوم التالي وردني منه هذه الرسالة :
الكتاب زور وكالكراف لم يفهم شيئا مما قلت له، ولم يسمع في عمره اسم الدوق دي فنسترنج، سأعود في هذه الليلة وأكون غدا في باريس.
ولكنه لم يعد في اليوم التالي كما قال، وتوالت الأيام وكنت أعد ساعاتها دون أن يعود.
وبعد ثمانية أيام بينما كنت مسترسلة إلى عوامل اليأس إذ دخل علي المركيز، فصحت صيحة لم تكن صيحة فرح لعودته، بل صيحة ذعر لرؤياه؛ فإني وجدته قد نحل حتى بات كأنه خيال نفسه.
الفصل الخامس عشر من كتاب الفيروزة
ولقد قلت: إن مورفر قد نحل وبات خيالا، وهي حقيقة لا مجاز فيها، فإن لون وجهه كان يشبه الأموات، وإذا مشى يسقط لضعفه ولا تستقر قدماه، وقد شخص بصره واسترخت شفتاه.
ولما رأيته على هذه الحالة ذعرت ذعرا شديدا، وقلت: بالله قل لي ما دهاك؟
ولكنه لم يجبني بل ذهب إلى الغرفة الثانية التي كان فيها ولده.
وكان الغلام نائما فدنا منه، وجعل ينظر إليه ويتأمل وجهه دون أن يفوه بكلمة، كأنه كان يلتمس من النظر إلى ولده قوة تعينه على الكلام.
وبعد حين عاد إلي وعيناه مغرورقتان بالدموع فمد يده لمصافحتي وقال: اغفري لي. - عن أي شيء تريد أن أغفر لك؟
فارتعش المركيز وقال: لا أعلم ...
ثم ابتسم ابتسام الأبله، وعاد فقال: لا أعلم ... إني مجنون ... لا تسأليني عن شيء الآن ... أخبرك بكل شيء.
ولم تعد ساقاه تحملانه، فسقط على كرسي واهي القوى.
وأقام في منزلي مدة شهر لم يخرج منه، وكان ذلك في زمن صيف، ومعظم أصحابه برحوا باريس للاصطياف، فلم ينتبه أحد لاحتجابه، وكان الناس يعتقدون أنه لا يزال في باريس.
وبعد شهر عاد إليه هداه، وعادت معه العافية فزالت آثار البلاهة والجنون، وانطلق لسانه بالكلام فقال لي يوما: أتعلمين أيتها الحبيبة أني كنت في عداد المجانين؟
فنظرت إليه ولم أجسر على سؤاله. - نعم إني كنت مجنونا، وكان جنوني من الغرام حتى نسيتك ونسيت ولدي، بل إني نسيت نفسي ولم أذكر اسمي.
والآن فقد زال والحمد لله ما كنت أشكوه على أني لا أزال أعتقد أن هذه المرأة ليست من البشر، ولا شك أنها من الأبالسة فقد سحرتني.
فاضطربت لكلامه ورأى مني دلائل الاضطراب، وقال: اطمئني أيتها الحبيبة فسأخبرك بكل شيء كي تعلمي أن جنوني قد زال وعاد إلي الصواب، وهذه خلاصة ما رواه من قصتها:
إنه سافر إلى لندرا من باريس في الساعة الثامنة مساء، فبلغ إليها في الساعة الخامسة من الصباح، واستراح هنيهة وأكل، ثم ركب مركبة وأمر الساق أن يذهب إلى وينغ.
وقد ذهل السائق حين رأى رجلا تدل ملابسه وملامحه أنه من الأعيان، يحاول الذهاب إلى تلك الناحية التي لا يذهب إليها غير الرعاع، وقد زاد انذهاله حين أمره المركيز أن يذهب به إلى خمارة الملك جورج؛ لأن هذه الخمارة كانت مشهورة لدى الخواص والعوام، لا ينتابها غير اللصوص وكبار المجرمين.
غير أنه لم يسعه إلا الامتثال، فأوصله إلى باب تلك الخمارة، ودفع له المركيز أجرته وأطلق سراحه.
ودخل المركيز إلى الخمارة، فذهب توا إلى صاحبها كالكراف (الذي تقدم ذكره في الروايات السابقة) فقال له: أأنت كالكراف صاحب هذه الخمارة؟ - نعم ياسيدي. - إذن أنا هو الرجل الذي تنتظره ...
وقد قال له نفس العبارة التي قرأها في الرسالة الواردة إليه.
أما كالكراف ظهر منه الاندهاش، وقال له: إني لا أنتظر أحدا يا سيدي.
فأخذ المركيز الرسالة من جيبه وأطلعه عليها.
فزاد اندهاشه، وقال: إنه لا يعلم شيئا من هذا الحديث. - ولكن ألا تعرف الدوق دي فنسترنج؟! - هذه أول مرة يا سيدي سمعت فيها هذا الاسم.
وكان يتكلم بلهجة تدل على الصدق لم تدع أقل مجال للشك بصدقه.
وعاد المركيز إلى الفندق الذي كان نازلا فيه، وأرسل إلي ذلك التلغراف الذي ذكرته من قبل.
وأقام في غرفته بقية يومه إلى أن حان موعد السفر، وذهب إلى المحطة كي يعود إلى باريس فوجد القطار قد سافر فاضطر للانتظار إلى الصباح.
وعاد إلى الفندق، وقال في نفسه: لا ريب أن هذا الدوق لا يزال حيا، وقد أجده في خمارة الملك جورج، فإن الرجل الذي كتب لي هذا الكتاب قد يكون أراد أن يخبر كالكراف بما كتبه لي، ثم حال حائل دون قصد، إذ لا يعقل أن يكتبوا لي مثل هذا الكتاب كي أحضر فلا أجد أحدا، ولا شك أن كاتب هذا الكتاب عارف بجميع أمري، ولا بد إذن أن يكون في الأمر سر سأكتشفه في الخمارة.
وكان يعلم أنه لا بد له من التنكر إذا أراد الذهاب إلى تلك الخمارة، فإن من يذهب إليها من كرام الناس في الليل كان الخطر عليه شديدا، وذهب إلى بائع ملابس فاشترى بدلة بحار قديم، ثم خلع ملابسه ولبسها، وبعد ساعة كان في تلك الخمارة الهائلة.
ولما وصل إليها وجدها غاصة بالشاربين، ورأى من فظاعة أولئك السكارى وروائح شرابهم ما هاله، ولكنه صبر راجيا أن يقف على شيء من أمر الدوق، فجلس على مائدة وطلب من الخادم أن يأتيه بكأس من الشراب.
الفصل السادس عشر من كتاب الفيروزة
وكان المركيز لا يرى شيئا من حوله حين دخوله؛ لكثرة دخان التبغ المتكاثف في تلك الخمارة.
ولكن نظره لم يلبث أن ألف ذلك الدخان، فجعل ينظر إلى زبائن الخمارة، فلم يجد بينهم غير بحارة ولصوص ومومسات، وكلهم يشربون ويضحكون، فلم ينتبه أحد منهم إليه؛ لأنه كان متنكرا بملابسهم حتى إن صاحب الخمارة نفسه تظاهر أنه انخدع بتنكره فلم يلتفت إليه.
وكان بين النساء فتاة أرلندية شقراء الشعر ذات جمال فضاح استلفتت إليها جميع العيون.
وكانت تغني غناء بدويا بصوت رخيم، فيصفق لها الحضور تصفيقا عظيما لافتتانهم بها وبصوتها، والمركيز ينظر إليها مع الناظرين دون أن يفهم كلمة من أناشيدها.
وكان يتطلع إليها ويشعر باضطراب كأنما عيناها قد سحرتاه وجذبتا فؤاده بمغناطيسهما.
وكانت ظواهر الفتاة تدل على أنها متسولة، وأنها تغني في تلك الخمارة للارتزاق، فكانت لا تنقطع عن الغناء إلا لشرب كأس يقدمه لها أحد المفتونين بها، فتنظر إليهم نظرات تدل على عدم الاكتراث حتى إذا رأت المركيز نظرت إليه نظرة خاصة، كأنما قد راق في عينيها فتكهرب جسمه لهذه النظرات.
ثم تعود إلى الغناء فإذا أنشدت نغما حنونا شفعته إلى المركيز، فكان يغض من طرفه كأنه لا يطيق احتمال تلك التطلعات.
وطال غناؤها وتواترت تطلعاتها واشتد اضطراب المركيز، حتى إنه حاول الفرار لخوفه من عواقب جمالها الفتان، فتحفز للقيام، وكأنما أدركت قصده فنظرت إليه نظرة تشف عن غنج ودلال، فلم يطق الوقوف وعاد إلى الجلوس حيث كان.
وتابعت الإرلندية غناءها، ورأى المركيز أن يقتدي بالحاضرين، فطلب كأسا ثانية من الشراب فجاءه الخادم بما طلب، وأشعل له سيكارة دون أن ينتبه المركيز إلى نظرة سرية تبودلت بين الإرلندية وبين الخادم.
ولما جعل يدخن بها أحس أن تبغها أشد مما كان تعوده، فلم يبال وجعل ينظر إلى الفتاة بشوق وإعجاب.
ثم أحس بانحطاط عام في جسمه كان يتزايد بالتدريج، كأنما هذا الانحطاط قد تولاه من تأثير عينيها، أو من مخدر وضع في شرابه أو في النار التي أشعل منها سيكارته.
ولم يطل به العهد على هذه الحالة حتى أحس بطنين في أذنيه وتثاقل جفناه، فبذل جهدا عظيما كي يتمكن من فتح عينيه، ولكنهما أطبقتا وغلبه النعاس، فسقط ذراعاه على المائدة ونام، وتابعت الفتاة غناءها، وحسبه الحاضرون قد سكر، ولم يكترث به أحد.
غير أن نومه لم يكن نوما طبيعيا، فإن عينيه كانتا مقفلتين ولم يكن يستطيع حراكا، ولكنه كان يسمع كل حديث يدور حوله، ويفقه كل معانيه في حالة صحو تام.
ثم انقطعت الإرلندية عن الغناء، وأعلن كالكراف لزبائنه أن الليل قد انتصف، فأمر بإطفاء المصابيح، وانصرف الزبائن واحدا بعد واحد، وأحس المركيز أنه بات وحده في هذه الخمارة، وحاول جهده كي يتمكن من الحركة وفتح عينيه فلم يستطع، وكان كالنائم أصيب بكابوس.
ثم سمع كالكراف يقول: لندعه نائما.
فقال له الخدم: أليس الأولى بنا أن نلقيه خارج الخمارة؟
ثم سمع صوتا يقول: كلا فإني سآخذه أنا.
فارتعش المركيز إذ علم أن هذا الصوت صوت الإرلندية.
ثم أحس أن يدا قوية أوقفته، وسمع الإرلندية تقول: إني أعطيك مائة جنيه إذا أوصلته إلى شاطئ التاميز حيث تنتظرني مركبتي.
فبذل المركيز كل ما أمكنه من الجهد كي يستفيق، فلم يستطع وقال في نفسه: إني حالم لا شك وإلا فكيف تكون هذه المتسولة على ما رأيتها من الفقر، ثم تهب مئات الدنانير ويكون لها مركبة، ولا ريب أني حالم مصاب بكابوس، وعند ذلك أحس أنه محمول على كتف كالكراف، وأنه خرج من الخمارة فاستنشق الهواء النقي.
الفصل السابع عشر من كتاب الفيروزة
وكان المركيز على هذه الحال، وهو لا يدري إذا كان حالما أو مخدرا.
وأحس أن كالكراف وقف، وسمع الإرلندية تقول: قد وصلنا.
فوضعه في المركبة التي كانت تنتظر عند شاطئ التاميز، وكان سمعه قد رق وانجلى وانصرفت إليه قوى حواسه بجملتها، وكان يسمع كل شيء وهو نائم نوم الأموات لا يستطيع حراكا.
وسمع صوت السائق يقول: أين تريد أن تذهب ميلادي؟
فأجابته الإرلندية: إلى القصر.
فانطلقت المركبة تنهب الأرض بجيادها المطهمة.
أما المركيز فقد كان انذهاله عظيما من هذه الحادثة الغريبة، فإنه رأى هذه الإرلندية في أشد حالة من الفقر، ثم رآها تهب صاحب الخمارة مائة جنيه، ثم رآها تركب مركبة فيدعوها السائق ميلادي، وهو لقب النبيلات، فكيف هذا التناقض؟ وما كان غرضها بالتنكر؟ وأي شأن لها في اختطافه؟
كل هذه الغرائب أشكلت عليه وشغلته حتى إنه تمنى لو خسر كل ماله وتمكن من فتح عينيه.
ولكن التخدير كان بالغا منه أقصى حدوده، وظلت المركبة تسير نحو عشر دقائق فوقفت وسمع المركيز أن بابها قد فتح، وأحس أن شخصا وقف بباب المركبة، ودار بينه وبين الإرلندية الحديث الآتي: قال الرجل: ماذا فعلت؟ - هذا هو فقد أتيت به. - ألعلك خدرته؟ - دون شك فانظر إليه. - نعم هو بعينه.
فقال المركيز في نفسه: أذكر أني سمعت هذا الصوت، ولكني لا أذكر أين ومتى.
وعاد الرجل إلى الحديث، فقال: لو تعلمين مقدار غيرتي لما أقدمت على اختطافه. - ما هذه الحماقة؟ - ليس ما أقوله حماقة، فإني موقن أنه سيهواك. - ربما ... - وأنت؟
فأجابته الإرلندية ضاحكة ضحك الساخر من قوله، ثم سكتت هنيهة وقالت: يجب علي قضاء هذه المهمة التي لا يقدم على قضائها أحد.
فأن الرجل أنين الموجع، وقال: إنما لا تنسي أنك إذا نقضت عهودك أقتلك شر قتل ...
فضحكت أيضا وقالت: إني لا أخافك.
وعند ذلك أطبق باب المركبة فعادت إلى سيرها.
فزاد اضطراب المركيز ازدياد الإشكال، وشدة تعقد هذا اللغز؛ إذ لم يذكر هذا الرجل الذي كلمها، ولم يعلم ما يريد ولم يدرك ما قصده من هذا التهديد.
وكان المركيز شجاع القلب غير أنه أحس بخوف شديد في تلك الساعة فذكرني وذكر ولده.
وظلت المركبة تسير حتى وقفت عند باب، فأحس أن الباب قد فتح، وأن رجلين أقبلا إليه فأخرجاه من المركبة وحملاه، فصعدا به سلما حتى انتهيا إلى قاعة مفروشة بالطنافس، فوضعاه على مقعد فيها وخرجا بأمر الإرلندية.
وعند ذلك سمع الإرلندية تعزف على البيانو، وتغني ذلك الغناء البدوي نفسه الذي كانت تغنيه في خمارة الملك جورج.
وبعد حين أحس المركيز أن حواسه بدأت تعود، وكان أول ما عاد إليه حاسة الشم، فشم رائحة عطرية وجد بها لذة خاصة غريبة. •••
وهنا توقف مرميس عن القراءة وقال: لقد عرفت هذه الرائحة.
فقالت له فاندا: كيف ذلك؟ - عرفتها حين كنت في أسر البستانية الحسناء، فإنها تنتج عن ضباب كثيف تخرج منه هذه الرائحة العطرية المسكرة، ولا شك عندي الآن أن هذه الإرلندية المتسولة هي نفس تلك المرأة التي يراقبها ميلون؛ أي البستانية الحسناء بعينها.
فقالت له فاندا: ربما صح قولك فأتم القراءة لنرى.
فعاد مرميس إلى القراءة، وتلا ما يأتي:
الفصل الثامن عشر من كتاب الفيروزة
وكان الدخان يتصاعد في تلك القاعة التي كان فيها المركيز ويتكاثف فيحيط به، ويملأ خياشيمه ورئتيه، فيرد إليه الحياة ويشفيه تباعا من ذلك التخدير.
وبعد أن عادت إليه حاسة الشم عادت إليه حاسة النظر، ففتح عينيه ورأى ضبابا كثيفا رطبا شفافا، فكان يرى من خلاله جميع موجودات تلك القاعة.
وقد رأى أنه في قاعة بديعة مفروشة بأثمن الأثاث الشرقي، ورأى مصباحين جميلين موضوعين فوق المستوقد.
وكانت الإرلندية لا تزال جالسة على البيانو تعزف عليها تلك الألحان البدوية، ولكن المركيز كان نائما على مقعد وراءها، فلم ير وجهها، وجعل يقول في نفسه: أيمكن أن تكون هذه المرأة تلك الإرلندية التي لقيتها في خمارة الملك جورج؟!
إني سمعت صوتها وأناشيدها، فهي ذات الأناشيد التي سمعتها في خمارة الملك جورج.
والصوت نفس صوتها الرخيم، ولكن ما هذا الثوب الذي تلبسه، وما هذا الجلال الذي تبدو فيه؟ وما هذه القاعة التي أنا فيها؟!
ثم قال بصوت مرتفع وقد أشكل عليه حل هذه الألغاز: ولكن أين أنا؟!
فسمعت الفتاة صوته وانقطعت عن الغناء، ثم التفتت إليه فصاح صيحة دهش عظيمة وقال: هي ... هي!
وقد رأى تلك المرأة التي خلبت لبه، لكنه لم يجدها تلك الإرلندية ذات الثياب الخلقة الرثة، بل رآها بمظهر السيدات العظيمات، وقد لبست ثوبا من الحرير الأبيض يشف عن معصمين كالمرمر وصدر كالعاج، وهي تبتسم ابتساما يفتن النساك، فلم يتمالك عن الدهشة وترديد ذكر تلك المحاسن.
كان الدخان قد تكاثف وأحس برائحة عطرية تنبعث منه فتخدر دماغه، وحدث له نشوة الشاربين.
أما الإرلندية فإنها أقبلت إليه بتيه ودلال، فمدت له يدها المترفة الناعمة وقالت: السلام على المركيز.
فارتعش المركيز حين لمست يده كأنه قد مس آلة الكهربة، فوثب عن المقعد وركع أمامها وقبل يديها، وجعل ينظر إليها نظرة هيام ويقول لها: ما أبدع هذا الجمال!
فابتسمت له وقالت: لقد سمعت من غيرك هذا القول.
ثم أخذت كرسيا فأدنتها منه، وجلست بقربه فقالت له: ربما ظننت أنك حالم، ولكنك في أتم اليقظة، فإنك نمت في خمارة كالكراف واستفقت عندي. - إني لم أكن نائما يا سيدتي. - هو ما تقول فإنك كنت تسمع مدة رقادك كل ما كان يقال حواليك، وقد ذهلت حين علمت أن هذه الإرلندية الفقيرة تهب المئات ولها قصور ومركبات. - هو ذلك، ولكني لا أفهم شيئا من جميع الألغاز.
ثم جعل ينظر إليها نظرات دهش وحيرة تشير إلى أن كل ما يجري حواليه هو فوق عقول البشر.
فابتسمت له وقالت: ألم تقرأ قصة ألف ليلة وليلة؟ - نعم. - إذن افترض أني السلطانة شهرزاد، وأنك بدلا من أن تقرأ حكاية مكتوبة ترى حكاية ممثلة. ولا تسألني كيف عرفت اسمك وكيف جئت بك إلى هنا؛ فإن جهدك يذهب سدى. - إن جمالك الفتان يشغلني عن كل سؤال. - إذن أنا جميلة في عينيك؟ - بل أنت حورية هربت من السماء. - ألا تخشى أن أكون من الأبالسة؟ - كوني كما تشائين، فأنت أجمل من تقع عليه العيون.
وكان الضباب لا يزال يتكاثف، وسكر المركيز يتزايد، فوضعت يدها بين يديه، وقالت له: أحبك ... نعم أحبك منذ عهد بعيد، وأنت لا تدري.
فانذهل المركيز وقال: أنت تحبينني؟ - نعم أحبك حبا ليس بعده حب. - ولكني لم أرك مرة قبل اليوم. - لقد أخطأت أيها الحبيب فقد رأيتني في إسبانيا.
فانكشف للمركيز في الحال حجاب الماضي، وتمثلت تلك الإرلندية لعينيه فتاة صغيرة، فذكر تلك النورية التي رآها في عصابة مينوس مع برديتو حين كان ذاهبا مع أمه إلى قاديس.
وكأنما تلك الفتاة عرفت من عينيه فكره، فقالت له: أرى من عينيك أنك قد عرفتني، فإنني روميا النورية خليلة برديتو، ولكن برديتو كان أخاك، وكان يشبهك كل الشبه، وهو قد مات وأنا أحبك. أعلمت الآن؟
ثم طوقت عنقه بذراعيها وقبلته قبلة عاشق، وهي تقول: إن برديتو قد مات، ولكني أقسمت يمينا لخياله.
فقال المركيز وقد تمكن منه السكر: ما هذا القسم الذي أقسمته؟
فأجابته: أقسمت أن لا أستسلم لك إلا بعد مرور عامين على وفاته، وقد كاد ينقضي هذا الزمن، فلا أنكث بيميني إذا استرسلت في هواك.
وكان المركيز ينظر إليها نظر المفتون دون أن يجيب، فقالت: واعلم أيها الحبيب أني من بنات ذلك الشرق الذي تكثر فيه الأوهام ويتغلب الخيال على الحقيقة، فهلم نشترك معا في التدخين بهذه النرجيلة. خذ إنها ذات أنبوبتين.
ثم وضعت أحد الأنبوبتين في فمه، وقالت له: اشرب، إني أريد.
ولم يبق للمركيز إرادة لدى هذه الفتاة، فجعل يدخن فيملأ دخان الحشيش والأفيون رئتيه.
وذهبت روميا وغادرته صريع سكره في تلك الغرفة، وكان يخال له وهي بعيدة عنه، أنها معانقة له، فيقبل الهواء وهو مطبق العينين لسكره، ويعتقد أنه يقبلها ويخاطبها بأرق ألفاظ الغرام.
الفصل التاسع عشر من كتاب الفيروزة
قالت الفيروزة: إني أنا التي أخبرت المركيز عن مدة أسره في قبضة روميا، ولولاي لما عرف شيئا من هذا؛ لأن الأفيون قد أثر به تأثيرا شديدا وأضل صوابه، فكانت تمر به الساعات دون أن يشعر، وهو لا يعلم إذا كان حبه لروميا في اليقظة أم في الحلم، ولا يدري إذا كانت هذه المرأة حقيقة أم خيال، وهذا ما يحدث لكل من يشرب الأفيون.
وكان كلما صحا من سكره يعتقد اعتقادا راسخا أن روميا تحبه، ثم تعود وتسقيه من ذلك السم الزعاف فيعود إلى غيبوبة السكر.
وبقي على ذلك سبعة أيام وهو لا فرق عنده إذا حضرت أم غابت؛ لأنها كانت ممثلة له بكل مخيل، تناغيه بلفظها الحنون، وتشنف سمعه بصوتها الرخيم، وفي هذه الأيام السبعة لم يذق طعاما؛ لأن من يشرب هذا النوع من المسكرات قلما يتناول الطعام.
وكانت روميا تنزع الأنبوبة من فمه من حين إلى حين، وتطعمه حبة مصنوعة من مادة مخدرة، فلم يذكر أنه دخل إلى فمه غير هاتين الحبتين في جميع تلك المدة.
ثم انقضى هذا الحلم في صباح يوم، إذ صحا عند الفجر، فشعر ببرد شديد ورأى نفسه ملقيا على أرض كثر فيها الجليد وهو بملابس البحارة على مثل ما كان عليه في خمارة الملك جورج.
والعجيب أن اللصوص لم يسلبوه عدة نومه، وهو ما يعد عجيبا في لندرا، فقد كان في جيبه مائة جنيه ذهبا وأوراق مالية، وكان لابسا ساعة بسلسلة من الذهب فبقيت في جيبه، ولم تمد إليها يد السارقين.
غير أن المركيز لم يذكر شيئا من ذلك، فإنه بعد أن مر به سبعة أيام لا يتغذى إلا بالحشيش والأفيون أصبح معتوها أبله، فلم يذكر عند صحوه غير روميا، وبقي يناجيها وهو يعتقد أنها لا تزال وإياه.
ومر في ذلك الحين بوليس ورأى ظواهر بلاهته وسمع أقواله، فحكم عليه بالجنون، وسار به إلى دائرة البوليس فحكم البوليس بجنونه أيضا، وقرر إرساله إلى المستشفى.
غير أنه اتفق وجود طبيب في الدائرة رأى المركيز فعلم حالته وأنكر جنونه، وأثبت لرئيس البوليس أن ما أصابه كان من تأثير الأفيون، ولا حاجة إلى إرساله للمستشفى، وأنه إذا أرسل إلى منزله شفي من تلقاء نفسه بعد بضعة أيام.
فوافق الرئيس على قول الطبيب، وفتشوا جيوب المركيز علهم يجدون أوراقا تدل على اسمه، فوجدوا جواز سفره وعرفوا الفندق الذي كان مقيما فيه، فأرسل إليه وعرفه صاحب الفندق.
وفي الليلة نفسها أرسلوا معه من أوصله إلى فرنسا، فخفف السفر شيئا من اضطراب دماغه، ولما وصل إلى باريس كان لسانه قد انطلق بالكلام، فدل الرجل الذي كان يرافقه على منزلي وجاءني به وقد علمت كيف وصل.
قالت الفيروزة: والآن أيها العزيز روكامبول لم يبق لدي شيء أخبرك به سوى تتمة ما جرى للمركيز.
وذلك أنه مرت ستة أشهر فشفي المركيز أتم الشفاء وعاد إليه صوابه، بل عاد إليه زهوه القديم، ولكن خوفه على ولده كان يزيد؛ لاعتقاده أنه له أعداء يريدون قتله واختطاف ولده، فكان يزورني كل يوم ليتفقده عندي.
وكان يذهب إلى النادي، ويحضر سباق الجياد، ولا يفوته تمثيل رواية جديدة، غير أني كنت ألاحظ منه أثر انكماش في نفسه، على ما كان يبدو من ظواهر ارتياحه، فقلت له مرة: ما بالك هاجسا ألعلك لا تزال تفتكر بهذه المرأة؟!
فقاطعني وقال لي بعنف: ربما!
ثم تركني وانصرف، وفي اليوم التالي عاد وهو يبتسم، فلم أذكر له تلك المرأة بعد ذلك.
ومضى على ذلك عدة أيام. إلى أن جاءني ليلة وعليه ملامح الاضطراب الشديد، فنظرت إليه نظرة رعب وما جسرت على سؤاله، ثم رأيته انعكف على تقبيل ولده بلهف، فلم أجد بدا من سؤاله عن هذا الاضطراب، فقال لي: إني رأيتها.
فذعرت وقلت : من هي التي رأيتها؟ - روميا! وقد مرت بي مرور البرق في الشانزليزيه وهي في مركبة مقفلة، فعرفتها وهي هي بعينها.
فما جسرت على أن أجيبه، ولبثت أنظر إليه نظرات تشف عما داخل قلبي من الرعب.
ولكنه لم يكترث بي، وعاد إلى حديثه فقال: نعم هي بعينها! وقد حاولت أن أقتفي أثرها بجوادي إلى الشارع الملكي، وهناك احتجبت عن نظري ... إنها دون شك في باريس ... ولكن باريس متسعة فأين أجدها؟
فاضطربت لقوله، وقلت له: أيها التعس كيف تهتم بلقائها؟! ألعلك نسيت ما أصابك منها؟!
وكأنما عادت إليه ذكرى ذلك الجنون، فذعر وقال: كلا إني لن أراها ولا أهتم بها.
وأقام في المنزل ثلاثة أيام لم يخرج منه لحظة إلى أن قال لي: لقد شفيت الآن تماما، ولم يعد علي أقل خطر من هذه المرأة.
وكنا في ذلك الوقت في زمن الربيع فقال لي: أتريدين أن نسافر؟ - إلى أين؟ - نسوح في أوروبا أو نذهب إلى جبال سويسرا كما تشائين.
فتلقيت اقتراحه بالسرور لحذري من أن يرى تلك المرأة مرة ثانية في باريس، وقلت: أسافر معك إلى حيث تشاء. - إذن تأهبي للسفر فسنسافر غدا.
ثم تركني وانصرف إلى النادي.
وكان آخر العهد به وا أسفاه، فقد جاء الغد وتعاقبت الأيام دون أن يعود، وفي ذلك العهد شاع خبر اختفائه الغريب.
الفصل الأخير من كتاب الفيروزة
لقد سمعت يا روكامبول دون شك بخبر اختفائه، وعلمت أن البوليس بحث عن المركيز في جميع أنحاء المعمورة، فلم يهتد إلى أثره.
وسيضيع كل جهد في البحث عنه؛ إذ ليس هناك من يعلم حقيقة ما جرى له إلاي، ولكني كنت مضطرة إلى الكتمان؛ لأني كنت أقسمت يمينا محرجة للمركيز دي مورفر أن لا أذكر لأحد، ولا أتكلم عنه أمام أحد، وذلك لفرط خوفه على ولده، إذ لو علم أعداؤه علائقي معه لوجدوا الولد وما عدموا وسيلة للفتك به.
ومضى شهر على اختفائه دون أن أقنط من رجوعه.
على أني كنت واثقة من أنه في قبضة روميا، ولكني كنت مترددة بين ثلاث مسائل وهي: هل تقتله بطريقة السكر؟ وهل يحبها حبا أكيدا؟ وهل مات برديتو حقيقة؟ فلم يتيسر لي حل مسألة منها.
وكان الولد يسألني كل يوم عن أبيه، فلا أدري بماذا أجيبه.
إلى أن ورد إلي بعد عهد بعيد كتاب علمت من طابعه أنه من مرسيليا، وعلمت من خطه أنه من المركيز، ففضضته بيد ترتعش من الفزع، وقرأت ما يأتي:
أسألك العفو أيتها الحبيبة، فإن الأقدار قد عبثت بي، وبراثن روميا قد نشبت في؛ لأن تلك المرأة التي أخشاها وأعبدها قد تمكنت مني كما تشاء، وأنا لا أعلم إذا كانت ملاكا أرسل من السماء، أو شيطانا رجيما قذفته جهنم.
قد أفرغت كل جهد للإفلات من قبضتها، فما وجدت إلى ذلك سبيلا، وهي تقودني إلى حيث تشاء، ولكني لا أعلم إلى أين.
إن باخرة تنتظرنا في الميناء سنسافر عليها غدا، وقد سألتها متى نعود إلى باريس فقالت: بعد عامين.
إني تركت ولدي، وقد تمكنت من أن أكتب إليك هذا الكتاب السري خفية عن روميا؛ لأنها منعتني عن الكتابة، وإنها لا تريد أن يعلم أحد أين أنا وإذا كنت ميتا أو في قيد الحياة.
ولا بد أن تقلق الحكومة وأصحابي لاحتجابي، فإني اتخذت كل الوسائل لإخفاء آثاري.
على أن الحكومة لا تهتم بالبحث عني إلا بعد عدة أيام، لكن يجب عليك السرعة في كل حال.
إن الحكومة ستبحث عني دون أن تجدني، فيحسبونني ميتا ويضعون الأختام على منزلي، فابحثي في جيب سترتي تجدي مفتاح حديقة منزلي، فخذيه واذهبي إلى المنزل وترقبي خروج الخدم منه، فادخلي وخذي المال من إناء الزهر التي أرشدتك إليه.
وإنما أرجوك أن تسرعي بأخذ المال؛ لأني أشعر أن هذه المرأة قد ملكت فؤادي، وتملكت عواطفي ولا بد لي من أن أبوح لها بكل أسراري؛ لأنها تريد أن تقف مني على كل شيء.
أودعك وداعا قد يكون أبديا، فاندبي بختي العاثر، وأشفقي علي، وأحبي ولدي.
غوستاف
وكان هذا الكتاب يا روكامبول آخر ما وقفت عليه من أخبار المركيز، لكنه يكفي لحملي على الاعتقاد بأن المركيز لم يمت، أما هذا الكتاب الذي أرسله إلي فقد وصل إلى إدارة البريد في 2 أبريل ولم يصلني إلا في 30 يونيو، وكانت الأختام قد وضعت في خلال هذه المدة على منزل المركيز؛ فلم أتمكن من الحصول على المال.
ولم يكن عندي غير 3 آلاف فرنك وبعض المجوهرات، فعشت بها عامين مع ذلك الغلام.
وقد تمكن مني الحزن على هذا الحبيب، ويئست من لقائه، وساعد الحزن واليأس ما كنت أعانيه من شظف العيش؛ فمرضت وشعرت بدنو الأجل.
وأقمت عامين أنتظر رجوعه دون جدوى، وكنت أخاف أن يكون قد مات، ولكن صوتا سريا كان يحدثني بأن المركيز حي، غير أنه يعذب عذابا شديدا يفضل عليه الموت، وإنه لا يستطيع إنقاذه غير أنت يا روكامبول.
فإذا تمكنت يا روكامبول من الحصول على الإناءين من منزل المركيز دي مورفر فافعل؛ فإنك تضمن بذلك مستقبل الغلام، وتطمئن نفسي فتباركك من العالم الأخير.
الوداع فإني متوكلة عليك.
الفيروزة
هنا انتهى كتاب الفيروزة، ولكن يد روكامبول قد خطت عليه هذه الحاشية وهي:
إن الأختام لا ترفع عن منزل المركيز دي مورفر إلا متى ثبتت وفاته ثبوتا قضائيا.
أما ابن المركيز فهو آمن الآن شر العوز، ولا حاجة إلى التعجيل لنيل مال أبيه، ولا بأس من الصبر مدة عامين، ثم نسعى بالحصول على الإناءين.
فلما تمت قراءة ذلك الكتاب الغريب جعل مرميس ينظر إلى فاندا وهي تنظر إليه، فقالت له: إننا لم نقف على شيء مهم من هذا الكتاب. - لكنني علمت منه أمرا لم يعد لدي به ريب على الإطلاق. - ما هو؟ - هو أن روميا والبستانية الحسناء شخص واحد. - وبعد ذلك؟ - أما وقد باتت البستانية الحسناء في أيدينا، فسنكرهها على إخبارنا بما حدث للمركيز.
وبينما هو يقول هذا القول فتح الباب فجأة، ودخل منه ميلون مصفر الوجه ممزق الثياب وعليه علائم الذعر فقال: لقد أخطأت يا مرميس؛ لأن هذه المرأة لم تقع في قبضة يدك.
فذعر مرميس وقال: ماذا تقول؟ - إن الطير قد فر من القفص.
ثم جلس ميلون على كرسي وهو منهوك القوى بينما كان مرميس وفاندا ينظران إليه نظرات الانذهال.
وكانت تلاوته كتاب الفيروزة قد طالت إلى الليل في حين أن مرميس كان يسرع بغية الوقوف على النتيجة.
وكان له ثقة تامة بخضوع ميلون، فلم يخطر له في بال أن ميلون يبرح المركز الذي عينه فيه لمراقبة البستانية الحسناء.
فلم يجد مع فاندا كلمة يقولها حين رأى ميلون على هذه الحالة، وجعل كل منهما ينظر إلى الآخر.
ثم افتتح مرميس الحديث وقال له: ماذا دهاك يا ميلون؟
وكان ميلون شديد الاضطراب يتكلم ويتلعثم، فلم يفهما حكايته إلا بعد الجهد، وهذا بيان ما حدث له: يذكر القراء أنه بينما كانت البستانية الحسناء مع زوجها يتفقدان الأعمال في ذلك المنزل الذي استأجراه للمصيف كما قدمناه، دعا خادم المركبة ميلون الذي كان يسوق جيادها كما قدمناه، إلى شرب كأس من البيرة في خمارة مجاورة للمنزل.
ويذكر القراء أنه حين دخل ميلون مع الخادم إلى الخمارة، وشرب وإياه الكأس الأول أشار الخادم إشارة خفية إلى العمال الذين كانوا في الخمارة، فانقضوا على ميلون وألقوه إلى الأرض، وقيدوا يديه ورجليه بالرغم عما أظهره من الدفاع الشديد.
وكان في تلك الخمارة قبو مظلم، فأنزلوه إليه وربطوا فمه بمنديل ثم تركوه وانصرفوا، فبذل كل ما لديه من القوة للتخلص من قيوده، فلم يفلح.
على أنه تمكن من تمزيق المنديل بأسنانه، فانطلق صوته وجعل يصيح مستغيثا مستنجدا، فلم يجبه غير الصدى ولم يسمع صراخه غير الذين قيدوه لكنهم لم يقيدوه لينجدوه.
ومضى النهار كله وهو ملقى في أرض القبو، والزبد يخرج من شدقيه دون أن يجد وسيلة للخلاص.
ولما أقبل الظلام رأى نورا ينبعث من سلم القبو، ثم رأى صاحبة الخمارة قادمة إليه وفي يدها مصباح.
فلما رآها ميلون هاج ثائره، وصاح بها صيحة أرعبتها، فتراجعت عنه قليلا وقالت له: إن الصياح لا يجديك نفعا، وخير لك أن تسمعني.
فانقطع ميلون عن التهديد وسألها: ماذا تريدين؟
أجابته: إنهم هزءوا بك وأساءوا إليك، ولكني أستطيع نفعك، إذا كنت تريد.
فحملق ميلون بعينيه وقال: ألعلك تفكين قيودي؟ - ذلك منوط بك. - كيف ذلك؟ - إني يا سيدي امرأة فقيرة لا أكسب رزقي إلا بشق النفس؛ ولذلك أرضى بالكسب كيفما اتفق مهما اختلفت وجوهه، فإذا جاءني رجل وعرض علي مائتي فرنك فكيف أستطيع الرفض؟! - ألعلهم دفعوا لك المال مقابل حبسك إياي في قبو خمارتك؟ - هو ما تقول يا سيدي، ولكن كان الشرط بيننا أن أبقيك في السجن إلى أن تغيب الشمس، ثم أطلق سراحك، فأنا الآن قادمة لفك قيودك ورجائي أن لا تسيء إلي.
فاحتدم ميلون غيظا، وقال: تبا لك من شقية كيف لا تريدين أن لا أسيء إليك بعد ما بدر منك ومن أصحابك؟! - ذلك موكول إليك، فإذا كنت عازما على ضربي فإني أبقيك هنا وأعود إلى شأني.
فشعر ميلون أنه أخطأ بوعيده، وقال لها: لا بأس فكي قيودي وأنا أتعهد أن لا أسيء إليك. - لا أقنع بالتعهد بل أريد منك يمينا. - إني أقسم بالله إني لا أمد إليك يدا. - إني أثق بيمينك؛ لأني تبينت من عينيك علائم الصلاح، ولكن الحرص واجب في كل حال.
فاضطرب ميلون وقال: ما هذا الحرص؟ ألعلك رجعت عن حل قيودي؟ - كلا، ولكني سأحل قيد رجليك، ولست في حاجة إلى إطلاق يديك لتمشي.
ثم أخذت مقصا وقطعت الحبل الذي كان يوثق رجليه فوثب ميلون واقفا، أما صاحبة الخمارة فقد كان خوفها عظيما من ميلون؛ فهربت منه حذرا من أن يسحقها برجليه.
أما ميلون فلم يكترث لها، إذ كان كل اهتمامه منصرفا إلى البستانية الحسناء؛ ليعلم أين هي فصعد إلى الخمارة بسكينة، ولقي صاحبتها فيها، فقال لها: سيان عندي الآن إذا أطلقت يدي أو أبقيتهما مقيدتين، ولكني أرجوك أن تقولي لي إذا كنت تعرفين من هم هؤلاء الناس الذين أساءوا إلي هذه الإساءة. - إني لم أكن أعرف أحدا منهم أمس، وقد جاءني في صباح اليوم رجل بناء، وقال لي: أتريدين أيتها العجوز أن تكسبي 200 فرنك؟
فسألته: ما يجب أن أعمل مقابل ذلك؟
أجابني: لا شيء سوى أن تدعينا نفعل في خمارتك ما نشاء، وأن تسمحي لنا بقبو الخمارة.
فقال ميلون: ولكن السيد والسيدة اللذين كنت أسوق مركبتهما ماذا حدث لهما؟ - ألم يكونا سيديك؟! - كلا. - إني لم أعرفهما وما رأيتهما من قبل. - وهؤلاء العمال الذين قيدوني؟ - إنهم لم يشتغلوا في ذاك البيت قبل اليوم. - من هو صاحب البيت الذي يشتغلون فيه؟ - نبيل من أهل سانت جرمان. - ماذا يدعى؟ - الدوق دي فنسترنج.
فعلم ميلون أنه لا يستطيع أن يستطلع منها فوق ما علم، فقال لها بلهجة تبينت منها الصدق: إني لا أريد بك سوءا؛ لأنك كنت مكرهة على التغاضي عن هؤلاء الأشرار، وإن بجيبي 50 فرنكا فإذا حللت وثاقي أعطيتك هذا المال.
فاطمأنت العجوز لكلامه وحلت وثاق يديه، وأبت أن تأخذ المال مكتفية بما كسبته، فغادرها ميلون وأسرع إلى الشارع، وركب مركبة وسار بها إلى منزل البستانية الحسناء.
ولما وصل إليه نظر إلى نوافذه فلم يجد أثرا للنور، فطرق الباب ففتحته امرأة وقالت له: ماذا تريد؟ - أريد أن أكلم سيدة المنزل. - أنا هي يا سيدي.
ولما رأته ينكر عليها هذا القول تبسمت وقالت له: ألعلك تريد محادثة تلك الإسبانية التي كانت مستأجرة منزلي بأثاثه؟! ولكنها سافرت مع زوجها، في الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم، في القطار المسافر إلى بلجيكا.
فانصرف ميلون عنها وقد انقتم وجهه بظلمة اليأس، وعاد بمركبته إلى فاندا ومرميس حيث لقيهما على ما وصفناه.
فلما سمعت فاندا حديثه انصرف فكرها إلى روكامبول، فقالت: إنه مضى على سفره عامان وهو لم يعد إلى الآن.
فتنهد مرميس وقال: لو كان الرئيس هنا لما لقينا هذا الفشل، ولما وقعنا بهذا الإشكال.
وفيما هو يقول هذا القول طرق الباب الخارجي طرقا يدل على قدوم زائر؛ فارتعش الثلاثة كأنما قلوبهم قد اشتركت بعاطفة واحدة.
24
وسكت الثلاثة هنيهة، وكل منهم ينظر إلى الآخر نظرات تشف عن الرجاء بأن يكون القادم روكامبول، فإنهم كانوا يعتقدون، بعد أن نامت فاندا ذلك النوم المغناطيسي، أن روكامبول لا يزال حيا وقد حان موعد رجوعه.
وكان أول من تكلم معهم مرميس، فقال: ألعله الرئيس عاد إلينا؟
ثم قام مسرعا إلى الباب ففتحه ودخل ذلك الزائر، فرأى أنه لم يكن روكامبول، ولكنه كان رجلا لابسا ملابس الأوروبيين وهيئته تدل على أنه من الهنود.
وكان بيده كتاب مختوم، فانحنى أمام مرميس وحياه تحية شرقية، ثم دفع إليه الكتاب، فما أوشك أن قرأ العنوان حتى صاح صيحة دهش، إذ عرف من خطه أنه من روكامبول، وكانت فاندا وميلون قد أقبلا في أثر مرميس.
وكان الكتاب معنونا باسم فاندا ومرميس، فأخذته فاندا وأسرعت إلى فضه فقرأته، وهو كما يأتي:
أيها الرفاق
إنكم قد اطلعتم دون شك على كتاب الفيروزة، وعرفتم الآن من هي هذه المرأة التي تدعى البستانية الحسناء، وعلمتم ضرورة البحث عن المركيز دي مورفر، فابحثوا فقد دنت ساعة العمل.
إنك يا مرميس وأنت يا فاندا جديران بأن تكونا من أعواني، فاعملا يدا واحدة مع ميلون.
إن الرئيس من ورائكم وهو ساهر عليكم فلا تخافوا.
روكامبول
ولم يكن لهذا الكتاب تاريخ، ولم يكتب فيه المكان الذي صدر منه، فلم يعلموا إذا كان ورد إليهم من باريس أو من أقاصي الهند.
فنظرت فاندا إلى الهندي وقالت له بلهف: أين روكامبول؟ ألعله في باريس؟
فلم يجبها الهندي بحرف.
فهز مرميس ذراع ذلك الهندي، وقال له بصوت يتهدج: بربك قل لنا أين هو الرئيس؟
فرفع الهندي عينيه، وهز كتفيه إشارة أنه لا يفهم ما يقول.
فقال له مرميس: أتفهم اللغة الإنكليزية؟
فبرقت عين الهندي وأشار برأسه إشارة إيجاب، فقال له مرميس: أين هو روكامبول؟
فلم يجبه الهندي، ولكنه أشار إليه إشارة علم منها أنه إما أن يكون غير عارف بمقر روكامبول، أو أنه يعرف أين هو ولكنه لا يقدر أن يقول.
غير أن مرميس لم يكتف بهذه الإشارات، فقال له: ما بالك لا تجيبنا ألعلك أخرس؟
وعند ذلك فتح الهندي فمه، فذعر الثلاثة ذعرا شديدا؛ إذ رأوا هذا المنكود مقطوع اللسان.
ولما رأوا هذا المنظر الهائل قال له مرميس: من قطع لسانك؟ ألعلهم الإنكليز؟!
فأشار الهندي إشارة نفي.
فقال مرميس: أم هم الخناقون الذين شنعوا بك هذا التشنيع؟
فأشار الهندي إشارة إيجاب، ثم أشار إشارات أخرى فهم منها مرميس أن الخناقين أوشكوا أن يخنقوه، وأن نجاته منهم كانت من العجائب.
فقال له مرميس: من الذي أنقذك من مخالبهم؟
فوضع الهندي يده على كتاب روكامبول إشارة على أنه هو الذي أنقذه، فقال مرميس: والآن ألا تريد أن تقول لنا أين هو الرئيس؟
فأشار إشارة نفي، ثم رسم علامة الصليب على فمه، فعلموا أنه أقسم يمينا على الكتمان.
فقال ميلون: كفى لا تسألوه ولنحترم يمينه وإرادة الرئيس.
فقالت فاندا بيأس: كيف ذلك؟ أيكون الرئيس قريبا منا ولا نستطيع أن نراه؟!
أما الهندي فإنه انحنى أمامهم وانصرف.
فقالت فاندا: لا بد لي أن أعرف أين ذهب.
ثم دخلت مسرعة إلى غرفتها، فلبست قبعتها وخرجت في أثر الهندي لكنها لم تدركه إذ كان قد توارى عن الأنظار.
فقال لها مرميس حين عودتها: لقد أخطأت في اقتفاء آثاره؛ لأن الرئيس لم يكتب لنا إلا لأنه لا يريد أو لا يستطيع أن يرانا، فلنمتثل له ونبدأ في كشف الظلمات عن سر اختفاء المركيز دي مورفر.
والآن فإن فاندا ومرميس قد وقفا على كتاب الفيروزة، فعلما منه حقيقة أمر البستانية الحسناء واتصالها بالمركيز، إنما بقيا جاهلين ما جرى لهذا المركيز، وهو ما طالما سعى إليه البوليس وأهل باريس.
وسنتولى كشف هذا السر للقراء، فنعود بهم إلى عهد عامين من قبل؛ أي منذ خرج المركيز دي مورفر من نادي أسبرج إلى منزله، فأعطاه البواب ذلك الكتاب الذي يذكره للقراء، فاختفى بعده ذلك الاختفاء.
25
عندما تناول المركيز الكتاب من يد البواب وتمعن في عنوانه ارتعش؛ إذ رأى خطه يشبه خط ذلك الكتاب الذي ورد إليه قبل ذلك بشهرين من لندرا.
ورأى من الطابع أن الكتاب وارد من لندرا أيضا، فزاد اضطرابه وأسرع إلى فضه، فنظر إلى التوقيع فقرأ اسم روميا.
وقد اصفر وجهه حين قرأ اسم هذه المرأة، ولم ينس بعد ما أصابه منها، وقرأ الكتاب وهو كما يأتي:
حبيبي غوستاف
غدا يمر عامان على موت برديتو، فأصبح حرة، وحق لي أن أهواك.
إذا كنت لا تزال تهواني اخرج من منزلك دون أن تدع أحدا يعلم إلى أين أنت ذاهب، واذهب إلى شارع مدلين تجد في أول منعطف منه مركبة أجرة ذات جوادين: أحدهما أسود، والآخر أبيض، ونمرة المركبة 1763 اصعد إليها، وقل للسائق أن يسير بك إلى شاليون، فلا يمر بك بضع دقائق حتى تغدو بين ذراعي من تحبك إلى الموت.
روميا
وبينما كان المركيز يقرأ الكتاب كان البواب قد ذهب إلى غرفته، فلم ير اضطراب المركيز.
فلما أتم تلاوته تردد حينا وذكر الفيروزة وابنه ونازع قلبه حبهما وحب روميا، فكان الفوز لهذه الفاتنة، فنادى البواب وقال له: إني ذاهب وقد لا أعود قبل صباح غد، ثم ذهب إلى حيث دفعت به الأقدار.
وكان يمشي بخطوات سريعة مضطربة، وهو كأنه مصاب بحمى حتى وصل إلى المكان الذي عينته له روميا فوجد تلك المركبة بعينها، وعرفها من جواديها ونمرتها، فدنا من السائق وقال له: إلى شاليون.
علم السائق أنه هو الرجل المنتظر، وقال له: تفضل.
وصعد إلى المركبة فصعد المركيز، وسارت به تقطع الأرض نهبا، وكانت المركبة محكمة الأقفال، وزجاجها مدهونا بدهان أبيض منعه أن يكون شفافا بحيث لم يعلم المركيز إلى أين يذهب به السائق، غير أنه لم يكترث لشيء من ذلك لشغفه بتلك المرأة؛ ولاعتقاده أنها مكتنفة بالأسرار، وما زالت المركبة تسير حتى شعر بعد نصف ساعة أنها وقفت، ثم سمع صوت فتح باب كبير، فدخلت منه المركبة وأقفل بعد دخولها، وعند ذلك وقفت ودنت خادمة من بابها وفتحته، وقالت له: تفضل واتبعني يا سيدي المركيز.
فخرج المركيز من المركبة، فرأى أنه بوسط حديقة باسقة الأشجار، وفي نهاية الحديقة منزل جميل، ثم سار في أثر الخادمة، فصعدت به إلى الدور الأول من المنزل وأدخلته إلى قاعة، ثم قالت له: تفضل يا سيدي فإن السيدة ستحضر قريبا .
فجلس المركيز على مقعد من مقاعد تلك القاعة، وأجال فيها نظر الفاحص، وذهل مما رآه؛ إذ إن هذه القاعة كانت تشبه القاعة التي كان فيها مع روميا في لندرا شبها غريبا، كأنها قد نقلت من لندرا إلى باريس، وأغرب ما رآه مصباحان كانا على المستوقد، كانت تنبعث منهما نفس تلك الرائحة العطرية المسكرة التي شمها وسكر منها في قاعة لندرا.
ولما ملأ الدخان رئتيه وبدأ السكر يتمكن منه دخلت روميا، فلم يرها أجمل مما رآها في تلك الساعة، وأسرع إليها وهو يتهادى من سكره، فابتسمت له ابتساما أضاع رشده، وجلست معه على مقعد واحد، فنظرت إليه نظرة عاشق مفتون، وقالت وهي تبتسم: إني لا أستطيع أن أحبك قبل الغد في مثل هذه الساعة.
وركع المركيز أمامها وقال: كيف أصبر إلى الغد ولماذا؟! - إن غدا سيكون يوم مرور عامين على وفاة برديتو، ألم تقرأ كتابي؟! - قرأته وأنت تقولين فيه غدا أكون لك، ألم يكن تاريخ الكتاب أمس؟ - هو ذاك، ولكني لم أعتبر تاريخ كتابته، بل تاريخ وصوله إليك.
فقبل يدها بلهف، وقال: إن ساعات هذا الغد تعد بالأعوام والعصور ومن لي بمرورها؟!
وكان السكر قد تمكن منه، وبدت دلائله بتلعثم لسانه واتقاد عينيه، ولم يكد يقول هذا القول حتى أفلتت منه فجأة، وقالت بلهجة المضطرب: ويلاه إن خوفي شديد.
فاضطرب المركيز وقال: علام الخوف أيتها الحبيبة؟ وممن تخافين؟! - لا أستطيع أن أقول ... كلا لا يجب أن تعلم ... ولكنني لا أستطيع أن أكتم أمرا عنك ... ويلاه يخال لي أنه معنا في هذه الغرفة ... إني أشم رائحته ... إني أشعر بأنفاسه تحرقني. وأرى نظراته تنفذ إلى قلبي كالسهام.
فاضطرب مورفر، وقال: من هو هذا فإني لا أرى أحدا؟ - برديتو. - ألم تقولي لي إنه مات منذ عامين؟ - عامان ينقصان يوما. - إذن اطمئني فإن الأموات لا يبعثون في الأرض. - إن هذا اعتقادكم أهل الكتب المنزلة، أما أنا فلست منكم، واعتقادي أن الغيرة إذا اشتدت تبعث العشاق من القبور. - ولكن برديتو ليس له قبر . - كيف ذلك؟ - ذلك أنه شنق ولم يدفن، فكان قبره بطون العقبان.
فزاد اضطراب روميا، ووقفت منذعرة وقالت: إني أشم رائحته ... إنه هنا ... إن أنفاسه تهب على شعري. - اطمئني أيتها الحبيبة فإن الأموات لا يتنفسون. - هو ذا عيناه تنظران إلي نظر الحقد والوعيد. - إن الأموات لا ينظرون فاهدئي. - إني أراه، بل أسمع دقات قلبه. - قلت لك اطمئني أيتها الحبيبة، فإنها خيالات تمثلها لك الأوهام، ومتى كان للأموات قلوب تنبض؟!
ثم هاج اضطرابها، وهاج ثائر غرامه، فقام إليها وضمها إلى صدره ضما عنيفا، وللحال اصفر نور المصباحين، وسمع في تلك الغرفة قهقهة شديدة لم يعلم المركيز مصدرها؛ لأنها كانت تسمع من كل مكان.
فقابلت روميا هذا الضحك السري بصياح الرعب، ثم انطفأت الأنوار وانقطع الضحك.
وظهر فجأة في تلك الغرفة لهب أحمر تحول بعد ظهوره إلى لون بنفسجي ثم أبيض، وظهر في وسط هذا اللهب خيال أسود.
وكان هذا الخيال خيال برديتو، وسمعه المركيز يصيح بروميا ويقول لها: احذري أيتها الخائنة.
26
كان المركيز باسلا، ولم يكن من أهل الأوهام، ولكنه شعر بأن الدم قد جمد في عروقه لما تولاه من الرعب، فأفلتت روميا من يده دون أن يمنعها، وصاحت صيحة منكرة، وهربت فتبعها صوت الخيال يقول: احذري أيتها الخائنة.
ثم تحول النور الأبيض إلى نور بنفسجي، ثم أحمر، ثم تلاشى، فسادت الظلمة في الغرفة، واختفى الخيال ولم يبق غير ذلك الدخان وتلك الرائحة العطرية.
وجعل المركيز ينادي روميا، ولكنها لم تجب، وحاول أن يخرج من الغرفة ولكنه لم يستطع، فإن ذلك اللهب انبعث منه عند انطفائه رائحة كبريتية قضت على حواسه، فما مشى خطوتين حتى سقط على الأرض، وجعل ينادي روميا فلم يجبه أحد.
ثم اشتدت عليه تلك الرائحة، فأغمي عليه وأطبقت عيناه.
ولما استفاق من إغمائه زالت رائحة الكبريت، ورأى أشعة المصباح قد نفذت إلى الغرفة، وأحس بتخدر دماغه، غير أنه كان مالك الرشد، فقام إلى النافذة ففتحها وجعل يتنشق الهواء النقي.
وكانت تلك النافذة تطل على الحديقة التي رآها حين دخوله إلى المنزل وهي عالية الأسوار، فلم ير ما بعدها، وعند ذلك تذكر تلك الليلة الغريبة التي مرت به، وذكر ذلك الخيال الذي ظهر له بين اللهب، وأنه خيال برديتو.
ولم يكن لديه شك أن برديتو قد مات شنقا مع عصابة مينوس، فلم يسعه إلا أن يعلل ظهور هذا الخيال كأعجوبة أراد الله بها أن يعاقب روميا على خيانتها.
ولقد يتفق للمرء في بعض أحواله أن فكره يضطرب حتى لا يعلم إذا كانت الحقيقة قد استحالت إلى حلم، أو أن حلما هو حقيقة الحياة، وهذا ما أصاب المركيز، غير أنه ذكر تماما كل ما حدث له في تلك الغرفة، وأنه حين ظهور الخيال كان يضم روميا إلى صدره.
وفيما هو على ذلك إذ فتح الباب وظهرت روميا، وصاح المركيز صيحة فرح، أما النورية فقد كانت مصفرة الوجه تدل عيناها على بكائها، فدنت منه، وقالت له: إني أكاد أجن مما حدث. - إذن إن ما حدث كان حقيقة، ولم أكن من الحالمين. - كلا أيها الحبيب فإننا لم نحلم، وإن برديتو بعينه ظهر لنا، ولا بد لنا بعد الآن من هذا الافتراق.
فركع المركيز أمامها وقال: أي افتراق تعنين فإني أهواك، ولا يفرق بيننا غير الموت. - وأنا أيضا أهواك، ولكني أخشى برديتو. - ما يهمنا الخيال أيتها الحبيبة فإن برديتو من الأموات. - ألا تخاف الأموات أنت؟! - إني أهواك ولا أخشى غير فراقك.
ففكرت هنيهة ثم قالت: أذكر أني سمعت في حداثتي عجائز قبيلتي تقول: إن الأموات يلتمسون الإذن أحيانا بالخروج من القبور، ولكنهم لا يستطيعون الذهاب إلا إلى محل معين، وقد ظهر لنا برديتو في هذا المنزل، فإذا تركناه وصح قول العجائز فهو لا يستطيع أن يدركنا في موضع آخر. - إذن لنهرب. - إلى أين؟ - إلى حيث تريدين.
ففكرت هنيهة ثم قالت: إني أعرف مدينة لا أجد أبدع منها كأنها خلقت للعشاق. - ألعلك تريدين بها نابولي؟! - هي بعينها، فمتى تريد أن نسافر إليها؟ - اليوم، بل الآن؛ لأني لا أطيق أن أراك على هذا الاضطراب.
فهزت رأسها وابتسمت ابتسام الحزين، ثم قالت: إن خيال برديتو قد أنذرنا، وربما لقيت حتفي بحبك، فإذا كنت أخاطر من أجلك بحياتي، بل إذا كنت أهبك هذه الحياة، ألا تهبني أنت مثل هذه الهبة؟! - دون شك. - إذن أريد أن تبرح باريس دون أن تدع أثرا يدل عليك، ودون أن يعلم أحد من أهلك وأصحابك أين أنت، فإذا وافقتني على ذلك نبرح باريس هذا المساء إلى أن أتخذ كل احتياطاتي.
فوافقها المركيز على كل ما أرادت، وفي الليلة نفسها أمرت المركيز أن يتنكر ففعل، وذهب الاثنان إلى المحطة فسافرا إلى مرسيليا، ولما وصلا إليها لم يذهبا إلى فنادقها، بل ذهبت به إلى منزل صغير معتزل مشرف على البحر، وقالت له: إن السفينة التي ستسير بنا إلى نابولي تنتظرنا في هذه الميناء.
27
إن من كان الشقاء قسمته لا يرى إلا الشقاء كيف سرى، وهذا ما أصاب المركيز دي مورفر؛ فقد ذهب الحب برشده، فعمي عن مكائد هذه المرأة، وبات آلة بيدها تديره كيف تشاء، فشغلته عن الافتكار بالفيروزة وأنسته ولده.
وكانت روميا قد تركته وحده في ذلك المنزل بحجة أنها ذاهبة لتتفقد السفينة التي سيسافران فيها، وأقفلت عليه الأبواب.
فلما خلا المركيز في ذلك المنزل عاد إليه هداه وذكر ابنه، ومع ذلك لم يخطر له خاطر الفرار من روميا؛ لشدة شغفه بها، ولكنه ذكر المال الذي عينه لابنه، وقال في نفسه: لا بد للفيروزة أن تستولي على هذا المال، فإن هذه الرحلة قد تكون آخر رحلاتي، فكتب عند ذلك للفيروزة الكتاب الذي تقدم ذكره، ولم يصلها إلا بعد شهر؛ أي بعد فوات الأوان.
ولما كتب الكتاب أخذ يفكر في طريقة إرساله إلى البوسطة؛ إذ لم يكن يستطيع الخروج من المنزل، ففتح نافذة مطلة على الشارع ورأى سائسا يسير الهويناء، وتبين في وجهه علامة السلامة والوفاء، فناداه وألقى إليه ذلك الكتاب مع قطعة من الذهب، وكلفه أن يضع الكتاب في إدارة البريد، فأخذ السائق الكتاب فرحا بالعطية مثنيا على كرمه وانصرف.
وبعد هنيهة عادت روميا، فعاد المركيز إلى نسيان ولده وكل ما في الوجود، حتى إذا أقبل الليل قالت له: إننا سنسافر الليلة في السفينة، وسنبرح المنزل بعد ساعة. - كما تشائين أيتها الحبيبة، فإني لا أخالف لك أمرا.
وبعد ساعة قامت به إلى النافذة، وقالت له: انظر إلى النور الأحمر إنه نور السفينة التي سنسافر عليها.
ثم سمعت صفيرا، فأخرجت صفارة من جيبها وصفرت بها، ثم قالت له: إن هذا صفير القارب الذي جاء لنقلنا إلى السفينة فهلم بنا الآن.
وخرج الاثنان من ذلك المنزل إلى حيث كان القارب الذي جاء لنقلنا إلى السفينة فهلم بنا الآن.
وخرج الاثنان من ذلك المنزل إلى حيث كان القارب، فنزلا به ومخر بهما إلى السفينة، فلما وصلا إليها رأى المركيز على ظهرها شيخا عجوزا ذا لحية طويلة بيضاء ظهر لمحة ثم اختفى، فقال المركيز: إني رأيت هذا الشيخ، فمن هو؟ وأين رأيته؟
وكان جميع البحارة قد أسرعوا إلى استقبال روميا باحترام عظيم يدل على أنها السيدة المطلقة في تلك السفينة، وكانوا ينظرون إلى المركيز نظرات الانذهال، ويكلمون سيدتهم بلغة سرية لم يفهمها المركيز.
فسارت روميا إلى غرفة فسيحة مفروشة بأفضل الأثاث، وقالت له: هذه غرفتك، ثم أقفلت الباب وقالت له: هلم بنا إلى العشاء.
وبعد ساعة كان المركيز صريع سكر وغرام لا يستفيق، فقرعت روميا جرسا فدخل ذلك الرجل ذو اللحية البيضاء الذي رآه المركيز حين صعد إلى السفينة وهو يبتسم ابتسام الأبالسة.
وجلس الرجل أمام روميا، وقال لها: إننا نستطيع أن نتحدث الآن فإنه لا يستفيق إلا بعد ساعتين. - أأنت واثق أنه لا يسمع حديثنا، كما كان يسمعه حين إغمائه في لندرا؟ - نعم فإن مخدر اليوم غير مخدر أمس.
فنظرت روميا إلى هذا الشيخ نظرة تهكم، وقالت له: إن الخدمة بأوامرك مجيدة يا أبي فإنك لست من البشر، بل أنت شيطان في صورة إنسان.
فهز كتفيه وقال: إني أنتقم إذ لا أجد بدا من الانتقام. - انتقم كما تشاء فإن هذا الرجل لا يهمني شأنه، ولكن كل ذلك يقضي علي بالحذر منك. - لماذا؟ - أصغ إلي تعلم؛ فقد كنت تحب امرأتك حبا قويا، وقد هفت امرأتك فولدت برديتو من هذه الهفوة؛ ولذلك يكون انتقامك من برديتو وليس من مورفر. - هذا ما يلوح لك بالظاهر، وأما بالحقيقة فلا ونعم ...
إني قتلت مورفر الذي كان والد برديتو، ووالد هذا المركيز الطريح عند قدميك، ولكني لا أقتصر على قتل الرجل الذي دنس شرفي، ولا يشفي آلامي غير الانتقام من أسرته بجملتها كي لا يبقى من يدعى مورفر بالوجود.
فقالت روميا: لا أنكر عليك يا حضرة الدوق حق الانتقام غير أن انتقامك من عائلة مورفر لا يمنعك أن تكره برديتو أيضا، فهو ابن تلك الزلة التي دعت إلى كل هذا الانتقام.
فقال لها الدوق دي فنسترنج: هو الحق ما تقولين؛ فإني كنت أكره حبيبك برديتو من قبل، كما أكره الآن هذا المركيز، ولم أخنقه يوم ولادته؛ لأني أردت أن أعد له عذابا هائلا، لذلك عهدت به إلى مينوس وقلت في نفسي: إما أن ينشأ شريف العواطف فيلقى شر عذاب لوجوده مع اللصوص، وإما ينشأ لصا مثلهم فلا يكون نصيبه غير المشنقة.
وكان مينوس يخبرني بكل حوادثه، وعلمت منه يوما أنه التقى بالمركيزة وابنها في الجبل، وما كان من تباغض الغلامين، فخطر لي انتقام جميل وهو أن أثير أحقاد برديتو على أخيه، ثم أجمع بين الاثنين فيمزق كل منهما الآخر، ولكنك حلت أنت دون هذا المشروع.
فاندهشت روميا وقالت: أنا؟ - نعم أنت؛ فإني حين توليت تربيتك وتربية برديتو رأيت أنكما متساويان بفساد المبدأ، وأنكما متحابان؛ فكرهت أن أفرق بينكما، وزال من قلبي كره برديتو.
فنظرت إليه روميا نظرة المرتاب، وقالت: أحق ما تقول؟ - دون شك فقد حصرت بغضي بالمركيز، وأنت تعلمين أني لا أريد أن يموت موتا بسيطا، بل أريد أن يكون موته بطيئا ونزعه شديدا طويلا لا ينتهي.
فضحكت روميا، وقالت: إنك أعظم سفاك رأيته في حياتي يا أبي، وسأفعل ما تريد. - وأنت أعظم شيطانة عرفتها، ولو لم ينقض عهد شبابي لأحببتك .
ثم صب من زجاجة شراب في كأسين وشرب وإياها، فقالت له روميا: أيجب أن نبدأ الليلة؟ - دون شك، ولكن متى أصبحنا في عرض البحر، فقد أمرت الربان أن يسير بالسفينة عند انتصاف الليل.
ثم كشف ساعته وقال: أي بعد ربع ساعة. - متى يفيق المركيز؟ - بعد ساعتين.
وعند ذلك قرع الباب قرعا خفيفا، فقالت روميا: إن الطارق برديتو دون شك. - ليدخل فلا بأس من دخوله.
ودخل برديتو وكان لا يزال يشبه المركيز شبها عجيبا فقال: إني جائع.
فقالت: هو ذا الطعام معد فكل.
فنظر إليها نظرة منكرة، وقال: أكرهك اليوم بقدر ما كنت أحبك أمس.
فارتعشت روميا، وقالت: لماذا تبغضني أيها الحبيب؟ - لأن فم هذا الرجل النائم قبل شفتيك. - ما هذه الغيرة التي لا محل لها؟ ألا تعلم أني لا أحب سواك في هذا الوجود؟!
فجلس برديتو معهم على المائدة فصب لنفسه كأسا وشرب، ثم أخذ سكينا عن المائدة، وجعل يتطلع إلى الدوق، وإلى روميا، وإلى المركيز النائم تطليعات ملؤها الحقد، وقال: يجول في خاطري فكر هائل.
فقال له الدوق ببرود: ما هو هذا الخاطر؟ - هو أن أقتلكم جميعا.
فارتعشت روميا، أما الدوق فلم يظهر عليه شيء من علائم الاضطراب، وقال: إنك إذا قتلت هذا الرجل فلا تكون قد انتقمت. - حسنا، ولكني أكون قد سكنت ثائر غضبي. - وإذا حملك الغضب على الفتك بروميا، فإنك تيأس بعد قتلها لأنك تهواها. - هذا ممكن. - وأخيرا إن قتلتني أنا تحرم أموالي الطائلة التي سأورثك إياها.
فسكن هذا القول غضب اللص وقال: لقد أصبت.
ثم ألقى السكين إلى الأرض.
وعند ذلك شعروا بأن المائدة ترتج، فعلموا أن السفينة رفعت مراسيها وقامت من الميناء.
28
ولبث المركيز نائما ساعتين، كما قال الدوق، ثم انتبه من تلقاء نفسه كما ينتبه من ينام نوما طبيعيا.
ولما استفاق وجد روميا بقربه ولم يكن في الغرفة غيرهما، فابتسمت له وطوقت عنقه بيديها، فقال لها: ألعلي كنت نائما؟ - نعم أيها الحبيب، فقد شربت كثيرا من الخمر الإسباني المعتق، فأفضى بك الإفراط في شربه إلى النوم. - كيف ذلك ألعلك كنت معي؟ - نعم فلم أفارق مكاني.
ثم شعر أن السفينة تسير، فقال: إن السفينة تمخر في البحر، فهل هي سائرة بنا إلى نابولي؟
فابتسمت له ابتساما خلب لبه، وقالت: إنها تسير بنا إلى حيث تشاء، فأنت الآمر هنا أيها الحبيب. - بل أنت الآمرة الناهية؛ لأني عبد هذا الجمال. - إذا أردت أن أتولى أنا إدارة هذه الرحلة، ذهبت بك إلى بلاد الشرق، بلاد أجدادي، فنسير إلى مصر وتركيا، ونشاهد أزمير والآستانة، ونجتاز بلاد العجم، ونبلغ إلى شواطئ الكنغ. أتوافق على هذه الخطة؟ - إني أريد ما تريدين أيتها الحبيبة.
ثم جذبها إليه بلطف يريد ضمها، فشعر فجأة أن أرض الغرفة قد انشقت وظهر منها ساحة متسعة الأرجاء.
فصاحت روميا صيحة ذعر وأفلتت من يديه، ونظر المركيز إلى تلك الهوة التي فتحت أمامه، فرأى ذلك المنظر الذي رآه في منزل روميا في باريس؛ أي ذلك اللهب الذي يبدو أحمر ثم يصبح بنفسجيا ثم أبيض، ويظهر من خلاله خيال برديتو.
وكانت روميا تصيح صيحات منكرة، والمركيز يحاول أن يضمها إليه، لكنها هربت وانطفأ مصباح الغرفة فلم يعد يراها.
ثم حدثت أعجوبة أعظم من تلك، وهي أنه رأى روميا واقفة تحت ذلك اللهب الذي كان ظاهرا فيه برديتو، وقد مسخت مسخا فصارت قامتها لا تتجاوز نصف ذراع، ورأى برديتو يشير إليها بيده إشارة المنتقم وسط ذلك اللهب، ويقول لها بصوت يتهدج من الغضب: «هذا هو انتقامي أيتها الخائنة، فلتكوني عبرة لسواك.»
ثم احتجب الخيال وتحول اللهيب إلى دخان انبعثت منه رائحة كريهة، ضيقت أنفاسه، فأسرع يريد الهرب من تلك الغرفة؛ فاصطدم بجسم ملقى على الأرض وأغمي عليه لقوة هذه الرائحة، فسقط بين ذراعي روميا التي تحولت من جسمها الممسوخ إلى جسمها العادي.
وعند الصباح صحا من رقاده وهو مضطرب الحواس محموم، فكان يذكر حادثة الليل كحلم مزعج، وقد وجد نفسه في سرير من أسرة السفينة، فلم يعلم إذا كان ما رآه حلما أو حقيقة، ولكنه كاد يقتنع أنه كان حالما حين رأى روميا على ظهر السفينة بهيئتها العادية.
فلما رأته روميا أقبلت إليه تبتسم وتقول: لقد أطلت الرقاد.
فنظر إليها منذهلا وقال: إذن لست أنت؟ - ماذا؟ - ألست من الأقزام؟ - بل إني على عكس ما تقول، فإني من طويلات القوام. - لكني رأيت مع ذلك في هذه الليلة ... - ماذا رأيت؟ - رأيت برديتو قد مسخك وحولك إلى قزم.
فاصفر وجه روميا وقالت: برديتو؟ - نعم فإني حين كنت هذه الليلة معي أضمك إلى صدري، فقد ظهر لنا برديتو في السفينة كما كان يظهر في باريس. - إني ما رأيت شيئا. - عجبا ألم تري أمس خيال برديتو؟ - كلا، وجميع ما شاهدته أنك تعشيت ونمت. - أعلم أني نمت، ولكني صحوت بعد هذا النوم. - كلا إنك ما صحوت إلى الآن. - كيف ذلك؟ ألم تكلميني عن الخمر الإسباني؟ - لم أقل لك شيئا أيها الحبيب، فقد كنت نائما نوم السكارى حتى اضطررت إلى الاستعانة ببحريين لنقلك إلى فراشك.
وكانت روميا تتكلم بلهجة صادقة، حتى وثق المركيز كل الوثوق أنه كان حالما.
ومضى ذلك النهار والسفينة سائرة حتى أقبل الليل، وجلس المركيز مع روميا على مائدة العشاء، فشربت وشربت، ثم صبت له آخر كأس بقي في الزجاجة، وجعلت تناديه وتشاغله حتى وضعت له في الكأس مخدرا، فما استقر شرابه في جوفه حتى تثاقلت عيناه وسقط على الكرسي لا يعي، غير أن إغماءه في هذه المرة كان شبيها بإغمائه في لندرا؛ أي إنه كان فاقدا كل حواسه ما عدا حاسة السمع.
فذكر تلك الليلة التي سقط فيها صريعا في خمارة كالكراف، حين كانت الإرلندية تغني، وسمع أن الباب قد فتح ودخل منه رجل فقال: أهو نائم الآن؟
فعرف أنه صوت برديتو.
ثم سمع روميا تقبله، وتقول له: إنك مخطئ يا برديتو بإساءتك إلي؛ لأني لا أحب سواك. - إذا كان ذلك فلماذا لا تؤذنون لي بقتله في الحال؟
فارتعش المركيز لأنه كان يسمع كل ما يقال أمامه، ثم سمع صوت ذلك الشيخ ذي اللحية البيضاء، يقول وهو واقف على عتبة الباب: هلم، أيها العاشقان الجميلان، إلى سطح السفينة، فقد دنونا من شواطئ إيطاليا الجميلة؛ لأن لديكما فرصة كافية؛ إذ لا نعود إلى تمثيل دور الخيال إلا بعد ساعتين.
فخرج العاشقان وصعدا إلى ظهر السفينة.
أما الدوق فإنه بقي في الغرفة، ودنا من المركيز ووضع فمه عند أذنه، وقال له: أيها المركيز، إنهم يهزءون بك.
29
ولا يحيط وصف كاتب بما كان يكابده هذا المركيز من العناء حين كان يسمع كل هذه الأقوال، فقد كان يسمع ويفتكر ويعي كل شيء، لكنه لا يستطيع أن يتكلم ولا أن يفتح عينيه.
ولم يقتصر الدوق على ما قاله له، بل إنه جلس بقربه وجعل يتلو عليه الحديث الآتي:
أيها المركيز إنك حين صعدت إلى السفينة رأيتني، وخشيت أن تكون قد عرفتني بالرغم عن هذه اللحية الطويلة البيضاء التي غيرت كل ملامحي، ولكن ظهر لي بعد ذلك أنك لم تعرفني، فلا بد لي الآن من أن أعرفك بنفسي فاسمع:
أيها المركيز إني ذلك الرجل الذي دنس أبوك عرضي فقتلته، أنا الجنرال الدوق دي فنسترنج الذي جئته يوما تريد مبارزته انتقاما لأبيك، فأبيت مبارزتك حتى تبلغ سن الرشد.
ثم غادرت باريس وأظهرت أمام العالم أجمع أني مت غرقا في البحر تمويها عليك، ولكني لا أزال حيا، وكذلك برديتو ابن أبيك وابن امرأتي فإنه لم يعدم شنقا كما تتوهم، فتحالفت وإياه على قتلك، كما أني أقسمت على قتله أيضا، وهو لا يعلم ويحسب أني له من المخصلين، ولكنك أنت ستقتل هذا اللص لا أنا، فأصغ إلي.
إنك الآن نائم نوم تخدير؛ لأني وضعت لك في الشراب مخدرا تعلمت صنعه في الشرق، وهو يخدرك ساعتين دون أن تفقد حاستي السمع والإدراك.
أما روميا وبرديتو فإنهما يعتقدان أنك نائم الآن كما كنت نائما أمس؛ أي أنك لا تسمع ولا تعي وستعود إليك روميا بعد ساعة، فمتى فتحت عينيك تجدها بقربك، وسترى أشعة الحب تتقد في عينيها وتراها تبتسم لك ألطف ابتسام وتناديك بأعذب الألقاب.
ثم يعود تمثيل دور الخيال على ما عهدته، فيتقد اللهب ويظهر منه خيال برديتو، وعند ذلك ترتعد روميا وتفر منذعرة، فمتى ابتعدت عنك رأيتها قد مسخت قزما.
إنها لا تمسخ أيها المركيز، ولكنها تظهر لك بهذا المظهر الغريب بفضل انعكاس أشعة المرائي، وهي طريقة مشهورة لا بد أن تكون قد عرفتها من قبل، أعلمت الآن أيها المركيز كيف يظهر لك الخيال وكيف تمسخ روميا؟!
وهنا نصيحة أيها المركيز تتبعها إذا شئت، وهي أنك عندما تفيق من إغمائك تجد مسدسا محشوا بقربك، فإذا ظهر لك الخيال وهربت روميا منك، فأطلق المسدس على برديتو واقتله قبل أن يقتلك.
ثم ضحك ضحكا عاليا وتركه وانصرف.
أما روميا وبرديتو فكانا واقفين على ظهر السفينة ينظران إلى الشواطئ الإيطالية متعجبين بجمالها، وكان برديتو يقول لروميا: لقد ندمت لاتفاقي مع هذا العجوز الذميم. - لماذا أيها الحبيب؟ - لأني أكابد عناء شديدا من الغيرة، فإن فم هذا الرجل قد قبل شفتيك. - كيف تسوءك هذه القبلة وأنت تعلم أن قلبي لك؟ - لأني لا أطيق أن أنظر هذا المركيز يقبلك ويضمك. - ما هذه البلاهة؟ - ليس ما أقوله بلاهة، فقد بت أخشى أن تختم هذه الرواية بما يجعلها فاجعة؛ إذ لا أطيق الصبر، فقولي متى نفرغ من تمثيلها؟ - لا أعلم. - ألم يقل هذا الشيخ الذي بعناه حياتنا وأجسامنا بيع السلع؟ - كلا إنه لم يطلعني على نواياه.
وعند ذلك ظهر لهما الشيخ، وقال: إنكما لن تعلما ولا تريان ختام الرواية، والآن إن الوقت قد حان إذ دقت الساعة الثانية.
فقالت روميا: أنا نازلة.
ثم تركتهما ونزلت إلى غرفة المركيز.
وكان المركيز قد بدأ يصحو من رقدته، فطوقت عنقه بذراعيها، وقالت له: أيها النائم الأبدي ألا تنفك عن عادة النوم بعد العشاء؟
فصحا المركيز عند كلامها كل الصحو، وقال: أسألك العفو فهذه آخر ليلة أنام فيها. - أحق ما تقول؟! - أقسم لك.
فجعلت تناغيه وتداعبه كما فعلت أمس، ثم ظهرت فجأة مناظر أمس؛ فانكسر المصباح وخسفت الغرفة وظهر اللهب في وسطه برديتو، وجعلت روميا تمثل الذعر وتصيح صيحة الرعب.
غير أن المركيز ذكر في الحال ما قاله له الدوق وهو نائم، ومد يده فعثرت بالمسدس، فأخذه في الحال وأطلقه على برديتو الظاهر بين اللهب، فوقعت الرصاصة في قلبه، وصاح صيحة منكرة وانقلب قتيلا على الأرض.
ثم حاول المركيز أن يطلق رصاصة ثانية على روميا. لكن روميا ما لبثت أن رأت برديتو قتيلا، حتى هاجت هياج اللبوة، وسبقت المركيز فجردت خنجرا وانقضت عليه انقضاض الكواسر، فطعنته به طعنة هائلة وهي تزمجر زمجرة الأسود، وحاولت أن تشفعها بطعنة أخرى كي تجهز عليه، لكن بحارة السفينة هجموا عليها، وجردوها من الخنجر، وقيدوا رجليها ويديها بأمر الدوق.
30
مضى عشر ساعات على هذه الحادثة كانت روميا في خلالها مقيدة اليدين والرجلين، وهي تصيح وتعول وتطلب أن ترى جثة حبيبها برديتو، فلا يجيبها غير صدى الغرفة التي كانت مسجونة فيها.
وكان الدوق خبيرا بفن الجراحة، فكان يسمع عويل روميا ولا يكترث لها؛ لأنه كان مهتما بتحنيط جثة برديتو، فإنه أخذ الجثة وحنطها منعا لانحلالها، ثم نزع الرصاصة منها وجعل الجرح المستدير مثلث الزوايا حتى يحسب من رآه أنه جرح خنجر أو سيف لا جرح رصاصة.
وبعد أن انتهى من تحنيطه جاء بموسى وحلق له لحيته، ولم يبق له غير شاربيه فقصهما على شكل شاربي المركيز دي مورفر، وكان المركيز يشبه اللص شبها غريبا كما تقدم، فلما حلق لحية اللص أصبح اللص تماما بحيث لا يشك من رأى جثته أنها جثة المركيز.
أما المركيز فقد كان مصابا بالحمى من جرحه وهو ضائع الرشد، فذهب الدوق إلى سريره وجعل ينظر إليه بفرح وحشي، ويقول: إني لم أنل غير نصف انتقامي بل أقل من النصف؛ لأن برديتو مات دون أن يتألم، ولا مشاحة أن هذا اللص كان ابن الجريمة لكنه لم يكن يدعى مورفر.
وما أوشك أن ذكر هذا الاسم حتى اضطرب صوته، وقال: إذا كنت لا أعتقد بخلود النفس فكيف أكون انتقمت؟
لكني أعتقد بخلود الأرواح، وأن أرواح المائتين تهيم بالفضاء وتحوم حول من كانت تحبهم فتفرح لسرورهم وتحزن لأحزانهم، ولا شك أن روح تلك الخائنة حائمة الآن حول جثة ولدها برديتو، وروح هذا اللص حائمة حول سجن روميا وكلاهما في عذاب.
ثم ترك المركيز وشأنه وذهب إلى روميا، فقال لها: كفاك أنينا وعويلا فقد كنت أحسبك قوية، ولكني أراك تبكين بكاء الأطفال. - كيف لا أبكي أيها الشقي وقد قتل برديتو. وأي رجاء لي بعده بالحياة؟!
فهز الدوق كتفيه، وقال: أتموتين قبل أن تنتقمي؟! - لقد انتقمت بقتل القاتل. - إنك منخدعة؛ لأن المركيز لم يمت. - ولكنه سيموت؛ لأني طعنته بخنجر مسموم.
فضحك الدوق وقال: إنك منخدعة أيضا أيتها الحبيبة، فقد بدلت خنجرك المسموم حين كنت نائمة بخنجر مثله غير مسموم؛ ولذلك لم يمت المركيز بل إنه سيحيى؛ لأن جرحه غير خطر.
فأنت روميا أنين الموجع، وكادت تفترس الدوق بنظرات حقدها غير أن الدوق لم يكترث لنظراتها، وقال لها: أتعدين موت المركيز السريع انتقاما؟ إني لا أرى رأيك أيتها الحسناء، وعندي أنه يجدر بك أن تقتليه كل يوم بالعذاب حتى تروي غليلك. - ربما كنت مصيبا. - وأنا واثق من أنك تعملين برأيي، لا سيما متى علمت أن للمركيز غلاما يرث منه أربعة ملايين، فتمتعي بهذه الثروة، وانتقمي من صاحبها كما تشائين.
ثم تركها مقيدة اليدين والرجلين وصعد إلى ظهر السفينة، فأخذ نظارة مكبرة ونظر بها الأرض التي أشرفت عليها السفينة، وهي أرض جزيرة مالطة.
ورأى أن السفينة كادت تصل إليها، فنادى الربان وأمره أن يعد القارب لنزوله إلى البر ففعل، ثم وقفت السفينة وأنزل القارب، فأنزلوا فيه أمتعة الدوق، وبعد ذلك قال الدوق للربان: بعد ساعتين تحل وثاق روميا، وتقول لها: إن السفينة ومجارتها تحت أمرها.
ثم أمر الدوق بحارة القارب أن يسيروا به إلى مالطة، منفصلا عن السفينة، واستمرت السفينة في سيرها إلى الشرق، وهي تحمل جثة برديتو المحنطة، والمركيز المحموم من جرحه، وقد بات في قبضة تلك المرأة الهائلة.
31
ولنعد الآن إلى باريس لنرى ما فعل مرميس وفاندا، فإنهما أقسما أن يخضعا لأوامر روكامبول ويجدا جثة المركيز.
في اليوم التالي لفراغ فاندا ومرميس من تلاوة كتاب الفيروزة، عقد تلامذة روكامبول اجتماعا في منزل فاندا، وجعلوا يتباحثون في طريقة الشروع في العمل.
وقد افتتحت فاندا الحديث فقالت: إن لدينا ثلاثة أمور يجب علينا إجراؤها: أولها وأخصها الحصول على الإناءين اللذين وضع فيهما المال.
فقال مرميس: إن هذه المهمة من أصعب المهام وأدناها إلى السرعة، أما وقد أمر الرئيس بتنفيذها فلم يعد بد من الامتثال. - والأمر الثاني: ضرورة إيجاد تلك المرأة، والثالث: تفقد الغلام الذي قال روكامبول: إنه وضعه في دير في شارع البورصة، فقد مضى على إقامته فيه عامان، وقد يحدث كثير من الأمور في عامين. - لقد خطر لي الآن أن أعارضك. - كيف ذلك؟ - ذلك أنه يجب أن يكون أول ما نهتم به هو البحث عن الغلام، ونرى إذا كان أحد قد بحث عنه قبلنا؛ لأني أخشى أن تكون البستانية الحسناء قد وقفت على جميع أسرار المركيز، ومنها سر هذا الغلام، والذي أراه هو أنه يجب أن يذهب ميلون في الحال إلى هذا الدير، فيسأل رئيسته إذا كان أحد قد سأل عن الغلام، من قبل الذي وضعه في الدير، ثم يخبرها بأنها ستحضر اليوم سيدة شقراء تدفع ما تأخر دفعه من نفقات الغلام وتخرجه من الدير. - إذا كان ذلك فلماذا لا يخرجه ميلون؟ - ذلك لأن هذا الغلام قد كابد كثيرا من المشاق والمخاوف، فبات كثير الحرص، ولا شك أنه يطمئن إلى امرأة ويثق بها أكثر من ثقته برجل.
فوافقته فاندا وذهب ميلون، فقال مرميس: أما أنا فسأعلم من الآن إلى الظهر أين يوجد منزل المركيز دي مورفر. - والبستانية الحسناء؟ - اطمئني فسأجدها في باريس بالرغم عن اتساعها.
أما ميلون فإنه لبس خير ملابسه، وذهب توا إلى الدير فاستقبلته الرئيسة خير استقبال، وسألته عما يريد فقال لها: إني آت بشأن الغلام الذي عهد إليك منذ عامين. - من الذي عهد به إلي؟ - رجل أنا وكيله. - ماذا يدعى؟ - الماجور أفاتار. - حسنا إن الغلام عندنا وهو في أتم العافية، ويتقدم في الدروس كل يوم لفرط ذكائه. - ألم يسأل عنه أحد في هذين العامين؟ - كلا، ولماذا تسألني هذا السؤال؟ - لا أعلم! فقد أمروني أن أسألك فامتثلت، ثم أمرت أن أخبرك أيضا أن والدة الغلام ربما حضرت اليوم لدفع حسابه وإخراجه، وهي شقراء تناهز الخامسة والثلاثين من العمر. - ليكن ما تريد، ولكني أشفق أن يخرج هذا الغلام الذكي من ديارنا قبل إتمام دروسه؛ لأنه أذكى جميع من لدينا من البنين.
وعند ذلك دق جرس مؤذنا بخروج الأولاد من غرف الدرس إلى الحديقة للرياضة، فأطلت الرئيسة من النافذة وقالت لميلون: تعال وانظره فإنه على ذكائه العظيم وافر الجمال.
فدنا ميلون من النافذة ورأى الغلام على ما وصفته له، وهو بين 12 و13 من العمر؛ فانطبع رسمه في ذاكرته.
بعد ذلك بساعة جاءت إلى هذا الدير مركبة عليها إشارة النبلاء، وخرجت منها امرأة جميلة شقراء، فقابلت رئيسة الدير وقالت: إني والدة الغلام الذي أخبرك وكيلي منذ ساعة أني سأحضر لأخذه.
ثم أخرجت ورقة مالية قيمتها ألف فرنك، فدفعتها لها وسألت إحضار الغلام.
فأمرت الرئيسة بإحضاره، فجعلت تقطعه ضما وتقبيلا وهو منذهل مما يراه؛ لأنه لم يكن رآها من قبل، فقالت له: إني أمك يا بني وقد فارقتني طفلا فنسيتني هلم بنا الآن إلى أبيك.
ثم أخذته بعد أن ودعت الرئيسة وشكرتها، وخرجت به إلى مركبتها.
وبعد ساعة أيضا جاءت امرأة أخرى شقراء، وطلبت الغلام باسم الماجور أفاتار.
وكانت هذه المرأة فاندا، فلما علمت أن الغلام خرج من الدير صاحت صيحة منكرة، وعلمت أنه بات في قبضة البستانية الحسناء.
32
أما مرميس فإنه ذهب إلى النادي حين ذهب ميلون إلى الدير، فاجتمع بأصحابه وجعلوا يعاتبونه لانقطاعه عنهم يومين، فاعتذر إليهم بما يجده من الحزن على الفيكونت مونتيجرون والبارون هنري.
فقال له أحد الحضور: إننا جميعنا لا نزال آسفين، غير أن جميع أحزان العالم لا تخرج الأموات من قبورهم، والعاقل من شغل عنهم بالأحياء.
على أن هذه الفلسفة لم تمنع الحضور عن البحث في هذه الحوادث، فقد خاض بها مرميس حتى وصل إلى المركيز دي مورفر ، فقال: لا تزال مسألة هذا المركيز من المشاكل التي لم يحلها أحد.
فأجابه ذلك المتفلسف: لا أرى حاجة إلى حلها بعد أن حلها الموت. - ولكنهم لم يعثروا على برهان يثبت موته.
فأجابه صديق له يدعى البارون فيليب، وقال: وأي دليل أعظم من إيجاد جثته. - إنهم لم يجدوا جثته، بل وجدوا تمثال شمع. - ولكن في لندرا ... - يدعون أنهم وجدوا جثة تشبهها، ولكن لم يثبت شيء؛ لذلك لا أزال أعتقد أن المركيز دي مورفر حي إلى أن يثبت موته، وقد أتيت اليوم خصيصا لأكلمكم بشأنه.
فنظر الجميع إليه بانذهال، فقال مرميس: إن دي مورفر قد اختفى منذ خمسة أعوام، ولا بد أن تكون أزيلت الأختام عن منزله للاطلاع على وصيته.
فقال البارون: إن موعد فتحها غدا. - أعرفت وريثه؟ - نعم فهو ابن عم له يدعى بوكدر موزفر، وهو من أصدقائي. - إذن أسألك يا حضرة البارون أن تعطيني كتاب توصية له.
فانذهل البارون وقال: أي شأن لك مع هذا الرجل وهو غريب عن باريس لا يعرف أحدا فيها؟!
فابتسم مرميس وقال: هو سر من أسراري، وقد تعلمونه في مستقبل الأيام.
فكتب له البارون، وذهب إلى حيث يقيم ابن عم المركيز.
وكان هذا الرجل في الخامسة والأربعين من عمره، وكان من قبل ضابطا في الجيش، ثم اعتزل الخدمة، وأقام في أرض له في الريف، فكان يعيش من ريعها القليل عيشة القانعين، على أنه كان وافر الأدب كثير الظرف، فلما جاءه مرميس وأطلعه على كتاب البارون استقبله خير استقبال، وقال له: إني طوع لك فيما تريد فمرني يا سيدي بما شئت. - علمت أنك سترث تركة المركيز دي مورفر. - نعم. إن أباه ابن عم أبي، ولكني لم أره في حياتي، وما كنت أتوقع مثل هذا الإرث، فإن موته لم يثبت بعد، ولا يجيز لي القانون أن أرث التركة، بل يحق لي أن أتصرف بريعها إلى أن تمضي سنوات هينة. - إني ما تشرفت يا سيدي بزيارتك إلا بشأن هذا الإرث؛ لأني واثق أن المركيز قد كتب وصية وهو قد أوصى بثروته لأقربائه ؛ أي أنت يا سيدي، لكنه وهب بهذه الوصية بعض الهبات. - إذا كانت هذه الوصية موجودة كما تقول لا بد من احترامها وتنفيذ كل ما فيها، ولا أستطيع أن أحقق شيئا قبل الغد حين ترفع الأختام عن المنزل، فإذا شئت يا سيدي احضر إليه ظهر الغد. - سأحضر يا سيدي. - أتأذن لي يا سيدي أن أسألك إذا كنت من أصدقاء المرحوم ابن عمي؟ وهل عرفت بهذه الوصية منه؟! - كلا، ولكني آت من قبل امرأة كانت خليلة له، وقد منحها بوصيته هبة أحب أن تبقى عندها تذكارا منه. - ثق يا سيدي أني لا أخل بحرف من هذه الوصية، وغدا نلتقي فأسلمك تلك الهبة.
فشكره مرميس ثم ودعه وانصرف وهو يقول في نفسه: إن الذي نسعى إليه هو نيل الإناءين، وقد ماتت الفيروزة. ولكن فاندا تقوم مقامها، وتتسمى باسمها الوارد في الوصية فإنه لا يوجد بين أصدقاء المركيز من كان يعلم بحبه الفيروزة.
ثم ذهب إلى فاندا فلم يجدها إذ كانت ذهبت إلى الدير.
33
وقد وجد ميلون فأخبره ما فعل بالدير، وأن فاندا ذهبت لإحضار الغلام، فانتظر ساعة فلم تعد ثم ساعتين ثم ثلاثا، حتى سئم الانتظار، وخشي أن تكون أصيبت بمكروه. فقال له ميلون: أتريد أن أذهب إلى الدير لأرى ما حدث لها؟ - كلا فلننتظر الغروب، فإذا لم تعد ذهبت وإياك.
وغابت الشمس دون أن تعود فاندا، فزادت هواجس مرميس وذهب مع ميلون إلى رئيسة الدير، فألقاها جازعة مضطربة، ووصفت له المرأة التي سبقت وأخذت الغلام، فعلم من وصفها أنها البستانية الحسناء، وأيقن أن فاندا تتبعها، فخرج من الدير مع ميلون وهو لا يعي من فرط غمه واضطرابه.
وكان الظلام قد أقبل والهواء باردا، والشارع مقفرا، والمطر ينهمر غزيرا، فوقف مرميس خارج الدير يعمل الفكر في طريقة البحث عن فاندا، غير مكترث للأخطار.
وفيما هو ينظر يمنة ويسرة رأى خمارة قرب الدير، فحدثه قلبه أنه قد يقف على أثر فاندا من تلك الخمارة، فرأى فيها جماعة من البنائين يسكرون ، ورأى صاحبة الخمارة تنظر إليه نظرة خاصة، فدنا منها وجعل يحادثها أحاديث مختلفة، وهي تنظر إليه نظرات تدل على أنه وصف لها من قبل.
وفطن مرميس لهذه النظرات، فقال لها: إنك تستطيعين أن تفيديني بعض الإفادات. - سل يا سيدي ما تشاء. - أيجيء إلى هذا الدير المجاور لخمارتك كثير من الناس؟ - نعم وذلك في يومي الخميس والأحد. - وفي غير هذين اليومين؟ - يندر قدوم الزائرين، غير أنه جاءت اليوم امرأة جميلة شقراء، فدخلت إليه وخرجت بغلام جميل، وبعد ساعة جاءت امرأة أخرى شقراء، فدخلت الدير وخرجت منه مسرعة وعليها علائم الاضطراب الشديد، فغابت نحو ساعة وعادت.
فعلم مرميس أنها فاندا فقال: ألعلها عادت إلى الدير؟! - كلا، ولكنها عادت إلى الشارع ودخلت هذه الخمارة.
ثم نظرت إليه نظرة الفاحص، وقالت له: اسمح لي يا سيدي أن أسألك عن اسمك.
فاطمأن مرميس وذكر لها اسمه فقالت: إذن خذ هذه الرسالة فهي لك من هذه المرأة.
فأخذ مرميس الرسالة وعلم من عنوانها أنها خط فاندا، ففضها وقرأ ما يأتي:
إن الغلام اختطفته البستانية الحسناء، ولكنها تركت أثرا لا أزال أقتفيه، فإن أحد الحمالين رأى مركبتها وقفت عند كنيسة سانت جنفياف، فدخلت إلى الكنيسة مع الغلام، ثم عادت وركبت وإياه في المركبة وأمرت السائق أن يسير إلى سانت مانديه.
وأظن أنها ذهبت إلى المنزل الذي ذهبت إليه أنت وميلون، فأخذت مركبة وسرت في أثرها؛ إذ لا بد لنا من استرجاع الغلام.
وربما عدت في المساء إلى منزلي، ولكني قد لا أعود، ولما كنت واثقة من حضورك مع ميلون إلى الدير للسؤال عني تركت هذه الرسالة في الخمارة لتعلم أين أنا، فإذا مضت الساعة التاسعة دون أن أعود أيقن أني في خطر وأسرع إلى إنقاذي في سانت مانديه.
فاندا
فلما قرأ مرميس الرسالة دفع لصاحبة الخمارة عشرين فرنكا، ثم خرج إلى ميلون وكان ينتظره في مركبته، فأطلعه على الرسالة، ثم قال له: يجب أن ننهج مناهج الحكمة في هذه المشكلة، فإن فاندا إما أن تكون حقيقة قد اقتفت آثار البستانية، وعند ذلك فلا بد لها من الفوز لذكائها وجرأتها، وإما أن يكون الحمال قد خدعها، فسقطت في فخ نصبته لها تلك الداهية. - إذن لنسرع إلى سانت مانديه. - كلا، بل نرسل سائق مركبتنا إلى منزل فاندا ليعلم إذا كانت عادت إليه، ونحن نرود في هذا الشارع، فإن قلبي يحدثني أننا سنقف فيه على شيء لم يكن في الحسبان.
ثم أمر السائق أن يذهب إلى المنزل، فيتفقد فاندا ويعود إليه في الحال، فامتثل السائق، وسار مرميس وميلون في ذلك الشارع.
وكان الشارع خاليا من الناس لانهيار الأمطار، فسارا حتى وصلا إلى مدرسة الحقوق، ورأى مرميس ثلاث مركبات للأجرة واقفة هناك، فما لبث أن مر بها حتى ارتعش؛ ففتح بابها فجأة وقال للسائق: إذا كنت غير مأجور فسر بنا إلى الشانزليزيه.
فامتثل السائق وتأهب للمسير، فدخل مرميس وميلون، وسارت المركبة، فهمس مرميس بأذن ميلون قائلا: لقد عثرنا بواحد من عصابة تلك المرأة الهائلة.
فانذهل ميلون وقال: كيف ذلك؟ - ألا تذكر ذلك الإسباني الذي كان يظهر أنه زوج البستانية؟ - نعم. - إنه نفس السائق الذي نركب مركبته الآن، فاصبر ولا تفه بحرف بل أصغ إلي، فإن البستانية علمت أن فاندا ستجيء بعدها إلى الدير لأخذ الغلام، وأنا واثق الآن أن هذا الحمال الذي رأته فاندا كان جاسوس البستانية وأنها سقطت في الفخ، ولكن هذا الفخ لم ينصب لها وحدها بل نصب لنا أيضا بدليل وجود هذا السائق المتنكر في هذا المكان.
فقال ميلون، ولكننا إذا ركبنا المركبة نكون قد دفعنا بأنفسنا إلى الفخ. - هذا ما يظهر لك، ولكن اصبر وسترى.
وسارت المركبة بهما من شارع إلى شارع حتى دخلت في شارع مقفر لا يمر به أحد عادة في الليالي المظلمة، فقال مرميس لميلون: لقد دنا الوقت فانتبه.
ثم نادى السائق وأمره بالوقوف فامتثل، فأخرج مرميس عند ذلك مسدسه ووضعه على صدغ السائق وهو يقول: احذر أن تفوه بكلمة أو أقتلك في هذا الشارع المقفر شر قتل.
ثم وثب ومسدسه بيده إلى جانب السائق، وهو نفس الإسباني الذي كان يصحب البستانية الحسناء إلى الأوبرا، فيحسب الناس أنه زوجها، وقال له: إذا أردت السلامة فلا بد لك من الامتثال.
وبانت على الإسباني علائم الذعر، وقال: ماذا تريد أن أفعل؟
أريد أن تترك مكانك وتنزل الى المركبة فتقيم فيها مع رفيقي.
ثم نادى ميلون، وقال: انتبه لهذا الرجل، وإذا بدرت منه بادرة فاقتله دون إشفاق.
فنزل السائق وهو يضطرب من الخوف، فقبض ميلون على عنقه بإحدى يديه، وجرد خنجره باليد الثانية، ودفع مرميس المركبة فسارت تنهب الأرض حتى وصلت إلى منزل فاندا، فدخل الثلاثة إليه دون أن يبدي الإسباني شيئا من المقاومة.
ثم دخلا به إلى غرفة فأنار مرميس شمعتين، وأقفل الباب ونظر إلى الإسباني، فقال: أظنك تعلم أن من كان من أمثالنا وسقط في قبضة خصمه لا يشتري سلامته إلا بالإقرار.
ثم كشف ساعته وقال: إني أمهلك ثلاث دقائق لتقول لنا أين هي البستانية، وأين هي فاندا، وماذا كنت تصنع قرب الدير وأنت متنكر بزي سائق؟!
وكان الإسباني قد ملك روعه في هذه المدة، وقال له: وإذا أبيت أن أجيب. - إننا في شارع كثير السكان، فلا أقتلك بالرصاص كي لا يسمع الناس دوي المسدس، ولكني أقتلك بهذا الخنجر.
نظر إليه الإسباني نظرة يأس، وقال: إني مائت في الحالين، فإذا كتمت عنك الحقيقة تقتلني وإذا بحت بها قتلوني. - من هم الذين يقتلونك؟ - رجال عصابتها، فإنهم يقتلوني بأمرها دون إشفاق. - ولكني سأحميك.
فاتقدت عينا الأسباني بأشعة الأمل، ثم انطفأ هذا الشعاع فجأة وقال: لا شك عندي أنك تحاول حمايتي، ولكن لا يستطيع إنسان مقاومة هذه الداهية. - سترى بعد إقرارك كيف أستطيع أن أحميك، والآن فقد أوشكت الدقائق الثلاث أن تنقضي قبل أن ينفذ فيك العقاب، ثم سار إلى ميلون، فجرد خنجره ووقف فوق رأس الإسباني ينذره بالقتل.
فاستعد الإسباني وقال: سأعترف بكل شيء، إنها هي التي أقامتني في المركبة قرب الدير. - متى؟ - بعد أن اختطفت الولد. - ماذا كان قصدها؟ - إنها كانت عالمة أن امرأة غيرها ستحضر إلى الدير لتطلب الغلام ، فلما أتت تلك المرأة إلى الدير وخرجت منه قانطة من لقاء الغلام رأت حمالا على الطريق، وهو من أتباع البستانية الحسناء، سألته فأرشدها كما تلقن، ولم يكن في ذلك الشارع غير مركبتي صعدت إليها، وأمرتني أن أسير إلى حيث أرشدها الحمال؛ أي إلى سانت مانديه، حتى إذا وصلت بها إلى محل معين مقفر أوقفت المركبة، فخرج رجلان من أتباعنا كانا كامنين في منعطف، فدخلا إلى المركبة وربطا فم المرأة كي لا تستغيث، وسارت بهما إلى سانت مانديه.
فقال مرميس: وبعد ذلك؟ - بعد ذلك أمرتني أن أعود إلى موقفي الأول قرب الدير، وأن أراقبكما لأني أعرفكما، وما كنت أحسب أنكما تعرفاني وأنا متنكر، حتى إذا عرفت ما تريدان أن تصنعاه أعود إليها وأخبرها. - إذن هي الآن في سانت مانديه؟ - نعم مع الغلام والمرأة الشقراء. - ماذا تصنع بهما؟ - لا أعلم. - إذن لا بد لي من إخبارك أن الدقائق الثلاث قد انقضت.
فاضطرب الإسباني لهذا الإنذار، وقال: ولكني يا سيدي لست سوى خادم بسيط استخدمتني تلك المرأة لأغراضها غير أني لا أفهم أسرارها.
فقال مرميس ببرود: يسوءني أن تكون جاهلا لهذه أسرار، ثم أشار إلى ميلون، وقال له: اقتل هذا الرجل إذ لم يبق لنا فائدة فيه، فلم يكد يتم كلامه حتى صاح الإسباني وقد رأى بريق خنجر ميلون: رحماك يا سيدي، فإني أعترف بكل شيء وأقسم لك على الصدق فيما أقول.
فجلس مرميس بإزائه وقال: إني مصغ إليك فقل ما تعلم ...
34
وكانت هيئة الإسباني تحمل على الإشفاق، وتدل على أنه سيضحي بكل شيء للفرار من الموت، فتطلع إلى مرميس، وقال له: أتحميني وتحبسني في منزلك إذا أخبرتك بكل شيء؟ - نعم ... - إذن فاعلم أن البستانية الحسناء تدعى روميا. - قد علمنا ذلك من قبل. - وهي عشيقة برديتو الذي قتله المركيز دي مورفر ... - ماذا جرى لهذا المركيز؟ - إنه معها ... - إذن فهو حي؟ - إنه حي إذا صح أن يدعى من كان في حالته من الأحياء، فإنه معتوه مجنون يتقلب بين الفرح والكآبة ، ويمزج بين الضحك والبكاء ، فهو يموت في كل يوم ألف ميتة؛ لفرط ما يلقاه من العذاب الذي لا نهاية له، وسيكون لابنه، وللمرأة التي قبضت عليها، نفس نصيبه، ولو عثرت بك لعذبتك نفس العذاب. - ولكنها لم تظفر بي بعد. - وأنا أشير عليك أن لا تدخل معها في معترك، وإذا لم تقبل نصحي، وقدر لك الظفر بها فاقتلها قتل الحيوانات المفترسة، ولا تعاملها كما تعامل النساء؛ فإنها ليست من الناس.
فقال له مرميس: سأقتلها دون شك، ولكن يجب أن أعرف أين هي قبل أن أقتلها. - قلت لك إنها في سانت مانديه. - وحدها؟ - كلا، بل هي مع رجلين من النور يخضعان لها كل الخضوع، ولكني أعرف طريقة تمكنك من قتلها دون أن يستطيع النوريان حمايتها، وهي أن هذا البيت الذي تقيم فيه مزودج؛ أي إنه ذو دورين، يظهر الدور الأول منه للعيون، وأما الدور الثاني فهو في جوف الأرض لا يراه أحد، ولا يهتدي إلى مدخله أحد، فلو قضيت العمر باحثا عن مدخله لما علمت أن تدخل إليه، وذلك أنه يوجد في حديقة المنزل بئر لا ماء فيها، وفي أسفل البئر سرداب سري يدخل منه إلى ذلك المنزل، ولكن البئر كائنة في وسط الحديقة، وهي عميقة وفيها جميع معدات الاستقاء، فلا يخطر في بال أحد أنها باب هذا المنزل السري.
ثم يوجد هناك سر آخر، وهو أن باب السرداب يقفل دائما من الداخل، فلا يفتح إلا متى سمعت البستانية كلمة اصطلاحية تلقنها لجميع أعوانها كل يوم، وهي تبالغ هذه المبالغة في الاحتياط كي لا يأخذها أحد على غرة، ولا يعلم مدخل المنزل إذا سقط اتفاقا في البئر.
فسأله مرميس: وما هو هذا الاصطلاح؟ - إنك متى وصلت إلى البئر تقف عند فمها وتصفر، ثم تصبر هنيهة إلى أن تسمع صفيرا من داخل البئر مثل صفيرك، فإذا سمعت هذا الصفير تقلد صوتي، وتقول هذه الكلمة الاصطلاحية التي لقنتنا إياها اليوم وهي «الانتقام»، وعند ذلك ترى جوف البئر قد استنار، وترى البستانية قد خرجت إليه من الباب، فإذا كنت تجيد الرماية أطلقت عليها مسدسك وقتلتها.
ولما سمع مرميس قول هذا الرجل جعل يفكر، وكان يتراوح بين أن يأخذ معه الإسباني لتحقيق صدقه وبين أن يدعه مقيدا بحراسة ميلون، إلى أن استقر فكره على الرأي الأخير، فسأله: كم يقتضي من الوقت للذهاب إلى سانت مانديه والرجوع منها؟ - ساعتين. - بل أمهلك أربع ساعات، فإذا انقضت ولم أعد فأنت رجل ميت لا محالة.
ودخل مرميس إلى إحدى الغرف، فجاء بحبال وأمر ميلون أن يقيد رجلي الإسباني ويديه ويقيم جنبه ولا يفارقه لحظة، ثم كشف ساعته وقال لميلون: نحن الآن في الساعة العاشرة من المساء، فإذا حانت الساعة الثانية بعد انتصاف الليل ولم أعد فاقتل هذا الرجل دون إشفاق.
فامتثل ميلون وقيده وجلس بقربه، أما مرميس فإنه أخذ مسدسين فسلح سائق مركبته بأحدهما، وذهب وإياه إلى سانت مانديه، وهو يرجو أن يظفر بالبستانية وبإنقاذ أسراها.
أما ميلون فإنه أقفل الباب من الداخل بعد ذهاب مرميس، ثم وضع كرسيه عند الباب وجلس عليه وعيناه تراقبان الإسباني المقيد، وتنظران إلى الساعة من حين إلى حين.
وكان الإسباني ملقيا على ظهره وقد منعته قيوده من الحركة، فمضت ساعتان، ثم ثلاث دون أن يعود مرميس، فثارت هواجس ميلون وبدأ يقطب حاجبيه.
وعند ذلك ذابت الشمعة التي كانت تنير الغرفة وانطفأت، فقام ميلون إلى غرفة ثانية لإحضار شمعة ثانية وهو آمن على الأسير؛ لأنه مقيد أشد التقييد، غير أن هذه الفترة الوجيزة كانت كافية للإسباني فإنه بذلك جهدا عظيما فانقلب على بطنه بشدة، وكان في صدره زجاجة صغيرة فانكسرت لصدمة الانقلاب وسال ما كان فيها على الأرض، ففاحت رائحة شديدة كاد يختنق بها ميلون عند رجوعه، فأخذ علبة الكبريت من جيبه وحكها على العلبة كي يشعل الشمعة، فما لبث أن ظهر نورها حتى ظهرت فجأة تلك العجيبة الغريبة التي قرأناها في كتاب الفيروزة، فإن هذا السائل الذي سال من زجاجة الإسباني التهب على الفور فالتهبت الغرفة بجملتها، ولفحت تلك النار المستعرة ميلون فصاح صيحة ألم وذعر، واحترق وجهه ولحيته وشعره وخرج منذعرا من الغرفة إلى الرواق.
ولما رأى اللهب يتبعه وأنه علق بجميع البيت جعل يصيح مستنجدا، ولكن المنزل كان خاليا من الخدم، فإن مرميس وفاندا كانا يتوقعان حدوث أمور خطيرة فيه، فأطلقا سراحهم كي لا يعلموا بشيء مما يجري، ولم يبقيا غير السائق والسائس لثقتهما من رفقائهما.
ثم ذكر ميلون أنه لا يوجد في المنزل سواه، ورأى البيت أصبح أتونا؛ فنسي ذلك الأسير الذي كان مقيدا وسط اللهب، وأسرع إلى الشارع يصيح بصوته الجهوري مستغيثا من النار.
فتجمع الناس من حوله وبعد هنيهة اتصل الخبر برجال المطافئ، فأسرعوا بمضخاتهم واستمروا يعالجون النار بالمياه وغيرها من وسائل الإطفاء إلى الساعة الثالثة، حيث تمكنوا من إطفائها وانصرفوا.
وعند ذلك ذكر ميلون ذلك الإسباني، فقال في نفسه: ما عسى أن يكون جرى له، ألعله تمكن من قطع حباله بواسطة النار فنجا، أم أصبح فريسة اللهب؟!
فصعد إلى الغرفة التي تركه فيها فوجد جميع أثاثها رمادا، ولم يجد أثرا للإسباني ...
وأقام ميلون وحده في ذلك المنزل الذي أكلته النار، فذكر تلك الرائحة التي شمها حين دخوله إلى غرفة الأسير، وأيقن أن ذلك كان من صنعه، وأنه احتال هذه الحيلة للنجاة، فأيقن بالتالي أن مرميس أصابه ما أصاب فاندا، وكل ذلك بخطئه وعدم احتراسه، فجلس على عتبة الباب الخارجي، ووضع رأسه بين يديه وهو يكاد يجن من يأسه، ثم جعل يمزق ثيابه من القنوط ويبكي بكاء الأطفال، وفيما هو على ذلك شعر بيد وضعت فجأة على كتفه، فالتفت وهو يوشك أن لا يرى فانقبض ووقف على الفور كأنما آلة كهربائية قد حركته، وصاح صيحة فرح غريبة خرج معها اسم روكامبول.
عاد روكامبول بعد سفره الطويل، ورآه ميلون رأي العين، فجعل يقبل يديه وينظر إليه فيضحك ويبكي في حين واحد. •••
ولنترك الآن روكامبول وميلون، ونقص على القراء ما جرى لمرميس حين ذهب إلى منزل روميا متبعا تعليمات ذلك الإسباني الخائن، فنقول: ذهب مرميس مع سائق مركبته إلى منزل روميا ، فدخل معه إلى الحديقة ، وذهب توا إلى البئر كما أرشده الإسباني، فوقف عند بابها وأشعل عود كبريت، وألقاه في جوف البئر؛ ليتأكد إذا كانت خالية من الماء، فسقط وظل مشتعلا بحيث أيقن مرميس أن البئر لا ماء فيها.
ثم أشعل عودا ثانيا من ذلك الكبريت الشمعي، وانحنى به على البئر وجعل ينظر إلى أسفله ورأى أثرا يشبه أثر الباب، فأيقن من صدق تعليمات الإسباني، وأنه اضطر إلى خيانة البستانية الحسناء لإشفاقه على نفسه من الموت.
ثم أخذ صفارة من جيبه، وصفر بها كما قال له الإسباني، فما مرت دقيقة حتى خرج من جوف البئر صفير يشبه صفيره، فتراجع مرميس خطوة عن فم البئر كي لا يرى، وحمل بيده مسدسه، ثم قلد صوت الإسباني وقال كلمة السر وهي «الانتقام»، ورأى على الفور أن جوف البئر قد استنار وأن يدا برزت من بابها السري تحمل مصباحا، ثم تلا ظهور اليد ظهور رأس، وحدق مرميس بالرأس، ورأى بنور المصباح رأس روميا وأيقن أن الإسباني لم يكذب بشيء مما رواه.
وعند ذلك صوب مسدسه على الرأس وأطلق النار ودوى في جوف البئر.
وانطفأ المصباح، وسمع مرميس صيحة ألم؛ فخفق فؤاده خفوقا شديدا ليقينه أنه قتل المرأة.
ونظر مرميس إلى ما حوله وإلى المنزل المبني فوق الأرض، فلم ير فيه أثرا للنور، فالتفت إلى الخادم وقال له: إني سأنزل إلى البئر، ألا تزال مصمما على أن تتبعني؟! - دون شك. - إذن سأتقدمك ثم تنزل بعدي.
وكان للبئر خرزة معلق فيها حبل يصل إلى أسفل البئر، فتعلق مرميس بالحبل ونزل عليه، ثم تلاه السائق، فأشعل مرميس شمعة ورأى بابا مفتوحا يدخل منه إلى سرداب طويل، ورأى أثر الدماء متصلا في ذلك السرداب، ولكنه لم ير جثة البستانية، فقال في نفسه: لا شك أنها دخلت إلى داخل وهي في نزع الموت.
ثم التفت إلى السائق وقال له: إذا كنت خفت فإن الوقت لا يزال فسيحا لديك، فاصعد وعد من حيث أتيت. - إنك تحتقرني يا سيدي، فما أنا من الذين يرهبون في مواقف الشدة. - إذن هلم بنا وليحرسنا الله.
ثم دخل الاثنان إلى ذلك السرداب، وفي يد كل منهما مسدسه.
وكان مرميس يتقدم السائق في الدهليز، وكلما أطفئت الشمعة أنار غيرها، فيرى أثر الدم متصلا، ولكنه ما تقدم 20 خطوة، وهو يمشي مشي الحذر المتأني حتى سمع صوتا غريبا يشبه صوت هدم منزل، ورجع إلى الوراء فانذعر؛ إذ رأى قبة السرداب قد سقطت حجارة من ورائه بحيث سدت الطريق، وبات يستحيل عليه الرجوع، وأيقن في الحال أن سقوط القبة لم يكن من قبيل الصدفة والاتفاق، بل إنها هدمت خاصة كي يقطع على الرجلين خط الرجعة، فلم يعد يشعل الشمعة، واستمر سائرا أمام السائق في الظلمات وهو يقف مصغيا منصتا من حين إلى حين، ويقول في نفسه: لا شك أن البستانية قد أصيبت بجرح خفيف، ولو كان جرحها بالغا لما تمكنت من اجتياز هذه المسافة.
ثم أحس فجأة بتنفس إنسان بالقرب منه فوقف فانقطع التنفس، وقال للسائق: ألا تزال تتبعني؟! - نعم.
فقال مرميس في نفسه: يجب أن أعلم أين أنا.
وأخذ علبة الكبريت الشمعي من جيبه ولم يكن باقيا فيها غير ثلاثة عيدان، فأنار أحدها ونظر، ورأى السرداب طويلا لا نهاية له، ورأى الأرض مفروشة بالرمال وعليها بعض نقط من الدماء، ومد نظره إلى آخر ما يتصل إليه من السرداب، فلم ير من أثر روميا غير نقط دمائها، فقال لرفيقه: لم يبق في العلبة غير عودين. - أبقهما يا سيدي إلى حاجة أشد من حاجتنا الآن إلى النور.
وكان السائق طويل القامة، فكان يضطر إلى السير منحني الظهر في السرداب، وفيما كان مرميس سائرا أمامه سمع فجأة صوت رعب وألم، فالتفت وقال منذعرا: ماذا حدث؟
فلم يجبه السائق فقال له: أين أنت وما حدث لك؟
ولم يجب أيضا، فأشعل عند ذلك شمعة ونظر إلى ما وراءه، ورأى الرمال قد انزاحت ورأى مكانها أثر باب هوة، وعلم أن الباب قد فتح تحت قدمي السائق، وسقط إلى الهوة، وعاد الباب إلى ما كان عليه .
وقد اضطرب مرميس اضطرابا عظيما، وأيقن أنه سقط في فخ تلك الداهية، فاستسلم للقضاء، ومشى فسمع ضحكا شديدا يدل على الهزء به، وكانت الشمعة قد انطفأت وادلهم الظلام، فمد يده بمسدسه إلى الجهة التي صدر منها الضحك، وأطلق النار واستنار السرداب لحظة بنار الرصاص، ولكنه لم ير أحدا في حين أن صوت الضحك كان يدل على أن الضاحك قريب منه.
ثم توالى الضحك، فأن مرميس أنين الموجع لغضبه، وأطلق المسدس مرة ثانية على جهة مخرج الصوت، فانقطع الضحك، وجعل قلبه يدق دقات شديدة لحسبانه أنه أصاب المرمى.
غير أن ذلك لم يطل، وسمع صوت روميا تقول له بصوت الهازئ: لقد اقتصدت يا سيدي بعيدان الكبريت، فاقتصد برصاص المسدس فقد تحتاج إليه.
فصاح مرميس، وقد عرف صوتها: ألم تقتلي أيتها الأفعى؟
وأسرع إلى علبة الكبريت، فأنار الشمعة الأخيرة الباقية فيها، فرأى هذه المرأة عدوته واقفة على مسافة عشر خطوات منه، وهي تبتسم ابتسام الهازئ وتنظر إليه نظرات الاحتقار.
فصوب مرميس مسدسه وأطلق النار عليها، فانطفأت الشمعة وسمع روميا تقول له ببرود: لم يبق لديك غير رصاصتين.
وأطلق مرميس الرصاصة الخامسة، فأجابته بضحك المتهكم: أطلق السادسة أيها الأبله عساك تصيب.
فقنط مرميس، وأطلق الرصاصة الأخيرة، وهو يرجو أن لا يخطئ المرمى.
وعند ذلك بزع النور فجأة فأنار السرداب، ورأى مرميس البستانية الحسناء واقفة أمامه ضاحكة هازئة.
35
ولا يسع القلم وصف ما أصابه من اليأس بعد هذا الفشل وفراغ مسدسه من الرصاص، غير أنه كان لديه خنجر، وكان ذلك النور الذي لم يعلم من أين أتى لا يزال ساطعا ينير السرداب، فجرد خنجره وانقض على البستانية وهو يحسب أنه يدركها إذا هربت منه، غير أنها لم تتحرك ولبثت واقفة في مكانها تنتظر بملء السكينة، فحمل عليها حملة منكرة وطعنها بصدرها طعنة نجلاء، فأصاب الخنجر جسما حديديا وانكسر.
وعلم مرميس أنها لابسة درعا من الفولاذ، فهجم عليها يريد خنقها بيديه.
وكاد مرميس يجن من غيظه، فقد أضاع مسدسه وخنجره ونوره، فجعل يبحث عن عدو غير منظور في دهليز لم ير فيه غير العجائب المدهشة، وهو يتوقع كل حين أن يصاب بما أصيب به السائق، فيسقط في هوة أو يفاجأ بمكيدة أخرى.
وكان يسير إلى الأمام بملء الحذر، وكلما مشى عرف من صوت روميا أنها لا تزال تتقدمه، وتضحك عليه ضحك الهازئين.
ثم انقطع هذا الضحك فجأة وظهر لمرميس نور ضعيف عن بعد، فجعل هذا النور نصب عينيه وسار إليه ثابت القدم، رابط الجأش، غير مكترث لما كان يتوقعه من المكائد بسبب ما تولاه من القنوط.
وما زال يسير حتى وصل إلى هذا النور، فوجده نورا ضعيفا ينبعث من خلال باب.
ولم يتردد هنيهة وفتح الباب، فانفتح وظهر له نور عظيم، فوقف على عتبة الباب وجعل ينظر، ورأى قاعة متسعة تشبه كل الشبه تلك القاعة التي وضعت فيها روميا المركيز دي مورفر في لندرا، كما قرأ في كتاب الفيروزة.
ورأى في وسط القاعة سريرا، وفوق السرير امرأة مضطجعة، فلما رآها مرميس صاح صيحة فرح وأسرع إليها؛ لأن هذه المرأة كانت فاندا.
ولم تكن فاندا نائمة، فلما سمعت مرميس يناديها باسمها التفتت إليه، وقالت له: ماذا تريد أيها الرجل؟
فأجفل مرميس وارتد منذعرا، ورأى بين عيني فاندا علائم الجنون وأنها لم تعرفه.
أما فاندا فإنها لم تكترث لانذعاره، وقالت له بلهجة لطيفة: إنك لم تخطئ أيها الفتى، فقد كنت أدعى فاندا من قبل، أما اليوم فإني أدعى السلطانة فاطمة، وسأتزوج البرنس علي شقيق السلطان زوجي الأول، وسيتولى خطيبي السلطنة فأكون سلطانة مثله، وسترى ما يعده لي من الملاهي المدهشة.
ثم حدقت بمرميس، وقالت: يخال لي أني أعرفك أيها الرجل، فأين رأيتك من قبل، أما أنت رئيس التشريفات في بلاط البرنس علي؟!
فصاح مرميس صيحة منكرة، وقال لها بلهجة اليأس: فاندا كيف لا تعرفينني وأنا مرميس؟ - إني ما سمعت هذا الاسم من قبل. - روكامبول.
فارتعشت فاندا عندما سمعت اسم روكامبول، ونزلت من سريرها فوضعت يدها فوق كتف مرميس، وقالت له بحنو: ماذا قلت لي؟ - روكامبول.
فقطبت حاجبيها ووضعت رأسها بين يديها ، وبذلت جهدا عظيما كي تذكر هذا الاسم، ثم قهقهت ضاحكة، وقالت: لا أذكر شيئا.
وكان في تلك القاعة بيانو، فذهبت إليه وجعلت تعزف عليه غير مبالية به، فلطم جبينه بيده وقال: ويلاه إنها مجنونة!
فأجابه صوت من ورائه يقول: وستجن مثلها بعد بضع ساعات.
فالتفت ورأى البستانية الحسناء واقفة على عتبة الباب، فقال لها: تبا لك من شقية.
وحاول أن ينقض عليها، ولكنه شعر فجأة بأن رجليه لا تستطيعان المسير، كأنما قوة خفية حالت بينه وبينها، فقال لها: لا بد من سحقك أيتها الأفعى.
فقالت له روميا: ستسحقني في غير هذا المكان، وأما الآن أصغ إلي: إنك أردت أن تتداخل في شئوني وهي غير شئونك، وحاولت أن تقف على أسراري ولا شأن لك بها، وأردت أن تميط ذلك الحجاب السري المنسدل على حادثة المركيز دي مورفر، كما حاول ذلك من قبلك البارون هنري والفيكونت مونتيجرون.
أما البارون والفيكونت فقد قتلا كما علمت، وهذه المرأة أرادت أن تقف على أسراري أيضا، فانظر إليها تراها مجنونة جزاء مداخلتها في شئوني.
والآن إني أخيرك بين أمرين وهما: إما أن تعرف كل شيء وتموت، أو تكتفي بما رأيت فتعيش ولكن مجنونا كهذه المرأة، فاختر إذ لا مناص لك من أحد هذين الشرطين.
ولحظت روميا أنه ارتاع من الجنون، فقالت له: إذا أردت الوقوف على أسراري، أطلعك على كل شيء وأريك المركيز دي مورفر، ولكنك حين تراه تموت.
وإذا كنت تريد الحياة وفضلت الجنون، وهو قد يكون خيرا من العقل، إني أقضي على صوابك بلحظة بل بإدارة لولب. انظر ...
ثم ضغطت على لولب في الحائط، فخرج منه في الحال دخان رطب أبيض عرفه مرميس للفور، إذ ذكر ما لقيه منه حين كان في قبضتها في المرة الأولى.
وعادت روميا فضغطت على لولب آخر، فانقطع الدخان حالا وقالت له: اختر الآن. - أريد أن أعرف كل شيء. - وتموت؟ - نعم. - إذن ليكن ما تريد، وسأطلعك على كل شيء.
وصفقت بيديها ثلاث مرات، فدخل عند هذه الإشارة رجلان.
36
ونظر مرميس إلى هذين الرجلين فلم يعرفهما، ولكنه ما لبث أن نظر إلى الآخر حتى دهش دهشا غريبا، إذ عرف أنه هو ذلك الإسباني الذي تركه مقيد اليدين والرجلين بحراسة ميلون، ولم يكن لديه أقل مجال للشك؛ لأن الإسباني كان لا يزال مرتديا بالملابس نفسها؛ أي بملابس سائق المركبة.
وكان أحد الرجلين مسلحا بمسدس والآخر بخنجر، فقالت له البستانية: انظر إنهما مسلحان وأنت أعزل، فأنت في قبضتي ولا مناص لك من يدي، وبكلمة تصدر من فمي ينقض عليك هذان الرجلان ويقضيان عليك.
ورأى مرميس أن الخطر قد استفحل فزاده الإقدام على الموت جرأة، وما راعه غير فاندا جالسة تعزف على البيانو وهي رافعة نظرها إلى السماء، فنسي موقفه، وقال: وارحمتاه عليك أيتها المنكودة.
فقالت له روميا: تقول إنك تريد أن ترى، وإذا كنت لا تزال تؤثر الموت على الجنون اتبعني. - نعم فسيري بي إلى حيث تشائين.
وأخذت يده بيدها وأمرت الرجلين أن يسيرا أمامهما، وسارت بأثرهما مع مرميس إلى غرفة أخرى، ولما فتح الرجلان بابها ودخل مرميس مع روميا تراجع إلى الوراء، إذ رأى نفس ما رآه ماريون ومونتيجرون من قبله منذ أربعة أو خمسة أعوام؛ أي إنه رأى جثة ممدودة على منصة وحولها أربع شمعات مضاءة.
فقالت له روميا بلهجة الحزن الشديد: انظر أنت أردت أن ترى. - من هذا ألعله مورفر؟
فهزت رأسها وقالت: كلا ليس هذا مورفر الذي تراه، فقد خدعت به كما خدع سواك. ادن من هذه الجثة الراقدة، والمسها بيدك تجد أنها جثة بشرية لا تمثالا من الشمع، إن هذه الجثة جثة الرجل الوحيد الذي أحببته في هذا الوجود.
ثم دنت من الميت فقبلت جبينه، وعادت إلى مرميس وعيناها تتقدان، فقالت: إن هذا الرجل الذي تراه هو برديتو الذي قتله مورفر، برديتو الذي أحببته منذ حداثتي، وأنا أنتقم بموته في كل ليلة بل في كل ساعة.
إنك أردت أن تقف على أسراري وستعلم كل شيء.
ثم أخذته بيده وسارت به إلى باب آخر ، ولما فتحته شعر مرميس أن الدم قد جمد في عروقه؛ إذ رأى غرفة شبيهة بغرف السجون، ورأى مصباحا معلقا في سقفها، وفي آخر الغرفة فراش من القش عليه رجل شيخ وفي وسطه سلسلة من الحديد معلقة بالجدار.
فلما رأى الشيخ روميا بدت عليه علائم الرعب، فضم يديه شأن المتوسل، وقال بصوت يتهدج: رحماك أعفي عني.
ولم يكن هذا الرجل مجنونا، بل كان يشعر بحقيقة كل ما يقاسيه من العذاب.
فضحكت روميا ضحك المتهكم، وقالت له: ألعلك عفوت أنت عن برديتو؟! هل رحمت شبابه لأرحمك وأعفو عنك؟!
ثم التفتت إلى مرميس، وقالت له: ما دمت قد قرأت كتاب الفيروزة، فأنت تعرف هذا الرجل، بل هذا الشيطان المتنكر بصورة إنسان.
إن هذا الوحش الكاسر قد رباني وربى برديتو، وزرع في نفوسنا الحقد على المركيز دي مورفر، هذا هو الدوق دي فنسترنج الذي علمني أن أقتل النفوس بالروائح العطرية، وأن أسلب العقول بالقبلات، وهو الرجل الذي سلح المركيز دي مورفر بمسدس وحمله على قتل برديتو.
وأخرجته من ذلك السجن وهي تضحك هازئة بالدوق، فتبعها مرميس وهو لا يعلم إذا كان في يقظة أو حلم، ويعجب كيف علمت بكتاب الفيروزة.
ثم جعلت تضحك ضحك الأبالسة، وتقول: لقد حسب هذا الأبله أني رضيت من الانتقام بتعذيب مورفر، وأنه نجا مني. ولكن لا أكون انتقمت لبرديتو إذا أنا لم أعذب هذا الشيخ الضئيل، فإنه أعطاني كثيرا من المال ووهبني السفينة، وجعل بحارتها طوعا لأمري، فبذلت المال للبحارة، واستعنت بهم فنصبت له فخا وقع فيه، فقبضت عليه، وانظر ما أعددت له من العذاب.
وكان في زاوية الغرفة أتون ناري لا يراه الشيخ، فأشارت إلى الإسباني إشارة فهمها، فأخذ قضيبا من الحديد ووضعه في النار.
وسمع الشيخ هذه الحركة فبكى وأن، وقال: رحماك. - ألعلك رحمتني بمن أحب؟!
ثم جعلت تدير القضيب الحديدي في النار حتى احمر، فانتزعته ودنت من الشيخ، فكوت به كتفه وذراعه، وجعل الشيخ يصيح بصوت يقطع القلوب من الإشفاق، حتى إن مرميس نسي موقفه والتمس العفو للشيخ، فضحكت روميا ضحكا عاليا ورمت القضيب إلى الرجل.
ثم عادت إلى مرميس، وقالت له: بقي عليك أن ترى مورفر هلم بنا.
وسارت به إلى غرفة أخرى، ولما فتحت بابها نظر مرميس ورأى غرفة تشبه معابد الهنود علقت فيها مصابيح مختلفة، كانت أشعتها تتراقص على جدران صورة فيها الرسوم الغريبة بحيث كانت تشبه معبد الإلهة سيوا الذي كادت تحترق فيه جيبسي النورية.
ثم سمع صوت أنفاس إنسان بالقرب منه، فالتفت ورأى رجلا جالسا على مقعد شرقي في زاوية الغرفة، وهو بارز الوجنتين غائر المقلتين، مرخي الشفة، وبيده غليون طويل كان يدخن به، وتنبعث منه رائحة الأفيون.
فدنا منه مرميس وحدق به، فرأى رجلا يشبه الخيال غير أنه على تجعد وجهه وهزاله كان يشبه جثة برديتو التي رآها كل الشبه، وقال في نفسه: إذن لا بد أن يكون هذا المنكود المركيز مورفر.
وتحرك شارب الأفيون غير أن تحركه لم يكن لأنه رأى مرميس فإنه كان لا يرى غير ما يوحيه إليه سكره، ويتمثل له شخص يحبه ولا يراه فيناغيه بأرق ألفاظ الغرام.
وقد تمثل له ذلك الحبيب، وجعل يقول: نعم أحبك، ولو عشت معك إلى الأبد لرأيت الأبد قصير المدى سريع الزوال.
ثم بسط ذراعيه وضمهما إلى صدره، وكأنه يعانق شخصا حقيقيا.
وجعل مرميس يتأمله، وهو يوشك أن يجن من الشفقة عليه، فدنت منه روميا وقالت له: ما رأيك بهذا الرجل؟
فارتعش مرميس وقال: أهو المركيز دي مورفر؟ - هو بعينه ... - أهذا كل انتقامك؟ - نعم ...
فضحك مرميس وقال: أحمد الله فقد كنت أحسبك أشد عنفا وأغلظ فؤادا، فإن هذا الرجل قد ذهب الأفيون بصوابه فهو لا يدرك معنى انتقامك، بل أراه سعيدا يقضي ساعاته بين الأحلام وخيالات الغرام.
فابتسمت روميا ولم تجب.
فقال لها: لا أنكر أنك ستقتلين جسمه قتلا بطيئا، ولكن لا سلطان لك على نفسه. - أتظن؟ - إنك قتلت شعوره بالإدمان على السكر، فلم يعد يشعر بعذابك، حتى إنك لو أردت قتله لاستقبل الموت دون أن يدري أنه يموت. - أراك ذكي الفؤاد، فإن كل ما تقوله أكيد بالظاهر غير أنك مخطئ في الحقيقة، فإن هذا المركيز تمر به ساعات هائلة يذكر بها اسمه وولده وكل حياته السابقة، فيخافني خوفا لا يوصف، وأتمثل له بمثال الأبالسة، ثم يعود فيحبني كما تراه الآن. - هذا محال؛ لأن الأفيون يخمد الذاكرة. - هو ذاك غير أنه لدي دواء يبطل تأثيره مؤقتا.
ثم أخرجت زجاجة صغيرة من صدرها تحتوي على رشاش أبيض، فأخذت شيئا من هذا الرشاش ووضعته في الغليون، ثم قدمته للمركيز ووضعته في فمه، وقالت له: أريد أن تدخن.
فامتثل المركيز وجعل يدخن دون أن يعي، فنظرت البستانية إلى مرميس، وقالت له: اصبر هنيهة وسترى ما يكون.
37
وكان مرميس ينظر إلى هذا الشبح الذي يدعونه المركيز دي مورفر وروميا جالسة بقربه، ولم يكن معها أحد من أتباعها.
ونعم إنه قد فقد مسدسه وخنجره، غير أنه كان رجلا شديدا، والرجل أشد من المرأة في كل حال، فقد كان يستطيع أن ينقض عليها ويقتلها قبل أن تتمكن من الاستغاثة، غير أن هذا الفكر لم يدر في خاطره، فإن هواء تلك الغرفة التي كان فيها، أضعف أعصابه، وسكن ثائر غضبه، ففقدت نفسه كل حمية؛ ولذلك كانت روميا واقفة بقربه دون شيء من الحذر.
وكان المركيز عاكفا على التدخين بشوق شأن الشرقيين، الذين يلتمسون الملاذ في عالم الخيال، وبدأ ذلك الرشاش يؤثر فيه، فامتنع عن التمتمة وكف عن المناجاة، وجعل ينظر من حين إلى حين دون أن يعرفهما.
فقالت روميا: إنه لم يعرفنا بعد. - ألعله يستطيع معرفتنا؟! - دون شك متى تم تأثير هذا الرشاش.
وبعد هنيهة رأى عيني المركيز تضيئان شيئا فشيئا بأشعة تدل على العقل، ثم ألقى الغليون من يده إلى الأرض مغضبا وتحرك حركة فوق مقعده وقال: أين أنا؟
فقالت روميا بصوت التهكم: السلام عليك يا حضرة المركيز.
فعرفها المركيز وضم قبضة يده يحاول ضربها، وهم أن يثب عليها وهو ينظر إليها نظرات حقد هائل ورشفته بألحاظها الساحرة، وقالت له: احذر فأنت تعلم أن رجليك لا يحملانك وأنك لا تستطيع الوقوف.
فأن أنين الموجع وقال: هو ما تقولين.
ثم سقط على مقعده وقد ذهب جهده في الوقوف عبثا.
وكان صوت البستانية يصل إلى أذنيه كفحيح الأفعى، وقالت له: أيها المركيز أين أنت؟ - نعم، أعلم أني ضحيتك وشهيد انتقامك، وأنك شيطان في صورة إنسان. - إذن تعلم أنك المركيز دي مورفر. - ما أنا بشيء الآن ولا اسم لي. - ولكنك كنت المركيز دي مورفر أليس كذلك؟ - نعم ... - وكان لك خليلة تدعى الفيروزة.
فتنهد المركيز وقال: مسكينة فقد يقضي عليها الغم. - بل قضى عليها ... - لقد أخبرتني من قبل بهذا النبأ المشئوم، ولكني لا أصدق قولك. - ولك ولد أليس كذلك؟
فتنبه المركيز عند ذكر ولده تنبها شديدا، وقال: كلا ليس لي ولد ولم يكن لي أولاد. - أتريد أن تقول إنك لم تقل لي أين هو هذا الغلام؟! ولكني أعرف مكانه. - كذبت أيتها السافلة.
ولما قال هذا القول نظر إلى مرميس، فقال: من هذا؟ - كيف ذلك ألم تعرفه؟ - كلا، لكنه أحد أتباعك أو أحد شركائك في الجرائم. - لقد خدعت أيها المركيز، فإن هذا الرجل من أصحابك.
فنظر إليه مليا، ثم وضع رأسه بين يديه وقال: لا أعرفه ولا أذكر أني رأيته. - إذا لم يكن صديقك مباشرة، فهو صديق صديقك مونتيجرون، ألم أقل لك مرة أن مونتيجرون قد مات، أما هذا الرجل فهو صديق له، وقد أراد مثله أن يبحث عنك ووجد غلامك.
فنظر إليها المركيز نظرة غضب، وقال: قلت لك ليس لي أولاد.
فالتفتت روميا إلى مرميس، وقالت له: قل لهذا المركيز أن ابنه كان حتى هذا الصباح في الدير الكائن في شارع البوستة.
فأطرق مرميس برأسه إلى الأرض وقال: هذا أكيد.
فاتقدت عينا المركيز ووقف وهو يكاد يحرقها بنظراته، وقال: نعم لي ولد، ولكنك لا تستطيعين الاهتداء إليه. - قلت لك إني أعلم مكانه. - وأنا قلت لك إنك كاذبة فيما تدعين. - إنه في قبضة يدي أيها الغشيم وسترى بعينيك.
ثم صفقت ثلاث مرات، ففتح فجأة باب في جدار الغرفة لم يكن منظورا ، وارتفعت أصوات صراخ الغلام .
فالتفت مرميس منذعرا ورأى في وسط الغرفة الجديدة التي فتح بابها غلاما عاري الأكتاف، مقيد اليدين والرجلين، ورأى رجلين ينهالان عليه بالضرب بالسياط، وهو يصيح صيحات تقطع القلوب من الإشفاق دون أن يجد قلبا يحن عليه ويرحم ذلك الجسم الصغير.
وكان هذا الغلام ابن المركيز دي مورفر الذي اختطفته روميا من الدير.
38
وقد كان الرشاش الذي وضعته روميا في غليون المركيز رد إليه بعض الصواب.
أما مرميس فقد ردت إليه قوته المتخدرة حين رأى دموع الغلام وصياحه؛ فانقض على اللصين اللذين كانا يضربانه.
وعند ذلك أشارت روميا إشارة إلى الرجلين، فتركا الغلام وهجما على مرميس، فجرى بينهم عراك هائل وقد ضاعف الغضب قوة مرميس، فكانا يفوزان عليه ويلقيانه على الأرض، ثم ينهض متغلبا عليهما إلى أن وهت قواه وظفرا به، فألقياه إلى الأرض وركع أحدهما فوق صدره وأشهر خنجره، ثم قال لسيدته: أتريدين أن أطعنه؟ - كلا، بل قيداه.
فتعاون الرجلان على تقييده، ولم يفه بكلمة إذ كان من تلامذة روكامبول، وهو يعلم أن الاستغاثة في هذا المقام لا تفيد.
أما البستانية فإنها أمرت الإسباني أن يفك قيود الغلام، وكان المسكين لا يستطيع أن يصيح حذرا من الضرب، ففك قيوده ثم أمرته أن يذهب به، فامتثل.
وبقي مرميس وحده مع البستانية الحسناء مقيدا، ودنت منه وقالت له: إني لا أحب أن أباحثك وأنت ملقى على الأرض، ثم أمسكت كتفيه ورفعته بخفة عجيبة دلت على شدة قوتها البدنية، ووضعته على المقعد فقالت: لنتحدث الآن.
فنظر إليها نظرة احتقار على ما كان فيه من الخطر ولم يجبها.
أما المركيز مورفر فكان لا يزال مغميا عليه؛ لأنه حين رأى ابنه في قبضة البستانية وسمع صراخه ورأى أنه لا يستطيع أن يغيثه - صاح صيحة هائلة وسقط على الأرض لا يعي.
وجلست روميا قرب مرميس ورفست المركيز برجلها، وقالت: لا حاجة إلى الاهتمام به، فحين يستفيق من إغمائه يعود إلى ذهوله القديم، وأما أنت أيها الفتى إني أعرف من أنت، إنك تدعى مرميس، ورئيسك لص يدعى روكامبول، غير أن روكامبول مسافر، وقد مات دون شك، وما أنت بكفء لأن تعمل أعماله.
إنك كنت في بدء أمرك لصا، ثم أصبحت غنيا، ولم يخطر لي أن أتداخل في أمورك، ولكن الغرور قد تولاك فأحببت أن تعرف كل شيء، فاضطررت إلى المداخلة في أمرك، فوضعت العيون عليك، وأغريت أحد خدمك فأخبرني بالكتاب الذي كنتم تقرءونه بملء الاهتمام، فأمرته أن يسرقه ففعل، وهو كتاب الفيروزة، سرق منك أيها الأبله وأنت من الغافلين.
إني أنتقم من الرجل الذي كنت أحبه، وهو حق من حقوقي، فأردت أن تنزع مني هذا الانتقام، فقبضت عليك وهذا من حقوقي أيضا.
وكان لك شريكة بهذا العدوان فجعلتها مجنونة كما رأيت، ولا يستطيع سواي أن يرد إليها الصواب، ولكني ما تعودت هذا الكرم.
إني سأبرح باريس بعد خمسة أيام، وبعد ثمانية أيام أكون بين الماء والسماء، ومعي هاتان الضحيتان فلا يشغل بالي بعدها من يهتم بشئون المركيز.
وبعد خمسة أيام يجدون بين أنقاض هذا المنزل امرأة مجنونة واقفة قرب جثة، وإن المجانين لا تصدق أقوالهم، أما المجنونة فهي فاندا، وأما الجثة فهي أنت.
ثم ضحكت ضحك الهازئ، وقالت: لا أخالك ترجو أن أعفو عنك. - اقتليني فإني أحتقرك.
فعادت إلى الضحك وقالت: تعجبني منك هذه الجرأة، فقد طالما أعجبت النساء بالأبطال؛ ولذلك فإني لا أقتلك بمسدس أو بخنجر كما قد يتبادر إلى ذهنك، فإن إراقة الدماء محرمة علي، ولكني أميتك ميتة تنطبق على جرأتك وتوافق بسالتك وإقدامك.
إنك رجل ذكي الفؤاد قرأت تواريخ الأمم، وعلمت دون شك أن الصينيين أغلظ الأمم قلوبا وأشدهم تفننا بالتعذيب، وقد تعلمت منهم طريقة للقتل أنفذها فيك، وهي أني سأميتك باليقظة الدائمة فلا ينطبق جفناك إلا على الموت.
وكان مرميس باسلا لا يكترث بالموت، ولكنه لم يسعه حين علم هذه الميتة إلا أن ينذعر وتظهر عليه علائم الخوف، فضحكت روميا وقالت: إن من يعذب هذا العذاب يموت بمدة خمسة أيام، ولكن من كان باسلا مثلك لا يجد هذه المدة طويلة.
ثم صفقت بيديها ثلاثا فحضر إليها رجلان، واضطرب مرميس فقال في نفسه: أين أنت يا روكامبول فتنقذني من هذا البلاء؟!
39
ولما جاء الرجلان قالت لهما: يجب أن تبقيا مع الرجل فلا تفارقانه.
وقالت لمرميس: اطمئن أيها الباسل، فسأزورك في هذه المدة من حين إلى حين، ثم تركته وانصرفت، فجلس الرجلان بقرب مرميس.
وجعل مرميس ينظر إليهما ويفتكر بالطريقة التي سيميتانه فيها، ثم يفتكر بروكامبول ويقول: إني لو كنت أعلم أنه في باريس لما يئست.
ومضى على ذلك ساعتان فضعفت قوته الطبيعية، وبدأ النعاس يدب إلى جفنيه.
والرجلان أمامه ينظران عينيه منفحتين فلا يفعلان شيئا إلى أن تغلب عليه النعاس فأطبق جفنيه.
وفي الحال سمع دويا فجائيا ففتح عينيه منذعرا، وتحرك متململا بقدر ما تسمح له قيوده، وكان هذا الدوي من قضيب حديدي قرع به الإسباني طبلا من النحاس، فعلم مرميس أن العذاب قد بدأ.
ومضى على ذلك خمس ساعات أغمض مرميس عينيه في خلالها عشرين مرة، وكلما أطبق جفنيه أيقظه فجأة دوي الطبل.
غير أنه تعود هذا الدوي واشتدت حاجته إلى النوم، فلم يعد يوقظه صوت الطبل، فقال الإسباني لرفيقه: اذهب وائتني بالإناء.
فخرج رفيقه وعاد بعد هنيهة يحمل إسفنجة وإناء فيه مياه مبردة بالثلج، وجعل يغمس الإسفنجة بالمياه المبردة ويعصرها على رأسه كلما أطبق عينيه، فيهب المسكين منذعرا لا يجد الراحة إلا بالموت.
ومضت ساعتان على هذه الطريقة الثانية، فأتت البستانية الحسناء وقالت للرجلين: اذهبا وناما فأنا أتولى السهر عليه عنكما.
وقد بدأ مرميس يشعر بطنين في أذنيه وثقل في دماغه، ولكنه حين رأى تلك المرأة هاج أشد هياج، وجعل يشتمها أقبح شتم وهي تضحك كأنه يثني عليها.
ثم انقطع عن الشتائم وتجلد نحو ساعتين إلى أن أغمض عينيه بالرغم عنه، فأخذت البستانية دبوسا طويلا من دبابيس البرانيط ووخزته به، فصاح مرميس متألما وأحس أنه سيفقد رشده.
كل ذلك وروميا جالسة أمامه تراقب عينيه بصبر عجيب، فإذا أطبقهما وخزته بالدبوس، وما زالت على ذلك حتى صبغ الدبوس بدمه وأصيب بالذهول، ولكنه على ذهوله كان يسمع صوت حفر فوق رأسه، وربما خيل له ذلك لتزايد طنين أذنيه، أما البستانية الحسناء فكان يظهر أنها لم تسمع شيئا، وقد اضطجعت على مقعد بالقرب منه، وحملت كتابا بيدها وجعلت تقرأ مقطعا في الكتاب وتنظر نظرة إلى مرميس.
ومضت ساعات كثيرة على هذه الحالة واستحال ذهوله إلى ضعف شديد، وتغلب عليه سلطان النوم حتى كانت روميا تضطر إلى وخزه مرتين أو ثلاثا كي يستفيق.
وعند ذلك دخل الرجلان وهما يحملان كانونا كبيرا تتقد فيه النار وقضيبا من الحديد، فجن مرميس من رعبه حين رأى النار؛ إذ خطر له عقاب الدوق دي فنسترنج.
ولكن النوم تغلب عليه بالرغم من رعبه، وكان القضيب الحديدي قد وضع في النار، وجاء الإسباني ونزع الثياب عن كتفي مرميس، فلم يكد يطبق عينيه حتى شعر بأن النار قد كوت كتفه، فهب منذعرا كالمجانين، ودام هذا العقاب الثالث عشر ساعات لم ير مرميس في خلالها البستانية الحسناء، وكان كلما غفا تكوي النار جسمه فيصيح ويتوجع وقد تخضب جسمه بالدماء، وتمكنت منه الحمى، ولكنه كان مع ذلك كله يسمع حركة فوق رأسه لا يعلم ما هي.
وفيما هو على ذلك إذ نظر الإسباني إلى رفيقه نظرة انذهال، فإنه سمع ما كان يسمعه مرميس وقال له: يجب أن نوقظ السيدة ونخبرها.
فتأكد مرميس عند ذلك بصدق سمعه وعلل نفسه بالنجاة.
وبعد حين عادت البستانية الحسناء، فأشار لها الإسباني إلى السقف حيث سمع الصوت.
فأصغت روميا وسمعت تلك الحركة فاصفر وجهها، وزاد رجاء مرميس، وعند ذلك سقط قسم من السقف فجأة، ووقع حجر ضخم عند قدمي روميا فتراجعت منذعرة إلى الوراء.
ثم تلا هذا الحجر حجر ثان فثالث، ففتحت كوة في السقف وسقط منها رجلان، فصاحت البستانية صيحة ذعر، وصاح مرميس وهو بين حي وميت صيحة انتصار.
ذلك أن هذين الرجلين اللذين انقضا انقضاض الصاعقة كانا روكامبول وميلون، وكلاهما يحمل خنجرا في فمه ومسدسا في يده.
40
وكان اضطراب مرميس شديدا حتى إنه أوشك أن يغمى عليه من شدة الفرح، وأسرع ميلون وقطع قيوده بخنجره.
أما روكامبول فإنه وضع يده على كتف روميا، وقال لها: إنك لا تعرفينني، ولكني سأخبرك باسمي.
وتحمس مرميس وقال: روكامبول.
غير أن روكامبول هز رأسه، وقال: إني لا أدعى أمام هذه السيدة روكامبول ولا الماجور أفاتار، ثم حدق بها وقال: بل إني ذلك الرجل الذي يجب أن يحضر من الهند.
فحدث عند ذلك ما يحدث في مباغات المراسح، فإن هذه المرأة العاتية الهائلة التي قضت على مرميس بموت اليقظة، وهذا الشيطان الرجيم الذي يعذب المركيز منذ خمسة أعوام، بل هذا الوحش الكاسر الذي يجلد الأطفال بالسياط، ويكوي الشيوخ بالنار، إن هذه المرأة ركعت فجأة أمام روكامبول، ولكنها لم تركع ركوع مجرم يلتمس العفو، بل ركوع عبد يتنظر الأوامر، فجعل روكامبول ينظر إليها نظراته الحادة، وكان المركيز دي مورفر لا يزال منطرحا على الأرض وهو مخدر بالأفيون.
فنظر إليه روكامبول وقال: إنه لم يمت بحمد الله، وسيعود إلى ما كان عليه، فإذا كان لديك سموم تقتل فإن لدي منها ما يعيد الحياة.
ثم نظر إلى مرميس، وقال: وأنت كم بقي لك هنا؟ - لا أعلم بالتدقيق ولكني أظن أني هنا منذ يومين على الأقل. - وفاندا أين هي؟
فأشار مرميس بيده إلى غرفة وراءه، وقال: إنها في تلك الغرفة، ولكنها مجنونة وا أسفاه!
فنظر روكامبول نظرة جفاء إلى روميا، فاضطرب وقالت له: رحماك إني أعيد إليها الصواب.
فقال لها ببرود: هذا ما أرجوه على الأقل، والويل لك إذا أصيبت بمكروه.
وكان مرميس لا يزال له بقية من الرشد على ما لقيه من العذاب، وكان يتوقع من روكامبول أن يعاقب البستانية وأعوانها في الحال، ولكن روكامبول لم يفعل شيئا من ذلك، بل إنه أعاد مسدسه إلى جيبه، وخنجره إلى منطقته، وقال للبستانية: إني أتيت في الوقت الملائم لإنقاذهم، ولو كان أصيب أحد منهم بمكروه لما كنت أبقي عليك.
وكانت روميا لا تزال جاثية أمامه، فقال لها: انهضي أيتها العبدة، فإني محتاج إلى خدمتك .
فوقفت وقالت: مر أيها الرئيس.
وتمتم مرميس قائلا: لا شك أن ما أراه مثلته لي الحمى!
فسمعه روكامبول وقال له: بل إنك في يقظة، وقد زال عنك الخطر وأنت في حاجة للرقاد فنم. - إني أشد حاجة إلى الشرب مني إلى النوم، فإن النار تتأجج في صدري.
فنظر روكامبول إلى البستانية نظرة خاصة، فالتفتت إلى الإسباني وكان منذهلا أتم الانذهال مما يراه وكلمته بلغة سرية لا يعلمها غير النور، فذهب الإسباني وعاد بعد هنيهة بكأس مبردة من الخمر وقدمه لمرميس بملء الاحترام.
فتردد مرميس عن شربها إلى أن أمره روكامبول، فشرب الكأس مطمئنا جرعة واحدة، ثم سقط على الأرض لا يلوي على شيء، وأطبق جفنيه فنام نوما هنيئا بعد ذلك العذاب الشديد.
ولما رأى روكامبول أنه غفا قال للبستانية: اتبعيني الآن.
فتبعته صاغرة وخرجا من الغرفة. •••
ولم يدر مرميس حين استيقظ من رقاده كم كانت مدة نومه، ولكنه وجد نفسه لا يزال في تلك الغرفة التي أنقذه منها روكامبول دون أن يجد أثرا لروكامبول والبستانية والمركيز، بل كان وحده في تلك الغرفة المنارة بضوء ضعيف، فنظر إلى ما حواليه وقال: أين ذهبوا وأين أنا؟!
وعند ذلك فتح الباب، وظهر له ميلون ففرح مرميس لرؤياه، وقال: أين نحن الآن يا ميلون؟ - في منزل سانت مانديه تحت الأرض. - وفاندا؟ - إن الرئيس صحبها وإياه. - وهي؟ (يريد البستانية الحسناء وقد ظهرت عليه علائم الذعر حين ذكرها.) - سافرت أيضا مع الرئيس.
فانذهل مرميس، وقال: ما هذه الأسرار؟
فقال ميلون: وأنا منذهل نفس انذهالك، ولكن الرئيس لا يظهر أسراره لأحد.
وكأن مرميس كان لا يزال يخشى أن يكون حالما لفرط ما لقيه من العذاب، فقال لميلون: إذن أحق ما رأيته؟! وأن الرئيس عاد من الهند وأنه هو الذي أنقذني؟! - ذلك لا ريب فيه. - أسافر بعد ذلك كما تقول؟ - نعم، وقد تركني بقربك وأعطاني إليك هذا الكتاب الضخم وهذه الرسالة.
فأخذ مرميس الكتاب ونظر في صفحته الأولى فوجد فيه هذا العنوان:
كتاب كنوز الهند بقلم الماجور أفاتار
ثم فض الرسالة المعنونة باسمه وقرأ ما يأتي:
41
ولدي العزيز
إني لم أعاقب ذلك الوحش المفترس الذي يدعونه «البستانية الحسناء»، ولكنها مع ذلك قد عذبت المركيز دي مورفر عذابا قضى على صوابه وا أسفاه! وأخشى أن لا يعود إليه رشده إلا بعد زمن طويل، وعذبتك أنت عذابا هائلا يحلو بعده كل انتقام، فإني لو تأخرت عن نجدتكم بضع ساعات لما كنت أنت والحبيبة فاندا على قيد الحياة.
غير أني لم أضرب هذه المرأة ضربة قاضية تسحقها، بل أعددت لها وسائل التوبة والاستغفار لسر دقيق ستدرك تفاصيله متى قرأت كتاب كنوز الهند، وهو الكتاب الذي كتبته بيدي وأرسلته إليك مع ميلون.
إنك سمعت دون شك بأخبار الهند، التي يعبث فيها الخناقون وبخفاياها وأسرارها الهائلة.
على أن هذه البلاد ليست قاصرة على رجال الشر، بل إن فيها كثيرا من رجال النبل والخير، وكثيرا من الجمعيات العظيمة المتحدة لمقاومة مظالم الإنكليز.
وإن بين أحرار الهند الذين أبوا الخضوع للإنكليز أميرا يؤثر ألف موت على العبودية، وهذا الأمير كان من أصحابي.
إن روكامبول اللص السفاك عاش عامين جنبا إلى جنب مع أعظم نبيل في الوجود، فشاطره البؤس والنعيم ولم يفصل بيننا غير الموت.
وقد أقسمت لهذا الأمير النبيل، وهو ينظر إلي للنظرة الأخيرة يمينا حرجة لقضاء شأن خطير أؤمل أن أنال بعد قضائه ما أرجوه من عفو الله، وستكون أنت عوني على البر بهذا اليمين.
ومن أجل هذا غفرت عن «البستانية الحسناء»، وعينتها في خدمتي لحاجتي إليها في هذه المهمة الخطيرة، إنها آلة هائلة فلا يفل الحديد إلا الحديد.
إذن اقرأ الكتاب الذي أرسلته إليك وموعد لقائنا قريب.
روكامبول
42
فلما قرأ مرميس هذه الرسالة قال لميلون: متى سافر الرئيس إلى لندرا؟ - أمس مساء ... - وهل أمرك أن تبقى معي؟ - نعم وأنا معك منذ غفوت؛ أي منذ ساعتين، ساعة نمتها دون أن تتحرك؛ لأن الرئيس سقاك مخدرا كي يسهل عليك الرقاد، ويسهل علينا ضمد جراحك. - وماذا يجب أن أصنع الآن؟ - يجب أن تبقى هنا بأمر روكامبول، فقد قال لي: لا يجب أن يبرح مرميس هذا المنزل قبل أن يقرأ جميع كتاب كنوز الهند، ولدينا هنا كل ما نحتاج إليه. - إذن سأبقى امتثالا لأمره، ولكني على فرط شوقي لمطالعة كتابه أوثر الطعام على المطالعة الآن؛ لأني أوشك أن أموت جوعا.
فخرج ميلون وعاد بعد هنيهة يحمل مائدة صفت عليها صحون الطعام، فأكل مرميس بشراهة لا توصف، وسأل ميلون خلال الطعام كيف اهتدى إلى السرداب الأرضي، فأخبره ميلون عند ذلك بجميع ما جرى له بعد خروجه من المنزل، وكيف احترق المنزل، وكيف فاجأه روكامبول وهو يمزق صدره من قنوطه، فأخبرت الرئيس عند ذلك بجميع ما قاله الإسباني لك، فلم يتوقف روكامبول لحظة، وجئنا إلى البئر فاهتدينا إلى مدخل السرداب، ولكنه رأى أن القبة قد تهدمت وسدت المدخل، فخطر له عند ذلك أن يصعد إلى المنزل ويفتح منه المنفذ إلى السرداب، فدام ذلك يومين كاملين. - وماذا جرى للسائق المسكين الذي كان يصحبني؟ - وجدناه في هوة يكاد يموت من الجوع، فأنقذناه وهو الآن في المنزل.
فشكر مرميس الله لإنقاذه، ولما فرغ من الطعام أخذ كتاب روكامبول وبدأ يقرأ، فكان عنوان فصله الأول «محرقة الأرملة».
كنوز الهند
كنوز الهند
كنوز الهند
كنوز الهند
روكامبول (الجزء الحادي عشر)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
كنوز الهند
1
عرف القراء من رواية البستانية الحسناء التي تقدمت هذه الرواية أن روكامبول مسافر إلى لندرا مع روميا وفاندا.
وقد عرفوا أيضا أن مرميس نام ستين ساعة متوالية في ذلك السرداب المخيف في منزل البستانية الحسناء، فلما استفاق لم يجد شيئا من آثارها الهائلة، فلم ير المركيز المعتوه، ولا فاندا المجنونة، ولا الدوق الذي كان يكوى بالنار، ولا الطفل الذي كان يجلد بالسياط، بل وجد أمامه ميلون فأخبره كيف أنقذه روكامبول وأعطاه كتابا ضخما عنوانه «كنوز الهند»، وأمره باسم روكامبول أن لا يبرح هذا السرداب قبل أن يتم تلاوة الكتاب، فلم يسع مرميس إلا الامتثال، وجلس يقرأ كتاب روكامبول، فكان عنوان أول فصل من فصوله:
محرقة الأرملة
إن هذا الكتاب وضعه روكامبول وكتبه بخطه، فضمنه جميع ما جرى له من الحوادث في الهند خلال إقامته فيها عامين متصلين لم يلق فيهما غير العجائب النادرة من كل ما يطير بالنفس إلى عالم الخيال، ويشغل المطالع بتلاوتها عن كل ما في هذا الوجود. أما هذا الكتاب الغريب فقد بدأ كما يأتي: ملت الطير صياح البشر، وراعها احمرار الشفق، فاستقرت على الغصون، واختبأت بين الورق.
وغابت الشمس في البحر، وذهب معها حرها المحرق، واستبدلت رياح السموم التي تتساقط من أعالي الجبال بنسمات بليلة كانت تهب من جهة البحار.
وبزغت النجوم في سماء الهند الصافية، فبدأ الناس يتهادون في الشوارع، ويسيرون متنزهين في سهول كالكوتا يستنشقون ذلك النسيم العليل بعد أن كان يصهر أجسامهم حر النهار.
والعادة في الهند أن معظم قومها ينامون في النهار أيام الحر الشديد، فلا يستيقظون إلا حين تتوارى الشمس في الحجاب، حتى إذا هجم الظلام خرجوا من بيوتهم، وهبوا من ذلك الرقاد الإكراهي، وتجولوا في الشوارع بين ساع وراء رزقه وبين متنزه مرتاح إلى رطوبة الليل.
وهناك بيت بني من القصب الهندي عند أبواب كلكوتا في سهل قسم من المدينة يدعى «المدينة السوداء»، كان فيه أربعة من ضباط الإنكليز مجتمعين حول طاولة يشربون الشاي.
وكان بينهم ضابط فرقة - وهو أصغرهم سنا - فقال لرفاقه: أرأيتم في صباح اليوم حين عودتكم من المناورات موكب الأرملة المفجع؟
فقال أحدهم: أي موكب هذا؟ - موكب أرملة الرجاه نجد كوران. - كلا، لم أر شيئا من هذا.
فقال أكبرهم سنا: ألعل أرملة الرجاه قد توفيت؟ - كلا. - إذن لماذا تقول إنه مفجع؟
وكان الضابط الصغير يدعى جاك بلاكويلد. ابتسم وقال له: يظهر جليا يا صديقي هاريس أنك قادم حديثا من أوروبا، وأنك لا تعرف شيئا من تقاليد أهل هندنا المحبوبة.
فابتسم هاريس أيضا وقال: لتكون محبوبة قدر ما تشاء، ولكن حرها غير محبوب؛ فإنه لا يطاق. - إنك إذا قارنت بين حر كلكوتا وضباب لندرا يهون عليك أمر هذا الحر، على أني من أهل لندرا يتصل نسبي بجد ولده الملك غليوم سفاحا، أي أني إنكليزي بحت من الأسرات القديمة، ومع ذلك فلو خيرت بين أن أبقى في حامية كلكوتا وبين أن أكون في ثكنة من ثكنات لندرا لاخترت البقاء في هذه البلاد. - ربما كان ذلك لتعودك مناخها، وعسى أن أتعوده مثلك؛ فلنعد الآن إلى الأرملة، واذكر لنا مما تعرفه من أمرها. - إنها هندية في السادسة عشرة من عمرها، ومن كانت في هذا العمر في بلادنا تحسب من الفتيات، وأما في الهند فإنها توشك أن تحسب من العجائز. - نعم، فقد قرأت شيئا من هذا في الكتب، ولكن هذه الصبية العجوز هل هي جميلة؟ - إنها لا تزال في نضارة الجمال. - وهي أرملة؟ - إنها أرملة الرجاه نجد كوران، وهو أمير من أمراء الجبال أبى حتى وفاته الخضوع للإنكليز، ولا يزال يوجد ستة أمراء لم يخضعوا لنا بعد.
فابتسم الضابط وقال: ولكنك تعلم أن إنكلترا لا تحب العجلة؛ لأنها تورث الندم كما يقول المثل العربي، فهي تقاتلهم من حين إلى حين بسلاح النار، ولكنها تقاتلهم كل يوم بسلاح الأفيون، وهو أشد فتكا من طعن السيوف وكرات المدافع.
والآن قل لنا: أمات هذا الأمير؟ - نعم، إنه توفي منذ شهر، وقد وصلت أرملته مساء البارحة تصحبها حاشية عظيمة إلى أبواب المدينة، فتجولوا بها كل الليل يصدحون لها الألحان الهندية المحزنة.
وفي هذا الصباح أركبوها جوادا وأدخلوها إلى المدينة باحتفال عظيم. - وما أتت تعمل في هذه المدينة؟ - أتت لتموت. - ألعلهم يريدون إحراقها بعد موت زوجها حسب عوائد الهنود؟ - هو ما تقول. - ولماذا يريدون إحراقها في كلكوتا دون سواها؟ - لأن زوجها الأمير من أعظم أشراف الهنود، ولأن مدفن عائلته في كلكوتا. - مسكينة هذه المرأة التعيسة؛ فإنها لو خيرت لما اختارت هذه الميتة الشنعاء. - هو ما تقول، ومن يريد الموت لنفسه؟ فقد مر موكبها اليوم من تحت منزلي، ورأيت تلك المنكودة صفراء الوجه والدموع تملأ عينيها، ولكن سيان عند أولئك الجلادين الغلاظ الأكباد رضيت أم لم ترض؛ إذ لا بد لها من صعودها إلى المحرقة، وإذا تمنعت أصعدوها إليها بالقوة. - ومن ينفذ هذه المهمة؟ - أهلها وخدام زوجها الميت. - كيف تجري مثل هذه الأمور الهائلة الهمجية في كلكوتا، أما هي مدينة إنكليزية؟! - دون شك. - إذن كيف تأذن الحكومة الإنكليزية بهذه الفظائع؟ - أعيد عليك ما قلته لك في بدء هذا الحديث، وهو أنك قادم حديثا من أوروبا، فاعلم أنه أولا: لا يحب حكمدار الهند أن يتداخل في شئون الهنود الدينية. - وثانيا؟ - وثانيا: أننا نعلم يقينا أن أرملة الرجاه ستموت في كلكوتا، ولكن الحكومة والشعب والبوليس يجهلون الساعة والمكان المعين للقتل؛ ولذلك فإنهم يطوفون بتلك المنكودة في أرجاء المدينة المتسعة يوما أو يومين، وقد يطوفون ثلاثة أيام، ثم يحجبون كلهم عن الأنظار فلا يعلم أحد مقرهم إلى أن يعثر البوليس بعد بضعة أيام في شارع من الشوارع الوطنية المعتزلة على رماد المحرقة؛ فنعلم أن القضاء قد نفذ فيها، وأنها قد أحرقت بالنار.
فاهتز القائد لهول ما سمع وقال: لو كنت حاكم الهند لعرفت كيف أحول دون هذه الفظائع التي يسود لها وجه الإنسانية، وعار علينا نحن الإنكليز أن لا نقتلع جذور هذه الهمجية ونحن في طليعة الأمم المتمدنة.
فهز القائد الصغير كتفه وحاول أن يجيبه، ولكن حال دون ذلك دخول ضابط آخر عليهم، فشغل عن الإجابة باستقباله وقال له: أهذا أنت يا حضرة الماجور؟ - نعم، أنا بعينه. - وما لوجهك مصفرا وصوتك يتهدج؟ - لأني اجتزت خمسين مرحلة على جوادي دون أن أقف. ثم جلس على كرسي واهي القوى، فقال الضابط الصغير لرفاقه: أعرفكم أيها الأصحاب بالسير إدوارد، أشد رجل عرفته في البلاد الإنكليزية، وأعظم الناس جراءة وإقداما.
فانحنى الجميع أمامه وتم التعارف.
وعند ذلك قال له الضابط: إن هيئتك يا حضرة الماجور لا تدل على التعب وحده، بل على الاضطراب أيضا. - هو ذاك، فإني محتاج إلى أربعة رجال أشداء لقضاء شأن خطير. - هو ذا، نحن أربعة نعينك فيما تريد؛ فأخبرنا عن هذه المهمة.
2
إن هذا الرجل الذي دخل على الضباط الأربعة دون أن يتوقعوا قدومه كان في الثامنة والعشرين من عمره.
وكان دون الربعة، أي أن جسمه أميل إلى القصر منه إلى الطول، وهو أسود الشعر، أسمر الوجه، وقد لوحت شمس الهند وجهه فبات يشبه الشرقيين أكثر مما يشبه الإنكليز.
ولقد تقدم تقدما سريعا في الجيش، وكان السبب في تقدمه ما أظهره من الجرأة والبسالة في كثير من المعارك التي كان يسيرها الإنكليز على أمراء الهنود.
بل ربما كان سر هذا التقدم حسن إتقانه اللغة الهندية؛ إذ كان من المجيدين فيها تكلما وكتابة، فكان يتنكر بأزياء الهنود ويمتزج بالثائرين على الإنكليز، فلا يزال يعاشرهم ويتزلف إليهم حتى يتمكن من سرقة مشروعاتهم، والوقوف على خططهم الحربية وقواتهم ومراكزهم، فيعود بجميع هذه التفاصيل إلى الجيش الإنكليزي؛ فيتأهبون لمحاربة أولئك العصابة بأعظم من قواتهم، ويهجمون عليهم هجوم الواثق المطمئن؛ فلا يكون لهم غير النصر الأكيد.
على أن قواد الإنكليز كانوا مختلفين في تقدير أعماله والحكم عليها؛ فكان بعضهم يعتبرون أن أعمال الماجور إدوارد تدل على الجرأة والإقدام لمخاطرته بحياته في سبيل أمته وبلاده.
ويرى آخرون أن أعماله على ما فيها من الجرأة لا تخلو من شبه مهنة الجاسوسية، وهي مهنة مستنكرة، فيرد عليهم آخرون أن التجسس غير منكر في الحروب.
ولذلك كان لهذا الماجور بين القواد من يحبونه ويعجبون به، ومن يحتقرونه.
ولكنهم على اختلافهم في تقدير أعماله كانوا متفقين على الاعتراف له بالبسالة النادرة.
وكان هذا الماجور على بسالته وافر الذكاء، رحب الصدر، كثير الدهاء؛ فكان يتخلق بما يريد من الأخلاق، ويظهر غير ما يضمر.
غير أن الجلد خانه في هذه المرة؛ فقد كانت دلائل الاضطراب ظاهرة على وجهه حتى اضطر القائد الصغير إلى سؤاله مرة ثانية عن سبب اضطرابه.
فعاد الماجور تباعا إلى سكينته العادية وقال: تقدم لي القول، أيها الرفاق، أني اجتزت خمسين مرحلة دون أن أقف إلا لتغيير الجواد؛ فقد قتلت أربعة جياد. - من أين أنت آت؟ - من جبال الهند التي تتألف منها مملكة الرجاه نجد كوران. - أهو هذا الرجاه الذي جيء بامرأته إلى كلكوتا لتحرق فيها ؟ - هو بعينه، وإني ما قتلت الجياد الأربعة وجئت بهذه السرعة إلا من أجل هذه الأرملة.
فثار فضول الضباط الأربعة لهذا النبأ وصاحوا جميعهم بصوت واحد: كيف ذلك؟ - أتعرفون كيف مات الرجاه؟ - كلا. - إنه كان في حفلة صيد، فسقطت على رجله حربة مسمومة من تلك الحراب التي يسممها الهنود في قتال النمور وغيرها من الوحوش الضارية، فلا يفيد سمها دواء، ولها تأثير في القتل أشد من تأثير سلاحنا الناري.
فجرح الرجاه جرحا خفيفا، لكن جسمه تسمم في الحال فما عاش غير بضع ساعات.
فقال الضابط: أمات دون أن يخضع للإنكليز؟ - نعم، وكذلك أخوه عثمان الذي خلفه على الإمارة إثر وفاته. - قل لنا يا حضرة السير: أية علاقة بين سرعتك في سفرك وبين أرملة الرجاه الحسناء؟ - ذلك أني كنت في مهمة لدى الرجاه الميت؛ وهي أني عرضت عليه بعض اقتراحات مآلها أن يحالف إنكلترا، ويكون عدوا لأعدائها، بشرط أن تضمن له استقلاله.
فضحك القائد وقال: لا جرم فهذه عادة إنكلترا النبيلة في مخابراتها، والآن قل لنا: ماذا جرى بعد ذلك؟ - مما لا ريب فيه أني لم أدخل إلى بلاط ذلك الأمير بملابسي الأوروبية، بل إني تزييت بأزياء الهنود.
ولما كنت عارفا بلغة الهنود وسكان ضفاف الكنغ، تنكرت بملابس هندي من مدينة بناريس، ولم يكن عارفا بحقيقة حالي غير الرجاه نجد كوران وشقيقه عثمان.
أما الرجاه الميت فإنه لم يرض باقتراحي، لكنه لم يرفضه، وفيما نحن نتخابر فاجأه الموت.
وعند ذلك، ارتقى سرير الإمارة شقيقه عثمان، فدعاني إليه وقال لي ما يأتي: إني أرفض مطالب الإنكليز، ولكني أوافق على أن لا أشهر السلاح ضدها إذا كنت قادرا على قضاء مهمة سرية أعهد بها إليك. - ما هي؟ - أرأيت أرملة أخي؟ - نعم ... - إنه حكم عليها حسب عوائدنا الهمجية أن تموت حرقا بالنار. - عرفت ذلك. - لتنقذها إنكلترا من هذا العقاب، فلقد أصبح مواليا لها.
فقاطع القائد الصغير السير إدوارد وقال له: لقد بدأت أن أفهم. - كلا، فأصغ إلي تعلم الحقيقة؛ فإن الرجاه الجديد عثمان حينما عهد إلي بهذه المهمة كانت الأرملة قد أرسلت إلى مدينة كلكوتا يصحبها أهل وأصدقاء زوجها.
وهي تدعى كولي نانا، ومعنى هذا الاسم باللغة الهندية «اللؤلؤة السمراء».
فلما علمت أنها سافرت خشيت أن يفوت الأوان، فوعدت الأمير بأن إنكلترا ستنقذ الأرملة، وجئت كما علمتم من السرعة.
فقال الضابط: إذن أنت محتاج إلى أربعة رجال أشداء لإنقاذ الأرملة؟ - هو ذاك. - لماذا تريد أن يكونوا أربعة فقط؟ - لأني وضعت خطة لي في نجاحها ملء الثقة، ولكن زيادة عدد الرجال الذين يعينوني على تنفيذها يفسدها.
والآن أرجو أن تصرحوا لي إذا كنت أستطيع الاعتماد عليكم.
فصاح الجميع بصوت واحد مشيرين إلى قلوبهم. - إذن أصغوا إلي.
ثم شرب جرعة من الشاي وجعل يحدثهم بما يأتي.
3
قال: تعلمون أيها السادة أني أتقن اللغة الهندية إتقانا عجيبا حتى إني أتكلم بلهجة الهنود فلا يعرف أحد منهم أني غريب عنها.
وإني وإن كنت ولدت في لفربول وكانت أسرتي من الأسرات القديمة الإنكليزية، فإني أتيت إلى الهند في عهد الحداثة؛ فتعلمت لغة قومها واقتبست عوائدهم حتى صرت كواحد منهم.
ثم إني حبست عامين عند ملك الأهور، فكان جميع ذلك مع هيئتي الشرقية كافيا لأن يحسبني الهنود واحدا منهم، فإذا تنكرت بملابسهم لا أفرق عنهم بشيء.
وكذلك جعلت أجتاز الهند بجملتها تارة أمتطي الجياد، وتارة على ظهور الفيلة، فأدخل إلى معابد البراهمة فأقتبس أسرار الديانات، وأحج في المساجد فأصلي مع المسلمين، فأتنكر مرة بلباس رجل من أهل دلهي، وأتزيا مرة بزي تجار الأفيون، وأقلد أحيانا أغنياء كشمير؛ فلا يعلم أحد من الهنود أني إنكليزي من بلاد الإنكليز.
قال الضابط: إننا نعرف منك جميع ما تقوله يا حضرة الماجور. - عفوا، فإني أفصل لكم هذا التفصيل؛ إذ لا بد منه لمعرفة الخطة التي اتفقت عليها مع الأمير عثمان. - إذن أصغوا لنعلم هذه الخطة.
فقال إدوارد: إن أرملة الرجاه وصلت إلى كلكوتا مساء أمس.
فاعترضه الضابط وقال: كلا؛ فإنها كانت مساء أمس مع موكبها في السهول عند أبواب كلكوتا، ولم تدخل إليها إلا صباح اليوم. - لا بأس، وإن الموكب قد طاف النهار كله من معبد إلى معبد في المدينتين البيضاء والسوداء.
وهم سيستريحون هذه الليلة في فندق من تلك الفنادق الهندية التي يدعونها شولتري.
وفي اليوم التالي يعودون إلى الطواف كما فعلوا اليوم، حتى إذا أقبل الليل احتجبوا عن الأنظار فلا يدري البوليس الإنكليزي أين يذهبون مهما بالغ في البحث عنهم.
ذلك أنهم يذهبون بطرق ضيقة إلى مكان معتزل يتفقون عليه سرا على شاطئ البحر أو في السهل، فينصبون فيه المحرقة.
ولكن هذا السر الذي خفي عن جميع الناس لم يخف علي، وسأعرف مكان اجتماعهم دون سواي.
فقالوا جميعهم: كيف ذلك؟ - ذلك أني سأتنكر منذ صباح غد بملابس الهنود وأختلط بالموكب فلا أفارقه.
وهم سيحتفلون بي ولا يشكون بأمري لأنهم رأوني في بلاط الرجاه الفقيد، ورأوا أنه كان يعاملني خير معاملة، فيعتقدون أني أشاركهم في حفلتهم تجملا وودادا، فلا يكتمون عني أمرا.
وفي المساء أكون معهم في المحل السري الذي سيجتمعون فيه، فإذا أقبل الليل ساعدتهم على نصب المحرقة، وفي هذه الساعة يأتي دور الحاجة إليكم إذا كنتم لا تزالون على وعدكم.
فنظر إليه الضباط الأربعة نظرات تدل على الانذهال، أما هو فإنه تابع حديثه فقال: إنه في الليلة التي تتقدم الإحراق - إذ إن الأرملة لا تحرق إلا عند الفجر - توضع تلك المنكودة المحكوم عليها بالموت إحراقا في خيمة وحدها، وتوضع أمامها لآلئها ومجوهراتها وجميع زينتها، فإذا حملوها إلى المحرقة أخذت تلك المجوهرات واللآلئ الثمينة، فجعلت تلقيها قطعة قطعة إلى النار قبل أن يلقوها وسط أجيجها.
وفي هذه الليلة الهائلة يجتمع الموسيقيون حول تلك الخيمة، وينشدون الأناشيد الغريبة الشجية، فتنقبض لها النفوس وتسيل المدامع.
أما تلك المنكودة، فإن هذه الساعة تكون من أشد ساعاتها؛ إذ تعلم أن ساعتها الأخيرة قد دنت، فلما تصدح تلك الموسيقى بألحانها المحزنة تفقد صوابها من التأثر، وينعقد لسانها من الخوف.
وقد جعلت جل اعتمادي في إنقاذها على حالتها في تلك الساعة؛ إذ لا يحيط بها في ذلك الحين غير تلك الجوقة الموسيقية.
وسأخبركم في المساء عما أعزم عليه، ولكنني لا أعلم الآن الطريقة التي سأتمكن بها من مخابرتكم.
على أني سأجد طريقة مضمونة، فعليكم أن تقربوا عند انتصاف الليل من محل اجتماع الهنود، وإنكم ستجدون جميع أولئك الهنود الذين يرافقون موكب الأرملة سكارى من الحشيش والأفيون، منهوكي القوى من الرقص والطواف، حتى إن الموسيقيين أنفسهم يكونون أشبه برفاقهم، بل أشد منهم إلى الرقاد.
ولكن سيكون أربعة رجال بين أولئك الهنود لا يسكرون ولا ينامون، وهم إخوة الأرملة المحكوم عليها بالإحراق، فإن عوائد الهنود أن أخص أقرباء المحكوم عليها يتولون التنفيذ، وتقضي عليهم شرائعهم الدينية بالصوم والسهر إلى أن ينفذ الإعدام، وسيكون شأنكم مع هؤلاء الأربعة؛ إذ لا تجدون سواهم من يقاومكم.
فقال أحدهم: ألعلنا نحن الذين نتولى اختطافها؟ - كلا، بل إنكم تتولون مقاومة أولئك الرجال الأربعة الذين سيدافعون عنها أشد دفاع، إلا إذا قتلها الرعب وحال الموت بينها وبين ذلك الدفاع. - إذن يجب أن نتقارع بالسيوف ونتقاتل بالمسدسات. - ربما. - وهؤلاء الهنود ألا يقدمون لنجدتهم - فإنهم مهما بلغ من سكرهم - لأنهم يستفيقون في مثل هذا الخطر؟
فابتسم السير إدوارد وقال: إني لمثل هذا أردت أن يكون لدي أربعة من البواسل الأشداء، وفوق ذلك فإن أربعة من الإنكليز يعادلون عشرة من الهنود على الأقل.
فتحمس الضابط الصغير وقال: بل عشرين.
وانصرف أحدهم إلى الحديث عن الأمير عثمان فقال: يظهر أن هذا الأمير الجديد من المتمدنين. - كلا، بل هو أعظم همجية من أخيه. - إذا كان ذلك كما تقول فكيف أشفق على امرأة أخيه، بل كيف يخالف تقاليده المقدسة ويحاول إنقاذها من النار؟!
فابتسم السير إدوارد وقال: ذلك لأن في فؤاده نارا سعيرها أشد من سعير نار المحرقة؛ لأنه هائم مفتون باللؤلؤة السمراء، أي بامرأة أخيه التي ستحرق. - إذن تطلب إلينا قضاء مهمة غرام؟ - وماذا يهمنا ذلك أيها السادة؟ لأننا إذا أنقذناها نكون قد قضينا واجبا إنسانيا؛ إذ لا ذنب لهذه المرأة غير موت زوجها وجور تلك التقاليد، وفوق ذلك فإني إذا أنقذتها يصبح هذا الأمير الجديد صديقا لي ولكم ولإنكلترا، التي نفارق أوطاننا العزيزة لخدمتها. - أحسنت، وإني أجد قضاء هذه المهمة ميسورا ما خلا أمرا، فإني أجده كثير التعقيد. - ما هو؟ - إني واثق من استطاعتنا إنقاذها. - هذا ما أرجوه. - ولكن ماذا يصنع الأمير الجديد، فإن رعيته ورجال بلاطه يعرفون أنها امرأة أميرهم القديم، فإذا عادت إلى بلاط الأمير الجديد علموا أنها امرأة أخيه، وأنه خان بإنقاذها تقاليدهم المقدسة؟
فقال السير إدوارد: إن جميع هذا قد توقعناه وتلافيناه من قبل ذلك؛ إن لهذه الأرملة أختا تشبهها في تقاطيع وجهها، ولا تختلف عنها إلا بلون شعرها، فإن شعر أختها أشقر وشعر الأرملة أسود.
وكلتاهما ابنتا غني من تجار الأفيون.
وإن الأمير عثمان خاطب للفتاة الشقراء، فهو سيسافر إلى بلد أبيها في أول هذا الشهر للقدوم بخطيبته بموكب عظيم.
على أن تاجر الأفيون وشقيقة الأرملة عالمان بنية الأمير عثمان، واقفان على هذا السر.
فمتى اختطفنا الأرملة نذهب بها إلى منزل أبيها، وهناك طبيب هندي خبير بصبغ الشعر، فيصبغ شعر الأرملة حتى يغدو كشعر أختها، وبذلك يتم الشبه بينهما، ونزف الأرملة إلى الأمير بدلا من أختها.
ثم نهض واقفا وقال: أستودعكم الله إلى الغد.
4
وقبل أن يسير سأله الضابط قائلا: إلى أين أنت ذاهب؟ - إني ذاهب لأختلط بموكب الأرملة، ولأجل ذلك ينبغي أن أنزع ملابسي وأتزيا بزي الهنود. - حسنا، ولكنك لم تقل لنا أين نجدك في الغد؟ - ذلك لأني إلى الآن أجهل أين أكون، ولكن خطر لي خاطر؛ وهو أن الموكب بعد أن يطوف هذا القسم من كلكوتا الذي ندعوه المدينة السوداء لا بد له أن ينتهي من طوافه عند المعبد الكائن في المدينة البيضاء، أي في القسم الأوروبي.
وذلك أن هذا المعبد مبني منذ عصور بعيدة، وهو مقدس عند الهنود، ويؤثرون الصلاة فيه على سواه من المعابد، وأنا واثق أن الموكب ينتهي بزيارة هذا المعبد. - ألعلك تريد أن يكون التقاؤنا هناك؟ - نعم، إني أحب أن يذهب أحدكم منذ صباح الغد فيقف عند باب المعبد حتى يراني، فمن يذهب منكم ؟
قال الضابط الصغير: أنا لها. - إذن تذهب إلى باب المعبد وتنتظر، وإنك ستراني بين المحتفلين، ولكنك لا تعرفني لشدة تنكري، فإذا رأيت الناس قد خرجوا جميعهم من المعبد فادخل أنت إليه. - وبعد ذلك؟ - تجد في إحدى زوايا المعبد تمثالا عظيما يمثل الإله سيوا، وتجد عند قدم التمثال صرة صغيرة فيها حبوب من القمح، تعود الهنود أن يضعوا أمثالها في المعابد، فخذ الصرة وافتحها تجد فيها رسالة مكتوبة بقلم رصاص وفيها تعليماتي.
ثم قام وودع رفاقه وانصرف.
ولما بلغ الباب الخارجي امتطى جواده ودخل به إلى كلكوتا، فاجتاز المدينة السوداء، أي مدينة الوطنيين، إلى المدينة البيضاء، أي مدينة الإفرنج، ووقف عند باب منزل كبير، ففتح مصراعه للحال، وأسرع إلى خدمته عبدان أسودان، فوقفا أمامه بملء الاحترام. وكان هذا المنزل منزله.
وكان ضباط الإنكليز في الهند يعيشون بسعة ورخاء لارتفاع رواتبهم، فإن راتب الماجور يبلغ مائة ألف فرنك في العام.
وفوق ذلك فإن الماجور إدوارد كان معدودا من الأغنياء بفضل ثروته الخاصة، فكان ينفق عن سعة.
على أن الناس كانوا يختلفون في ثروته، فمنهم من يقول: إنها من آبائه، ومنهم من يقول: إنها من مصادر سرية؛ ولذلك لم تكن سمعته خالية من الشوائب والعيوب.
بل كانوا يدعون أنه باع الإنكليز، بطريقة شائنة، أسرار أمراء كانوا من أصحابه وكانوا يأتمنونه على أسرارهم، وأن هذه الخيانة وأمثالها مصدر تلك الثروة.
ولكن الإفرنج تؤثر سماء الهند في نفوسهم، فتضعف اهتمامهم بشئون سواهم، وتدعو كل مهاجر منهم إلى الاهتمام بشئونه الخاصة.
وبمثل هذه الثروة كان يقاوم أعداءه، فيساعد فقراء الضباط بماله؛ فيشتري صداقتهم بالمال.
وترجل الماجور عن جواده، ودخل إلى منزله فخلع ملابسه واغتسل، ثم نادى خادما هنديا مخلصا في خدمته وقال له: أحدث شيء جديد؟ - كلا. - أرأيت موكب الأرملة؟ - نعم، رأيته في الصباح. - أين يكون الآن فيما تظن؟ - أظنهم يستريحون الآن في فندق الحية الزرقاء.
وكان الماجور يحادث خادمه الوفي ويلبس ملابسه الهندية، فلما أتم تنكره ظهر أنه من تجار أفغانستان الذين يتاجرون بالأفيون واللؤلؤ والأحجار الكريمة.
وعند ذلك فتح بابا سريا وخرج منه إلى الشارع، فلم يعلم بتنكره أحد من خدم المنزل ما خلا خادمه الأمين الهندي، الذي كان له به ملء الثقة خلافا لسائر الخدم، فإنهم ما رأوه إلا بملابس الضابط.
وبعد ساعة دخل إلى فندق الحية الزرقاء فوجد فيه الأرملة ورجال الموكب.
وكان الرقص قد بدأ، فوضعوا تلك الأرملة المنكودة على بساط تحت قبة من الخيزران، وجعلوا يرقصون حولها وهي تنظر إليهم نظرات تشف عما دخل فؤادها من الرعب، وأخوتها الأربعة محدقون بها ينشدون حولها الأناشيد الغريبة، فاختلط الماجور بأهل الموكب، ثم شق الجموع ودنا من مجلس الأرملة.
5
على أن معظم رجال الموكب عرفوا الماجور، ولكنهم لم يعرفوا أنه ذلك الضابط في جيش الإنكليز، بل عرفوا أنه ذلك التاجر الهندي الذي طالما رأوه في بلاد الرجاه الميت.
وقد أعد أقرباء الأرملة حضوره حفلتهم لطفا منه وتوددا، فشكروه واستقبلوه خير استقبال، ثم قدموا له من ثمارهم الجافة، فجلس بينهم يدخن معهم وينظر إلى رقص الراقصين.
ولما توارت الشمس في حجابها انتهى الرقص، وسقط الراقصون لا يعون لفرط إجهادهم في الرقص.
وعند ذلك وقف أهل الأرملة إيذانا بانتهاء حفلات النهار، وابتدأت حفلات الليل؛ وهي الطواف بالمشاعل والأنوار المختلفة.
أما تلك الأرملة المنكودة الحظ، فإنهم خبلوا عقلها بأحاديثهم الدينية، وبإظهار ما ستلاقيه في السماء بعد أن ضحت نفسها في حب زوجها، فاختبل عقلها، وتمثلت لها تلك السماء بمظاهر مختلفة، فلم تعد تفرق بين الحقيقة والخيال، وجعلت تتكلم عن زوجها، وعن الفردوس، وعن الإله وشنو، فيختبل عقلها وتتمثل تلك الحفلات السماوية التي تنتظرها، وهذه الحفلات الأرضية التي تعيشها، فتبكي وتضحك وتغني في وقت واحد.
وكانوا في النهار قد أركبوها جوادا، فلما بدأت حفلة الليل أركبوها فيلا أسود وضعوا فوق ظهره بناية تشبه الأبراج.
وكان رجال الموكب يخفرونها من مشاة وفرسان، فعادوا إلى الطواف في المدينة تتقدمهم المشاعل والمباخر تفوح منها أزكى الروائح.
ولبثوا على ذلك الطواف إلى أن أسفر وجه النجم وأشرق الفجر، فعادوا إلى الفندق وأقاموا فيه التماسا للراحة من تعب الليل، وفرارا من هجير النهار.
وانقضى ذلك النهار، وهبت نسمات البحر فخرجوا من الفندق، وكان ذلك آخر حفلاتهم، فبرح الموكب المدينة السوداء إلى الشارع الإفرنجي، ثم ذهبوا منه إلى معبد الحية الزرقاء.
وكان هناك كثير من الناس على اختلاف الأجناس والطبقات ينتظرون الأرملة عند أبواب المعبد، فلقي أهل الموكب عناء شديدا في اختراق الزحام والدخول إلى معبدهم.
أما السير إدوارد فإنه لم يفارق الموكب لحظة، وكان ملازما لإخوة الأرملة كل وقته، فرأى بين الجموع المحتشدة عند باب المعبد السير جاك - وهو أحد الضباط الأربعة - الذي واعده على الاجتماع به في هذا المكان.
غير أن السير جاك وقف مدة طويلة بقربه ونظر إليه مرات كثيرة فلم يعرفه.
وأدخلوا الفيل وعليه الأرملة إلى المعبد، فبدأ البراهمة بالصلاة، ولما انتهوا منها بدأ الدراويش بالدوران، ثم تلاهم الكهنة فجعلوا يهزون رءوسهم يمنة ويسرة، وينشدون أناشيد غريبة بلغتهم السنسكريتية المقدسة، وكان ذلك ختام الحفلات.
أما السير إدوارد فإنه عرف ما كان يريد أن يعرفه، وذلك أن إخوان الأرملة سروا لتكرمه بحضور حفلتهم، فأخبروه عن المكان السري الذي عينوه لإحراق أختهم.
ولما خلا المعبد من أولئك المحتفلين، دخل السير جاك - أحد الضباط الأربعة - وذهب توا إلى تمثال الإله سيوا، فوجد عند قاعدة التمثال صرة من القمح، فأخذها وفتحها وأخرج منها ورقة كتب عليها السير إدوارد ما يأتي:
إن المحرقة ستنصب على مسافة مرحلتين من شمال المدينة في واد مقفر يقال له: وادي اللآلئ الوردية، وسنكون هناك عند انتصاف الليل.
فوضع الضابط الرسالة في جيبه وسار إلى رفاقه الثلاثة، وعاد الموكب بالأرملة إلى المدينة السوداء حتى وصلوا إلى الفندق.
وهناك تفرقوا فعاد قسم منهم إلى منازلهم، وتبودلت بين القسم الآخر إشارات سرية فذهب بعضهم يمنة، وبعضهم يسرة.
أما الأرملة فقد دخلوا بها إلى الفندق وأقفلوه، وعند ذلك دنت مراقبة البوليس الإنكليزي، وهي مراقبة لا يراد بها غير المظاهرة؛ إذ لم يكن من سياسة الإنكليز أن يتعرضوا لتقاليد الهنود الدينية مهما بلغت تلك التقاليد من الهمجية والفظاعة.
وقد جاءت ثلة من الجند يقودها ضابط إنكليزي، فطرق باب الفندق، فبرز له رجل هندي وسأله عما يريد. - أريد أن أرى أرملة الرجاه. - إنها لم تعد من عالم الأرض.
وأقفل الباب فلم يفتحه، ومنع الضابط عن الدخول.
فأمر الضابط عند ذلك بكسر الباب، فكسروه ودخلوا عنوة، فوجدوا الفيل وذلك البرج العظيم الذي كان فوق ظهره، ولكنهم لم يجدوا الأرملة في ذلك البرج.
وفتش البوليس جميع غرف الفندق والمنازل المجاورة؛ فلم يجدوا أثرا للأرملة، وكان هذا القائد قد اقتنع أنه قد أتم واجباته، فأمر رجاله بالانسحاب وعاد بهم إلى الثكنة.
أما رجال الموكب فإنهم كانوا ينسلون في ذلك الحين واحدا أثر واحد، ويسيرون في طرق مختلفة إلى المكان المعين للاجتماع.
وأما الضباط الأربعة فإنهم امتطوا جيادهم، وتدججوا بسلاحهم، وساروا إلى ذلك الوادي الذي أرشدهم إليه السير إدوارد لإنقاذ تلك الأرملة، التي كانت مشردة العقل تحسب أن هذه الليلة آخر لياليها.
6
إن هذا الوادي الذي كانوا يدعونه وادي اللآلئ الوردية لم يكن اسمه ينطبق على مسماه في شيء؛ إذ كان واديا تحدق به جبال كثيرة الصخور من الشرق والغرب، ولم يكن فيه غير الهشيم.
وتكتنفه من الجنوب، أي من طريق كلكوتا إليه، سلسلة غابات كثيفة لا يأوي إليها غير النمور المفترسة، والأفاعي الهائلة، والفهود الكاسرة.
وفي تلك الغابات كان يريد إخوان الأرملة أن يختبئوا لإحراق أختهم، وإنما اختاروا هذا الوادي حذرا من الجنود الإنكليزية؛ إذ لا يستطيعون الوصول إليهم إلا بعد أن يجتازوا هذه الغابات، وخوف الإنكليز من الوحوش الكاسرة مشهور.
وقد ادلهم الظلام وبدأ رجال الموكب يتوافدون واحدا بعد واحد إلى ذلك الوادي، فينصبون خيامهم فيه حول خيمة الأرملة التي كانت منصوبة وسط الخيام.
والعادة في مثل هذا المقام أن يقف البراهمة والموسيقيون خارج الخيمة، فيعزفون على الآلات وينشدون أناشيد التهنئة لتلك المرأة السعيدة في الدار الآخرة؛ لبسالتها ولحاقها بزوجها بعد الموت.
ولم يكن يحق لأحد من البراهمة والموسيقيين الدخول إلى خيمة الأرملة، ولا لأحد من رجال الموكب ما خلا إخوتها.
وفي ذلك الحين دخل إخوتها إلى خيمتها، فجعلوا يتفقدون كل بدوره صندوقا من الأبنوس كانت فيه مجوهرات الأرملة.
وكان مع الأرملة امرأة سوداء تدعى مانورا، وهي شقيقة كولي نانا بالرضاع، فكانت تبكي بكاء شديدا لإشفاقها على الأرملة التي ستموت.
أما الإخوان فإنهم تبادلوا نظرات خفية تشير إلى الرضى مما رأوه من تأهب أختهم إلى الموت، وأيقنوا أنها ستصعد إلى المحرقة وهي تنشد نشيد الوداع المقدس، فخرجوا من عندها وهم يقولون: إننا نستطيع نصب المحرقة مطمئنين.
وعادت مانورا إلى البكاء والشهيق لتيقنها أن كولي نانا ستحرق عند شروق الشمس.
ولكن الأرملة أقفلت صندوق جواهرها بسكينة بعد ذهاب إخوتها، ودنت من مانورا فقالت لها: كفي عن البكاء أيتها الحبيبة.
فنظرت إليها السوداء نظرة انذهال وقالت: كيف لا أبكي وأنت ستموتين بعد قليل؟
فابتسمت الأرملة وقالت: ربما نجوت من الموت.
فصاحت السوداء صيحة فرح، غير أن الأرملة وضعت سبابتها على فمها وقالت لها: اسكتي ولا تظهري شيئا من علائم الرجاء كي لا يقفوا على أمرنا. - ولكن على أي شيء عقدت هذا الرجاء؟ - قلت لك: إني لا أريد أن أموت، ولن أموت على هذه المحرقة.
فهزت مانورا رأسها وقالت: لكنهم يصعدونك عليها بالقوة. - كلا، إن عثمان ساهر علي.
فارتعشت مانورا عند سماعها هذا الاسم ولم تفه بحرف، فقالت لها الأرملة: إن الرجاه عثمان يحبني حبا صادقا، وقد تحالفنا على الولاء، وأقسم أنه ينقذني من المحرقة، ومثل هذا الأمير لا ينكث بيمينه.
وكأنما مانورا كانت لا تزال في ريب من صدق هذه الوعود، فرفعت سجف الخيمة وقالت: إن النجوم قد اصفرت ويكاد يمحقها الفجر. - لا بأس. - إني أرى إخوتك يا سيدتي ذاهبين إلى الغابة. - ليذهبوا حيث شاءوا. - لكنهم ذاهبين لإحضار حطب المحرقة. - ليفعلوا ما يريدون؛ فإن عثمان يصل قبل أن تنصب المحرقة.
وكانت تقول هذا القول بلهجة الواثق المطمئن.
غير أن لهجتها لم تؤثر على مانورا فقالت: وكيف يستطيع عثمان أن يعلم أين نحن؟
إنك تعلمين ، يا سيدتي، أنه حين تفرق الموكب ساعة الغروب لم يكن من يعرف المكان الذي سنجتمع فيه غير إخوتك، وأنهم ما عهدوا بسرهم إلا للأخصاء. - هو ما تقولين ولكن أصغي إلي، أرأيت بين المحتفلين ذلك التاجر الأفغاني؟ - أتعنين به ذلك الرجل الذي كان يلازم بلاط زوجك الفقيد؟ - هو بعينه. - نعم رأيته قد اختلط بالموكب، ألعله جاء بأمر عثمان؟
فدنت الأرملة منها وهمست في أذنها قائلة: إنه اقترب مني حين كانوا يطوفون بي وقال لي: «لا تخافي؛ إني ساهر عليك.»
فوثقت مانورا بعض الوثوق وجلست معها تراقب انبثاق الفجر وهي تتراوح بين اليأس والرجاء.
وبعد حين بدأ أولئك الهنود يستفيقون من رقادهم وقد ثقلت أدمغتهم من الأفيون، وعاد إخوان الأرملة من الغابات فجعلوا ينصبون المحرقة بمساعدة عبيدهم.
فلم تكد مانورا تنظر إليهم حتى جنت من يأسها وقالت: سيدتي، لم يبق لدينا غير ساعة! فأين الرجاه؟
وقبل أن تجيبها انقطع غناء البراهمة فجأة، وسمعت المرأتان وقع حوافر الخيل، وتلا ذلك دوي إطلاق مسدسات وصيحات، فصاحات الأرملة تقول بملء الفرح: هو ذا عثمان قد حضر.
غير أن الأرملة قد أخطأت؛ لأن هؤلاء الفرسان لم يكونوا من رجال عثمان، بل كانوا أولئك الضباط الإنكليز الأربعة انقضوا على الهنود انقضاض الصاعقة؛ ففرقوا شملهم ومزقوهم كل ممزق.
وقد قاوم إخوان الأرملة مقاومة عنيفة، غير أن ذلك التاجر الأفغاني، أي السير إدوارد، انضم إلى الجنود، وجرى بين الفريقين معركة شديدة؛ فكان إخوان الأرملة يسقطون واحدا تلو واحد، وأسرع من نجا من الهنود إلى الفرار.
وعند ذلك هجم السير إدوارد على الأرملة فأردفها وراءه على جواده، وانطلق بها يسابق الرياح إلى كلكوتا وهي توشك أن تجن من سرورها، وتترنم باسم حبيبها عثمان.
7
مضى عشرة أعوام على اختطاف الأرملة ونجاتها من ذلك العقاب الهمجي الفظيع.
وكان إخوتها الأربعة قد قتلوا، فلم يبق من يستطيع اكتشاف سر الاتفاق بين الرجاه عثمان وبين الأرملة.
أما السير إدوارد فإنه ذهب بها توا إلى أبيها، فأقامت مختبئة عنده عدة أشهر، وقد صبغ الطبيب شعرها الأسود بلون شعر أختها الأشقر، فتم الشبه بين الأختين.
على أنه أشيع في تلك المدينة أن كولي نانا أرملة الرجاه أنقذها من المحرقة جنود من الإنكليز، ولكن لم يشكك أحد بأن للرجاه عثمان يدا في ذلك الإنقاذ.
ولذلك ذهب عثمان بعد ستة أشهر إلى منزل والد الأرملة في موكب حافل وتزوج بها، والناس يحسبون أنه تزوج أختها لأن الشبه بين الأختين كان كثيرا لا سيما بعد صبغ الشعر.
ثم إن الهنديات يضعن فوق وجوههن نقابا ثخينا من الحرير، فلم يتمكن الناس من رؤية وجه الأرملة حين زفافها، وسار الأمير بزوجته كولي نانا وهم يحسبونها أختها.
ولقد حدث في العشرة الأعوام المتقدمة أمور كثيرة؛ فإن الأمير عثمان جمع تحت رايته جميع القبائل الجبلية المحيطة به للحرب دفاعا عن الاستقلال، فعظم شأنه.
وكان الفرق بينه وبين أخيه أن أخاه كان شبه رئيس حزب، فلم يكن خاضعا له غير بعض القرى، خلافا لعثمان فقد انضم إليه أهل الجبال، وخضع لرايته نحو عشرين مدينة من المدن الكبرى؛ فبات له جيش عظيم خشي الإنكليز بأسه، وزاد طمعه بالاستقلال.
غير أن القراء يذكرون ما قاله عثمان للسير إدوارد وهو: «لتنقذ إنكلترا أرملة أخي من المحرقة وأنا أخضع لها.»
ولكنه حين رأى ما بلغ إليه من القوة، وعلم أن الأرملة لم تنقذها إنكلترا، بل السير إدوارد؛ نكث بوعوده، ووالى السير إدوارد وجعله وزيره الأول لمملكته.
وكان هذا كل ما يسعى إليه الماجور إدوارد؛ فإنه حمل الأمير عثمان على الوثوق به حتى جعله لديه في هذا المقام، وأشاع في كلكوتا بعد اختطاف الأرملة الحسناء أن السير إدوارد قد قتله الهنود، فلم يعد أحد يسمع شيئا من أخباره على الإطلاق.
وجعل، حينما تقلد هذا المنصب، يدرب جنود الرجاه عثمان على التقليد الأوروبي، ويخفف وطأة العوائد الهمجية، ويمدن ذلك الشعب تباعا.
ولم يكن من يعلم إلى الآن إذا كان هذا القائد الإنكليزي قد خان حكومته، أم أنه يمهد لها سبيلا خفيا.
غير أن ظواهر سياسته كانت تدل على الخيانة، لا سيما وأن كثيرا من الشعوب التي كانت خاضعة للإنكليز جنحت إلى العصيان، وجعلت تنضم إلى جنود الرجاه.
وكان عمر الماجور في ذلك العهد 40 عاما، وهو شديد البسالة، حارب الإنكليز مرات باسم الرجاه ففاز عليهم، وأبلى فيهم حتى ألقى الرعب في قلوبهم.
وكان الماجور متنكرا أشد التنكر لا يعرفه أحد إلا باسم تريبورينو ما خلا عثمان، وأرملة أخيه كولي نانا، فإنهما كانا وحدهما يعرفان حقيقة أمره وأصله.
وكان عثمان قد رزق من زوجته غلاما، أتى ذكي الفؤاد كوالده، فكان يبشر بمستقبل حسن وعمره يومئذ 10 أعوام.
وفي ذلك العهد جاء إلى بلاط الرجاه رجل أوروبي فرنسي، وكان هذا الرجل روكامبول.
ويذكر القراء - فيما قرءوه من الروايات السابقة - أن روكامبول كان قد ذهب إلى الهند لتسليم علي رمجاه، زعيم الخناقين، إلى حكومة الهند.
فلما قضى هذه المهمة أصبح متحيرا بين أن يعود إلى أوروبا وبين أن يبقى في الهند، يترقب الحوادث تحت سماء تلك البلاد المحرقة وعلى ضفاف الكنغ والفرات، واختار البقاء في بلاد طالما هاجت أسرارها عواطف قلبه، ودفعته إلى درسها.
فاستقبله الرجاه عثمان خير استقبال، وعينه قائدا في جيشه، فقبل روكامبول هذا المنصب، وتولى مهامه منذ ذلك اليوم.
غير أنه لاحظ أن تريبورينو، أي السير إدوارد، لم يكن راضيا عن هذا التعيين؛ لحذره من وجود مزاحم له في بلاد الأمير.
على أن الأمير كان يثق به ثقة لا حد لها، لكنه لم يعترض على تعيينه، بل كتم غيظه وأظهر الرضى.
أما روكامبول فإنه علم لأول مرة رآه أنه من الإنكليز، فنفر منه ووقع كرهه في قلبه وقال في نفسه: إن هذا الرجل قد خان الإنكليز وهو منهم، فلا بد له من خيانة الرجاه. في حين أن الأمير كان يغدق عليه إنعامه، ويطلق له مجال النفوذ بحيث لم يدع في سبيل إكرامه زيادة لمستزيد.
ولكن هذا الرجل كان كثير المطامع، شديد الميل إلى العلاء، فلم يرضه أن يكون الوزير الأول، بل أراد أن يكون الحاكم المطلق.
وفي كل بلاط يوجد متآمرون، وأكثر ما يكون أولئك المتآمرون من أصحاب صاحب البلاط وأهله.
وكان للرجاه ابن أخ من كولي نانا، والعادة في أوروبا أن الولد يخلف أباه في الملك، وأما في الهند فالعادة أن الأخ يخلف أخاه في أكثر الإمارات.
وكان عمر ابن أخيه 20 عاما، فطمع بهذه الإمارة التي لم تبلغ إلى هذا الحد إلا بفضل عمه، غير أنه لم يكن له قوة ولا أعوان، ولم يجد حول عمه غير الأمناء المخلصين.
فكان يكتم قصده عن سائر الناس، فلم يدرك بغيته غير تريبورينو، فاتفق الاثنان سرا على خلع الأمير عثمان.
وكانت القوة العسكرية بإدارة تريبورينو، فمهد أسباب الثورة على الأمير، وكاد يفوز بقصده غير أن أسرارها انفضحت، فتنصل منها وألقى كل تبعاتها على ابن أخي الأمير، فأمر بإعدامه، ولم يخطر في باله أقل ريبة بوزيره تريبورينو، بل زاد به وثوقا؛ لاعتقاده أنه هو الذي كشف أسرار الثورة.
ولم يطلع على حقيقة سر هذه المكيدة غير روكامبول، ولكنه رأى أن الأمير شديد الثقة بوزيره فلا يصدقه إذا أخبره بمكيدته، وفوق ذلك فقد كان تريبورينو كثير الدلال على مولاه، شديد النفوذ في بلاطه، فرأى أن الدخول معه في هذا المأزق محفوف بالخطر.
غير أنه عول على مناوأته وتضحية نفسه في سبيل إنقاذ الأمير عثمان من مخالبه، غير مكترث بما سيلقاه من الصعاب، ويعترضه من الأخطار، فقد أوقف نفسه منذ تاب توبته الصادقة لصنع الخير، ومساعدة كل مظلوم؛ التماسا لعفو الله عن ذنوبه الماضية.
وكان الأمير قد أعد له قصرا يقيم فيه منذ ولاه منصب القيادة في الجيش، فبينما كان يوما في منزله جاء ضابط من قبل تريبورينو يدعوه إلى زيارته في قصره على شواطئ الكنغ، فلم يمكنه إلا تلبية الدعوة، فامتطى جواده وسافر.
8
كان الأمير تريبورينو بعد الأمير عثمان صاحب الكلمة النافذة في البلاد، وكان بيده قيادة الجيش العليا، ولما كان روكامبول من قواد الجيش فقد أصبح تحت إمرته، فلا بد له من الامتثال.
غير أنه كان واثقا أن هذا الوزير يكرهه ويخافه، وأنه لم يدعه إليه إلا وقد نصب له فخا يغتاله به تخلصا من كيده.
ومع ذلك لم يتردد لحظة في الخضوع، فامتطى جواده ولم يصحب معه غير نفر قليل من الفرسان والخدم، وسافر مع رسول الوزير إلى شاطئ الكنغ.
ولما توارت الشمس وصل إلى غابة كثيفة، مكتظة بالأشجار، واقعة على ضفاف النهر، فرأى كثيرا من الفرسان وبعضهم على ظهور الفيلة، فاندهش لمرآهم، وزاد اندهاشه حين علم أنهم مرسلون من قبل تريبورينو لانتظاره.
وسأل الرسول عنهم فقال: إنهم فرسان الوزير الأكبر، وقد أرسلهم لاستقبالك دلالة على أنه يحبك ويريد تعظيمك في العيون.
فقال روكامبول في نفسه: بل ليقبضوا علي فيزجني في أعماق سجونه.
غير أنه لم يكترث لجميع ما رآه، وتوكل على الله في أمره، وقد كان ذلك شأنه منذ توبته، فلم يعد يخشى خطرا من الأخطار.
واستقبله الفرسان وساروا به يخفرونه إلى منزل الوزير الأكبر، وهو يتوقع في كل حين أن ينقضوا عليه وعلى رفاقه، فلم يفعلوا، بل كانوا يؤانسونه ويكرمونه حتى وصلوا به إلى منزل تريبورينو ودخلوا به إليه.
وكان هذا الوزير القائد الهائل مضطجعا على حصير في قاعة، وحواليه فريق من العبيد بعضهم يحرقون البخور، وبعضهم يروحون بمراوح تخفيفا لوطأة الحر، وفي وسط القاعة بركة مترعة بالمياه التماسا للرطوبة.
فلما رأى الوزير روكامبول نهض من مضجعه، وأسرع إليه فحياه على الطريقة الإفرنجية أجمل تحية، ثم أمر جميع من كان في القاعة بالخروج، فامتثلوا وبقي الاثنان منفردين.
ولما خلا بهما المكان ولم يبق أحد من الجنود، نظر إلى الوزير فرآه غير خطته فجأة، فجلس على كرسي بعد أن كان مضطجعا على الحصير، وأشار لروكامبول بالجلوس، فجلس، ودار بينهما الحديث باللغة الفرنسية، فقال الوزير: إني أحببت أن أراك لوثوقي من إمكان اتفاقنا.
فنظر إليه روكامبول دون أن يجيب.
واستطرد تريبورينو حديثه فقال: إنك فرنسي أليس كذلك؟ - نعم. - إن من طبع الفرنسيين كره المهاجرة، ومن يبعد ثلاثة آلاف مرحلة عن بلاده يكون من طلاب الصدفة، أي أولئك الذين يلتمسون الرزق والثروة بالدسائس والفتن.
ثم ابتسم ابتسام احتقار وقال : إني لا أبحث عن برهان عما أقول، فإن قدومك إلى بلاط الرجاه، وانتظامك في سلك جيشه أصدق برهان على قولي.
فقال روكامبول: هب أني من طلاب الصدفة وأهل الفتن.
فابتسم الوزير وقال: ومن أجل هذا وثقت أن اتفاقنا ممكن كما قلت لك. - إني مصغ إليك؛ فأوضح عما تريد. - اعلم أن الرجاه عثمان أمير قادر بالظاهر.
فقال روكامبول: وأظن أنه قادر بالحقيقة أيضا.
فتظاهر الوزير أنه لم يسمع كلامه وقال: إن كل أمير هندي تكون إنكلترا على أبوابه تصبح قوته هباء منثورا؛ لتعرضه للأخطار في كل يوم. - ولكن الأمير يستطيع الدفاع دهرا طويلا بحمد الله. - أتظن أنه يستطيع الثبات؟ - إلا إذا نكب بخيانة. - إذن تظن أن خيانته ممكنة؟ - عجبا، ألم يخونوه قبل الآن؟
وقد قال له روكامبول هذا القول وهو يحدق به، فرمى الوزير سيكارة كان يدخن بها، وقال بلهجة احتقار شديد: أتظن أيها الرجل أني دعوتك إلي كي أحدثك بجلاء؟ ألا تعلم أني عارف بما تفتكره بي؛ فإنك تعتقد أن يدي قد انغمست في مؤامرة ابن الرجاه السابق على عمه؟ - بل إني أعتقد أعظم من ذلك. - ماذا تعتقد؟ - أعتقد أنك أنت الذي دبرت المؤامرة، ثم تنصلت منها حين خفوقها وألقيت تبعتها على ذلك المنكود فقتل شر قتل.
فقال له ببرود: لقد أصبت.
فنظر إليه روكامبول نظرة تشف عن بأسه، وتدل على أنه لا يكترث لنفوذه، وقال له: والآن ماذا تريد مني؟ - أريد قبل كل شيء أن أقص عليك تاريخي. - وأنا مصغ إليك. - إذن فاعلم أني لست هنديا ولا أدعى تريبورينو. - أعرف ذلك وأعرف أنك من الإنكليز. - كيف عرفت؟ - بل أعرف أنك تدعى الماجور إدوارد لنتون. - أرى أنك عارف بأمري، ولكني أرجوك أن تفترض أمرا. - ما هو؟ - هو أني لا أزال أمينا وفيا لإنكلترا. - أنت؟ - نعم أنا، فإني في هذا المنصب منذ عشرة أعوام، ويعتقد الهنود أني هندي، ولكني مخلص للإنكليز. - وأنت تحاربهم في كل يوم؟ - ذلك لأن الغاية تبرر الواسطة، وما ضرهم إذا حاربتهم وأدركوا قصدهم في النهاية. - ليعذرني سيدي الوزير إذا كنت لا أفهم الألغاز. - إذن أصغ إلي لأكشف لك سر هذه الألغاز: إن الرجاه نجد كوران كان أميرا ضعيفا يسهل على الإنكليز سحقه في كل حين. - ألعلك من أجل ضعفه ساعدت أخاه عثمان فجعلته من كبار الأمراء الأشداء؟ - بل إني استخدمت عثمان وجعلته واسطتي في إضعاف جميع صغار الأمراء الخارجين على الإنكليز. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك أصبحت تلك الشعوب التي تحارب الإنكليز حرب مناوشات في قبضة يدي، أديرها كما أشاء، والآن فإن معركة واحدة منظمة يثيرها الإنكليز على الرجاه عثمان تمحق قوته وقوة جميع الأمراء الصغار الذين جمعهم تحت رايته منذ عشرة أعوام إلى الآن.
ثم سكت هنيهة وجعل ينظر إلي فقلت له: لقد أدركت قصدك وعلمت سياستك، ولكني لم أعلم بعد ماذا تريد مني. - أصغ إلي فإني مخبرك بما أريد.
9
وكان ثبات روكامبول وتجلده قد أثرا على هذا الداهية، وعلم أنه لا يؤخذ بالخدعة والاحتيال، فعزم على مباحثته بجلاء فقال: إنك ترى بأني أحسنت التخلق بأخلاق الهنود، وبالغت في تقليد عاداتهم حتى لم يعد يخطر لأحد منهم أني قد أكون من الإنكليز.
ولكني على فرط ما ألقاه من الغبطة والنعيم، وعلى نفوذي الذي لا يضاهيني أحد فيه في هذه البلاد، فقد مللت شمسها المحرقة، وضجرت هذه العيشة الشرقية التي أتكلفها تكلفا منذ 20 عاما.
فقال روكامبول: إذن لا تريد خيانة الرجاه إلا لضجرك من العيش في بلاده؟ - ربما كان هذا السبب، وفوق ذلك فإني إنكليزي، ويجب علي تسليم عثمان إلى إنكلترا، فإذا فعلت غير ذلك أكون قد خنت أمتي وخدعت بلادي. - وما تمنحك إنكلترا مقابل هذا الوفاء؟
فابتسم وقال: هذه هي غاية الغايات؛ فإني شديد الطمع بالغنى. - ولكن خزائنك غاصة بالذهب. - وأي ضرر إذا زادت إنكلترا في ثروتي؟ - لا شيء من الضرر، ولكن الرجاه عثمان واسع الثروة وثروته بين يديك. - من أطاق التماس شيء غلابا واغتصابا لم يلتمسه سؤالا؛ فإني إذا سلمت الرجاه للإنكليز سلموني خزائنه، فأعود إلى أوروبا وأعيش في باريس أو في لندرا عيشة يحسدني عليها الملوك. - لقد فهمت يا سيدي الوزير كل ما تقول، ولكني لم أعلم بعد لماذا دعوتي إليك. - لأقترح عليك أن تكون معي. - على من؟ - على الرجاه دون شك.
فهز روكامبول رأسه وقال: لقد دعوتني يا سيدي من طلاب الصدفة والحوادث، وأنا منهم، غير أني لست من الخائنين. - إذن تأبى ما أقترحه عليك؟ - كل الإباء.
فلم يظهر شيء على الوزير من علائم الغضب والاستياء، بل نظر إلى روكامبول وقال له بملء السكينة: إنك تستطيع الآن أن تعود، ولكني لا أدعك تسافر قبل أن تقيم في ضيافتي، وتأكل من طعامي.
فقال روكامبول في نفسه: إنه يريد أن يقتلني بالسم دون شك.
ثم تركه وانصرف إلى منزل أعد لإقامته.
وأقام روكامبول في ضيافة تريبورينو ثلاثة أيام كان الوزير يعامله فيها خير معاملة.
وكانا يأكلان على مائدة واحدة، فكان الوزير يبدأ بالأكل من الصحن كأنه قد أدرك مخاوف روكامبول فأراد تطمينه.
فاطمأن روكامبول، ولكنه بقي مرتابا في أمر الضباط الذين قدموا معه من العاصمة؛ فإنه لم يعلم شيئا منهم، ولم يدر إذا كان قد قتلهم أو اكتفى بسجنهم؛ لأنه لم ير أحدا منهم مدة إقامته عند الوزير.
وفي اليوم الثالث، دعاه تريبورينو فجامله خير مجاملة وقال له: لقد كان لكلامك خير تأثير في نفسي، فاستنار به فؤادي، ورجعت عما كنت عازما عليه من خيانة الرجاه؛ فإنه من المحسنين إلي ولم أبلغ هذه النعمة إلا من فضله.
وكان يقول هذا القول بلهجة تشف عن الصدق الأكيد، حتى أوشك روكامبول أن ينخدع به لو لم ير من اتقاد عينيه ما يكذب هذه اللهجة.
أما تريبورينو فإنه لم يتكلف مراقبة روكامبول، فقال له: لا أرى حاجة إلى إخبار الرجاه بما كان بيني وبينك، فلا تزعجه بشيء من ذلك واعتمد على وفائي.
فقال له روكامبول: وأنت فاعتمد على سكوتي؛ فإني لا أريد إلقاء النفرة بينكما ما زلت صادقا في خدمة مولاك.
ولما خرج روكامبول من حضرة الوزير وجد عند بابه أولئك الضباط الذين صحبوه في سفره، ففرح بهم فرحا شديدا؛ إذ كان يعتقد أن الوزير قتلهم جميعا.
غير أنه رأى أن واحدا منهم كان مفقودا، فسأل عنه، فأجابه أحد الضباط بلهجة تشف عن الحزن: إنه ذهب أمس لصيد النمر فافترسته الوحوش الكاسرة.
وكان هذا الضابط الذي أخبروه بموته شابا هنديا يدعى موساني أخلص في خدمة روكامبول إخلاصا عجيبا، فحزن لوفاته أشد الحزن.
وكان تريبورينو قد خرج معه يشيعه إلى الباب الخارجي وهو يلاطفه ويجامله خير ملاطفة، فلما حان وقت السفر قال له الوزير: إن للهنود عادة في ضيافتهم قديمة لا تزال متبعة إلى الآن؛ وهي أنه حين يزور عظيم منهم عظيما مثله يقيم في ضيافته ثلاثة أيام، وعند السفر يحفظ جواده أو فيله تذكارا، ويعطيه جوادا أو فيلا من عنده.
ولما كنت في عيون هؤلاء الناس من عظماء الهنود، فلا بد لي من اتباع هذه العادة حفظا للتقاليد. - إذن عزمت على أخذ جوادي؟ - نعم، ولكني سأعوضك عنه فيلا من خير أفيالي. انظر إلى هذا الفيل الواقف بقربنا؛ فهو المعد لسفرك، وهو هدية مني إليك.
فنظر روكامبول ورأى فيلا أبيض عظيم الجثة هائل الخلقة يندر وجوده في بلاد الهند، ورأى فوق ظهره برجا من العاج مرصعا بالحجارة الكريمة، فاستعظم الهدية، ورابه أمرها، ولكنه أثنى على الوزير ثناء طيبا. ثم ودعوه، وامتطى ظهر الفيل فسار عائدا إلى الرجاه لا يصحبه غير الفرسان الذين جاءوا معه.
وبعد ذلك جعل روكامبول يفتكر في أمر الوزير، وكيف أنه أوقفه على أسرار خيانته الهائلة، ثم برحه آمنا مطمئنا، فقال في نفسه: لا بد أن يكون أضمر الشر ودبر لي مكيدة هائلة، أو أنه أمر أتباعه أن يكمنوا لنا في الطريق فيقتلونا شر قتل؛ إذ لا يعقل أن تبلغ السلامة إلى هذا الحد من هذا الداهية، فيرجعني إلى مولاه وأنا أحمل أسرار خيانته.
وظل روكامبول سائرا مع رفاقه إلى أن وصل في مساء اليوم الأول إلى غابة كثيفة، فقال في نفسه: لا بد أن يكون الكمين في هذه الغابة، وأمر رجاله بالتأهب .
غير أنه أخطأ هذه المرة أيضا؛ فإنه سار كل الليل دون أن يتعرض له أحد حتى أشرق الفجر وهو لا يزال سائرا على فيله في الغابات.
وكان الفيل يسير بملء السكينة، ويخضع كل الخضوع لراكبه؛ فلا يسير إلا في الجهة التي يشير إليها روكامبول بقضيبه، ولكنه انتفض فجأة واهتز اهتزازا عنيفا حتى كاد روكامبول يسقط عن ظهره، ثم رفع خرطومه وجعل يتنفس بعنف وجميع جسمه يرتجف، فظن روكامبول أنه شم رائحة نمر فأصابه هذا الاضطراب.
وكذلك رفاقه فقد حسبوا نفس الحساب، وجعلوا ينظرون منذهلين إلى اضطراب الفيل، ويتأهبون لمقاومة ما يعترضهم من الوحوش، غير أنهم ساروا مدة طويلة دون أن يروا أثرا للوحوش.
أما الفيل فإنه ظل مندفعا في سيره، ولكنه كان كلما تقدم خطوة يزيد اضطرابا.
ودام على ذلك روكامبول يتوقع شرا قريبا إلى أن خرج من وسط الغابة صوت غريب لم يدرك سره، ولكنه علم أنه صوت إنسان، فهاج الفيل عند سماع الصوت هياجا شديدا، وانطلق في تلك الغابات انطلاق السهم، فقتل بأرجله أحد رفاقه واستمر على عدوه لا يلوي على شيء.
وإن سرعة الفيل لا تقاس إليها سرعة الجياد، فكان يعدو بسرعة البرق يجتاز تلك الغابات المكتظة بالأشجار دون أن يلتطم بها، ويسير في طرق خاصة كأنه قد تعود اجتيازها من قبل.
فأدرك روكامبول الخطر، وحاول أن يثب عن ظهر الفيل مؤثرا أن تنكسر يده أو رجله على أن يتعرض لخطر القتل ببقائه على ظهر الفيل.
وكأنما الفيل قد أحس بقصده؛ فإنه مد خرطومه إلى روكامبول ووضعه على كتفيه ضاغطا عليهما في محله، ولم يعد يستطع حراكا، واستمر يعدو عدوه السريع.
غير أن روكامبول لم تضعضع الحادثة صوابه، فالتفت إلى ورائه فلم يجد رفاقه، وعلم أنهم لم ينطلقوا في أثره، ولم يطاردوا الفيل؛ فأيقن أن تريبورينو قد اشتراهم بماله وضمهم إلى حزبه، فباتوا من أعوانه على الرجاه.
وقد صدق ظنه، فإن هؤلاء الخائنين لم يقتصروا على عدم مطاردة الفيل الثائر، بل إنهم تركوه وشأنه، وساروا في طريق آخر ضاحكين كأنهم كانوا يعلمون بمصير قائدهم.
وقد ذكر روكامبول وهو مقيد على ظهر الفيل بخرطومه الشديد أن الهنود يستفيدون من ذكاء هذا الحيوان الذكي؛ فيستخدمونه جلادا لإنفاذ عقابهم فيمن يريدون قتله.
وذلك أنهم يضعونه فوق ظهر فيل خاص مدرب، فيسير الفيل بالمحكوم عليه ويقيده بخرطومه بحيث لا يستطيع النزول عنه، ويظل سائرا في طريق خاصة إلى أن يسمع مروضه يناديه نداء خاصا فيندفع بالسير، ولا يعلم أحد إلى أين يذهب بذلك الرجل المحكوم عليه بالقتل.
ولهذا النوع من الفيلة ذكاء وحكمة عجيبان؛ فإن الفيل الجلاد يسير بالمحكوم عليه إلى مكان خفي كأنه يبغي إخفاء الجريمة، وهو يسير به ساعات، بل أياما إلى أن يصل إلى المكان الذي يكون قد اختاره لإنفاذ العقاب، فينفذه على طرق شتى.
وذلك أنه إما أن يقبض عليه بخرطومه فيجلد به الأرض بعنف شديد فيتحطم، أو يلقيه على الأرض ثم يسحق صدره برجله الهائلة فيطحنه طحنا، أو يأخذه بخرطومه فيقذفه بالهواء فيسقط على الصخور الناتئة، أو يضرب به غصن شجرة غليظ فيخترق جسمه، أو يخرق قلبه بأنيابه.
وفي كل حال، فإن من يركبه لا ينجو من الموت بإحدى هذه الطرق الهائلة.
وقد ذكر روكامبول هذه العادة فارتعش ولم يشكك أنه سائر إلى الموت، وأنه راكب ظهر فيل جلاد، ولا سيما حين سمع ذلك الصوت الإنساني الغريب الذي خرج من جوف الغابة؛ فأيقن أنه صوت المروض، وأن تريبورينو قد خدعه شر خداع، وانتقم منه شر انتقام.
واستمر الفيل يعدو حتى اجتاز الغابة، وانتقل إلى سهل واسع كثير الأعشاب النامية، وفي بعض أماكن من هذا السهل الواسع آثار الحصاد وبعض المنازل.
فقال روكامبول في نفسه: لا يزال الوقت فسيحا لدي؛ فإن هذا الفيل الذكي لا ينفذ عقابه بي في هذا المكان المأهول.
وكان تريبورينو قد توقع كل شيء، فحسب لكل شيء حسابه، ولكن فاته أن يجرد روكامبول من سلاحه؛ إذ كان يعلم أن رصاص المسدس لا يقتل الأفيال الضخمة على الفور.
غير أن روكامبول قد أحضر معه من أوروبا مسدسا من طراز جديد يحشى برصاص دمدم، الذي إذا أطلق ونفذ في الجسم انفجر فيه ومزقه شر ممزق.
أما الرصاصة العادية فإنها تنفذ إلى جسم الفيل، ولكنها لا تقتله على الفور، أو قد لا تصيب منه مقتلا، خلافا للرصاصة المنفجرة؛ فإنها أين وقعت في جسمه انفجرت ومزقته شظاياها، وهي أفضل من الرصاصة ذات الرأس الفولاذية المحددة التي يستعملونها في قنص الأسود والنمور والتماسيح.
وكان الفيل الجلاد قد ضغط عليه وقيده بخرطومه كما تقدم، ولكن بقيت يده اليمنى مطلقة السراح لم يصل إليها خرطوم الفيل، فمدها روكامبول إلى جيبه وأخرج منها ذلك المسدس.
ثم قال في نفسه: إني إذا تمكنت من قتل الفيل على الفور فقد نجوت من الموت، وإلا انتقم مني إثر الانفجار وداسني برجليه فطحنني طحنا.
ولم يمر على روكامبول ساعة خطر كهذه الساعة على فرط ما لقيه في حياته من أخطار الموت.
ولكنه لم يضع رشده وصوب مسدسه بملء السكينة إلى عنق ذلك الفيل الضخم.
10
ولم تكن إصابة المرمى من الأمور السهلة الميسورة؛ وذلك لأن جلد الفيل شديد الغلظة، وفوق ذلك فهو كثير التجعد يشبه حلقات بعضها فوق بعض، بل يشبه قشورا تتجعد وتتلوى شبه رمال الصحاري إذا نسفتها الرياح.
ولذلك فقد وجب على روكامبول أن يختار حينا يمتد فيه ذلك الجلد، وتنبسط تلك التجعدات كي تجد الرصاصة منفذا أمينا إلى الجسم، فتنفجر فيه ويحدث ما كان يرجوه من الموت المعجل.
فجعل يترقب الفرصة وهو مصوب مسدسه إلى جهة الشمال؛ كي تنفجر رصاصته في جهة القلب.
وكان الفيل يسير فوق العشب بخفة النمر، وفي هذا السهل كثير من الهوات كان يثب من فوقها وثوب الخيل المدربة على الصيد.
وفيما هو يتأهب للوثوب من فوق هوة كبيرة انبسط جلد عنقه وانتثرت طياته، فانتهز روكامبول هذه الفرصة وأطلق النار.
وعند ذلك اهتز الفيل اهتزازا عنيفا هائلا تقطعت له حلقات البرج، فقذفه هذا الاهتزاز إلى خارج الحفرة وفيه روكامبول، أما الفيل فإنه سقط في الهوة.
وذلك أن الرصاصة نفذت إلى جهة القلب وانفجرت فقتلته على الفور، ونجا روكامبول من الموت.
أما روكامبول فإنه نهض بعد سقوطه وقد رض جسمه خرطوم الفيل وذلك السقوط، ولبث هنيهة مضعضع العقل.
ثم ثاب إليه رشده، فبحث عن مسدسه ووجده ملقى على الأرض أمامه وقد سقط من يده لهول سقوطه عن الفيل، فوضعه في جيبه، وجعل ينظر إلى ما حواليه ليفحص المكان الذي كان فيه.
فوجد نفسه في سهل عظيم لا تبلغ العين نهايته، ورأى تلك الغابات الكثيفة التي اجتازها الفيل بعيدة جدا عنه، فقال في نفسه: لا بد لي للاهتداء إلى شواطئ الكنغ أن أعود أدراجي، وأجتاز تلك الغابات، وأعرض نفسي لأخطار لا حد لها، ولكنه رأى أنه لا يسعه إلا اتباع هذه الخطة؛ إذ لا يعرف غير هذا الطريق، فعاد يمشي في تلك السهول إلى الغابات ملتمسا ضفاف النهر.
ومشى ساعة فوق عشب السهول متبعا آثار الفيل إلى أن وصل إلى نبع ماء، وكانت قواه قد وهت، فجلس فوق العشب ليستريح ويروي ظمأه من ماء ذلك النبع.
ثم استلقى على تلك الأعشاب - ومن المعروف أن من وضع أذنه على الأرض تبلغ الأصوات إلى مسمعه أكثر من بلوغها إليه إذا كانت الأذن معرضة للهواء - فسمع روكامبول وهو على هذه الحالة صوت عدو سريع أيقن أنه عدو فيل، فاضطرب وقال في نفسه: ألعل تريبورينو أرسل في أثري رسولا يعود إليه بحقيقة أمري، ويبشره بتنفيذ العقاب بي؟
وقد ترجح لديه هذا الظن، فلم يغتم له، ورجا أن يبعث بهذا الرسول فيأخذ فيله بالقوة أو بالحيلة، ويعود عليه إلى الرجاه؛ ولذلك أخذ مسدسه ووقف موقف المتأهب.
وكان صوت عدو الفيل يدنو منه، وبعد حين رأى الفيل قادما إلى جهته، فاضطرب فؤاده وتأهب لمناداة راكبه، ولكنه ما أوشك أن يدنو منه ويرى ذلك الراكب حتى اهتز اهتزاز النشوان من السرور، وصاح صيحة فرح.
ذلك أنه رأى راكب الفيل وعلم أنه خادمه الهندي الأمين موساني الذي أشاع عنه تريبورينو أنه خرج لصيد النمر فافترسته الوحوش.
وكان الفيل لا يزال على مسافة 40 مترا منه، فجعل ينادي بأعلى صوته ويشير إليه بيديه.
فأسرع موساني إليه، ولما رآه صاح مثله صيحة فرح، فأوقف الفيل وقال له: إن هذا الفيل يعدو بي منذ ثلاثين ساعة باحثا عنك وما كنت أطمع بلقائك حيا.
فعجب روكامبول لإفلاته ونجاته وقال له: كيف تمكنت من البحث عني؟ - إني كنت أسيرا عند الوزير، فتمكنت من النجاة، وعلمت أنهم دفعوك إلى الفيل الجلاد، فكيف نجوت منه؟ - إني قتلته.
فنظر إليه ببلاهة وقال: كيف يمكن أن يكون ذلك؟ لأن الرجل لا يستطيع قتل فيل. - سأخبرك فيما بعد كيف قتلته؛ فقص علي أنت ما جرى لك، ومن أين أتيت؟ - من سجن تريبورينو. - ألم تذهب لصيد النمر؟ - كلا. - إذن ماذا حدث لك؟ - حدث لي أنه منذ وصولنا إلى بلاط الوزير حاولوا أن يتخذوني من حزبهم؛ لأنهم كانوا يعرفون شدة إخلاصي لك.
ولما رأوا إصراري على الوفاء حبسوني بأمر الوزير؛ لأنه أبى قتلي بشفاعة جارية عنده كانت تحبني حبا شديدا، وهي التي أطلقت سراحي، فإنها لما علمت أنهم دفعوك إلى الفيل الجلاد فتحت لي باب السجن، وأخبرتني بأمرك وبأمر الفيل وقالت لي: ابحث عن طريقة تنقذ بها سيدك.
وأخبرتني أيضا أن جميع رفاقك الضباط خانوا الرجاه وانضموا إلى الوزير، فانقطع رجائي منهم.
على أني علمت أن الفيل الجلاد أنثى، فبقي لي شيء من الرجاء بإنقاذك.
ولهذه الجارية نفوذ عند الوزير، فأعطتني خاتما من الذهب وأرسلتني به إلى منزل أحد كبار الضباط.
فلما انتهيت إليه أظهرت له ذلك الخاتم، فعلم أني آت من عند الجارية وقال لي: قل ماذا تريد؟ - أريد فيلا وما يحتاج إليه من عدة.
فنادى أحد أتباعه وأمره بإعداد ما طلبت.
وبعد هنيهة رأيت الفيل واقفا عند الباب، فامتطيته وسرت في أثرك أسابق الريح.
وللفيل حاستان قويتان فيه؛ وهما: حاستا السمع والشم، فما سار بي ساعة حتى علمت من اضطرابه أنه أدرك أثر الفيل الجلاد، وأنه يسير في نفس الطريق التي كنت تسير فيها.
واشتد عندي الرجاء بإنقاذك، وسار بي ذلك الفيل ينهب الأرض نهبا، وقد رأيت الآن أن فيلي لم يخطئ، ولكن أين تركت فيلك الذي قتلته كما تقول؟
فأخبره عند ذلك روكامبول بجميع ما جرى له، وأراد أن يبرهن له عن فعل رصاصة مسدسه، فأخذه وأطلق رصاصة منه على شجرة، فدخلت في جذعها حتى تفجرت وسقطت الشجرة قطعا متفرقة كأنما قد انفرجت تحت الألغام.
وبعد ذلك ركب روكامبول الفيل مع موساني وسار بهما.
لكنهما لم يعودا إلى الكنغ كما كان يحاول روكامبول قبل أن يلتقي بخادمه، بل سار بهما في طريق الجبال الكائنة وراءها عاصمة عثمان.
وبعد مسير بضع ساعات وجدا منزلا فوقفا عنده، وقد عضهما الجوع بنابه، فأكلا فيه ما تيسر، وأسرعا إلى مواصلة السفر كي يخرجا من دائرة نفوذ تريبورينو العسكرية؛ إذ كانا معرضين لإعادة القبض عليهما.
واستأنفا السير حتى إذا أمنا اعتداء الوزير جعلا يتحدثان، فقال موساني: إن هذا الوزير المنافق عامل على خيانة الرجاه عثمان.
فقال روكامبول: لقد عرفت هذه الخيانة. - إنه ضم إليه جميع قواد الحصون حتى إذا جاء الإنكليز فتحوا لهم أبوابها فدخلوها آمنين. - لكن لحسن الحظ لا يزال الوقت فسيحا لدينا، فسنخبر الأمير بأسرار هذه الخيانة.
فهز موساني رأسه وقال: كلا، لقد فات الأوان. - لماذا؟ - لأن هذا الوزير عامل على خيانة مولاه منذ عهد بعيد، وقد أصبح نصف الجيش من حزبه لا يخالفونه فيما يريد. - وماذا يفيده ذلك إذا بقي النصف الآخر مواليا للأمير عثمان؟
فقال موساني بلهجة الارتياب: لكن أتظن أن الرجاه يصدق ما نقوله عن خيانة وزيره؟ - دون شك متى شفعت أقوالي بالبراهين. - إنك مخطئ يا سيدي؛ لأن الرجاه يحب تريبورينو حبا عظيما وأنا أعلم السبب. - ما هو السبب؟ - إني عرفته من جارية الوزير، فإنه مولع بها وهي واقفة على معظم أسراره، وقد أطلعتني عليها، ومما قالته لي عن سبب حب عثمان للوزير: أن الوزير أنقذ كولي نانا من اللهب، وكان الأمير عثمان يهواها، فتمكن حبها من قلبه.
وأما الوزير فإنه يكره الأمير كرها شديدا يعادل ذلك الحب؛ لأنه غيور منه. - على من ؟ - إن كولي نانا زوجة الأمير عثمان باتت شبيهة بالعجائز؛ لأنها بلغت السادسة والعشرين من عمرها، وهو سن الكهولة في الهند.
لكنه على حبه إياها وإكرامه لها قد تزوج بفتاة تبلغ 14 من عمرها لم تر العيون أبدع منها، وهي تدعى دابي كوما. - أهي التي يحبها الوزير؟ - إنه يحبها حبا لا حد له، وهو لا يريد خيانة عثمان وتدمير بلاده على فرط إحسانه إليه إلا طمعا بسلبه هذه المرأة.
ونعم إن الإنكليز قد وعدوه بالأموال الطائلة إذا سلمهم الأمير عثمان وولي عهده، لكن الذي دفعه إلى الخيانة ذلك الغرام لا المال. - لكن كيف تمكنت الجارية من معرفة أسرار الوزير؟ - لأنه كان يهواها من قبل وكانت تهواه، فكان يطلعها على أسراره في ساعات سكره وغفلات غرامه، وما زالت موالية له إلى أن علمت بحبه لامرأة عثمان، فلدغتها عقرب الغيرة، وهي ساعية الآن كل جهدها في سبيل الانتقام منه لنكثه بعهوده.
وقد قالت حين أطلقت سراحي: اذهب واجتهد في إنقاذ سيدك قبل أن يقتله الفيل الجلاد، فإذا لم تستطع إنقاذه اذهب إلى الأمير عثمان وانطرح عند قدميه وقل له: إن تريبورينو من الخائنين.
فلما أتم موساني حديثه رأى روكامبول أنه سيستفيد من حديث غرام الوزير بامرأة الأمير لإقناع الرجاه على خيانة وزيره، فإن هذا الغرام سيؤثر عليه أعظم تأثير.
واستأنف الاثنان السير كل تلك الليلة وقسما من اليوم الثاني.
حتى إذا توسطت الشمس في كبد السماء، ونجت الأرض من هجيرها المحرق، برزت لهما مدينة بيضاء مستظلة بظل جبل شاهق يقيها شر الحر، وغابة كثيفة تحيط بها عند سفح الجبل.
وكانت هذه المدينة البيضاء، المدينة المقدسة كما يدعوها أهل تلك الجبال، وقد اختارها الرجاه عاصمة له؛ تبركا بها وإرضاء لأهل الجبال.
لكن الرجاه لم يكن في حاجة إلى براهين روكامبول لإثبات خيانة وزيره كما سيتضح من الفصول التالية.
11
إن عاصمة الرجاه كانت تدعى نارفور، وهي محصنة أعظم تحصين؛ إذ كان يحيط بها ثلاثة أسوار بعضها وراء بعض.
وهي مبنية في سفح جبل شاهق، يحيط بها نطاق من البراري يمتد إلى سهول الهند الخصيبة، وفي وسطها غابة باسقة الأشجار تقيها حر الشمس.
فإذا اجتاز القادم إليها السور الثالث يجد بيوتا بيضاء سميت المدينة باسمها، وفي كل شارع من شوارعها نبع يتدفق منه الماء فيترطب به الهواء.
وهناك حدائق غناء لا يخلو منها بيت تدلت أثمارها، وزكت أزهارها، فكانت جنة للناظرين.
وفي وسط المدينة سراي الأمير، وهي قصر ضخم محصن كأنه مدينة ضمن مدينة، وكان محصنا أقوى تحصين، وهو عظيم الاتساع بحيث لو تمكن العدو من اجتياز الأسوار الثلاثة، يستطيع أهل المدينة بجملتهم أن يقيموا في هذا القصر، ويحاصروا ما بقيت لهم ذخيرة تمكنهم من الدفاع.
وقد حدث مثل ذلك في تاريخ هذه المدينة منذ قرن؛ فإن الملك أدو حاصر نارفور عدة أشهر، فخرق الأسوار الثلاثة واحدا تلو الآخر، فالتجأ أهل المدينة إلى السراي، أي إلى الحصن، ودافعوا فيه زمنا طويلا، حتى مل ملك أدو محاصرتهم، واضطر إلى الرجوع عنهم بالخيبة والخذلان.
وهذه السراي التي كان يقيم فيها الأمير عثمان كان فيها شوارع وحدائق ومحلات عمومية.
ولكن لم يكن يستطيع الدخول إليها إلا من كان معروفا أنه في خدمة الأمير ومن رجاله الحربيين، فلو أراد هندي من العوام الدخول إليها قبض عليه أو طرد.
وكان في وسط هذه السراي بناية مربعة لا نوافذ فيها تصل إليها أشعة الشمس من السقف، وهي دار الحريم، وعلى بابها حارسان من الخصيان يحرسانها في الليل والنهار.
وكان من عادات حرم الأمير أن لامرأته الشرعية وحدها الحق بالخروج من السراي وإظهار وجهها للعموم، وأما الجواري وسائر النساء فكان يحق لهن الخروج إلى الحمام والمنتزهات، لكنهن لا يخرجن إلا مبرقعات، ولا يحق لأحد الدنو منهن.
وكانت دار الحريم في محل فسيح، وبالقرب منها خمارة يختلف إليها جنود حرس الأمير الخاص، فيشربون ويتنادمون ويبثون ما في أفئدتهم من لواعج الغرام.
ففي ذات ليلة، قبل وصول روكامبول إلى نارفور بيومين، كان جنديان جالسين على مقعد عند باب الخمارة يتحدثان بصوت خفيض .
وكان أحدهما هنديا بحتا لا غش فيه، والآخر عبدا أسود، وقد دار بينهما الحديث الآتي:
قال الهندي لرفيقه: أتعتقد أيها الصديق بفردوس الإله وشنو؟
فأجابه الأسود بملء البساطة: لا أعلم. - لكن يجب أن يحسن اعتقادك بهذا الفردوس. - لماذا؟ - لأنه موجود، ومن يدخل إليه يجد لذات لا حد لها، ونعيما خالدا لا يحيط به وصف.
فاسترخت شفة العبد، وظهرت أسنانه البيضاء وبدت عليه علائم البشر.
فقال له الهندي: أرأيت زوجة الأمير الأخيرة؟ - الحسناء؟ - نعم. - كيف أستطيع أن أراها؟ إن الرجاه لا يأذن لها بالخروج سافرة الوجه حتى في ظلام الليل. - لكن الخصي رومافلي يقول إنها أجمل ملكات الهند. - لقد أصاب هذا الخصي؛ لأن نور جمالها يكسف كل شمس. - كيف عرفت ذلك؟ - لأني رأيتها. - أنت رأيتها؟ - نعم، لقد رأيتها سافرة الوجه؛ فعلمت أنها خلقت كما اشتهت. - اعلم إذن أن الإله وشنو له في فردوسه آلاف النساء أجمل من هذه المرأة، وهو يزفهن لمن يدخل الفردوس.
فاتقدت عينا العبد وقال: كيف السبيل إلى بلوغ هذا الفردوس؟ - يجب على من يريد الدخول إليه أن يخاطر بحياته من أجل رجل يحبه الإله وشنو؛ فإذا مات في سبيل المخاطرة ذهب توا إلى الفردوس، وإذا سلم من الموت فإن الإله وشنو يحميه إلى آخر ساعة من حياته إلى أن يموت الموت الطبيعي. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك تفارق نفسه الجسد فيفتح الإله أبواب فردوسه ويأتي لمقابلة تلك النفس مع نسائه الحسان، وكل واحدة منهن خير من ألف امرأة من ملكات الهند ونساء الرجاه.
فصمت العبد هنيهة وأطرق مفكرا ثم قال: من هذا الشخص الذي أحبه الإله وشنو؟ - هو تريبورينو الأكبر. - أحقا ما تقول؟ - دون شك؛ فإن من يموت في سبيل تريبورينو يذهب توا إلى فردوس وشنو، فتدخل نفسه في جسم فتى جميل أبيض كالحليب. - كيف يمكن ذلك وأنا أسود؟ - إنهم يعطون نفسك جسما أبيض أنقى من العاج.
ففكر العبد أيضا ثم قال: حسنا، سأموت في سبيل تريبورينو، ولكن أتؤكد لي أن هذا الفردوس موجود حقيقة؟ - إني لو لم أكن واثقا كل الثقة من هذا النعيم لما خدمت تريبورينو، ولما خاطرت بحياتي في سبيله، ثم ألا تعلم أن هذا الوزير أنفذ سلطانا وأعظم بأسا من الأمير؛ فإن ما يريده الوزير لا بد أن يكون. - وماذا يريد الوزير؟ - إنه يهوى امرأة ويريد الحصول عليها. - لكنه كثير المال، وافر الكنوز؛ فلماذا لا يشتريها؟ - لأنها ليست من النساء التي تباع، فهي امرأة الرجاه الأخيرة الحسناء التي يدعونها مورتار.
فانذهل العبد انذهالا عظيما من هذا السر الهائل الذي ائتمنه عليه حتى وقع الكأس من يده، وجعل ينظر إلى الهندي بملء الذهول.
فقال له الهندي: إن تريبورينو قد أقسم بإلهه أن ينال امرأة الرجاه، ولا بد أن ينالها. - لكن أسوار سراي الحريم عالية، وأبوابها من الحديد. - ورغم ذلك سيفتحونها. - من الذي يفتحها؟ - أصغ إلي أيها الصديق، لقد تماديت معك في القول حتى لم يعد بد لي معك من واحد من أمرين؛ وهما: إما أن أقتلك فأكون آمنا على أسراري، أو تقسم لي على كتمان ما قلته وما سأقوله لك؛ فيرضى عنك الإله وشنو وتدخل إلى جناته.
ثم جرد خنجره من غمده وأنذر به العبد.
أما العبد فإنه لم يخف من الخنجر خوفه من حرمانه الجنان، فقال له: إني أقسم لك بحظي من ذلك الفردوس بأني أكتم كل ما تلقيه إلي، وأكون في خدمة الوزير أطوع من البنان، فقل ما تريد. - لقد صدقتك ووثقت بوفائك. اعلم الآن أن الإله وشنو يحب تريبورينو حبا شديدا حتى إنه أوحى الإخلاص إلى قلوب كل الذين يخدمون هذا الوزير، فيأتون يضحون في خدمته تضحيات أهون منها الموت. - ألا تذكر لي شيئا من هذه الخدمات؟ - نعم، سأروي لك حكاية تكون خير مثال لإخلاص أتباع هذا الوزير، وهي أنه كان للوزير عبد يدعى كوجلي، وهو أسود مثلك غير أنه من الأقاليم الغربية، أي أن سواده مشرب بالحمرة، وهو من أولئك العبيد الحسان الذين طالما هامت بهم الجواري، وقضين بهم حبا.
وإن في كلكوتا راقصة حسناء - تدعى ممونا - هامت بهذا العبد وهام بها، فتوافقا على الزواج ورضي به تريبورينو، فسر العبد سرورا لا يوصف لفوزه بمن يحب.
وبعد حين، نادى الوزير هذا العبد الولهان وقال له: إني أحب امرأة الرجاه، وأعتمد عليك بالدخول إلى دار نسائه.
أتعلم ماذا فعل هذا العبد الوفي؟
إنه امتثل لمولاه، وترك عروسه، وتنازل عن الرجولية في الحال؛ إذ لا يدخل دار نساء الأمير غير الخصيان. - إني لا أفهم ما تقول. - ألا ترى هذا الخصي الأسود الجديد الذي يخرج أحيانا من دار الحريم فيجالسنا في الخمارة؟ - نعم. - هذا هو كوجلي الذي رضي أن يكون خصيا على فرط عشقه لعروسه؛ لاستماتته في خدمة الوزير، فهل رأيت أصدق من هذا الإخلاص؟ إن هذا مثالا من ألوف مثله على ما يلاقيه الوزير من وفاء أتباعه، ولا يتيسر ذلك إلا لمن تعضده الآلهة.
فقال له العبد: لقد فهمت، وأرجو أن يوحي إلي الإله وشنو مثله هذا الإخلاص، ولكني أرى أن وجود كوجلي في دار حريم الأمير لا يكفي لاختطافها. - إنك تقول الحقيقة؛ لأن كوجلي وحده لا يستطيع اختطافها، لأن الخصيان يستطيعون الخروج من دار الحريم، ولكنهم لا يستطيعون الخروج من القلعة، ولا يحق للنساء أن يخرجن منها أيضا إلا بصحبة أزواجهن. - إنك تثبت اعتراضي فيما تقول. - نعم، ولكن كوجلي سيخرج غدا من دار الحريم ومعه زوجة الرجاه فيسلمها لنا. - لنا نحن؟ - نعم، لي ولك، وعلينا عند ذلك أن نخرجها من الحصن، فإذا فزنا بما نسعى إليه نصبح من كبار الأغنياء بفضل تريبورينو. - وإذا باغتنا الحرس وقبضوا علينا؟ - يقطع الرجاه رأسينا، ولكن روحينا تطيران إلى فردوس الإله وشنو.
وكأنما جميع هذه البراهين لم تقنع العبد فقال له: تقول إن كوجلي يخرج بزوجة الرجاه من دار الحريم ويدفعها إلينا، فهل ترضى زوجة الرجاه أن يختطفها؟ - دون شك. - لماذا؟ - لأنها حين باعها أبوها للرجاه بعشرة آلاف كيس كانت عاشقة فتى هنديا جميلا من بناريس، وقد تحالفا على الوفاء.
وكان تريبورينو عارفا بجميع ذلك، فعلم كوجلي ماذا يفعل؛ ولذلك فإن كوجلي سيقول لزوجة الرجاه إنه قادم من قبل عشيقها لاختطافها ، وهي ستوافقه دون شك على الفرار. - ونحن ماذا نفعل؟ - نخدعها بنفس الحيلة ونقول لها إننا رسولا عاشقها.
فبقي العبد مترددا وقال له: أتظن أننا نستطيع الخروج من الحصن؟ - نعم. - كيف؟ - ذلك أن زوجة الرجاه تخرج من دار الحريم مبرقعة، وفوق ذلك فإن كوجلي يصبغ جسمها بلون السواد. أليس لك زوجة سوداء؟ - نعم. - إذن تأخذ زوجة الرجاه بيدها، وتصل بها إلى باب الحصن فتكشف شيئا من النقاب عن وجهها وتقول: إنها امرأتي، فيأذن لك الحارس بالخروج بها، فتخرجا حالا. - أتظن أنه يأذن لي؟ - دون شك؛ لأن هذا الحارس سيكون الذي يحادثك الآن، أي أنا. - إذا كان ذلك فإن الأمر سهل، ولكن ماذا أصنع بها بعد الخروج من الحصن؟ - تذهب بها إلى خمارة اللؤلؤة الزرقاء، وهناك تجد مركبة وخفراء أرسلهم تريبورينو فتقول للمرأة: إن هذه المركبة وهؤلاء الخفراء أرسلهم عشيقك. والآن، هل عزمت عزما أكيدا صادقا على خدمة الوزير؟ - نعم إذا كنت تقسم لي إن فردوس وشنو كائن حقيقة. - إني أقسم لك بكل عزيز في الأرض ومقدس في السماء على صدق ما أقول. - وأنا أقسم لك بفردوس وشنو أني سأكون من أخلص المخلصين في خدمة الوزير.
وعند ذلك فتح باب دار الحريم وخرج منه الخصيان.
12
كان الهندي صادقا في تلك التفاصيل التي رواها للعبد؛ فإن امرأة الرجاه الجديدة، وهي دابي كوما، لم تجف لها دمعة منذ دخولها إلى بلاط الرجاه.
وكانت تحب فتى جميلا نبيلا من بناريس عاهدها وعاهدته على الزواج برضى عائلتيهما اللتين احتفلتا بعقد الخطبة، فسر سكان المدينة بجملتهم لفرط جمال الخطيبين.
غير أن سلطان المال نافذ في الشرق نفوذه في الغرب، وهو يفعل في كلكوتا كما يفعل في باريس.
وقد اتفق يوم عقد الخطبة وجود ضابط من ضباط الرجاه عثمان في بناريس، فحضر الخطبة وأكرمه والد الخطيبة إكراما عظيما، فخرج الضابط مفتونا بجمال الصبية.
ولما عاد إلى نارفور أخبر مولاه الرجاه بما رأى، ووصف له الفتاة وصفا أخذ بمجامع قلبه، فأمر الأمير عثمان أن يعود إلى بناريس ويشتري الفتاة من أبيها بما يريده من المال.
وجزعت الفتاة جزعا شديدا، وتوسلت إلى أبيها بالدموع السخينة؛ فلم يفدها الدمع ولم تغنها الشفاعة، فباعها للأمير بعشرين لك روبية، واللك في اصطلاح الهنود والأعجام مائة ألف، والروبية فرنكان ونصف، فيكون قد باعها بخمسة ملايين فرنك.
وأخذها الضابط وجاء بها إلى مولاه، ولكنه قبل وصوله إلى نارفور مر بالمدينة التي يقيم فيها تريبورينو، فرأى امرأة الأمير وفتن بها، فلم يهدأ له بال من تلك الساعة، وكان قد عرف أمرها فزاد انشغافا بها، وهاجت كوامن عشقه وحقده على الأمير عثمان بما غرس في نفسه من بذور الحسد والمبادئ السافلة، ولكنه لم يظهر للفتاة شيئا من هذا الغرام والهيام حذرا من أن يتصل أمره بالأمير عثمان.
وسار بها الضابط إلى بلاط الأمير فرآها فوق ما وصفت له، ولكنه لم يلق منها غير النفور، ولم تقابله بغير البكاء، فهاجت كوامن عشقه وتمكن حبها من قلبه، ولكنه كان واسع الصدر، كثير الصبر، فكان يقابل صدها باللين والملاطفة وهو يرجو أن تألفه يوما وتعلم أنه أهل لحبها.
ومضى على الفتاة شهر وهي لا تنقطع عن البكاء إلى أن دخل إلى السراي خصي جديد يدعى كوجلي، فتعين في الحال لخدمة دابي كوما.
وقد عرف القراء هذا الخصي أنه خادم الوزير الأمين، فجعل من يوم دخوله يدبر وسائل اختطاف الفتاة، ويمهد السبل للذهاب بها إلى سيده الخائن.
وكان أول عمله اختلاطه بجنود الحرس الخاص، واهتمامه بإغوائهم بطرق مختلفة، فلم يفلح إلا مع ذلك الهندي، ولكن أغوى العبد كما تقدم؛ فيكون أغوى اثنين لاختطاف الفتاة.
ولقد قلنا إن كوجلي خرج من دار الحريم وأقبل إلى حيث كان الهندي والعبد، فلما رآه الهندي غمزه بعينه، فدنا منه كوجلي وقال له: أتريد أن تحادثني بشيء؟ - نعم.
فنظر كوجلي إلى العبد المقيم مع الهندي وقال له: من هذا؟ - إنه رجل يريد الصعود إلى فردوس الإله وشنو.
فنظر إليه كوجلي وقال: أحق ما يقول؟ - نعم. وقد اتقدت عيناه بشعاع الرجاء، فأيقن كوجلي أنه مخلص في تعهده ، وأنه سيضحي حياته في سبيل الوزير.
وأقام مع الاثنين نحو ساعة، فشربوا الشاي واتفقوا على ما سيصنعونه في الليلة القادمة لاختطاف الفتاة.
ثم تركهما كوجلي وعاد إلى دار الحريم فأقام فيها ينتظر هبوط الليل.
وكان الرجاه عثمان قد زهد في جميع نسائه لافتتانه بهذه الفتاة، فجاء إليها وجعل يلاطفها ويؤانسها، ولكنه لم يلق منها غير الصد والبكاء كما عودته منذ اشتراها.
فعزاها وخفف كربتها بالكلام اللين والوعود الجميلة، ولكن أين للعشاق أن تشغلهم الوعود والأماني عما يكونون فيه من وجد ولوعة.
وبعد أن خرج الأمير من عندها دخل إليها كوجلي وهي لا تزال دامعة العين فقال لها: ما بك يا لؤلؤة الشرق تبكين؟ - لأن أبي باعني بيع السلع وما أنا من الرقيق. - لقد أصبت يا سيدتي، ولكن لكل ضيق فرجا، وقد يمكن إنقاذ الأسرى.
فهزت رأسها وقالت: وا أسفاه، إني أصبحت ملكا للرجاه، ولا بد لي يوما للامتثال مكرهة.
فنظر إليها الخصي محدقا وقال: كيف ذلك، أتنقضين يمينك وتنكثين بعهودك؟
فاهتزت الفتاة اهتزاز الورقة حركتها الرياح وقالت: كيف علمت أني أقسمت يمينا وتقيدت بعهود؟ - ألم تقسمي يمين الوفاء لخطيبك رمسيس في بناريس قبل أن تفترقا؟
فأبرقت عينا الفتاة، وخرج البريق من خلال دموعها كما تنفذ أشعة الشمس من خلال المطر ثم قالت: ألعلك تعرف رمسيس؟ - بل أقول خيرا من ذلك؛ وهو أن رمسيس أرسلني إليك.
فصاحت الفتاة صيحة فرح حاولت كتمانها فخرجت من صدرها كالزفير.
ومضى كوجلي في حديثه فقال: انظري إلي يا سيدتي؛ فإني كنت قبل ثمانية أيام رجلا، فرضيت أن أغدو من الخصيان كي أصل إليك؛ لأني من خدام رمسيس. - وهو أرسلك إلي؟ - نعم، وإذا رضيت أن تتبعيني تصبحين حرة، وتفلتين من قبضة الأمير بعد بضع ساعات. - أنا أصبح حرة؟ - دون شك، وتسيرين في طريق مدينة بناريس حيث ينتظرك خطيبك رمسيس.
فضمت الفتاة يديها وقالت: ويلاه، أخشى أن تكون عابثا بشقائي، وأن تكون من جواسيس الأمير تحاول الوقوف على أفكاري. - قلت لك يا سيدتي : إني خادم رمسيس المخلص ؛ فثقي بقولي لأن الأمير غير محتاج إلى الوقوف على نياتك؛ فهو يعلم أنك تعشقين سواه.
فوثقت دابي كوما بما قاله وجعلت تتأهب للفرار وقلبها يكاد يطير سرورا.
وعند انتصاف الليل بينما كان جميع النساء نائمات في السراي دخل كوجلي إلى الفتاة وقال لها: هلم بنا فقد آن الأوان.
ثم وضع على وجهها نقابا كثيفا كبيرا غطى كل جسمها، وذهب بها إلى قاعة كانت تجتمع فيها بالنهار خادمات وجواري الرجاه، وهي القاعة المعدة لإعداد مواد التزجيج والتخضيب.
وهناك وعاء كان قد أعد فيه كوجلي صباغا أسود، فأخذ إسفنجة وأزاح النقاب عن وجه دابي كوما، ثم مسح وجهها ويديها وعنقها وما ظهر من جسمها بهذه المادة السوداء، فتبدل لونها الأبيض بلون الأبنوس.
وصبر هنيهة حتى جف السائل على وجهها فخرج بها من دار الحريم.
ولما كانت الخوادم كلهن من الجواري السود في ذلك القصر حسب رئيس الخصيان أنها واحدة منهن، فأذن لها ولكوجلي بالخروج وفتح لهما الباب بيده، فخرج الاثنان إلى الردهة الكائنة أمام الخمارة التي اجتمع فيها الهندي والعبد الذي أغراه.
وكان العبد يسير في تلك الردهة ذهابا وإيابا وهو ينتظر خروج زوجة الرجاه من حين إلى حين، فلما رآه كوجلي ناداه وقال له: خذ زوجتك واذهب بها إلى حيث اتفقنا.
فعلم العبد أنها زوجة الرجاه؛ فأخذ بيدها وسار بها.
أما دابي كوما فإنها خافت حين رأت كوجلي عاد إلى القصر فالتفتت إليه وقال: ألا تأتي معنا أنت؟! - كلا، ولكن لا تخافي؛ فإن العبد الذي يصحبك هو أيضا من خدام رمسيس، فثقي به كما تثقين بي ولا تخشي شيئا؛ فإنك بالغة ما تريدين بإذن الله.
فصدقت دابي ووثقت بالعبد، فسار بها وهو آخذ بيدها حتى وصلا إلى باب السراي الخارجي.
وقد تم الفرار كما توقعه الهندي، فقد كان الهندي نفسه على ذلك الباب يتولى الخفارة، وكان رئيس الحراس واقفا بالقرب منه حين وصلت زوجة الرجاه إلى الباب.
فنظر رئيس الحراس إلى العبد وقال له: من أنت؟ - من جنود الرجاه. - وهذه المرأة ؟ - هي امرأتي.
فقال الهندي للرئيس: هو ما يقول يا سيدي؛ فإني أعرف الاثنين.
فقال الرئيس للعبد: إلى أين أنت ذاهب بامرأتك في مثل هذه الساعة؟ - إلى حفلة عرس في المدينة دعينا إليها؛ فإن العروسين من أصحابنا.
فأشار الضابط عند ذلك إلى الهندي أن يأذن لهما بالخروج، ففتح الباب وخرج العبد بالفتاة وقد نجت من أسر الرجاه.
وسار بها العبد بضع خطوات ورأيا المركبة المعدة لاختطافها يكتنفها الحراس، فركبتها واثقة مطمئنة وهي تحسب أن الذي أرسلها خطيبها رمسيس، ولم يخطر لها في بال أن ذلك من صنع ذلك الوزير الخائن، فما أشرق الصباح حتى بعدت بعدا شاسعا عن مدينة نارفور المقدسة عاصمة الرجاه، ولم يعد للرجاه يد تبلغ إليها. •••
ولم يشعروا في القصر بهذا الفرار إلا في اليوم التالي حين دخلت المواشط إلى غرفة دابي كوما ولم يجدنها.
واتصل الخبر بسرعة إلى الرجاه، فهرول وهو يستشيط غيظا ويقسم على أن يقتل رئيس الخصيان أفظع قتل روي في تاريخ الهمجية.
وفيما هو ينذر ويتوعد وقد أمر بإحضار رئيس الخصيان إذ دنا منه كوجلي وقال له: لا تتهم يا سيدي هذا العبد؛ فهو بريء، وأنا أخبرك بحقيقة ما جرى.
ولم يكن كوجلي قد دخل في خدمة الوزير ورضي أن يختطف له زوجة الرجاه إلا لرجائه أن يقتله الأمير؛ فيذهب توا إلى فردوس وشنو.
أما الرجاه فإنه ذهل لما سمعه من كوجلي ولما رآه من جرأته فقال له: أية حقيقة تعني؟ وماذا جرى لدابي كوما؟
فابتسم كوجلي ابتسام المتهكم، ونظر إليه نظرة ملؤها الكبرياء ثم قال له: إن هذه الحسناء باتت خارج نفوذ سلطانك، وهي الآن بين ذراعي تريبورينو.
فصاح عثمان صيحة منكرة عندما سمع اسم وزيره وقال له: ويحك أخبرني حقيقة ما جرى بالتفصيل.
فقص عليه كوجلي عند ذلك خيانة تريبورينو بلهجة تشف عن السرور، فنسي عثمان في تلك اللحظة المرأة التي كان يجن بهواها، وتجسمت له خيانة وزيره الهائلة بعد أن أغدق عليه بنعمه، وساواه بنفوذه، وشاركه بماله ، فكبرت عليه هذه الخيانة الفظيعة، وجعل يبكي بكاء الأطفال من غيظه، ويهدد السماء بقبضته.
وكأنما كوجلي لم يشأ أن يتمتع وحده بفردوس وشنو، فذكر اسم شريكيه في اختطاف امرأة عثمان؛ وهما: الهندي والعبد.
فأمر عثمان أن يشنق الثلاثة في الحال. وقد شنقوا في اليوم نفسه الذي دخل فيه روكامبول وموساني إلى نارفور عاصمة عثمان.
ولكن دابي كوما كانت قد أصبحت في دار الوزير، فوجد روكامبول ذلك الأمير المنكود الحظ قد اسودت الدنيا بعينيه فلم يعد يرى غير القتل والانتقام.
وهنا نتجاوز عن كثير من الحوادث التي حدثت إثر هذا الاختطاف بما لا يفيد القراء، ونقتصر على القول بأن الخفاء قد زال بين الأمير ووزيره، ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد أن تمكن تريبورينو بدهائه، وانخداع الأمير بوفائه، من إغواء الجند وضمهم إلى حزبه.
فجعل كل من الفريقين يتأهب لمحق خصمه، ولكن الوزير كان أشد من عثمان، فما مضى ستة أشهر على اختطاف الفتاة حتى احتدمت نار القتال في مملكة الرجاه.
وكان تريبورينو قد رفع راية العصيان، وجاهر بتسليمه للإنكليز ضاما إليه ثلثي جيش عثمان.
فما زال يزحف ظافرا منصورا من بلد إلى بلد حتى بلغ إلى نارفور عاصمة عثمان فحاصرها.
ولم يبق لهذا الأمير من المخلصين حوله غير روكامبول وستة آلاف جندي كانوا جميعهم محصورين في العاصمة يقاتلون الجيوش المحدقة بها من فوق الأسوار.
ففي صباح يوم من أيام الحصار استعرض عثمان جنوده وخطب فيهم، فحثهم على الدفاع، وذكر لهم خيانة وزيره بعبارات ألقت الحماسة في قلوبهم؛ فأقسموا على أن يدافعوا عن عثمان والوطن حتى الموت.
ولما فرغ من الاستعراض نادى روكامبول وسار به إلى مكان معتزل لا يراهما فيه أحد من الناس وقال له: إني في حاجة إليك أيها الصديق؛ فتعال نتحدث.
وجلس وإياه فقال له عثمان: إنك آخر رجل اعتمدت عليه ووثقت بوفائه وإخلاصه؛ لأنك فرنسي، ولذلك أحببت أن أئتمنك على سر يتعلق عليه مستقبل أسرتي، وأسترسل إليك كما أسترسل إلى أخ شقيق.
فانحنى روكامبول وقال: قل أيها الأمير ما تشاء؛ فإنك وضعت ثقتك في موضعها، وما أنا من الخائنين.
فقال له: إن أول علم كان يتعلمه الأطفال من أسرتي منذ قرن هو النفور من إنكلترا، وعدم الركون إليها، فكان أعظم غلطة غلطتها في حياتي هي وثوقي بتريبورينو، ورفعه إلى مقام الوزارة على علمي أنه من الإنكليز.
وكانت الهند منذ مائة عام يحكمها ملوك أشداء، وكانت شعوبها حرة سعيدة تعيش بالأمن والرخاء من ضفاف الكنغ إلى الفرات.
فأقبل الإنكليز إليها، وجعلوا يستعينون على قومها تارة بالقوة، وتارة بالخداع والدهاء حتى استعبدوا قومها، وأنزلوا ملوكها عن عروشهم، وأبادوا كل سلطة فيها للعنصر الهندي.
أما أنا، فإني آخر أولئك الملوك المحافظين على استقلالهم، ولكني أعلم ما سأصير إليه؛ فإني أرى كما ترى ما يحدق بي من الأخطار.
وقد توقعت هذا الخطر منذ عرفت خيانة تريبورينو الذي أغدقت عليه بإنعامي، وأيقنت أن الأسد البريطاني سينشب بي براثنه، ولكن إذا تمكن الإنكليز من إبادتي لا أحب أن تبيد أسرتي بجملتها.
أما أنا فقد يقضى علي اليوم أو غدا؛ فأقتل في ساحة الدفاع عن وطني وسلاحي بيدي.
فإذا قضيت قضي على آخر بقعة حرة من بقاع الهند، ولكن يجب أن يعيش بعدي من يرثني من أسرتي، فقد يأتي يوم ينهض فيه ذلك الوريث فيذكر أباه ويستعين برجال الهند فيطرد من البلاد عدوها، ويعيد إليها حريتها السابقة ومجدها القديم، ويكون هذا الفضل منسوبا لأسرتي.
فقال له روكامبول: ألعلك تريد أن تعهد إلي بولدك؟ - نعم، فإني أحب بعد موتي أن تسير به إلى أوروبا، وأن تعلمه أن يكره الإنكليز.
فبدت على روكامبول علائم القلق، ورأى عثمان تلك العلائم فقال له: لا تخف، فقد جمعت لولدي في مدة عشرة أعوام ثروة عظيمة سرية تكفيه لأن يعيش حسب مقامه ومقام أسرته.
فقاطعه روكامبول وقال: ولكن يظهر يا سيدي أنك نسيت ما نحن فيه. - كلا لم أنس شيئا. - إننا محصورون، وقد بلغ الأعداء أسوار القصر فأحدقوا به كالنطاق. - إني أرى ما تراه. - ولا بد لنا من الوقوع في قبضتهم مهما بلغ من دفاعنا. - إني متوقع هذه الخاتمة، ومن أجل ذلك عزمت على تضحية حياتي. - إذن فإن ابنك يقع مثلنا في قبضة الإنكليز.
فلم يجبه الرجاه.
فقال روكامبول: وكذلك ثروتك؛ فإنها تصبح لهم.
فهز عثمان رأسه مبتسما وقال: إنك منخدع. - ألعلك وجدت طريقة لإنقاذ ابنك؟ - نعم ... - وثروتك؟ - وثروتي أيضا؛ فهي مع ولدي في أمان.
فجعل روكامبول ينظر إليه منذهلا وينتظر أن يكشف له الحجاب عن هذا السر.
فقال له عثمان: اعلم الآن أن هذا الغلام الذي يحييه الشعب تحية الأمراء، وتضمه كولي نانا امرأتي الأولى إلى صدرها، كما تضم الأم ولدها، أن هذا الأمير الصغير الذي يعتقد جميع من يحيط بي أنه ولي عهدي وأميرهم بعدي؛ ليس بولدي.
فزاد انذهال روكامبول ولم يقاطعه استيفاء للحديث.
فتابع عثمان: إني كنت دائما أتوقع أن يصيبني من الإنكليز ما أصابني اليوم، فاحتطت لنفسي من كيدهم، وجعلت ولدي في مأمن منهم، وذلك أنه بعد أن ولدت كولي نانا بشهرين أخذت الغلام من مهده، ووضعت مكانه غلاما من عمره، فكبر الغلام حتى بلغ الآن عشرة أعوام وأمه تحسبه ولدها والناس يحسبونه ولدي.
فصاح روكامبول صيحة دهش وقال: إذن البرنس علي ليس ولدك؟ - كلا، بل هو ابن أحد أتباعي أخذته يتيما من أبيه، وقد ماتت أمه أيضا. - ولكن أين هو ولدك ولي عهدك؟ - إنه بعيد جدا عن هذه العاصمة، وهو يجهل أني أبوه، ولكنك ستخبره بكل شيء بعد موتي متى اجتمعت به في كلكوتا. - أهو في كلكوتا؟ - نعم في المدينة السوداء؛ أي مدينة الهنود، وهو عند رجل فقير خياط.
وهذا الرجل فقير في الظاهر يبدو للناس منه أنه يعيش من صناعته مع غلام له يبلغ العاشرة من العمر، والحقيقة أنه يعيش مع ولدي عيشة سعة ورخاء.
أما هذا الرجل فهو مسلم عثماني يدعى حسنا، كان من خدام بيتنا؛ فائتمنته على ولدي وثروتي، وما زالت ثقتي وطيدة بالمسلمين.
وقد أقام ولدي عنده منذ الطفولية، فهو يحسب أنه والده ويناديه «أبي».
والآن فاسمع ما أريده منك: إني حين أفقد كل رجاء ، وحين أنشب المعركة الأخيرة، وأضرب آخر ضربة بحسامي، بل حين يخرج من صدري النفس الأخير تبرح أنت العاصمة وتسير إلى كلكوتا؛ فتذهب إلى حسن الخياط وتظهر له هذا الخاتم.
ثم أخرج من إصبعه خاتما نقش على فصه كتابة هندية معناها «تذكر»، فوضعه في إصبعه وقال: إنك حين تظهر هذا الخاتم للخياط يأتيك بالغلام، ثم يذهب بك إلى قبو في منزله الحقير؛ فترى فيه من أكداس الذهب والحجارة الكريمة ما لا يوجد مثله بين كنوز ملك لاهور. وهذا الكنز هو إرث ولدي.
ثم عطف فقال: إنك شديد الإخلاص، ذكي الفؤاد، فلا تعدم وسيلة تنقل هذا المال بها إلى أوروبا دون أن يعلم الإنكليز، ثم تذهب بولدي إلى تلك البلاد الآمنة، فتعلمه أن أباه قد مات في سبيل استقلال الهند، وأني لم أورثه هذا المال، بل أورثته الحقد على إنكلترا؛ فلينفق المال في سبيل وطنه.
فقال روكامبول: إني سأفعل كل ما أمرتني به. - وأنا واثق كل الثقة.
ثم مد له يده فقبلها، وقام الاثنان إلى موضع الحصار.
وكان الإنكليز يحاصرون المدينة بعنف شديد.
والحامية تدافع بثبات أشد.
غير أن كثرة عدد الأعداء تغلبت على بسالة الأمير وجنوده، فكانت جنود الوزير محدقة بالمدينة من كل جانب، وقد ضيقت نطاق الحصار، وجعلت الأسوار تتهدم واحدا تلو الآخر، ومدافع الوزير تدوي دوي الرعود القاصفة فتدك المعاقل والحصون.
وكان المحصورون يزيد عوزهم إلى القوت والذخيرة في كل يوم حتى اضطر عثمان أن يقصي عن المدينة كل من لا يفيد في الدفاع؛ اقتصادا في قوت الحامية.
إلى أن اشتدت الأزمة على المحصورين ولم يبق لهم شيء من الزاد، فدعا عثمان روكامبول وقال له: أرى أن الدفاع عن نارفور بات ضربا من المحال، وخير لنا أن تخترقها صفوف الإنكليز ونعتصم بالجبال، فإذا تمكنا من البلوغ إليها تيسر لنا أن ندافع دفاعا مقرونا بالفوز.
وكانت الخطة خطة جرأة نادرة، على أنها كانت ممكنة إذا استعين عليها بالخداع والحيلة.
وكان ذلك العهد عهد الأمطار، فكانت أبواب السماء مفتوحة والمطر ينهمر كأفواه القرب.
فعقد عثمان مجلسا عسكريا، وشاور أعضاءه في الأمر، فقرروا أن يترقبوا ليلة حالكة الظلام، كثيرة الأمطار، فيخرجون تحت جنح الليل إلى الجبال فلا يشعر بهم الأعداء.
وقد اتفق لهم ذلك في الليلة التي تلت عقد المجلس، فقد اشتد فيها الحلك، وبلغ سيلها إلى الركب، والتجأ الإنجليز المحاصرون إلى الخيام.
فتأهب عثمان للخروج، وأمر فوضعوا النساء والأطفال على ظهور الفيلة في وسط المعسكر وقاية لهم من الأخطار.
ثم أمر بفتح الأبواب، فخرج الجيش بجملته وفي مقدمتهم عثمان وروكامبول، وساروا قرب جيش العدو صامتين يحاولون إخفاء حركاتهم.
ولكن حراس جيش الوزير تنبهوا لهم؛ فنفخوا في أبواقهم، وهب جيش الوزير منذعرا، فلم يكن غير هنيهة حتى التحم الجيشان، فخرجت السيوف من أغمادها، وأبرقت الخناجر والحراب، وأرعدت البنادق والمسدسات، فكان قتالا شديدا هائلا خضب الأرض بالدماء، ولم يتعارف فيه الخصمان إلا بتألق البروق.
وتمكن جيش عثمان بعد الصبر والاستبسال من الانسحاب إلى واد عميق في شمال المدينة، ولكنهم وجدوا هنالك جيشا آخر، فلقوا معه من العذاب أشد ما لقوه من الجيش الأول.
ودامت المعركة الهائلة ناشبة بين الفريقين حتى أشرق الصباح، ورأى جيش عثمان قمم الجبال المجاورة، ولكنهم رأوا آلافا من الجنود قد هرولوا من تلك الجبال وطوقوا جيش الأمير.
ولم يكن هؤلاء الجنود من الإنكليز، بل كانوا من جنود تريبورينو أقامهم في الجبال كي يمنعوا الأمير من الالتجاء إليها.
وهنا عاد القتال إلى أشد مما كان عليه فاستمر إلى المساء.
وكان أعوان الأمير يسقطون أمامهم الواحد تلو الآخر، وهو يقاتل في مقدمتهم قتال الأبطال، وعن يساره روكامبول، وقد أبلى في تلك الحرب خير بلاء، ودفع الموت عن الأمير عدة مرات.
وظل هذا دأبهم حتى لم يبق لدى الأمير غير شرذمة من الرجال؛ فأصابته رصاصة وقعت بين أحشائه، فخر عن جواده صريعا، وسقط بين يدي روكامبول مخضبا بدمائه.
وقد أيقن عند ذلك بالموت، فنظر إلى روكامبول بعين المحتضر وقال له: «تذكر».
ثم تنهد تنهدا طويلا وهو يقول: «انتقم لي».
فكانت آخر كلمة قالها وأسلم الروح، فعادت إلى مبدئها وهي تحمل وعد روكامبول بمطاردة ذلك الوزير الخائن والانتقام منه.
13
كان تريبورينو قد علم بأن روكامبول قتل الفيل الجلاد، وسلم من الموت، وعاد إلى الأمير عثمان.
وكان يعلم أنه كان يقاتل مع الأمير جنبا لجنب.
فلما تم انتصاره على جنود عثمان، وتمزق ذلك الجيش شر ممزق، أمر فرقة من الجند كي تبحث عن روكامبول، فتوزعت في أنحاء مختلفة، وسارت في جميع الطرق تبحث عنه.
غير أن روكامبول قد تمكن بدهائه من الإفلات والنجاة، فتنكر بزي لا يعرف به، وهام في الجبال طريدا شريدا عدة أسابيع، وكان يجتنب في سيره المدن، حتى القرى، ولا يسير إلا في الجبال والسهول؛ لأن جميع المدن والقرى قد سقطت في قبضة تريبورينو، فلو مر بها لما أمن القبض عليه.
ولبث هائما يسير من جبل إلى سهل، ومن سهل إلى جبل نحو شهرين، حتى انتهى إلى سهول هندستان حيث لا سلطان فيها لتريبورينو، فأقام هناك بضعة أيام عند أحد الهنود، ثم استأنف السير فوصل بعد شهر إلى كلكوتا، فأمن كيد الوزير ومطاردة جنده.
وعند ذلك ذكر ما وعد به الرجاه، وجعل يهتم بالبحث عن حسن الخياط الذي أودع عنده ابن الرجاه.
وكان جميع الذين يقيمون في المدينة السوداء من كلكوتا يعرفون هذا الخياط، فسأل روكامبول عنه أحد غلمان الفندق الذي نزل فيه فأرشده إلى منزله.
وكان بيت حسن صغيرا لا يدل شيء من ظواهره على العظمة، ولا يخطر في بال أحد أن ملايين الرجاه قد أودعت فيه.
فلما وصل روكامبول إلى هذا المنزل لقي حسنا جالسا على عتبة بابه، وهو شيخ جليل تدل معارف وجهه وسكينته على ما فرط عليه من السلامة والوفاء.
فدنا روكامبول منه وقال له: ألعلك أنت الذي يدعونه حسنا الخياط؟ - نعم، أنا هو، فماذا تريد مني؟
فأراه روكامبول خاتم الرجاه عثمان بإصبعه وقال له: أتعرف هذا الخاتم؟
فارتعش حسن حين رأى الخاتم وأسرع فأدخل روكامبول إلى المنزل وأقفل الباب بسرعة كأنه يخشى أن يباغته أحد.
فلما خلا به قال له: يظهر أنك قادم من قبل عثمان؟ - نعم. - كيف حاله؟
فسقطت دمعة من عين روكامبول عند هذا السؤال وقال له: لقد توفي الأمير.
ثم قص عليه خيانة تريبورينو بالتفصيل، وذكر له استبسال عثمان بالدفاع، وأنه توفي كالأبطال.
وكان حسن يصغي إليه وهو أصفر الوجه، منقبض الصدر، حتى إذا فرغ روكامبول من حديثه رفع يده إلى السماء وقال: هي إرادة الله ولا رد لقضائه.
وبعد سكوت قصير قال روكامبول: أين هو الغلام؟ - إنه يغتسل يا سيدي، وسيعود بعد ساعة. - والكنز؟ - سأريك إياه، هلم معي.
ثم قام فأخذ مصباحا وسار به إلى الجدار فكشف عنه ستارا، فظهر سلم طويل يؤدي إلى قبو المنزل، فنزل درجاته وروكامبول يتبعه حتى انتهيا إلى القبو، وكان فارغا لا شيء فيه.
وقد علم روكامبول أنه لا بد أن يكون لهذا القبو باب سري يدخل منه إلى حيث خبأ الكنز، غير أنه تعجب حين لم يجد أثرا لباب أو منفذ في حيطان القبو.
أما حسن فإنه ابتسم وقال له: سوف ترى.
ثم دنا من أحد الجدران وبدأ ينقر عليه بيده في مواضع مختلفة وهو يصغي إلى صوت نقراته، حتى سمع صوتا رنانا يشبه صوت النقر على دف، فأخذ خنجره من منطقته، وأدخل شفرته الدقيقة بين حجرين، فانزاح أحدهما للحال وظهر في الجدار قفل فولاذي.
وعند ذلك أخذ حسن مفتاحا كان يعلقه في عنقه وقال لروكامبول: إن هذا القفل من صنعي، وقد وضعت لفتحه طريقة كثيرة الإشكال بحيث تقتضي عدة أيام كي أعلمك إياها.
ثم أدخل المفتاح في القفل وأخذ يديره يمنة ويسرة وهو يلفظ ألفاظا لم يفهمها روكامبول ويعد على أصابع يده اليسرى.
وما زال هذا دأبه عدة دقائق حتى فتح الباب، وهو باب متين من الحديد يتألف منه نصف الجدار وقد صبغ بلونه، فظهر لروكامبول قبو آخر.
ودخل الاثنان فوضع حسن مصباحه فوق سبيكة ذهبية وقال لروكامبول: انظر الآن، هذا هو كنز عثمان أمامك.
فأخذ روكامبول المصباح بيده وجعل يطوف في هذا القبو العجيب ؛ فلا تقع عينه إلا على سبائك الذهب وأكداس اللآلئ واليواقيت وغيرهما من أنواع الحجارة الكريمة.
فدهش روكامبول وابتسم كأنه ذكر عهد حياته السابق حين كان تلميذا لأندريا، فلو ظفر بمثل هذا الكنز في ذلك العهد لكان ظهر بريق خنجره في صدر حسن قبل أن يظهر لعينه بريق تلك اللآلئ.
وبعد أن تفقد ذلك الكنز وعرف مقدار تلك الثروة الهائلة قال لحسن: إن عثمان أمرني أن آخذ منك جميع الأموال، وأن أذهب بها وبولده إلى أوروبا فأدربه على بغض الإنكليز. - إن خاتم مولاي عثمان بإصبعك؛ فلا يسعني إلا الخضوع لك.
ثم خرج الاثنان من القبو الداخلي، فأقفل حسن باب الكنز وأعاد الحجر إلى موضعه، وصعد الاثنان إلى البيت.
وكان الغلام قد عاد من الحمام، فلم يكد يراه روكامبول حتى أيقن أنه ابن الرجاه عثمان لفرط ما وجد بينهما من الشبه، وقال: هذا هو ابن كولي نانا الحقيقي دون شك، وليس ذلك الغلام الذي كنا نراه في بلاط عثمان.
وكان الغلام ينظر إلى روكامبول باندهاش فقال له حسن: هو ذا مولاك يا بني منذ الآن؛ فاتبعه إلى حيث أمرك.
فقال له روكامبول: كلا، لم يحن الوقت بعد؛ فليبق الغلام عندك إلى أن أتم المعدات اللازمة لرحيلنا.
فأطرق حسن برأسه وقال: ليكن ما تريد.
أما الغلام فلم يفهم من كل ذلك غير معنى الافتراق، فجعل يبكي.
ثم نهض روكامبول يحاول الانصراف فقال لحسن: إنك لا تراني بعد الآن إلا في اليوم الذي أكون قد تأهبت فيه للسفر، وأنا ذاهب الآن لأهتم بإيجاد جماعة من أهل الوفاء والإخلاص أستعين بهم على نقل الأموال إلى سفينة بطريقة أمينة.
ثم ودعه وانصرف، فأقام عدة أيام في كلكوتا يبحث عن طريقة تعينه على نقل كنز عثمان إلى أوروبا دون أن تشعر به الحكومة الإنكليزية.
ولم يكن روكامبول قد صحب من خدامه الأوفياء الذين كانوا له في بلاط عثمان غير خادمه الوفي موساني، وكان يقيم معه في أحد فنادق المدينة السوداء، وقد رضي أن يغادر بلاده من أجله ويسافر معه إلى أوروبا.
ففي ذات ليلة، قال موساني وعليه علائم الرعب: أرى، يا سيدي، أنهم قد عرفوا من نحن؛ لأني أراهم يقتفون أثرنا حين خروجنا كل يوم. - من الذي يتبعنا؟ - رجل أسود أراه من أتباع تريبورينو.
فخطر لروكامبول أن يغير موضع سكنه، فانتقل وخادمه من المدينة السوداء إلى المدينة البيضاء حيث كان يقيم الإنكليز.
وأقام هناك في فندق شهير، فخلع عنه ثياب الهنود وارتدى الثياب الأوروبية، فكان يظهر للناس أنه سائح.
فبعد أن أقام في ذلك الفندق الجديد يومين شعر في الليلة الثالثة وهو يشرب الشاي أن الشاي لزج، فلم يكترث لذلك لا سيما وأنه كان قد شرب كل ما في الكأس.
غير أنه لم يمض عليه ساعة حتى تثاقلت أجفانه، وشعر برغبة شديدة إلى النوم، فأطبقت عيناه بالرغم عنه ونام نوما عميقا.
فلما استيقظ رأى أن أشعة الشمس قد ملأت غرفته، فنادى موساني الذي كان ينام في غرفة مجاورة لغرفته، فلم يجبه، ولكنه سمع أنينا مزعجا.
وكرر النداء فتوالى الأنين، فوثب عند ذلك من فراشه وأسرع إلى غرفة موساني، فوجد منظرا تقشعر له الأبدان وترتعد منه الفرائص.
ذلك أنه وجد الخادم الوفي مكبل اليدين والرجلين، ملقى على ظهره والدم يسيل من فمه، وقد فتح موساني فمه حين رأى روكامبول، فوجد أنه مقصوص اللسان.
وقد علم روكامبول أنهم قطعوا لسان خادمه وهو نائم في غرفته نوم تخدير.
فأسرع إلى حل وثاقه، وبينما هو يحل قيد ذلك المسكين صاح صيحة منكرة، وتراجع منذعرا قانطا؛ لأن عينه وقعت على إصبعه فلم يجد فيه خاتم عثمان.
14
وكان موساني مقصوص اللسان فلقي روكامبول عناء شديدا بفهم حقيقة الذي حدث له؛ إذ كان يكلمه بالإشارة.
أما الذي علمه منه، فهو أنه عند نصف الليل سمع ضجيجا رابه، فجاء إلى غرفة روكامبول يبغي إيقاظه، ولكنه كان نائما نوم تخدير، فذهب كل جهد في إيقاظه عبثا.
ولما يئس من إيقاظه ذهب إلى الباب كي ينادي خدم الفندق.
ولكنه لم يكد يخرج من غرفة روكامبول ويصل إلى باب غرفته حتى شعر بأن غطاء كثيفا قد ألقي على وجهه، ثم أحس برجلين قد حملاه وأوصلاه إلى غرفته وأقفلا بابها.
فدافع موساني دفاعا شديدا، ولكن الرجلين كانا أشد منه فألقياه إلى الأرض، ووضعا كمامة في فمه كي لا يستغيث.
ولما صرعاه قيدا يديه ورجليه بحبل رفيع من الحرير، ثم أزاحا الغطاء عن وجهه بحيث بات يسمع ويرى.
فرأى موساني أن هذين الشخصين كانا من الهنود، وعرف من ثيابهما أنهما من عباد الإلهة كالي، أي من طائفة الخناقين التي عرف القراء فظائعها في الأجزاء السابقة.
وكان أحدهما لا يزال في عنفوان الشباب، والآخر كهلا، فكان الكهل يأمر والفتى ينفذ تلك الأوامر.
فقال له الكهل: دعه الآن في مكانه وهلم بنا إلى غرفة رفيقه؛ فإن المخدر لا بد أن يكون قد فعل فعله فيه.
ثم تركا موساني وذهبا إلى روكامبول، فهزاه في سريره هزا عنيفا فلم يستفق.
وعند ذلك ابتسم الفتى ابتساما يشف عما داخل فؤاده من الحقد وقال للكهل: أهذا هو الذي غلب علي رمجاه؟ - هو بعينه. - ولماذا لا نخنقه؛ فهي أفضل فرصة للانتقام؟ - ذلك لأن الذين أرسلونا منعونا عن قتله؛ لأن لهم في حياته مآرب كما يظهر.
فهز الفتى رأسه إشارة إلى الأسف، أما الكهل فإنه أخذ يد روكامبول ونزع من خنصره خاتم عثمان.
وبعد أن دقق النظر في فحصه قال: هو بعينه؛ فلندع الآن هذا الرجل نائما ولنعد إلى رفيقه.
ثم وضع الخاتم في جيبه، وخرج الاثنان من غرفة روكامبول إلى غرفة موساني.
وكان موساني قد تمالك رشده، فجعل يفحص الشخصين بإمعان كي لا يغيب رسمهما عن ذهنه متى أطلق سراحه.
فدنا أحدهما منه وأشهر خنجره فوضعه على عنقه وقال له باللغة الهندية: إننا سننزع الكمامة عن فمك كي تستطيع الإجابة عما نسألك عنه، فتأهب للجواب، واعلم أنه لا فائدة من صراخك؛ لأن جميع خدام هذا الفندق أعوان للذي أرسلنا، فلا تطمع أن يغيثك منهم أحد، وفوق ذلك فإن مولاك قد أسقي مخدرا، فلو دوت المدافع قرب أذنه لا يستفيق.
وإن من طبع الهندي الحكمة والسكينة والصبر، فلما أيقن موساني أنه لا فائدة له في المقاومة تظاهر بالاستسلام للقدر، وأشار بعينه إشارة تدل على تأهبه للجواب.
فنزع الكهل الكمامة عن فمه وبدأ بسؤاله فقال: إنك خادم هذا الرجل الأبيض، أليس كذلك؟ - بلى. - ماذا يدعى؟ - أفاتار. - أتعلم من أين أتى؟ - كلا. - متى دخلت في خدمته؟ - من ثمانية أيام. - إنك كاذب. - بل أؤكد لكما أني لم أحضر إلى كلكوتا قبل ثمانية أيام. - ربما كنت صادقا فيما تقول، ولكنك تعرف ذاك الرجل قبل هذه المدة. - كلا. - إنك منافق كذاب.
فقال له موساني ببرود: لا حيلة لي في قول الحق لمن لا يريد أن يسمعه. - بل أنت كاذب لا تقول الحق، ألم يكن مولاك هذا الأبيض صديقا حميما للرجاه عثمان؟ - لا أعلم. - ألم يعطه عثمان خاتمه قبل قتله؟ - لا أعلم. - بل تعلم، وهذا هو الخاتم.
فتكلف موساني الانذهال وعاد الشيخ إلى سؤاله فقال له: كن صادقا في قولك إذا كنت تؤثر الحياة. - لا أعلم إذا كان سيدي قد أخذ الخاتم من عثمان لأنه لم يقل لي شيئا، لكنك أنت الذي قلت لي فصدقتك. - إن هذا الخاتم أعطاه عثمان لمولاك كي يريه لشخص في كلكوتا.
فتكلف موساني هيئة البلاهة وقال: من هو هذا الشخص؟ - هذا الذي نبحث عنه لأننا لا نعرفه، ولا بد من الاهتداء إليه. - يسوءني أني لا أعرف أيضا؛ فلا أستطيع أن أدلكم عليه.
فاتقدت عينا الشيخ ببارق من الغضب وقال له: إنك لو كنت تعلم العقاب الذي أعددته لك لما تأخرت لحظة عن الإقرار، ولما أصررت على الكتمان. - عاقبني بما تشاء فإني لا أعلم شيئا.
فظهرت على وجه الشيخ علائم نفاد الصبر، والتفت إلى رفيقه وقال له: لم يبق لنا فائدة بلسان هذا الخادم فاقطعه.
فلم تظهر أمارات الخوف على موساني، وأخذ الفتى خنجره فقال: إني متأهب لقطع لسانه. - افعل؛ لأنه لا يزال مصرا على الكتمان.
وعند ذلك حاول موساني أن يقطع قيوده؛ فهب بقوة عظيمة فوقف على قدميه.
ولكن الهنديين انقضا عليه وألقياه على الأرض، فركع أحدهما فوق صدره وقال له: تكلم. - إني لا أعلم شيئا. - قل لنا أين يقيم هذا الشخص الذي يريد مولاك أن يريه خاتم الرجاه عثمان. - لا أعلم، لكني لو كنت عالما به لما أخبرت عنه. - إذن قد جنيت على نفسك؛ فلتعاقب بما تستحقه.
ثم ضغط بيديه ضغطا شديدا على عنقه حتى اندلع لسانه، فأسرع الفتى إلى اللسان فجذبه وقطعه بالخنجر. •••
وبعد ذلك لم يعد موساني يذكر شيئا؛ إذ قد أغمي عليه لفرط ما نزف من دمائه، وأشغله الألم عن كل شيء سواه، فلما استفاق من إغمائه جعل يئن أنينا مزعجا إلى أن استفاق روكامبول من نومه وسمع أنينه ورآه على ما وصف.
وكان أول ما اهتم له روكامبول إغاثة هذا المسكين، فضمد جراحه بقدر ما تيسر له.
ثم ذكر غلام عثمان وثروته وسرقة الخاتم من إصبعه، فترك موساني في مكانه وخرج من غرفته؛ بغية الذهاب إلى الشيخ حسن وإخباره بسرقة الخاتم؛ كي لا يخدعه السارق.
فلبس ثيابه وهم بالخروج، لكنه لم يبلغ باب الفندق الخارجي حتى فوجئ باثنين من البوليس الإنكليزي وقبضا عليه.
15
وقد سأل أحد هذين البوليسين روكامبول قائلا: أأنت الذي يدعونه الماجور أفاتار؟ - نعم.
فقبض على أعلى ثوبه وقال له: إذن هلم معنا.
وكان روكامبول قد تعلم أيام جهله أن مقاومة البوليس، في كل بلاد، لا فائدة فيها.
وذلك لأن المجرم إذا حاول الفرار أو الدفاع تزيد جريمته ثبوتا في أعين القضاة، وأما إذا سار مع الذين يقبضون عليه ساكتا هادئا متكلفا عدم الاكتراث؛ فإن ذلك قد يكون من أوفر الأدلة على براءته.
فلما رأى روكامبول أن البوليس قبض عليه، وأيقن أن الجدال معه محال قال له: إني سائر معك إلى حيث تشاء، لكني لست من رعاع المجرمين؛ فأرجوك أن ترفع يدك عني فأكون طوعا لك.
فأجاب البوليس طلبه، وسار البوليسان وروكامبول بينهما.
وبعد أن ساروا هنيهة قال لهما روكامبول: ألا تريدان إخباري إلى أين أنتما ذاهبان بي ؟
فقال له أحدهما: إلى قسم بوليس الناحية. - ألعلك تعلم بماذا أنا متهم؟ - كلا، وكل ما نعلمه أنه صدر إلينا الأمر بالقبض عليك. وهذه صورة الأمر.
ثم أطلعه على صورة الأمر.
وكانت كلكوتا مقسمة إلى عدة أقسام، وفي كل قسم مركز للبوليس ينظر في أمور ذلك القسم.
فحسب روكامبول، في البدء، أنهما ذاهبان به إلى أقرب مركز من الفندق.
غير أن ظنه أخطأ؛ فإنهما مرا به بذلك المركز دون أن يدخلا به إليه، ثم واصلوا السير فاجتازوا المدينة البيضاء إلى المدينة السوداء.
وكانوا يسيرون في الشارع الذي يقيم فيه الشيخ حسن، فسر روكامبول حين عرف ذلك الشارع وقال في نفسه: إن السعد يخدمني دون شك؛ إذ لا بد لنا من المرور بدكان الشيخ حسن فأراه، ولا أعدم وسيلة من الإشارة إليه على فقد خاتم عثمان مني.
وكان أمله يزيد كلما تقدم في ذلك الشارع من دكان الشيخ.
ولما كانوا في الطريق قال له أحد البوليسين: إنك قد تعجب لأننا لم نسر بك إلى مركز البوليس التابع للجهة التي قبضنا عليك فيها. - نعم، ولا أعلم كيف غيرتم معي ذلك الاصطلاح. - إني مخبرك بالسبب: ألم تكن مقيما في المدينة السوداء منذ بضعة أيام؟ - بلى. - ألم تكن إقامتك في فندق الحية الزرقاء؟ - بلى. - إذن اعلم أنه لا بد أن تكون الشكوى صادرة عليك من ناحية ذلك الفندق؛ فإن رئيس البوليس في ذلك المركز أمرنا بالقبض عليك.
فلم يجب روكامبول بشيء.
وقال البوليس الثاني: أظن أن للقبض عليك علاقة بقتل ملاعب الأفاعي. - ما هي تلك الحادثة؟ - إنه كان يقيم في فندق الحية الزرقاء رجل صناعته ملاعبة الأفاعي، وقد وجد قتيلا في الليلة الماضية، وربما كانوا يتهمونك بقتله.
فابتسم روكامبول، وكان إلى ذلك العهد موقنا أن لتريبورينو يدا في القبض عليه، كما أنه كان واثقا أن سرقة الخاتم وقطع لسان خادمه من صنع ذلك الوزير الخائن.
غير أنه رأى أن البوليس يذكر له تلك التهمة بملء البساطة، فتزعزع ريبه، وقال في نفسه: قد يكون القبض عليه لهذه التهمة، ولا يكون للوزير شأن فيها.
فإذا كان ذلك فقد يطلقون سراحي بعد استنطاق قصير المدى، فأعود إلى الشيخ حسن وأخبره بحقيقة ما جرى.
لكنه كان يعلم بطء القضاء الإنكليزي في الأحكام، فخشي أن تطول مدة إيقافه والتحقيق في أمره، فرأى أن الأولى الإسراع بإخبار الشيخ حسن حذرا من أن يخدعه الوزير وهو في السجن.
وعند ذلك عزم على إدراك مآربه بالحيلة؛ ففيما هم سائرون مروا بخمارة فقال لهما روكامبول: إني شديد الظمأ؛ فهل تأذنان لي بشرب شيء من المبردات؟
قالا: بل نشرب معك أيضا؛ فإن الحر يكاد يقتلنا.
ودخلا معه وكانا يحادثانه بملء البساطة واللطف، فزادت ثقته بهما وأيقن أنهما ليسا من أتباع الوزير.
وكان مما قاله لهما في خلال الحديث: إن هذه التهمة جائرة؛ فلست من القتلة المجرمين، وفوق ذلك فقد تركت فندق الحية الزرقاء منذ أسبوع، والقتل حدث فيه أمس كما تقولان.
فقال له أحدهما: لا شك عندنا ببراءتك؛ فإن مخائلك تدل على الشهامة والنبل والترفع عن مثل هذه الموبقات، غير أنه صدر إلينا الأمر بالقبض عليك، ولا بد من تنفيذ أوامر الرؤساء كما تعلم.
وقال الآخر: إننا نسوقك مكرهين إلى موقف القضاء لثقتنا ببراءتك، وعندي أن رئيس البوليس لا يباحثك هنيهة حتى يثق من براءتك فيطلق سراحك بعد أن يعتذر إليك. - وأنا واثق مثلكما تلك الثقة.
وبعد حين مد يده إلى جيبه، ثم ضرب جبينه بيديه، وتكلف الأسف العظيم.
فقال له أحدهم: ماذا أصابك؟ - لقد فقدت محفظة أوراقي وفيها جميع الأوراق التي تثبت جنسيتي، ولا أعلم كيف أثبتها لدى رئيس البوليس.
ثم قال بملء اليأس: إن فيها أيضا أوراقا مالية قيمتها 200 جنيه أهبها لمن يرد إلي المحفظة.
فنظر البوليسان كل إلى الآخر نظرة سريعة وقال له أحدهما: أتظن أنك فقدتها على الطريق؟
وقال الآخر: ألا يمكن أن تكون نسيتها في الفندق؟ - كلا، لقد ذكرت الآن أين فقدتها؛ إني كنت ليلة أمس أتنزه في هذا الشارع، فلقيت فتاة جميلة أرلندية من فتيات الهوى فذهبت وإياها إلى منزلها. - ألعلها سرقت المحفظة ؟ - كلا، إنها ذهبت بي إلى بيتها، وأنا واثق أن المحفظة قد سقطت في ذلك المنزل. - ذلك ممكن. - وقد يتفق أن الفتاة لم تر المحفظة. - وأين بيت الأرلندية؟ - لا أعلم نمرته ولا اسم الشارع، ولكني واثق أنه في هذا الشارع الذي نحن فيه. - أتعرف الطريق إليه؟ - دون شك؛ فهل تأذنا بالذهاب إليه؟
فتشاور الاثنان بالنظر، ثم قال أحدهما: لا أجد بأسا من أن ينتظر رئيس البوليس ربع ساعة أيضا، وفوق ذلك فإن البحث عن السرقات من واجباتنا؛ فهلم بنا إلى بيت الأرلندية للبحث عن محفظتك.
فدفع روكامبول ثمن الشراب وخرج مع البوليسين، فتظاهر في البدء أنه عرف الطريق، ثم أوهمهما أنه ضل عنها، فكان يندفع بهما إلى الأمام ثم يعود إلى الوراء وهما يتبعانه بصبر عجيب دون أن يظهرا شيئا من الملل.
إلى أن أظهر علائم السرور وقال لهما: لقد اهتديت الآن، فهذا هو المنزل الظاهر أمامنا. - إذن لنذهب إليه.
وكان روكامبول رأى الشيخ حسنا عن بعد جالسا على باب منزله، فمثل الدور خير تمثيل، حتى بات معتقدا أنه أضل البوليسين عن قصده.
ولما وصل إلى بيت الشيخ حسن وقف، فقال له البوليس: أين هو المنزل؟
فدلهما على بيت مجاور لدكان الشيخ حسن.
فقالا: هلم بنا إليه.
16
وكان الشيخ حسن جالسا عند بابه كما قدمنا، فلما رأى روكامبول آتيا مع البوليسين نظر إليه نظرة انذهال لم تخف على الشرطيين، ووضع روكامبول سبابته على فمه يشير عليه بالاحتراس، فتظاهر البوليسان أيضا أنهما لم يريا تلك الإشارة.
وسار الثلاثة، فلما مروا بالشيخ حسن رفع روكامبول يديه وظهرت على وجهه علائم الحزن الشديد.
فنظر حسن إلى يديه فرأى أن خاتم عثمان مفقود، وأيقن أنه سرق من روكامبول أو أنه أخذ منه بالعنف، فغمز بعينه إشارة إلى أنه أدرك القصد، وإلى أنه لا يمتثل لسواه ولو أتى بالخاتم المفقود.
ولما وصلوا إلى المنزل الذي عينه روكامبول قال له البوليس: أهذا هو بيت الأرلندية؟
قال: وا أسفاه، إني أخطأت أيضا؛ فليس هو المنزل الذي دخلت إليه أمس.
وعند ذلك أخذ الرجلان يضحكان وقال له أحدهما: إني ناصح لك أن تقتصر اليوم على ما أجريته من الأبحاث؛ فقد فعلت الذي تريد أن تفعله، وعرفنا ما نريد أن نعرفه.
فاضطرب روكامبول وأدرك بلحظة أن هذين الرجلين قد وقفا على سره، وأنهما ليسا على ما كان يعتقد فيهما من السذاجة.
وفيما هو ينظر إليهما نظرات الانذهال التفت أحد البوليسين إلى ورائه، وأشار إشارة إلى مركبة فيها عبدان كانا يسيران بها في أثر البوليس دون أن يلتفت روكامبول إليها.
أسرع العبدان بالقدوم وقال البوليس لروكامبول بلهجة المتهكم: إنك تعبت دون شك من السير؛ فاصعد الآن إلى المركبة علك تستريح.
ثم فتح المركبة، ولم يكن فيها أحد، فصعد روكامبول وصعد بعده البوليسان.
وكان قد ذهل ذهولا شديدا حين سمع البوليس يقول: «قد فعلت ما تريد أن تفعله، وعرفنا ما نريد أن نعرفه»، فبات يطيعهما فيما يريدان دون روية.
وسارت بهم المركبة فقال لهما: إلى أين تسيران بي؟
قال له أحدهما: إلى محل بعيد، ثم أخرج مسدسه فوضعه فوق صدر روكامبول وقال له: إننا نعرفك من أهل الدهاء والنشاط، فلا بد لنا من أن نتوقاك؛ ولذلك أشهرت عليك هذا المسدس، فإذا حاولت الدفاع فأنت من الهالكين.
أما البوليس الآخر فإنه أقفل باب المركبة بسكينة وأنزل ستائرها، ثم أخرج بإشارة من رفيقه حبلا من الحرير المتين، وأوثق به يدي روكامبول وثاقا شديدا.
وبعد أن فرغ من تقييده أمره أن يخرج من المركبة، فخرج وبقي فيها روكامبول وبوليس واحد، فقال له البوليس: أما وقد قيدناك الآن فلم يبق خوف علي من البقاء معك وحدي.
وسارت المركبة بهما فاجتازت المدينة السوداء حتى وصلت إلى أبواب كلكوتا فوقفت، وحسب روكامبول أن السير قد انتهى، ولكنه أخطأ في حسابه؛ فإنه حين وقفت المركبة أزاح البوليس ستارها، وأسر إلى العبدين اللذين كانا يسوقانها كلمات لم يسمعها روكامبول، فاستأنفت المركبة المسير وخرجت من المدينة.
وعند ذلك التفت البوليس إلى روكامبول وقال له وهو يبتسم: أنقذتك الآن من موقف حرج . - كيف ذلك؟
فضحك البوليس ضحك المتهكم وقال: إن البوليس لم يخطر له في بال أن يتهمك بقتل ملاعب الأفاعي. - إذن بماذا يتهمونني؟ - إنهم لا يتهمونك، لكن يريدون القبض عليك للاستيثاق منك ليس إلا. - ولماذا؟ - لأنهم لا يريدون أن تقضي تلك المهمة الخطيرة التي عهد إليك بقضائها الرجاه عثمان.
فصاح روكامبول صيحة دهش دون أن يجيب.
فقال له البوليس: أرأيت كيف أن تريبورينو لا تخفى عليه خافية، وأن ولاءه خير من عدائه. - إن الوزير رجل خائن. - لا أنكر ما تقول. - إذن أنت تعرف أنه من الخائنين؟ - دون شك، ولكن البحث في خيانته أمر لا يفيدنا بشيء، فاعلم الآن أن الوزير، أو هذا الخائن كما تريد أن تدعوه، يعلم أن الرجاه قد عهد إليك بقضاء مهمة. - قد يكون ذلك، ولكنه لا يعرف أسرار تلك المهمة. - إنك مخطئ؛ فهو عارف بكل شيء. - أيعلم بما وعدت به عثمان؟ - بل يعلم أنه أعطاك خاتما. - وهذا الخاتم؟ - يعلم أنك إذا أظهرته لرجل في كلكوتا يعطيك كنوز الرجاه عثمان المخبوءة عنده، ولكن الوزير لم يكن يعرف اسم هذا الرجل ولا أين يقيم. - وهو لن يعرفه أبدا. - إنك مخطئ أيضا؛ فقد عرفناه بفضل خطئك؛ وهو الشيخ حسن الخياط.
فاضطرب روكامبول اضطرابا عظيما دون أن يظهر شيئا من اضطرابه ثم ابتسم وقال: إني لا أفهم ما تريد أن تقول، ولم أسمع باسم هذا الرجل قبل الآن.
وكان روكامبول مطمئنا فلم يكترث لما سمعه من البوليس؛ لاعتقاده بأن عمال الوزير قد يعذبون الشيح حسنا أفظع تعذيب، وقد يقتلونه، ولكنهم لا يعلمون منه موضع الكنز، وقد زاد اطمئنانه حين رأى أن هذا الرجل المتنكر بملابس البوليس لم يسأله كلمة عن ابن الرجاه عثمان، فأيقن أن تريبورينو لم يكن عالما بأمره، وأنه يعتقد أن الغلام هو ابن الشيخ حسن وليس ابن الرجاه.
وطال بهما السير فقال له روكامبول: إلى أين أنت ذاهب بي؟
إلى مكان بعيد كي يتيسر لتريبورينو الحصول على الكنز وهو في مأمن منك.
فعلم روكامبول أنه لم يبق له فائدة من سؤال هذا الرجل، وأنه خير له أن ينصرف إلى التفكير في أمره، ويبحث عن طريقة صالحة لنجاته، فانزوى في المركبة يتظاهر بالنوم وهو يعمل الحيلة والتفكير.
واستمرت المركبة على سيرها ذلك اليوم كله فلم تقف إلا عند المساء.
وعند ذلك أزاح البوليس ستار المركبة، فرأى روكامبول أنها وقفت في برية متسعة قرب غابة كثيفة.
فنزل عامل تريبورينو من المركبة وأمر العبدين بالنزول، ثم أخرج روكامبول وقال له بلهجة الساخر: إنك قد تعبت من الجلوس دون شك، وبت في حاجة إلى المشي والرياضة، فهلم بنا نمشي في هذه الغابة؛ فإن المركبة لا تستطيع السير فيها.
ولم يكن لروكامبول سبيل للدفاع؛ فإن يديه كانتا مقيدتين وراء ظهره، وذلك الرجل المتنكر بملابس البوليس مشهر عليه مسدسه، فلو حاول الدفاع قتل لا محالة دون أن ينفع قتله ابن الرجاه.
فسار صاغرا بإزاء الرجل والعبدان يسيران وراءهما، فدخلوا إلى الغابة وساروا بين أشجارها نحو ساعة.
وكانت الشمس قد توارت في حجابها، وأقبل الليل فوصلوا إلى شجرة عظيمة باسقة تكفي أغصانها وعمدها لبناء سقف منزل بجملته، فوقفوا عندها، وعلم روكامبول في الحال ذلك العقاب الهائل الذي أعد له.
ذلك أن هذه الشجرة كانت من النوع الذي يدعونه
Man cenillier ، وهو شجر سام يكثر وجوده في الهند وأميركا وجزائر الأنتيل، فإذا أقام المرء في ظلها ليلة واحدة نفذت سمومها إلى رئتيه فنام نومة أبدية.
فلما وقفوا عندها التفت البوليس إلى روكامبول وقال له وهو يضحك: قد وصلنا؛ فلا نحملك بعد الآن مشقة السير.
17
وأشار عند ذلك إشارة إلى العبدين فانقضا في الحال على روكامبول وقيدا رجليه، ثم ربطا حبلا في وسطه، وربطا هذا الحبل في الشجرة بحيث لم يعد يستطيع حراكا، وأيقن أنه حكم عليه بالموت في ظل هذه الشجرة السامة.
ولما فرغ العبدان من تقييده قال له البوليس: إن تريبورينو دفعك إلى الفيل الجلاد فانتصرت عليه، وقتلت ذلك الفيل العزيز، والآن قد قضيت المهمة التي عهد إلي قضاءها، فأتمنى لك أن تسلم من هذا الخطر الجديد .
إنك رجل باسل مقدام تستحق خيرا من هذا الموت، ولكن الموت واحد مهما تنوعت أسبابه، ومن كانت له بسالتك لا تروعه الشدائد، ويعرف طرق الصبر على الموت.
ثم قهقه ضاحكا وانصرف بعبديه.
وبقي روكامبول مقيدا بالشجرة لا يستطيع حراكا، فجعل ينظر إلى الرجل والعبدين حتى تواريا عنه بين الأشجار، فبات وحيدا مقيدا في غابة لا يسكنها غير الوحوش الضواري، فإذا سلم من أنيابها لا يسلم من سم الشجرة.
ولبث على هذه الحالة حينا وقد تمكن اليأس من قلبه، وبذل جهدا عظيما كي يقطع قيوده فلم يستطع لمتانتها؛ فقد كانت من الحرير، وهي معقودة بطرق يستحيل حلها إلا على عاقدها.
وهجم الليل، وسطع نور القمر، فأدرك روكامبول هول موقفه، وعلم أنه لم يصب في حياته بأشد من هذا الخطر.
ولا يدرك هول هذا الموقف إلا من عرف غابات الهند الكثيفة؛ فإنها تكون في النهار هادئة ساكنة، فإذا أقبل الليل هبت الرياح، واهتزت الأغصان، فخرج لاهتزازها صوت يضطرب له ذلك الهدوء.
ثم يمتزج بتلك الأصوات أصوات أخرى تخرج كالرعد القاصف وهي أصوات النمور.
ثم يشعر الجالس فيها أن الأرض تهتز به، وذلك أن أسرابا من الفيلة لا عد لها تدخل إلى تلك الغابات بعد أن تكون قد أتلفت سهول الذرة والأرز في النهار، فتتساقط لاهتزازها الأشجار من سيرها والأوراق الذابلة، وتحملها الرياح إلى السهول.
وهناك أصوات منتظمة رنانة تشبه أصوات (الصناجات) التي تنقر بها الراقصات المصريات، وهي أصوات الأفاعي المعروفة بذوات الأجراس.
فإذا قدر لمنكود أن يقص موقف روكامبول في مثل هذه الغابة لا يلبث أن يضل رشده لما يتولاه من الرعب.
ولم يكن عناء روكامبول قاصرا على الفزع، بل إنه كان يتألم آلاما شديدة من تأثير سم الشجرة المقيد بها.
فقد شعر حين بدأ هواء الشجرة السامة ينفذ إلى رئتيه بحرارة شديدة عقبها صداع أليم.
ثم زالت الحمى وتلاها برد شديد، فجعلت أسنانه تصطك، وجسمه يضطرب ويهتز، ومعدته تنكمش، وقلبه يتصاعد حتى خشي أن يخرج من فمه .
ثم اشتد الصداع فكان يشعر كأن آلة من الحديد تضغط على صدغيه، وأن مطارق غير منظورة تضرب رأسه ضربات غير متتابعة، وأن إبرا محددة الأطراف تخز رأسه من كل مكان.
وبعد هذا الصداع الأليم أصيب بما يشبه النزع، فقد تراكمت عليه الآلام حتى لم يعد يخص عضوا دون آخر، ثم تلا ذلك الهذيان والبحران، فأصيب بما يصاب به شارب الأفيون، فكان يتألم ويسر في حين واحد.
وجاء بعد ذلك دور التخيلات، فكان يرى نفسه تارة ممتطيا جوادا ينهب به الأرض في البراري الفسيحة، ويرى مرة أن فتاة حسناء تداعبه وتلهب فمه تقبيلا.
ثم تنعكس هذه التخيلات فيرى أفعى هائلة تسعى إليه، ونمرا مفترسا فاغرا فمه راكضا إليه، وفهدا جائعا يمد إليه براثنه لافتراسه.
وفي جميع هذه المدة يسري الموت إليه ببطء، وهو خير أنواع هذا العذاب.
وكان روكامبول يعود إليه الطمع بالحياة حين يسمع تلك الأصوات الهائلة المنكرة، فيجد نفسه مقيدا أشد تقييد، فيحاول أن يصيح أو يستغيث فلا يخرج صوته من صدره، وقد خطر له أن يصلي التماسا للعزاء، فلم يعلم ماذا يقول.
وكانت الحمى تمثل له في البدء تلك الأصوات والضواري، غير أنه لم يلبث بعد ذلك حتى استحال الخيال إلى حقيقة، ورأى نمرا هائلا، أرقش الجلد، متسع البراثن، كبير الشدقين دنا من تلك الشجرة وقد شم رائحة الإنسان، فأسرع لافتراسه، ووثب حتى بات على عشرين خطوة منه، فجعل ينظر إليه بعينين تتقدان كأنهما من لهب.
فانتفض روكامبول وقد أزال هذا المنظر الكريه آثار الحمى والهذيان، وعاد إليه كل رشده لاستفحال الخطر، لا سيما حين سمع زئير هذا الوحش الضاري ترتج له أرجاء الفضاء كدوي الرعود.
ولكنه وا أسفاه كان مقيد اليدين والرجلين مشدودا إلى الشجرة، فلا يستطيع دفاعا ولا فرارا.
ووقف النمر بعيدا عنه ينظر إليه بعينيه الناريتين، فما شك أنه غدا فريسة هذا الوحش المفترس.
غير أن النمر لم يتقدم ولبث في مكانه، ثم فتح شدقيه وجعل يزأر زئيرا يشبه دوي المدافع وهو ينظر إليه دون أن يثب عليه.
وحملت الرياح زئيره الهائل، فتناقله الصدى، ودوى في تلك الغابة وفي الجبال المجاورة لها.
وبعد ذلك خيل إليه أنه سمع زئيرا يشبه زئير هذا النمر من مكان بعيد، فحول النمر نظره عن روكامبول، والتفت إلى الجهة التي سمع منها ذلك الصوت.
وكأنه كان ينادي رفاقه كي يستعين بهم عليه؛ فإنه لما سمع الزئير البعيد عاد هو إلى الزئير المتصل.
وكان نور القمر ساطعا، فلم يمض هنيهة حتى رأى نمرا آخر قد انضم إلى النمر الأول، فقال روكامبول في نفسه: لا شك أنه قد دعاها كي تشاركه في لحمي.
وكأنما للوحوش لغة سرية يتفاهمون بها؛ فإن النمرين حين التقيا جعل كل منهما ينظر إلى الآخر كأنهما يتشاوران، ثم عادا إلى التحديق به دون أن يدنوا خطوة منه.
فحار روكامبول في أمرهما وترددهما وهو يتوقع انقضاضهما عليه كل حين إلى أن انجلت له أسباب هذا التردد.
وذلك أن القمر كان في كبد السماء، فكان نوره يتدفق فوق الشجرة فبسط ظله حولها دائرة من النور.
وكان روكامبول مقيدا في الشجرة فلا يصل إليه النور الحاجز بينه وبين النمرين، فكأنهما خافا من النور، أو أنهما علما بالفطرة الغريزية أن الشجرة سامة فخشيا الدنو منها، وهو أمر مشهور؛ فإن الحيوان يدرك بالفطرة ما يضره كما يدركه الإنسان بالعلم والاكتساب.
وربما كانا لا يعلمان أنه مقيد اليدين والرجلين ولا يستطيع حراكا، فكانا يتوقعان أن يخرج من ظل الشجرة هاربا منهما؛ فينقضا عليه ويفترساه.
أما روكامبول فقد أصابه من الرعب ما لا يوصف، واشتدت عليه آلام التسمم حتى استفحل يأسه، وفضل الموت العاجل بين أنياب هذه الوحوش الضواري على الموت البطيء بظل الشجرة المسمومة، فلم يحتل على النمرين لإرهابهما وإبعادهما، بل عول على أن يثيرهما عليه كي ينجو من حياة يفضلها الموت.
فجمع شفتيه وجعل يصفر وهو يرجو أن يثير النمرين بالصفير ويحملهما على الانقضاض عليه.
غير أنه لقي عكس ما كان يرجوه؛ فإن النمرين ابتعدا حين سمعا الصفير وهما يزأران حتى غابا عن نظره.
وحسب أنه قد نجا منهما، ولكنهما لم يلبثا أن عادا، فكانا يسيران ويقفان كأنهما يرهبان أمرا، أو ينتظران نجدة.
وكانا يزأران زئيرا تدوي له الآفاق، فلم تمر هنيهة على ذلك حتى انضم إليهما ثلاثة نمور أخرى.
وكانت آلامه قد اشتدت حتى بات يحسب الموت حياة، فقال في نفسه: لا بد أن تحمل الجرأة أحد هذه النمور إلى اجتياز دائرة النور؛ فأنجو مما أنا فيه وأستريح.
ولكنه أخطأ حسابه أيضا؛ فإن النمور اصطفت شبه دائرة وجعل كل منها ينظر إلى رفيقه ثم ينظر إلى ظل الشجرة السامة دون أن يجسر على اجتياز الدائرة.
غير أن عيونها البراقة النارية كانت تفعل فيه أكثر من براثنها، فعادت إليه الحمى والهذيان، فتمثل له أن هذه الحيوانات الضارية لا حقيقة لها، وأنها خيالات مثلتها له الحمى.
واشتد به الصداع فجعل يصيح متألما؛ فكانت النمور تجيبه عن صياحه بالزئير، ولكنها لا تجسر على الانتقال من مواضعها، فكانت تقتله بزئيرها ونظراتها، والشجرة تميته برائحتها السامة.
وفيما هو على ذلك رأى حيوانا آخر قد انضم إلى النمور.
ولم يكن هذا الحيوان نمرا، بل كان فهدا هائلا، أصفر الظهر، أبيض البطن، فأفسحت له النمور محلا بينها، وجعلت تتطلع إليه ويتطلع إليها كأنها تقص عليه أمرها معه.
وكأنما هذا الفهد لم يكن يدرك ما كانت تدركه هذه النمور من خطر الشجرة؛ فإنه وثب من بينها فاجتاز دائرة النور غير هياب وانقض على روكامبول.
فأغمض روكامبول عينيه واستعان بالله على لقاء الموت؛ إذ لم يبق له شك فيه.
أما الفهد فإنه نشب براثنه في كتفي روكامبول، وجذبه جذبة قوية قطعت الحبل المشدود به وسطه إلى الشجرة، ثم ألقاه فوق ظهره وفر به هاربا من النمور يعدو عدو البرق بين الغابات الكثيفة.
أما النمور فإنها جعلت تعدو في أثره وهي تزمجر وتزأر وتطلب حظها من الفريسة.
وكانت النمور تعدو عدوا سريعا حتى أوشكت أن تبلغ الفهد وتنزع منه روكامبول، غير أنها قبل أن تصل إليه دوى في أنحاء الغابة صوت غريب لم تألف الوحوش سماعه في الغابات.
وكان هذا الصوت صوت طبل كبير له دوي شديد؛ فخافت النمور من هذا الصوت الغريب، وأركنت إلى الفرار تاركة حقها من الفريسة للفهد.
ثم تلا صوت الطبل ظهور أنوار المشاعل؛ فكانت هذه الأنوار أدعى إلى فرار النمور من صوت الطبل.
غير أن الفهد كان أشد منها جرأة، ولعله لم يخف لأن وقوع الفريسة بين يديه هاج نهمه فلم يبال بالأخطار.
ولذلك لم يهرب؛ بل إنه ألقى روكامبول على الأرض، فوضع يده الهائلة فوق صدره، والتفت إلى جهة النور، ومصدر الصوت وهو يتهدج من الغضب، ويصيح صيحات تكفي وحدها لقتل أشد الناس جرأة؛ من الخوف في مثل هذا الموقف الرهيب.
وكان صوت الطبل يدنو من الفهد، وقد تألقت أنوار المشاعل فظهر حاملوها، فانشغل الفهد عن النظر إلى روكامبول بالنظر إليها، وجعل يزيد هياجه كلما اقتربت منه، ويزيد ضغطه على صدر روكامبول.
أما روكامبول فإنه نظر إلى تلك الأنوار فرأى ثلاثة من الهنود يحملون المشاعل، وآخر يحمل طبلا ينقر عليه، وكلهم مسلحون بالبنادق؛ فاشتد رجاؤه بالنجاة، فلم يعد يحفل بضغط الفهد وغضبه.
وكان الهنود قد دنوا من الفهد وباتوا منه على بضعة أمتار، فرأى روكامبول أحدهم قد صوب بندقيته، ثم سمع فجأة صوت إطلاقها، فصاح صيحة ألم شديدة؛ لأن الفهد ضغط عليه ضغطا قويا كاد يحطم عظام صدره، ثم أطبق عينيه وأغمي عليه.
أما الرصاصة فقد أصابت قلب الفهد فسقط قتيلا، وكان ضغطه على روكامبول آخر انتقام.
18
ولما استفاق روكامبول من إغمائه وجد نفسه في مكان لا يعرفه، ولم يجد أثرا للفهد والنمور.
وقد وجد نفسه في منزل هندي مبني من القصب، وهو من المنازل التي يسكنها من يقيمون قرب الغابات من الهنود، ويحصدون الذرة والأرز.
فلقي أمامه ثلاثة رجال لم يعرف منهم غير رجل واحد، لكنه ما لبث أن رآه حتى صاح صيحة فرح؛ لأن هذا الرجل كان موساني خادمه الوفي الأمين.
أما خادمه فإنه أكب على يديه ورجليه يقبلها بملء الفرح والاحترام.
ثم أخبره بالإشارة أنه كان يحسبه من الأموات، وأنه إذا كان باقيا في قيد الحياة فإنما ذلك بفضله وفضل هذا الرجل، وأشار إلى أحد الرجلين الهنديين.
فنظر روكامبول إلى الرجل الثاني الذي أشار إليه، فإذا هو رجل عالي القامة، أسمر الوجه، أسود اللحية، تدل مخائله على النبل والجرأة والإقدام.
أما هذا الرجل فإنه لما رأى روكامبول ينظر إليه كلمه باللغة الفرنسية فقال: إنك تريد أن تعرف دون شك من أنا؟
فانحنى روكامبول إشارة الإيجاب، فقال الرجل: إني أدعى نادرا، وأنا زعيم تلك الجمعية القادرة التي تقاوم الخناقين، فإن أولئك الخناقين من أبناء الإلهة كالي، إلهة الشر، أما نحن فإننا من أبناء الإله سيوا إله الخير والصلاح.
إنك لا تعرف من أنا، ولكني أعرف من أنت، فإنك خدمتنا أجل خدمة بانتصارك على علي رمجاه، زعيم الخناقين الأكبر، فقد كان عدونا اللدود، وإنما أنقذتك من أجل هذه الخدمة، ولسنا من الذين يضيع عندهم الجميل.
فجعل روكامبول ينظر إلى هذا الرجل باندهاش.
أما نادر فإنه مضى في حديثه فقال: إن براثن الفهد قد مزقت جلدك وأصابتك بجراح كثيرة، غير أني فحصت جراحك بعد أن قتلت الفهد فعلمت أنها غير بالغة.
وقد ضمدت جراحك على الطريقة الهندية، فوضعت في كل جرح مرهما لا يعرفه غير الهنود، وهو يشفي أشد الجراح ببضع ساعات.
وإنك ستشفى أتم الشفاء بعد يومين، وتصبح قادرا على العودة إلى كلكوتا، وهناك لا خوف عليك فإن نفوذي يحميك.
فنظر إليه روكامبول نظرة أعربت عن امتنانه العظيم وقال: إني أشكرك كيفما كنت.
وعاد نادر إلى الحديث فقال: لقد أنقذتك اعترافا بجميلك على جمعيتنا كما تقدم، ولكن كان لي في إنقاذك مأرب آخر؛ وهو أني سأحتاج إليك يوما ما. - مر بما تريد؛ فإن هذه الحياة التي أنقذتها باتت وقفا لخدمتك. - سأخبرك فيما بعد بحاجتي إليك، وأما الآن فدعني أقص عليك كيف أنقذتك من ذلك الموت الهائل.
ثم جلس على كرسي قرب مقعد من القصب الهندي كان روكامبول نائما عليه وقال: إن لطائفة الخناقين جواسيس منتشرة في كل مكان، وكذلك نحن، فإن لنا كثيرا من الجواسيس، ولنكد الطالع أني لم أكن في كلكوتا حين جئت أنت إليها، ولم أعلم بمقاصد تريبورينو إلا بعد فوات الأوان.
وذلك أني كنت في صباح أمس في منزلي، فدخل علي خادمي وأخبرني أنه على الباب رجل هندي يريد أن يطلعني على أمور خطيرة.
فأمرت بإدخاله، فدخل الرجل وجثا على ركبتيه أمامي وقال: إني يا مولاي من أبناء سيوا مثلك، ولكني دخلت في خدمة تريبورينو ولا أحب أن يصاب من تحميه بمكروه.
ثم أخبرني أنه باغت خادمين مخلصين في خدمة الوزير، فعلم من حديثهما أنهما سرقا في الليل خاتم عثمان من إصبعك، وأنهما قطعا لسان موساني.
وقد علم أيضا أنهما عازمان على اختطافك، والذهاب بك إلى غابة وربطك إلى شجرة سامة كي تموت في ظلها.
ثم ذهب بي ذلك الرجل الذي أخبرني بهذا النبأ إلى فندق باتافيا الذي كنت تقيم فيه حين سرقوا منك الخاتم، فعلمت أن صاحب الفندق من أتباع الوزير، وأن بوليسين إنكليزيين قد قبضا عليك.
وقد رأيت في هذا الفندق موساني فضمدت جراحه، وذهبت وإياه لاقتفاء أثرك، فعلمت أنك قد تقدمتنا، وعرفت من الهنود أنهم قد خرجوا بك من كلكوتا بمركبة مقفلة تجرها الجياد، فامتطيت مع موساني جوادين وخرجنا أيضا من كلكوتا للبحث عنك.
وكنا كلما رأينا جماعة من المزارعين نسألهم عن المركبة فيرشدوننا إلى الطريق التي سارت فيها.
لكن أقوالهم كانت متفقة على أنكم كنتم تتقدمونا بعدة ساعات.
وما زلنا نسير من محطة إلى محطة حتى انتهينا إلى منزل في هذه الغابة، فرأيت هناك المركبة التي حملتك وجيادها، فعلمت أنهم قد توغلوا بك في الغابة.
وكنت أعلم أن هذه الغابة كثيرة الطرق، فليس من الحكمة أن أقفو أثركم فيها.
ثم إني كنت أعلم أن الأشجار السامة لا تقتل في أمد قصير؛ ولذلك رأيت أن أكمن عند مدخل الغابة للذين ذهبوا بك إليها؛ إذ لا بد لهم من العودة إلى المركبة التي تركوها عند المدخل.
فاختبأت مع موساني بين الأدغال نحو ساعتين.
وبعد ذلك رأيت ثلاثة رجال قد خرجوا من الغابة، وهم عبدان أسودان ورجل أبيض لا فرق بين لونه ولون الإنكليز؛ فعرفت للحال أنه من أخلص الناس في خدمة الوزير وقلت في نفسي: إن هذا الرجل يؤثر الموت وكل عذاب على خيانة سيده؛ فهو لا يهدينا إلى الشجرة السامة التي قيدوك فيها، ووجوده يضر بنا.
وصبرت عليه حتى رأيته يصعد إلى المركبة فأطلقت عليه رصاصة من بندقيتي، فأصابت منه مقتلا وسقط صريعا.
وعند ذلك خرجت مع موساني من بين الأدغال وهجمنا على العبدين، فركعا أمامنا وهما يطلبان العفو، فسألتهما أن يرشدانا إلى الشجرة التي قيدوك فيها وأنذرتهما بالقتل.
أما أحدهما فأبى أن يرشدنا كل الإباء؛ فطعنه موساني بخنجرة طعنة كانت القاضية.
وأما الثاني فإنه لما رأى ما كان من قتل رفيقه خاف من الموت ورضي أن يرشدنا إليك.
وكان الليل قد أقبل فأحضرت المشاعل للاهتداء، والطبل لطرد الوحوش والأفاعي، ودخلنا جميعا إلى الغابة حتى اهتدينا إليك وأنقذناك من الفهد، وأنت تعرف البقية.
فشكره روكامبول شكرا جزيلا ثم قال له: إني مدين لك بالحياة، ولم يبق إلا أن تخبرني بما تنتظره مني. - ستعرف ذلك بعد يومين حين نصل إلى كلكوتا، وأما الآن فلا بد لك من الراحة.
ثم تركه وانصرف.
19
وبعد ذلك بيومين كان روكامبول في كلكوتا؛ فإن المرهم الذي عالجه به نادر قد أفاده فائدة عظيمة فلم يشعر بشيء من الألم.
وكأن حسن وفائه لعثمان قد أسرع في شفائه؛ فإنه ذكر سرقة الخاتم منه فكاد يجن من إشفاقه على الكنز وابن عثمان.
وفيما هو يدخل باب المدينة مع نادر قال له نادر: إننا قد بلغنا كلكوتا فلا أفارقك بعد الآن، ومتى كنت معك فلا خوف عليك من الوزير مهما بلغ من السلطة والنفوذ. - إني صدقتك ولي بك ثقة لا تتزعزع. - إلى أين تريد أن نذهب الآن؟ - إلى الشيخ حسن؛ فإني مضطرب البال عليه. - إذن هلم بنا.
وسار الاثنان إلى المدينة السوداء حتى إذا وصلا إلى منزل حسن سرى الأمل إلى فؤاد روكامبول ؛ لأنه وجد الشيخ حسنا جالسا كعادته عند عتبة الباب.
وقال روكامبول في نفسه: لا شك أنه فهم إشارتي فلما جاءوا بالخاتم لم يخبرهم بشيء.
ثم دنا روكامبول مع نادر منه، فنظر حسن إلى روكامبول نظرة تدل على عدم الاكتراث.
فعجب روكامبول لهذا الفتور وقال له: ألم تعرفني؟
فنظر إليه الشيخ نظرة تدل على البلاهة دون أن يجيب.
فقال له روكامبول: كيف لم تعرفني أيها الشيخ؟ أنا هو القادم من قبل الرجاه عثمان.
فارتعش حسن عند سماعه اسم عثمان، ثم ابتسم ورفع يديه إشارة إلى أن الأمير بات في السماء.
فقال نادر لروكامبول: إن هذا الرجل قد اختلط عقله؛ فإن عينيه تشيران إلى أنه مصاب بالجنون.
وكانت هناك فتاة جالسة عند باب المنزل المجاور لمنزل حسن، فدنت من نادر وروكامبول وقالت لهما: ألعلكما من أقرباء هذا المسكين؟
فقال نادر: نعم. - يظهر أنكما لم تعلما ما أصابه؛ فإن ثلة من الجنود قد طوقت منزله مساء أول أمس، فخرج حسن إليهم وهو منذهل مما يرى، فقبضوا عليه، وأراه رئيسهم خاتما كان في إصبعه.
أما حسن فإنه نظر إلى الخاتم بانذهال قائلا: إني لا أعلم ما تريد.
فدخل الجنود عند ذلك به إلى المنزل وأقفلوا بابه، فجعل حسن يصيح صياحا سمعه كل الجيران، فسمعناه يقول: إني رجل خياط فقير، فمن أين تأتيني الكنوز؟!
وكان الجنود ينذرونه بالقتل إذا لم يبح بسر الكنز فيقول لهم: اقتلوني في الحال ولا تعذبوني؛ فإني شيخ كبير ولا طاقة لي على احتمال العذاب.
لكن الجنود لم يقتلوه، بل إنهم أشعلوا النار في المنزل، فكنا نرى نورها ينفذ من النوافذ، ثم سمعناه يصيح صياحا يدل على الألم الشديد، ثم سمعنا غناءه فعلمنا أن العذاب أفقده الصواب.
وذلك أن الجنود قد حملوه بأمر رئيسهم وعرضوا قدميه للهب النار فلم يغنهم تعذيبه شيئا.
ولما يأسوا من إقراره ورأوا أنه كاد يشرف على الموت تركوه وجعلوا يفتشون المنزل، فما تركوا شيئا في مكانه، ولكن يظهر أنهم لم يجدوا شيئا من تلك الكنوز الوهمية ، فإنهم خرجوا صفر اليدين.
فتنهد روكامبول عند ذلك تنهد المنفرج؛ ليقينه من بقاء الكنز في موضعه، وقال للفتاة: لقد كان للشيخ حسن غلام، فأين هو؟ وماذا جرى له؟ - إن الجنود أخذوه ولم نره بعد ذلك.
فهمس روكامبول في أذن نادر وقال: إن هذا الوزير الخائن قد قبض على الغلام. - سنجده إلا إذا كانت سولت له النذالة أن يقتله. - لندخل إلى منزل هذا المسكين المختل فقد نقف منه على شيء.
فوافقه نادر، ودخل الاثنان فتبعهما حسن وعليه مظاهر القلق كي يمنعهما عن الدخول، لكنه لم يسر خطوة حتى سقط لاحتراق قدميه.
فحمله روكامبول ودخل به إلى المنزل، ثم أشار إلى نادر أن يقفل الباب فأقفله، ودخلوا جميعا، فكان حسن ينظر إليهم نظرات الرعب.
ثم نزلوا إلى القبو، فجعل روكامبول ينقر بيديه على الجدار كي يهتدي من الصوت إلى باب الكنز الدفين، كما فعل حسن من قبل، فاهتدى من الصوت إليه، وأخذ خنجره وأدخله بين حجرين فانزاح أحدهما وظهر القفل الفولاذي.
وعند ذلك جعل حسن يضحك ضحكا عاليا كأنه كان يهزأ بهما لوثوقه من أن هذا الباب لا يستطيع أحد غيره أن يفتحه، ثم انقطع ضحكه واستولى عليه رعب رهيب فبكى بكاء الأطفال.
أما روكامبول فإنه كان واثقا من أن الجنود لم يهتدوا إلى الكنز.
لكنه أراد أن يعالج هذا الباب عله يستطيع فتحه ليطلع نادرا على ما فيه من الأموال.
وكان يعلم أن المفتاح معلق بعنق حسن، فاستعان عليه بنادر وأخذ منه المفتاح بالرغم من دفاعه الشديد.
ثم ذهب به إلى القفل فأدخله فيه، وجعل يديره يمنة ويسرة مرات كثيرة دون أن يتمكن من فتحه، فنظر نظرة يأس إلى نادر وقال له: إن لقفل هذا الباب سرا لا يعرفه إلا حسن، لكنه مجنون وا أسفاه.
فأجابه نادر: ثق بي، فسأهتدي إلى فتحه، وإني لم أتول زعامة قومي عبثا، ثم ابتسم ابتسامة تدل على ثقته بنفسه، فذهب عن روكامبول ما كان يشعر به من اليأس.
20
وكان نادر قد أدرك صعوبة الوقوف على أسرار القفل فقال لروكامبول: إننا قد نشتغل أشهرا كثيرة في محاولة فتح هذا الباب بمفتاحه دون أن نهتدي إلى سره.
فإنكم - معاشر الأوروبيين - قد اخترعتم أقفالا تفتح بحروف يصطلح عليها، لكن الهنود قد سبقوكم بمراحل في مضمار هذا الاختراع.
وذلك أنكم جريتم بها على طريقة الحروف وجرينا بها على طريقة الأرقام، وشتان بين الطريقتين؛ فإن الحروف محدودة، وأما الأرقام فلا حد لها.
ولا بد أن يكون هذا الباب قد أقفل بأرقام لا يمكن معرفتها إلا من الشيخ حسن، وإلا فلا سبيل إلى حلها. - لكنه مجنون. - إني أعلم ما تعلمه من جنونه. - إذن ألعلك تريد أن تشفيه؟
فهز نادر رأسه وأجاب: لا فائدة من ذلك.
فلم يفهم روكامبول شيئا من قصده. أما نادر فإنه ابتسم وقال له: هلم نبرح هذا القبو إلى المنزل؛ فإننا نتحدث فيه كما نريد.
فأخرج روكامبول المفتاح من القفل وأعاد الحجر كما كان، ثم صعد مع نادر بالشيخ حسن إلى المنزل، فكان حسن يصفق بيديه تصفيق تهكم كأنما قد عاد إليه بعض صوابه، وعرف أنهما لا يستطيعان فتح الباب.
ولما دخلوا إلى المنزل وأقفلوا جميع أبوابه، قال نادر لروكامبول: إن الوزير قد أتقن اللغة الهندية كل الإتقان، بحيث لم تعد تخفى عليه خافية من دقائقها، غير أنه لم يتقن درس أخلاقنا وعاداتنا؛ فهو إنكليزي النشأة ولا يمكن أن يكون هنديا محضا. - لماذا؟ - لأنه يجهل بعض أسرارنا؛ فإن الهند بلاط السموم القاتلة والمخدرات الخفية، فإن كان الوزير قد عرف شيئا منها فقد غابت عنه أشياء، ولو كان يعرف منها ما أعرفه لتيسر له الحصول على الكنز.
فعجب روكامبول وقال له: كيف ذلك؟ - ذلك أنه كان يستطيع الوقوف على سر الكنز من حسن نفسه، بل إنه كان فتح له باب الكنز بيده. - أيفتح الشيخ حسن باب الكنز للوزير؟! - دون شك.
فزاد عجب روكامبول، أما نادر فإنه مضى في حديثه قائلا: إن الهندي إذا عطش عصر قطعة من الليمون في كأس من الماء فأروى ظمأه، وإن الهندي إذا أرق وتعذر عليه النوم أخذ حبة من الأفيون فابتلعها، وإذا جرح داوى جرحه بمرهم يستخرجه من عصير نبات يدعى باللغة الهندية يوما، ومعناه لسان الحية، وبهذا المرهم قد شفيت جراحك.
فإذا مزج الليمون المرطب مع الأفيون المنوم ولسان الأفعى الذي يشفي الجراح؛ تألف من هذا المزيج سم غريب لا يخطر في بال أحد منكم معشر الإفرنج.
وذلك أن من يشرب جرعة من هذا المزيج يصاب بفرح عصبي غريب؛ فينطلق لسانه بالكلام، ومهما كان كتوما حريصا على أسراره فإنه لا يلبث أن يشرب هذا المزيج حتى يبوح بكل أسراره.
فتنبه روكامبول لحديث نادر وذكر حادثة بعيدة جرت له حينما كان تلميذا لأندريا، وهو ذلك الشراب الذي أعطاه إياه أندريا، فأرغمته باكارا على شربه ووقفت منه على جميع أسرار أستاذه.
فبذل روكامبول معظم جهده كي يطرد تلك الذكرى المؤلمة ثم قال لنادر: كيف نستطيع الآن الحصول على مواد هذا المزيج؟ - ذلك سهل ميسور؛ فإن ورق لسان الحية معي في جيبي.
ثم أخرج من جيبه ضمة من أوراق صغيرة تشبه ورق الورد ووضعها أمامه على الطاولة. - والأفيون؟
فابتسم نادر وقال: إن الهندي مهما كان فقيرا ومهما كان الأفيون غاليا فلا بد أن يوجد في منزله كمية منه.
ثم قام إلى طاولة كان الشيخ حسن يضع فيها أدوات الخياطة وفتح درجها وجعل يبحث فيها، فوجد حبة صغيرة من الأفيون فأخذها ووضعها أمام الأوراق الجافة.
فرد روكامبول: بقي علينا الليمون. - هلم بنا نبحث في البيت علنا نجد قطعة منه.
فبحثوا فلم يجدوا شيئا، فذهب نادر إلى الباب ففتحه، ووجد الفتاة الهندية لا تزال جالسة عند عتبة الباب، فأعطاها غرشا وسألها أن تشتري له به ليمونا لمعالجة الشيخ، فامتثلت الفتاة وعادت بعد هنيهة بالليمون.
وعند ذلك أخذ نادر جرنا صغيرا من مطبخ المنزل فغسله ثم سحق فيه حبة الأفيون، وفت لسان الحية فمزجها مع الأفيون، ثم نقلها إلى كأس ماء وعصر فوقها الليمون، فظهر لون المزيج أحمر كشراب الورد.
وكان حسن ينظر إلى نادر نظر البلاهة.
فدنا نادر وهو يحمل الكأس وقال له: اشرب؛ فإن هذا الشراب مفيد لك.
فأخذ حسن الكأس من يده، وشرب نصفه جرعة واحدة كما يشرب الطفل ما يعرض عليه دون أن يعرف ما يشرب.
فالتفت نادر إلى روكامبول وقال له: راقب الآن هذا الرجل، سوف ترى ما يكون تأثير هذا الشراب.
أما حسن فإنه لم يكد الشراب يستقر في جوفه حتى أصيب في البدء بذهول عظيم، ثم جعل وجهه يتلون وعيناه تتقدان، وانطلق لسانه بكلام لا يفهم، فكان كمحموم مصاب بالهذيان.
وعند ذلك قال نادر لروكامبول: اتبعني الآن.
فتبعه، ونزل الاثنان إلى القبو فقال له نادر: أزح الحجر وضع المفتاح في القفل، ففعل.
أما حسن فإنه كان لا يزال في المنزل يهذي، ثم بدت عليه مظاهر الفرح والارتياح، فجعل يغني ويدعو نادرا وروكامبول إلى سماع غنائه وكأنه لم يرق له أن يتمتع وحده بسماع غنائه، فتبع روكامبول ونادرا إلى القبو وهو يزحف زحفا لآلام قدميه.
والتفت روكامبول بعد أن وضع المفتاح في القفل فرأى حسنا خلفه يضحك.
أما نادر فإنه جعل يدير المفتاح في القفل وهو يتظاهر بالاضطراب والقلق، فلما رآه حسن على تلك الحال ضحك ضحك المتهكم ووقف فدفع نادرا بكوعه، ووضع يده على المفتاح ثم نظر إليهم نظر الهازئ، وأدار المفتاح عدة مرات ففتح الباب، وظهر الكنز وما فيه من الذهب الوضاح واللآلئ اللامعة.
21
أما حسن فإنه بعد فتح الباب أظهر من غرائب الاحتيال ما أضحك الاثنين، ثم حاول أن يقفله، ولكن روكامبول حال بينه وبين الباب، وحمله نادر فأدخله إلى قبو الكنز وألقاه على الأرض.
فقاوم حسن مقاومة ضعيفة، ثم لما رأى نفسه ملقى على الأرض نسي ما هو فيه وعاد إلى هوسه، فجعل يبكي ويغني ويندب ويستبشر في حين واحد.
فقال نادر لروكامبول: إننا إذا أقفلنا هذا الباب لا نستطيع فتحه بعد إقفاله، ولا نستطيع البقاء على هذه الحالة المخطرة؛ لأن عين الوزير غير غافلة، ولما كان واثقا أن الكنز موجود في هذا المنزل فهو قد أحاطه بالجواسيس، وبث حوله الأرصاد والعيون؛ لأنه لم يكتف بتفتيش أعوانه لهذا المكان. - هذا لا ريب فيه، فماذا يجب أن نعمل؟
فأطرق نادر هنيهة يفكر ثم قال: لدي رجال مخلصون، لكن يقتضي لي وقت لجمعهم. - ولو جمعتهم، أتعهد إليهم بمراقبة هذا المكان؟ - كلا، ولكني أستعين بهم على نقل جميع ما في هذا القبو من الذهب والجواهر. - إلى أين تنقلهم؟ - اصبر فسأجيبك متى أمنا صياح هذا الرجل؛ فإنه يقلقنا ببكائه وغنائه. احرص عليه إلى أن أعود.
ثم تركه في القبو وصعد إلى المنزل، فأخذ من درج حسن كمية كبيرة من الأفيون فوضعها في غليونه وأشعله، ثم عاد به إلى حسن فأعطاه إليه، فما طال تدخينه حتى سكت وتمكن منه الذهول.
وعند ذلك جلس نادر فوق برميل في القبو وقال لروكامبول: أصغ إلي الآن أيها الصديق، إن هذه الأموال المودعة في هذا القبو كثيرة جدا، بحيث يتعذر نقلها إلى أوروبا بالطرق العادية المألوفة؛ لأن عمال الجمارك يفتشون السفن قبل سفرها، وإذا عثروا بهذه الأموال ضبطوها دون تردد. - لكني تعهدت لعثمان وهو يحتضر أن أنقلها. - دون شك. - إذن يجب نقلها إلى أوروبا. - إنك تستطيع نقل الأحجار الكريمة، وأما الذهب فلا فائدة من نقله. - لماذا؟ - دعني أخبرك قبل ذلك كيف يسهل علينا نقل الجواهر: اعلم أن لطائفة أبناء سيوا التي أتولى رئاستها ثروة واسعة تزيد على ثروة أعدائهم أبناء كالي.
ولنا مثلهم عمال ووكلاء سريون بين الإنكليز يخضعون لنا كل الخضوع، ويمتثلون لأوامري كل الامتثال.
وإن بين أبناء طائفتي الذين يعتمد عليهم في المهمات ربان سفينة إنكليزية يدعى جون ثان، وهو لي من أصدق المخلصين، وسيسافر إلى لندرا بعد ثمانية أيام بشحنة من الحبوب؛ ولذلك رأيت أن أخبئ الجواهر داخل أكياس خاصة مشحونة حبوبا، فإذا تفقدها عمال الجمارك لا يهتدون إليها. - إذا كان ذلك كما أخبرتني، فلماذا لا نشحن الذهب أيضا داخل تلك الأكياس؟ - لأن الذهب كثير، وهو أثقل من اللآلئ، فإذا شحن على تلك الطريقة تعرض للخطر. - إذن كيف ينقل الذهب إلى أوروبا؟ - لا حاجة إلى إرساله إلى أوروبا، بل يظل في الهند، وذلك أننا ندفعه إلى خزينة طائفة أبناء سيوا، وأنا أعطيك حوالة بقيمته على مصرف من مصارف لندرا العظيمة، فيدفعها إليك في الحال. - إنها طريقة حسنة غير أنه كيف يتيسر لنا نقل تلك الأموال من القبو. - هنا وجه الصعوبة؛ إذ يستحيل علينا إخراج الأموال من باب هذا المنزل دون أن يشعر بنا الذين يراقبونه. - إني لا أرى ما تراه؛ لأن الوزير كان منذ يومين يجهل اسم هذا الرجل. - ذلك ممكن غير أن البوليس الإنكليزي لا تغفل له عين، ومثل تلك القيمة من الثروة لا يسهل تهريبها أمام عينيه. - هو ما تقول غير أن تلك الثروة لم تدخل دفعة واحدة إلى القبو، فهي تخرج منه أجزاء متفرقة كما دخلت إليه. - ذلك ممكن أيضا غير أني أعتقد أن لهذا القبو مخرجا آخر من غير بابه الذي دخلنا منه، فهلم نفتش عن هذا المخرج، فإذا وجدناه أخرجنا المال بجملته منه، وذلك خير من إخراجه متفرقا؛ فإن الوقت غير متسع لدينا، وعلينا كثير من الرقباء والعيون. - ليكن ما تريد؛ فلنبحث.
ومشى نادر إلى جدار القبو فجعل ينقر عليه بقبضة خنجره في أمكنة مختلفة حتى اهتدى إلى مكان سمع منه صوتا يدل على فراغ فقال: هو ذا المخرج وسوف ترى.
ثم أخذ خنجره وجعل يزيح به الكلس المتجمد في الجدار، حتى إذا كشطه ظهر له تحته ثقب تمد منه اليد، فمد يده فشعر بزلاج وراء الجدار، فرفع الزلاج ودفع الجدار بيده، فإذا الجدار باب فتح وظهر منه سرداب طويل مظلم، فظهرت علائم السرور على وجه نادر وقال: هو ذا المخرج الذي كنت أتوقع وجوده. - إلى أين ينتهي هذا السرداب. - سوف نعلم؛ إذ لا بد لنا من المسير فيه. - لكن ما نصنع بحسن فإنه قد يقفل علينا الباب؟ - لا تخف، لقد سقيته كمية كبيرة من الأفيون؛ فهو لا يستفيق منها قبل عدة ساعات ولا خوف علينا منه، هلم بنا.
ثم أخذ المصباح الذي كانوا يستنيرون به في القبو ودخل إلى السرداب، فتبعه روكامبول.
22
مما يؤثر عن الإنكليز وتأثيرهم على البلاد التي يحتلونها، والأمم التي يسيطرون عليها، أن كل بلد تطأ أقدامهم فيه تنتشر بين قومه عاداتهم وأخلاقهم، ويجري قومه تقليد الإنكليز في كل شيء حتى في طريقة إنشاء منازلهم.
مثال ذلك كلكوتا؛ فإن بعض شوارعها لم يكن يفرق بشيء عن شوارع لندرا، حتى إن المدينة السوداء نفسها، أي مدينة الوطنيين، امتدت إليها يد الهندسة الإنكليزية.
ومما فعله الإنكليز في كلكوتا أنهم بنوا المجاري تحت الأرض، وأنشأوا بركة عظيمة في المدينة من جنوبها إلى شمالها، فكانت تشبه ميناء داخليا.
وكانت مياه المجاري تصب في تلك البركة من أقنية مبنية تحت الأرض، فإذا حان وقت الجزر دخلت مياهه إلى البركة وحملت أقذار المجاري. وكانوا يستعملون البركة أيضا لإصلاح السفن، وكان نادر يعلم دون شك بأمر البركة، فكان يرجو أن يجد منفذا إليها من السرداب، فمشى أمام روكامبول بمصباحه.
أما السرداب فكانت قبته عالية بحيث لا يضطر السائر فيه إلى الانحناء، لكنه كان ضيقا فلا يستطيع اثنان أن يسيرا جنبا إلى جنب.
فلما سار نادر بضع خطوات قال لروكامبول: إننا سنجد مجرى دون شك؛ فإن الإنكليز أنشئوا المجاري في المدينة السوداء. - إلى أين تنتهي تلك المجاري؟ - إلى حوض إصلاح المراكب.
وما سار الاثنان عشرين خطوة حتى وجدا منعطفا فتنبه نادر لأمر وقال: يجب أن نعود إلى القبو؛ لأني أخشى أن يكون لهذا السرداب منعطفات كثيرة تؤدي إلى طرق مختلفة، فإذا أردنا العودة لا نهتدي إلى الطريق، ولذلك لا بد لنا من دليل. - أين تجد الدليل؟ - سترى، ارجع الآن أدراجك.
فرجع روكامبول وتبعه نادر إلى القبو، فلما وصلا إليه صعد نادر إلى المنزل وعاد يحمل حبلا رفيعا طويلا، ثم دخل إلى السرداب أمام روكامبول وقال: سر بنا؛ فهذا هو الدليل، وما زال الحبل بيدنا فلا نضل الطريق إذا أردنا الرجوع.
فاستصوب روكامبول صنعه، وسار الاثنان في السرداب فانتهيا إلى سلم تنزل درجاتها في جوف الأرض.
وكان الحبل بيد نادر فقال لروكامبول: إننا إذا لم نصادف طريقين فلا حاجة بنا إلى الحبل، ولكن دلائل السرداب تشير إلى أننا نلقى كثيرا من الطرق.
وكانت درجات السلم ثلاثين درجة، فلما انتهيا منها إلى آخر درجة وجدا سردابا جديدا.
وكانا يسمعان صوتا يشبه الهدير فوق رأسيهما، فأصغى نادر إلى الصوت ثم قال: أتعلم أين نحن الآن؟ - كلا! - إننا تحت الحوض.
ومشيا بضع خطى فظهر لهما طريقان في السرداب الجديد، فقال له نادر: لقد حان وقت استعمال الحبل.
ثم أخذ خنجره فشكه في الأرض وربط به طرف الحبل، وسار في أحد الطريقين وبقية الحبل في يده.
وما زالا سائرين حتى انقطع هدير الحوض، وكان الحبل قد بلغ نحو ثلثيه، فاعترض سيرهما سلم آخر غير أن درجات هذا السلم يصعد عليها خلافا لدرجات السلم الأخرى، فصعدا السلم وانتهيا إلى قاعة متسعة، غير أن سقفها كان واطئا بحيث يمكن للواقف أن يمسه بيده، فاستوقف سيرهما سماع حركة فوق السقف عرف منها أنها خطى إنسان.
ولم يكن لهذه القاعة منفذ فقال نادر: يستحيل أن تكون هذه الطريق توصل إلى البحر، ولا بد أن يكون لهذه القاعة شأن.
وكان يصل إلى مسامعهم من فوق القبة أصوات جماعة يتحدثون، ولكنهما لم يفهما شيئا من كلامهم المبهم.
فقال نادر: دعني أركب على كتفيك وأعطني خنجرك علني أهتدي إلى معرفة هذه الأصوات.
ثم ركب فوق كتفي روكامبول وبلغ القبة، فأخذ الخنجر وجعل يحفر بالسقف، فما طال حفره حتى تنهد تنهد الرضى والارتياح؛ إذ وجد السقف مبنيا بالخشب وليس بالحجارة، ورأى في هذا الخشب أثر باب فقال: هذا المنفذ الذي نبحث عنه؛ فقد لقيناه.
23
وعند ذلك وثب نادر عن كتف روكامبول إلى الأرض وقال: لنبحث الآن عما نحن فيه؛ فإني قد وجدت المنفذ في هذا السقف، وإذا دفعت بابه السري دفعة قوية فتح، ولكننا لا نعلم إلى أين ينفذ هذا الباب، فإني أسمع منه أصواتا كثيرة.
فقال روكامبول: أرى أن أموال الرجاه لم تدخل إلى القبو من منزل حسن، بل من هذا الباب السري؛ ولذلك أعتقد أن هذه الأصوات التي نسمعها هي أصوات قوم مخلصين للرجاه عثمان. - وأنا أرى رأيك، ولكن كيف نستطيع أن نثبت لهم أننا نحن أيضا من المخلصين للرجاه.
فتأوه روكامبول وقال: لقد أصبت فقد سرقوا مني الخاتم. - وفوق ذلك فإني لا أستطيع الجزم بأن المال وصل إلى القبو من هذا المنفذ؛ فإننا قبل أن نصل إلى هذه القاعة رأينا طريق السرداب قد تشعبت إلى طريقين. ألا يمكن أن تكون الأموال وردت من الطريق الأخرى؟ - هو ما تقول، لكنا قد وجدنا منفذا لإخراج الأموال. - لا شك عندي ببسالتك؛ فقد عرفتك حق العرفان، ومن كان مثلنا لا تعترضه الصعاب. - على ماذا عزمت؟ - على فتح باب السقف، لكن لا بد لي من خنجري؛ فإنه قوي النصل، فابق في مكانك إلى أن أعود به.
ثم تركه وعاد مسترشدا بالحبل الممدود إلى حيث شك خنجره وربط به طرف الحبل.
أما روكامبول فإنه بينما كان ينتظر عودته جعل يصغي إصغاء تاما عله يفهم شيئا من تلك الأصوات التي كان يسمعها؛ فقد اختلطت وارتفعت بعد ذهاب نادر.
وكان روكامبول يعرف جميع لغات أوروبا، ويعرف الهندية ولغاتها المختلفة، غير أنه لم يفهم كلمة من تلك الألفاظ الغريبة التي كانت تخترق السقف إلى مسمعه.
فلما عاد نادر أخبره بما سمع، وبأن القوم يتكلمون بلغة لم يسمعها مرة من قبل.
فابتسم نادر وقال له: سأكون أسعد حظا منك؛ فإني لا تخفى علي خافية من جميع لغات الهند.
ثم صعد فوق كتف روكامبول ووضع أذنه على السقف، فما أصغى هنيهة حتى أشرق وجهه بنور البشر وقال: لقد عرفتهم فهم أصدقاء. - من هم؟ - هم أبناء طائفتي؛ أي أبناء سيوا. - كيف عرفت ذلك؟ - من اللغة التي يتكلمون بها؛ فهي اللغة السرية المقدسة التي لا يفهمها العوام، وإنما نحن الآن تحت معبد وهؤلاء الناس يصلون فيه؛ فإن هذه الساعة ساعة الصلاة. - إذن نستطيع فتح الباب ولا خوف علينا. - دون شك، ولكن الوقت لم يحن بعد، وخير لنا أن ننتظر فراغهم من الصلاة وخروجهم من المعبد. - إذن لننتظر كما تشاء.
فنزل نادر عن كتف روكامبول ونظر في زيت المصباح، فرأى أنه لا يزال كافيا للإنارة مدة ساعة، فاضطجع على الأرض قرب روكامبول ينتظر انتهاء الصلاة.
ثم أخذت تلك الأصوات تضعف تباعا إلى أن انقطعت، فقال نادر: هو ذا أبناء سيوا قد أخذوا يذهبون. - ألعل الصلاة قد انتهت؟ - نعم، وسوف تسمع الكاهن يقول: اذهبوا أيها المؤمنون؛ فإن الإله سيوا راض عنكم.
وقد تم ما قاله نادر؛ فإنه بعد هنيهة سمع الكاهن يقول لهم تلك العبارة، فقال: لقد تفرق المصلون؛ فهلم بنا إلى العمل.
ثم عاد إلى الصعود فوق كتف روكامبول، فعالج الباب بخنجره ودفعه بشدة ففتح.
24
وشعر روكامبول أن رجلي نادر قد فارقتا كتفيه، ورآه قد اختفى في ذلك المنفذ الذي فتحه.
ولكنه لم يلبث أن ظهر له بعد حين فمد له يده وقال له: تعلق بي واصعد إلي.
فتعلق به روكامبول وصعد، فلما صار داخل المنفذ نظر إلى ما حواليه فرأى قاعة فسيحة نقشت على جدرانها رسوم غريبة مختلفة.
وكانت هذه التماثيل والرسوم تشبه الرسوم التي تنقش في معابد الإلهة كالي، غير أن الفرق بينهما أن رسوم الإلهة كالي تمثل الشر والفظائع والدماء، وهذه تمثل الخير والرحمة والسلام.
وكان هذا المعبد الذي دخلا إليه مظلما لا نور فيه، ولكن نور الشفق كان ينفذ ضعيفا إليه، فرأى روكامبول في جوانب تلك القاعة الفسيحة بعض التماثيل الموضوعة على الأرض فحسبها هنودا يصلون.
وكان في وسط هذه القاعة تمثال عظيم جدا وتحت قدميه مصباح ضعيف النور تنبعث منه رائحة ذكية.
أما نادر فإنه أقفل الباب الذي فتحه ونظر إلى روكامبول فقال: إننا الآن وحدنا في هذا المعبد.
فعجب روكامبول وقال: كيف وحدنا؟ وأشار إلى التماثيل.
فابتسم نادر وقال: إنها تماثيل من الخشب والحجارة، ونحن الآن في معبد من معابد الإله سيوا، وهو كائن على شاطئ الحوض الأيسر في وسط المدينة السوداء. - وهذه الأصوات التي كنا نسمعها؟! - إنها أصوات المصلين، وقد انصرفوا بعد انتهاء صلاة الغروب. - والكاهن؟ - إنه يقفل الأبواب الخارجية ولا بد أن يرجع. - أرأيته؟ - كلا، ولكنه سينذهل حين يرانا. - أيجب أن نستعمل الخنجر؟ - لا حاجة إليه، فإذا كان الكاهن هو الذي أعرفه فإنه سيكون في خدمتنا.
وفيما هما على ذلك سمعا صوت خطوات بعيدة، ثم رأيا الباب قد فتح ودخل منه رجل يحمل مصباحا.
وكان هذا الرجل مرتديا ثوبا أبيض وعلى حقويه منطقة زرقاء، عاري الرأس، أبيض الشعر، تدل هيئته على أنه تجاوز الستين من العمر.
فلم يرهما حين دخل، ولكنه حين تقدم منهما ورآهما ذعر ذعرا شديدا، وجمد الدم في عروقه، وجعل ينظر إليهما نظرات حائرة تدل على ما داخل فؤاده من الرعب، ولا سيما وقد رأى روكامبول وهو بملابس الإفرنج؛ فأيقن أن المعبد قد تدنس.
أما نادر فإنه تقدم منه وقال له: «كوريب».
وكان هذا الاسم اسم الكاهن، فلما سمع أنهم ينادونه باسمه اطمأن ورفع مصباحه ناظرا إلى من يناديه، فلما عرفه ركع فجأة ومرغ وجهه بالأرض عند قدمي نادر، فعلم روكامبول مبلغ نفوذ هذا الرجل في تلك البلاد.
أما نادر فإنه أمر الكاهن أن ينهض، فنهض ووقف أمامه وقفة الخضوع والاحترام.
فقال له نادر: أتعرف من أنا؟ - إنك السيد وأنا العبد. - إذا أمرتك أن تتكلم أتمتثل؟ - دون شك؛ ألم أقل لك: إني العبد وإنك السيد؟ - أيها العبد، إنك أقفلت أبواب الهيكل. - نعم يا مولاي. - ولكننا مع ذلك موجودون فيه، وليس للمعبد غير مدخل واحد. أتعلم من أين دخلنا؟
فاضطرب الكاهن وقال: كلا يا مولاي، ولكن الإله سيوا شديد الحول كثير الاقتدار. - إن الإله سيوا لا يتداخل في شئوني. ثم ضرب برجله على الأرض فوق الباب الذي فتحه وقال: إننا دخلنا من هنا.
فاصفر وجه الكاهن وجعل يضطرب وينظر إلى الباب نظر الحائر.
فجرد نادر خنجره وقال: لقد وعدت أن تتكلم فلا بد لك من الوفاء.
25
غير أن خنجر نادر لم يرعب الكاهن كوريب، بل إنه نظر إلى نادر بثبات وقال له: أيها السيد، إنك عاقل حكيم، ومن كانت له حكمتك فهو يأذن لأتباعه بالإيضاح. - إذن تكلم. - إني بصفتي كاهنا للإله سيوا أكون عبدك؛ لأنك رئيسنا الأعظم، ولكن بصفتي إنسانا فإن لي علائق وعهودا يقضي علي واجب الوفاء باحترامها، فأنت إذا أمرت الكاهن أطاعك وأجابك إلى ما تريد، وأما إذا أمرت الإنسان أن يبوح بسر مؤتمن عليه؛ فإن خنجرك لا يفيد في حمله على الإقرار.
فلم يغضب نادر لهذه الجرأة وقال: أصغ إلي، أنت أيضا تعلم أني لا أريد حملك على الإقرار إلا لقصد صالح، واعلم أن الرجاه عثمان كان صديق هذا الرجل الذي تراه معي.
فنظر الكاهن إلى روكامبول نظرة حذر.
وعاد نادر إلى الحديث فقال: وإن الرجاه عثمان أعطاه خاتمه.
فقال الكاهن: أين الخاتم؟
فقال روكامبول: لقد فقدته.
فابتسم الكاهن ابتسامة تدل على عدم التصديق، فقال له نادر: إن تريبورينو وزير الرجاه سرقه من هذا الرجل.
وكأنما اسم تريبورينو قد أثار العواصف في نفس الكاهن فقال: إن هذا ممكن؛ فإني لا أستعظم أمرا من هذا الرجل الخائن، لكني لا أستطيع أن أبوح بشيء إلا إذا رأيت الخاتم.
فقال روكامبول: إني إذا كنت قد فقدت الخاتم فإن آثاره لا تزال مرسومة في إصبعي؛ فانظر علك تعرفه.
فنظر الكاهن في إصبع روكامبول فوجد ثلاث علامات حمراء نتجت من ضغط حجارة الخاتم على الإصبع فقال: إن الآثار قد تكون آثار خاتم الرجاه عثمان، ولكنها قد تكون أيضا من غيره.
فقال له نادر: إذا كنت لا تصدقنا فإني أقنعك ببرهان آخر. - ما هو؟ - هو أننا اكتشفنا كنز عثمان الذي كان بحراسة الشيخ حسن.
رأى نادر أن وجه الكاهن قد اصفر واضطرب فقال له: خفض من روعك؛ فإننا أصدقاء. عثمان مات، وإننا لا نريد إلا إنقاذ ثروته من الوزير.
فقال الكاهن: إذا كنتم تعرفون مكان الكنز الذي عهد إلي عثمان حراسته مع الشيخ حسن؛ فما تريدان أن أقول بعد ذلك، وماذا تبغيان منها؟ - إننا نريد أن تعيننا على إخراج هذه الأموال من مكانها.
فعاد الشك إلى الكاهن وقال لنادر: أتجيبني أيها الرئيس إذا سألتك أن تقسم لي يمينا؟ - دون شك. - ضع يدك على تمثال إلهنا سيوا.
وضع نادر يده فوق التمثال. - أقسم لي بإلهنا أن خاتم الرجاه عثمان كان في إصبع هذا الرجل الذي يصحبك. - إني أقسم لك بالإله سيوا أن الرجاه عثمان أعطاه خاتمه وأوصاه أن يأخذ المال.
فتنهد الكاهن تنهد الراحة كأنه أنزل عن عاتقه حملا ثقيلا وقال: مر الآن، أيها السيد، بما تشاء فإني مستعد للطاعة والامتثال. - إني أريد نقل الأموال من مكانها؛ فإن الشيخ حسنا فقد صوابه، ولا بد للوزير من اكتشاف الكنز. - إن ذلك سهل ميسور؛ فإننا نخرج الأموال من حيث أدخلناها. - نعم، ولكن متى؟ - في الليلة القادمة. - ماذا نصنع بالباب الحديدي، أنبقيه مفتوحا إلى الغد؟ - ولكن كيف تمكنتما من فتحه؟
قص عليه نادر عند ذلك جميع ما اتفق له ولروكامبول مع حسن، وكيف احتالا عليه حتى فتح الباب.
فقال الكاهن: إني لا أعرف سر قفل الشيخ حسن، ولكن إذا أقفل بابه فإني أفتح بابي، وكلاهما يؤديان إلى الكنز. ألم تفتح باب السرداب بمزلاج حين كنت في قبو حسن؟ - نعم. - وأنا أستطيع رفع المزلاج من داخل السرداب وفتح الباب الثاني؛ فلا يمنعنا إقفال باب حسن عما نريد. - إذن تعال معنا.
ثم فتح نادر باب المعبد المؤدي إلى السرداب ونزل الثلاثة منه، فساروا يسترشدون بالحبل حتى وصلوا إلى مكان الكنز.
فكان البابان مفتوحين، وهما: باب السرداب، أي باب الكاهن، وباب حسن الذي يتصل إليه من قبو منزله.
فقال الكاهن: ادخلا الآن إلى قبو الكنز واقفلا الباب، وأنا أبقى خارجا في السرداب، وسترى كيف أفتح الباب.
فدخل نادر وروكامبول وأقفلا الباب، ووضعا المزلاج مكانه ووقفا ينتظران.
أما الكاهن فإنه جعل يبحث في الظلام من الخارج عن باب خفي، فلما عثر به أداره فارتفع المزلاج وفتح الباب؛ فدخل الكاهن وقال لنادر: أرأيت كيف أني فتحته؟
قال نادر: لم يبق علينا خوف من إقفال باب الشيخ حسن، فتعال معنا الآن.
وكان حسن لا يزال صريع الأفيون، فأخرجوه من القبو، وأقفلوا باب الكنز، وأعادوا حجر القفل إلى ما كان عليه، ثم صعدوا بحسن إلى منزله.
فقال روكامبول: ماذا نصنع بحسن؛ فإنه مجنون ولا نأمن فلتات لسانه؟
فقال نادر: إننا سنرسله إلى محل أمين. - ولكنه نائم. - لا بأس فسنرسله في مركبة مقفلة.
ثم أمر الكاهن أن يذهب ويأتيه بمركبة مقفلة، فامتثل وعاد بها بعد حين وجيز.
26
ولما جاءت المركبة حملوا حسنا إليها وصعد الكاهن بعده، فقال روكامبول لنادر: أين نذهب الآن؟ - يجب أولا أن نحكم إقفال المنزل ثم تسير معي إلى منزلي. - ألك منزل في كلكوتا؟ - نعم، وستكون فيه بمأمن من خيانة تريبورينو.
ثم دنا نادر من الكاهن وكلمه بلغتهم المقدسة السرية كلمات لم يفهمها روكامبول، وأشار له إشارة فانطلقت المركبة.
فقال له روكامبول: إلى أين أرسلت الشيخ؟ - إلى المعبد الذي كنا فيه؛ فإن الإنكليز أنفسهم لا يدخلون معابدنا، ومهما بلغت جسارة تريبورينو فهو لا يستطيع التفتيش عن الخياط فيه.
ثم أقفل نادر المنزل ونادى تلك الفتاة التي كانت لا تزال مقيمة عند عتبة الباب المجاور فقال لها: إذا سأل أحد عن الشيخ فقولي له إن أهله ذهبوا به إلى منزلهم لمعالجته.
وهذا هو مفتاح المنزل فأبقيه عندك؛ إذ قد يتفق أن يعود الجنود للبحث في هذا المنزل لاعتقادهم أن الشيخ حسنا خبأ فيه كنزه، فإذا عادوا فأعطيهم المفتاح، وليبحثوا قدر ما يشاءون؛ إذ لا يوجد شيء مما يتوهمون.
ثم تركها وانصرف مع روكامبول إلى المدينة البيضاء.
ولكنهما قبل أن يجتازا المدينة السوداء مرا بخمارة ووقفا عند بابها، فرأى روكامبول دليلا جديدا على مبلغ نفوذ نادر؛ ذلك أن صاحب الخمارة أسرع إليه حين رآه وركع أمامه مقبلا الأرض.
فأمره أن يقف، ثم دخل مع روكامبول إلى أحد غرف الخمارة المعتزلة وخلع ملابسه الهندية ولبس ملابس الإفرنج، ثم نظر إلى روكامبول وقال له وهو يبتسم: ألعلك منذهل مما تراه؟ - لا أنكر عليك؛ فإنك قد تغيرت كل التغيير بهذه الملابس حتى لا يشك من يراك أنك من الأوروبيين. - إني كنت أقيم في لندرا وباريس بهذا الزي. - كيف ذلك، أسكنت في باريس؟ - نعم، وكنت مقيما فيها في فندق موريس، وأتعشى في القهوة الإنكليزية حتى إنه كان لي فيها حكايات غرام؛ فقد عشقتني امرأة تدعى روميا.
فصاح روكامبول صيحة انذهال، فقال له نادر: ما سبب انذهالك؟ ألعلك عرفت هذه المرأة؟ - لا أعلم، أليس لها اسم آخر؟ - بلى، فإنها تلقب بالبستانية الحسناء، وإني أرى من توالي انذهالك أنك تعرفها. - أعرف عنها أنها من أجمل النساء، ولكن ليست الحية السوداء التي تسعى في غابات هندكم بأشد خطرا منها. - هو ما تقول؛ فإني أعلم من هذه المرأة فوق ما تعلم، ولكنها لا تخاف في الوجود غير رجل واحد. - ومن هو هذا الرجل؟ - هو أنا، وسأقص عليك جميع ذلك حين نصل إلى المنزل.
ثم عاد إلى ملابسه حتى أتم تنكره على ما يريد.
إن في الهند جنسين من الناس؛ أحدهما: الهندي البحت الذي لم تمتزج دماؤه بدماء الإفرنج. وهذا الجنس يشبه لون بشرته لون النحاس.
والجنس الآخر: هو الجنس الذي تزوجت أجداده بنساء الإنكليز؛ فجاء أحفادهم بيض الوجوه.
أما نادر فقد كان من هذا الجنس الأخير المختلط، فلما لبس الملابس الأوروبية أصبح كأنه من الإنكليز أنفسهم.
ولما أتم تنكره قال: هلم بنا الآن.
وخرج الاثنان من الخمارة وذهبا إلى المدينة البيضاء، وكانت تتألق في شوارعها المصابيح، حتى إذا وصلا إلى آخر شارع الحكومة، وهو أعظم شوارع كلكوتا، وقف نادر عند باب حديقة متسعة فأخذ مفتاحا من جيبه وفتح الباب، فأسرع خادمان من الهنود إلى استقباله.
وقد عرف روكامبول من طريقة استقبالهما لمولاهما أنهما يعدانه من أشراف الإنكليز، ولا يعلمان أنه زعيم أبناء سيوا.
فأخذ الهنديان مصباحين وسارا في تلك الحديقة أمام نادر وروكامبول حتى بلغا إلى البيت، فدخل نادر بصديقه إلى قاعة متسعة مفروشة على النسق الإنكليزي، فجلسا قرب مائدة وقال له: لنشرب الآن الشاي، ثم أخبرك بقصتي مع البستانية الحسناء.
وعند ذلك أمر أحد الخدم باللغة الإنكليزية أن يحضر الشاي، فلما أحضره بدأ نادر يقص الحكاية قائلا ...
27
إن الهند مثل جميع البلاد التي يجتاحها الفاتحون ، ويتعاقب عليها الغزاة، وتتوالى فيها الغارات الأجنبية، وإن تتابع هذه الغزوات كثر فيها الأحزاب السياسية والعقائد الدينية.
وهي مختلفة المنازع، فإنك تجد بين أحزابها من يؤيد السيطرة الإنكليزية، وبينهم من يحاول طرد الإنكليز، وهنا فريق يدافعون عن استقلالهم ولا يخضعون إلا لزعماء يختارونهم من بينهم، وهناك جماعات لا تخضع إلا لأمراء الهند؛ إذ يجدون أحكامهم أخف وطأة من أحكام الإنكليز، إلى غير ذلك من الأحزاب المتشعبة والمنازع المتفرقة.
ولذلك تجد في الشارع الواحد من شوارع كلكوتا عابد الإلهة كالي وعابد الإله سيوا، والبوذي بجانب البراهمي، والمسلم إزاء المسيحي.
ومن أجل ذلك أيضا حجبت السياسة ببراقع الدين؛ فإنك قد تجد كاهنا من عباد سيوا وهو لا يعتقد بسيوا، وتجد زعيما للخناقين لا يؤمن بالإلهة كالي؛ لأنهم إنما يستخدمون هذه الأديان لبلوغ مآربهم السياسية.
على أن أشد هذه الطوائف الدينية وأعظمها سلطة ونفوذا طائفة الخناقين وطائفتي.
وقد رأيت علي رمجاه لأنك أنت الذي سلمته للإنكليز؛ فعرفته هنديا ظريفا، وعرفت في لندرا السير جمس نافلي، والسير جورج ستوي، فوثقت أن بين الخناقين رجالا من الذين يشار إليهم بالبنان في المجتمعات العالية والنوادي الشريفة.
فقاطع روكامبول نادرا قائلا: من أين علمت أني عرفت السير جمس، والسير جورج ستوي؟
فابتسم نادر وأجاب: لأني أتيت إلى لندرا بعد أن برحتها بثلاثة أيام، وذلك منذ عامين، وعلمت هناك أن جماعة ادعوا أنهم من أبناء سيوا ألقوا الرعب في قلوب الخناقين.
وكنت أتيت إلى لندرا لمقاومتهم فيها، ورأيت أنهم قد غابوا وتضعضع شملهم، فأردت أن أعلم من هو هذا الغالب الجريء.
إن الإنكليز والفرنسيين مهما بلغ بوليسهم من الذكاء والتفنن في استطلاع الخفايا، فإنهم لا يذكرون بإزاء الهندي؛ ولذلك فإني لم أقم في لندرا ثلاثة أيام حتى عرفت كل شيء بمساعدة هنديين قدما معي من الهند.
فانذهل روكامبول قائلا: كيف عرفت كل شيء؟ - نعم، عرفت كل شيء حتى اسمك، فإنك فرنسي، وقد انتحلت اسما روسيا وهو الماجور أفاتار، أليس كذلك؟ - بلى. - ولكن اسمك الحقيقي روكامبول؟
فاضطرب وأجابه: أتعرف هذا أيضا؟ - بل أعرف أنك كنت من المجرمين، ومن شر رجال الإثم والموبقات، ولكنك تبت إلى الله توبة صادقة، وأصبحت من أهل الخير والصلاح، فدفعت كثيرا من الآثام بفضل ذكائك وبسالتك.
فانحنى روكامبول شاكرا لهذا الثناء.
وعاد نادر إلى حديثه فقال: إني عرفت في لندرا جميع ما فعلته، وعرفت كيف أنك أخذت معك إلى باريس السير جورج ستوي، زعيم الخناقين السابق في أوروبا، وكيف أن امرأة مخلصة جذبت بمحاسنها ودهائها السير جمس، خليفة جورج ستوي في الزعامة.
إنك دمرت سلطة تلك الجمعية الهائلة، وقضى أسرك لعلي رمجاه على كل سلطتها في أوروبا، لكنها عادت إلى تنظيم شئونها، وستعود إلى ما كانت عليه من الشرور الهائلة والآثام الفظيعة. - وبعد لندرا، ألعلك تبعتني إلى باريس؟ - لم أتبعك على الفور. - لماذا؟ - لأني كنت في حاجة إلى تنظيم جمعيتنا؛ فإنه يوجد لنا أعداء ألداء في نفس عاصمة الإنكليز. - ولكنك بعد ذلك اجتزت المضيق وأتيت باريس. - نعم، فقد جئتها بعد شهر من سفرك بعلي رمجاه إلى الهند. - وكم أقمت فيها؟ - ستة أشهر. - وفي هذه المدة عرفت البستانية الحسناء؟ - نعم، فأصغ إلي الآن.
وعند ذلك قرع باب القاعة التي كانا فيها ودخل خادم، فسأله نادر: ماذا تريد؟ - إن على الباب يا سيدي رجلا هنديا أبيض الشعر يريد أن يراك. - قل له يحضر في الغد. - إنه يلح في مقابلتك، وقد طلب مني أن أذكر لك اسمه. - ماذا يدعى؟ - كوريب.
فارتعش نادر عند ذكر اسم الكاهن، وطلب من الخادم إدخاله.
وبعد حين، دخل الكاهن كوريب وعلى وجهه ملامح الاضطراب الشديد، فأطلق نادر سراح الخادم وسأل الكاهن: ماذا دهاك؟ ولماذا هذا الاضطراب؟ - إني فقدت شارتي. - أية شارة؟ - الشارة التي أعلقها في عنقي.
فقطب نادر حاجبيه وقال لروكامبول باللغة الفرنسية: إن الشارة التي يتكلم عنها هي قطعة من النحاس يعلقها في عنقه بشريطة من الحرير، وهي العلامة التي يعرف بها أنه كاهن، فإذا اجتمع أبناء سيوا للصلاة في المعبد فلا بد له من إظهار هذه الشارة وإلا قتلوه. - كيف ذلك ؟ - ذلك لأننا لا نستطيع استعباد هؤلاء الناس إلا بمثل هذه الأوهام والخرافات؛ ولذلك فلا بد من إيجاد الشارة المفقودة.
ثم التفت إلى الكاهن وسأله: أين فقدت الشارة؟ - في بيت الخياط. - إذن اذهب إلى البيت وابحث عنها فيه، وخذ مفتاحه من الفتاة المقيمة في البيت المجاور.
فانصرف الكاهن والرعب ملء فؤاده، وعاد نادر إلى تتمة حديثه مع روكامبول.
28
أقمت في باريس أدرس أخلاق قومها وعاداتهم؛ لأني لم أكن أتيتها من قبل، فكنت أتنقل بين قهاويها ونواديها وملاعبها وحدائقها العمومية وكل مكان يجتمع فيه الناس.
وقد ذهبت ليلة إلى الأوبرا فرأيت في أحد ألواجها امرأة لم تقع العيون على أبدع منها.
فجعلت أنظر إليها نظر المعجب بهذا الجمال النادر، وقد ملكت شغافي وخلبت فؤادي بمحاسنها الفتانة.
وبينما كنت أنظر إليها رأيت أنها تنظر إلي نظرات لا تختلف عن نظراتي، كأنها كانت تستحسن مني ما استحسنت منها.
ولقد كان يقال لي إن لنظراتي سلطة سرية تجذب إليها أقسى النفوس.
فما تحققت هذا الكلام إلا في تلك الليلة؛ لأن هذه المرأة كانت تضطرب حين أنظر إليها اضطراب الحمامة إذ رأت بازيا ينقض عليها، حتى خيل لي أني إذا أشرت إليها إشارة بيدي تركت لوجها وأسرعت إلي وهي تقول: مر أطع.
ولما انتهى التمثيل خرجت وصدري يلتهب غراما، فقلت في نفسي: إن النساء الأوروبيات لا زمام لهن، فلأسلو هذه المرأة بشرب الحشيش.
ثم ذهبت إلى فندق موريس الذي كنت مقيما فيه متنكرا باسم أرثر كولدري، وهو الاسم الذي أدعى به هنا أيضا حيث أقيم في المدينة البيضاء، فإن جميع قومها يحسبونني من أعيان الإنكليز، ولا يخطر لأحد في بال أنني نادر رئيس أبناء سيوا الأكبر.
ولما وصلت إلى الفندق دخلت إلى غرفتي فلم أستطع الرقاد، ففتحت النافذة وجعلت أنزه طرفي في الحديقة.
ومرت بي الساعات حتى أشرق الصباح وأنا واقف قرب النافذة أتأمل محاسن هذه الحسناء، فما شككت أن حبها قد جرى مجرى دمي في مفاصلي.
وفيما أنا على ذلك وقد أشرقت الشمس وملأت بأشعتها الفضاء إذ طرق باب غرفتي ودخل إلي الخادم برسالة.
ولم أكن أعرف أحدا في باريس؛ لأني لم أكن فيها إلا منذ ثلاثة أيام، فعجبت لهذه الرسالة وأسرعت إلى فضها، فقرأت فيها باللغة الإنكليزية ما يأتي:
إذا كانت المرأة التي كانت أمس في الأوبرا قد أثرت بعض التأثير على السير أرثر كولدري، وإذا كان السير أرثر كولدري شجاع القلب، عزيز النفس، كتوم اللسان؛ فليحضر في الساعة العاشرة من مساء اليوم وراء الكنيسة الكائنة في الشارع الكبير، وهي كنيسة مدلين.
وهناك يجد امرأة غير المرأة التي رآها في الأوبرا، ولكنها هي التي أرسلتها؛ فليتبعها.
ولم يكن للرسالة توقيع، فكدت أطير من الفرح، وجعلت أعد دقائق النهار وساعاته بفارغ الصبر حتى حسبتها كالأدهار.
ثم انقضى النهار وأقبل الليل وأتت ساعة الاجتماع، فأسرعت إلى المكان المعين فرأيت امرأة مبرقعة الوجه دنت مني حين رأتني، فقالت لي باللغة الإنكليزية: أأنت السير أرثر؟
فأجبتها بصوت يتهدج: نعم، أنا هو. - أترضى أن تتبعني؟ - إلى آخر الأرض.
فأخذت بيدي وسارت بي إلى عطفة في الشارع.
وكانت هناك مركبة فأصعدتني إليها ثم صعدت بعدي، فجلست بجانبي وأرخت ستائر المركبة وقالت لي: عليك شرط لا أستطيع أن أسير بك إلا إذا وافقتني عليه. - ما هو؟ - لا بد لي من عصب عينيك. - لماذا؟ - كي لا ترى؛ فلا تعلم المكان الذي أذهب بك إليه. - أعصبي عيني كما تشائين، إني مستعد لكل شيء.
فعصبت عيني، وأمرت السائق بالمسير.
فسارت بنا المركبة نحو ساعة.
وكنت حديث العهد بباريس وشوارعها فلم أعلم أين أنا.
وما زلنا نسير حتى شعرت من صوت المركبة أنها دخلت تحت قبة، ثم شعرت أنها وقفت.
فقالت لي المرأة: لقد وصلنا، هات يدك. - إذا كنا قد وصلنا فلماذا لا ترفعين العصابة عن عيني؟ - لم يحن الوقت بعد، اخرج الآن من المركبة.
فنزلت وقادتني بيدي إلى حيث لا أعلم.
ولكني كنت أشعر أني أمشي فوق الرمل، ثم تلا هذا الرمل سلم فاجتزناهما، وشعرت أن الهواء قد خفت رطوبته، ثم شعرت أني أمشي فوق طنافس مفروشة في الأرض، وبعدها فتح باب ودخلنا منه، فرأيت من خلال العصابة نورا نافذا.
وعند ذلك قالت لي المرأة: ارفع العصابة الآن عن عينيك.
وتركت يدها من يدي فسمعت خطواتها تبتعد عني.
واستطرد نادر حديثه فقال ...
29
فتحت عيني فوجدت نفسي في غرفة نسائية تدعونها أنتم معاشر الإفرنج غرفة الزينة.
وكانت رائحة الطيب تفوح من الغرفة، وقد فرشت أرضها بأفخر أنواع الطنافس، وهي مزدانة بأجمل الرياش وأدق المصنوعات، مما يدل على الثروة وحسن الاختيار.
ولما فتح الباب وخرجت منه المرأة أقفل حالا، ورأيت نفسي وحدي في الغرفة.
ولكن قلبي كان يحدثني بأن إلهة هذا المنزل تدنو من الغرفة التي أنا فيها، وقد صدق حديث قلبي؛ فما مرت بضع ثوان حتى رأيت سجفا كان يستر بابا قد أزيح، وبرزت منه تلك الفاتنة التي شغلت قلبي بجمالها وبت بها من المغرمين.
وقد دخلت وهي تتهادى دلالا وتبتسم ابتساما يفتن النساك، فمدت يدها إلي وقالت لي باللغة الإنكليزية: الحق، يا سيدي، أنك رجل شريف، فقد رضيت بجميع شروطي.
فوقفت أتأمل تلك المحاسن الجاذبة، وقد شغلت عن رد سلامها، فكان شغلي عنها بها.
أما هي فإنها جلست على مقعد شرقي وأجلستني بجانبها، ثم نظرت إلي وقالت: أسألك العفو يا سيدي لقد جرت عليك بعصب عينيك على فرط ثقتي بإخلاصك ووفائك، غير أني فعلت ذلك مكرهة مضطربة؛ فإني معرضة نفسي بحبك لخطر الموت. - كيف ذلك؟ - نعم، إن زوجي غيور، وإذا علم بأمري لا أنجو من الموت. - هذا شأن أغلب الأزواج يا سيدتي. هل تريدين أن أقتله؟ - لقد راق لي كلامك، وهو يدل على ما توسمته فيك من البسالة.
ثم ابتسمت وقالت: كلا، لا أريد أن يموت هذا الزوج، ويكفيه ما هو فيه.
وكانت في تلك الغرفة التي تقيم فيها آنيتان غرست فيهما أزهار علمت من عطرها أنها أزهار هندية وقلت في نفسي: لا شك أنها عرفت من أنا فاختارت تلك الأزهار إرضاء لي، وهي غاية ما تتناهى إليه سلامة الذوق.
غير أن رائحة الأزهار كانت شديدة حتى إني كنت أشعر أنها تفعل بي ما تفعل الخمر في رءوس الشاربين.
وكانت جالسة بجانبي، ووضعت يديها بين يدي وجعلت تبتسم لي ابتساما حلوا وتقول: إني ما رأيتك غير ساعة أمس في الأوبرا، ولكن قلبي تحت مطلق سلطانك.
فأجبتها بما أملاه علي الغرام من عبارات الحب الصادق.
وفيما أنا أناجيها وأغازلها قاطعتني فجأة وقالت: إني غريبة الأطوار، كثيرة التقلب، ولكني قد أحبك حبا طويلا؛ فهل تحبني أنت؟ - إني أحبك حبا لا تصفه أقلام الشعراء. - أتثبت في حبي؟ - ما بقي لي ذرة من الحياة.
فأطرقت هنيهة إطراق المفكر ثم قالت: لقد طالما سمعت مثل هذا الكلام ثم أسفرت الأيام عن ضده، ولكن يقال إنكم معشر الإنكليز موصوفون بالثبات، وسنرى.
وأقمت معها ساعتين وأنا أسكر سكرين من ألحاظها وأزهارها.
ثم تغلبت رائحة الأزهار علي ونمت نوم السكران وأنا لا أعي على شيء.
غير أنه خيل لي حين أطبقت عيني أني رأيت بابا قد فتح وبرز منه رجل أصفر الوجه نحيل يشبه الخيال، فوقف على عتبة الباب ونظر إلي نظرات تشف عن الرعب والغضب.
ولم أعد أفقه شيئا بعد ذلك؛ إذ أطبقت عيناي واستغرقت في سبات عميق.
ولما فتحت عيناي شعرت بهواء بارد يهب على وجهي ويرتجف له كل جسمي.
ذلك أني وجدت نفسي نائما على مقعد من مقاعد المنتزهات العمومية في باريس لا يظلني غير السماء، وكان ذلك عند بزوغ الفجر، فانتبهت منذعرا مضعضع الرشد، ولكن لم يطل بي الأمر حتى جمعت حواسي وذكرت حوادث ليلتي.
وكانت يدي موضوعة في جيبي كأنها وضعت خاصة، وشعرت بأنها تلمس ورقة، وأخرجت الورقة فإذا هي رسالة؛ ففتحتها وقرأت ما يأتي:
أخيرك بين أمرين؛ وهما: إما أن نفترق فراق الأبد فلا تراني بعد الآن، أو تقبل بشروطي.
انظر في خبايا قلبك واستشر فؤادك، علك تجد من غرامه ما يدعوك إلى الامتثال.
واعلم أنك إذا رضيت أن تكون عبدا لي أكون أمة لك.
وشروطي هي أن لا تبحث كي تعرف من أنا، وأن لا تذكر اسمي أمام أحد من الناس.
ومن شروطي أنك مهما رأيت من الغرائب في منزلي لا تحاول اكتشاف أسرارها، وتنظر إليها نظرك إلى الأمور العادية المألوفة.
هذه هي شروطي، وإذا راق لك الخضوع لها فاحضر في الساعة العاشرة من مساء اليوم إلى نفس المكان الذي أتيت إليه أمس؛ تجد تلك المرأة نفسها تنتظرك في مركبتها وتحملك إلي.
إذن الوداع أو إلى اللقاء، ولك الخيار.
روميا
فقلت في نفسي حين قرأت الكتاب: إني ذاهب دون شك؛ لأن جمال هذه المرأة لا يزال ضاغطا علي، وفوق ذلك فقد ذكرت ذلك الباب الذي فتح وذلك الخيال الذي ظهر منه ونظر إلي تلك النظرات، فهاج مني حب الاستطلاع وقلت: لا بد لي من الذهاب.
30
وفي المساء، ذهبت إلى الملتقى فرأيت المرأة نفسها في المركبة، فعصبت عيني كما فعلت في الليلة السابقة، وسارت بنا المركبة في الطريق التي سارت فيها ليلة أمس.
وجعلت أفتكر والمركبة سائرة بنا في أمر هذه المرأة، فقلت في نفسي: إنها تريد أن تحبني بشرط أن لا أحاول الوقوف على أسرارها، وهو شرط عادل؛ لأن لكل إنسان حقا بصيانة أسراره، ولماذا لا أطيعها؟
وكنت وأنا أفكر هذا التفكير مخلصا لها، عازما عزما أكيدا على الوفاء بوعدي وأن لا أتعرض لشيء من أسرارها.
ثم وقفت المركبة وأخذت المرأة المبرقعة بيدي وأدخلتني إلى ذلك المنزل السري.
وقد حدث كل شيء كما حدث في الليلة السابقة؛ فإني دخلت إلى الغرفة ورأيت النور من خلال العصابة، وأمرت بنزع العصابة عن عيني، فلما نزعتها وجدت نفسي منفردا في نفس الغرفة التي كنت فيها أمس.
وقد وجدت الآنيتين في موضعهما، ودنوت منهما، وجعلت أفحص الأزهار فحص الخبير، وعلمت أن كل نوع منها خاص للتنويم.
وكنت أعرف هذه الأزهار من بلادنا، وعلمت أن رائحتها إذا دخلت إلى الرئتين لا يستطيع من يشمها مقاومة النوم مهما بذل من الجهد.
غير أني علمت أن لهذه الأزهار دواء خاصا إذا شربه من يشمها أبطل تأثيرها.
ولكن أين لي أن أستحضر الدواء وأنا في الغرفة شبه سجين، فقلت: لا بد من الصبر إلى الغد لاكتشاف تلك الأسرار.
وأقمت في الغرفة وحدي عشر دقائق ثم أقبلت روميا، فتمثلت لعيني أجمل مما رأيتها أمس، وكان لي معها ما كان في تلك الليلة؛ لأن الدوار جعل يتولاني شيئا فشيئا من رائحة الأزهار، وطرت من عالم الحقائق إلى عالم الأحلام، ورأيت ذلك الخيال الذي برز لي أمس.
غير أني في هذه المرة سمعت الخيال يتكلم، ولا أدري إذا كان ذلك لأن الأزهار لم تؤثر تأثيرها أمس، أو أن الخيال جاء حقيقة، أو إذا كان ذلك مما مثلته لي سكرة الأزهار.
أما ما سمعته، فهو أن الخيال دنا من روميا وقال لها بصوت يتهدج: إن قلبك لا يعرف الرحمة والإشفاق.
فكان جواب البستانية الحسناء أن ضحكت ضحك الهازئ.
أما الخيال فقد سمعت وأنا مطبق العينين أنه ركع أمامها وقال لها: لكنك تعلمين أني أحبك.
ولم تجبه، بل إنها ضحكت ضحكا عاليا.
ولم يكن قد بقي لي من حواسي غير حاسة السمع، فسمعت الخيال يقول: ألا يكفيك أنك تصدين غرامي؟ فما بالك تقطعين قلبي بالغيرة وتعطفين على هذا الرجل أمامي؟ إنك لست من النساء، بل أنت حيوان مفترس.
وعادت روميا إلى الضحك دون أن تجيب.
أما أنا فإني بذلت كل ما في وسعي من الجهد كي أفتح عيني، فذهب جهدي عبثا، وبدأ الطنين في أذني فلم أعد أسمع غير أصوات متقطعة من الخيال تدل على يأسه، وأصوات ضحك المرأة وهزئها بهذا الرجل المنكود.
ثم تغلب علي النوم، فلما استيقظت وجدت نفسي على مقعد خشبي في حديقة الشانزليزيه، ورأيت في جيبي رسالة موجزة كتب فيها ما يأتي:
إلى اللقاء في هذا المساء في نفس الساعة والمكان. أحبك.
روميا
وعدت إلى الفندق وقلت في نفسي: سأعرف هذه الليلة كل شيء.
ولقد تقدم لي الكلام أني عرفت سر تلك الأزهار، وأني أعرف الدواء الذي يبطل تأثيرها.
فاستحضرت هذا الدواء وعزمت على الذهاب إلى تلك الحسناء لوثوقي من كشف أسرارها.
ولما حانت الساعة المعينة ذهبت إلى ما وراء كنيسة مدلين، وركبت المركبة مع المرأة المبرقعة التي كانت تنتظرني، وذهبت معها إلى روميا.
وهناك رفعت العصابة فلم أجد أحدا، ووقفت عند الأزهار أراقبها.
وقد لقيت في الآنيتين أزهارا هندية، ولكنها كانت غير الأزهار التي عرفتها أمس واستحضرت الدواء الخاص لإبطال تأثيرها، فأيقنت أن لا فائدة من هذا الدواء، وأن هذه المرأة الهائلة قد رأتني أمس أراقب أزهارها فتوقعت ما فعلته واستبدلتها بسواها.
31
ولم يخطر الدواء ببالي، ولم أكن أريد استعمال العنف معها حذرا من العواقب؛ لأني ما أتيت باريس لمثل هذه الشئون.
ثم خطر لي أن لهذه المرأة مطلق الحق بكتمان أسرارها، لا سيما وأنها اشترطت علي أن لا أتعرض لها، ورضيت بشروطها، فإذا حنثت بعهودي أكون من الخائنين.
غير أن هذا الخيال الغريب ومظاهر يأسه وسائر أحواله قد أثرت علي تأثيرا شديدا، وهاجت بي عواطف الفضول فتغلبت على عهودي.
وكنت واثقا أن الزهور الجديدة التي وضعتها روميا في الآنيتين ستؤثر بي نفس تأثير الزهور السابقة، وأنه لا سبيل إلى اتقاء تأثيرها، ولا بد لي من النوم كما نمت من قبل.
فتأملت هنيهة ووضعت خطة للاستطلاع رأيتها ميسورة، وذلك أني رأيت وراء الآنيتين ستائر من الحرير، ووراء الستائر نافذة من زجاج.
فأزحت الستائر وقطعت الزجاج بخاتم من الماس، ووضعت القطعة التي كسرتها على الأرض برشاقة واعتناء، فنفذ الهواء إلى الغرفة، والهواء الطلق خير واق من تلك الأزهار.
ثم أعدت الستائر إلى ما كانت عليه إخفاء للثقب، وعدت إلى مكاني أنتظر عودة تلك الحسناء.
وبعد حين، فتح الباب ودخلت، ولكنها لم تكن تبتسم حسب عادتها، بل كنت أرى النار تتوقد في عينيها.
ومع ذلك فإنها جلست بقربي وقالت لي ببرود: إنك يا سير أرثر كولدري رجل سافل دنيء.
فوقفت عند هذه الإهانة كأني قد تكهربت وقلت: سيدتي، ماذا تقولين؟ - أقول: إنك رجل سافل؛ لأنك نكثت بعهودك ولم تف بما تقيدت به من العهود.
فجعلت أنظر إليها نظرات الذهول دون أن أجيب.
أما هي فإنها استأنفت الحديث وقالت لي بلهجة ذكرتني هزءها بالخيال: إنك أردت أن تعرف ما منعتك عنه من أسراري. - نعم. - ولذلك كسرت زجاج النافذة كي يدخل الهواء الطلق إلى الغرفة فيمنع تأثير الأزهار ولا تنام؛ بحيث تستطيع أن ترى الخيال. أليس كذلك؟
ثم ضحكت ضحكا مغتصبا دل على مبلغ انفعالها وقالت: بلى، إنك سوف تنظر ما تريد أن تنظر، ولكنك لا تنظر شيئا بعده.
فقلت في نفسي: إن هذه المرأة تؤنبني أشد تأنيب، ولكن لا سبيل إلى اعتراضها؛ فإنها مصيبة، وإنما الذنب علي لنكثي عهودي.
وعادت روميا إلى الحديث فقالت: إنك تريد أن تعرف، يا سير أرثر، هذا الرجل الذي أعذبه وأصليه نار حقدي وانتقامي. إذن اعلم أن هذا الرجل يحبني، وأنه قتل من أجل حبه لي الرجل الذي كنت أهواه. ألعلك راض الآن عن هذا الإقرار؟
فخجلت لفضولي، وعلمت إساءتي إلى هذه المرأة فقلت لها: أسألك العفو يا سيدتي فلا أعود إلى الفضول بعد الآن.
فقاطعتني وهي تضحك ضحك الساخر وقالت: إنك تكلمني عن المستقبل كأن المستقبل لك، ولكن هيهات؛ لقد فات الأوان.
ثم قرعت جرسا كان أمامها وقالت لي وأنا أنظر إليها مبهوتا: إني لا أحب يا حضرة السير أرثر أن تفشي أسراري؛ ولذلك حكمت عليك بالموت.
ولم تكد تتم كلامها حتى فتح الباب ودخل منه رجلان وانقضا علي.
وإني أعهد نفسي قادرا على مقاومة اثنين، غير أن هجومهما علي كان فجأة دون انتظار؛ فلم أتمكن من الدفاع، وألقياني على الأرض قبل أن أراهما.
وعند ذلك قالت لهما روميا بملء البرود: تعلمان أني لا أحب الدماء، اخنقاه خنقا.
فأخذ أحد الرجلين العصابة التي عصبت بها المرأة عيني في الطريق ولفها على عنقي.
ولكن قبل أن يضغط على عنقي التقت عيني بعينيه، وصاح كلانا صيحة واحدة.
فقلت: هذا أنت يا ناجلي؟ - من أرى؟ أأنت الرئيس؟
ثم نهض عني لفوره وقال لرفيقه: قم عنه؛ هذا هو الرئيس.
فنهض الرجل منذعرا، وجعل الاثنان يفكان قيودي.
أما روميا فإنها بهتت ونظرت إلى الرجلين وقد وقفا أمامي وقفة الاحترام فاضطربت وقالت: ويحكما أيها الشقيان؛ ماذا تفعلان؟
فقال لها ناجلي: إنه الرئيس!
ثم نظر إلي وقال: أتريد أن أقتل هذه المرأة؟
فاتقدت عيناي عند ذلك ولم أعد ذلك الشريف الإنكليزي الخامل، بل صرت الرئيس الهائل، فنفذت نظراتي النارية كالسهام إلى الهندي وروميا، وطأطأ كلاهما الرأس يسألان العفو.
32
وهنا اختلف مقامنا، وصارت العبدة وصرت السيد.
أما ناجلي فإنه بعد أن التمس مني العفو جرد خنجره وركع أمامي فقال: أيجب أن أقتل هذه المرأة؟ - كلا، اذهب الآن، وإذا احتجت إليك ناديتك.
وخرج ناجلي مع رفيقه وبقيت مختليا مع روميا.
وكانت روميا تضطرب لنظراتي اضطراب الحمامة لنظرات البازي، وتتوقع صدور حكمي، ولعلها أول مرة في حياتها لقيت مثل هذا الخوف، فوضعت يدي على كتفها وقلت لها: من حسبت أني أكون؟
فنظرت إلي مضطربة وقالت بصوت يتهدج: لا أعلم من أنت، ولكني ما خضعت لنظرات رجل في حياتي كما أخضع الآن لنظراتك السحرية.
فابتسمت وقلت: كيف استخدمت هذين الرجلين؟ - جئت بهما من الهند. - ألعلك ذهبت إلى الهند؟ - نعم. - متى؟ - منذ خمسة أعوام. - ما كان غرضك من الذهاب إليها؟ - معرفة طبائع الزهور السامة ودرس السموم على اختلافها. - ولماذا التعذيب لهذا الرجل الذي لقيته عندك في الليلة الماضية؟ - نعم؟ ليس لي على سؤالك من جواب. - إذن تكلمي فإني أريد أن أعرف كل شيء.
وكانت واقفة أمامي مطرقة الرأس يدل اصفرار وجهها على ما لقيته من الخوف.
ثم ظهر أنها قد تغلبت على خوفها؛ فإنها تجاسرت على النظر إلي وقالت: من أنت أيها الرجل الذي يركع أمامك رجلان كنت أحسب أنهما يؤثران الموت على عصياني؟ - لست إنكليزيا، بل أنا هندي واسمي نادر.
ورأيت أن اسمي لم يؤثر عليها فقلت لها: سلي عني ناجلي يخبرك من أنا!
ثم ذهبت إلى النافذة التي كسرت زجاجها ففتحتها وجعلت أستنشق الهواء الطلق.
وكانت النافذة تشرف على حديقة فقلت: أين أنا؟ - أنت في منزلك.
وكانت نبرات صوتها حين قالت هذا القول تدل على الإخلاص الأكيد، والحب الصادق، ولعلها قدرت نفوذي وسلطاني عليها فتولدت في نفسها عواطف الخضوع والحب والاحترام لي، وهي عواطف قد تنطبع في نفس المغلوب إزاء الغالب.
أما أنا فقلت لها بجفاء: إني أريد الخروج من هنا.
فنظرت إلي نظرة كشفت لي خبايا نفسها وقالت: كن من تشاء من الناس ومر بما تشاء فأمتثل، فإني غدوت أمة لك. - إنك أردت لي الموت؛ فلا أحبك بعد الآن. - ولكن إخلاصي سيشفع بجريمتي، وسأتبعك إلى حيث تريد كما يتبع الكلب الأمين مولاه.
فقلت لها بلهجة الآمر: كلا، بل أريد أن أخرج من هنا.
فتنهدت تنهدا طويلا، ورأيت الدمع يتساقط من عينيها، ولكني تركتها ومشيت إلى الباب وناديت ناجلي.
وأسرع إلى تلبيتي فقلت له: سر بي إلى خارج البيت.
والتفت قبل ذهابي فرأيت روميا جاثية وهي تنظر إلي، ولكني لم أحفل بها وخرجت من البيت يتقدمني ناجلي.
ولما وصلنا إلى الشارع قلت له: عد إلى البيت وابق في خدمة هذه المرأة. - إذن ألا تريد أن أقتلها؟ - كلا! وانصرفت.
وكان البيت الذي أدخلت إليه معصوب العينين كائنا في الشانزليزيه كما رأيت عند خروجي منه.
وعرفت الطريق، وعدت توا إلى فندق موريس الذي كنت مقيما فيه، وشعرت أني قد أخطأت مع هذه المرأة وأسأت إليها؛ فإن الانتقام حق مقدس، ومن الظلم أن أحمي ذلك الرجل الذي قتل حبيبها، فأقسمت على أن أعود إلى هذه المرأة ولا أتداخل بشأن من شئونها.
وقد توهمت أن حبها زال من قلبي بعد أن أرادت قتلي، ولكني كنت مخطئا في هذا الوهم؛ فإني أصبحت في اليوم التالي وأنا أشد بها افتتانا من قبل.
ولكني تجلدت ونازعت نفسي ثلاثة أيام فما ذهبت إليها ولا حاولت أن أراها.
وفي اليوم الرابع، رأيت باب غرفتي قد فتح في الصباح ودخلت منه تلك البستانية الحسناء.
وهنا توقف نادر عن إتمام قصته مع روميا وقال لروكامبول: سأتم لك قص هذه الحكاية وسأخبرك بما أريده منك اليوم الذي نسافر فيه إلى أوروبا.
أما الآن، فقد تقدم الليل، وأنت محتاج إلى الراحة لا سيما ونحن في حاجة إلى التفكير بطريقة نقل كنوز الرجاه غدا.
ثم نادى أحد خدمه وأمره أن يذهب به إلى الغرفة التي عينها لمبيته.
وفي مساء اليوم التالي جاء نادر وقال: كل شيء قد تهيأ؛ فهلم بنا.
وكان قد تأهب في النهار واتخذ ما ينبغي من التدابير؛ فإن روكامبول رأى رجلا لم يعرفه قد زاره في منزله، ولكنه علم أن هذا الرجل الذي كان متنكرا بزي الإنكليز لم يكن منهم، بل كان من الهنود.
وقد علم أنه من أعوان نادر السريين، وأن نادرا أصدر إليه أوامر سرية بشأن كنز الرجاه.
وخرج نادر وروكامبول من المنزل، فلما كانا في الطريق قال نادر: إني أعددت سفينة في الحوض لنقل الأموال إليها من السرداب السري.
ويوجد في هذه السفينة اثنا عشر هنديا من المخلصين في خدمتي، فمتى نقلت الأموال إلى هذه السفينة تخرج بها من الحوض إلى السفينة الكبرى التي أعددتها للسفر بالأموال إلى أوروبا.
فاستحسن روكامبول الخطة، واجتاز الاثنان المدينة البيضاء إلى المدينة السوداء حتى انتهيا إلى تلك الخمارة التي غير فيها نادر زيه.
فدخل نادر إليها وخرج منها بعد حين بملابس الهنود، فسار الاثنان إلى المعبد حيث كان ينتظرهما الكاهن كوريب.
ولما بلغا منتصف الطريق صفر نادر بفمه صفيرا خاصا.
وكان هناك رجل هندي نائما على الأرض، فوقف عندما سمع الصفير وأسرع إلى نادر، فرآه روكامبول وعرف أنه هو ذلك الرجل الذي زار نادر في منزله وهو متنكر بملابس الإنكليز.
أما نادر فإنه قال له: ليذهب رجالك توا إلى المعبد.
فانحنى الهندي إشارة إلى الامتثال وتوارى في الظلمات.
وبعد حين وصل الاثنان إلى المعبد، فوقف نادر وقفة الحائر وقال لروكامبول: أرى المصباح مطفئا في المعبد.
فقال له روكامبول: أي مصباح تعني؟ - المصباح الذي يجب أن يضاء ليلا ونهارا في المعبد؛ فإن أشعته تنفذ عادة من خلال النوافذ، ولكني لا أرى شيئا.
وقد ظهرت على نادر علائم القلق، فنادى الكاهن كوريب من الخارج مرارا فلم يجب.
وكان لديه مفتاح للمعبد ففتحه ودخل مع روكامبول، فلم ير غير ظلمات، وجعل ينادي كوريب فلم يجبه غير الصدى.
وعند ذلك أنار مصباحا ومشى به إلى وسط المعبد حيث كان باب السرداب السري، فأجفل وصاح صيحة يأس وقال: يا للخيانة!
ذلك أنه رأى ذلك الباب السري الذي ينفذ منه إلى باب قبو الكنز مفتوحا، فما شك بعد أن رأى انطفاء المصباح المقدس أن الخيانة حدثت لا محالة.
فقال لروكامبول: هلم معي، فلا حاجة إلى التأمل. ثم نزل أمامه إلى السرداب وبيده مصباح وخلفه روكامبول، فسارا في السرداب الذي تقدم وصفه حتى وصلا إلى باب القبو الحديدي، فتنهدا تنهد المنفرج لأنهما رأيا الباب مقفلا.
غير أن نادرا أدنى مصباحه من الأرض وجعل يفحص التراب، فصاح صيحة منكرة وعاد إلى الوثوق من الخيانة وسرقة الكنز. - ماذا رأيت في الأرض؟ - رأيت أثر أقدام.
فأخذ روكامبول المصباح منه، وفحص تلك الآثار فحص العارف الخبير، فتبين له أنها كانت غارقة في التراب؛ مما يدل على أن أصحابها كانوا يحملون أحمالا ثقيلة فتنغرس أقدامهم في الأرض لثقل الوطأة.
ومع ذلك فإن الباب كان مقفلا، فخطر لنادر أن يمتحن امتحانا آخر لا يبقى بعده مجال للشك، وقد ذكر أن الكاهن كوريب قد أدار لولبا في الجدار من الخارج فسقط المزلاج وفتح الباب.
وجعل يبحث عن اللولب مدة طويلة حتى عثر به وأداره وفتح باب القبو على الفور.
ودخل نادر وروكامبول إلى القبو المخبوء فيه الكنز، ولكنهما ما لبثا أن دخلا حتى تراجعا منذعرين واجفين؛ وذلك أنهما لم يجدا أثرا لكنز الرجاه عثمان.
33
وبعد أن ثابا من دهشتهما الأولى جعل كل منهما ينظر إلى الآخر نظر الحائر المضطرب؛ فإن القبو لم يبق فيه شيء على الإطلاق من أثر الكنز.
فقال روكامبول: من تظنه سرق الكنز؟ - إني واثق من وفاء الكاهن كوريب؛ فإن الخيانة لا تخطر له في بال، وإن هذا الكاهن قد احتجب، فكيف تمكنوا من الوقوف على سره؟ إن هذا من المشكلات التي يعسر حلها، ولا يتيسر لي إدراكها إلا متى علمت ماذا جرى له.
وكان باب القبو المؤدي إلى بيت الشيخ حسن مقفلا، وهو من الحديد الضخم فلا سبيل إلى فتحه أو كسره؛ ولذلك رجع الاثنان على عقبيهما في السرداب، وبعد نصف ساعة وصلا المعبد.
فجعل نادر يبحث ومصباحه بيده في جميع أنحاء المعبد عن الكاهن كوريب فلم يجده.
ولما علم أنه لا فائدة من البحث خرج مع روكامبول من المعبد وهو مضطرب البال لاختفاء كوريب والخياط؛ إذ كان أمره بوضعه في المعبد.
وكان هذا المعبد مبنيا في مكان معتزل لا يجاوره غير بعض بيوت معظم سكانها من المسلمين، وهم لا يكترثون لعبادة سيوا ولا يهتمون بأبنائه.
فدنا نادر من البيت المقابل للمعبد وطرق بابه، ففتح له رجل بيضت شعره السنون وسأله عما يريد.
فقال له نادر: بأي دين تدين؟ - إني أؤمن بالله واليوم الأخير. - ألعلك تعرف الكاهن كوريب؟
فابتسم الشيخ وقال: إني أعرفه منذ خمسة وعشرين عاما، وفي كل يوم نلتقي. - أتعرف أين هو؟ - إني رأيته اليوم آخر مرة عند غروب الشمس، وقد دخل إلى المعبد مع شيخ عرفته، وهو الشيخ حسن الخياط، ثم رأيته خرج وحده. - وحسن، أبقي في المعبد؟ - نعم. - وكوريب، ألم تعلم عنه شيئا؟ - كلا، ولكني رأيته حين خرج من المعبد كثير الاضطراب.
فنظر نادر إلى روكامبول قائلا: لقد كان اضطراب الكاهن لفقده العلامة، وكان في ذلك الحين قادما إلي.
ثم عاد إلى محادثة الشيخ فسأله: ألم تر أحدا دخل إلى المعبد؟ - بلى، قد رأيت في الساعة العاشرة من المساء كثيرين من عباد سيوا دخلوا إليه، وبعد أن دخلوا أقفلوا الأبواب، ثم أطفئوا المصباح. - أتذكر كم أقاموا في المعبد؟
فانذهل الشيخ وقال: إنهم لا يزالون فيه. - كيف ذلك؟ ألم ترهم خرجوا منه؟ - كلا.
فقال نادر لروكامبول: إن الأمر غريب، ولكني عرفت الحقيقة فيما أظن. - كيف ذلك؟ - ذلك أنهم دخلوا من المعبد وخرجوا من السرداب. - نعم، ولكن جميع ذلك لا يهدينا إلى كوريب وحسن. - إن حسنا كان سكران، فقد يكونون حملوه على الأكتاف. - وكوريب؟ - سنهتدي إلى آثاره من بيت الشيخ حسن.
ثم تركا ذلك الشيخ وذهبا إلى بيت الخياط، وهناك وجدا تلك الفتاة التي أعطاها نادر مفتاح البيت وسألها عن المفتاح.
فقالت له: إني دفعته إلى رجل شيخ جاء يطلبه باسمك. - وماذا فعل؟ - إنه دخل إلى المنزل. - ألم تريه خرج منه؟ - كلا.
فزاد الإشكال وأعجم هذا السر على نادر، غير أن الفتاة قالت: لقد دخل في أثره كثير من الرجال.
فقال لها نادر: ومن هم هؤلاء الرجال؟ أعرفت أحدا منهم؟ - نعم، عرفت اثنين منهم، وهما اللذان كانا يتوليان قيادة الجنود الذين كبسوا بيت حسن في طلب الكنز وأخذوا غلامه.
فقال نادر لروكامبول: لقد ظهرت يد تريبورينو ولم يبق مجال للشك.
ثم قال للفتاة: وماذا جرى بعد ذلك؟ - إنهم طرقوا الباب ففتح لهم الشيخ فدخلوا، وبعد ساعة خرجوا من المنزل وساروا في طريق الترعة. - والشيخ؟ - لم أره بينهم، وهو في المنزل دون شك.
فتركا الفتاة وذهبا إلى منزل حسن وطرقا الباب، فلم يفتح لهما أحد، ولكنهما سمعا من ورائه صوتا يشبه غطيط النائم.
وكان نادر قوي العضل، شديد الأعصاب، فدفع الباب بكتفه دفعة قوية فانفتح، ودخل الاثنان إلى المنزل فوجدا الكاهن كوريب ملقى على الأرض، ووجدا بالقرب منه ذلك الكأس الذي وضع فيه نادر الشراب لحسن كي يحمله على الإقرار بسره بعد شربه.
وكان حسن قد شرب جرعة من ذلك المزيج وبقيت بقيته في الكأس.
فنظر نادر إلى الكأس فرآه فارغا، فعلم أن الكاهن عاد يبحث عن العلامة التي فقدها في منزل حسن، وكان ظمآن فشرب ما وجده في الكأس، ولما دخل أعوان الوزير الذين كانوا يراقبون المنزل كان الشراب قد أثر بالكاهن، فوقفوا منه على سره بهذا الاتفاق الغريب.
وقد تأثر نادر تأثرا شديدا مما أصابه من الفشل، ولكنه نظر إلى روكامبول وقال: إن الأمر لا يدعو إلى القنوط، وإذا لم يكن الوزير قد برح الهند فلا بد لنا من استرجاع الكنز.
34
وكان روكامبول قد بات شديد الثقة بنادر منذ أنقذه من براثن الفهد، ولم يكن نادر يفارقه بعد ذلك العهد حذرا عليه من بطش الوزير؛ فإنه كان كثير الدلال على حكومة الإنكليز.
فلما خرجا من منزل الخياط وكلاهما مضطرب الخاطر قال له نادر: أتعرف، يا روكامبول، شوارع كلكوتا؟ - حق العرفان. - إذن اذهب إلى منزلي في المدينة البيضاء. - وأنت؟
فابتسم نادر قائلا: أما أنا فلدي مهمة يجب قضاؤها.
ثم استطرد قائلا: لقد قلت لك من قبل إني لا أفارقك لشدة الخطر عليك، أما الآن فلم أعد أخشى عليك شيئا من الأخطار. - كيف ذلك؟ - ذلك لأن الوزير كان يريد قتلك من قبل لخوفه من تأثير نفوذك عند الرجاه، فلما مات الرجاه بات يريد الخلاص منك كي تنطلق يده في البحث عن الكنز، وهو الآن قد ظفر بهذه الأموال فلم تعد تخطر له في بال. - أتظنه لا يهتم بي؟ - دون شك؛ إذ لديه مهمات خطيرة تشغله عنك، وأنت تعلم أن هذا الرجل يحاول منذ عهد بعيد أن يخلع زي الهنود ويعود إلى أوروبا، فيضم إلى الأموال التي غنمها من الهند الكنز الذي اختلسه، ويعيش برخاء يحسده عليه الملوك. وأهم شاغل يشغله الآن نقل أموال الرجاه إلى إحدى البواخر؛ فهو لا يفتكر بك بعد هذا الشاغل، ولذلك أسألك أن تذهب إلى منزلي تنتظرني فيه. - ولكن أنت إلى أين تذهب؟ - إني ذاهب لاقتفاء أثر تريبورينو، وخير لي أن أكون وحدي؛ فإن لي كثيرا من المخلصين بين الهنود إذا رأوك معي امتنعوا عن الإباحة لي أمامك بما يعلمون.
ثم أخذ كيسه من جيبه فأخرج منه قطعة ذهب مكسورة وأعطاه إياها وقال له: إذا أظهرت هذه القطعة إلى خدمي في منزلي أطاعوك في كل ما تريده كما يطيعونني.
وبعد أن أعطاه القطعة تركه وانصرف، فوقف روكامبول ينظر إليه وهو يبتعد عنه.
ولم يبتعد بضع خطوات حتى رآه وقف وصفق بيديه ثلاث مرات، فأسرع إليه هنديان كانا نائمين على طريق عند باب أحد البيوت.
فتبادل وإياهم كلمات لم تصل إلى مسامع روكامبول، ثم ذهب الثلاثة، فبقي روكامبول ينظر إليهم حتى تواروا عن أبصاره، فذهب إلى المدينة البيضاء وهو مشتغل البال على الكنز، ولكنه كان يرجو أن يظفر نادر به؛ لما رآه من اهتمامه، ولما علمه من مبلغ نفوذه بين قومه.
وبعد ساعة، وصل إلى بيت نادر وطرق بابه، ولما فتح له الخادم أراه القطعة الذهبية، ففعلت به فعل السحر، واتصل خبرها بجميع الخدم فوقفوا بين يديه وقفة الاحترام وقالوا له: مر نطع؛ فإننا نخدمك كما نخدم سيدنا في هذا البيت.
وأقام روكامبول في بيت نادر يومين لم يعلم عنه شيئا حتى بدأ يخاف عليه، ولكن خوفه لم يتجسم؛ فإنه بينما كان جالسا في غرفة نومه يضرب أخماسا بأسداس إذ فتح باب سري في تلك الغرفة ودخل منه نادر وهو بملابس الهنود، فكان أول ما قاله: إننا وجدنا ما نبحث عنه.
فظهرت علائم البشر على محيا روكامبول وقال: أوجدت الكنز؟ - وجدت الكنز والغلام ولم يبق لنا غير الاستيلاء عليهما.
ثم أخذ نادر بيده وقال له: هلم معي.
وخرج وإياه من الباب السري الذي دخل منه إلى الغرفة.
35
وخرج نادر وروكامبول من سرداب مظلم ضيق انتهيا منه إلى سلم يؤدي إلى الحديقة، فقال له نادر: إني لم أتمكن من تغيير ملابسي الهندية، فاضطررت إلى الدخول بها من هذا الباب السري كي لا يعلم خدم منزلي حقيقة أمري؛ فإنهم يعتقدون أني من الإنكليز ولا يعرفون سر هذا السرداب.
ولما وصلا إلى الحديقة اجتازاها إلى باب كان مفتاحه مع نادر، ففتحه وخرج الاثنان إلى الشارع، وهناك وقف نادر وقال: إن تريبورينو يسافر غدا.
فارتعش روكامبول ارتعاشا بدت علائمه على وجهه، فقال له نادر: أتذكر حين دخلنا قبو الشيخ حسن إلى السرداب المؤدي إلى المعبد أننا رأينا طريقين مختلفين؟ - نعم. - إن الطريق الذي لم نسلكه يؤدي إلى الحوض، وينتهي بثقب ينفذ منه إلى الماء، وقد أخرج تريبورينو أموال الرجاه عثمان من ذلك الثقب. - وأين هي الآن هذه الأموال؟ - إنها باتت في سفينة تجارية تشتغل بالتهريب منذ عهد بعيد ولها عنبران. - وهي ستسافر غدا بالكنز؟
فابتسم نادر وأجاب: نعم، ولكن من اليوم إلى الغد يحدث كثير من الأمور، فاتبعني وسوف ترى.
ثم ذهب الاثنان إلى المدينة السوداء وسارا إلى تلك الخمارة التي يغير فيها نادر أزياءه، ودخلا إليها.
وهناك أصدر نادر بعض أوامر سرية، فأخذ صاحب الخمارة بيد روكامبول وذهب به إلى غرفة مظلمة، فوجد بها ثيابا خاصة ببحارة أهالي ملقا.
وكان يعلم أن البحارة الملقيين يؤثرون على البحارة الهنديين لاشتهارهم بالقوة والدربة، ولكن لون روكامبول كان ناصع البياض خلافا لسكان تلك الجزيرة.
غير أن صاحب الخمارة أحضر وعاء من النحاس كان فيه سائل أسود، وأشار إليه أن يخلع ثيابه، ففعل، حتى إذا أصبح عاريا أخذ إسفنجة وجعل يغمسها بالسائل ويطلي بها جسمه، فأصبحت بشرته لامعة كلون النحاس، بحيث لم يعد يختلف لونه في شيء عن لون أهل ملقا.
وبعد أن جف الطلاء لبس الثياب التي كانت معدة له، فتم الشبه، وذهب مع صاحب الخمارة إلى القاعة الكبرى فوجد فيها نحو ثلاثين بحارا كان بينهم ستة من الملقيين.
وجعل روكامبول ينظر بين أولئك البحارة باحثا عن نادر فلم يجده، لكنه سمع أحد الملقيين يضحك ضحكا عاليا وهو ينظر إليه، فارتعش وعلم أنه نادر، وأنه تنكر مثل تنكره.
ثم ذهب إليه وجلس بقربه، فهمس نادر في أذنه قائلا: ألعلك منذهل مما تراه؟ - دون شك؛ فإني لا أعلم سبب هذا التنكر. - إنك ستعرفه بكلمتين، فإن بحارة السفينة التي يسافر فيها تريبورينو لم يتم عددهم. - أتظن أنهم يختاروننا؟ - دون شك؛ فإن ربان هذه السفينة إنكليزي قديم العهد في مهنته، ولكنه شديد البخل، فهو يختار البحارة الملقيين لرخص أجورهم، ولإيثارهم على الهنود في مهنة البحار. - ألعله هو الذي سيختارنا؟ - نعم، سيحضر قريبا إلى هذه الخمارة، ورجائي أن يختارنا جميعنا. - من تعني بجميعنا؟ - جميع هؤلاء الملقيين؛ فإنهم من رجالي الأمناء المخلصين، وهم متنكرون مثلنا. - لقد فهمت كل شيء.
وقبل أن يجيبه نادر فتح باب الخمارة ودخل منه الربان الإنكليزي فوقف له جميع البحارة.
36
وكان هذا الربان يدعى جون هابر، وهو قصير القامة، ممتلئ الجسم، شديد القوة، وكان عنقه ضخما قصيرا يشبه عنق الثور بغلظته، وله لحية كبيرة حمراء، وجبهة ضيقة، ونظرات حادة تدل على الشراسة.
وكانت جميع ملامحه تدل على الإرادة الثابتة، فلما دخل إلى القاعة وضع يديه وراء ظهره، وجعل يخطر في القاعة ذهابا وإيابا وهو يفحص أولئك البحارة كمن يفحص سلعا يشتريها، فما استوقف بصره غير الملقيين، وجعل يعدهم واحدا واحدا على أصابعه.
فهمس نادر في أذن روكامبول قائلا: إذا أخذنا جميعنا كانت لنا السيادة في السفينة.
غير أن نادرا أخطأ في حسابه كما سترى.
أما الربان فإن نادرا كان أول من استلفت نظره من الملقيين، فمشى إليه وسأله بلغة الجزائر الهندية: أأنت حر؟ - نعم. - كم تطلب أجرة عن خدمة عام؟ - ثمانمائة غرش.
فهز الربان كتفيه ونظر إلى روكامبول فقال له: وأنت؟
فأدركه نادر قبل أن يجيب وقال للربان: إن هذا أخي، وإننا لا نسافر إلا إذا كنا سوية كما تعودنا.
فسأله الربان: إذن أدفع لكما ألفا ومائتي غرش.
فرفض نادر لاعتقاده أن رفضه يزيد الربان تمسكا به.
فأجابه الربان: إذن أعطيكما ألفا وثلاثمئة وخمسين ولا أزيد على ذلك غرشا، فأنتما مخيران.
ونظر نادر إلى روكامبول ليوهم الربان أنهما يتشاوران، ثم أجابه: إننا نرضى بألف وأربعمائة، فإن شئت دخلنا في خدمتك، ونحن من خير البحارة.
فشتم الربان شتما قبيحا وقال: إن هؤلاء الكلاب الملقيين يطمعون أن تكون رواتبهم كرواتب السفراء، ثم تنهد تنهدا طويلا وقال: لا بأس؛ فقد رضيت بهذه الأجرة.
ثم تركهما وعاد إلى فحص بقية الملقيين وجميعهم هنود متنكرون من أتباع نادر.
وكانوا ستة، لكنه لم ينتخب منهم غير اثنين، ولعله لم يكن محتاجا إلى أكثر من أربعة.
فقال نادر: إننا سنغدو أربعة، وهو عدد قليل بإزاء بحارة السفينة.
فسأله روكامبول: ألا نسافر الآن؟ - بلى، نسافر دون شك. - وبعد ذلك؟ - نستولي على السفينة فنلقي تريبورينو في البحر ونذهب بكنز الرجاه وابنه إلى أوروبا. - نعم، فإني أريد أن أرى البستانية الحسناء، وقد كتبت إليها عن قدومي.
وقد اتقدت عيناه حين ذكر اسم روميا، فلم يعلم روكامبول شيئا من قصده ؛ لأن نادرا لم يذكر له غير طرف من حكايته مع روميا.
وبعد أن أتم الربان اختياره أمر صاحب الخمارة أن يحضر له زجاجة من الشراب، ثم دعا بإشارة منه نادرا وروكامبول والبحريين الآخرين اللذين اختارهما فشاركهم في شرابه.
ثم أخرج من جيوبه عهودا مطبوعة، فكتب في كل عهد منها اسم البحري المسافر، ومقدار الأجرة، والمدة المتفق عليها، فكتب كل منهم توقيعه تحت الشروط وتم الاتفاق.
ولما تم التوقيع دفع لكل منهم أجرة ثلاثة أشهر مقدما حسب العوائد المألوفة، وأقاموا يشربون حتى فرغت الزجاجة، فقال لهم: لقد آن أوان الرحيل؛ فهلموا بنا إلى السفينة.
وتنغص نادر إذ حسب أنهم سيكونون أربعة في السفينة، وأن بحارتها الآخرين اثنا عشر.
غير أنه لم يقنط وقال لروكامبول: هلم بنا؛ فإن الواحد منا يعادل ستة، ورجائي معقود بالفوز.
ثم قاما فمشيا أمام الربان جون هابر، فكان يسوقهم أمامه سوق المواشي.
وبعد ساعة بلغا السفينة. •••
كانت الليلة التي أقلعت فيها السفينة الشراعية بالكنز حالكة الظلام.
وكانت هذه السفينة تدعى وست إنديا، وهي لربانها جون هابر، وقد برحت ميناء كلكوتا في الساعة السابعة، أي عند غروب الشمس.
وكان الربان قد أقام نادرا وروكامبول في محل واحد، ولكنهما لم يتمكنا من المحادثة إلا بعد ست ساعات من سفر السفينة، فكانا يتحدثان باللغة الفرنسية، ولا يوجد من يتكلم بهذه اللغة في السفينة غير ربانها وتريبورينو.
أما تريبورينو فقد كان آخر من صعد إلى السفينة، وقد رآه نادر وروكامبول حين صعوده إليها؛ فإذا به قد عاد إنكليزيا فتزيا بأزياء الإنكليز، وقص شعره على الطريقة الإفرنجية، فكان من يراه يحسب أنه من أشراف يورك أو لانكشير.
ولا يخطر لمن يراه أن هذا الرجل الشريف قد أنفق كل ليلته في الأمس على جمع تلك الأموال التي اختلسها ونقلها إلى السفينة.
وكانت السفينة تشحن أرزا وقهوة، فلم يعلم روكامبول إذا كان ربانها عالما بأن تلك الأكياس حشوها من الذهب، أو أنه كان متفقا مع الوزير على تهريب الكنز.
غير أن هذا الوزير القديم كان يظهر أنه السيد المطلق في السفينة، حتى إن جون هابر نفسه على فرط قحته وغلظته كان يخضع له ويقف أمامه وقفة الاحترام.
ولما خلا روكامبول بنادر قال له: لقد خشيت أن يكون تريبورينو قد عرفني. - متى؟ - حين استعرض البحارة. - لا تخش فلا يمكن أن يعرفك وأنت متنكر بهذا الزي الغريب، أما أنا فإنه يستحيل أن يعرفني؛ لأنه لم يرني قبل الآن.
وكانت سكينة نادر واطمئنانه يدهشان روكامبول، فسأله: إننا أربعة فقط في السفينة. - أعرف ذلك. - وإن سائر البحارة إنكليز، وهم أشداء يقاتلون جيدا. - لا بأس. - وفوق ذلك فإن الوزير يصحبه خادمان، فإذا أضيفوا إلى البحارة الإنكليز كانوا جميعهم خمسة عشر، وما نحن إلا أربعة.
فابتسم نادر دون أن يجيب.
فتابع: وفوق ذلك أيضا فإن جون هابر من أهل الثبات في أقواله وأعماله. - من يعلم؟
فخطر لروكامبول حينئذ أن نادرا يريد إغواء الربان وحمله على خيانة الوزير.
وكأنما نادر أدرك فكره فقال: كلا، إني لا أغوي هذا الرجل إلا إذا يئست من جميع الوسائل. - إذن على أي شيء تعتمد؟
فدنا نادر من جدار السفينة ومد يده إلى الجهة الغربية قائلا: انظر إلى آخر ما يمتد إليه بصرك من البحر، ألا ترى نورا يشبه نور النجم يضطرب فوق الأمواج؟ - نعم. - إنه ينبعث من قارب يسمونه باصطلاحكم: «جنك». - أهو قارب صيني؟ - نعم، ولكن الصينيين الذين فيه مثل الملقيين الذين في هذه السفينة.
فأشكل فهم قصده عليه، فسأله مستفسرا: بالله أوضح لي عن قصدك؛ فإني لم أفهم ماذا تقصد. - إننا حين خرجنا من الخمارة كتبت بسرعة كتابا أعطيته إلى أحد الملقيين الذين لم يخترهم الربان. - لمن أرسلت الكتاب؟ - لنائبي في زعامة أبناء سيوا، فقد أمرته أن يعد قاربا ويذهب به مع فريق من رجالنا لمطاردة هذه السفينة التي نسافر عليها. - أيجسر قارب صغير على مهاجمة هذه السفينة الكبيرة؟ - عند أول إشارة تصدر مني إليه. - ومتى يكون ذلك؟ - لا حاجة إلى العجلة؛ فإننا نستطيع الصبر يومين وثلاثة.
فدهش روكامبول وسأله : كيف يمكن لهذا القارب الصغير أن يدرك السفينة ويسير سيرها ثلاثة أيام؟ - ذلك لأنك تجهل سرعة هذه القوارب؛ فإنها تبنى بشكل خاص؛ إذ لا غرض منها إلا المطاردة، وهي تسبق أسرع السفن.
وعاد الأمل إلى روكامبول باسترجاع كنز الرجاه عثمان، وحاول أن يتم محادثته مع نادر، غير أن نادرا قاطعه قائلا له: كفى؛ فإن الربان قد حضر.
وعاد الاثنان إلى عملهما.
وصعد جون هابر إلى سطح السفينة يراقب سيرها وهو يبتسم ابتسام الرضى والارتياح.
37
ودنا الربان وتوكأ على جدار السفينة وجعل ينظر إلى الأفق قائلا: إن السماء صافية، والريح موافقة، فإذا استمرت على ما هي عليه الآن نصل إلى لفربول بعد خمسة أشهر.
وفيما هو ينظر إلى السماء بعين الرضى شعر بيد وضعت فوق كتفه، فالتفت ورأى تريبورينو، فأسرع إلى السلام عليه بملء الاحترام.
فسأله تريبورينو: إني أرى عليك علائم الارتياح؛ فهل الطقس موافق لسير السفينة؟ - كل الموافقة. - وإنك تحب أن تصل لندرا بأسرع ما يمكنك من الوقت، أليس كذلك؟
وتنهد الربان تنهدا طويلا وقال: إني بلغت من العمر خمسين عاما، وأنا أسير في الهند منذ 20 عاما، حتى مللت السفر. - أظن أن هذا السفر يكون آخر أسفارك؟ - وهذا الذي أرجوه. - ستجعل مركز إقامتك في لندرا؛ لأنك تقبض مني مائتي ألف ليرا إنكليزية، وهي ثروة طائلة تستطيع أن تعيش بها كما تريد في العاصمة.
فاحمر وجه القبطان حين سمع بهذه الثروة، وكاد يطيش صوابه حين علم أنه سيقبض 5 ملايين فرنك أجرة تهريب كنوز الرجاه.
ثم ثاب إلى رشده وتمتم قائلا: كلا، إني لا أقيم في لندرا. - إذن أين تقيم؟ - أقيم في بلدي في يونكشير، وأشتري أرضا متسعة في البلاد التي ولدت فيها، وأتزوج كاتي. - من هي كاتي؟ - هي فتاة حسناء من أهلي يبلغ عمرها الآن 26 عاما، فلا أكبر في عينيها ولا تصغر في عيني، ثم إني أبني كنيسة ومستشفى بفضل هذه الثروة؛ فإن صنع الجميل من خير ما تطيب به النفوس.
وكانا يتحدثان باللغة الفرنسية لاعتقادهما أن نادرا وروكامبول ملقيان، وأن الملقيين لا يعرفون اللغة الفرنسية.
وقد سمع روكامبول حديثهما فهمس في أذن نادر قائلا: لا تطمع بإغواء الربان. - لماذا؟ - لأن تريبورينو سيعطيه ثروة لم يحلم بها ولم يطمع أن يدركها بالتصور. - لقد أصبت، ولكن القارب لا يزال يطارد سفينتنا.
ثم جعل ينظر إلى القارب وهو في آخر ما يمتد إليه النظر إلى البحر.
أما الربان وتريبورينو فقد عادا إلى الحديث، فتابع تريبورينو: أأنت واثق من بحارة السفينة؟ - نعم، كما أثق بنفسي. - أأنت واثق أيضا أنه لا يوجد بين بحارتك من يعلم حقيقة ما تشحنه السفينة؟ - إنهم جميعهم يعتقدون أنها تشحن الأرز والقهوة، وفوق ذلك فليس بينهم من يعرف سر العنبر الداخلي غير اثنين لي بهم ملء الثقة، بحيث لا خطر على الكنز إلا من الغرق.
ولكني لا أخشى الغرق أيضا؛ فقد ألفت السير في هذه الطريق، وإن سفينتي من أشد السفن وأقواها على مصادمة الأمواج.
وفيما هو يتكلم نظر إلى النور الذي كان ينبعث من القارب فاضطرب وسأله: ما هذا؟
فنظر تريبورينو النور أيضا وقال: إنه منبعث من منارة دون شك. - كلا فلا يوجد منائر في هذه الجهة. - إذن فهو من سفينة في الطريق التي نسلكها. - قد يكون ذلك، ولكني أخافها.
فاضطرب الوزير قائلا: كيف تخافها؟ - لأني أخاف القرصان الصينيين.
ثم تركه مسرعا ونزل إلى غرفته، وعاد يحمل نظارته المكبرة، فما كاد ينظر بها إلى ذلك النور حتى صاح صيحة غضب: هذا ما كنت أخشاه. - ما هذا؟ - قارب صيني. - وكيف تخاف القوارب ولك مثل هذه السفينة الضخمة؟ - لأنها تحمل قرصانا، وسنضطر إلى استعمال هذين المدفعين الموجودين في سفينتنا.
فقطب الوزير حاجبيه ولم يجب.
فقال نادر لروكامبول: إني لو استطعت إطفاء نور القارب لفعلت؛ فإنهما رأياه قبل الأوان.
أما الوزير والربان فإنهما عادا إلى الحديث يتشاوران، وكان نادر وروكامبول مصغيين إليهما ولم تفتهما كلمة من ذلك الحديث.
38
وكان القارب يبعد نحو 3 أميال عن السفينة، غير أن الربان كان يرى جميع حركاته بمنظاره الكبير، فرأى أنه يسير في طريق السفينة، ويظهر خوفه للوزير.
أما تريبورينو فإنه أنكر عليه هذا الخوف وقال: كيف يجرؤ هذا القارب على مهاجمتنا؟ - إنك مخطئ يا سيدي؛ فإني لا أزال أذكر قاربا هاجمنا حين كنت ربانا ثانيا في سفينة تدعى ليفربول، وهي أكبر من سفينتنا. - ماذا جرى؟ - إنه هؤلاء القرصان لا يختلفون عن الأبالسة؛ فإن قاربهم يكون فيه على الغالب كثير من الرجال الأشداء، فإذا وصلوا إلى مرمى مدافع السفينة التي يطاردونها أنزلوا جميع ما لديهم من الفلائك الصغيرة إلى البحر، وينزل إليها ثلاثة أرباع البحارة، فيهربون من قذائف المدافع، ويحيطون بالسفينة من كل جهاتها دون أن تتمكن المدافع من إغراقها لسرعة حركاتها، واستحالة إصابة المرمى.
وإن لدينا الآن نحو عشرين رجلا، ولكني واثق من أن هذا القارب يحمل ضعف عددنا من القرصان، فإذا وصلوا إلينا تفرقوا بالفلائك الصغيرة. - إني لم أر إلى الآن موقف الخطر؛ فإن القارب قد يدركنا لأنه يسير بالهواء، فإذا وصل إلينا أطلقنا عليه قنابلنا، وأما إذا نزلوا في الفلائك الصغيرة، فكيف يدركوننا وهم يسيرون بقوة المجاذيف؟!
فهز الربان رأسه وأجاب: إن القرصان موصوفون بالصبر، وإن الأوقيانوس الهندي معروف بسكون رياحه، فلا يسلم من القرصان غير السفن البخارية؛ لأنها تسير سيرا منتظما غير مكترثة بسكون الرياح. أما السفن الشراعية فإن قوارب القرصان تطاردها أياما، بل قد تطاردها شهرا كاملا حتى تسكن الرياح، وتقف السفينة، وينزل القرصان إلى الفلائك ويدركونها بالمجاذيف.
وقد يتفق أن السفينة تغرق بعض هذه الفلائك، ولكن ما سلم منها يهاجم السفينة، وبقية القرصان يدركونها سباحة فيصعدون إليها، وتنشب بين الفريقين معركة هائلة بالمسدسات والخناجر والمجاذيف، فتصبغ السفينة بدماء المتقاتلين، وتنجلي المعركة في الغالب عن فوز القرصان.
فاضطرب الوزير اضطرابا شديدا حين فكر أن هذا الكنز وهذه الأموال التي جمعها بالخيانات والمآثم ستقع غنيمة باردة بأيدي القرصان.
وعاد الربان إلى تتمة حديثه قائلا: وإن دوارع جلالة الملكة قد طهرت البحر من هؤلاء القرصان، ولكن يظهر أنه لا يزال يوجد منهم بقية.
وبينما كان الاثنان يتحدثان كان نادر وروكامبول يصغيان إليهما، ويراقبان نور القارب، فرأيا أن النور يبتعد ويصغر، فلم يدركا القصد من هذا الابتعاد.
وقد رأى الربان ما رأياه فاطمأن وقال: أظن أن القرصان لم يرونا؛ فإني أراهم يبتعدون.
وبعد أن أقاما نحو ساعة يراقبان ويتحدثان هبط تريبورينو إلى غرفته، وبقي الربان فوق ظهر السفينة كل ذلك الليل حتى توارى القارب عن نظره، فاطمأن وتمتم في نفسه: إما أن يكون القرصان قد رجعوا عن مطاردتنا، أو أنهم لم يرونا، أو أنهم يطاردون سفينة أخرى، وعلى كل فقد أمنا الخطر.
وعند الصباح عاد إليه تريبورينو فارتاحت نفسه لبعد القارب وسأله: أرى أننا قد أمنا الخطر لا سيما وأن السفينة تسير سيرا حسنا لموافقة الرياح. - نعم، ولكنها لا تسير هذا السير أمدا طويلا؛ فإن الرياح لا تلبث أن تهدأ، ثم مد يده إلى الأفق في الجنوب الغربي قائلا: انظر، ألا ترى هذه الغمامة الصغيرة التي تشبه طير البحر؟ - نعم. - إنها مقدمة لعاصفة ستهب علينا فتثور الرياح ثورة عظيمة. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك تهدأ الرياح بعدها أتم الهدوء؛ بحيث قد يمر بنا يومان أو ثلاثة دون أن تجتاز السفينة أكثر من ميل واحد، وهنا يجب أن نضرع إلى الله وأن نلتمس حماية القديس جورج، حامي إنكلترا؛ كي يقينا شر القرصان ولا تدركنا فلائكهم.
فقال نادر لروكامبول: لقد أصاب هذا الربان؛ فإن سكون الرياح سوف يعقب العاصفة التي لا بد أن تثور قريبا.
ولقد كان كلاهما مصيبا؛ فإنه بعد أن توارت الشمس في حجابها أربد وجه الأفق، وأظلمت السماء بالغيوم الكثيفة، وحجبت النجوم، وهطلت الأمطار كأفواه القرب، وعصفت الرياح، فاضطربت الأمواج فجعلت تهاجم السفينة مهاجمة الجيوش، وترتد عنها ارتداد الجبان.
وعند انتصاف الليل بلغت العاصفة أشد أطوارها، فكانت السفينة ترقص فوق الأمواج وربانها يقودها بملء السكينة والحزم.
أما تريبورينو فقد خاف خوفا شديدا على كنوزه؛ إذ لم يمر بخاطره مثل هذه الأخطار، فكان يجيء إلى الربان وعليه علائم الذعر الشديد ويسأله عن حالة السفينة، فيجيبه الربان: إني لا أخشى سكونها، ولا أخاف هجوم القرصان.
وفيما هو يقول ذلك حانت منه التفاتة فصاح صيحة المغضب وصرخ بصوت مضطرب: هو ذا سفينة القرصان قد ظهرت؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فالتفت تريبورينو منذعرا، فرأى سفينة القرصان تضطرب فوق الأمواج اضطراب سفينته، وتلقى من العاصفة ما تلقاه.
أما نادر فإنه التفت إلى قارب رجاله وقال وصدره يخفق: حييتم أيها الشجعان.
39
وكانت أمواج البحر تتعالى علو قمم جبال الألب ثم تهوي إلى الأعماق فتصبح السفينة في واد من المياه.
وفي كل حين تتدفق الأمواج فوق ظهر السفينة فتغسلها.
وكانت الصواري تئن لعوامل الرياح وتوشك أن تتحطم.
كل ذلك وروكامبول واقف يشتغل شغل البحارة ويتذكر تلك الليلة الهائلة التي فر بها من سجن طولون، ولقي فيها من أهوال العاصفة ما يذكره القراء.
ولم يكن يخشى على السفينة من الغرق لما رآه من حزم الربان ومهارته.
أما تريبورينو فقد كان واقفا بجانب الربان، وكلاهما ينظران إلى سفينة القرصان، فكان الربان يقول كلما رآها: إني لا أخشى ثورة الرياح، بل أخشى ثورة القرصان.
فقال له تريبورينو: إنهم يلقون من العاصفة ما نلقاه. - هو ما تقوله، غير أني لا أخشاهم الآن، بل حين تسكن الرياح.
ولم يكد يتم قوله حتى هبت ريح عاصفة مالت بالسفينة وأوشكت أن تدفنها باللجج، فانقض الربان انقضاض الصاعقة على الصاري الأكبر وضرب حبله بفأسه فقطعه، ثم نادى البحارة فاشتغلوا جميعهم بكسر الصاري بما كان لديهم من الفئوس.
وبعد عشر دقائق سقط الصاري الأكبر، فكان له دوي شديد، وكسر جدار السفينة، غير أنها ارتفعت وسلمت من الغرق بعد انكساره، فصاح الربان صيحة المنتصر.
وعند ذلك جعل ينظر إلى الجهة التي كانت تسير فيها سفينة القرصان فلم يرها.
فقال له تريبورينو: أظن أن العاصفة أغرقتها. - كلا، بل إن تيارا قد جذبها، وفي كل حال فقد أمنا شر هؤلاء القرصان.
وكان نادر وروكامبول يسمعان الحديث، فقال له نادر: إن الربان قد أخطأ هذه المرة؛ إذ لا يوجد تيارات في هذه الجهات، ولا بد لرجالي من إدراكنا.
وكان يتكلم بلهجة الواثق المطمئن بحيث لم يبق شك لدى روكامبول باسترجاع الكنز.
إن العواصف هائلة في بلاد بحر الهند، ولكن أمرها لا يطول، ويعقبها في كل حالة من أحوالها سكون الريح أياما.
وقد اتفق مثل ذلك بعد هذه العاصفة، فإن الهواء سكن سكونا تاما عند الفجر، فجعل البحارة يهتمون بإصلاح ما أتلفته العاصفة من السفينة.
وكانت الأمواج حين كانت السفينة تنقلب قد ابتلعت ثلاثة من البحارة، فسقطوا عن ظهر السفينة إلى البحر حين التوائها، وبين هؤلاء واحد من الملقيين، بحيث لم يبق فيها من أعداء تريبورينو غير ثلاثة.
وكان القارب قد توارى عن الأنظار، فقال روكامبول لنادر: إذا كان لا يوجد تيارات في هذه الجهات، فكيف اختفى القارب؟ - إنه قد اختفى لغرض من الأغراض، ولا بد له أن يدركنا.
أما الربان فكان واقفا مع تريبورينو يراقبان السفينة وقد سكنت الرياح وامتنعت السفينة عن المسير، غير أن الاثنين كانا قد ارتاحا بعض الارتياح لاعتقادهما أن القرصان قد غرقوا بالعاصفة.
ولما طال احتجاب القارب بدأت علائم الاضطراب تظهر على نادر وقال: يستحيل أن يضل كوسلي الطريق. - من هو كوسلي هذا؟ - هو نائبي الذي يتولى قيادة القارب ومن فيه؛ فإنه يعرف طرق السفن الشراعية إلى أوروبا حق العرفان.
وفيما هو يتحدث وينظر إلى البحر شد على يد روكامبول قائلا له: انظر. مشيرا إلى جهة الغرب.
وكان روكامبول حديد البصر غير أنه لم ير شيئا، ولكنه سمع شتما قبيحا خرج من فم الربان، فعلم أن ما رآه نادر بالعين المجردة قد رآه الربان بالنظارة المكبرة، وهو سفينة القرصان.
وكان الربان يصيح صياح الذعر قائلا: القرصان.
ثم التفت إلى الوزير وتابع: لم يبق شك في أن القرصان يطاردوننا. - أتظنهم يهاجموننا؟ - قبل غروب الشمس. وقد وجب علينا الإسراع بالتأهب.
ثم أوقف إصلاح السفينة، وأمر بحشو المدافع، ووزع الأسلحة على البحارة، وأقام الجميع ينتظرون قدوم القارب الذي كان يسير إليهم ببطء، ولكنه كان مستمرا في السير خلافا للسفينة.
وما زال يدنو حتى بات على مسافة مرمى المدافع؛ فأنزل إلى البحر أربع فلائك نزل إلى كل واحدة منها ثمانية رجال.
أما الربان فدمدم قائلا: إني كنت أحسبهم أكثر عددا، ولكنه سيكون لنا معهم شأن عظيم.
أما الفلائك فقد تفرقت وذهبت كل واحدة منها في سبيل بغية الإحاطة بالسفينة، ودنت إحداها منها بغية مهاجمتها من الأمام، فقال الربان: لنغرق هذه في البدء.
ثم أطلق عليها بيده أحد المدفعين.
40
فدوى المدفع دويا شديدا، وخرج دخان البارود منه فكان كالغمام، وقد أطبق نادر وروكامبول عيونهما حين دوى صوت المدفع، ثم فتحاهما، وانجلى الغمام فرأوا أن القنبلة لم تصبها، وأنها هاجمة على السفينة.
فصاح الربان صيحة غضب منكرة، وأطلق على الثانية المدفع الآخر، وكان محشوا بقذائف صغيرة، فنام الرجال على بطونهم ولم يصب أحد منهم بأذى.
وكانت الفلائك الثلاث الأخرى قد أحدقت بالسفينة من كل جانب وباتت عرضة لنيران البنادق، فأمر الربان بحارته بإطلاق النار فصوبوها على إحدى الفلائك، وأطلقوها عليها دفعة واحدة فانقلبت وغاص رجالها في المياه.
ولكنهم ظهروا بعد هنيهة يسبحون وفي أفواههم الخناجر.
أما الفلائك الأخرى فكانت تتقدم، وكان الربان يصيح: أطلقوا النار!
فصوب كل بحار بندقيته وأطلق ممتثلا لأوامر الربان، ولكنهم أخطئوا المرمى كأنما يدا خفية كانت تحيل القذائف عن أغراضها.
ثم وصلت الفلائك إلى السفينة، فتسلقوا عليها من كل جانب، وصعد الذين كانوا يسبحون على الحبال، فلم تمض عشر دقائق حتى أصبحوا جميعهم على ظهر السفينة وقد قتل بعضهم حينما كانوا يصعدون.
فالتفت روكامبول إلى نادر وقال له: أرى أنه قد آن الأوان. وكان في يده فأس فحاول أن يضرب به رأس الربان، غير أن نادرا أمسك يده وقال له: لا تفعل أو نفقد كل رجاء.
ذلك أن نادرا كان قد شاهد عن بعد دخانا كثيفا يتصاعد في الفضاء فقال له: انظر، لقد خسرنا كل شيء حين وثقنا من الفوز. - كيف ذلك؟
فأجابه نادر بصوت يتهدج من الغضب: إن هذا الدخان خارج من مدرعة إنكليزية.
وكان القتال قد حمي وطيسه بين الفريقين بحيث لم ينتبه أحد منهما لدخان المدرعة ما خلا القارب الذي كان رجال نادر فيه، فإنه رأى المدرعة وأركن إلى الفرار.
وقد صبغ سطح السفينة بدماء المتقاتلين؛ لأن البحارة الإنكليز كانوا يقاتلون قتال اليأس بفئوسهم، ورجال نادر يقاتلون قتال الفائز بخناجرهم، وقد اختلط الفريقان أيما اختلاط بحيث لم ينتبه أحد إلى أن نادرا وروكامبول لم يشتركا في هذا القتال.
إلى أن بانت الدارعة على قيد من السفينة، فأطلقت مدفعا كان له دوي قوي، فصاح الربان صيحة الفرح والاستبشار قائلا: لقد نجونا.
وكان الربان قد أصيب بعشرة جروح، فلما سمع البحارة صياحه ورأوا الدارعة أيقنوا من النجاة وجعلوا يقاتلون بملء البسالة.
أما الهنود فقد هالهم ما رأوه ووقفوا موقف التردد لا يعلمون ما يفعلون، ثم سمعوا صوتا يناديهم بلغة خفية.
وكان هذا الصوت صوت نادر؛ فإنه أمرهم باللغة المقدسة التي لا يفهمها غير أبناء سيوا أن يهربوا، فامتثلوا وألقوا أنفسهم في البحر، وأسرعوا يسبحون إلى فلائكهم والدماء تسيل من أجسامهم.
وكانت الدارعة لا تزال بعيدة، ولكنها تمكنت من إدراك القارب فأطلقت عليه نيرانها، فغرق بمن كان فيه. أما الفلائك فقد تمكنت من النجاة.
وكان نادر يراقب جميع ذلك، فاستاء لغرق القارب، وفرح لنجاة الفلائك، فقال له روكامبول: إني أخشى أن تنزل الدارعة أحد سفنها فتطارد الهاربين. - كلا، إننا على مسافة قريبة من الشاطئ، وهذه الشواطئ كثيرة الصخور؛ فلا تخاطر الدارعة بنفسها.
ولقد أصاب نادر؛ لأنه حين وصلت الدارعة إلى السفينة كانت الفلائك قد بلغت البر آمنة، فصعد أحد ضباط الدارعة إلى السفينة ففحص ما حدث، وكتب تقريرا بما جرى.
ولم يكن باقيا من بحارة السفينة غير عشرة، منهم روكامبول ونادر والهنديان.
وكان الربان مجروحا بكتفه وذراعه وصدره، وتولى قيادة السفينة الربان الثاني، لكن السفينة نجت بفضل الدارعة.
أما الضابط فإنه أسر اثنين من رجال نادر منعتهما جراحهما عن الهرب، وعاد إلى دارعته فذهب بهما في طريق كلكوتا. أما السفينة فإنها اضطرت إلى الذهاب إلى أقرب ميناء تجاري لتجديد من فقد من بحارتها، وإصلاح ما طرأ عليها من الخلل.
وعند ذلك خلا نادر بروكامبول وقال له: لا يجب أن تقنط، ولا يزال لي بقية رجاء.
فأجاب روكامبول: بل إن لي ملء الرجاء إذا تركتني أتولى العمل مكانك، وسوف ترى. - ما هي خطتك؟ - سأقولها متى أخبرتني عن أمرين. - ما هما؟ - هل الهندي المتنكر الذي بقي معنا يحسن السباحة؟ وهل يستطيع بلوغ الشاطئ سابحا؟ - دون شك! - وهل أنت واثق من أن هذه الشواطئ كثيرة الصخور؟ - كل الثقة. - حسنا سوف ترى.
ثم انشغل عن محادثته بمراقبة الربان الثاني الذي صعد إلى سطح السفينة لتولي قيادتها بدلا من جون هابر الجريح.
41
وكان الربان الثاني في السفينة يدعى مرفي، وكان الشبه بعيدا بينه وبين جون هابر؛ فإن الربان الأول كان ضخم الجثة، بدينا، قصير القامة، عريض الأكتاف، أحمر الشعر، خلافا للربان الثاني، فإنه كان فوق الربعة، نحيف الجسم، أشقر الشعر، يشبه بقامته وحركاته روكامبول حين كان يدعى الكونت دي كامبل، أي حين أتم أستاذه تدريسه وتدريبه وأرسله خاطبا للإسبانية، كما يذكر قراءة الغادة الإسبانية.
وكانت عادة هذا الربان الثاني أن يصعد إلى سطح السفينة مكشوف الرأس، لكنه حين يتولى القيادة في الليل يلبس رداء طويلا له قبعة واسعة تغطي معظم وجهه.
وكان روكامبول يراقب منه جميع ذلك، فذكر حياته السابقة، وخطر له أن يعود إليها إلى حين.
وذلك أنه جال في فكره أن يمثل دور هذا الربان ويتنكر بزيه، لا سيما لما رآه من الشبه بينهما بالقوام ورقة البدن. ومهارة روكامبول بتقليد الأزياء غير خافية على القراء.
ولما أتى الليل كان الهواء ساكنا، غير أنه كان يوجد في الأفق قطع متفرقة من الغيم تشير إلى أن الهواء قد يثور بعد بضع ساعات.
فصبر روكامبول إلى أن نزل الربان الثاني إلى غرفته فقال لنادر: متى تولى الثاني قيادة السفينة؟ - عند الظهر، وقد نزل الآن إلى غرفته كي ينام. - من يخلفه؟ - رئيس البحارة؛ فإنه يتولى القيادة إلى منتصف الليل ثم يعود الربان الثاني ليتولاها. - حسنا، وإني أرجو التوفيق.
فنظر إليه نادر منذهلا وقال: ماذا عزمت أن تفعل؟ - عزمت على أن أتولى القيادة عند منتصف الليل بدلا من الربان الثاني. - ومتى توليتها ماذا تفعل؟ - أدفعها إلى الشاطئ فتتحطم على الصخور، وهناك نستعين برجالك على تخليص الكنز؛ إذ لا خطر عليه من الضياع لأنه في العنبر الداخلي السري. - إنها خطة تدل على الجرأة، لكني لا أرى تنفيذها سهلا. - لماذا؟ - لأني لا أعلم كيف تستطيع أن تتولى القيادة مكان الربان، ولا كيف يتخلى لك عنها؟
فابتسم روكامبول وأجاب: هذا سر من أسراري، وسوف ترى.
أما نادر فإنه اطمأن لارتياح روكامبول وقال له: إن من ينتصر على علي رمجاه فغير بعيد أن يفوز على مثل هذا الربان؛ فقل بماذا تريد أن أساعدك؟ - أن تأمر الهندي الذي معنا كي يخضع لي أتم الخضوع.
فنادى نادر الهندي المتنكر بأزياء الملقيين وأصدر إليه أوامر بلغة أبناء سيوا السرية، فانحنى الهندي أمام روكامبول قائلا له: إني مستعد لطاعتك في كل ما تريد.
وكان قد أزف وقت النوم ونام جميع البحارة، فلما أيقن روكامبول أنهم ناموا جميعهم نادى الهندي وقال له: اتبعني.
ثم سار وإياه إلى الغرفة التي ينام فيها الربان الثاني ووقف متنصتا عند بابها إلى أن سمع غطيطه، ففتح الباب ودخل مع الهندي ثم أقفله من الداخل بالمزلاج.
وعند ذلك أشار إلى الهندي أن يعد الحبل لتقييد الربان، ففك حبلا كان قد عقده على وسطه، وهو حبل من الحرير الدقيق يشبه حبل الخناقين، ثم أشار إليه إشارة أخرى فهمها فانقض الاثنان على الربان الثاني.
أما الربان فإنه صحا مرعوبا منذعرا وحاول أن يصيح مستغيثا، غير أن روكامبول عالجه بكمامة سد بها فمه فلم يتمكن من الصياح، وعاجله الهندي فأوثقه وثاقا متينا عرف به الهنود.
ولما أتم وثاقه جعل الربان ينظر إليهما نظرات ملؤها الرعب، ثم تبدل فزعه بالانذهال حين سمع روكامبول يكلمه باللغة الفرنسية؛ لأنه لم يسمع أولئك الملقيين يتكلمون بغير لغتهم وباللغة الإنكليزية.
أما روكامبول فإنه قال له بصوت منخفض: يسوءني يا سيدي أن أسيء إليك، غير أن ذلك موقوف على إرادتك، وإذا خرجت عن حد السكينة اضطررت مكرها إلى إلقائك في البحر؛ لأني محتاج إلى سكوتك.
ولم يكن الربان يستطيع الإجابة؛ لأن الكمامة كانت تمنعه عن الكلام، والوثاق يمنعه عن الحركة، غير أنه أن أنينا خرج من تحت الكمامة كصوت المختنق.
فالتفت روكامبول إلى الهندي وقال له: إذا أن أيضا مثل هذا الأنين فاقتله.
فجرد الهندي خنجره ووقف فوق رأس الربان.
عند ذلك دنا روكامبول من المغسلة وأخذ إسفنجة وجعل يبلها بالماء ويدعك بها وجهه، فذهب لونه الأسود وأصبح مثل الربان.
وكان الهندي والربان ينظران إليه بانذهال عظيم؛ لأن كليهما لم يخطر له في بال أن هذا البحار الملقي من الإفرنج.
وبعد أن أتم روكامبول غسل وجهه خلع ملابسه وأخذ ملابس الربان المعلقة فلبسها، وأخذ رداءه الكبير واتشح به فوق الملابس، وستر رأسه بالقبعة.
ثم جعل ينظر في المرآة ويصلح تلك الملابس حتى بات الشبه قريبا بينه وبين الربان لتشابههما بالقوام.
فلما رأى الربان هذا الشبه عاد إلى الأنين، فحاول الهندي أن يقتله، غير أن روكامبول منعه بإشارة، ودنا من الربان فجعل يكلمه، فانذهل الربان انذهالا عظيما لأن روكامبول لم يقتصر على تقليده بزيه وملابسه، بل سمعه يقلد صوته ولهجته أتم التقليد.
42
وكان نادر مضطجعا فوق ظهر السفينة ينتظر ما يكون من روكامبول بقلق شديد، فقد مر به زمن طويل دون أن يرى روكامبول أو الهندي.
أما روكامبول فإنه بعد أن حادث الربان الثاني مقلدا صوته، وبعد أن شاهد علائم بين عينيه قال له: إنك لم تعلم من أنا، ولكنك عرفت الآن دون شك ما عزمت على فعله؛ لأني أنا الذي سيتولى قيادة هذه السفينة في هذه الليلة.
ولقد حرمت على نفسي سفك الدماء وقتل أخي الإنسان، وإني أراك بحارا نشيطا، وقد تكون رجلا شريفا، وإذا كنت حرا طليقا، فإن واجباتك تدعوك إلى الاستغاثة والاستنجاد علينا؛ فيلقونني مع هذا الرفيق في أسفل العنبر.
فأشار الربان برأسه إشارة تدل على أنه لو كان حرا لما فعل غير هذا.
فتابع روكامبول: لذلك وجب علي أن أستوثق من سكوتك ومنعك عن الاستغاثة؛ لأني إذا تركتك حرا في هذه الغرفة فإنك تستطيع أن تصيح صياحا يخرج كالأنين من خلال الكمامة، ولا بد أن يسمعوك.
فأشار الربان إشارة مصادقة.
وكان روكامبول يعلم أن البحارة موصوفون بالتدين الشديد لكثرة تعرضهم للأخطار، ونظر إلى المائدة فرأى فوقها من آلات البحارة توراة، فأخذ هذا الكتاب المقدس وعاد إلى الربان فقال له: إني محتاج إلى سكوتك عشر ساعات، وبعد ذلك أطلق سراحك، فإذا أقسمت لي بهذه التوراة أن تلزم السكينة في هذه المدة، فلا تصيح ولا تحاول حل قيودك؛ رضيت بقسمك وعفوت عنك.
فظهرت بين عيني الربان علائم الأنفة من الخيانة، وأجاب بهز رأسه ورفعه إلى العلاء مرات متتالية، إشارة إلى أنه لا يرضى الخيانة، وأنه غير مكترث بالموت.
فرد روكامبول: لكني أقتلك إذا أبيت الامتثال.
فهز كتفيه؛ يريد أنه يؤثر الموت على العار.
فنظر روكامبول في ساعته، فوجد أن الوقت لا يزال فسيحا لديه، فجلس عند سرير الربان وخاطبه بصوت يشبه الهمس: إنك متى عرفت قصدي، وعلمت أن غايتي نبيلة ترضى بحلف اليمين.
ثم قص عليه بإيجاز خيانة تريبورينو، وأن استرجاع الكنز منه ورده إلى صاحبه حق لا ينكره شريف.
وكان روكامبول يقص عليه هذه القصص بكلمات مؤثرة راجيا أن يحمله على الرضى، فيمتنع عن قتله، لكنه أصر على الإباء وأشار بعينيه ورأسه أنه يؤثر الموت.
فاضطرب روكامبول في أمره، وأشفق من قتل رجل شريف باسل يستخف الموت في سبيل الواجب، وجعل يفكر بحيلة صالحة؛ لأنه لا يستطيع حراسته بالغرفة، وليس من الحكمة أن يدعه وحده فيها.
وفيما هو يفكر التفت إلى جدار الغرفة، فرأى النافذة المطلة على البحر مفتوحة، فمد رأسه منها وجعل ينظر نظر الفاحص، فرأى أن السفينة قد زادت سرعتها بحيث لا يستطيع السابح إدراكها، وأن الظلام مشتد الحلك بحيث لو سقط رجل في البحر من السفينة لا يراه حراسه، فخطر له خاطر سريع وعاد إلى الهندي فسأله: أخبرني نادر أنك تجيد السباحة، فهل تستطيع بلوغ البر سباحة ؟ - دون شك. - وإذا ألقيت هذا الربان إلى البحر ثم سقطت أنت بعده؛ أيمكنك قطع قيوده بخنجرك قبل أن يغرق؟ - نعم.
فنظر روكامبول إلى الربان الثاني وقال له: يسوءني أن أسيء إليك غير أني مضطر، وأسأل الله أن يصونك ويقيك.
ثم شد وسطه بحبل وهو ينظر إليه نظر الاحتقار غير مكترث للموت، وأنزله من النافذة والحبل بيده حتى بلغ إلى سطح الماء، ونزل بعده الهندي وهو مشهر خنجره، حتى إذا بات الاثنان في الماء أفلت روكامبول الحبل فاختفيا تحت الأمواج.
وكان روكامبول قد أمر الهندي أن يذهب إلى الشاطئ، ويجمع أبناء سيوا الذين سلموا من مطاردة الدارعة في موضع تكثر فيه الصخور، وأمره أن يشعل، متى اجتمعوا، نيرانا تشير إلى موضعها.
ولبث روكامبول حينا في النافذة يراقب الاثنين، فرأى الربان قد اختفى بين الأمواج، ثم شاهده بعد دقيقة وقد ظهر فوق سطح الماء لأن الهندي قطع وثاقه.
ثم سمع من سطح السفينة صوتا يصرخ: شخص في البحر!
فأسرع إلى السطح وهو بملابس الربان، ووجد أن رئيس البحارة الذي كان يتولى قيادة السفينة عازم على إنزال قارب لانتشاله، فاعترضه قائلا: إننا نخسر القارب ولا نتمكن من إنقاذه، وفوق ذلك إن هذا الرجل من الملقيين.
وقد اشتهر الإنكليز باحتقار أهل تلك الجزر حتى إنهم يحسبونهم من البهم، ثم إن روكامبول كان لابسا ملابس الربان الثاني ساترا وجهه بالقبعة، وقد قلد صوته أتم تقليد؛ فلم يسع رئيس البحارة مخالفته.
وكان نادر قد شاهد سقوط شخصين فحسب أنهما روكامبول والهندي، واستند إلى حائط السفينة وجعل ينظر إلى البحر نظرات اليأس.
وشاهد روكامبول ذلك منه، فترك القيادة حينا بيد رئيس البحارة وذهب إلى نادر ووضع يده على كتفه وهو غير منتبه، فالتفت إليه منذعرا، ولكنه عرفه للحال، فقال له روكامبول: لقد تم كل شيء على ما أبتغي، وأنا الآن أتولى إدارة السفينة، فعد لي بعد هنيهة إلى أن ينام رئيس البحارة.
ثم تركه وعاد إلى رئيس البحارة واستلم منه القيادة وأطلق سبيله، فانصرف إلى قمرته لينام وهو آمن مطمئن غير مكترث لغرق البحار؛ لاعتقاده أنه من الملقيين.
43
بعد ذلك بساعة كان نادر يدير دفة السفينة وروكامبول يتولى القيادة العامة دون أن ينتبه إليه أحد؛ لأنه كان يقلد صوت الربان أتم التقليد، وكان الظلام حالكا وكل بحار منهمك في عمله الخاص.
ولم يكن روكامبول يخشى إلا من رئيس البحارة، ولكنه كان ذهب إلى غرفته، فخلا الجو له ولنادر، ودفع السفينة إلى حيث يريد دون أن ينتبه البحارة إلى جهة سيرها لشدة الظلام.
وكان الهندي قد سقط إلى الماء منذ ثلاث ساعات وروكامبول يعلم أنه يسير إلى جهة الشاطئ، ولم يره أشعل النيران حسب الاتفاق، وبات يخشى أن يطلع الفجر فيفتضح أمره.
وفيما هو مفكر ونظره متجه إلى الشاطئ إذ شاهد نورا أحمر قد سطع فجأة، وشاهد دخانا كثيفا يكتنفه، فما شك أنه نور العصابة وضعه الهندي حسب الاتفاق في موضع تكثر فيه الصخور.
فاطمأن خاطر روكامبول، ولم يعد يشغله غير أمر واحد، وهو ابن الرجاه عثمان، فإنه كان في السفينة مع تريبورينو، فجعل يتداول مع نادر في طريقة إنقاذه من الغرق حين تكسر السفينة، فاتفقا أنه حين تلطم السفينة بأول حجر يهجم نادر على الغرفة فيختطف الغلام ويسقط به إلى البحر.
ولم يكن في السفينة غير عشرة بحارة، ولكن رجال نادر أكثر عددا، ومتى جنحت السفينة وتحطمت فوق الصخور هجم أبناء سيوا على أولئك البحارة المضطربين فكان فوزهم مضمونا.
وعلى ذلك اطمأن الرجلان ودفعا السفينة، فاندفعت تسابق الرياح إلى جهة النيران.
أما تريبورينو فإنه بعد أن بددت الدارعة شمل القرصان ارتاحت نفسه، وكان يتفقد الربان الجريح من حين إلى آخر إذ لم يكن يستطيع مغادرة الفراش، كما أنه كان يصعد إلى ظهر السفينة كلما خرج من غرفته فيدخن سيكارة ويراقب الجو ثم يعود إلى الغرفة.
وقد اتفق أنه صحا من نومه فسمع أنين الربان وتألمه الشديد من جراحه، فاتشح برداء كبير وذهب لعيادته، فعزاه وآساه ثم صعد إلى ظهر السفينة حسب عادته، فرأى كل شيء سائرا في مناهجه المألوفة، ولم يستوقف نظره غير ذلك الضوء الذي كان ينبعث من الشاطئ، ولكنه حكم بعد إطالة النظر أنه منارة وضعت لإرشاد المسافرين.
وكان نادر جالسا عند الدفة يديرها، وفوق الدفة مصباح ضعيف، فرأى تريبورينو وجهه على ضوء ذلك المصباح، واستغرب وجود هذا الملقي؛ إذ إن للدفة عمالا أخصاء.
فدنا منه وسأله عن السبب في قيادته الدفة.
فأجابه نادر بملء السكينة: إن الربان عينه عليها لأنه يعرف هذه الجهات حق العرفان، ولأن عمال الدفة قتل معظمهم في المعركة الأخيرة التي حدثت مع القرصان.
فاقتنع من جوابه وعاد إلى قمرته.
وعند نزوله مر بغرفة الربان الجريح وكان لا يزال يئن ويتوجع، فدخل إليه.
أما الربان فإنه انقطع عن الأنين حين شاهده وسأله: كيف البحر؟ - إنه موافق لسير السفينة. - والطقس؟ - إن الرياح آخذة بالشدة. - ومن على الدفة؟ - واحد من الملقيين.
فارتعش قائلا: من الذي عينه عليها؟ - الربان الثاني. - المسيو مرفي؟ - نعم. - إن هذا مستحيل. - بل هذا الذي حدث؛ لأن الملقي يدير الدفة.
فاضطرب الربان وحاول أن ينهض ويصعد إلى ظهر السفينة فلم يستطع، فقال لتريبورينو: أرجوك أن تذهب إلى مرفي وتدعوه إلي لأني أحب أن أكلمه.
فامتثل تريبورينو وعاد إلى ظهر السفينة.
وكان روكامبول يمشي ذهابا وإيابا فوق السفينة وهو يدخن، وقد باتت السفينة على قيد نصف ميل فقط من الشاطئ.
فتصدى له تريبورينو وقال له باللغة الفرنسية: أشعل لي سيكارتي.
فلم يرد وأعطاه سيكارته.
أما تريبورينو فإنه أشعل سيكارته وأعادها له، فرأى وجهه على ضوئها الضعيف وصاح صيحة منكرة لأنه عرفه.
44
وقد حال هدير الأمواج دون سماع صيحة تريبورينو فلم تصل إلى مسامع البحارة.
أما روكامبول فإنه أيقن أن الوقت أقل من أن يتردد، فهجم عليه فجأة وقبض بإحدى يديه على عنقه ثم جرد خنجره قائلا: إذا فهت بكلمة فأنت من الهالكين.
ولم ير أحد من البحارة ما جرى ما خلا نادر، فإنه شاهد الاثنين عن بعد فعلم أن الأمر خطير، فترك الدفة وهي موجهة إلى الشاطئ وأسرع إلى روكامبول، فرآه قابضا على عنق تريبورينو وعلم كل شيء.
وكان تريبورينو بعد أن نال هذه الثروة العظيمة أصبح جبان النفس، منخلع القلب، ولم يجب بكلمة، ولكنه كان ينظر إلى روكامبول نظرات ملؤها الرعب.
وعاد روكامبول إلى الوعيد وقال له بصوت منخفض: إذا جاء أحد إلى نجدتك أغمدت خنجري في قلبك فلا يجدك حيا.
ثم التفت إلى نادر قائلا له: أسرع أنت إلى غرفة هذا الخائن وخذ الغلام، واسقط به إلى المياه ولا تخف علي فسنجتمع في الشاطئ. - والسفينة؟
إنها سائرة إلى حتفها، ألا تراها دنت من الشاطئ؟ أسرع الآن ولا تضع الوقت.
وانطلق نادر إلى غرفة تريبورينو.
وبعد هنيهة سمع روكامبول صوت صياح الغلام، ثم سمع صوت سقوط في المياه فأيقن أن نادرا قد نجا بالغلام.
وعند ذلك انصرف إلى تريبورينو فألقاه صريعا إلى الأرض، فصاح عند سقوطه صيحة شديدة خشي روكامبول أن يكون البحارة قد سمعوها، فرفع خنجره وحاول أن يغمده في صدره، ولكنه قبل أن يضربه شعر بيد قوية قد دفعته عن خصمه، وسمع صوتا يصرخ بلهجة الملح المضطرب: أسرعوا. أديروا الدفة. اطووا الشراع.
فعلم أن الصوت صوت الربان الأول، وشاهد أن الذي دفعه عن تريبورينو كان رئيس البحارة.
أما السبب في قدوم الربان، فإنه استبطأ تريبورينو فأيقن أنه لم يتأخر إلا لأمر خطير، فأجهد نفسه وخرج من غرفته، فكان أول ما شاهده أضواء أبناء سيوا، وهو يعلم أنه لا منائر في تلك الجهات، ثم شاهد السفينة تتجه إلى الشاطئ وأنها باتت قريبة جدا منه.
وكاد يجن من يأسه وصاح بصوته القوي ينادي رئيس البحارة، فهب الرجل من نومه مرعوبا، وأسرع إلى تلبية نداء رئيسه، فصعد الاثنان إلى ظهر السفينة وشاهدا ذلك الخطر المحدق بها.
وانصرف الربان إلى ملاقاة الخطر المحدق بها، وهجم رئيس البحارة على روكامبول وأنقذ تريبورينو من الموت.
أما الربان فإنه نجى السفينة من الخطر بإسراعه في طي القلوع وتحويل الدفة، فأمنت الخطر بعد أن كانت سائرة إلى الهلاك، ولو تأخر هنيهة لقضي عليها ولم تنفعها الوسائل .
وأما روكامبول فإنه نهض مسرعا، وانقض على رئيس البحارة، وطعنه بخنجره، وركض إلى حائط السفينة بغية الهرب بإلقاء نفسه في المياه، غير أنه وجد ثلاثة من البحارة قد اعترضوا سبيله، فلم يفضل له إلا النزول إلى جوف السفينة والهرب من أحد منافذها.
فأسرع راكضا إلى النزول حتى إذا وصل إلى غرفة الربان الأول شاهد أن البحارة وتريبورينو كادوا يدركونه، فدخل الغرفة مسرعا وأقفل الباب من الداخل.
فرفس تريبورينو الباب برجله وجعل يصيح قائلا: اكسروا الباب واقتلوا الخائن.
وكان لباب هذه الغرفة كوة كان الربان قد فتحها خاصة لمراقبة العمل، فأطل روكامبول منها فرأى تريبورينو يزبد كفحل الجمل الهائج ومعه خمسة بحارة، فعلم أنهم سوف يكسرون الباب ولا يبقى له مناص منهم.
غير أنه وجد طريقة لحسن حظه توقفهم عن كسر الباب إلى أن يأمن شرهم؛ وذلك أن الربان حينما شاهد سفينة القرصان احتاط لها وأمر بإخراج صناديق البارود من العنبر، ففرقوها في الغرف ووضعوا صندوقا منها في غرفة الربان قرب سريره.
وقد وجد على مائدة الربان غدارتين، فتسلح بهما، وصوب إحداهما على البرميل.
وعند ذلك سمع صوت تريبورينو قائلا: اكسروا الباب واقبضوا على هذا اللص.
فأجابه من الداخل: إنك إذا كسرت الباب أطلقت مسدسي على برميل البارود فنسفت بكم السفينة نسفا، وبتم جميعكم طعاما لأسماك البحر. •••
إلى هنا انتهى كتاب روكامبول وقد أقام مرميس في تلاوته ثماني ساعات، فلما وصل إلى آخر صفحة من هذا الكتاب الغريب وقف وقفة الحائر، إذ لم يعلم كيف نجا روكامبول من السفينة، وإذا كان التقى بنادر وابن الرجاه عثمان أم لم يلتق بهما، وماذا جرى بين روميا ونادر؟ كل ذلك بقي لديه لغزا يعسر حله.
فلما أتم تلاوته إلى ميلون وسأله: إن هذه الحكاية لم تتم بعد. - ستعرف بقيتها متى التقيت بالرئيس. - لكن متى نلتقي وأين؟ - ستعلم ذلك غدا. - والآن، أنبقى في هذا البيت؟ - كلا، بل نخرج منه متى شئت. - إذن لنخرج الآن فقد بت محتاجا إلى الهواء والنور بعد هذا الحبس الطويل في جوف الأرض. - هلم بنا .
وخرج الاثنان.
45
بعد ذلك بثلاثة أيام كان مرميس وميلون في لندرا، وقد وصلا إليها في الصباح ونزلا في فندق هانوفر.
وكانت هيئة مرميس تظهر على أنه من الأشراف، وهيئة ميلون على أنه وكيله.
أما السبب في قدومهما إلى لندرا، فهو أنه حين خرجا من البيت السري قال له ميلون: إني أخبرك الآن بأوامر الرئيس، فهي أننا نبيت الليلة في باريس وغدا نذهب إلى لندرا. - إن روكامبول ينتظرنا فيها دون شك. - لا أعلم، ولكنه أمر أن نقيم في فندق هانوفر حين نصل إلى لندرا، وهذا كل ما أعلمه. - إذن لا بد أن نجده أو نجد فاندا.
وباتا تلك الليلة في باريس، وفي اليوم التالي سافرا إلى لندرا ونزلا في الفندق الذي أمر روكامبول أن ينزلا فيه، فلما كتب مرميس اسمه في سجل المسافرين ورأى أن عمال الفندق قرءوه دون اهتمام؛ علم أن روكامبول غير مقيم فيه.
وأقام في ذلك الفندق طول النهار راجيا أن يحضر روكامبول، ولكنه لم يحضر، فلما حل الليل قال لميلون: ابق أنت في الفندق وأنا ذاهب للطواف في المدينة علي أظفر بروكامبول.
ثم لبس وتأنق وذهب إلى النادي الهندي، وهو في ذلك العهد من أعظم النوادي، فتعشى فيه وذهب إلى الأوبرا حيث كانوا يحتفلون فيها بتمثيل رواية جديدة، لاعتقاده أنه لا بد أن يجد الرئيس بين المتفرجين.
فلما دخل وجد القاعة غاصة بأعيان الإنكليز، ففتش بنظره عن روكامبول تفتيشا دقيقا فلم يره.
ولكنه رأى غرفة من غرف الأوبرا لا تزال فارغة، فقال في نفسه: لا بد أن الرئيس قد استأجر هذه الغرفة له ولفاندا وسوف يحضر؛ فإن الممثلين لم يفرغوا بعد من تمثيل الفصل الأول.
وبعد هنيهة رأى أن باب هذه الغرفة قد فتح ودخل منه رجل وامرأة، ولم يكن الداخلان روكامبول وفاندا، غير أن علائم الدهشة ظهرت على وجه مرميس لأن هذه المرأة التي دهش لجمالها جميع الحاضرين إنما كانت روميا، أي البستانية الحسناء.
أما الرجل الذي كان يصحبها فقد كان مربوع القوام، وهو بين العمرين أميل إلى الكهولة، غير أنه كان شديد التأنق بملابسه تدل ملامحه على النبل، فلم يكد يدخل إلى اللوج حتى انصرفت إليه الأنظار وتحولت عن البستانية الحسناء.
فدهش مرميس ولم يدر السبب في اتجاه الأنظار إلى الرجل دون المرأة، وكان إلى جانبه رجل من الإنكليز رآه في النادي، فالتفت إليه وقال له: أتعلم سبب اهتمام الناس بهذا الرجل؟ فهل كان ذلك لجمال امرأته؟ - كلا، بل إنهم قد انصرفوا إليه دونها لاهتمامهم به نفسه. - ومن عساه يكون هذا الرجل؟ - هو الماجور لنتون.
فارتعش مرميس إذ علم أنه تريبورينو.
أما الإنكليزي فإنه مضى في حديثه فقال: إن هذا الرجل قدم حديثا من الهند بثروة عظيمة لا يحيط بها وصف، ولا تذكر في جنبها ثروات الإنكليز، حتى لقد قيل عنه إنه جاء من الهند بألوف من الأحجار الكريمة التي لا يوجد مثلها في تيجان الملوك. - ولكن كيف حصل على هذه الثروة؟ - الشائع أنه جمعها من تجارة الأفيون. - وهل جعل إقامته في لندرا؟ - يقال إنه سيقيم فيها في الصيف، وأما في الشتاء فسيقيم في قصر فخيم اشتراه في بلاد الغال.
فبدأ مرميس يفتكر أن لروكامبول يدا في جميع ذلك، وسأله قائلا: هل امرأته قدمت معه من الهند؟ - ذلك ما لم يعلمه أحد إلى الآن؛ فإن الماجور قد جاء معها، ولكن يظنون أنها فرنسية. - أتراه تزوج بها في باريس؟ - ربما.
ثم نظر مرميس إلى اللوج فرأى روميا ترمقه بنظرة المحدق، فعلم أنها عرفته، ثم رأى أنها تبتسم له ابتسامة سرية، فقال في نفسه: إنها جرأة نادرة، غير أن تريبورينو لم يرها تبتسم لأنه كان منصرفا عنها إلى مشاهدة التمثيل، خلافا لروميا فإنها كانت شاخصة بأبصارها إلى مرميس، وجال في فكره خاطران؛ وهما: إما أن روميا لم تقم مع تريبورينو إلا بأمر روكامبول، وإما أنها تخلصت من روكامبول وكان اجتماعها بالماجور لنتون من قبيل الاتفاق والصدفة.
وأقام ينتظر حتى انتهى التمثيل فكان أول خارج من القاعة، فوقف عند الباب كي يرى البستانية الحسناء عند انصرافها، وفيما هو واقف ينتظر شعر بيد وضعت على كتفه، فالتفت فرأى الرئيس.
46
أما روكامبول فإنه أجابه وهو يبتسم: أراك منذهلا مما رأيته، ولكنك ستزيد انذهالا فاصبر.
وما لبث أن أنهى كلامه حتى أفلت منه مسرعا واختبأ وراء أحد العواميد، فأدركه مرميس قائلا له: ماذا تفعل؟ - إني أختبئ كما ترى.
وعند ذلك خرجت البستانية الحسناء وهي تتكئ على ذراع تريبورينو وقد احمرت وجنتاه، وبدا على جسمه وبدت في عينيه علائم الرضى والقحة كأنه كان يقول: ما فاز باللذات غير أهل الشر.
أما روكامبول فإنه قال لمرميس: انظر إلى هذا الرجل. - لقد عرفته فهو تريبورينو، ولكن بقيت أشياء لم أعرفها.
فابتسم روكامبول قائلا: لم يحن الوقت بعد، وستعرف كل شيء.
ومرت البستانية الحسناء فرأت مرميس وابتسمت له، ثم مد روكامبول رأسه فذهب الابتسام عن شفتيها، وبدت على وجهها علائم الخوف والخضوع.
ثم مشت مع الوزير إلى مركبة فخمة كانت تنتظرهما، فركبا فيها وانطلقت بهما مسرعة.
فلما ابتعدت المركبة أخذ روكامبول بيد مرميس قائلا له: هلم بنا يا بني.
ثم مشى وإياه حتى خرجا من الزحام فقال له: اعلم الآن أن تريبورينو هائم بالبستانية الحسناء هياما شديدا منذ ثمانية أيام. - إن أهل لندرا يعتقدون أنها امرأته؛ فكيف اتفق ذلك؟ - لأنهم يعلمون أنه جاء بها من باريس، فاعلم الآن، يا بني، أن هذه المرأة التي كانت تكوي الشيخ بالنار حتى تطفئ دماؤه ناره، والتي ذهبت بعقل المركيز دي مورفر، وكانت تجلد ولده بالسياط، والتي كادت تقضي عليك بالسهر؛ أن هذه المرأة الهائلة أطوع لي من البنان، وهي تخضع لأمري خضوع العبيد. - لقد رأيت شيئا من هذا غير أني لا أعلم غايتك من تسليمها إلى تريبورينو. - غايتي أن أجعلها آلتي في تنفيذ أغراضي منه. - وماذا جرى لابن الرجاه؟ - لقد نجا. - وأين هو الآن؟ - في باريس. - أتسمح لي، أيها الرئيس، أن أسالك سؤالا؟ - قل. - ماذا جرى للدوق فنسترنج والمركيز مورفر وابنه؟ - إن الدوق الشيخ مات، والمركيز في مستشفى المجانين، لكنهم يرجون له الشفاء، وأما ابنه فقد تكفلت به فاندا، ولم أعد أخشى الآن روميا، فمتى فرغت من شأني مع تريبورينو أعدت للمركيز ثروته من ابن عمه؛ فإن الناس يعتقدون إلى الآن أنه ميت. - وفاندا، أهي في باريس؟ - كلا، بل هي معي في لندرا.
ثم سكت روكامبول هنيهة ونظر إلى مرميس قائلا: أراك تريد أن تسألني أيضا سؤالا آخر يتردد بين شفتيك حتى يكاد يلهبهما. - هو ما تقوله يا حضرة الرئيس. - إنك تريد أن تعرف كيف خرجت من السفينة، وكيف اجتمعت بنادر وابن الرجاه. إن الأمر بسيط؛ فإني حين كنت في غرفة الربان جون هابر كنت مصوبا الغدارة على برميل البارود أنذر السفينة بالنسف، فخاف تريبورينو أن أكون صادقا في وعيدي وجعل يتشاور مع الربان فيما يجب فعله، فاغتنمت فرصة انشغالهم عني وخلعت ملابس بجملتها وخرجت من نافذة غرفة الربان المطلة على البحر وألقيت نفسي.
كان الفجر قد انبثق، فلما شعروا بسقوطي إلى البحر كنت أبتعد عن السفينة نحو مائة متر، فأسرعوا إلى ظهر السفينة وأطلقوا علي بنادقهم، فكان الرصاص يسقط حولي كوابل المطر، ولكني كنت أغوص تحت الماء سابحا فأمكث دقيقة حتى يحسبوني غرقت، ثم أطفو على وجه الماء متنفسا فيعودون إلى إطلاق الرصاص.
وما زال هذا دأبي ودأبهم حتى بعدت عن مراميهم وأمنت رصاصهم، وكان الشاطئ قريبا، فلما دنوت من جهة النار رأيت نادرا مسرعا إلي بقارب صغير، فانتشلني من المياه، وسافرت السفينة آمنة إلى أوروبا تحمل كنوز الرجاه وذلك الوزير الخائن.
فقال مرميس: بقي أمر يا سيدي أود أن أعلمه، وهو بقية حديث نادر مع روميا، والسر في سلطانك عليها. - أما بقية هذا الحديث فقد أرويه لك في موضع آخر، وأما تسلطي عليها فهو أن هذه المرأة قد أحبت نادرا حبا عظيما، وانضمت إلى سلك أبناء سيوا، وقد جعلني نادر رئيسا لهذه الطائفة في أوروبا، فأنا الآن فيها كما كان جورج ستوي في لندرا؛ لذلك وجب على روميا أن تطيعني لأني بت رئيسها المطلق، وجميع خدامها من أبناء سيوا، وهم يعرفون رئاستي وما لي عليهم من حق السلطة المطلقة؛ فلا سبيل لها إلى عصيان أمري.
والآن فإن لدينا كثيرا من المهام التي يجب قضاؤها، فاعلم أنه يجب عليك أن تتربص في هذا المكان إلى أن تأتيك امرأة. - من هي هذه المرأة؟ ألعلها البستانية؟ - كلا، بل تأتيك امرأة أرلندية فتظهر لك قطعة من النقود، فإذا أظهرتها لك فاتبعها. - إلى أين؟ - إلى البستانية، حيث تمتثل لها في كل ما تريد، وتفعل كل ما تطلب إليك أن تفعله.
وذكر مرميس ما لقيه من العذاب في منزل هذه المرأة الهائلة، وظهرت عليه علائم الاضطراب، فقاله له روكامبول: لا تخف بعد الآن هذه المرأة؛ فقد باتت منا.
ثم تركه وانصرف، وبقي مرميس واقفا في مكانه ينتظر الأرلندية.
47
وتربص مرميس في مكانه ينتظر وهو يراقب خمارة في الشارع كثر تردد الناس إليها وخروجهم منها، حتى شاهد امرأة متسولة خرجت من تلك الخمارة وقربت منه.
وذكر مرميس أنه شاهد هذه المرأة قبل الآن، ولكنه لم يذكر أين حتى سمع صوتها، وذكر للحال أنها تلك الأرلندية التي ساعدت على اختطاف حبيبته جيبسي الغجرية، وقد اضطرب قلبه وهاج غضبه، وهم أن ينقض عليها وينتقم منها، غير أنه ذكر وصية الرئيس، فعلم أنه لا يحق له أن يعمل غير ما أوصاه به، فسكن ثائره، وكظم غيظه.
ولم يخطر في باله أن هذه الأرلندية قادمة إليه حتى رآها دنت منه فقالت له: هل أنت مستعد؟
فذهل مرميس وسألها: لأي شيء؟ - لتتبعني؟ - إلى أين؟ - إلى حيث أمرك الرئيس؛ أي إلى بيت روميا.
ثم أظهرت له قطعة من النقود فلم يشكك أنها هي التي عينها الرئيس، لكنه لم يتمالك عن إظهار استغرابه واشمئزازه فقال لها: إني سأتبعك، ولكني أعجب من الرئيس كيف يختار عماله من الأشقياء أمثالك.
قالت: ليكن حكمك علي كما تشاء غير أني أخدم من يحسن إجازتي بملء الإخلاص.
ثم مشت أمامه فتبعها مرميس، وما زالا سائرين حتى وصلا إلى جسر لندرا.
وكان الضباب كثيفا والظلام مدلهما، فسألهما: إلى أين أنت سائرة بي ؟ - إلى النهر، وسنجتازه إلى بيت روميا كما أخبرتك.
فتفقد مرميس خنجره ومسدسه ومشى في أثرها غير هياب لاعتماده على هذين الحليفين، حتى إذا وصلا إلى الشاطئ خلعت الأرلندية ثوبها الأعلى، فظهرت رجلا بملابس البحارة، ثم أخرجت قبعة من جيبها فلبستها وسترت تحتها شعرها.
وهناك قارب كان قد وضع خاصة لها، ففكت حباله، ونشرت شراعه، ونادت مرميس فوافاها إليه وانطلق يخوض التيمس.
فسألها: ألعل المكان لا يزال بعيدا؟ - إنه خارج لندرا، وسنصل قريبا؛ فإن القارب ينطلق انطلاق السهم لموافقة الريح.
فجلس مرميس في مؤخر القارب يفكر بروكامبول ومقدرته على امتلاك القلوب؛ فإنه ما استخدم رجلا ولو كان من اللصوص الآثمة حتى انقلب إلى الهدى وخدمه بملء الوفاء والإخلاص، كأنما لهذا الرجل قدرة فوق قدرة الإنسان.
وظل القارب يسير في النهر والأنوار تحتجب تباعا حتى بات في ظلام دامس، فعلم أنه خارج لندرا.
وبعد أن توغلا هنيهة في الظلام ظهر له على الشاطئ الأيسر ضوء ينبعث من أحد المنازل فقال لها: ما هذا الضوء الجديد الذي نراه؟ - هو ضوء المنزل الذاهبين إليه وقد أشرفنا عليه.
ثم قامت إلى الشراع فطوته، ووضعت المجدافين في موضعهما وجعلت تجدف بهما، فما مرت بها بضع دقائق حتى وصلت إلى الشاطئ، فنزلت إليه وربطت القارب.
وعند ذلك نزل مرميس فقالت له: انظر هذا البيت والحديقة التي تكتنفه، ألا ترى باب الحديقة؟ - بلى. - هو ذا مفتاحه.
ثم أعطته مفتاحا صغيرا وقالت له: اذهب وافتح به الباب، وامش في الحديقة حتى تغدو تحت نوافذ المنزل فصفق بيديك ثلاث مرات؛ فإنها العلامة المتفق عليها. - ألا تأتين معي أنت؟ - كلا.
ثم تركته وعادت من حيث أتت.
48
وقد تردد مرميس هنيهة حين رأى الأرلندية تركته وعادت مسرعة، وجال الشك في نفسه؛ إذ خشي أن تكون هذه المرأة رسول تريبورينو.
غير أن هذا الخوف لم يتجسم في قلبه؛ فإنه ذكر أنها أظهرت له الإشارة التي عينها الرئيس، فأخذ المفتاح وتقدم إلى باب الحديقة ففتحه، ودخل ويده قابضة على مسدسه من قبيل الاحتياط.
ولما دخل أقفل الباب، ورأى ضوءا منبعثا من نافذة في المنزل فاهتدى به واخترق الحديقة توا إليه، حتى إذا بات تحت تلك النافذة صفق بيديه ثلاث مرات، فرأى أن الضوء قد تحول عن مكانه، ثم رأى أن باب الغرفة المشرفة على الحديقة قد فتح.
وهناك سلم من الرخام فصعد درجاته غير هياب حتى انتهى إلى باب، فولج منه إلى فسحة ضيقة لا ضوء فيها، وسمع صوت امرأة تقول له: تعال من هنا، فعلم أن الصوت صوت روميا.
ثم شعر أنها أخذت بيده وقالت: اتبعني.
فتبعها وسارت به إلى أن اجتاز تلك الفسحة وانتهيا إلى سلم فرشت درجاته بالطنافس فقالت له همسا: اصعد واحذر أن يسمع حس لوقع أقدامك. - ألسنا وحدنا هنا؟ - كلا، فإن لنتون في الغرفة التي فوقنا. - أفي الغرفة التي رأيت فيها الضوء؟ - نعم.
فصعد مرميس بما أوصته من التأني حتى وصلا إلى آخر السلم، ففتحت البستانية الحسناء بابا عن يسارها ودخلت منه، فتبعها مرميس فوجد نفسه في قاعة صغيرة تكتنفها الظلمات.
غير أنه رأى في أحد جدران القاعة ثقبا صغيرا ينفذ منه النور الذي شاهده وهو في الحديقة.
فقالت له روميا: ضع عينك فوق هذا الثقب وانظر.
ففعل ونظر مقعدا شرقيا كبيرا، ورأى عليه شخصا نائما بملابسه وقد سقطت فوق صدرته البيضاء بعض نقط من الخمر.
ورأى بجانب المقعد منضدة وضعت فوقها قناني الشراب الفارغة، وصينية عليها بقايا طعام.
فقالت همسا: إنه نائم.
فوضع مرميس فمه في أذنها وسألها: ألعله نائم نوم تخدير بأدويتك السرية؟ - كلا، بل هو صريع السكر. - ألعله سكر بالأفيون؟ - بل بالخمر.
فابتسم مرميس وقد عجب كيف أنها أسكرته بالخمر وفي وسعها أن تضله عن الرشد بما لديها من العقاقير المخدرة.
وكأنها قد علمت ما جال في فكره فقالت له: أراك منذهلا مما تراه، لكن الماجور لنتون هو غير المركيز دي مورفر.
وقد لفظت اسم المركيز بصوت أجش، فعلم مرميس أنها لو لم تصبح عبدة لروكامبول لما سلم قاتل حبيبها برديتو من انتقامها الفظيع.
غير أن مرميس لم يجبها فقالت له: إن لنتون عاش في الهند دهرا طويلا، فهو يعلم ما أعلمه من أسرار الأزهار والمخدرات والسموم، ولا أستطيع الوقوف على سره بالمخدرات، بل بالغرام. - ألعل له سرا؟ - دون شك؛ ألم يقل لك الرئيس شيئا عنه؟ - كلا، فقد قال لي: إنهم سيأتون بي إليك، وإنك ستخبرينني بما يجب أن أعلمه. - إذن فاعلم أن الماجور لنتون عاد من الهند بثروة عظيمة. - إني أعلم بهذه الثروة. - وأن الرئيس يريد سلبه إياها. - وهذا أعلمه أيضا. - غير أننا لا نزال نجهل أين توجد هذه الأموال، فإنه شديد الحذر، كثير الحرص عليها، وقد خبأها في مكان لا يعلم به أحد، وهو على فرط غرامه بي لم أستطع أن أعلم منه شيئا إلى الآن. - ولكنه لا بد أن يكون أودع أمواله المصارف، فكيف السبيل إليها؟ - إنه لم يودع شيئا منها خلافا لما تتوهم، بل إنه اكتنزها أو خبأها في مكان لا يهتدي إليه سواه. وهذا ما نبحث عنه الآن أنا والرئيس. - ولكنك تقولين: إنه يهواك. - نعم، لكنه يحبني كما يحب الغني أداة ثمينة، أو حصانا جميلا، فهو يحبني بعينيه لجمالي، ولكنه لم يحبني بقلبه بعد، على أنه إذا لسعت هذا القلب عقرب الغيرة بات في قبضة يدي أفعل به ما أشاء. - ولكني أراه يذهب بك إلى المراسح والمنتديات، فلو كان يخشى الغيرة لما عرضك للعيون. - إنه يرى الناس يحدقون بي فيسر؛ لأنه لا يغار من جميع الناس. وإن الغيرة لا تكون إلا من واحد. - أتريدين أن تقولي: إنك تستطيعين حمله على الغيرة؟ - دون شك، إذا أردت أن تمثل الدور الذي أسألك تمثيله بأمر روكامبول. - إني أفعل كل ما يأمرني به الرئيس. - إذن فاسمع.
ثم جلست وإياه على مقعد كان يبعد خطوتين عن الثقب الذي رأى منه تريبورينو.
49
أما تريبورينو فقد كان صريع سكره وهو نائم بسكينة وارتياح.
وقد كان متعودا منذ عشرين عاما أن يسكر عند العشاء وينام، فإذا صحا من رقاده ذهبت السكرة وعاد إلى ما كان عليه من الصحو.
وكان آخر عهد القراء به أننا تركناه في الباخرة العائدة من الهند إلى إنكلترا، لكنه لم يعد إلى بلاده توا، بل إنه عاد قبلا إلى فرنسا وأقام في باريس عدة أيام.
وإنه كان يتجول ليلة في شارع الإيطاليين إذ رأى البستانية الحسناء فدهش لجمالها، ولا نعلم إذا كانت يد الصدفة قد دفعتها إلى لقائه في هذا الشارع أم يد روكامبول، ولكن الرأي الثاني أقرب إلى الصواب.
أما تريبورينو فقد كان واثقا من نيل كل ما يريد بفضل تلك الثروة الهائلة، فلما رأى روميا وراقه جمالها أرسل من اقتفى أثرها، وحظي منها بموعد لقاء، وبعد ثلاثة أيام جاء بها إلى لندرا.
ولم يكن قلبه خاليا من الغيرة كما توهمت روميا؛ فإنه إذا كان واثقا من المستقبل فلم يكن مطمئنا للماضي، وكان يقول في نفسه: إن هذه الحسناء مهما بلغ من طمعها فإني أستطيع إرضاءها بجزء من مائة من إيرادي، ولكني أخشى أن يكون قلبها عالقا بأحد عشاقها، وأنها تحبني حب مكر ورياء.
أما روميا فإنها لم تكن تجهل مخاوفه، فكانت تزيد هواجسه، ولا تكشف له شيئا من أسرار ماضيها، بل إنها كانت تبدر منها من حين إلى حين كلمات مبهمة تهيج ثائر هذا العشيق فيبيت منها بليلة الملسوع.
ولقد تقدم لنا القول أن تريبورينو كان يسكر فينام، ثم يستفيق من تلقاء نفسه بعد أن تزول نشوة السكر، غير أنه في هذه الليلة لم يستفق من تلقاء نفسه حسب عادته، بل إنه صحا لسماعه صوت ألم شديد؛ فهب منذعرا إذ علم أن هذا الصوت صوت عشيقته روميا.
فناداها باسمها فلم تجب، فوثب من مقعده إلى الغرفة المظلمة المجاورة، فعثر بجسم ممدد على الأرض.
وكان ضباب السماء قد انقشع ونفذت أشعة القمر إلى تلك الغرفة، فرأى تريبورينو على نوره روميا ممددة على الأرض لا حراك بها.
فذعر ذعرا شديدا وقد حسبها ميتة، فحملها بين ذراعيه وجعل يناديها فلا تجيب.
وفيما هو يجس قلبها شعر أن يده قد لمست مادة لزجة عند كتفها، فصاح صيحة منكرة؛ إذ علم أنها دماء، وأسرع إلى جرس الخدم فقرعه قرعا شديدا، فوافاه اثنان منهم وبأيديهما المصابيح، وحملوا البستانية إلى سريرها، وجعل يفحصها فرأى أنها مجروحة في كتفها جرحا غير خطر، ولكن الدماء كانت تتدفق منه.
وجعل يشممها المنعشات حتى استفاقت، ففتحت عينيها وجعلت تنظر إلى ما حواليها نظرات تشف عما داخل قلبها من الرعب.
وسألها تريبورينو: قولي ماذا جرى؟ - لا شيء. - كيف لا شيء وهذا الدم؟ - إني عثرت بالمقعد فسقطت. - بل إنك تكذبين. - كلا، كلا، لم يحدث شيء. - إنك أصبت بضربة خنجر. - لا أعلم. - من دخل إلى هنا؟
فنظرت روميا إلى ما حولها بذعر وقالت: لم يدخل أحد.
وكانت النافذة مفتوحة، وكانت تقول هذا القول وهي ناظرة إليها نظرة تتنهد؛ كي توهمه أن الرجل دخل إليها من النافذة، وأنها تتنهد لما علق بقلبها من هواه.
وقد رأى تريبورينو منها هذه النظرات، فجن من غيرته وترك روميا بين أيدي الخدامين يضمدان جرحها، ثم ركض إلى الحديقة وجعل يفحص ترابها، فرأى آثار أقدام على الرمل فاقتفى الأثر حتى انتهى إلى باب الحديقة فوجده مفتوحا.
ولم يعد يشكك أن البستانية جرحت من أحد عشاقها، وعاد إلى المنزل وهو يزبد من الغضب، وأمر الخدامين بالانصراف وجلس بجانبها فقال لها: إن رجلا قد دخل هذه الليلة إلى هذه الغرفة وطعنك بخنجره، فمن هو هذا الرجل؟
فهزت البستانية الحسناء رأسها وقالت له: لا تسألني فإني لا أستطيع أن أقول شيئا.
فقال لها بلهجة التهديد: ولكني أريد أن أعرف كل شيء. - ذلك محال.
فضرب الأرض برجليه وقال: قلت لك أريد أن أعلم. - ولكني لا أستطيع أن أقول شيئا، فإذا شئت اقتلني.
ونظر تريبورينو فرأى ذلك الخنجر الذي جرحت به روميا على الأرض، وأسرع إليه فاختطفه وعاد به إلى روميا فقال لها: تكلمي أو لا تلقين مني غير الموت.
50
أما البستانية الحسناء فإنها لبثت ساكنة هادئة كأنما هذا الإنذار غير موجه إليها.
وأما تريبورينو فإن الغيرة قد صعدت من قلبه إلى رأسه فألهبت دماغه، وبات كالمجانين، ولبث يردد هذا القول: تكلمي أو أقتلك.
ولما طال تهديده رفعت روميا رأسها بعد إطراقها، ونظرت إليه بعين كانت تتقد اتقاد السلاح سطعت عليه أشعة الشمس، ثم ابتسمت ابتسام الساخر وقالت له: تريد أن أتكلم، أليس كذلك؟
فضغط تريبورينو على قبضة الخنجر حتى كاد يسحقها وقال: بلى، أريد أن أعلم كل شيء.
فلم يظهر على روميا شيء من الرعب وقالت له: إذا كانت هذه إرادتك؛ فليكن ما تريد وسأتكلم. - أرأيت كيف انتهى بك التهديد إلى الخوف؟ - كلا، إني لا أخاف هذا الموت الذي تنذرني به، ولكني أريد أن أنهج معك منهج الحرية؛ فقد كفاني ما ألقاه كل يوم من غيرتك.
وكانت تتكلم هذا الكلام بلهجة تظهر التهكم، فاضطرب تريبورينو، ولكنه كظم غيظه وصبر إلى أن تتم حديثها.
وعادت روميا إلى الكلام فقالت: إني سأكون معك حرة الكلام والضمير، فاعلم أني لست امرأة طاهرة نقية، وما أنا من أهل العواطف والأحلام، بل أنا تاجرة جمال، ولكني شديدة الطمع ببضاعتي، فأنا أريد قصرا لا منزلا، ولو استطعت لصغت النجوم عقودا وجملت بها هذا العنق الذي تهواه.
أما وقد عرفت ذلك مني، فاعلم الآن أني ما أصغيت إلى حديث غرامك إلا بعد أن قيل لي بأنك أعظم مثر في هذا الوجود.
فأجابها تريبورينو: وأنا أعلم أنك طامعة بمالي، ولو كنت مكانك لما فعلت غير ما تفعلين، ولكن جميع ما قلته لا ينبئني عن هذا الرجل الذي دخل إلى غرفتك. - بل هذا الرجل كاد يقتلني، وطبع فوق كتفي أثرا من خنجره ...
فهاج غضبه وقال: نعم، إني أطلب أن أعرف اسم هذا الرجل.
صبرا وأصغ إلى أن أتم حديثي: إنك حين لقيتني في باريس كان لي خيل ومركبات وجواهر وقصور، ولم يكن علي ديون، فكنت أنفق في العام ثلاثمائة ألف فرنك. - ماذا تريدين بذلك؟ - أريد أنه قبل أن يعود الماجور لنتون بالكنوز من الهند كان يوجد في باريس من يحبني وينفق علي كما أشتهي.
فوقع هذا الكلام من قلبه وقوع السهم؛ لأنها عرفت منه موضع الضعف ؛ إذ علم أن مزاحمه في عشقها لم يكن من عامة الناس وفقرائهم، فهاجت عوامل الغيرة منه وسألها: ومن هو هذا الرجل الذي يستطيع أن ينفق إنفاقي؟ - إنه شخص هواني هوى عظيما، ولم يسئ إلي بشيء، فلما تركته ولحقتك إلى لندرا كتبت إليه كتاب وداع، ولكني حرصت على إخفاء أثري. - وهذا الأثر؟ - اقتفاه لفرط عشقه إياي وعرف أين أنا. - أجسر على القدوم إلى هنا؟ - نعم. - ولماذا لم توقظيني حين قدومه؟ - لأسباب أولها أنك كنت سكران. - وثانيها؟ - وثانيها أني لا أستطيع طرد رجل عشقني عشقا مخلصا، ونهج معي مناهج الكرام.
فقال لها بلهجة المحتقر: ولكن هذا الكرم دفع به إلى هاوية الإفلاس؟ - إنك منخدع؛ لأن ثروة هذا الرجل الذي أخبرك عنه لا تنضب ولو أنفق على عشر نساء مثلي لما أثرن عليه.
فهاجت كبرياء هذا السارق، وثارت عوامل الغيرة في قلب هذا العاشق فسألها: من هذا الرجل؟ وماذا يدعى؟ - إنك لا تعرف اسمه. - لكن من يكون له مثل هذه الثروة يعرفه جميع الناس لاشتهاره؟ - افترض أنه أمير روسي. - إذا كان هذا الرجل غنيا إلى هذا الحد؛ فكيف تركته من أجلي؟ - لأنهم قالوا لي إنك أغنى منه.
فسر تريبورينو من هذا المديح وأجاب: لقد أصابوا؛ لأني أغنى إنسان في هذه البلاد. - هذا ما يعتقده الناس في لندرا وباريس، بل هذا ما كنت أعتقده أنا، ولكني لا أعتقد بشيء من هذا الآن.
فتراجع منذعرا وقال: كيف ذلك؟ - إني صدقتك في البدء فلم أسأل عنك ولا عن مقدار ثروتك، على أن هذا الرجل الذي جاءني في هذه الليلة قال لي: إذا كان الماجور أغنى مني تنازلت له وتراجعت عن غرامك. - لقد أصبت بثقتك بي أولا، وأخطأت في النهاية، وأنا أقبل بهذا الشرط، فماذا قال لك الرجل أيضا عني؟ - يقول أيضا: إن هذا الرجل يموه على الناس تمويها، وإنه لم يعد من الهند إلا بمال قليل وبعض الحجارة الكريمة، وإن جميع ثروته لا تقوم بنفقتك شهرين ثم يتخلى عنك لإفلاسه؛ فتخسريه وتخسريني.
فضحك ضحكا عاليا وقال : أهو يظن هكذا؟ - بل هو يقين لديه يثبته بالأدلة. - وما هو برهانه؟ - برهانه أنك لم تستودع مصرفا من مصارف لندرا وباريس وفرانكفورت وفيينا مليونا واحدا من الثروة التي تدعيها. - هذا أكيد. - وبرهانه أنك لا تمتلك شبرا من الأرض في إنكلترا وفرنسا وغيرهما. - وهذا أكيد أيضا. - وآخر براهينه أنهم سألوا عنك حاكم الهند بالتلغراف، فأجاب أنك برحت الهند بثروة قليلة جمعتها من اقتصادك في رواتبك. - هذا أكيد أيضا، غير أن لي ألوفا من الملايين تكدس بعضها فوق بعض. - أين هي هذه الملايين؟
فنظر إليها عند هذا الكلام نظرة البازي إلى فريسته ثم قال لها بعد سكوت قصير: إذا قلت لك أين هذه الملايين كلفك هذا السر ثمنا غاليا.
فضحكت روميا ضحكا دلت به على عدم تصديقها ثم قالت: رضيت بالثمن، ولكني أريد أن أعرف.
51
وساد السكوت بين تريبورينو والبستانية الحسناء، وكان كل منهما يفحص الآخر ويقول في نفسه: ترى من يكون الغالب؟
إلى أن بدأ تريبورينو الحديث قائلا: إذن أنت تعتقدين أيتها الحسناء أني مموه محتال؟ - هذا ما يقوله الناس عنك. - وترين أني فقير لا تكفيك ثروتي شهرين، ولكني كما قلت لك: لا يوجد في جميع أوروبا من يملك ربع ثروتي. - كل ذلك ممكن، ولكن الكلام وحده لا يكفي. - أتريدين إذن أن تري ثروتي كي تصدقي؟ - دون شك. - احذري! - من أي شيء تريد أن أحذر؟ - من أمر بسيط؛ وهو أني أخاف اللصوص. - ذلك من حقك؛ لأن من كان مثريا وجب عليه الحرص على ماله. - إنه، إلى الآن، لم يعلم الموضع الذي خبأت فيه أموالي غير شخص واحد. - إذا كنت قد أوقفت على سرك واحدا، فلا بأس من أن تطلع عليه اثنين. - لكن هذا الرجل الذي أطلعته على سري بات عبدا لي، وباتت حياته في قبضة يدي، فهل يروق لك أن تكوني مثله؟ - أقبل إذا أضحت هذه الكنوز تحت أمري. - ولكن يجب أيتها الحبيبة أن أخبرك قبل كل شيء كيف أصبح هذا الرجل عبدي، وباتت حياته بيدي.
إن هذا الرجل الذي ائتمنته على سري ارتكب جريمة إذا أذيع سرها حكم عليه بالإعدام، وإن لدي الأدلة الكافية على ثبوت جريمته، فإذا فشا سر كنوزي أفشيت سر جريمته، فأعدمته بكلمة أرسلها إلى رئيس البوليس، غير أنك لا تقاسين إلى هذا الرجل؛ لأنك لم ترتكبي جرائم فيما أظن. - من يعلم؟ - ولو افترضت أنك مجرمة، فليس لدي برهان يؤيد جريمتك.
فقالت له بلهجة تدل على صدق العزيمة: وإذا أعطيتك هذا البرهان؟
فاضطرب تريبورينو وأتمت هي حديثها فقالت: كلا، إن جميع ذلك لا يفيد، وأنا لا أزال واثقة من أن ما قيل لي عنك حقيقة لا شك فيها، فاسمح لي أن أكلمك بحرية وجلاء.
فقال لها ببرود: تكلمي. - إن هذا الرجل الذي جاء إلى منزلي وطعنني بالخنجر واسع الثروة، وثروته ظاهرة للعيان، وإن من الحكمة إيثار الجلي على الخفي، والثابت على المجهول.
أما وقد عرفت هذا، فاعلم أن هذا الرجل يدعى غاستون، وهو في مقتبل العمر يأخذ جماله وريعان صباه بمجامع القلوب، ولم أكن أحبه قبل هذا العهد، غير أنه حين طعنني الليلة هذه الطعنة بت ميالة إليه؛ لأن المرأة تحب الذي تخشاه، ولذلك قد عزمت عزما أكيدا أن أبيت الليلة في منزلك فأستريح، ثم أفارقك في الغد فراق الأبد.
فلم يضطرب تريبورينو لكلامها، بل قال لها بملء السكينة: وإذا أريتك كنوزي؟ - هذا أمر يصعب عليك فيما أظن. - وإذا أريتك إياها؟ - أوافق ولكن بغير شرط. - ذلك مستحيل! ولكني أشترط عليك شرطا واحدا يسهل عليك احتماله، إذا كنت صادقة النية؛ وهو أنك لا تفارقيني بعد اطلاعك على هذا السر. - على شرط أن يحق لي التمتع بالكنز. - دون شك.
فابتسمت وقالت: رضيت، وهلم بنا؛ لأنك ما خبأت كنوزك في هذا المكان دون شك. - هو ما تقولين، ولكني لا أستطيع الذهاب الآن. - هو ذا برهان آخر على العجز. - كلا، ولكن يجب علي قبل ذلك أن أحتاط لنفسي. - ممن؟ - منك!
ثم قرع الجرس فأسرع إليه أحد الخدم، وهو رجل هندي جاء به من الهند فأخلص في خدمته إخلاصا أكيدا، حتى إنه لو أمره بارتكاب الآثام في خدمته لما تردد، وكان هذا الهندي يدعى لبتينو، فناداه وقال له بالهندية: أترى هذه السيدة؟ - نعم. - إنك ستقيم معها إلى أن أعود، وإذا أرادت الخروج من هذه الغرفة فاقتلها.
ثم أعطاه الخنجر الذي بيده وقال لروميا: أرجوك أن تصبري بضع ساعات فقط إلى أن أعود. - ومتى تعود؟ - في المساء لأذهب بك إلى المكان المعهود. - أتذهب في مركبة؟ - كلا، بل في سفينة. - وماذا يجب أن أصنع حتى تعود؟ - يجب أن تصبري وتحذري؛ أما صبرك فعلى البقاء في هذه الغرفة، وأما حذرك فمن الخروج منها؛ لأن هذا الهندي وحشي الأخلاق، وقد أمرته أن يقتلك إذا حاولت الهرب، وهو سيلازمك ملازمة ظلك. - ليكن ما تريد، ولكني أسالك أن تأمر الهندي أن يقف في الرواق عند باب الغرفة ليخفرني، كي لا أكون وإياه في غرفة واحدة. ولا سبيل لي إلى الهرب من نافذة هذه الغرفة، لأنها تعلو عشرين مترا عن الأرض، ثم لا فائدة لي من الهرب بعد أن عزمت عزما أكيدا على أن تريني الكنز. - لقد أصبت.
ثم أمر الخادم أن يقف عند الباب خارج الغرفة وانصرف.
وبقيت روميا وحدها، وبقي الخادم في الرواق يتمشى ذهابا وإيابا مشهرا الخنجر.
وبعد ذهاب تريبورينو بساعة كانت روميا تلاعب حمامة قالت لتريبورينو إنها اشترتها من أحد بائعي الطيور في لندرا.
وكانت الحمامة تطير في جهات الغرفة، فتنتقل من كتفها إلى كل مكان في الغرفة كما يتنقل الطير على الأغصان.
وبعد أن لاعبتها روميا هنيهة قامت إلى منضدة وكتبت على ورقة صغيرة ما يأتي:
راقبوا البيت؛ سيذهب بي تريبورينو هذا المساء في قارب. اتبعوه لأنه سائر إلى موضع الكنز.
ثم أخذت الورقة فطوتها وربطتها بشريطة في عنق الحمامة، وفتحت النافذة فأطلقتها، وطارت الحمامة وحلقت في الفضاء تشق عباب الريح.
وعند ذلك ابتسمت وقالت: هذه هي حيلة لم يفطن لها هذا الأبله الخائن؛ إذ لم يخطر له أن هذه الحمامة من الحمام الزاجل.
52
مضى النهار كله دون أن يعود تريبورينو، فأقامت روميا في غرفتها لم تبرحها، وأقام الهندي على الباب لم ينصرف عنه.
وبعد أن أطلقت الحمامة بساعة، عادت إليها تلك الحمامة ووقفت على النافذة وجعلت تحرك جناحيها، فأسرعت إليها ووجدت الشريطة معلقة بعنقها وفيها ورقة، ففتحتها وقرأت فيها هاتين الكلمتين: «إننا ساهرون!»
وعندما أقبل الليل عاد تريبورينو، وكان الضباب قد انقشع فرأت روميا من نافذتها القارب الذي جاء به، وشاهدت بحارين.
غير أن هذا القارب لم يكن من القوارب الخاصة بالملاحة في نهر التاميز، بل كان من قوارب السفن التجارية؛ إذ شاهدت على قبعات البحارة اسم السفينة التي يخدمون فيها.
ولما دخل تريبورينو إليها قال لها: ألا تزالين أيتها الحبيبة مصممة على مشاهدة الكنوز؟ - دون شك؛ لأني لا أقيم معك إلا على هذا الشرط كما اتفقنا. - ليكن ما تريدين.
ثم قام إلى خزانة ففتحها وأخرج منها قطعة من القماش بشكل كيس له ثقب من وسطه.
فسألته: ما هذا الكيس؟ وماذا تريد به؟ - أريد أن أحيط به رأسك، فإذا لبسته فلا ترين الطريق الذي سرت فيه. وهو احتياط لا بد لي منه. - افعل ما تشاء؛ فلا يهمني إلا أن أشاهد الكنز وأثق من ثروتك. - إذن هلمي بنا.
وخرج الاثنان من المنزل إلى الشاطئ، وهناك وضع الكيس في رأسها، وربط أطرافه في عنقها، ولكنها قبل أن تلبسه شاهدت على قيد عشرين مترا من القارب سفينة ضخمة معدة لنقل الفحم، وشاهدت رجلا واقفا عند مقدمتها يدخن.
فقالت في نفسها: إني لم أشاهد هذه السفينة قبل الآن، فإذا كانت هي سفينة روكامبول فلا تستطيع إدراك القارب؛ لأنها بطيئة السير لضخامتها.
ثم أخذ تريبورينو بيدها وصعد بها إلى القارب وقال للبحارة: سيروا بنا.
فسار القارب ومر بسفينة الفحم، فلم يكترث بها تريبورينو، ولم ينتبه إلى كلب أسود من كلاب الأرض الجديدة كان واقفا قرب الرجل على مقدم السفينة.
فلما ابتعد القارب عن السفينة أشار الرجل إشارة إلى الكلب فألقى نفسه في النهر وجعل يسبح مقتفيا أثر القارب.
أما البستانية فإنها كادت تختنق من ذلك الكيس، ولكنها عولت على الصبر إلى النهاية ، فقد أمرها روكامبول أن تكتشف الكنز، فلم تجد بدا من الامتثال.
وكانت المسافة شاسعة بلغت سير ساعة لم تكن البستانية تسمع في خلالها غير وقع المجاذيف بانتظام، وبعد ذلك شعرت أن القارب قد وقف، ثم أحست أن تريبورينو قد أخذها بيدها وصعد سلما، فعلمت أن القارب قد توقف قرب سفينة كبيرة.
ثم شعرت أنها بلغت إلى سطح تلك السفينة الكبرى، وسمعت صوتا يقول: كل شيء قد تهيأ يا مولاي. فأجاب تريبورينو صاحب الصوت قائلا: أنحن وحدنا؟ - نعم، لقد بعثت جميع البحارة إلى البر. - والغرفة؟ - إنها مهيأة حسب أوامركم. - حسنا.
ثم مشى بضع خطوات مع البستانية ونزل بها سلما، حتى إذا انتهيا من نزوله قال لها: إنك تستطيعين الآن أن تنظري؛ ففكي قيود الكيس وانزعيه عن رأسك.
فأزاحت ذلك الكيس الذي كاد يخنقها ونظرت إلى ما حواليها، فرأت ذلك الرجل الذي كان يكلم تريبورينو وهو جون هابر، وشاهدت أن السفينة خالية لا يوجد فيها أحد سوى هذين الرجلين.
وعند ذلك قال لها تريبورينو: سترين أيتها الحبيبة أني غير مموه خداع كما يتوهم عشيقك.
ثم دخل بها إلى غرفة جون هابر، وكان يوجد تحت سريره حصير هندي، فأزاح الحصير فظهر من تحته لولب أداره ففتح باب غرفة سري ينزل إليها بسلم، فأخذ الربان مصباحا ونزل درجات السلم، فتبعه تريبورينو وروميا حتى انتهيا إلى الغرفة السرية، فرأت أن ضوء المصباح كان ينعكس على أكداس الذهب وأحجار الألماس فتتقد اتقادا.
فوقفت وقفة المنذهل مما شاهدته من الثروة الهائلة، ووقف تريبورينو أمامها وقال لها بلهجة الساخر: أترينني صادقا فيما كنت أدعيه أم أنا من المموهين المخرفين؟
53
وكانت البستانية قد عرفت قبلا من روكامبول مقدار هذه الثروة العظيمة، ولكنها لم يسعها إلا الاندهاش لأنها شاهدت أكثر مما سمعت، غير أنها نظرت إلى تريبورينو وقالت له بعظمة وسكينة: حسنا، لقد بت معتقدة الآن أنك من الأغنياء العظام. - أترين أني أعظم ثروة من عشيقك القديم؟ - دون شك، والبرهان أني سأبقى معك.
فابتسم وقال لها : إنك ستبقين معي دون ريب؛ فإن زمن سفرك قد فات. - كيف ذلك؟ - سوف أخبرك، وهلمي معي.
ثم أشار إلى جون هابر أن يقفل باب الكنز، وقال له: سر بنا إلى غرفة السيدة.
فامتثل الربان ومشى أمامهما وهما يتبعانه حتى وصل إلى غرفة متسعة، فدخلا إليها وقال لها: هو ذا المكان الذي عين لإقامتك.
فاضطربت لما ظهر عليه من دلائل التهكم وقالت: أهذا مسكني؟ - دون شك. - لكن أتمنى أن تكون إقامتي فيه إلى الصباح. - بل إلى شهرين أو ثلاثة أشهر. - كيف يكون ذلك؟ - لأننا سنسافر. وماذا يهمك ما زلت من الأغنياء؟ - لا أنكر أني عولت على الإقامة معك، ولكني لا أبغي أن أكون سجينة في هذه الغرفة. - إنك تبقين فيها إلى أن تقلع بنا السفينة، وعند ذلك تصعدين إلى سطحها. - إلى أين نحن مسافرون؟ - لا أستطيع أن أخبرك اليوم. - لكن قل لي على الأقل متى نسافر؟
غدا مساء قبل غروب الشمس إذا وافقتنا الرياح. - إذن يمكنني أن أعود صباحا إلى البر؟ - كلا. - لماذا؟ - لأنك عرفت الآن سري، ولا أحب أن يذاع السر في أحياء لندرا.
فأذعنت لاعتقادها أن إقناعه محال، وقبلت مكرهة بهذا الأسر، فقال لها: لكن إقامتنا في هذه الغرفة لا تمنعنا عن العشاء. - من يخدمنا؟ - جون هابر الربان في هذه السفينة؛ فإنه وسفينته ملك لي.
ثم ضرب بيده على منضدة وأسرع إليه الربان فقال: هات العشاء.
وذهب الربان وعاد بعد حين يحمل صينية عليها عشاء فاخر صف من حولها قناني النبيذ، ثم حاول الانصراف فأوقفته بحركة وقالت لتريبورينو: ألا تأذن لي بإحضار حمامتي؛ فإنها تؤانسني بهذا السجن؟ - كيف لا، فإني لا أبغي أن تتضجري، ولا أتمنى لك إلا الخير.
ثم قال للربان: اذهب إلى المنزل وأحضر الحمامة بقفصها من غرفة السيدة.
فامتثل الربان وجلس تريبورينو حول المائدة يأكل ويشرب القدح تلو القدح حسب عادته في كل ليلة، فلم تحن الساعة الثانية بعد انتصاف الليل حتى صرعه الشرب، فانقلب ونام على الأرض.
فقامت روميا عند ذلك إلى الباب، فرأته محكم الإقفال من الخارج، وأنه متين لا سبيل إلى كسره، فضربت الأرض برجلها من القهر وقالت: إني أسيرة، ولكن لا بد للرئيس أن يعلم أننا مسافرون غدا، وكيف لي بإخباره؟
وبعد ساعة، سمعت صرير المفتاح في القفل، ثم فتح الباب ودخل الربان يحمل قفص الحمامة وهي نائمة فيه.
فأعطاها إياها ونظر إلى تريبورينو نائما تحت المنضدة فهز رأسه وقال: إن صوت المدافع لا يوقظه الآن. - ألعلك محتاج إليه؟ - كل الاحتياج؛ لقد جئته بنبأ خطير، ولكن لا بأس فسأصبر حتى يستفيق.
ثم انصرف وأقفل باب الغرفة من الخارج كما كان.
غير أن هذه الغرفة كان لها نافذة تطل على البحر كأكثر غرف البواخر، ففتحتها وقد خطر لها أن تعود إلى استخدام الحمامة، ثم نظرت نظر الفاحص إلى تريبورينو، فرأت أن السكر أخذ منه، وأنه لا يستفيق قبل ساعتين أو ثلاثة، فأخذت دفترا صغيرا من جيبها فانتزعت منه ورقة وكتبت عليها ما يأتي:
أنا في سفينة لا أعرف اسمها، ولكن الربان يدعى جون هابر، والأموال مخبوءة في العنبر. إننا نسافر مساء غد. واللبيب يفهم بالإشارة.
روميا
ثم أيقظت الحمامة، وكان الفجر أوشك أن ينبثق، فعلقت الورقة في عنقها وأطلقتها.
وكان تريبورينو لا يزال نائما، غير أن الحمامة لم يطل غيابها؛ فإنها عادت بعد ساعة ووقفت على نافذة الغرفة، ووجدت البستانية في عنقها ورقة، ففتحتها وقرأت هذه الجملة: «نحن على أتم الاستعداد.»
فأعادت الحمامة إلى القفص، وبعد هنيهة صحا تريبورينو من سكرته ووجدها نائمة قربه على مقعد.
54
ولنرجع الآن بالقارئ إلى عهد بضع ساعات مضت، أي حين كان تريبورينو سائرا بالقارب مع البستانية، وحين سقط الكلب في البحر بإشارة من صاحبه مقتفيا أثر القارب.
أما صاحب الكلب فإنه لبث بعد سقوطه واقفا في مقدمة سفينة الفحم، وبعد هنيهة صعد إليه شخص من عنبر السفينة، وكان هذا الشخص مرميس.
وقد عرف القراء دون شك أن صاحب الكلب لم يكن إلا روكامبول، وكان الاثنان بملابس الفحامين، وقد اسود وجهاهما وأيديهما من غبار الفحم الموجود في السفينة .
فلما صعد مرميس قال له روكامبول: لقد مر بنا هذا اللص بقاربه دون أن ينتبه إلينا.
فأجابه مرميس: إنه منشغل عنا بغرامه. - بل بأمواله، وفي كل حال فإن روميا في أثره كما قالت لنا في الرسالة التي تركتها مع الحمامة.
فابتسم مرميس ابتسام المعجب بأستاذه وقال له: إن هذه الطريقة التي ابتكرتها للمراسلة هي خير الطرق. - إني لم أبتكرها يا بني؛ فقد كانوا يستعملونها في العصور الوسطى، وهذا الحمام يسمى عندهم الحمام الزاجل. - والكلب؟ - إنه من خير الكلاب التي تستخدم للتجسس، فقد أتيت به من الأرض الجديدة حين عودتي من الهند، وهو سيتبع القارب حتى يعرف مقره ولو اجتاز التاميز إلى المانش، وإذا توقف القارب عند السفينة عاد إلينا فقادنا إليها.
وكانت السفينة تسير ببطء في أثر القارب فلا تصل إليه حتى اختفى عن الأنظار، فجعل الاثنان يتحدثان وهما ينتظران عودة الكلب، فقال له مرميس: لقد علمت كيف أن تريبورينو لم يطلع البستانية على سره لشدة إشفاقه على كنزه، ولكني لم أعلم كيف أنك لم تعلم إلى الآن موضع الكنز؟
فأجابه: إني أبحث عنه منذ شهر فلا أهتدي إليه، ولكني وثقت أن تريبورينو لم يضع شيئا من المال في مصارف باريس ولندرا وأدمبره ودبلين. - ولماذا؟ أتراه يحاول دفنها في الأرض شأن الأغنياء، وهو على ما عهد به من الذكاء؟ - كلا، ولكنه علم أن الأفكار ثارت عليه، وأن نظرات حكومة الهند قد تحولت إليه؛ فهو ينتظر إلى أن تهدأ ثورة الأفكار بشأن ثروته، وتفرغ الحكومة من البحث في مصادر هذه الثروة؛ ولذلك فهو يخفيها الآن في مكان لا تصل إليه العيون.
وقد كان خطر لي في بدء بحثي أنه يتركها في مكانها في سفينة الربان جون هابر الراسية الآن في الحوض، غير أني رجعت عن هذا الخاطر لما أعلمه عن دهائه وحرصه؛ فإن هذا الربان قد يقلع بسفينته في ليلة مظلمة إلى ميناء مجهول ويستأثر بالمال.
وفيما روكامبول يحادث مرميس سمع نباحا، فعلم أنه صوت كلبه وقال: هو ذا الكلب قد عاد إلينا بالخبر اليقين ، وسوف ترى.
وبعد حين وصل الكلب إلى سفينة روكامبول، فلما شاهد صاحبه نبح نباحا قويا وعاد إلى السباحة أمام السفينة كأنه يريد إرشادها إلى المكان الذي ذهب إليه القارب.
فقال روكامبول: هلم بنا الآن في أثر الكلب. فسار الكلب سابحا أمامها، والسفينة تتبعه حتى انتهى إلى سفينة جون هابر، فجعل يطوف حولها.
فأيقن روكامبول أن البستانية في تلك السفينة، وأن الكنز لا بد أن يكون فيها، فأخذ مرسى سفينة الفحم وألقاه في البحر.
فقال مرميس: ماذا تصنع أيها الرئيس؟ - إننا سنقف قرب هذه السفينة. - إلى متى؟ - لا أعلم؛ فإني أراقب الحوادث، ثم اضطجع واضطجع مرميس بقربه، فكان روكامبول شاخصا ببصره إلى السفينة يراقبها.
وبعد ربع ساعة شاهد روكامبول شخصا ينزل من السفينة إلى القارب وبيده مصباح، فعرفه روكامبول وقال لمرميس: هو ذا جون هابر قبطان السفينة، وقد شفيت جراحه وعاد إلى ما كان عليه من القوة. - ألا يجب أن نقتفي أثره؟ - كلا، إنه ذهب إلى البر ولا بد أن يعود.
ولقد أصاب روكامبول، فإن هذا الربان عاد بعد ساعة يحمل بيده قفصا فيه حمامة، فقال: إن البستانية ساهرة، وسنقف على حقيقة أمرها قبل الفجر. - ماذا يجب أن نصنع الآن؟ - أنت تبقى هنا تراقب كل ما يحدث في السفينة، أما أنا فعائد إلى المكان الذي تذهب إليه الحمامة عادة فأقف على أخبار روميا.
ثم تركه وغطس في البحر فعاد سباحة إلى البر.
55
ووصل روكامبول إلى البر فنفض ثيابه من الماء، وذهب إلى وينغ في خمارة كالكراف التي عرفها القراء باسم خمارة الملك جورج، فلم يندهش كالكراف لمرآه؛ إذ تعود أن يرى منه كل غريبة، ولكنه أدخله إلى غرفة فيها كثير من الملابس المختلفة، فغير روكامبول ملابسه ودخل إلى القاعة العمومية وهو بملابس البحارة.
وكان في هذه القاعة بعض البحارة يشربون، وبينهم شخص منزو حول منضدة يشرب منفردا ولا يشارك القوم في حديثهم.
فلما شاهده روكامبول ارتعش وقال: إني عرفت هذا الشخص، ولكني لا أذكر أين، غير أنه لم يطل تذكره حتى علم أنه كان رفيقا له في سجن طولون، فأنكر وجوده في هذا المكان لا سيما وقد شاهده بملابس رؤساء البحارة في السفن الكبرى، فقال في نفسه: كيف تمكن هذا اللص أن يفر من السجن فيغدو بحارا، ثم يرتقي إلى رئيس؟
فخطر له أن يبحث في شأنه، ففتح ساعته كي يعلم إذا كان لديه من الوقت ما يضيعه في البحث عن أمر هذا الرجل، فرأى أن الساعة الثالثة فقال في نفسه: لا يزال لي فرصة ساعة؛ فإن الحمام لا يرى في الليل.
وكان للمكان الذي ألفت الحمامة أن تحضر إليه برسائل البستانية نافذة في غرفة الأرلندية، وهي الغرفة التي كانت تقيم فيها جيبسي، أي أنها لا تبعد غير بضع خطوات عن خمارة الملك جورج.
وكان الفصل في ذلك العهد خريفا فلا يشرق النهار قبل الساعة الخامسة، فلما نظر روكامبول في ساعته قال في نفسه: إن روميا لا تطلق الحمامة قبل ساعة، ولا يزال الوقت فسيحا لدي.
وكان من عادة روكامبول أنه يعتمد على الصدفة والاتفاق، فقد علمته التجارب أن الصدفة خير معين؛ لذلك دنا من هذا الرجل الذي رآه في الخمارة وجلس بقربه وحياه.
فقال له ذلك الرجل اللابس ملابس رؤساء البحارة: لقد أتيت بعد فوات الأوان أيها الرفيق؛ فقد ألفت بحارة السفينة ولم أعد محتاجا إلى أحد. - ما هي هذه السفينة؟ - هي وست إنديا لربانها جون هابر، وقد عهد إلي الربان أن أعد بحارتها لأنها مزمعة على السفر.
فاضطرب روكامبول حين سمع اسم هذا الربان وقال للرجل: إني أهنئك بما بلغت إليه. - بماذا تهنئني أيها الرفيق؟ وما الذي بلغت إليه؟ - ألم تكن هناك؟ - أين هناك؟
فما أحب روكامبول أن يطيل الحديث فقال له باللغة الفرنسية: ألا تذكر أيها الصديق أننا أكلنا أكلا واحدا في سجن طولون.
فاصفر وجه الرجل وقال له وهو يتلعثم: إنك مخطئ؛ فما دخلت في حياتي السجون.
فأجابه روكامبول ببرود: بل دخلت إلى سجن طولون وكنت تدعى فيه نمرة 4، أما اسمك الحقيقي فأذكر أنك تدعى جوزيف كوتيريه أو روديريه. لا أعلم؛ فإن العهد بعيد.
فلما سمع الرجل هذه التفاصيل الصادقة جعل يضطرب وباتت أسنانه تصطك من الخوف، ورأى أنه لا سبيل إلى الإنكار فقال له: رحماك أيها الرفيق ولا تفضح أمري؛ فإني كما تقول قد هربت من السجن وكنت أدعى فيه 41، لكن ليس في إنكلترا من يعلم بشيء من أمري. وقد وصلت إلى ما تراني فيه بفضل حسن سلوكي، ولو كان لي ثروة لوهبتك إياها، لكني أهبك كل ما أملكه.
فابتسم روكامبول وقال: أمعن النظر بي لعلك تعرفني. - كلا، بل يلوح لي، ولكن هذا محال. - أراك عرفتني. - 117؟
فقال روكامبول وهو يبتسم: نعم هو بعينه سجين طولون القديم.
وكأنما هذا الرجل قد اطمأن لما عرفه؛ فإن 117، أي روكامبول، اشتهر في سجن طولون شهرة فائقة؛ فإنه أنقذ السجين من الموت، ومنع آلة الإعدام أن تسقط، ومن ينقذ إخوانه من السجون؛ فلا يعيدهم إليها ولا تخطر له خيانتهم في بال.
وهذا الذي حمل جوزيف على الاطمئنان حتى إنه جاهر به فقال لروكامبول: نعم، لقد عرفتك ولم أعد أخشى خيانتك؛ لأني عرفتك.
فقال له روكامبول: لا أنكر أني لا أخونك، ولكني أشترط في ذلك أن تطيعني في كل ما أريد.
فعاد الرجل إلى الاضطراب فقال: إني أطيعك في كل شيء ما عدا الإثم؛ فإني تبت توبة صادقة. - وأنا أيضا. - وقد كرهت العيش القديم، وآثرت العيش بعرق الجبين، أما وقد عرفت ذلك مني فقل ما تريد. - أريد أن أشتري آثامك الماضية بعمل صالح يكون كفارة عما اجترمته من الذنوب.
فبدت على وجه جوزيف علائم السرور والارتياح وقال: أحقا ما تقول؟ - إن روكامبول لم يكذب بعد أن تاب، فهل تطيعني متى وثقت من سلامة قصدي؟ - أطيعك طاعة لا حد لها. - إذن فاسمع.
وخلا روكامبول بهذا الرجل، ولم يعلم أحد ما جرى بينهما حتى كالكراف.
غير أن روكامبول حين بدأ الفجر ينبثق خرج من الخمارة وهو يقول: لقد أصبح تريبورينو في قبضة يدي.
ثم انصرف إلى غرفة الأرلندية لينتظر الحمامة ، وفتح النافذة فما طال انتظاره.
ولما أقبلت الحمامة برسالة البستانية التي تقدم نشرها أجابها عليها بقوله:
نحن على أتم الاستعداد.
56
أما تريبورينو فإنه صحا من نومه حسب عادته حين شروق الشمس، فأجال في الغرفة نظر الفاحص فوجد البستانية نائمة، ووجد الحمامة في القفص.
وقد وجد أيضا نافذة الغرفة مفتوحة، فخطر له في البدء أن البستانية فتحتها بغية الهرب منها، لكنه ابتسم وقال في نفسه: إن هذا محال؛ فإن الأغنياء لا يهرب منهم النساء، وإنما فتحت النافذة التماسا للهواء.
وفيما هو على ذلك سمع قرع الباب، ثم رآه قد فتح ودخل منه جون هابر فقال له: إني أتيت في الليل لأراك ولكنك كنت في حالة من السكر يتعذر بها محادثتك. - ألعلك أتيتني بشأن خطير؟ - دون شك. - ما هو؟ - أولا: أنني جددت تأليف طاقم السفينة. - لماذا؟ - إذ لم أجد من الحكمة استخدام الهنديين وتجديد الاتفاق معهم لا سيما وقد بت مشككا ببعضهم. - ألعلك خائف منهم على الكنز؟ - هو ما تقول.
فسر تريبورينو وقال: الحق أنك رجل شريف أمين. - لقد خدعتك الظنون بي؛ فما أنا بشريف، بل أنا خائن مثلك، ولكني رأيت أن فائدتي هي في صيانة أموالك، فبت حريصا عليها هذا الحرص.
ولم يظهر تريبورينو استياء من كلام الربان وقال له: إذن فقد غيرت البحارة؟ - نعم، ولم أبق واحدا من القدماء. - وهل البحارة الجدد ماهرون؟ - إنهم من البحارة المجربين، وقد كلفت باختيارهم رجلا فرنسيا كان من كبار المجرمين ففر من سجنه وبات من خير البحارة. - كيف ذلك، أتختار مجرما لقيادة السفينة؟ - ألم أقل لك إنه فر من سجنه، فهو سيكون لنا من أوفى الأوفياء؛ إذ يعلم باطلاعي على سره. - أرى أنك قد تعلمت طريقتي، ونهجت مع هذا الرجل كما نهجت معك، وهي طريقة صالحة في كل حال. والآن قل لي متى نستطيع السفر؟ - إننا سنخرج من الحوض في هذا المساء، ونرسو الليلة في عرض النهر في الجهة المقابلة لمنزلك، وعند الفجر نسافر، فقل لي أنت أيضا إلى أين أزمعت السفر؟ - إننا سنتجول في إيكوسيا الشرقية؛ فقد اشتريت هناك منزلا منحوتا في جوف صخر، وفي نيتي أن أخبئ أموالي فيه؛ إذ تكون هناك في أمان. - أما وقد ائتمنتني على سرك، فاسمع أخبرك بما لا يخطر لك في بال: أتذكر ذلك الرجل الذي حاول نسف سفينتنا ثم نجا من النافذة وتوارى سابحا في البحر؟ - أتريد به ذلك الفرنسي صديق الرجاه الذي يدعى أفاتار، ولكنه غرق قبل أن يصل إلى البر؟ - أتظن أنه غرق؟ - بل أؤكد؛ فقد نشرت جرائد الهند بجملتها أنهم عثروا بجثته وجثة نادر.
فقال له الربان ببرود: ولكن الجرائد كلها منخدعة؛ فإن هذا الفرنسي لا يزال حيا يرزق، وهو الآن في لندرا.
فاصفر وجه تريبورينو وقال: إن وجوده فيه خطر شديد علينا؛ فلنسرع بالرحيل. - ولكني كفيتك مئونة هذا الخطر، ألا تذكر أنه بعدما أبداه من الجرأة في محاولة الاستيلاء على السفينة أننا كتبنا تقريرا عن شرح الواقعة أمضاه جميع البحارة؟ - نعم. - إن هذا التقرير وحده يكفي للحكم عليه بالإعدام إذا اتصل بنظارة البحرية، وسيقبض عليه اليوم. - ولكن أين؟ - في فندق بريستول حيث يقيم ويعيش عيش الأشراف. - أأنت واثق من كل ما قلته لي؟ - كل الثقة. - أرأيته بعينك؟ - رأيته منذ يومين في تياترو غاردن، فأرسلت أحد بحارتي يقتفي أثره، فاقتفاه وعلم أنه يقيم في هذا الفندق باسم الماجور أفاتار.
وجعل العرق ينصب من جبين تريبورينو وقال: أتظن أن البوليس يصدق ما تقول؟ - دون شك، فسأذهب إلى نظارة البحرية فأطلعها على التقرير وأخبرها باسم الفندق، فترسل من يقبض عليه.
فمسح تريبورينو عرق جبينه وقال: لقد أحسنت، ولكني كنت أؤثر أن يكون هذا الشيطان قد مات غرقا. - إنهم سيعدمونه رميا بالرصاص، فإذا تنوعت أسباب الموت فالموت واحد.
وعند بلوغهما بالحديث إلى هذا الحد تنهدت روميا، وكانا يحسبان أنها نائمة، فقال له تريبورينو: كفى؛ لقد صحت من رقادها ولا أحب أن تسمع هذا الحديث.
أما روميا فإنها فتحت عينيها وفركتهما مرات متتالية وهي تنظر نظرات الانذهال إلى ما حواليها، وتمثل الصحو من الرقاد أتم تمثيل، ولم يشككا أنها كانت نائمة .
57
ولنعد الآن إلى مرميس فإنه بقي مضطجعا فوق سفينة الفحم يراقب سفينة تريبورينو كما أمره روكامبول، وأقام طول ليله يراقب السفينة دون أن يلوح له شيء جديد.
وعند الفجر رأى الكلب قد التفت، فالتفت إلى الجهة التي التفت إليها فرأى رجلا واقفا وهو يشير إليه بالمجيء، فما شك أنه روكامبول بالرغم عن تغير زيه وشكله، فأسرع إلى موافاته.
وكان هذا الرجل روكامبول نفسه، وقد بالغ في التنكر كي لا يعرفه أحد، فلما صعد مرميس إلى قاربه عاد الاثنان إلى الرصيف، وسارا حتى إذا انتهيا إلى شارع مقفر قال له روكامبول: إني لو لم أشر إليك لما عرفتني؛ فإني متنكر بزي جون هابر ربان هذه السفينة التي فيها الكنز، وسأتولى قيادة السفينة وأخرج بها من الحوض عند منتصف الليل، فتكون أنت الربان الثاني.
فانذهل مرميس وقال له: ولكن تريبورينو مقيم فيها، وهو يعرف ربانها معرفة جيدة؟ - إني حين أصعد إلى السفينة يكون تريبورينو قد بات أسيرا فيها. - من يأسره؟ - أنت.
وزاد انذهال مرميس وقال له: أتم حديثك، فإني لا أفهم كلمة من هذه الألغاز. - إن الأمر بسيط؛ لأن تريبورينو وجون هابر سيسافران هذه الليلة إلى مكان مجهول، وقد عرفت ذلك من رسالة البستانية، ثم إن جون هابر قد أطلق سراح جميع بحارته وكلف شخصا أن يجمع له عشرة بحارة أشداء، وعرفت هذا الرجل وبات شبه عبدي، ولو كان الوقت فسيحا لدينا لأخبرتك بجميع هذه التفاصيل، ولكنك سترى فتعلم كل شيء. - وإلى أين نحن ذاهبان الآن؟ - إلى خمارة كالكراف حيث نجد فيها هذا الرجل وجون هابر معا؛ إذ لا بد له من الحضور إلى الخمارة لموافاته.
وظل الأمر مبهما ملتبسا على مرميس، ولكنه لم يجسر على سؤال روكامبول.
وبعد نصف ساعة بلغا الخمارة واجتمعا بجوزيف كرتيريه في غرفة خاصة، وقال روكامبول لجوزيف: أأنت واثق أن جون هابر سيحضر إلى هنا؟ - دون شك؛ فإني متفق معه على أن أريه البحارة الذين جمعتهم، وموعدنا هنا في الساعة العاشرة. - وهل أنت واثق أيضا أنه لا يوجد بين البحارة الذين جمعتهم من يعرفه؟ - نعم، فليس بينهم من اشتغل في سفينته. - إذن ابقوا أنتم هنا، وأنا أنتظر في الغرفة المجاورة؛ فإني أخاف أن يأتي فجأة فيراني.
ثم تركهما ودخل، وبقي مرميس وجوزيف ينتظران.
ولما أذنت الساعة التاسعة أقبل جون هابر ودخل إلى القاعة فقال لجوزيف: لقد تأخرت قليلا؛ فإني كنت في نظارة البحرية لقضاء بعض المهام، فمن هذا الذي أراه معك؟ - هو أحد البحارة الذين جمعتهم، وسيحضر الآخرون فتراهم. - إذن نشرب زجاجة خمر إلى أن يحضروا.
ولكنه قبل أن يطلب الزجاجة سمع صوتا يشبه صفير الهواء، وشعر بحبل التف على عنقه وجذبه فسقط على الأرض.
ذلك أن روكامبول خرج من مخبئه وأطلق الحبل عليه حسب الطريقة التي تعلمها من الخناقين.
وعند ذلك انقض عليه جوزيف ومرميس بأمر روكامبول فقيداه، وأشهر روكامبول خنجره وقال له: تخير بين طاعتي فيما أريد، وبين أن تموت على الفور، وأسرع بالجواب فإن الوقت ثمين.
وكان جون هابر حكيما، وفوق ذلك فقد رأى من أعمال روكامبول ما يدعوه إلى الحكمة، فلم يستغث ولم يقاوم.
ولما أتم مرميس تقييده نادى روكامبول كالكراف وسأله أن يحضر له أدوات الكتابة، فامتثل وخرج، وجون هابر ينظر إليه نظرات الحقد والتأنيب.
أما روكامبول فإنه قال للربان: إننا سنحل قيد يدك اليمنى كي تكتب ما أمليه عليك. - وإذا أبيت أن أكتب؟ - تموت في لحظة.
فلم يسعه إلا الامتثال، فأملى عليه روكامبول ما يأتي:
لحضرة الماجور لنتون
أرسل إليك رئيس بحارتي الذي سيتولى قيادة السفينة مع البحارة العشرة الذين اختارهم، ولي فيهم ملء الثقة، وهو سيخرج بالسفينة من الحوض وينتظرني على مسافة مرحلة من لندرا، وعند منتصف الليل أحضر وأكون متأهبا لتنفيذ أوامرك، أما تأخري في البر فلقضاء بعض المهام.
جون هابر
فلما كتب هذه الرسالة طواها روكامبول ووضعها في جيبه، ثم نادى كالكراف أيضا وقال له: إنك مسئول عن هذا الرجل مدة عشرة أيام تسجنه في خلالها في قبو الشراب الذي اتفقنا عليه.
ثم أضاف إلى ذلك بلهجة المتهكم قائلا: وبعد عشرة أيام تطلق سراحه فيذهب للبحث عن سفينته.
58
وحمله كالكراف وذهب به إلى القبو، وأقبل البحارة بعد حين فعرضهم جوزيف على روكامبول وهو متنكر بزي جون هابر وقال لهم: هو ذا الربان الأكبر.
ثم خلا روكامبول بمرميس فقال له: إني لا أحب أن أذهب في النهار إلى السفينة كي لا يعرفني تريبورينو، وسأوافيكم إليها في الليل؛ فإنه يسكر وينام حسب عادته، فاجتهد حين تذهب إلى السفينة أن ترى روميا وتقول لها أن تضع جميع هذا المخدر في كأس شرابه.
فقال مرميس: أهذا كل ما تأمرني بقضائه؟ - نعم، فاذهب الآن مع البحارة إلى السفينة، وخذ المخدر لروميا.
ثم نادى جوزيف وأعطاه خطاب جون هابر إلى تريبورينو، وأمره أن يذهب بالجميع إلى السفينة.
وبعد أن ذهب البحارة دخل روكامبول إلى غرفته، فخلع تنكره وارتدى ملابس النبلاء، ثم خرج من الخمارة وجعل يتجول في شوارع لندرا حتى انتهى إلى مكتب التلغراف، فدخل إليه وأرسل التلغراف الآتي:
فلكستون فندق بلجيكا
إلى مدام فاندا كرايلف
تم العمل. سافري مع الغلام وميلون بقطار الليل.
أفاتار
ولم يعد توا إلى فندق بريستول الذي كان مقيما فيه، بل إنه ذهب إلى بيكاديللي فتغدى، ثم إلى نادي «بال مال» فأقام فيه يطالع الجرائد إلى وقت العشاء.
وعند الساعة الثامنة، ذهب إلى فندق بريستول كي يأخذ أوراقه، فلما وصل إليه رأى الأرلندية تنتظر جازعة.
فقال لها: ماذا أصابك؟ وماذا تريدين؟ - إني طفت جميع لندرا باحثة عنك، وأنا أنتظرك هنا منذ الظهر؛ فإن الحمامة قد عادت.
فارتعش روكامبول وقال: أهي حاملة رسالة؟ - نعم، وهذه هي.
فأخذ روكامبول الرسالة بيد تضطرب، وأشار إلى الأرلندية أن تتبعه إلى غرفته، وهناك فتح الرسالة وقرأ فيها ما يأتي:
إن جون هابر يعلم أنك في لندرا، وقد شكاك إلى نظارة البحرية؛ فاحذر أن تعود إلى فندق بريستول.
فاصفر وجه روكامبول وقال: يجب أن نبرح هذا الفندق في الحال، فماذا فعلت بالحمامة؟ - أبقيتها عندي. - حسنا فعلت.
وبينما هو يجمع أوراقه بسرعة إذ قرع باب غرفته وسمع صوتا من الخارج يقول: افتحوا باسم الشرع.
فاضطرب روكامبول وعلم أن البوليس قد ظفر به، ولكنه رأى أنه لا بد من فتح الباب، فقال للأرلندية: إني سأعطيك رسالة؛ فضعيها في عنق الحمامة وأطلقيها عند الفجر.
ثم ذهب ففتح الباب، ودخل رجلان من البوليس فقال له أحدهما: أأنت الماجور أفاتار؟ - نعم. - لقد صدر إلينا الأمر يا سيدي بالقبض عليك، وهذه صورة الأمر. - ولكن بأي ذنب أنا متهم؟ - يتهمونك أنك حاولت في خليج بنغال نسف سفينة وست إنديا.
فقال روكامبول بسكينة: لا شك أنهم مخطئون، ولكني لا أحاول إقناعكم أنتم؛ إذ ليس ذلك من شأنكم؛ ولذلك سأتبعكم إلى حيث تريدون، إنما أسألكم أن تأذنوا لي بكتابة كلمة إلى صديق لي؛ ليوافيني دون شك إلى محل التوقيف فيخرجني منه.
فأذن له البوليس بالكتابة، فأخذ ورقة وكتب عليها بضعة أسطر بالقلم الرصاص، ثم دفعها إلى الأرلندية وقال لها: أرسليها عند الفجر مع الحمامة.
وعاد إلى البوليس وقال: هلموا بنا.
59
كانت السكينة سائدة في السفينة وست إنديا، وقد وصل إليها جوزيف ومرميس والبحارة عند الظهر، فدفع جوزيف إلى تريبورينو الرسالة التي أملاها روكامبول على جون هابر، فقرأها دون أن يشكك فيها وقال في نفسه: إن الربان لم يبق في البر إلا للقضاء على روكامبول القضاء المبرم.
وقد اغتنمت روميا فرصة وجوده على سطح السفينة فكتبت إلى روكامبول تلك الرسالة التي أعطته إياها الأرلندية بعد فوات الأوان، وأقامت تنتظر عودة الحمامة عدة ساعات فلم تعد.
ثم نزل تريبورينو إلى غرفتها وقال لها: اصعدي إلى سطح السفينة وسرحي الطرف بجمال الميناء؛ فإن الطقس جميل.
فامتثلت روميا وصعدت، وكان أول رجل رأته مرميس؛ فتنهدت تنهد الارتياح وعلمت أن الرئيس قد أدرك المرام.
أما مرميس فإنه اغتنم فرصة انشغال تريبورينو بمحادثة رئيس البحارة، فدنا منها وقال لها: إن الرئيس يحضر عند نصف الليل، فبكري بالعشاء مع تريبورينو، وضعي في كأسه هذا المنوم.
فأخذت روميا المخدر وعادت إلى غرفتها تتفقد الحمامة، لكن الحمامة لم تعد ، غير أن كلام مرميس طمأنها على روكامبول.
وعند الساعة السادسة دخل تريبورينو وقال لها: إننا سنبرح الحوض هذه الليلة، وعند الصباح نسافر.
وقالت بلهجة تدل على عدم الاكتراث: ليكن ما تريد.
وبعد حين رفعت المراسي ونشرت القلوع، فخرجت السفينة تمشي الهوينا من الحوض.
وكانت روميا قد تمكنت خلال النهار من محادثة مرميس وقالت له: إن خوفي شديد؛ فإن جون هابر في البر وسيشكوه إلى نظارة البحرية.
فابتسم مرميس وقال: إن هذا الربان بات سجينا عندنا فلا نخشاه. - ولكن الحمامة لم تعد إلى الآن؟ - إن الرئيس أبقاها عنده دون شك كي لا يحمل تريبورينو على الريب، وسيعود بها إلينا.
وعند الساعة العاشرة، خلا تريبورينو مع البستانية في غرفتها، وبدأ بالسكر والعشاء حسب العادة وقال لها: إن جون هابر قد لا يعود قبل نصف الليل، وإذا عاد في هذا الحين أكون طائرا في عالم الأحلام بفضل هذه الخمر المعتقة. - أما أنا فأكون صاحية، وإذا أردت أن تأمره بشيء أنوب عنك في تبليغه أمرك. - نعم، فإن السفينة سترسو بعد ساعة قرب منزلي الذي كنا فيه، فمتى وافانا إليها مريه باسمي أن لا يرفع المراسي قبل أن أستفيق.
وجلس حول المائدة، وجعل يأكل ويشرب وهي تنادمه وتناغيه حتى أوشك سكر الخمر واللحظ أن يذهب بصوابه، فدست له في كأسه ذلك الرشاش المخدر، فشربه وكان آخر كأس؛ إذ صعق فجأة حين استقر في جوفه، وأطبق عينيه وسقط بين قواعد المائدة.
وقامت روميا عند ذلك فهزته هزا عنيفا فلم يستفق، وأيقنت أن المخدر قد صرعه.
ثم نادت مرميس وقالت له: هو ذا قد بات صريعا، وهو لا يستفيق قبل يومين كما علمت من المخدر، فكم الساعة الآن؟ - إننا في منتصف الليل. وقد رست السفينة في المكان المعين. - إذن إن غياب الرئيس لا يطول.
ثم صعدت وإياه إلى سطح السفينة، ولم يطل وقوفهما حتى رأيا قاربا يدنو فقالت: لا شك أنه قارب الرئيس.
غير أن القارب مر بالسفينة دون أن يقف.
وثارت هواجس روميا ومرميس، وتمكن الخوف منهما على الرئيس، لا سيما وأن مرميس قد ذكر ما قاله جون هابر حين وصوله إلى خمارة كالكراف؛ فقد قال: إنه كان عائدا من نظارة البحرية.
ومرت الساعات، وكانت القوارب تمر بالسفينة دون أن تقف؛ فأيقن مرميس أن روكامبول قد أصيب بنكبة، وعول على الرجوع إلى البر، وأمر جوزيف أن يعد له قاربا.
وكان الفجر قد انبثق، فبينما البحارة ينزلون إلى البحر رأت روميا الحمامة تحوم حول السفينة.
وقالت: هو ذا الحمامة قد عادت.
وأسرعت إلى غرفتها فأخذت الحمامة، ورأت في عنقها رسالة فانتزعتها منه، وقرأت مع مرميس ما يأتي:
أنا الآن سجين، ولكني سأخرج من سجني غدا أو بعد غد؛ فلا تقلقوا علي، واكتبوا في الحال رسالة إلى مس ألن في لندرا أني سجين.
ثم سافروا عند الصباح إلى الهافر، وأبقوا تريبورينو في العنبر، وكلما استفاق اسقوه المخدر، أما أنا فإني سأوافيكم إلى الهافر أو أكتب إليكم؛ فانتظروني أو انتظروا كتابا مني فيها.
روكامبول
فوقفت روميا موقف الحائر وقالت: ماذا يجب أن نصنع؟
وقال لها مرميس: يجب أن نصدع بأمر الرئيس؛ فهو سيوافينا دون شك، أو نتلقى أوامره من الهافر متى بلغنا إليها. - إذن ليكن ما تريد.
وكتب مرميس رسالة إلى مس ألن - وهي تلك الفتاة النبيلة التي أنقذها روكامبول من مخالب السير جورج ستوي، فكانت له خير حليف مع أبيها اللورد - وبعثها إليها مع بحار.
فلما وثق من وصولها أمر بأن تقلع السفينة، فسارت تشق عباب البحر إلى الهافر وفي عنبرها الكنوز وسارقها.
وصلت السفينة إلى الهافر بعد بضعة أيام، فأسرع مرميس بالنزول إلى البر باحثا عن روكامبول، فكان أول من رآه ميلون، فدهش لمرآه وقال له: كيف أتيت؟ وأين الرئيس؟ - إن الرئيس لا يزال في لندرا، وأنا هنا مع فاندا وسائر رجال العصابة، وقد صدر إلينا أمره أن نوافيك إلى الهافر نعطيك هذا الكتاب. - وأين هي فاندا الآن؟ - إنها في فندق قريب مع بقية العصابة، ونحن هنا منذ ثلاثة أيام ننتظر وصول السفينة، فكنت أحضر كل يوم إلى الميناء وألبث فيها إلى المساء.
ثم أعطاه كتاب روكامبول وهو معنون باسم مرميس وروميا، فأخذه وعاد به إلى السفينة، ففضه وقرأ فيه مع روميا ما يأتي:
أكتب إليكم من لندرا؛ فقد تحتم علي البقاء فيها إلى أجل غير محدود لقضاء مهمة خطيرة. أرجو أن أغسل بقضائها ذنوبي السابقة وأنال عفو الله.
وأنا بخير وعافية، وقد خرجت من السجن بمساعي المس ألن وأبيها اللورد، وقد يمر عهد طويل دون أن تقفوا على شيء من أخباري؛ فاحذروا من البحث أو القدوم إلى لندرا إذا لم ترد إليكم أوامري مهما تلبست أحوالي بالخفاء، ومهما انقطعت عنكم أخباري.
والآن، فإني أوصيك يا مرميس أن تدعو إليك جميع رجال العصابة فتنقلوا الأموال تباعا إلى البر، حتى إذا باتت كلها لديكم ضع النقود في مصرف باريس باسمي، وأبق اللآلئ والأحجار الكريمة أمانة في ذلك المصرف.
وبعد فراغك من نقل الأموال ووضعها حيث أمرتك؛ تعود إلى السفينة فتطلق سراح البحارة، وبعد أن تكافئهم خير مكافأة، وتسقي تريبورينو جرعة من المخدر، ثم تتركه وحده بالسفينة وتعود برفاقك إلى باريس؛ فإن جون هابر سيوافيه إلى الهافر للبحث عن سفينته، فيفعلان ما يشاءان. ومتى فرغت من جميع ذلك فابعث إلي برسالة برقية بعنواني الذي تعرفه؛ كي أطلق سراح الربان، وأهديه إلى مرسى السفينة.
ثم أريد متى عدت إلى باريس أن تشغل جميع رجال العصابة كلا بمهنته، وتعطيهم لهذه الأعمال من أموال جيبسي؛ فإنها لا يجب أن تنفق إلا في سبيل الخير، فاجعل ميلون مقاولا؛ لأن مهنته بناء، وتجعل جواني تاجر لحوم؛ لأن مهنته جزار، وهلم جرا، ثم تجتمعون كل أسبوع للمداولة برئاسة فاندا فيما يجب صنعه من أعمال الخير والبر.
أما روميا فيجب أن تسافر في الحال إلى الهند حيث ينتظرها نادر في كلكوتا.
ويجب على مرميس أن يزور كل يوم ابن المركيز مورفر في مدرسته، ويتفقد أباه في المستشفى، كما يجب على فاندا أن تعتني بابن الرجاه، وفي كل شهر ترسلون إلي تقريرا وافيا عن جميع أعمالكم بالعنوان الذي أبعثه إليكم كل شهر.
وفي الختام أعيد عليكم ما بدأت به؛ فاحذروا أن تبحثوا عني مهما انقطعت أخباري.
وهذا كل ما أطلبه إليكم؛ فاعملوا بما علمتكم، واعلموا أن روحي ساهرة عليكم أين كنتم.
روكامبول
فأسف مرميس لبعد روكامبول أسفا شديدا، ولكنه لم يسعه إلا الامتثال، ففعل جميع ما أمره به، وبعد أسبوع سافرت روميا إلى الهند كما أمرها نادر، وأودعت الأموال في مصرف باريس كما أمر روكامبول.
وبات سارق الكنوز وحيدا فريدا في تلك السفينة، فلما استفاق من نومه وزال تأثير التخدير وتفقد كنزه وعلم مصيره جن من يأسه، فأطلق غدارة على صدغه أسالت دماءه، وجاء جون هابر إلى السفينة فوجد ذلك اللص الخائن جثة باردة، فألقاه في البحر غير آسف عليه، وعاد بسفينته إلى بلاده راضيا من الغنيمة بالإياب.
ابن أرلندا
ابن أرلندا
ابن أرلندا
ابن أرلندا
روكامبول (الجزء الثاني عشر)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
ابن أرلندا
1
هناك على ضفاف نهر التاميز، في ليلة ادلهم ظلامها وتلبد الضباب في سمائها، كان نحو خمسين سفينة بخارية تسير ذهابا وإيابا في ذلك النهر العظيم، فتنقل الركاب من ضفة إلى ضفة.
وإن بينهما سفينة ازدحم فيها الناس، بين نساء ورجال وأولاد على اختلاف طبقاتهم، فكان معظمهم شاخصين بأبصارهم إلى امرأة بين ركاب السفينة، لا تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها، ومعها غلام يبلغ عمره عشرة أعوام.
وقد اختلفت نظرات الناس إليهما، بين المعجب والمنذهل والمشفق؛ لأن ملابسهما كانت رثة تدل على الفقر، في حين أن مخائلهما كانت تدل على النبل والشهامة.
وكانت المرأة لابسة قبعة من القش وعلى كتفها شال قديم من نسيج القطن، وفي رجليها نعلان يدل تكدس الغبار عليهما أنها اجتازت مسافة شاسعة مشيا على الأقدام.
أما الغلام فقد كان عاري الساقين إلى الركبتين، حاسر الرأس لا يستره غير شعر أشقر كثيف. وقد وشحته أمه وقاية له من البرد بوشاح يظهر أن أصل لونه كان أحمر وأزرق. ولكنه استحال لتقادم العهد به فصار أصفر سنجابيا.
أما الذي دعا ركاب السفينة إلى إطالة النظر إلى الغلام وأمه، فهو أن هذه الأم على فقر ملابسها، كانت فتنة للناظرين بما وهبها الله من الجمال، وكان أصدق وصف للغلام أنه كان ملاكا لم ترسم مثل وجهه الصبوح أيدي أبرع المصورين.
وكانت المرأة بيضاء الوجه، قرمزية الشفتين، زرقاء العينين، سوداء الشعر. أما الغلام فكان أشقر الشعر، وله علامة غريبة يتميز بها، وهي خصلة حمراء دقيقة كانت تتسرب من شعره الأشقر إلى جبهته.
وكان الغلام وأمه ينظران بقلق إلى تلك العيون المحدقة بهما، ولا يفهمان لها معنى، ثم يحولان أنظارهما عن الناس إلى ضفتي النهر؛ فيريان على أنوار المصابيح ما كانا يمران به من المنازل والحدائق والمحطات والجسور، فيظهر من اندهاشهما أنهما غريبان.
ولم يكن بين المسافرين من يعلم من أين قدما، لأنهما ركبا السفينة من محطة كرنويش وقد وصلا إليها ماشيين. فتنهدت الأم وأخذت كيسها وفيها نحو ثلاثة شلنات وبضع قطع من النقود النحاسية، فأخرجت منه بنسين ثمن التذكرتين، وأقامت في المحطة تنتظر قدوم السفينة وهي حاضنة ابنها.
ولم تكلم أحدا مدة الانتظار حتى إذا وصلت السفينة إلى محطة أحواض الهند، سألت رجلا بقربها: هل نحن في لندرا؟
وكان هذا الرجل بائع سمك، وهو أيكوسي فقال لها: نعم ولا؛ لأن لندرا لا نهاية لها كما يقول الإنكليز فإلى أين أنت ذاهبة؟
فترددت المرأة هنيهة ثم قالت له: إني ذاهبة إلى شارع يوجد فيه كنيسة تدعى سانت جيل، واسم هذا الشارع لورنس ستريت. - إني أعرف هذا الشارع وهذه الكنيسة، فهي كنيسة كاثوليكية. - نعم. - ألعلك أرلندية؟ - نعم يا سيدي.
وكان هذا الرجل كريم الأخلاق، ولكنه كان كثير الكلام؛ فراق له الحديث مع هذه المرأة لما رآه من جمالها، وجعل يصف لها الطريق المؤدي إلى الكنيسة وصفا مفصلا دقيقا حتى إذا انتهى من تفصيله قال لها: ألعلك ذاهبة يا سيدتي إلى أهل لك في تلك الناحية؟ - كلا، إني لا أعرف أحدا من لندرا، ولكن قيل لي إنه يوجد في شارع لورنس رجل أرلندي يدعى بتريك سأقيم عنده أنا وابني . - إن اسم بتريك كثير الشيوع بين الأرلنديين، وإذا كنت لا تعلمين عن هذا الأرلندي غير اسمه الأول، فإنه ستبيتين هذه الليلة دون مأوى.
فرفعت الأرلندية عينيها إلى السماء وقالت: إن الله رءوف كريم، ولا يتخلى عنا.
واستأنف الرجل الحديث فقال لها: إنك قادمة إلى لندرا لتشتغلي فيها دون شك. - لا أعلم.
فاستغرب الرجل جوابها لا سيما حين رأى ملابسها الرثة، وقال لها: إن جميع الناس في لندرا يشتغلون ما خلا اللوردية. - إني أتيت بمهمة أليس غدا يوم 27 أكتوبر؟ - نعم. - إذن قد وجب علي أن أكون صباح غد في كنيسة سانت جيل، وأن أقدم ولدي لكاهن تلك الكنيسة.
فقال لها الأيكوسي ببساطة: ولماذا تريدين تقديمه للكاهن، في يوم معين؟ - لأن أباه أوصاني بذلك قبل وفاته.
وكانت الأرلندية تحادث الأيكوسي، وهي غير مكترثة للناس الذين كانوا ينظرون إليها، وبينهم رجل من النبلاء وامرأة كانا ينظران إلى ولدها نظرات خاصة.
وعاد الأيكوسي إلى الحديث، وقد أعجبه أدب المرأة وأشفق عليها؛ لسلامة قلبها فقال لها: إن امرأتي يا سيدتي كريمة الأخلاق، فإذا أردت أن تبيتي الليلة عندنا مع ولدك استقبلتكما بملء الارتياح، وعند الصباح تذهبان إلى الكنيسة.
وكانت لهجة الأيكوسي تدل على المروءة الصادقة، والإخلاص الصحيح، غير أن المرأة رفضت دعوته شاكرة وقالت له: يجب علي أن أذهب إلى حيث أمرت أن أذهب.
وكانت السفينة قد وصلت إلى المحطة التي يسير فيها الأيكوسي إلى منزله، فقال لها: إذن أستودعك الله وأسأله أن يقيك شر المعتدين.
ثم انصرف وعادت السفينة إلى سيرها.
وكان الرجل النبيل والمرأة لا يزالان في السفينة. أما الرجل فكان ينظر إلى عيني الغلام ويقول في نفسه: ما أشبه هذه النظرات المتقدة بنظرات أدمون.
وأما المرأة فإنها انسلت كالأفعى، وجلست بجانب الأرلندية وابنها.
2
كانت هذه المرأة التي انسلت إلى الأرلندية، أشرفت على سن الكهولة، وهي زرقاء العينين، مصفرة الأسنان، رقيقة الشفتين، تدل ملامحها على الخبث والدهاء.
فدنت من الأرلندية فبدأت حديثها معها بالثناء على ولدها، والإعجاب بجماله، ثم استطردت من ذلك إلى تعريفها بنفسها. فأخبرتها أنها كاثوليكية تدعى مسز فانوش وأن مهنتها تربية الأطفال، وأنها تقيم في منزل قرب أكسفورد على مسافة خطوتين من سانت جيل.
فقالت لها الأرلندية: تقولين إنك كاثوليكية، ألعلك أرلندية؟
فاشمأزت المرأة في البدء ولكنها فطنت إلى أن كل غريب يأنس بقومه في غربته فقالت لها: إني لم أولد في أرلندا، ولكني أرلندية الأصل فقد كان جدي أرلنديا، فلما هاجرنا إلى لندرا بقينا على مذهب الكثلكة. وقد لقيت عناء شديدا من زوجي - رحمه الله - فإنه كان بروتستانتيا، وكان يحاول إكراهي على تغيير مذهبي في كل حين.
ثم غيرت الحديث وقالت لها: أأنت ذاهبة إلى سانت جيل؟ - نعم يا سيدتي. - ألعلك تعرفين أحدا من الأرلنديين في تلك الجهة؟ - كلا يا سيدتي، ولكني مرسلة إلى شخص يدعى بتريك. - في شارع لورنس أليس كذلك؟ - هو ما تقولين.
وكان بجانب مسز فانوش امرأة لا تقل عنها خبثا كما تدل ظواهرها فتبودلت بينهما نظرة سرية لم ترها الأرلندية، فكتبت المرأة بسرعة اسم بتريك، وسانت جيل، ولورنس ستريت.
وعادت مسز فانوش إلى محادثة الأرلندية فقالت لها: ماذا عزمت أن تصنعي بغلامك الجميل، ألا تدخليه في مدرسة جامعة؟
فابتسمت الأرلندية ابتسام حزن وقالت: لا أعلم لأني فقيرة، وربما طال زمن فقري. - إني أرى مخائل النجابة تلوح بين عيني ولدك، وإذا شئت أدخلته إلى مدرستي مجانا لوجه الله، وأنا مربية أطفال كما قلت لك.
وكان الغلام يسرح نظره، خلال حديث تلك المرأة مع أمه، بالقصور التي كانت تمر بها السفينة.
فلما مل هذه المناظر، عاد إلى أمه وشاهد مسز فانوش؛ فشعر بعاطفة كره لها وقال لأمه: من هي هذه المرأة يا أماه؟
فابتدرته مسز فانوش بقطعة من الحلوى، أخرجتها من كيس مخملي كانت تحمله بيدها، وقالت له: إني يا بني أرلندية مثلك، فاقبل مني هذه الحلوى.
وكان الغلام جائعا غير أنه رفض الحلوى على جوعه؛ لنفوره من هذه المرأة وتشاغل عنها بالنظر إلى مياه النهر.
وعادت فانوش إلى محادثة الأرلندية فقالت لها : إنك لا تعرفين شيئا من لندرا أيتها العزيزة، فإني أعرف هذا الرجل الذي تدعينه بتريك. فهو إسكافي فقير، ستلقين عناء شديدا في المبيت عنده، وربما لا تجدين في منزله قطعة من الخبز. - لا بأس فسأشتري طعاما إذ لا يزال معي بقية نقود. - لقد قلت لك إني أقيم على قيد خطوتين من كنيسة سانت جيل، فإذا بت عندي هذه الليلة تبيتين على أحسن حال، ثم تذهبين في الصباح إلى الكنيسة. فأبيت قريرة العين بضيافة أرلندية مثلي.
ونظرت الأرلندية إلى ولدها كأنها تستطلع إلهام قلبه بالنظر، فانضم الغلام إلى أمه والتصق بها كما تتلاصق الطيور حين تشعر بدنو العاصفة، ثم قال لها بلهجة الخائف: لا تذهبي يا أماه إلى منزل هذه المرأة.
فقالت له فانوش: ليكن ما تريد يا بني.
ثم تبادلت نظرة سرية مع رفيقتها. أما الغلام فإنه أخذ يد أمه وقبلها بلهف كأنه شعر بأنه أنقذها من خطر عظيم.
ولقد تقدم لنا القول في الفصل الأول أنه كان يوجد بين ركاب السفينة رجل من النبلاء ينظر نظرات خاصة إلى الغلام وأمه.
وكان مستمرا على مراقبة الغلام، فلما رأى ما كان منه ومن فانوش، وعلم أن السفينة باتت قريبة من المحطة، نظر إلى ما حواليه فرأى بقربه رجلا يناهز الخامسة والأربعين من عمره، تدل هيئته على أن جميع شقاء لندرا قد تجمع فيه.
وكان لابسا بنطلونا برزت منه ركبتاه، وقبعة لا إطار لها، وسترة تجمعت فيها ألوان الأرض والسماء لتقادم عهدها. ولكنه كان واقفا في السفينة وقفة الشامخ المتعاظم، ولعله كان يفتخر بأنه لا يدانيه في الفقر أحد.
فدنا منه الرجل النبيل وقال له: إني أدعى اللورد بالمير، وأقيم في شستر ستريت فإذا وافقتني فيما أريد أعطيتك عشرة جنيهات.
فاضطرب الفقير إذ لم يملك في زمانه هذه القيمة وقال له: ألعلك تهزأ بي يا سيدي؟ - كلا، قل لي ماذا تدعى؟ - شوكنج. - ومهنتك؟ - لا مهنة لي. - ومن أين ترتزق؟ - من أبواب الصدفة. - هو ذا الصدفة قد فتحت لك أبوابها اليوم فادخلها. - بل أنت فتحت لي أبواب السعادة. فقل ماذا تريد أن أعمل؟ - أترى هذه المرأة الجالسة على المقعد مع ولدها؟ - نعم. - أريد أن تتبعها متى نزلت من المركب حتى تدخل منزلا لتبيت فيه؛ فتعود إلي وتخبرني عن موضع المنزل؛ فتكسب المال. - هذا أمر سهل ميسور، فإذا قضيته أين أجدك؟ - تجدني في منزلي الذي أرشدتك إليه، فاحذر أن يغيب عنك أثرها.
وكانت مسز فانوش في ذلك الحين قد دنت من رفيقتها، وقالت لها: إنك تعلمين أن مسز إميلي سوف تطالب بولدها، ثم إنك تعلمين أيضا أن ولدها قد مات. وهل كان يخطر لنا في بال أن الأمور تنقلب إلى هذا الحال إذ لا بد لنا من هذا الغلام. - ولكن الأم ماذا نفعل بها؟ - إن ويلتون يتخلص منها.
وعند ذلك وصلت السفينة إلى المحطة، فخرج الناس منها وازدحمت بهم المحطة، وبينهم الأرلندية وابنها وهي لا تعلم كيف تسير.
3
وخرجا من المحطة فسارا على الرصيف وراء الجموع المزدحمة، وكانت الأرلندية آخذة ولدها بيدها وهي خائفة وجلة من هذا الازدحام، لا تعلم كيف تسير فإن بائع السمك كان قد أرشدها إلى الشارع الذي تريد الذهاب إليه غير أنها نسيت كل ما قاله؛ لأنها لم تأت قبل هذه المرة إلى لندرا، وكانت تضيع رشدها بين هذه الجموع.
ثم خف الزحام بعد سير طويل فسألت أحد المارة عن شارع لورنس ستريت، فأجابها أنه لا يعرفه فشكرته، واستمرت في سيرها، فسألت آخر فأجابها كما أجابها الأول، فواصلت السير وقد ضلت الطريق وسارت في جهة الغرب، وطريقها من جهة الشرق.
وقد أجهدها السير ولم يعد يستطيع ابنها المشي، فشاهدت خمارة فدخلت إليها؛ بغية الاستراحة والاسترشاد.
وفيما هي جالسة مع ولدها على مقعد، شاهدت رجلا دخل الخمارة وطلب كأسا من الخمر فسرت الأرلندية لمرآه إذ ذكرت أنه كان معها في سفينة واحدة، فاستأنست به وأملت أن يرشدها إلى الطريق.
وكان هذا شوكنج نفسه الذي أرسله اللورد بالمير مقتفيا أثر الأرلندية، فوقف قربها وكأسه بيده ثم نظر إليها فلقيها تتطلع إليه فقال لها: أظن يا سيدتي أنك ضللت السبيل في هذه العاصمة العظيمة. - نعم، فإني أسأل منذ ساعة عن شارع لورنس ستريت، ولا أجد من يرشدني إليه. - ذلك لأنك لم تسيري إلا في الشوارع التي يسكنها الأغنياء، وهم لا يعرفون هذا الشارع الذي يسكنه أشد الناس فقرا، غير أني فقير مثلك، وقد وجب التعاون على الفقراء. وإذا شئت كنت دليلك إلى هذا الشارع. - إني أقبل شاكرة ممتنة، وأسأل الله أن يجزيك عني خيرا.
فشرب شوكنج كأسه ومشى أمامها فتبعته مع ولدها، وقد اطمأنت إليه لما رأته من دلائل السلامة بين عينيه، وكذلك الغلام فإنه نظر إليه في البدء نظرة تشف عن الريبة، ولكنه لم يلبث أن وثق به، وأعطاه يده وسار وإياه.
وذلك إن مخائل هذا الرجل كانت تدل على المروءة، وطيب العنصر، فلم تحجب ظواهر فقره تلك الشمائل، وإنما رضي أن يقتفي أثر الأرلندية بأمر اللورد لشدة فقره.
ولم يخطر له أن اللورد قد أعجبه جمال المرأة، فقال في نفسه: ليس ذلك من شأني وكان يجب علي أن أعرض عن هذه النقيصة، ولكن فقري شديد وإذا كان هناك إثم، فإن الله يعاقب به ذلك الغني الذي يستغوي الفقراء بأمواله، ويتخذ ذهبه الوضاح ذريعة لإغواء القلوب الطاهرة.
وما زال يسير بهما حتى وصل إلى هذا الشارع، وهو أفقر شوارع لندرا، ولا يقيم فيه غير الأرلنديين، وكلهم فقراء معدمون.
وقد وجدوا امرأة واقفة عند باب منزل فقالت لها الأرلندية: أتعرفين يا سيدتي بتريك؟ - أي بتريك تعني، إن هذا الاسم كثير الشيوع بيننا. - بتريك الإسكافي. - نعم إن منزله في أول هذه العطفة غير أنك لا تجدينه في منزله، فإذا أردت أن تكلمي امرأته فهي في المنزل.
فشكرتها الأرلندية، وذهبت مع شوكنج وولدها إلى ذلك المنزل، وهو منزل حقير لا باب له ويصعد إليه بسلم متهدم.
فأجفلت الأرلندية من مظاهر هذا الفقر المدقع، خلافا لشوكنج، فقد كان ذلك مألوفا عنده، ووقف في أسفل السلم، وجعل ينادي امرأة بتريك.
وبعد تكرير النداء مرات ظهرت من النافذة امرأة نحيلة رثة الملابس ، وعلى صدرها رضيع صغير. فنظرت إلى من يناديها نظرا تائها يدل على اليأس وقالت: ماذا تريدون مني ومن يسأل عن بتريك؟ إن البوليس قبض عليه هذه الليلة، وزجه في السجن دون إشفاق، فهو لا يعود قبل أن يقتلنا الجوع.
فالتفت شوكنج إلى الأرلندية وقال لها: لقد سمعت شكوى هذه المنكودة البائسة، ولا رجاء لك في المبيت عندها.
فنظرت الأرلندية إلى ابنها نظرة ملؤها الإشفاق وقالت: رباه! أين نبيت؟
فقال لها شوكنج ببساطة: لا أعلم إذا كان لديك نقود. - لم يبق معي غير ثلاثة شلنات وستة بنسات. - إذن، لقد هان الأمر إذ يوجد في هذا الشارع فندق تبيتين فيه، وتتعشين فيه مع ولدك، ولا تدفعين غير شلن واحد، وفي الصباح يفعل الله ما يشاء. - هلم بنا إليه فقد أضنى ولدي التعب والجوع.
فحمل شوكنج الغلام وسار به أمام أمه في طريق الفندق، فما سارت في أثره بضع خطوات، حتى شعرت بيد لمست كتفها، فالتفتت فرأت مسز فانوش.
فقالت لها فانوش: ألم أقل لك أيتها الحبيبة إنك لا تجدين مأوى في هذا الحي، وإني أحمد الله إذ لقيتك ثانية وتيسر لي تفريج كربك وخدمة ابنة وطني العزيز فهلمي معي إلى منزلي ولا تخيبي رجائي.
ونظرت الأم إلى ولدها كأنها تريد استشارته غير أن الغلام كان قد أضناه التعب، ونام بين يدي شوكنج.
فعادت فانوش إلى الإلحاح بلهجة تشف عن كرم عاطفة، وسلامة قصد، فاغترت الأرلندية بلطفها وأجابت دعوتها.
4
وكأنما اتساع لندرا قد راعها حتى باتت تقبل بالمبيت عند أول إنسان يدعوها، وقد نسيت ما شعرت به من الكره لأول مرة رأت فيها فانوش في السفينة، ولم تذكر غير شيء واحد وهو أن ولدها تعب جائع.
فأسرعت فانوش إليها فتأبطت ذراعها، وأشارت إلى شوكنج أن يتبعها بالغلام فامتثل ومشى في أثرهما.
وكان منزل هذه المرأة قريبا، وهو أجمل منازل هذا الشارع، فلما وصلوا إليه فتحت فانوش بابه بمفتاح كان معها، ودخلوا جميعا فصعدوا سلما انتهو منه إلى ردهة متسعة ، ودخلوا إلى غرفة مضاءة .
وكان في هذه الغرفة امرأة عجوز، وفتاتان صغيرتان، فقالت فانوش للعجوز: إني أتيت بامرأة فقيرة مع ولدها ليكونا في ضيافتي فأرجو يا عمتاه أن تعتني بهما خير اعتناء.
ونظرت العجوز إليها بسرور وارتياح، ورحبت بهما خير ترحيب وهي تقول: إن الضيف الفقير من عند الله.
ودنا شوكنج من الأرلندية فقال لها: إنك ستبيتين عند خير قوم - كما تبين لي - فاحمدي الله.
أما الأرلندية فإنها لما رأت أنها آمنة مطمئنة على ولدها، جعلت تبكي بكاء الفرح.
وأخذت فانوش بيدها وأجلستها قرب المستوقد وهي ترتعد من البرد، وطلبت من العجوز أن تعد الطعام.
ثم التفتت إلى الرجل وقالت له: إني لا أستطيع أن أبقيك في المنزل؛ إذ لا يبيت في منزلي رجال فاشرب هذه الكأس من الخمر، وخذ هذا الشلن مكافأة لك، والله يجزيك عن هذه المرأة وولدها خيرا.
فشرب شوكنج الخمر وأخذ الشلن ثم انصرف وهو يقول في نفسه: لا شك أن هذا اليوم من أفضل أيامي، فقد شربت فيه خمرا، وأمسيت وفي جيبي شلن، وعملت جميلا مع أم وابنها، وإذا وفى اللورد بوعده، ولم يكن هازئا بي فقد تمت سعادتي.
ثم حفظ في ذهنه رقم المنزل، وانصرف عائدا إلى اللورد وهو يفكر بالعشرة جنيهات التي سيقبضها، ويهجس بسعادته الجديدة.
بينما كان شوكنج ذاهبا إلى اللورد بالمير، كانت الأرلندية وولدها يتعشيان، وكانت دموع الشكر تهطل من أعينهما بين لقمة ولقمة.
وكانت الفتاتان الصغيرتان تأكلان معها، فدنت الفتاة الصغرى من الغلام وقالت له: ماذا تدعى؟ - رالف.
فعانقته مسرورة وقالت: إذن سنلعب سويا غدا.
أما الفتاة الكبرى، فكانت تنظر إلى رالف وأمه، نظرات حزن وإشفاق.
ولما انتهوا من العشاء قالت فانوش للأرلندية: إنك تعبة دون شك فهلم إلى الغرفة التي أعددتها لك.
وقامت فمشت أمامها تحمل مصباحا، فتبعتها الأرلندية ودنت الفتاة الكبرى من رالف فعانقته كما فعلت الفتاة الصغيرة، غير أنها اغتنمت فرصة ذهاب فانوش وقالت له همسا: احذروا من أن تقيموا هنا.
فقال لها الغلام: لماذا؟ - لأنهم يضربونك كما يضربونا كل يوم .
وعند ذلك دخلت العجوز، وشاهدت الفتاة تحدث رالف فنظرت إليها نظرة منكرة اضطربت لها الفتاة، فانفصلت عن الغلام، وتبع أمه إلى الغرفة التي سارت إليها.
وهناك قالت فانوش للأرلندية: ألم تقولي لي أنك تودين الذهاب غدا إلى سانت جيل؟ - نعم. - في أية ساعة؟ - يجب أن أكون في الكنيسة مع ولدي عند الساعة 8. - إذن أستودعك الله وسنوقظك في الساعة 7.
ثم تركتها وانصرفت، فأقبل الغلام إلى أمه وبين عينيه دلائل الحذر، وقال لها: أنقيم هنا وقتا طويلا يا أماه؟ - كلا سوف نبرح هذا المنزل غدا. - لماذا لا نذهب الآن؟ - لأن ذلك مستحيل يا بني.
فسكت الغلام ولكنه عاد إلى الحديث حينما كانت أمه تخلع عنه ملابسه، فقال لها بصوت خفيض: إني خائف يا أماه. - لماذا أنت خائف وممن تخاف؟ - إن الفتاة الكبرى قالت لي لا يجب أن تقيموا هنا؛ لأن هؤلاء النساء يضربونك كما يضربونا.
فقالت له أمه بصوت المؤنب: ألست أنا معك يا بني. فكيف يضربونك وأنا بقربك؟
فسكن خوفه وقال: إذن نبيت هذه الليلة ولكن أتعديني أن نخرج غدا من هذا المنزل؟ - دون شك.
وقبلها الغلام وصعد إلى سريره، ولم تمر به بضع دقائق حتى نام نوما عميقا.
أما الأرلندية فإنها ركعت قرب سريرها، وجعلت تصلي وتشكر الله لإحسانه إليها.
وفيما هي تصلي شعرت فجأة بأن حرارة شديدة قد دبت إليها، ثم أحست بدوار رأسها عقبه انحلال أعضائها، وانطباق أجفانها.
فحسبت أن ذلك على أثر ما لقيته من مشقة السير، ولكنها حاولت أن تفتح عينيها فلم تستطع، وأرادت أن تصيح مستغيثة فاختنق صوتها، ولم تستطع أن تتفوه بحرف.
وبعد جهاد غير طويل، فقدت رشادها، وسقطت على الأرض لا تعي.
وعند ذلك فتح باب الغرفة، ودخلت منه مسز فانوش، ودخل في أثرها رجل قبيح الهيئة رث الملابس.
5
بعد أن أدخلت فانوش الأرلندية إلى غرفتها وتركتها، عادت إلى قاعة الطعام؛ فأمرت العجوز أن تدخل الفتاتين إلى مرقديهما، وأخذت من جيبها رسالة فجعلت تتطلع إليها وعيناها تتقدان بأشعة الفرح فتقول: لقد خدمتني الأقدار أجل خدمة، وسوف تشاهد السيدة إميلي أن لدي ولدا أعطيها إياه، بشرط أن يجد رسولي ولتون.
وعند ذلك طرق باب الغرفة التي هي فيها، ثم فتح ودخل منه رجل يشبه بظواهر فقره ورثاثة ملابسه شوكنج غير أنه يختلف عنه بهيئته لأن كل ملامحه كانت تدل على الرذيلة وفساد الأخلاق.
ولما رأته فانوش فرحت بقدومه وقالت: أهذا أنت يا ولتون؟ - نعم يا سيدتي، لقد وافاني رسولك فأتيت بأمرك. - لقد أحسنت ولكني أرجو أن لا تكون أفرطت في الشراب.
فابتسم الرجل ابتسام القانط وقال: أين أنا من السكر، إني منذ أمس لم آكل ولم أشرب. - إذن اجلس على هذه المائدة واشرب كأسا من البيرا، واملأ جوفك من الطعام، وأصغ إلي لأننا سنتحدث بأمور خطيرة. - ألعلك تودين إغراق إحدى الفتاتين؟ - كلا، بل أود أن تتذكر أشياء ماضية. - إني جيد الذاكرة فإني حين يهجم الليل، ويمنعني الجوع عن الرقاد، يتمثل لي جميع أولئك الأطفال الذين قتلتهم بأمرك حتى إني أراهم يرقصون فوق الحصير الذي أنام عليه.
فهزت فانوش كتفيها وقالت: إنك تتخيل خيال الشعراء، ولكن لا سبيل الآن إلى مباحث الخيال؛ لأني سأعطيك جنيها على الفور وجنيها كل أسبوع مدة عام إذا وافقتني فيما أريد.
فقال لها بلهجة المتهكم: لقد أخطئوا، يا سيدتي، بتمثيل الأبالسة بقرون، ولو شاهدوك قبل ذلك العهد، لما جعلوا إلا رسمك مثالا للشيطان؟ - هب أني الشيطان نفسه، أتقبل أن أغويك؟ - إني أقبل بالرغم عني إذ يجب أن أعيش، فقولي ماذا تودين. - أود أن تعود بالذكرى إلى تسع سنوات خلت، ألا تذكر منذ تسعة أعوام أن رجلا نبيلا جاءني بطفل صغير؟ - إنهم يأتونك بالأطفال كل يوم. - نعم، ولكن ذلك الطفل، الذي أحدثك عنه، لا يمكن أن ننساه. - ماذا يدعى الذي جاء به؟ - هو السير جون واترلي، أحد ضباط الجيش الهندي، فقد دفع إلي الغلام وسافر في اليوم الثاني إلى كلكوتا، فأصيب هناك بمرض قاتل كما قيل لي وترجح عندي أنه لا يعود.
وكان هذا الغلام ابنه من فتاة تدعى مسز إميلي همبوري، وهي ابنة أحد اللوردية، ومن كبار الأسرات النبيلة، بحيث كان نبلها حائلا دون زواجها بمن تهواه، فجاءنا بالغلام وقال: ربوه إلى أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره، وعلموه مهنة يعيش بها عيشا شريفا. وصرح لنا أن أم الغلام وأباه لا يستطيعان أن يطلباه. - نعم، لقد ذكرت هذا الطفل، وذكرت أن أباه دفع لك ثمانمائة جنيه لتربيته، فكرهت إنفاق المال على الطفل، وأمرتني أن ألقيه في النهر بعد سفر أبيه، ولكن لماذا تريدين أن أذكر هذه الحادثة؟ - لأن أباه عاد إلى طلبه. - كيف ذلك ألم يمت إثر مرضه؟ - كلا، بل إنه تزوج مسز إميلي؛ لأن أباها اللورد قد مات فاعترفت بهفوتها لأخيها، والتمست منه أن يأذن لها بزواج الضابط، فصفح عنها وأذن لها بالزواج فكتبت إلي مع زوجها يسألان إعادة الطفل.
فكبر الأمر على ولتون وقال: إن الموقف شديد فعلى ماذا عولت؟
فابتسمت فانوش وقالت: إن جميع الأطفال متشابهون في سن الولادة، وإن مسز إميلي تسألني الآن إعادة طفل تركته منذ تسعة أعوام، وعمره شهران، فأنا أرد إليها غلاما بالغا تسعة أو عشرة أعوام، ولا يخامر قلبها شيء من الشك. - لقد أحسنت ولكن أين تجدين هذا الغلام؟ - إنه في هذه الغرفة فاتبعني.
ثم أخذت مصباحا وتقدمته إلى الغرفة التي كانت فيها الأرلندية المنكودة، وابنها رالف وكانا قد رقدا بتأثير المخدر كما قدمناه.
ولما دخل ولتون في إثر فانوش ذعر، وقال: إني أرى امرأة. - لا تخشى فإني سقيتها مخدرا لا تستفيق منه قبل أربع ساعات، وقد بقي عليك أن تنيمها نوم الأبد. - أهذه هي المهمة التي تريدين أن أقضيها؟ - نعم ... - وهذا الغلام الجميل النائم؟ - إنه ابنها، وإنما أقتل أمه كي أبعدها عنه إلى مسز إميلي. - ولكن فاتك أن لهذا الغلام عشرة أعوام من العمر، فهو يذكر أهله وبلاده وأمه. - لقد فطنت لكل شيء، وألفت حكاية أقصها على مسز إميلي وهي أني دفعت طفلها إلى مرضع أرلندية، وكنت أرسل لها نفقاته في كل شهر، ولما أرسلت إلي تطلب ابنها كتبت إلى المرضع أن تحضر به أرلندا؛ فجاءت به وكافأتها أحسن مكافأة وأرجعتها إلى بلادها. - إنها خير حيلة ولا أزال على سابق رأيي فيك، وهو أن الشيطان لو رسم حق رسمه لما كان إلاك. - كفى بلاهة، واعلم الآن أنه يجب قتل هذه المرأة. - بأية طريقة؟
فهزت كتفيها، وقالت: ألعلك نسيت طريقة النهر؟
فحك ولتون أذنه وقال: كلا، ولكن المرأة الكبيرة لا تحمل بوشاح كما يحمل الطفل. - ولكنها تحمل في مركبة ولا يزال جواني السائق صديقا لك فيما أظن فإني أدفع له جنيهين أجرة نقلها.
ووقف ولتون وقفة المتردد غير أن فانوش حلت كيسها فحلت عقدة لسانه، ودفعت له الأجرة مقدما، فأخذ المال وقال: إن هذه الأيام شديدة العسر، ولا بد للمرء أن يعيش.
ثم دنا من الأرلندية فحملها على كتفه، وخرج بها إلى قاعة الطعام دون أن تستفيق وألقاها على المائدة.
فقالت له فانوش: يجب علينا أن نهتم الآن بإيجاد سائق المركبة. - لقد كفيتك مئونة هذا الاهتمام، فإني علمت أنك لم تبحثي عني إلا لارتكاب جناية جديدة، وبحثت عن مركبة، وجئت إليك بمركبة السائق نفسه. - وأين هو الآن؟ - إنه ينتظرني على الباب.
فاتقدت عيناها بأشعة الفرح الوحشي، وقالت: بورك فيك فإنك ما خلقت إلا للمنكرات والآثام.
6
وحملوا تلك الأرلندية المنكودة، وهي لا تعي ونزلوا بها فأوقفت فانوش ولتون عند الباب وخرجت هي فتفقدت الطريق ثم عادت فقالت له: أسرع بحملها إلى المركبة قبل أن يفاجئنا البوليس.
ورأى ولتون أن الوقت قد حان للإدلال عليها التماسا لزيادة الأجرة، فقال لها: إني ممتثل لك، ولكني لا أعلم ما يكون من السائق، إذ لم أخابره بعد.
ففقهت فانوش مراده وقالت له: إن الوقت غير متسع للمخابرة فخذ كل ما لدي الآن في هذا الكيس، وسأزيدك حين تعود.
ثم ألقت إليه كيسا فيه نحو عشرين جنيها، فأخذه فرحا وحمل الأرلندية، وخرج بها وألقاها في المركبة، وجلس بجانبها، ثم أمر السائق أن يسير إلى النهر.
وانطلقت المركبة وقد خاصر ولتون الأرلندية كي لا تقع من الاهتزاز، بحيث لو رآهما أحد لما شكك أنهما عاشقان.
وكان ينظر إليها فلا يراها لازدياد الظلام في ذلك الشارع المقفر، وبعد حين اجتازت المركبة ذلك الشارع إلى شارع كثرت أنواره، وكانت تلك الأنوار تنبعث إلى المركبة، ورأى ولتون وجه الأرلندية وارتعش، لأنه لم يكن إلى الآن نظر وجه هذه المرأة التي سيقتلها طمعا بالقليل من المال.
وإنما كان ارتعاشه لما رآه من جمالها الباهر، ولما طبع على ذلك الوجه من علائم الطهر والسلامة، وقال في نفسه: حيف على هذه المرأة أن تموت في نضارة الشباب.
واستمرت المركبة في سيرها، وحجب الظلام وجه الأرلندية، وعاد ولتون إلى التفكير وجعل يوبخ نفسه ويقول: بل الحيف على من كان مثلي، يرتزق من قتل النفوس ثم يجد بين جنبيه قلبا يشفق ويحن.
وبعد هنيهة وقفت المركبة وسمع ولتون السائق يناديه، فقال له: ماذا تريد ولماذا توقفت عن السير؟ - أريد أن أعلم الذي جئنا به من لندرا. - إنها امرأة. - ألعلها ميتة؟ - كلا، بل هي نائمة نوم تخدير. - إني لا أشترك بهذا المشروع يا ولتون. - لماذا؟ - لأني تعودت إغراق الأطفال وليس النساء. - أما هما واحد؟ - كلا، فإن قتل النساء يورث الشقاء. - إنك تمزح دون شك. - كلا، فإن هذا اعتقادي، وفوق ذلك فإن هذه المرأة قد تستفيق وتستغيث. - لا خوف من ذلك فقد سقيت جرعة كبيرة من الأفيون فهي شبه المائتين. - وكم عينت أجرتنا؟ - خمسة جنيهات. - للاثنين؟ - كلا، بل لكل واحد خمسة.
ولبث السائق مترددا في أمره وقال: إن المهمة صعبة يا ولتون. - لكنهم دفعوا لنا مقدما، أتريد أن تقبض حصتك؟
فتنهد السائق وقال: هات، لكن سوف تعلم أن هذه الحادثة ستؤدي بنا إلى المشنقة.
فابتسم ولتون وقال: أليس الموت واحدا مهما تنوعت أسبابه، ومتى كان أمثالنا يتوقعون غير موت الشنق؟
ثم نقده خمسة جنيهات، وعادت مركبته إلى المسير، وعاد ولتون إلى التفكير وبالأرلندية فقد كانت منزوية في المركبة لا تفرق عن الموتى.
وما زالت المركبة تسير من شارع إلى شارع، حتى وصلت إلى جسر التيمس .
وكان يجتمع على هذا الجسر في النهار ألوف من المركبات، فإذا أقبل الليل انقطع سيرها، وأقفر ذلك المكان، ولا يسمع فيه غير هدير أمواج النهر.
وهناك أمره ولتون بالوقوف، وأخرج من جيبه حبلا من الحرير الدقيق فربط به رجلي الأرلندية ويديها حتى إذا ألقاها في المياه، واستفاقت لبردها لا تستطيع دفاعا وتغور في الأعماق.
وبعد أن أتم وثاقها، خرج من المركبة ثم حمل الأرلندية، ومشى بها مشي الخائف الوجل إلى الضفة.
7
ولم يكد يسير بها خطوتين حتى استوقفه السائق وقال: احذر.
فالتفت ولتون منذعرا؛ فرأى نورا كبيرا يدنو منه، وهو نور مركبة من تلك المركبات الضخمة التي تنقل عليها البضائع فأسرع عائدا بالأرلندية إلى المركبة، واختبأ بها إلى أن تمر مركبة النقل.
ثم مرت تلك المركبة الضخمة، وأصاب نور مصباحها وجه الأرلندية، فعاد ولتون إلى الاضطراب وحار في أمره ولم يدر ما يصنع.
وقد استبطأه السائق بعد مرور المركبة فقال له: ما بالك ساكتا؟
فلم يجب وعاد إلى حثه على الإسراع.
غير أن ولتون لم يسمع حديثه، وكان كالمصاب بدوار وجعل يناجي نفسه فيقول: ما هذا الخوف وما كنت أرهب القتل وأخشى هذه المواقف؟
وعاد السائق إلى حضه على السرعة فأجابه ولتون بصيحة رعب ذلك أن الأرلندية تنهدت تنهدا ضعيفا بعد أن كانت ساكتة كالأموات فوقف ولتون منذعرا وقال: كلا لا أريد.
فقال له السائق: ماذا تريد ألا تريد إغراقها؟ - كلا! - إذن، أعزمت أيها الشقي أن ترد المال لفانوش؟ - كلا، فإني لا أريد المال ولا أغرق هذه المرأة، فإن جمالها يأخذ بمجامع القلوب.
فقهقه السائق ضاحكا وقال: يسرني أن أراك من أهل الغرام، أما وقد عزمت على أن ترد المال، فلا فرق عندي بين أن تغرقها أو تبقي عليها، بل إني أوثر سلامتها، فإن قتل النساء يورث الشقاء، كما قلت لك، ولكن ماذا يجب أن نعمل؟! - لا أعلم ولكنها شربت مقدارا كبيرا من الأفيون، بحيث يتسع لدينا مجال التروي قبل أن تستفيق. - والآن إلى أين نذهب؟ - اذهب إلى حيث تشاء شرط أن تبعد عن هذا النهر.
فقال له السائق ممازحا: ألعلك تريد أن تتزوج هذه الحسناء؟
واضطرب ولتون وقال: كلا فإني لا أجني جناية الزواج، فاذهب بنا إلى أفقر مكان في وينغ. - كما تريد. ودفع الجياد فسارت باللصين والأرلندية نحو ساعة حتى وصلت إلى المكان الذي عينه ولتون، فوقفت المركبة عند باب خمارة، ونزل ولتون والسائق ودخلا إليها وجلسا يشربان ويتشاوران.
فقال له ولتون: لقد ارتأيت الرأي السديد في الطريق وذلك أن فانوش عهدت إلينا إخفاء الأم كي تتمكن من الاستيلاء على الولد. - ألهذه المنكودة ولد؟ - نعم وسأقص عليك هذه الحكاية في فرصة أخرى، والآن إن فانوش نقدتنا الأجرة كي نخفي الأم، وإذ قد أحضرناها إلى هذا المكان، فإنها لا تسمع بعد ذلك بأخبارها. - لكن لهذه الأم ولدا كما تقول فهي تبحث عنه حتى تجده. - هو ما تقول غير أن هذه المرأة غريبة، وهي لم تعرف لندرا قبل هذه الليلة، بل إنها لا تعرف اسم فانوش، ولا الناحية التي تركت فيها ولدها، فكيف تستطيع أن تجده في هذه العاصمة التي تشبه القارب باتساعها؟ - إذن، ماذا عولت أن تصنع بها؟ - عولت أن نذهب بها إلى حديقة عمومية من حدائق وينغ فنضعها على مقعد من مقاعدها، ويفعل الله بها بعد ذلك ما يشاء. - إنه رأي سديد فهلم بنا قبل أن تستفيق.
وخرج الاثنان من الخمارة إلى المركبة، وساروا بالأرلندية إلى أفقر شارع في وينغ، فحل ولتون قيودها، وأنزلها إلى محل عمومي، وأجلسها على أحد مقاعده، وقال لرفيقه: إن جسمها قد بات حارا، وذلك دليل على قرب استفاقتها، وقد قرب زمن تردد الناس إلى وينغ فإن حاناتها لا تفتح قبل منتصف الليل، فإذا استفاقت فلا تعدم نصيرا بين هؤلاء اللصوص. - دون شك فإن المرأة تلقى خير ضيافة في وينغ بل في كل مكان. - ليس ذلك من شأننا، والمهم عندنا أننا أبقينا على حياتها، وسرقنا مال فانوش كما ينبغي أن يسرق.
ثم ذهب اللصان وهما يضحكان.
وبعد حين تنبهت عصابات وينغ، وظلت تلك المنكودة نائمة فوق ذلك المقعد .
8
كان حساب فانوش أن الأرلندية لا بد لها أن تستفيق بعد أربع ساعات من شربها المخدر، وقد تقدم لنا القول أنها تنهدت عندما كانت في المركبة مع ولتون، فكان ذلك دليلا على قرب استفاقتها.
غير أن اللصين تركاها منذ ساعة، وهي لا تزال نائمة فوق المقعد الخشبي معرضة لبرد تلك الليلة القارص.
ولم تكن حانات وينغ قد فتحت أبوابها بعد.
أما الأرلندية فإنها بدأت بعد حين أن تستفيق، فتحركت ثم تمطت ثم فتحت فمها، وخرج من شفتيها اسم ولدها رالف، فإنها كانت تحلم به مدة رقادها، وقد رأته شب وترعرع وبات يمشي بخطوات ثابتة قوية إلى المستقبل.
ولما تحركت شفتاها فتحت عينيها، وكانت حانات وينغ قد فتحت أبوابها فتوارد إليها اللصوص والمومسات من كل فج.
وقد حسبت تلك المنكودة حين فتحت عينيها أنها لا تزال حالمة غير أن برد الهواء أزال منها هذا الظن. فوقفت منذعرة وكانت أول ما قالته: رباه! أين ولدي وأين أنا؟
ثم جعلت تمشي مشي المجانين، وتنادي ولدها رالف. ولكن رالف لم يجب.
وعند ذلك وضعت رأسها بين يديها كأنها تحاول جمع حواسها. فذكرت تلك المرأة التي باتت عندها، وكيف أنها بعد أن نام ولدها، جثت راكعة تصلي، ثم شعرت بدوار في رأسها، ثم لم تعد تذكر شيئا. فصاحت عند ذلك صيحة يأس هائلة، إذ علمت أنهم سقوها مخدرا كي يسرقوا ولدها.
ولكنها لم تكن تعرف اسم المرأة التي كانت عندها، ولا نمرة منزلها غير أن للأمهات قوة تنبعث من السماء فقالت في نفسها لأجدنه أين كان، وآخذه من يد خاطفته.
ثم جعلت تسير إلى الإمام هائمة، وهي تحسب أنها قريبة من ذلك المنزل، إذ لم يخطر لها أنهم أبعدوها عنه مسافة أربعة أميال.
وجعلت تخترق الشوارع والأزقة، وهي تارة تفرح ويشرق وجهها بنور البشر حين تحسب أنها اهتدت إلى الطريق، ثم لا تلبث أن تعود إلى اليأس حين تعلم أنها ضلت السبيل، فيقطب وجهها وتنظر إلى ما حولها نظرات لا تستقر على شيء.
وكانت تمر بين عصابات اللصوص والبحارة الداخلين إلى الخمارات والخارجين منها في ذلك الشارع المخيف، فيكلمونها بألفاظ بذيئة، فتفر منهم وقد ملأ الرعب قلبها، وتسير فلا تجد أمامها غير أمثالهم.
إلى أن مرت بعصابة من المومسات، كن يتخاصمن عند باب خمارة، فدنت منهن، وقد أنست بمنظر النساء، وقالت لهن: كيف الطريق إلى سانت جيل؟
فجعل بعض هؤلاء الفواجر يعبث بها، وبعضهن يضحك عليها ولم يرشدها إلى الطريق.
غير أن واحدة منهن ضخمة الجثة، هائلة المنظر، شرسة الأخلاق، ليس فيها شيء من صفات الإنسان، تقدمت إلى الأرلندية وقالت بلهجة التهديد: ماذا أتيت تعملين هنا، وأنت لست من أهل الحي؟ ألعلك علمت بقدوم البحارة اليوم من الهند فأتيت تزاحميننا في رزقنا؟ أم لعلك تريدين مزاحمتي على وليم؟
ثم ضمت يدها وهجمت عليها تريد أن تضربها، فهربت الأرلندية منها مذعورة، ولكن تلك الفاجرة وثبت عليها وثبة النمر المفترس، فقبضت عليها، وجعلت تجرها وتقول: إنك لا تبلغين مرادا من وليم، ولا أطيق مزاحمة فيه.
أما الأرلندية فجعلت تصيح بصوت مختنق وتقول: إني لا أبحث عن وليم بل أبحث عن ولدي. بالله دعيني أبحث عن ولدي، وارحميني فإني أقسم لك أني لا أعرف وليم.
وفيما هي تبكي وتستغيث والنساء يضحكن من حولها، إذ سمعت صوت رجل يقول: هو ذا أنا وليم، فمن يذكر اسمي؟
فالتفتت الأرلندية وشاهدت رجلا بملابس البحارة، عالي القامة، عريض المنكبين، فبسطت يديها إليه شأن المتوسل وقالت له: بالله ارحمني ودافع عني.
فدنا منها وليم وقال: من هي هذه المرأة؟ فإني لم أرها من قبل، لكنها حسناء.
ثم أشار إلى المرأة أن تتخلى عنها، فلما رأت المرأة أنه قد استحسن الأرلندية هاجت في فؤادها عوامل الغيرة، فصفعتها صفعة أسالت الدماء من أنفها غير مكترثة لوليم.
فغضب وليم غضبا شديدا، وضربها بصدرها ضربة شديدة ألقتها على الأرض صريعة والتفت إلى النساء وقال: إن كل من يمس هذه المرأة بسوء لا يلقى غير هذا العقاب.
ثم عاد إلى الأرلندية يعزيها ويواسيها، فاستأنست به وقالت له: أسألك بحق السماء أن تعينني على إيجاد ولدي. - ألك ولد؟ - نعم وقد سلبوني إياه، فرده إلي أباركك وأدعو لك الله. - أتحبيني إذا أعدت إليك ولدك؟
فلم تدرك تلك المنكودة معنى حبه الوحشي وقالت له: نعم نعم، أحبك حتى الموت. - أين هو ولدك؟ - سر بي إلى سانت جيل وأنا أجده. - ولكن هذا المكان بعيد جدا من هنا. - بالله سر بي إليه. لنركب مركبة فإنها تقرب الأبعاد. - سأفعل ما تريدين، ولكن هلمي معي قبل ذلك نشرب كأسا من الخمر إني شديد الظمأ.
ثم ضمها إلى صدره وتأبط ذراعها، وأراد أن يسوقها إلى الخمارة بالعنف. فعلمت أن نكبتها مع هذا الرجل شر من نكبتها مع تلك المرأة. وحاولت أن تفلت منه، ولكنها لم تستطع إفلاتا، فجعل يجرها جرا وهي تصيح وتستغيث، فلا تسمع من حولها غير قهقة الضاحكين، وبذاءة الهازئين.
9
كان بالقرب من ذلك المكان خمارة يدعونها الخمارة السوداء، أطلق عليها هذا الاسم لكثرة ارتكاب الآثام فيها.
ولم تكن تفتح أبوابها إلا بعد انتصاف الليل، فيسرع إليها نحو خمسين رجلا وامرأة من أهل ذلك الحي، ويجلسون حول موائد الشراب، فيتنادمون ويعاقرون الخمر ويتخاصمون لأدنى سبب فتسيل دماؤهم على تلك الموائد، ثم تغسل الدماء دون أن يتداخل البوليس في أمورهم وتعود إلى ما كانت عليه حتى الصباح.
وكانت تتولى هذه الخمارة امرأة. فكانت تنظر إلى المتخاصمين مبتسمة غير مكترثة لنتائج الخصام، حتى إذا قتل أحد أولئك الأشرار، أمرت خادما لها فحمل الجثة وألقاها في الشارع واستمرت الحفلات كأنه لم يحدث قتل ولم تسفك دماء.
وإن بين زبائن هذه الخمارة الهائلة رجلا، كان يجلس كل ليلة قرب مجلس صاحبة الخمارة فيشرب كأسا من الشراب جرعات صغيرة، والمرأة تنظر إليه من حين إلى حين نظرات تشف عن الارتياح والإعجاب.
وكان هذا الرجل في الحلقة الرابعة من عمره، أشقر الشعر، ربعة القوام، تظهر مخائل النبل، وآثار الشهامة بين عينيه، فتظهر أنه من طينة غير طينة أولئك اللصوص، وأن قدومه إلى تلك الخمارة كان لمآرب في النفس.
ولذلك كان يستلفت إليه الأنظار، ولم يكن أحد من زبائن الحانة يعلم أصل هذا الرجل فبعضهم كان يظنه أيكوسيا، وآخرون يحسبونه أرلنديا أو إنكليزيا، وفريق كانوا يقولون أنه فرنسيا.
وقد كان كثير التردد على هذه الخمارة، غير أنه لم يكن يكلم أحدا، فإذا شرب كأسه دفع ثمنه وانصرف.
ولكنه كان أحيانا يغرق في عباب التصورات، فيقيم الساعة والساعتين وهو مقطب الجبين، عابس الوجه، يناجي نفسه، فلقبه أهل الخمارة بالرجل العبوس، فسمي عندهم بهذا اللقب، إذ لم يكن له عندهم اسم معروف.
وقد حاول بعضهم أن يعرفوا شيئا عن هذا الرجل، ولم يجدوا سبيلا لذلك إلا بمخاصمته، فاتفق ثلاثة منهم على مبادرته بالعدوان، فانقض عليهم انقضاض الصاعقة وصرع الثلاثة واحدا بعد آخر، فسجل اسمه منذ تلك الحادثة بين أبطال الخمارة، وبات الكل يجلونه ويحيونه تحية الاحترام.
ولم يكن يجالسه في الخمارة غير رجل واحد. وكان الجميع يحبونه لفقره، وسلامة قلبه، وهو شوكنج، ذلك الرجل الذي أرسله اللورد بالمير لاقتفاء أثر الأرلندية - كما عرف القراء - فكان الرجل العبوس يدفع عنه في كل ليلة ثمن شرابه، ويحسن إليه بما يقيه شر الجوع.
فبينما كان اللصوص والبحارة مجتمعين في تلك الليلة يسكرون ويعربدون، والنساء ترقص وتغني، وصاحبة الخمارة تنظر خلسة إلى الرجل العبوس، وهو منشغل عنها بهواجسه إذ دخل رجل إلى الخمارة استلفت أنظار الجميع، فصاحوا جميعهم صيحة عجب قائلين: هو ذا شوكنج.
وإنما كان عجبهم لأنهم شاهدوا هذا الرجل على غير ما عرفوه فإن عهدهم به رث الثياب، بارز الكوع، حافي القدمين. فرأوه عاد إليهم فجأة وهو بملابس التجار.
فقالت إحدى النساء: ما هذه النعمة؟ إني أرى في قدميك نعلين جديدين؟
وقال لص آخر: وإني أراك لابسا قميصا جديدا.
وقالت صاحبة الحانة: لا شك أنه بات من أهل الثروة؛ لأنه لابس قبعة.
فضحك شوكنج وقال: نعم لقد بت غنيا، ولكن اطمئنوا لأني أودعت نقودي في المنزل.
فضحك الجمع، وتركهم معجبين بأمره، وذهب إلى الرجل العبوس وجلس بجانبه، وقال له: إني سأدفع اليوم ثمن الشراب، فقد طالما دفعت عني.
10
فابتسم الرجل العبوس وقال: معاذ الله أن أمنعك عما تود لأني لا أبغي مساس أحد فادفع أنت إذا كانت هذه مشيئتك غير أني أود أن تجيبني عن سؤال أسألك إياه. - سل ما تشاء. - ألديك نقود؟
فأجابه بصوت منخفض: اسكت ولا تفضحني أمامهم، فقد كسبت الليلة عشرة جنيهات، فأنفقت واحدا على ملابسي، واشتريت سترة بثلاثة شلنات، وقبعة بشلنين، وبنطلونا بشلن ونصف، وحذاء بأربعة شلنات، وقميصا بشلنين، وكلها جديدة، فأصبحت كما ترى بهجة النواظر.
وكنت أود أن أشتري كثيرا غير أن الحكمة تغلبت علي، فعزمت على استئجار غرفة لأسبوعين، بحيث يبقى معي ثمانية جنيهات ونصف فأعيش بها عاما كاملا عيش الأمراء.
فابتسم الرجل العبوس وقال له: ولكن كيف كسبت هذا المال؟ - إن الأمر بسيط، فقد خدمت أحد اللوردية خدمة كافأني عنها بهذا المبلغ. - كيف كان ذلك؟ وما هي هذه الخدمة؟ - إني كنت أجتاز في مركب وبين ركابها أحد اللوردية، فدنا مني ودلني على امرأة وقال لي: إذا تبعتها وعدت إلي بعنوانها أعطيتك عشرة جنيهات، ففعلت وكسبت هذا المال بشرف كما ترى.
فهز الرجل العبوس رأسه وقال له: أتحسب أن هذه الطريقة في الكسب من الطرق الشريفة؟
فاحمر وجه شوكنج من الخجل، وأدرك خطأه فقص على الرجل العبوس جميع ما عرفه من أمر الأرلندية، دون أن يغفل عن شيء من التفاصيل. فلما أتم حديثه قال له الرجل العبوس: إنك ارتكبت طيشا لا يشفع فيه غير سلامة قلبك. - لماذا؟ - إنك أحسنت بمساعدتك هذه المرأة، ولكنك أسأت بإرشادك اللورد إليها فقل لي ماذا يدعى هذا اللورد؟ - اللورد بالمير.
فقال له بلهجة المؤنب: لقد كان ينبغي أن تعلم أن لوردا غنيا لا يبحث بحثا سريا عن عنوان امرأة فقيرة لغاية صالحة.
فاضطرب شوكنج وقال: لقد أصبت فإني أخطأت وقد أغواني ذهبه، وما أنا فيه من الفقر غير أني أعرف المنزل الذي غادرت فيه الأرلندية، أتود أن أعود إليها وأحذرها من هذا اللورد؟
فلم يجد الرجل العبوس فرصة لإجابته، إذ سمع صيحة عظيمة في الخمارة.
ذلك أنه دخل إليها رجل كان آخذا بتلابيب امرأة يسوقها مكرهة، وهي تستجير منه به وتتوسل إليه أن يطلق سراحها.
أما الرجل فإنه دفعها إلى وسط القاعة، وجلس جلوس المنتصر أمام مائدة، فشمر عن ساعديه إظهارا لعضلاته القوية.
وقال: إني وليم البحار وقد خضعت لي نساء وينغ كلهن، وهمن بي هياما، فلا بد لك أن تقتدي بهن وتخضعي لي.
فصاح الجميع بصوت واحد: ليحيا وليم.
وأقبل النساء يعنفن تلك المرأة المنكودة لنفورها من وليم، فإذا استغاثت هزئن بها.
ولما سمع شوكنج هذا الضجيج التفت وصاح صيحة الدهش حين شاهد الأرلندية.
فقال له الرجل العبوس: ماذا أصابك؟ - هي هي! - من هي؟ - الأرلندية! - أم الغلام؟ - هي بعينها. - كيف اتفق وجودها هنا؟ - لا أعلم!
فكف الرجل العبوس عن محادثته، وجعل يتأمل وجه هذه الأرلندية، وهو يندهش لجمالها النادر، ولما تبينه في وجهها من دلائل الشرف والطهر. فكانت مع أولئك اللصوص، تشبه ملاكا سقط من السماء إلى الجحيم.
وكانت حين نظر إليها قد جثت راكعة، وقالت بصوت يخنقه البكاء: بالله ارحموني وأشفقوا علي فما أنا كما يحسبني هذا الرجل، بل أنا أم منكودة اختطفوا منها ولدها. أستحلفكم بالله أن تنقذوني من هذا الرجل، وتدعوني أبحث عن ولدي.
وكأنما وليم قد خشي أن تدفع المروءة أولئك اللصوص إلى نجدتها. فأخرج خنجره ووضعه على المائدة وقال: إنكم جميعكم تعرفون من أنا، وقد رأيت هذه المرأة وأعجبني جمالها. فمن منكم يجسر على منازعتي فيها وإنقاذها مني؟
فسكت الجميع ولم يجسر أحد على اعتراضه فجذبها إليه وقال لها: أرأيت أيتها الحسناء كيف أنه لا يوجد من يجسر على منازعتي فيك؟ إذن ستكونين امرأة وليم على رغمك.
غير أن وليم لم يكد يتم حديثه حتى رأى رجلا اخترق القاعة، ودنا منه، فقال: بل إنك تتركها على رغمك، وأنا الذي أنقذها منك.
فصاح الجميع عند ذلك: ليحيا الرجل العبوس! فإنه هو الذي تصدى لوليم. أما الأرلندية فقد اتقدت عيناها بأشعة الرجاء، فبسطت لهذا الرجل يد المتوسل، وعلمت أن الله أرسل لها من يخلصها من أولئك الفجار.
11
كان مثل هجوم هذا الرجل على وليم، مثل هجوم داود النبي على جليات الجبار.
إن وليم لم يكن جبارا، ولكنه كان يشبه الجبابرة بضخامة جسمه، حتى لقد يحسب من يراه أنه لو ضرب ثورا لقتله، خلافا للرجل الذي كانوا يلقبونه بالعبوس، فإنه كان نحيل الجسم تظهر عليه آثار النعومة كأنه من أولاد اللوردية.
فلما رآه وليم قادما إليه يحاول مخاصمته ضحك ضحكا شديدا، ثم جعل يتهكم عليه ويلقبه بألقاب النساء استخفافا بقوته.
غير أن هذا الرجل نظر إليه نظرة منكرة، خرج على أثرها اللهب من عينيه، فاضطرب وليم لهذه النظرة وانقطع عن الضحك، ووقف في موقف الدفاع.
أما الرجل العبوس فإنه حال بينه وبين الأرلندية وقال له: إني أمنعك عن أن تمد يدك بسوء إلى هذه المرأة.
فتحمس اللصوص لما رأوه من ظواهر بسالته. وصاح بعضهم: يحيا الرجل العبوس.
وأما وليم فإنه ضم يديه وهجم على الرجل، وأطلق يده الهائلة عليه غير أن الرجل وثب وخلا من تلك الضربة، واختل توازن وليم، فاغتنم الرجل الفرصة، ولكمه لكمة شديدة في صدره؛ فانقلب وليم على ظهره.
وكان في وسع ذلك الرجل أن يستفيد من نصره، ويطعنه بخنجره طعنة قاضية غير أنه لم يفعل شيئا من ذلك، بل إنه وقف مكتوف اليدين، ينتظر نهوض خصمه وعودته إلى القتال.
أما وليم فإنه نهض وهو يزأر زئير الأسود، وجرد خنجره وهجم على الرجل العبوس، فلم يجرد الرجل خنجره، ولكنه خلا من الضربة كما فعل في المرة الأولى. ثم انقض على خصمه، وحمله وألقاه على مسافة مترين. فسقط صريعا وسقط الخنجر من يده.
فأسرع الرجل ووضع رجله فوق الخنجر، ووقف ينتظر نهوض خصمه أيضا، وجعل ينظر إلى من كان حواليه فرأى شوكنج واقفا مصفر الوجه، ورأى أن الأرلندية قد عرفته والتجأت إليه.
فنادى عند ذلك شوكنج وقال له: إني أعهد إليك بهذه المرأة، وليعلم كل من في هذه القاعة إني قد توليتها بحمايتي.
فوقع هذا الكلام خير وقع من اللصوص، فجعلوا يصفقون بأيديهم تصفيق الاستحسان ويصيحون: يحيا غالب وليم.
وهم وليم أن يعيد الكرة على خصمه غير أنه توقف وانقطعت أصوات اللصوص وساد السكون فجأة في تلك الخمارة.
ذلك أنهم رأوا رجلا دخل إلى القاعة فأثر فيهم هذا التأثير العجيب، وباتوا كأن على رءوسهم الطير.
ووقفوا وقفة الاحترام أمام هذا الرجل، وهم مطرقون الرءوس هيبة وإجلالا.
أما هذا الزائر الجديد الذي أكره اللصوص والفواجر على احترامه، فقد كان في مقتبل الشباب، طويل القامة، أصفر الوجه، أشقر الشعر طويله، وكان يتدلى على كتفيه.
وهو نحيل الجسم، أسود الملابس، نحيف الأعضاء، حتى يحسبه الناظر إليه امرأة متنكرة بملابس الرجال.
فاخترق صفوف اللصوص حتى وقف قرب وليم فقال له: لقد قال الله من قتل يقتل وقال أحبوا بعضكم بعضا، فقد خلق الإنسان لمعاونة أخيه الإنسان. فما بالكم أيها الإخوة تتقاتلون؟
فركع وليم الوحشي أمام هذا الرجل، وأحنت المومسات رءوسهن، وأطرق اللصوص إطراق الاحترام.
وصاحت الأرلندية هو ذا الله قد أرسل لي ملاكا من ملائكته الأطهار لإنقاذي.
أما هذا الرجال الذي فعلت كلماته بنفوس أولئك الأشرار فعل السحر فقد كان كاهنا كاثوليكيا أرلنديا، عرفه جميع سكان وينغ، حين كان الهواء الأصفر يفتك بهم الفتك الذريع، فلا يجدون من يكترث بهم، ويعتني بمعالجتهم غير هذا الكاهن.
فكانوا يحترمونه احتراما مقدسا، وقد عرف بينهم باسم الكاهن صموئيل كاهن كنيسة سانت جيل.
ونظر هذا الكاهن نظرة المؤنب إلى وليم وقال له: إني ما جئت هذه الخمارة إلا من أجلك، فقد قيل لي إنك تسيء معاملة امرأة، وتريد إكراهها على الأمور الشائنة. فأسرعت كي أنقذها منك، وأهديك إلى الصراط القويم.
فاضطرب وليم وقال له، وهو لا يجسر أن ينظر إليه: أرجوك أن تصفح عني، وإني لا أعود إلى مثل هذه المآثم بعد الآن.
وعاد الكاهن إلى الأرلندية، وهي ملتجئة إلى شوكنج فقال لها: من أنت أيتها المرأة؟
أجابت: إني أم منكودة، خطفوا ولدها، فأشفق علي يا سيدي، ورد إلي ولدي.
فقال لها شوكنج : لا تخشي يا سيدتي مكروها على ولدك؛ لأني أعرف المنزل الذي بات فيه ألست أنا الذي أوصلتك إلى هذا المنزل؟ فثقي بي ولا بد لي من إرجاع ولدك إليك.
فصاحت الأرلندية صيحة فرح، وأكبت على يد الكاهن تقبلها فقال لها: أرى من لهجة كلامك أنك أرلندية. - نعم يا سيدي. - وأنا أرلندي فلينقذ الله الوطن العزيز.
ثم التفت إلى الرجل العبوس وقال له: وأنت أيها الرجل الكريم الذي تولى حماية هذه المنكودة من أنت؟ - إني رجل يطمع أن يكون من أهل الخير والصلاح، فإذا أذنت لي أن أكون بمعيتك كنت لك أطوع من العبيد.
ثم ركع أمام الكاهن، وقبل يده باحترام.
12
وعند ذلك أخذ جميع أولئك اللصوص يخرجون من تلك الخمارة، كأنما هم أنفوا من الإقامة في محل دنس طهر بوجود هذا الكاهن فيه، ولم يبق في الخمارة غير صاحبتها، والأرلندية، وشوكنج، والكاهن والرجل العبوس.
ولما تفرق الجميع عاد الكاهن إلى محادثة الأرلندية فقال لها: إذن أنت قادمة من أرلندة؟ - نعم يا سيدي، فقد وصلت إلى لندرا هذه الليلة مع ولدي. - ما الذي دفعك إلى مهاجرة أرلندا؟ ألعله الفقر شأن جميع إخواننا الأرلنديين؟ - كلا يا سيدي، ولكنني أتيت إلى لندرا قياما بواجب مقدس، فقد أمرت أن أحضر الصلاة في سانت جيل، في الساعة الثامنة من صباح غد.
فارتعش الكاهن وقال: ألعلك نذرت نذرا؟
فنظرت إليه نظر الواثق المطمئن وقالت: إن قلبي يحدثني بأنك من رجال الله، فلا جناح علي إذا بحت لك بحقيقة أمري. - تكلمي. - إني فلاحة فقيرة ولدت في جوار دبلين، وأنا ابنة صياد. وقد عهد إلي زوجي قبيل وفاته بقضاء مهمة لا أعلم شيئا من سرها. ولكني أقسمت له يمينا على قضائها. - ما هي هذه المهمة؟
فأجابت يجب علي أن أذكر لك بعض قصتي، كي تفهم المهمة التي انتدبت لها.
لما كبرت وترعرعت جعلت أعين أبي في التماس الرزق، فهو يصيد السمك وأنا أحيك له الشباك على أنه كان يسافر أحيانا في مراكب الصيد إلى الأرض الجديدة ويصيد الحوت فيغيب ثلاثة شهور.
وقد اتفق أني بينما كنت ليلة في المنزل وكان أبي مسافرا إذ أقبل إلي رجل يركض مذعورا، وهو مخضب بالدماء فولج المنزل وقال لي: أستحلفك بالله وبأرلندا التي سفكت دمي من أجلها أن تخبئيني.
فلم أنظر إليه، ولم أنتبه لجراحه، ولم أسمع غير كلمة الوطن المقدسة. فأدخلته وفرشت له سرير أبي فنام فيه، وكنت أسمع عند ذلك عن بعد دوي البنادق.
ولم أعلم ماذا حدث غير أني ذكرت ما سمعته في ذلك الصباح من بعض الصيادين وهو أن الثورة قد نشبت في أرلندا، وأن إنكلترا أرسلت سفنها وجنودها لكبح الثائرين.
فعلمت أن ما أصاب هذا الرجل، اللاجئ إلى منزلنا، إنما كان من عداء الإنكليز.
فانصرفت إلى الاعتناء به، وأقمت طول الليل أصلي وأسأل الله أن يشفي الجريح، ولا يهدي الإنكليز إليه.
وعند الصباح برحت المنزل، وذهبت إلى الميناء، فعلمت أنه جرت معركة هائلة بين الأرلنديين والإنكليز. فكان النصر فيها للجنود وبددوا شمل إخواننا الأرلنديين، وهرب من سلم منهم إلى الجبال غير أن الإنكليز لم يفرحوا بهذا النصر، لأنهم لم يستطيعوا القبض على زعيم الثائرين.
فأسرعت عائدة إلى المنزل، وكان قلبي يحدثني أن ذلك الجريح هو نفس ذلك الزعيم، الذي يبحث عنه الإنكليز.
وأقام عندنا عدة أسابيع، وأنا أضمد جراحه كل يوم حتى شفي وتعافى، وكان أبي قد عاد من السفر فاعتنى به نفس اعتنائي وأكرم مثواه، فأقام عندنا مختفيا بضعة شهور.
وكان في مقتبل الشباب، وضاء الطلعة تدل نظراته على أنه تعود الحكم على القلوب، فأحببته وأحبني ووافق أبي على زواجنا، فتزوج بي. وبعد أن سافر الإنكليز قبل أن يشتغل مع أبي في مهنته، ويتعاونان على الارتزاق.
وقد رزقت منه غلاما، فكان يحمله بين يديه ويقول لي: إن هذا الغلام قد يكون منقذ أرلندا.
فكنت أصدق كل ما يقول، وأومن بكلامه كما أومن بالله.
وهنا تنهدت الأرلندية تنهدا طويلا، وأخرجت منديلها فمسحت به دموع عينيها.
فقال لها الكاهن صموئيل: أتمي حديثك يا ابنتي. وكانت لهجته تدل على أن الأمر خطير.
13
وعادت الأرلندية إلى حديثها فقالت: توالت الأيام وبدأ الشعر ينبت في رأس ولدي، فكان أسود قاتما، والعهد بشعور الأرلنديين أن تكون شقراء ولا سيما في عمر الحداثة.
ثم رأينا يوما بين الشعر خصلة حمراء تنبت فجأة، فرأيت زوجي قد صاح صيحة فرح وقال لي: لقد كنت مصيبا حين قلت لك إن هذا الغلام ينقذ أرلندا.
أما أنا فلم أفهم شيئا من قوله، ولكنه مضى في حديثه فقال: أصغي يا امرأتي العزيزة لما أقوله لك، فإني اليوم صياد فقير أعيش معك على فقرنا عيش السعداء غير أني قد اضطر إلى فراقك فراقا قد يكون أبديا؛ لأن أرلندا قد تحتاج إلي في الغد، فأعود إلى امتشاق ذلك الحسام، الذي سقط مني في المعركة الأخيرة.
ولا يعلم غير الله ما يكون من أمري، فقد أنتصر على من يضطهدنا، وأنقذ أرلندا من نير الإنكليز، وقد يكون النصر لأعدائنا فأموت في المعارك تاركا هذه المهمة لولدنا العزيز.
ومهما يكن من أمري فاصدعي بما أقوله لك، وهو أنه في سنة 1860 يجب أن تغادري أرلندا مع ولدك. - إلى أين؟ - إلى إنكلترا حيث يقيم أسيادنا ومضطهدونا. وإذا وصلت إليها اذهبي في الساعة الثامنة من صباح 27 أكتوبر إلى كنيسة سانت جيل، وادني بولدك من الهيكل، فإذا فرغ الكاهن من الصلاة، قدمي له الولد وقولي له: «لقد أتيتك بالذي تنتظرونه.»
فأقسمت له أن أفعل ما يريد. ومرت بنا الأيام وتوالت الأعوام، وهو معي يشتغل بالصيد فما جسرت مرة على طول عهدي بصحبته أن أسأله شيئا عن ماضيه.
إلى أن جاء منزلنا في ليلة مظلمة رجال، لم أعرفهم من قبل فلما رآهم فرح بهم وأنس بلقائهم وقال لقد طال عهد غيابكم فقالوا: جئنا حين الأوان، فإن أرلندا محتاجة إلينا الآن، وفي اليوم التالي سافر معهم، فلم تحل دون سفره دموعي، فلما ودعني قال لي: تذكري اليمين ولا تنسي سانت جيل في 27 أكتوبر سنة 1860.
وبعد أيام اضطرمت الثورة في أرلندا، فجعلت القرى تثور الواحدة تلو الأخرى، فاندحرت الجنود الإنكليزية مرات كثيرة، غير أن الإنكليز يحاربون بأموالهم، فإذا قتل الجندي حل مكانه سواه، وهم يملئون البحر سفنا عند الاقتضاء خلافا للأرلنديين، فإنهم يحاربون برجالهم، فإذا قتل المجاهد منهم لا يجدون سواه، وظل القتل مخيما على الفريقين عدة أيام حتى انتهى القتال، وانجلى عن فوز الإنكليز، وعادت أرلندا تئن تحت نيرهم الثقيل.
ولكني لا أعلم ما جرى لزوجي، فحملت ولدي وذهبت به من قريتي إلى دبلين، فلما بلغت إليها سمعت الأجراس تدق، ورأيت الشوارع غاصة بجماهير الناس، فسألت عن السبب في ذلك فقيل لي إن المحكمة العليا حكمت بالإعدام على زعيم الثوار، وسينفذون الآن هذا الحكم.
فانقبضت نفسي وحدثني قلبي بمصاب أليم، وحاولت الرجوع ولكني كنت أشعر بقوة عظيمة تجذبني إلى ساحة الإعدام.
ثم باتت تلك الساحة، ورأيت المشنقة منصوبة فحاولت الرجوع ولكن الناس كانوا يزاحموني؛ فالتصقت بتلك المشنقة دون أن أريد، وبعد هنيهة جاءوا بالمحكوم عليه وأصعدوه درجات المشنقة فأغمضت عيني كي لا أرى ذلك المنكود، ولكنهما فتحتا بالرغم عني، فصحت صيحة منكرة حسب الناس أن روحي خرجت معها من صدري، ذلك أن هذا المحكوم عليه كان هو، أي زوجي، وقد رآني، وقال لي: «تذكري.»
ولم أعلم ما جرى بعد ذلك فقد أغمي علي، فلما فتحت عيني وجدت الظلام أسدل جناحه، والناس قد تفرقوا، ورأيت نفسي بعيدة عن ذلك المكان الذي قتل فيه زوجي شهيد أرلندا، ووجدت بجانبي رجلا لم أكن أعرفه من قبل، وهو يحمل ولدي النائم فقال لي: اتبعيني، فتبعته وأنا فاقدة رشادي، لا أعلم أين أنا ولا كيف أسير.
وبعد مسير ساعة، وصلت إلى طريق قريتي فقال لي: اذهبي الآن إلى منزلك إذ لم أعد أخشى على ولدك، فإن الظالمين لا يبحثون عنه في منزلك، ولو علموا أنه ابن زعيم الأرلنديين لما أبقوا عليه، فاذهبي الآن رأف الله بحالك وتذكري.
ثم تركني وانصرف، فعلمت بعدئذ أن هذا الإنسان كان عارفا بما أوصاني به زوجي.
وعند ذلك مسحت الأرلندية دموعها، وركعت أمام الكاهن صموئيل وقالت له: إنك عرفت كل شيء أستحلفك بالله وبذلك الإنسان الذي في سبيل الوطن أن تساعدني في سبيل إيجاد ولدي، إذ يجب أن أكون معه في سانت جيل وأن ...
فقاطعها الكاهن بإشارة وقال: أنا هو الكاهن الذي سيقيم الصلاة غدا في سانت جيل، وأنا هو الذي ينتظر قدومك بالغلام.
فنظرت إليه بانذهال عظيم وقالت: أنت هو؟ - نعم يا ابنتي وأنا أيضا أنتظرك. - وولدي أين هو؟ - كوني مطمئنة فسوف نجده.
ثم التفت إلى شوكنج والرجل العبوس وقال لهما: إنكما ستساعدانني على إيجاد الطفل فيما أظن.
فأجابه شوكنج إن إيجاده سهل؛ لأني أعرف أين هو.
وقال الرجل العبوس: إني مستعد لخدمتك في كل ما تريد.
فقال لهم: إذن هلموا بنا فإن هذا الغلام الذي نبحث عنه هو الذي تنتظره أرلندا.
وهموا بالخروج من الخمارة، فتقدمهم الكاهن ولكنه لم يمش خطوة إلى الباب حتى رأى رجلا قد دخل إلى هذه الخمارة، فما أوشك أن رآه حتى ارتعش ونظر إلى رفاقه نظرة تدل على القلق والاضطراب.
14
ولم يكن منظر هذا الرجل الذي دخل يدعو إلى ما لقيه الكاهن من الاضطراب، فقد كان حسن البزة، نظيف الملابس، مختما بخاتم ثمين من الماس مما يدل على أنه من أهل اليسر غير أن عينيه كانتا غائرتين، وكانتا تشيران إلى ما فطر عليه من الخبث والطمع.
وكان على بساطة ظواهره يلقي الرعب في قلوب كثيرين من الذين عرفوه، فإنه كان يدعى توماس الجن، وهو من أشهر المرابين في لندرا، وقد أرادت التقاليد أن يكون من الإسرائيليين.
غير أنه كان يخالف أبناء طائفته في كثير من مبادئهم، فإن الربا يكاد يكون خاصا بالإسرائليين، ولكن معظمهم يأخذون ربحا حلالا خلافا لهذا اليهودي، فقد كان يبلغ به الطمع أن يجعل الربا ضعف الأصل لا يردعه ضمير ولا تمنعه عواطف رحمة وإشفاق.
وكان من عادته أن لا يرد طالب قرض، ومن كلامه المأثور: إن كل مديون لا بد له أن يدفع في النهاية، وإن من يطالب بحقه لا يضيع له حق، ولذلك كان يسلف كل من يستدين منه بفوائد عظيمة ، فلو قبض منه ربع ماله عليه لكان الرابح ولكنه كان يستعين بنظام لندرا الصارم، فيستوفي كل ما يعتقده حقا، وما هو إلا سرقة واختلاس، ولذلك ألقى الرعب في قلوب أمثاله، فكان إذا حيى أحدهم رفيقا قال له: أجارك الله من توماس. وكان هذا الدعاء خيرا من التحية.
هذا هو الشخص الذي دخل إلى الخمارة السوداء، فارتعش لرؤياه الكاهن.
أما توماس فإنه لم يحفل باضطراب الكاهن بل دنا منه وقال له: إنه لو قيل لي إني قد أجدك في مثل هذا المكان لما صدقت، ولهزأت بالقائلين.
وأجابه الكاهن بعظمة: إن من كان كاهنا يا سيدي، وجب عليه أن يذهب إلى كل مكان يدعوه إليه الواجب. - أرجوك العفو ومعاذ الله أن أحاول انتقادك، ولكني قلت هذا القول لأني أبحث عنك بحثا طويلا منذ حين فلا أجدك. - ذلك لأني أقمت أسبوعين قرب مريض، ولم أكن أبرح منزله إلا إلى الكنيسة. - ولذلك لم يجدوك في منزلك منذ أسبوعين، ولكنك أخطأت إلى نفسك خطأ عظيما. - لماذا؟ - لأن رجال النظام والعدالة قد فعلوا في هذه المدة ما وجب عليهم. والآن فلنبحث في الموضوع فإنك اقترضت مني مائة جنيه لكنيستك منذ عام، وقد استحق الدين منذ شهر فما وفيته إلى الآن. - نعم، لكني كتبت إليك أستمهلك شهرين. - لا أنكر ما تقول. - وإني أقسم لك بأني أفيك مالك بعد شهرين، فقد أمرت وكيلي في أرلندا أن يبيع ما بقي لي فيها من الأرض، وسيردني المال في أقرب حين.
وضحك توماس ضحك الهازئ، وقال: إني أعرف أراضي أرلندا وأثمانها، وأنا أشير عليك أن تبحث عن طريقة أخرى. - ماذا تهمك الطريقة ما دام المال سيدفع إليك؟ - لقد أصبت لأن ذلك من شئونك الخاصة، ولا دخل لي بها.
ثم وقف وهم بالخروج من الخمارة، وظهرت علائم السرور على محيا الكاهن وقال له: إذن رضيت إطالة الأجل شهرين؟
فاندهش توماس وقال: متى قلت لك هذا القول؟ - ولكني أقسم لك بأني سأفيك مالك حين الاستحقاق. - هذا ما أتمناه لك . - إذن أترفض تمديد الأجل ؟ - إني لا أرفض ولا أقبل، لأن أمرك بات منوطا برجال النظام فاتفق معهم على ما تشاء. - إني رجل فقير، لا سبيل لي إلى التقاضي.
فهز توماس كتفه وقال: ليس ذلك من شأني.
ثم تركه وخرج من الخمارة، وتبعه الكاهن وفي أثره شوكنج والرجل العبوس والأرلندية، والكاهن يتوسل إليه وهو لا يجيب حتى انتهى إلى مركبة، كان فيها اثنان وقال لهما: اذهبا بحضرة الكاهن إلى سجن المفلسين، فإن أوامر القبض عليه صريحة لا اعتراض فيها.
ووضع أحد الجنديين يده على كتف الكاهن وأمره أن يصعد إلى المركبة.
وعند ذلك نظر الكاهن إلى الرجل العبوس نظرة يأس وقال: أستحلفك بالله أن تهتم بإيجاد الغلام. - أقسم لك بالله إني سأجده.
وصعد الكاهن إلى المركبة، وسار به الجنديان، وتهدد شوكنج توماس بقبضته ولكنه هز كتفه ومشى في حال سبيله دون أن يعبأ به، أما الأرلندية فإنها ركعت وجعلت تصلي.
15
وبعد أن انتهت من صلاتها وبكائها، أنهضها الرجل العبوس وقال: إني وعدتك بإرجاع ولدك، ولا بد من إرجاعه فاطمئني وهلمي بنا.
ونهضت الأرلندية وسارت مع الرجلين، وكان الصباح قد طلع فركبوا مركبة، ودل شوكنج السائق على الشارع الذي تقيم فيه فانوش، وانطلقت بهم تنهب الأرض.
وقال الرجل العبوس لشوكنج إبان مسير المركبة: يجب علينا الآن أن نبحث عن السبب الذي حمل المعتدين على التفريق بين الأم وولدها فدعني أسألها علي أقف على السبب.
ثم جعل يسأل الأرلندية أسئلة مختلفة، غير أن هذه المنكودة لم تكن تعرف من أمرها أكثر ما يعرف منه شوكنج، وقصت عليه كل ما علمه القراء إلى أن أخبرته بالدوار الذي أصابها حين كانت واقفة تصلي، وأنها فقدت رشادها ولما استفاقت وجدت نفسها بعيدة عن ولدها في أقذر شارع.
وقال لها: أرني لسانك.
فامتثلت ففحصه وقال: إنهم سقوك مخدرا، ونقلوك من مكان إلى مكان دون أن تشعري، وذلك يدل على أنهم يريدون فصلك عن ولدك لسبب أجهله الآن، ولكن لا بد لي من معرفته فاطمئني أيتها السيدة، فإنهم لم يسرقوا ولدك ليسيئوا إليه، فإن هذه المدينة المتسعة كثيرة الأغنياء، ومن يعلم فقد يكون القصد من سرقة هذه المرأة لولدك أن تتبناه. - كلا فإن مهنتها تربية الأطفال، وقد رأيت عندها بنتين صغيرتين كانتا ترتعشان خوفا منها، حتى إن إحداهما قالت لولدي: لا تقم في هذا المنزل أو يضربوك كما يضربوننا.
وتاه الرجل العبوس في مهامه التصور والتفكير، واسترسلت الأرلندية إلى البكاء وظلت المركبة مندفعة في سيرها حتى وصلت إلى الشارع المقيمة فيه فانوش، وأوقفها شوكنج على مسافة قريبة من المنزل.
وقال له الرجل العبوس: ما هي نمرة المنزل؟ - 35! - إذن انتظرني في المركبة إلى أن أعود.
فأجفلت الأرلندية وقالت: ألا تصحبني ولماذا تدعني في المركبة ألست أنا التي يجب أن تطلب ولدها؟ - نعم يا ابنتي ولكننا لا نستطيع إرجاع الغلام إلا بالحيلة لا بالعنف، لأن في هذه العاصمة لا ينال مثل هذا الحق بالقوة غير الأغنياء وأصحاب المقامات، وما نحن منهم، وفوق ذلك لا يحق دخول المنازل عنوة لأحد.
وذكر شوكنج ما في جيبه من الذهب وقال: ألم أخبرك أني غني؟
فابتسم الرجل العبوس وقال: وأنا ألم أخبرك أنك طاهر القلب، وأنك أبله فانتظرني هنا مع هذه السيدة حتى أعود.
وأطرق شوكنج برأس خجلا، وذهب الرجل العبوس إلى جهة المنزل، لكنه بدلا من أن يقرع بابه تجاوزه إلى سواه.
وكان يوجد بإزاء المنزل خمارة دخل إليها وطلب كأسا من الشراب ثم أخذ يحادث صاحبتها فقال لها: أتعرفين مسز فانوش؟ - نعم فإنها من زبائني. - أين تقيم؟ - في هذا المنزل الذي أمامك رقم 35. - إنما أسألك عنها؛ لأن لدي فتاة صغيرة أحب أن أعهد إليها بتربيتها، لقد علمت أنها مربية أطفال.
واضطربت صاحبة الخمارة، وظهر أن عاملين يتنازعانها إلى أن تغلب أحدهما على الآخر فقالت له: إني أرى عليك مخائل السلامة، وقد وجب علي نصحك ونصيحتي أن لا تضع فتاتك عند هذه المرأة. - لماذا، أما هي مربية أطفال؟ - هي كذلك بالظاهر، أما بالحقيقة فهي سارقة أطفال.
فشكرها الرجل العبوس وتركها وانصرف. فمر بمنزل فانوش ونظر إليه نظرة الفاحص وتجاوزه ماشيا على الرصيف؛ بغية فحص جميع ما يكتنفه وما يجاوره، ورأى رجلا تدل ملابسه على الفقر المدقع، يسير الهوينى على الرصيف.
وتفرس فيه وكأنه دق عرفه فرسم على وجهه علامة الصليب بإبهام يده اليمنى، ولما رأى الفقير هذه العلامة السرية، ورأى الرجل العبوس يتفرس فيه دنا منه وقال له: لقد عرفت علامتك فماذا تريد أيها الأخ؟
وأعاد الرجل العبوس رسم علامة الصليب مرة ثانية، ولكنه رسمها هذه المرة باليد اليسرى.
فانحنى الفقير باحترام وقال له: مر أيها الرئيس فإني طوع لأمرك.
فقال الرجل العبوس: لقد علمت دون شك أن العلامة الأولى يراد بها أننا إخوان متساوون في جمعية واحدة، وأن العلامة الثانية يراد بها أن لهذه الجمعية رؤساء ومرءوسين، فاعلم الآن أني واحد من أولئك الرؤساء. - ماذا تريد أن أصنع؟ - أريد أن تتبعني.
وتبعه الفقير ممتثلا دون أن يجيب.
16
أما الرجل العبوس فإنه سار توا إلى المركبة.
وقال له شوكنج: ماذا صنعت ألم تجد الغلام؟
فلم يجبه والتفت إلى الأرلندية، وهي تبكي بكاء الأطفال وقال لها: لا أسألك يا سيدتي إذا كنت تريدين إيجاد ولدك، فإنك تبذلين حياتك في هذا السبيل، ولكني أسألك أن تصغي إلي.
فكفكفت الأرلندية دمعها وقالت: قل يا سيدي ما تريد؟ - إن هذه المرأة التي كنت عندها سارقة أطفال، وهي لم تسرق ولدك للإساءة إليه بل لبيعه لعائلة تبحث عن وريث، كما يظهر فاطمئني على ولدك فليس عليه أقل خطر، واعلمي أن هذه المرأة لا تتوقع أن تراك، وإذا رأتك الآن أضعت الغلام، ولا تجيز الشرائع الإنكليزية الدخول إلى المنازل فهي تنادي البوليس في الحال، وتطردك من المنزل.
نعم إنك تستطيعين رفع شكواك إلى القضاة، لكنها تكون قد تمكنت من إبعاد الولد قبل أن يشرع القضاة بالتحقيق ولذلك يجب إذا أردت أن أعيد إليك ولدك أن تطيعيني طاعة لا حد لها. - مر أطع وقل ما يجب أن أصنع. - يجب أن تبقي هنا في هذه المركبة مع شوكنج.
ثم التفت إلى شوكنج وقال له: إني ذاهب الآن إلى منزل هذه المرأة فإن رأيتني قد ظهرت لك من نافذته دع السيدة في المركبة واحضر إلي. - سأفعل ما تريد، اخفض صوتك لأني أرى رجلا يسمعنا. وقد أراد به الرجل الفقير. - لا تخف هذا الرجل فهو معنا وراقب النافذة، وإذا رأيتني منها فأسرع إلي.
ثم تركهما وانصرف مع الفقير إلى منزل فانوش، وقد أمره أن يزرر ثوبه وفعل مثله إيهاما لأهل المنزل أنهما من البوليس السري.
ولما بلغا الباب طرقاه مرات متوالية فلم يفتح الباب، بل فتحت نافذة مطلة على الشارع وأطلت منها امرأة عجوز، فقالت لهما: ماذا تريدان؟
أجابها الرجل العبوس: إننا نريد منزل مسز فانوش. - إنه منزلها، لكنها ليست فيه الآن. - لا بأس، افتحي لنا. - ولكن من أنتما؟
فقال لها الرجل العبوس بلهجة الآمر: قلت لك افتحي.
فترددت العجوز هنيهة، ثم فتحت لهما ودخلا، وأسرع الرجل العبوس إلى إقفال الباب والدخول.
ولما تبينتهما العجوز ذعرت وظهرت عليها علائم الخوف وقالت لهما: من أنتما وماذا تريدان؟
ولم يجبها الرجل العبوس بل تقدم إلى إحدى الغرف، وفتح بابها ورأى فيها البنتين الصغيرتين، فامتنعتا عن الشغل وجعلتا تنظران إلى هذين الشخصين.
وعند ذلك التفت الرجل العبوس إلى العجوز وقال لها: تقولين إن مسز فانوش ليست في المنزل؟ - كلا؟ - أين هي؟ - مسافرة. - حسنا وأين هي الأرلندية؟
وارتعشت العجوز وقالت: لا أفهم ماذا تقول. - لقد جاء أمس في الليل إلى هذا المنزل رجل وامرأة وغلام. - إنك منخدع يا سيدي. - كلا، لأن الرجل برح المنزل، أما المرأة والغلام فقد بقيا فيه. - قلت لك يا سيدي إني لا أفهم ما تقول.
ثم نظرت إلى البنتين نظرة تهديد، كأنها تحذرهما من أن تبوحا بشيء غير أن الرجل العبوس انتبه لنظرتها، فدنا من إحدى البنتين، وقال لها بلهجة لطف وحنان، ألم يحضر يا ابنتي مساء أمس رجل وامرأة وغلام؟
فقالت له الفتاة دون أن تكترث للعجوز: نعم يا سيدي.
وغضبت العجوز غضبا شديدا، وأخذت سوطها وحاولت ضرب الفتاة وهي تقول: سوف ترين أيتها الكاذبة.
غير أنه قبض على يدها ومنعها عن ضربها ثم عاد إلى الفتاة وقال لها: قولي الحقيقة يا ابنتي ولا تخافي، أتعشى الثلاثة الذين قدموا أمس هنا في هذا البيت؟ - نعم. - وبعد العشاء؟ - أدخلوا الغلام وأمه إلى هذه الغرفة.
وأشارت إلى غرفة مقابلة لها، فأمر العبوس الفقير أن يفتح بابها ففتحه، ولم يكن أحد فيها، وقال للفتاة: أين هما الآن؟ - لا أعلم يا سيدي. - ألم تريهما في هذا الصباح؟ - كلا. - ربما إنك لم تري الأم فهل رأيت الولد؟ - كلا. - وأين هي مسز فانوش؟ - لا أعلم.
وعادت العجوز إلى الهياج وقالت: سوف أميتك أيتها الكاذبة جلدا بالسياط.
وهمت أن تهجم عليها، ودفعها الرجل بصدرها دفعة شديدة، وسقطت على المقعد وقال لها: إذا خطر لك أن تفوهي بكلمة قتلتك دون إشفاق.
ثم دنا من النافذة ففتحها، ووقف كي يظهر لشوكنج كما اتفقا.
17
ورأى شوكنج إشارة الرجل العبوس وأسرع إلى مقابلته، ونزل الفقير ففتح له الباب، أما المرأة العجوز فقد كانت ملقية على المقعد، وهي توشك أن يغمى عليها من الخوف، وأما البنتان فقد كانتا تضحكان.
ولما دخل شوكنج نظر إلى ما حواليه ولم يجد الولد، وقال له الرجل العبوس: أخاف أن يكونوا خطفوه.
ثم عاد إلى الفتاة الصغيرة وقال لها: أأنت واثقة يا ابنتي أنك لم تري الولد مع مسز فانوش؟ - نعم. - أتعرفين هذا الشخص. وأشار إلى شوكنج؟ - نعم، هو الذي جاء أمس مع المرأة والغلام.
والتفت عند ذلك إلى الرجل الفقير وقال له: إني أعهد إليك بمراقبة هذه العجوز، وإذا فاهت بكلمة وحاولت الاستغاثة اخنقها.
ثم خرج من الغرفة مع شوكنج وتفقد جميع غرف المنزل، وبحث في الحديقة وفي السطح بحثا مدققا، فلم يجد أثرا للغلام، وعاد إلى العجوز فوجدها ترتعش من الخوف غير أنها كانت مصممة على الإنكار وقال لها: إنك قد ارتكبت جريمة هائلة لا يكون عقابك بعدها غير الشنق على أني أعد لك وسيلة للنجاة إذا أردت السلامة، وهي أن ترشديني إلى مكان الغلام.
وقالت له بصوت يتهدج من الخوف : اصنع بي ما تشاء، لأن الله يعينني عليك. - إنه يوجد مركبة أوقفناها خاصة قرب هذا البيت، سنأخذك بها إلى إدارة البوليس وهناك تقولين ماذا فعلتم بابن الأرلندية، إلا إذا أردت أن تقولي هنا فنكفيك هذه المشقة. - قلت لك لا أعلم. - بل تعلمين. - اقتلني إذا شئت، فإني لا أقول شيئا ولا أعلم شيئا.
فقال له شوكنج: أتريد أن أخنقها؟ - افعل، لأن الموت أقل ما تستحق.
وأخذ شوكنج منديله ولفه على عنقها فجعلت تصيح بصوت أبح وتقول: اقتلوني إذا شئتم ولكني لا أقول.
وأمره الرجل العبوس أن يضغط ففعل مهددا، وصاحت العجوز صياح المختنق وكادت تبوح بما تعلمه.
غير أنهم سمعوا فجأة جرس الباب الخارجي يقرع قرعا شديدا، فكف شوكنج عن الضغط ونظر إلى الرجل العبوس نظرة المستشير، واغتنمت العجوز هذه الفرصة وجعلت تصيح وتستغيث.
ثم توالى قرع الجرس فأسرع الرجل العبوس إلى النافذة المطلة على الشارع، وأطل منها ورأى مركبة جميلة واقفة عند باب المنزل، وقد خرج منها رجل نبيل وقف بجانبه رجلان من البوليس.
وأدرك العبوس ما يحدق به من الخطر وأسرع إلى شوكنج والفقير وقال: هلموا بنا إلى الهرب وأسرعا.
ثم تقدمهما راكضا إلى الحديقة، ووجد المفتاح في بابها ففتحه وخرج منه وأسرع الرجلان إلى الخروج في إثره.
ولما أمنوا الخطر قال العبوس لشوكنج: إننا لم نجد الغلام اليوم ولكن لا بد أن نجده في الغد.
ثم أعطاه ورقة مالية قيمتها عشرة جنيهات وقال له: خذ هذه الورقة واذهب بالأرلندية واستأجر لها بيتا موافقا وسليها عن مصابها، وعدها بإنقاذ ولدها قريبا لأني كما قلت لك لا بد من أن أجده. - وأنت ألا تحضر معنا؟ - كلا إذ يجب أن أرى الكاهن صموئيل. - كيف تراه وهو في السجن؟ - ذلك أني سأحبس نفسي معه في السجن. - لكنك إذا دخلت إلى السجن لا تخرج منه فكيف تستطيع البحث عن الغلام؟ - إني أواعدك على اللقاء غدا في الساعة الرابعة في شارنج كروس، وعادتي أن أفي متى وعدت.
ثم افترقا فذهب شوكنج إلى الأرلندية وهو يتوجع لمصابها، وذهب الرجل العبوس يتبعه الفقير إلى شارع أكسفورد، وهناك أمر الفقير أن يعود إلى بيت فانوش. وأن يراقب ذلك الرجل النبيل الذي دخل إليه ويقتفي أثره أينما ذهب، ويعلم اسمه، وضرب له موعدا للقاء في المكان الذي عينه لشوكنج.
فانحنى الفقير وانصرف ممتثلا، وذهب الرجل العبوس في شأنه.
18
ولنذكر الآن ما جرى لابن الأرلندية وكيف اختفى.
ولا بد لنا أن نعود بالقارئ إلى بضع ساعات، حين كان ولتون والسائق ذاهبين بالأرلندية بغية إلقائها في النهر، فإن مسز فانوش لبثت واقفة في ذلك الحين عند باب المنزل تشيع اللصين بالنظر حتى توارت المركبة عن أنظارها، وعادت إلى منزلها وأحكمت إقفال بابه.
ثم دخلت إلى الغرفة التي كان نائما فيها ابن الأرلندية، وجعلت تتفرس فيه وتقول في نفسها: ما أعجب هذا الاتفاق الذي قدر لي الخروج من ذلك المأزق الضيق، بل إن هناك اتفاقا أعجب، وهو أن هذا الغلام يشبه ابن مسز إميلي بعض الشبه، فإني سأسعد هذه المرأة كما أشقيت تلك، ومصائب قوم عند قوم فوائد.
وعند ذلك خرجت إلى قاعة الطعام ونادت العجوز قائلة لها: اجلسي بجانبي نتحدث فإن أمرنا خطير.
ولم يرق هذا الاقتراح للعجوز وقالت: لقد دب النعاس إلى أجفاننا فلننم الآن ولنرجئ الحديث إلى الغد.
فاتقدت عينا فانوش بأشعة الغضب وقالت: أتظنين أيتها البلهاء أني أدفع لك راتبا كي تأكلي وتشربي وتنامي؟
فاشمئزت العجوز من هذا التقريع العنيف وقالت: أشكرك يا سيدتي لإحسانك إلي بالرواتب الكثيرة، لكني لو لم أكن في منزلك لما سارت أعمالك هذا السير المنتظم، فإن الأولاد عندك لا يرهبون إلاي. - ذلك أكيد، لكن أعيد عليك ما قلته وهو أنه يجب أن نتحدث. - إذن قولي ما تريدين. - يجب أن ننظر الآن فيما يجب أن نفعله بهذا الغلام. - إنك تعلمين أكثر مني. - إن مسز إميلي وزوجها سيحضران بعد شهر فليس الوقت متسعا لدينا كي نربيه على ما نريد. - إن السوط يكفل حل كل عسير.
فهزت فانوش كتفها وقالت: إنك كلما كبرت زدت خرفا وبلاهة. - وبخيني واشتميني كما تشائين فإنك تدفعين لي رواتبي. - لا أريد توبيخك بل أريد أن أظهر لك أن نفسك خالية من الذكاء، فإنه يجوز لنا أن نضرب الأطفال الذين عهد إلينا بتربيتهم؛ لأن أهلهم يدفعون لنا نفقاتهم ولا يطلبونهم إلا بعد عهد طويل، أما هذا الغلام فإننا سنسلمه إلى مسز إميلي بعد شهر، فنحن أحوج إلى إرضائه منا إلى ضربه، وذلك أولا لكي ينسى أمه التي افترق عنها بما يجده من المؤانسة والملاطفة، ثم لأني رأيت منه صدقا في العزيمة وصلابة في الرأي، ولذلك لا أجد بدا من أن ننهج معه مناهج اللين. - إذن اعهدي به إلي فإني لا أعرف الرفق في تأديب البنين. - بل سأفعل خيرا من ذلك، أي إني سأبعده عن هذا البيت، فإنه متى صحا فيه، ولم يجد أمه، ملأ الدنيا صراخا وعلم أهل الشارع بأمره، وافتضح أمرنا. - والسوط؟
وغضبت فانوش وقالت: ألا تزالين أيتها البلهاء تذكرين السوط، ألم أقل لك إني أريد أن ألاينه وأسترضيه؟ - عفوك فقد نسيت، ولنعد إلى قولك الأخير، فإلى أين تريدين الذهاب به؟ - إلى ذلك البيت الجديد الذي اشتريته في خلاء همبستاد، فإنه يكاد يكون مقفرا، وفيه حديقة غناء يلعب فيها الولد كما يشاء، فمتى عادت مسز إميلي أكون قد دربته على ما أريد، وجعلته يعتقد أنها أمه الحقيقية، وأن الأرلندية، لم تكن غير مرضعة، أما أنت فستبقين في البيت وتحتفظين به كما لو كنت فيه. - إنك تعلمين أني مخلصة لك كل الإخلاص. - إذن اذهبي الآن ونامي، أما أنا فإني ذاهبة الآن بالغلام.
فانصرفت العجوز وهي تقول افعلي ما تشائين، أما أنا فإني أفضل السوط.
ولم تحفل فانوش بقولها، ونادت خادمتها وقالت: احضري مركبة فإننا ذاهبون الآن إلى همبستاد.
فامتثلت الخادمة، وعادت فانوش إلى حجرة الغلام.
وكان الغلام نائما نوم تخدير - كما تقدم - والمخدر يؤثر بالصغار وضعفاء البنية أكثر من تأثيره بالكبار والأصحاء، فأخرجته من سريره دون أن يستفيق وألبسته ثيابه.
ولما انتهت من ذلك عادت الخادمة وأخبرتها أن المركبة على الباب فأمرتها أن تحمل الغلام إليها.
فقالت لها: ألعلك تريدين إغراقه أيضا؟
أجابت: كلا، فإننا سنكسب منه ألف جنيه على الأقل، بل نحن سنذهب به في البرية.
وحملته الخادمة وخرجت به وتبعتها فانوش إلى المركبة، وسارت بهن وبلغت همبستاد بعد ساعة والغلام لا يزال نائما، وأخرجتاه من المركبة وأطلقتا السائق.
وكان هذا البيت صغيرا قليل الغرف، غير أنه كان يحيط به حديقة متسعة، وحملت الخادمة الغلام واجتازت به الحديقة تتقدمها فانوش، فشعرت أنه بدأ يتحرك وقالت لسيدتها: إنه سيفيق قريبا. - لا بأس الآن فليستفق ويصرخ قدر ما يشاء، فلا جيران لنا يسمعون صياحه.
ثم دخلت به إلى البيت، ووضعته على مقعد، ولم يكد يستقر عليه حتى تحركت شفتاه، وكان أول كلمة فاه بها قوله «أمي».
وبعد هنيهة فتح عينيه ونظر إلى ما حواليه ورأى فانوش وقال لها: أين أمي؟ - نائمة يا بني.
فنهض عن المقعد ونظر إلى نفسه ورأى نفسه بملابسه وتذكر أنه خلعها قبل وقال لفانوش: لماذا أنا بملابسي؟ فلم تجبه.
وعاد إلى سؤالها عن أمه فقالت له: إني ذاهبة لأناديها.
ثم خرجت من الغرفة، وقد نظرت إلى الخادمة نظرة سرية، وكانت قد علمتها ماذا يجب أن تصنع مدة سيرهما في المركبة.
أما رالف فإنه سأل الخادمة أيضا: لماذا أنا بملابسي؟ - إن أمك ألبستك إياها. - وأين هي الآن؟ - في الدور العلوي. - إني أريد أن أذهب إليها.
ثم مشى إلى الباب فحالت الخادمة دونه وقالت له: بل تبقى هنا. - وإذا كنت لا أريد. - ولكني أنا أريد.
وضرب الأرض برجله وقال: إني أريد أن أذهب إلى أمي.
ثم حاول أن يبعد الخادمة ويخرج فوقفت عند الباب ومنعته، فدفعها بعنف وغضبت منه وصفعته على وجهه صفعة تألم منها ألما شديدا، وضم يده وضربها ضربة شديدة نتج عنها أن هذه المرأة الوحشية أخذت سوطها وقالت له: سوف ترى أيها الوقح كيف أربيك.
ثم انهالت بسوطها على ذلك المسكين، فجعل يصيح صياحا يقطع القلوب من الإشفاق، لكن هذه المرأة لم يكن لها قلب يعرف الرحمة .
19
ولندع الآن هذا الغلام المنكود مع ظالميه، والأرلندية أمه مع شوكنج، ولنعد إلى ذلك الكاهن صموئيل الذي تركنا الجنديين ذاهبين به إلى السجن فنقول: يوجد في لندرا سجن خاص بالذين يتأخرون عن دفع ديونهم. ينفق كل دائن على من يسجنه فيه إلى أن يدفع الدين فيخرج منه أو يمل الدائن من الإنفاق ويطلق مدير السجن سراحه.
وقد كان هذا الكاهن استدان مائة جنيه من الصراف الإسرائيلي، وأنفقها على المعوزين من قومه، وهو يرجو أن يفي الدين في الأجل المعين بما سيبيعه من أرضه في أرلندا، إلا أن البيع لم يتيسر في الموعد المضروب، وأدخله الصراف إلى سجن المفلسين، وأبى أن يمدد أجل دينه، كما علم القراء من حديثهما في الخمارة السوداء.
ومن شروط هذا السجن، أنه إذا أراد أحد أقرباء المديون أو أحد أصحابه أن يسجن بدلا منه يأذنون له فإذا عجز المديون عن الوفاء وأراد الذي سجن مكانه أن يخرج من السجن، جيء بالمديون الأصلي فسجن، وأطلقوا سراح من ناب عنه.
غير أن هذا الكاهن على كثرة أصحابه ومريديه لم يلق من يعرفه حين ذهب به الجنديان، وأبت نفسه الكريمة أن يطلب إلى من كان في الخمارة أن يسجن واحد منهم في مكانه إلى أن يتيسر له السعي لإيجاد المال، وسيق إلى السجن وعينوا له خير مكان في القاعة العامة فإن الجميع كانوا يحبونه لما عرف به من الصلاح.
ولقد تقدم لنا القول أن الرجل العبوس أخبر شوكنج أنه سيجتمع بالكاهن في سجنه، وواعده على المقابلة في اليوم التالي، ولما افترق عن شوكنج ذهب إلى منزله وغير ملابسه، ومضى توا إلى سجن المفلسين، وهو يفكر في طريقة تمكنه من أن يرى الكاهن ويخرجه من السجن.
ولما وصل إلى ذلك السجن، وجد في باحته قهوة يختلف إليها أهل المسجونين وأصحابهم فيقيمون فيها إلى أن يؤذن لهم بمقابلتهم.
وجلس أمام مائدة مع الجالسين، وجعل يجيل بينهم نظر الفاحص الخبير بشقاء القلوب.
ونظر فتاة في ريعان الشباب فضح فقرها لباسها، وستر ذلك الفقر ظواهر الأدب والوقار، فهاجت بقلبه عوامل الشفقة لما رآه من دلائل انكسارها وشقائها؛ فإنها كانت مطرقة إلى الأرض والدموع تنهل من عينيها، ولا ترفع نظرها إلا حين تشعر بقدوم قادم جديد إلى القهوة.
ثم دنا منها وسألها عن سبب بكائها بلهجة حنو أنست بها الصبية، وحكت له حكايتها، وخلاصتها أن مهنة أبيها النجارة، وأنه مديون بعشرة جنيهات لشخص لا رحمة في قلبه، وقد سلمه منذ ساعة إلى الجنود لسجنه حتى يفي الدين فأرسل إليها أبوها من أخبرها بالأمر فسبقته إلى السجن كي تراه قبل دخوله إليه، وإنها الآن تنتظره.
وقد حكت له هذه الحكاية بملء البساطة، فوصفت له معيشتها مع أبيها، وأنهما في أشد حالات الفقر، بحيث يستحيل على أبيها وفاء الدين. وأنه إذا بات ليلتين في السجن تموت هي من الجوع، ويموت هو من اليأس.
فرق الرجل العبوس لحكايتها، وتمثل له الشقاء بأبلغ صورة، فطيب خاطر الفتاة ووعدها خيرا.
وقد خطر له أن يستفيد من هذه الصدفة في الغاية التي يسعى إليها. فبينما هو يحادث الصبية ويعدها بإنقاذ أبيها من السجن تفريجا لكربتها، إذ دخل إلى القهوة جنديان كان بينهم رجل تدل ملابسه أنه من العمال، وقد طبع اليأس على جبينه، فلما رأته الصبية شهقت وقالت: هذا أبي، ثم أكبت على صدره تغسله بدموعها.
فاحترم الجنديان هذا المشهد المؤثر، وابتعدا عنها وجلسا حول مائدة وطلبا زجاجة من الشراب يصرفان الوقت بها حتى يتم الرجل وداع ابنته ويوصيها بما يريد.
وعند ذلك دنا الرجل العبوس من الجنديين وحياهما أحسن تحية، فاستقبلاه خير استقبال لما رأياه من حسن أدبه، وظواهر نبله، وجمال لباسه، مما يدل أنه من الأعيان، وأنه قادم إلى السجن للفرجة والتفقد، شأن كثير من ذوي اليسار والفراغ.
أما الرجل العبوس فإنه جلس معهما وجعل يحادثهما عن سجن المفلسين ونظاماته. ثم استطرد إلى البحث في أمر هذا الرجل وابنته، والسبب في سجنه ومبلغ دينه. فأخبراه بما عرفه من الصبية، فأظهر الرجل العبوس توجعا شديدا لهذا المنكود شاركه فيه الجنديان، لأنهما كانا عارفين بفقره المدقع.
ثم قال لهما: لقد خطر لي أن أحل محله في السجن.
فضحك الجنديان لاقتراحه وحسباه ممازحا فقال له أحدهما: كيف يدخل من كان مثلك السجون؟ - يدخل ليخرج سواه. - ولكنك لست من أهل الرجل ولا من أصدقائه. - ومع ذلك إني أحب أن أحل محله لأفرج غمه. - إن ذلك سهل عليك تستطيعه دون الدخول إلى السجن، فإذا دفعت عنه ما عليه أطلقناه في الحال.
فابتسم الرجل العبوس وقال: إني أعلم من ذلك ما تعلم، غير أني أوثر الدخول إلى السجن لأسباب كثيرة، منها أني أجد لذة في هذه المشقة التي سأكابدها عن هذا المنكود لا أجد مثلها إذا اقتصرت على دفع المال، فقد تعودت مثل هذا الإحسان حتى مللته.
ومنها أني أحب أن أدرس أحوال هذا السجن، وأتفقد المسجونين فيه، علي أجد بينهم من يستحق الإفراج فأدفع دينه وأفرج عنه. وماذا عليكما إذا أدخلتماني إلى السجن بدلا من هذا الرجل؟
فعبس الجندي وعلم أنه غير مازح فيما قاله لما رآه من ظواهر جده فقال له: لا بأس، غير أن العادة أن يدخل السجين نفسه إلى السجن، ولا يخرج منه إلا بدفع المال أو عفو الدائن أو حلول غيره محله كضامن له إلى أن يجمع المال. وجميع هذه الأمور يكون مرجع الحكم فيها إلى حاكم السجن دون سواه. - إني أعلم جميع هذه القيود، غير أن حاكم السجن لا يعرف هذا الشخص بالذات. - ماذا تريد بهذا القول؟ - أريد به أني لو لبست هذه الملابس الرثة، التي يلبسها ذاك النجار، وعرضت على حاكم السجن باسمه لحبسني، وهو يعتقد أنه يحبس النجار نفسه. - لكن من يقدمك للحاكم باسم النجار؟ - أنت ورفيقك هذا، ولا جناح عليكما، لأني سأدفع المال عن هذا النجار. ولدي كثير منه في محفظتي، فيطلقون سراحي ولا يدري بأمرنا أحد. فتكونان قد أحسنتما إلي لتسهيل سبل غايتي، وما وراءها إلا الخير، وأحسنتما إلى نفسيكما بما سأدفعه لكما من المكافأة عن هذه الخدمة الصالحة.
ثم أخرج محفظة من جيبه ، كي يدفع ثمن الشراب، وفتحها أمام الجنديين. فرأيا فيها من الأوراق المتكدسة ما أدهشهما، فجعلا يتشاوران بالنظر.
وبعد أن دفع الرجل العبوس عشرة أضعاف ثمن الشراب بسخاء نادر، وعاد إلى إغواء الجنديين، وقد ترك المحفظة مفتوحة أمامهما. فطال العهد بهما حتى أقنعهما فنقدهما عشرين جنيها، واتفق معهما على أن يلبس ملابس النجار كي لا يلتبس أمره على الحاكم.
ولما تم الاتفاق ذهب إلى النجار وابنته، وأخبرهما بما حدث فجعلا يبكيان بكاء الفرح والامتنان.
ثم دخلا إلى غرفة من غرف القهوة، ولبس الرجل العبوس ملابس النجار، وعاد إلى الجنديين فذهبا به إلى الحاكم، فأمر بإدخاله إلى السجن. أما النجار وابنته فإنهما عادا إلى منزليهما، وهما يدعوان الله لهذا الإنسان النبيل.
20
وكان حاكم هذا السجن كثير الشفقة والحنان، شديد الرأفة بالمسجونين، حريصا على راحتهم. فلما دخل عليه الرجل العبوس، وهو بملابس النجار طيب خاطره وعزاه ثم دخل به إلى السجن.
وعندما فتح باب السجن، كان الكاهن صموئيل راكعا على الأرض، وبيده كتاب صلاة. وكانت تلك القاعة مظلمة رطبة لا نار فيها تقي ألم البرد غير أن وجه الكاهن كان يشرق بفضيلة الصبر إشراقا. فلما رأى الحاكم قد دخل عليه وقف له احتراما وحياه.
فتأثر الحاكم لما رآه من شقائه وقال له: إن تأثري شديد من هذا المرابي المحتال، لأنه لا أدب في نفسه، ولا رحمة في قلبه، وليس له شيء من صفات الإنكليز.
فابتسم الكاهن وقال له: لماذا تحكم عليه هذا الحكم الصارم؟ - لأني أراه أفرط في العنف، لكن عنفه لا يطول لأن لي سلطة تامة في السجن وسأستخدمها.
ثم التفت إلى كاتبه وقال له: اكتب في الحال كتابا إلى توماس الجن، وقل له إن ما ينفقه على مسجونيه غير كاف وإن إدارة السجن ترى أن الكهنة لا يجب أن يعاملوا معاملة الصادين، وأنه إذا لم يعين في القريب العاجل نفقات كافية للكاهن صموئيل فإن الإدارة تطلق سراحه.
فابتسم الكاهن أيضا وقال له: أشكرك يا سيدي خير الشكر لأنك خير من عرفت من الحكام ولكني أرجوك أن لا تكتب شيئا لهذا المرء لأني بخير، وقد تعودت شظف العيش. - لكن ذلك مستحيل إذ لا تستطيع أن تعيش هذا العيش وإذا رضيته لنفسك فلا أرضاه لك. - إني أعود أيضا إلى شكرك ورجائك أن لا تكتب لهذا الشخص، لأنه من أهل الشر ولن تنال منه شيئا. غير أني أسألك أن تأذن لي بالكتابة إلى أرلندا فإنهم يرسلون إلي في الحال قيمة ما علي لهذا الشخص. - سأفعل ما تريد ولكن بقاءك على هذا الفراش من القش يؤذيك، لأن البرد قارص. - لقد رقدت مرات على أخشن منه، انظر إلى هؤلاء المسجونين التعساء؛ لأنهم أولى بالإشفاق مني.
وفيما هو يتكلم رأى الرجل العبوس بجانب الحاكم فبرقت عيناه وحاول أن يكلمه، غير أن العبوس أسرع إلى وضع سبابته فوق فمه إشارة إلى السكوت فانصرف الكاهن إلى محادثة الحاكم، وبعد هنيهة تفقد الحاكم المسجونين وخرج من السجن.
وبعد ذلك خلا الكاهن بالرجل العبوس، وقد اعتبر لأول وهلة رآه أن دخوله إلى السجن لم يكن لدين عليه بل كان الدين حجة تذرع بها للوصول إليه فكان أول ما سأله إياه قوله: أعثرت على الغلام؟
فرد العبوس: كلا.
فامتعض الكاهن وقال: رباه! إني أسير في السجن، ولا حيلة لي بالبحث.
فقال له العبوس: إني لم أعثر على الغلام، ولكني سأعثر عليه وأقسم لك على ذلك. - لكن كيف تجده وأنت سجين مثلي؟ - هو ما تقول. غير أني أستطيع الخروج من السجن حين أريد. ولكني أردت أن أراك وأحدثك، ولهذا دخلت إلى السجن بدلا من إنسان فقير.
فعجب الكاهن لأمره ورأى الإخلاص يجول في عينيه فقال له: من أنت أيها المرء لأني توسمت فيك الخير حين رأيتك؟
فأطرق العبوس بعينيه إلى الأرض وقال: إني كنت من كبار المجرمين فتبت توبة صادقة منذ عشرة أعوام، وأنا أضحي نفسي كل يوم في سبل الخير راجيا أن أنال عفو الله.
ثم رأى أن الكاهن لم يثق به كل الثقة، فرسم بإبهامه على وجهه تلك العلامة السرية التي أكرهت ذلك الفقير على الخضوع حين شاهده قرب بيت فانوش.
فارتعش الكاهن حين رأى العلامة، وعاد العبوس إلى رسمها أيضا، فمد الكاهن يده وصافحه وقال: إذن أنت أرلندي، وقد كنت أحسبك فرنسيا؟ - بل أنا فرنسي ولكن جميع أهل الشقاء إخواني. - ولكني رأيت من علامتك السرية، أنك واحد منا فمن أدخلك في سلكنا؟ - شخص مات في سبيل أرلندا. - وهذا الشخص؟ - إن الإنكليز الذين حكموا عليه وأعدموه شنقا يحسبون أنه إنسان فقير متسول من عامة الناس ويدعونه فالتن.
فاضطرب الكاهن وقال: أنت عرفت فالتن؟ - إني عشت وإياه عيشا واحدا ستة أشهر في دبلين. ولما حكم عليه بالإعدام أنقذته من سجنه، وكاد يفوز بالفرار إلى أوروبا. ولكن الله أبى أن يبلغ كل مراده، فإني استأجرت سفينة وجعلت بحارتها من الفرنسيين، وتوليت أنا رئاستها، فركبناها وركب معنا فالتن، وكنت واثقا من الفوز كل الثقة.
وفيما نحن في البحر والسفينة تمخر بنا إلى أرض الحرية قال لي فالتن: إني أراك واثقا من الفوز غير أن قلبي يحدثني بأني غير ناج من قبضة الإنكليز، وقد حان لي أن أخبرك من أنا لأن ساعتي أتت.
ثم مال على أذني وأخبرني عن تينك العلامتين، وهما علامة العضو البسيط في جمعيتنا وعلامة الرؤساء.
وقال لي: إنك ستذهب أيضا إلى لندرا فتبحث في تلك المدينة المتسعة عن كاهن شاب يدعى الكاهن صموئيل، فإنه رئيسنا الأكبر إلى أن يترعرع الغلام الذي ننتظره فيتولى الرئاسة العليا مكانه، ومتى اجتمعت بالكاهن حدثه عني، وإذا كنت قد قضيت فاذكر حوادثي الأخيرة. أما إذا بلغت إلى أرض الحرية ونجوت من الإنكليز لا تقل شيئا عني لأنه لم يرني مرة في حياته ولكنه يعرفني. - إذن قد مات فالتن؟ - نعم، فإننا بينما كانت السفينة تمخر بنا، هبت عاصفة شديدة ألقتها على الصخور، والتجأنا كلنا إلى صخر ولم يكن عندنا ريب أننا سنموت جوعا. غير أنه عندما أشرق الصباح ظهرت لنا دارعة إنكليزية فقال فالتن: هلموا نشير إليها.
فمنعته عن ذلك وقلت: إننا إذا استسلمنا إلى الدارعة عرفوك وقبضوا عليك وعدت إلى سجنك.
قال: إذا مت أنا افتديتك وافتديت سائر البحارة، فالموت محتم ومعاذ الله أن أرضى لكم الموت من أجلي. ثم نزع قميصه دون أن يصغي إلي، وجعل يشير بها إلى الدارعة، فرآنا رجالها، وأسرعوا إلى نجدتنا. فحملونا بقارب إلى الدارعة فنجونا كلنا ما خلا فالتن.
فقال الكاهن: أرأيته حين إعدامه؟ - نعم فقد أعدم بعد ذلك بأسبوع في مدينة دبلين، وكنت واقفا تحت المشنقة فكان آخر كلمة قالها لي «تذكر».
وكان العبوس يروي الرواية بلهجة تدل على تأثره، فمد إليه الكاهن يده، وقال: أمن أجل هذا أتيتني؟ - نعم. - رباه وكيف السبيل إلى إيجاد الولد لأن الأرلندية قد صدقت فيما قالته، وابنها هو الذي ننتظره لنكون له خداما أمناء. - إني أقسم لك بأننا نجده.
فقال بلهجة تشف عما خامر فؤاده من الحزن: لكن كيف؟
فابتسم العبوس وقال: أصغ إلي تعلم كيف نجد الغلام.
21
ثم قص عليه جميع ما حدث له بالتفصيل، وكيف دخل إلى منزل فانوش، وأيقن من اختفاء الغلام، حتى إذا أتم حديثه قال الكاهن: إني أرى عليك مظاهر الارتياح، لاعتقادك أن الغلام قد اختطفته المرأة لبيعه لإحدى العائلات، وإن التفتيش عنه سهل ميسور، فأصغ إلي الآن أنت بدورك.
كانت أرلندا منذ مائة عام على ما هي الآن راصفة في قيود الذل والاستعباد للإنكليز فاستمرت ثلاثين عاما تحارب حرب كفاح عن حريتها برئاسة رجلين كانا أخوين.
وكان هذان الشخصان من نسل ملوكنا القدماء، وللأرلنديين اعتقاد أنه لا ينقذ أرلندا من ربقة العبودية غير أحد أبناء هذه الأسرة.
وقتل أحد الأخوين في ساحة القتال، أما الآخر فقد خان أمته ووطنه وباع نفسه للإنكليز؛ فكافأته إنكلترا فجعلته عضوا في البرلمان ومنحته لقب اللوردية.
وولد لهذا الخائن ولدان فخلف أحدهما أباه في البرلمان وبقي إنكليزي المبدأ، وأما أخوه فإنه ذكر أن الدماء التي تجول في عروقه أرلندية وأنه يجب أن يموت شهيدا بها.
وهذا الرجل يدعى السير أدموند، فإنه برح إنكلترا عائدا إلى أرلندا وقد علمت كيف مات من الأرلندية . - أهو والد الغلام الذي نبحث عنه وزوج تلك المنكودة؟ - هو بعينه. - لقد فهمت الآن كل شيء. - كلا، لم تفهم شيئا، فإن أخا السير أدموند بدلا من أن يمد يده لأخيه، ويعينه على إنقاذ أرلندا من قبضة الإنكليز، مالأ الإنكليز على أخيه وحقد عليه حقد اللئام. - ألا يمكن أن يكون هذا الخائن نفسه قد اختطف الغلام؟ - نعم إنه هو الذي اختطفه ولكنه لم يسرقه ليجعله وريثه، بل ليمحو أثره من الوجود ويتبعه بأبيه؛ فإن من قتل الأسد لا يعف عن الشبل، ونهر التيمس بعيد الغور.
ارتعش الرجل العبوس وذكر في الحال ما أخبره به شوكنج عن ذلك اللورد الذي أمره أن يقتفي أثر الأرلندية وأعطاه عشرة جنيهات، فقال للكاهن: إنك مصيب في ظنك كما أرى. فهل تعرف اسم هذا اللورد شقيق السير أدمون؟ - نعم إنه يدعى السير بالمير.
فصاح الرجل العبوس صيحة خوف وإشفاق وقال: لم يبق لدي شك أن سارق الغلام هو هذا اللورد، ولذلك يجب أن نسرع إلى الخروج من السجن في الحال ونجد الولد.
فأن الكاهن أنين الموجع. وقال: كيف السبيل إلى الخروج من السجن؟ إن هذا المرابي قد حبسني وعاملني دون إشفاق؛ لأنه مدفوع إلى هذه الفظاعة من أولئك الذين يضطهدوننا، ولم يكن غير آلة في أيديهم فإنهم قد عرفوا أن الغلام قادم من أرلندا وأني سأحتفل صباح اليوم بقداس بحضور أربعة رجال هم رؤساء مثلي في جمعيتنا وهم قادمون من أرلندا وأيكوسيا وبلاد الغال وأميركا، وأنا صلة التعارف بينهم فإنهم لا يعرفون بعضهم بعضا ولكن أعدائنا عرفوا بأمرهم، وعرفوا أني سأبارك الغلام أمامهم فحالوا دون هذا الاجتماع بسجني في اليوم المعين لاجتماعنا وحالوا دون مباركة الولد باختطافه.
ثم أطرق برأسه وقال: ويلاه إنهم قد يكونون قتلوه، وأنا أسير في هذا السجن فكيف أعمل؟ - أما الولد فلا بد أن نجده ويستحيل أن يقتلوه كما تتوهم، وأما هذا السجن فإننا نستطيع الخروج منه متى شئنا.
فنظر الكاهن إلى ملابسه الرثة وقال: يستحيل الخروج من السجن إلا بعد دفع الدين وأين نجد المال؟ - تجده في جيبي فإن لدي من الأموال قدر ما تشاء لخدمة أرلندا، فلا تعجب لأمري فستعلمه بعد.
وقد رأيت الحاكم ميالا إليك فادعه الآن، وأنا أدفع عنك وعني ونخرج من هذا السجن في الحال. ثم أخرج محفظة أوراقه من جيبه، وفتحها أمام الكاهن فسر بما رآه سرورا لا يوصف وأسرع إلى خادم السجن فسأله أن يدعو له الحاكم.
وبعد هنيهة أقبل الحاكم فدفع الرجل العبوس دينه ودين الكاهن، فسر الحاكم بما رآه من كرم الرجل العبوس، وعلم - كما أوهمه - أنه رجل غني من أهل الخير يتنكر ويدخل مثل هذه السجون، فيفرج عن التعساء فيها، وللحال أطلق سراحهما مع رجلين آخرين دفع عنهما الرجل العبوس دينهما لما تبينه من حالتهما التي تحمل على الإشفاق، وسار الكاهن والرجل العبوس وقد شيعهما الحاكم إلى الباب بمظاهر الاحترام والإجلال.
22
عندما خرج الكاهن والعبوس من السجن كان الظلام قد انسدل وأضاءت لندرا مصابيحها، وهي لا تنقص عن المليون وتعكس أشعتها على مياه التيمس، وترقصها الرياح وتضطرب فوق الأمواج. ولما بلغا إلى الشارع سأله الرجل العبوس إلى أين يريد الذهاب؟ - إلى كنيسة سانت جيل.
وسارا مسرعين وجعلا يتحادثان على الطريق ما يأتي:
وقال له الرجل العبوس: إني عهدت بالأرلندية صباح اليوم إلى شوكنج، وواعدته على اللقاء غدا لأني لم أكن متوقعا الدخول إلى السجن بهذه السهولة، ولذلك فلا نستطيع أن نقف على أخبار الأرلندية وابنها قبل غد. - كيف نقف على أخبار ابنها؟ - لأني كلفت رجلا فقيرا من جمعيتنا أن يقتفي أثر الرجل النبيل الذي طرق باب بيت فانوش حين كنت فيه وواعدته على اللقاء غدا أيضا كما واعدت شوكنج. - في أي مكان؟ - في محطة شارتج كروس. - إذن لنذهب توا إلى سانت جيل، وقد يكون الأربعة الذين أنتظرهم كتبوا لي شيئا.
وساروا حتى انتهوا إلى منزل فانوش، وهو في طريقهم إلى سانت جيل، ورأى العبوس ذلك البيت مظلما لا أثر للنور فيه، ثم رأى رجلا يمشي على الرصيف فارتعش لمرآه، لأنه كان ذلك الفقير الذي كلفه بمراقبة النبيل، وناداه وقال له: لماذا أنت هنا؟ - لأن الشخص لا يزال في البيت. - أهو فيه منذ الصباح؟ - كلا، بل إنه خرج صباحا وسار بمركبته إلى منزله في الشارع شترستريت. - ماذا يدعى؟ - اللورد بالمير.
ودنا الكاهن عندما سمع هذا الاسم، ورآه الفقير فتوقف عن الكلام إلى أن أمره العبوس بالكلام وقال: إنك أمرتني أن أعرف اسم هذا الرجل ومنزله، وأن أعود بعد ذلك إلى مراقبة البيت، وعدت ووقفت بجواره مراقبا كل النهار ولم يحدث شيء، وبقيت العجوز في البيت، غير أن اللورد عاد إلى البيت منذ ساعة وهو لا يزال فيه.
والتفت العبوس إلى الكاهن وقال له: إني لا أجد بدا من الدخول إلى هذا البيت. - كيف تدخل إليه؟ - لا أعلم، ولكني سأجد طريقة وربما دخلت من باب الحديقة المشرف على الزقاق، غير أنه يجب أن تبقى أنت والفقير في مكانكما. - حسنا سأقف، لكن ماذا يجب أن أعمل. - تتبعان اللورد بالمير إذا خرج من المنزل قبل أن أعود إليكما؟ - سأقف فاذهب أنت في شأنك.
وابتعد الكاهن والفقير ووقفا في منعطف وجعلا يراقبان البيت، وذهب الرجل العبوس إلى الزقاق بغية دخول البيت من باب الحديقة، فما مشى خطوتين إلى الزقاق حتى أحس أن رجلا يتبعه، ووقف فرأى الرجل قد وقف أيضا فتنبه له وقال: سوف نرى من هذا الشخص.
ثم عاد إلى المشي وتبعه الرجل إلى أن مر بباب الحديقة، ورأى نورا ينبعث من نافذة المنزل إلى شجرة كبيرة في الحديقة.
وهناك وقف ورأى الشخص أسرع في خطواته واقترب منه وقال في نفسه: لقد عرفت من أنت وماذا تريد وسوف ترى أني أخبث منك.
ولما كاد يدنو منه مشى العبوس مجتازا باب الحديقة، وجعل يمر بأبواب المنازل فيهزها ويتفقدها كي يعلم إذا كانت محكمة الإقفال، ثم عاد بعد أن تفقد جميع أبواب الزقاق إلى الحديقة.
والعادة في إنكلترا أن البوليس يتفقد المنازل، فإذا رأى باب أحدها مفتوحا طرق الباب ونادى أصحاب البيت كي يقفلوه ، بحيث أيقن الشخص الذي كان يتبع العبوس أنه من رجال البوليس السري.
ولما عاد العبوس بعد تفقد المنازل إلى الحديقة، التقى بالشخص الذي كان يتبعه فقال له الرجل: ألعلك نسيت أيها الزميل أنك متنكر فكيف تتفقد الأبواب؟
فقال له العبوس: إني تعودت هذه العادة بحيث لا أمتنع عنها ولو كنت متنكرا.
فخدع الرجل وكان بوليسا متنكرا بقول العبوس وقال: لقد أصبت فإني أنا متعود هذه العادة أيضا، وقد تفقدت هذه الأبواب قبلك، ولكن ماذا تعمل هنا؟
فغمز العبوس بعينه وقال: وأنت ماذا تعمل؟
وضحك البوليس وقال له: أرى أنك أحد الأربعة الذين طلبهم اللورد اليوم من إدارة البوليس. - هو ذاك. - لا أدري ما يحمل هذا اللورد على مبارحة قصره المنيف والقدوم في الليل إلى أشد الشوارع خطرا، إذ لا يقيم في هذا الشارع غير الأرلنديين، فلو علموا أن عضوا من البرلمان قد جاء شارعهم، فماذا يفعلون؟ - اسكت أيها الرفيق فإن ذلك لا يعنينا، لكن هذا اللورد يقيم في المنزل منذ ساعة؟
وقال البوليس: نعم. - ولذلك بدأت أخاف عليه، ولم يعد بد من الاطمئنان.
وقد ذكر الرجل العبوس أنه حين خرج صباحا من باب الحديقة أقفل الباب وراءه إقفالا بسيطا، ودنا من ذلك الباب ودفعه ففتح، ودهش البوليس وقال له: ماذا تفعل؟ - أريد أن أتفقد اللورد فإني أخشى أن يكون أصيب بمكروه.
ولم يعترضه البوليس لاعتقاده أنه زميل له، ودخل العبوس وأقفل باب الحديقة من الداخل بالمفتاح، فمشى مشيا خفيفا إلى ناحية المنزل واختبأ وراء الشجرة، ونظر إلى النافذة التي كان ينبعث منها النور في غرفة أرضية فرأى المرأة العجوز واللورد بالمير جالسين على مقعد وهما يتحدثان، فنام على الأرض وأخذ يزحف زحفا إلى النافذة كي يسمع ما يقولان.
23
لا بد لنا قبل بيان السبب الذي عاد من أجله اللورد إلى منزل فانوش أن نعود إلى ما حدث في صباح ذلك اليوم حين اضطر الرجل العبوس ورفاقه إلى الهرب من باب الحديقة.
فإن اللورد بالمير حين عاد إليه شوكنج، وأخبره بعنوان المنزل الذي ذهبت إليه الأرلندية، رأى أن يحضر إلى منزل فانوش، ويقول للأرلندية: إنه كان صديقا لزوجها، ويذهب بها وبولدها إلى منزله، وهناك لا يعدم وسيلة لإدراك سؤاله من هذا الغلام الذي قد يكون خطرا قويا على إنكلترا يوما من الأيام.
فذهب إلى المنزل وطرق الباب مرارا فلم تفتح له العجوز إلا بعد أن استفاقت من رعبها، وهرب العبوس ومن كان معه، فاعتذرت إليه لتأخرها عن فتح الباب بحجة أنها كانت في الحديقة.
ثم دخلت به إلى قاعة الجلوس، ورحبت به ترحيبا عظيما لما رأته من ظواهر نبله، فقال لها اللورد: إنك مربية أطفال أليس كذلك؟ - نعم يا سيدي. - ولك شريكة كما قيل لي؟ - نعم، لكنها ليست في لندرا الآن فهي في الضواحي. - لا بأس، ولكنكم أضفتم أمس امرأة وابنها أليس كذلك؟ - فارتعشت العجوز وحسبت أنه زوج مسز إميلي فقالت له: ألعلك يا سيدي السير واترلي؟ - كلا، بل أنا اللورد بالمير.
وعضت العجوز شفتها، ووقفت موقف الحذر فقال لها اللورد: إني أتيت بطلب المرأة والغلام لأنهما من أهلي. - ولكنهما سافرا في هذا الصباح يا حضرة الميلورد. - إلى أين؟ - لا أعلم.
فنظر إليها نظر الفاحص وقال: أأنت صادقة فيما تقولين؟ - نعم يا سيدي الميلورد، ولكن ... - ولكن ماذا؟ - ولكن شريكتي قد تقول لك ما أجهله أنا. - وأين هي شريكتك الآن؟ - في منزلها في ضواحي لندرا، لكنها ستعود في المساء فإذا أحببت أن تراها تجدها في انتظارك.
ورأى اللورد من حديثها واضطرابها أن في الأمر سرا وقال لها: إني أمنحك مائة جنيه إذا كنت تخبرينني في مساء اليوم أين أجد الأرلندية وغلامها ولا سيما الغلام. - إذن أنت تبحث يا حضرة الميلورد عن الغلام بشكل خاص؟ - نعم.
وكانت العجوز كثيرة الطمع، حاقدة على مولاتها، فطمعت بمال اللورد وقالت له: إذن عد في المساء، وإني أعدك بإخبارك عما تريد. فتركها اللورد وذهب. •••
أما العجوز فإنها استرسلت إلى التصورات بعد ذهابه، وجعلت تقول في نفسها: إن فانوش محتاجة إلى الغلام وهؤلاء الثلاثة الذين كادوا يقتلونني محتاجين إليه، ثم إن هذا اللورد النبيل الذي طالما قرأت اسمه في جريدة التيمس محتاج إليه فلماذا لا أغتنم هذه الفرصة وأستفيد من أمواله.
إني إذا كتمت السر ووفيت بعهد فانوش، فإنها ترضى عني وتكافئني عن وفائي بثوب قديم أو حذاء جديد، وهذا منتهى ما يبلغ إليه كرمها، لكن كرم هذا اللورد لا يقف عند حد وعده بل أضمن بماله مستقبلي، ولا أبوح له بالسر إلا بعد أن ينقدني ما أريد، ويبعدني عن لندرا، بحيث أكون أمنت انتقام فانوش.
وعلى ذلك فقد عزمت عزما أكيدا على خيانة فانوش.
أما اللورد بالمير فإنه عاد في الساعة الثامنة مساء، لكنه خشي سوء العاقبة بذهابه منفردا إلى شارع يقيم فيه الأرلنديون، وذهب إلى مدير البوليس وأخبره عن المكان الذاهب إليه، وسأله أن يرسل إلى تلك الجهة أربعة من رجال البوليس السري.
وكانت العجوز قد أنامت البنتين حين قدومه ففتحت له الباب، وذهبت به إلى غرفة أرضية معتزلة في الحديقة كي لا يسمع حديثهما أحد، ثم أقفلت الباب وجلست وإياه على مقعد قرب النافذة وقالت له: إني أعلم يا حضرة اللورد أين هو الغلام، لكني لا أخبرك بموضعه إلا بعد شروط أقترحها فإن حياتي ورزقي معرضان للخطر.
فأجابها ببرود: قولي ما هي شروطك. - أطلب ما يقيني شر العوز إلى آخر العمر. - أيكفيك إيراد مائة جنيه في العام؟ - يكفي، لكن ليس هذا كل ما أطلبه. - ماذا تريدين غير هذا؟ - أريد أن أبرح لندرا كي لا يقف الذين أخونهم على أثري. - أتريدين الذهاب إلى أوروبا؟ - كلا فإني أوثر الإقامة في بريتون. - اذهبي إلى حيث تشائين.
وفيما كانت العجوز تتكلم سمعت حركة في الحديقة فأسرعت منذعرة إلى النافذة كي ترى مصدر هذه الحركة.
24
إن الحركة التي سمعتها العجوز كانت صادرة من الرجل العبوس كما سترى فلقد تركناه يزحف على بطنه حتى وصل إلى تحت النافذة، لكنه لم يكن يسمع حديث اللورد والعجوز.
وكانت النافذة عالية نحو مترين، وفي قربها شجرة ضخمة التصقت أغصانها بجدار الغرفة، ورأى الرجل العبوس في ذلك الجدار مروحة يضعها الإنكليز في معظم الغرف لتجديد الهواء، فارتأى أن يتسلق الشجرة، ويضع أذنه على مروحة الجدار، فانكسر الغصن لثقل جسمه، وخرج لانكساره ذلك الصوت الذي سمعته العجوز.
ولو جرى مثل هذا الحادث لغير الرجل العبوس، كان سقط على الأرض وافتضح أمره، غير أنه لما شعر بانكسار الغصن وثب كالهر إلى غصن آخر وتعلق به، وجعلت العجوز تجيل نظرها في الحديقة دون أن ترفع رأسها إلى الشجرة، فاطمأنت وعادت إلى اللورد وقالت: لا شك أن هذا الصوت خرج من الزقاق، وعند ذلك عاد الرجل العبوس فاختار موقفا صالحا للسمع وسمع ما يأتي:
قال اللورد بالمير: ما بالك لا تزالين مضطربة وإذا كنت أتولى حمايتك فمم تخافين؟
قالت: ذلك لا ريب فيه، غير أني لا أقول شيئا قبل أن أصير في طريق بريتون. - كيف ذاك ألا تقولين لي الليلة أين هو الغلام؟
وأجابته بلهجة كاد ييأس لها اللورد: كلا لا أقول، ومع ذاك فلا خوف على الغلام، ولا بأس أن تراه غدا. - لكنك وعدتيني أن تخبريني بأمره في هذا المساء. - أصغ يا سيدي لاقتراحي فإن خوفي شديد ولا أنثني عن عزمي، أما اقتراحي فهو أن تأتي في الساعة السابعة من صباح غد، فتحضر إلي المال الذي وعدتني به وأذهب معك في مركبتك إلى حيث يقيم الغلام.
ولما رأى اللورد من لهجتها أنه يستحيل إقناعها قال: لا بأس، سأحضر غدا.
ثم وقف يحاول الانصراف، فنزل الرجل العبوس عن الشجرة وهو يقول في نفسه: لقد قضي الأمر وليس اللورد بالمير الذي يأخذ الغلام بل نحن.
ثم خرج من الحديقة إلى الزقاق بينما كانت العجوز منهمكة بتوديع اللورد ورأى البوليس لا يزال في مكانه فقال له البوليس: ماذا جرى؟ - لم يجر شيء فإنه لا يزال في المنزل فابق في مكانك، وسأذهب أنا فأراقب في الشارع.
ثم تركه وانصرف إلى حيث كان الكاهن والفقير، فأسرع إليه الكاهن وقال: ماذا رأيت؟ - لا حاجة الليلة إلى اقتفاء أثر اللورد فإننا سنظفر بالولد غدا في مثل هذه الساعة. - أأنت واثق مما تقول؟ - إني سأقص عليك ما علمت واحكم بعد ذاك.
ثم قص عليه جميع ما سمعه من اللورد والعجوز، وأضاف إلى ذاك قوله: إني واثق كل الثقة ولو كنت أعلم أين شوكنج الآن لذهبت إلى الأرلندية وطمأنتها، لكن لندرا متسعة ولا بد من الصبر إلى الغد. - لنصبر والآن هلموا بنا إلى سانت جيل.
وسار الثلاثة إلى تلك الكنيسة، ففتح الكاهن بابها بمفتاح كان بجيبه ودخل مع رفيقيه.
وكان فيها أمام الهيكل رجل عجوز راكع يصلي، ولما رأى الكاهن نهض منذعرا وأسرع إليه فقال: ألعلك نسيت يا سيدي أن اليوم كان يوم 27 أكتوبر فقد كانت الكنيسة في الصباح غاصة بالمصلين؟ - وا أسفاه إني كنت في السجن للدين الذي تعرفه، فلا تخف هذين الرجلين فإنهما من إخواننا وأخبرني بما جرى. - إن الناس انتظروا حتى سئموا، فتفرقوا وكان بينهم الأربعة الذين تنتظرهم فانصرفوا مع الناس إذ لم أجد سبيلا لحملهم على الانتظار.
فقال الكاهن بلهجة اليأس: وأنا لا أجد سبيلا للاهتداء إليهم، فقد مضى الموعد المعين.
فابتسم الرجل العبوس وقال: أما أنا فسأجدهم. - كيف؟ - بواسطة الجرائد فإنه يوجد في لندرا مائتا جريدة يقرأها ملايين الناس، فلننشر في جميع هذه الجرائد إعلانا واحدا مآله أن كاهن سانت جيل يعلن لطائفته أن الاجتماع الديني الذي كان موعد عقده 27 أكتوبر قد تأجل إلى 3 نوفمبر، فإذا نشر هذا الإعلان في مائتي جريدة فلا بد أن يطلع عليه أولئك الأربعة القادمون من أرلندا وأيكوسيا وأميركا وبلاد الغال. - إن الطريقة مضمونة، ولكن أين نجد المال لنشر هذه الإعلانات؟ - تجده عندي إن لدي كثيرا من الملايين معدة لخدمة أرلندا.
25
ولنعد الآن إلى الأرلندية، إن هذه المنكودة عندما عاد إليها شوكنج فأخبرها أن ابنها غير موجود في منزل فانوش صارت تبكي بكاء مؤلما، وهي توشك أن تجن من يأسها، فأخذ شوكنج يعزيها ويعدها الوعود الجميلة، وهي لا تريد إلا بكاء ويأسا فقال لها: كفاك يا سيدتي بكاء، إن الرجل العبوس لا بد أن يجد ابنك، ويأتي به أينما كان أليس لك ثقة بهذا الرجل الكريم؟ فلم تجبه. فقال: إذا كنت لا تثقين به ألا تثقين بالكاهن صموئيل؟ - ولكنه في السجن. - إنه سيخرج منه اليوم أو غدا دون شك، إن الرجل العبوس وعد بإنقاذه وهو لا يخلف وعدا.
ولبث شوكنج يعزي هذه المنكودة، ويواسيها حتى أذعنت له ورضيت بالذهاب معه إلى غرفة يستأجرها لها، فذهب الاثنان إلى منزل معد للتأجير فاستأجر غرفة للأرلندية وغرفة له وأقام معها طول ذلك النهار.
وكانت قاعدة معه تظهر الجلد، ولكنها لم تكتم في خاطرها قصدا عزمت على فعله وهو أن تغافل شوكنج وتعود إلى بيت فانوش معتقدة أنها لا تعود منه إلا بولدها.
فلما أقبل الليل تظاهرت أنها في حاجة إلى النوم، فودعت شوكنج ودخلت إلى غرفتها.
أما شوكنج فإنه كان طاهر القلب، سليم النية، ولكنه على طهارة ضميره لم يكن يخلو من عيوب لطول عهده بعشرة الأشرار، فكان أخص ما اقتبسه منهم عادة السكر.
فلما نامت الأرلندية ذكر ما في جيبه من المال، وحن إلى الشرب فخرج من المنزل إلى أقرب خمارة منه، وجعل يشرب وهو يعتقد أن الأرلندية قد أضناها التعب فنامت.
غير أنه كان مخطئا في زعمه، إن هذه المنكودة سمعت وقع أقدامه على السلم حين خروجه من المنزل فأطلت من النافذة وراقبته حتى رأته اجتاز الشارع فخرجت من البيت، وسارت إلى الشارع المقيمة فيه فانوش وهي تقول في نفسها: سأكرهها على إرجاع ولدي أين كان.
بينما كانت تسير مسرعة، وهي لا تعي لفرط اضطرابها صدمت رجلا كان قادما من الطريق الذاهبة فيها فصاح الرجل صيحة دهش حين رآها، ونظرت الأرلندية إليه فتذكرت أنها رأته أمس في السفينة.
أما الرجل فقد كان اللورد بالمير وكان في ذلك الحين عائدا من بيت فانوش بعد أن اتفق مع العجوز على ما عرفناه.
وكان شوكنج لم يذكر شيئا للأرلندية عن اللورد بالمير احتفاظا بثقتها فيه ولخجله من ارتكاب خيانة التجسس لا سيما بعد أن عنفه الرجل العبوس على ما فعل، لم تجد الأرلندية ما يحملها على الخوف من هذا اللورد.
أما اللورد فلم يكد يراها حتى صاح صيحة دهشة، وعقبها صيحة فرح وقال: أهذا أنت أيتها العزيزة؟
وكانت الأرلندية قد رأته في السفينة يمتاز على سائر ركابها بمظاهر نبله، ثم رأته الآن وهي في أشد مواقف الضيق، شعرت بعاطفة سرية تدفعها إلى الثقة به، سرت لرؤياه وقالت: أحمد الله لالتقائي بك، إن الله قد أرسلك إلي. - ولكني أراك تبكين؟
قالت بصوت يتهدج: إنهم خطفوا ولدي فرده إلي بالله، إنك قوي قادر.
وكان اللورد لا يعلم أنهم فرقوا بين الأم والولد.
تأبط ذراعها وقال لها: اصعدي معي إلى هذه المركبة، إني عضو من أعضاء مجلس اللوردية وسأرد لك ولدك بما لي من النفوذ.
امتثلت المنكودة وصعدت إلى المركبة، وقد أشرق في قلبها نور الرجاء، وسارت المركبة إلى منزل اللورد.
أما شوكنج، كان في ذلك الحين آمنا مطمئنا، يشرب القدح تلو القدح.
وكانت هذه المنكودة لم تر منذ وصولها إلى لندرا غير الأشقياء والبؤساء ورجال الشر، سرها أن أرسلت لها الأقدار معينا قويا من أعظم رجال المملكة سلطة ونفوذا وثقة به، إن جميع الذين عرفتهم وعدوها بإرجاع ولدها فما وجدت بينهم من صدق في وعده، وقد وعدها هذا اللورد النبيل مثل وعدهم، فكان أولى منهم بثقتها وأدعى إلى رجائها، وفوق ذلك أن اللورد كان يكلمها بأرق الألفاظ.
ولما عرفها بنفسه وملأ قلبها رجاء قال لها: بقي أن تعلمي أيتها العزيزة أني لم ألتق بك اتفاقا، إني أبحث عنك منذ أمس في هذه العاصمة المتسعة الأرجاء.
فدهشت وقالت: أنت تبحث عني ولماذا؟ - لأن هذا الولد العزيز الذين تبكين لفراقه أذكرني رجلا عرفته في عهد شبابي، وهو من خير الأصدقاء. ثم تنهد وقال بلهجة بدا فيها التأثر: وإن هذا الصديق قد مات وا أسفاه لأشرف الغايات.
فارتعشت الأرلندية وذكرت زوجها اللورد.
أما اللورد فإنه مضى في حديثه وقال: إن هذا الحبيب أدمون قد مات في سبيل أرلندا العزيزة، ألا يمكن أن يكون هذا الرجل والد ابنك؟
واضطربت تلك الأم اضطرابا عظيما وقالت: أتدعو هذا الرجل الذي مات مجاهدا عن أرلندا أدمون وتقول إنك تحبه؟
فتظاهر اللورد بالبكاء وقال: كيف لا أحبه وهو أخي؟
وقالت الأرلندية: وأنا كيف لا أبكيه وهو زوجي، وكيف لا أثق بعد الآن بإرجاع ولدي وهو ابن أخيك؟
فعانقها اللورد عناقا طويلا، وقال: لقد عرفت ذاك من عيني الغلام فلا تبكي بعد الآن أيتها الحبيبة فإن ولدك ولدي ودمه دمي وهو عندي.
وأوشكت المسكينة أن تجن من فرحها، وقالت كيف ذلك ألعلك وجدته وكيف تقول أنه عندك؟ - نعم إنه مقيم في قصر من قصوري، يبعد ثلاثين مرحلة عن أرلندا، وأنا مخبرك بكل أمر فإن امرأة مهنتها سرقة الأطفال خدعتك ودعتك إلى منزلها، ففرقت بينك وبين ولدك أليس كذلك؟ - نعم فقد سقتني شرابا مخدرا فضاع رشادي. - ثم ألقوك في الطريق. - نعم ولما استفقت وجدت نفسي في مكان مجهول. - أتمي حديثك يا ابنتي.
وقد دفعها إلى الكلام كي يقف على حقيقة أمرها ويؤلف حيلة لخديعتها.
وحكت له كل ما جرى لها بالتفصيل، وكيف اهتم الكاهن والرجل العبوس بأمرها.
وعلم اللورد أن اللذين اختطفوا ولدها لا يريدون به غير المتاجرة، وندم على ما وعد به العجوز إذ كان يعتقد أنها تخون أرلندا بإرشاده إلى الغلام.
وعند ذاك وقفت المركبة أمام باب قصره، فنزل وأنزل الأرلندية فبهتت لما رأته من ظواهر العظمة والجلال، ودخل بها اللورد إلى ذاك القصر المنيف وقال لها: هنا ولد زوجك أخي. ثم مشى بها من قاعة إلى أخرى حتى أدخلها إلى قاعة الاجتماع الكبرى، فجلس وجلست بجانبه وهي منذهلة لما تراه من البذخ والثروة. ثم قرع الجرس فأسرع الخادم إلى إجابته.
فقال: اصعد إلى غرفة مسز ألن وقل لها إن أباك ينتظرك في القاعة الكبرى، وإنه وجد الذي كان يبحث عنه.
فانحنى الخادم وانصرف.
وبعد هنيهة، فتح الباب ودخلت منه صبية تدهش الأبصار بجمالها، وفخامة ملابسها، فخجلت الأرلندية من نفسها لفقر ملابسها، ودنت منها الصبية وحيتها.
وقال لها أبوها: عانقيها يا ابنتي فإنها أرملة الحبيب أدمون. •••
أما شوكنج فإنه أقام في الخمارة إلى منتصف الليل، فتعشى وعاد إلى غرفته فنام إلى الصباح، وانتظر الأرلندية مدة طويلة فلم تخرج من غرفتها، وقام إلى تلك الغرفة وطرق بابها فلم تجب، فقلق ونظر إلى الباب ورأى المفتاح فيه فأداره وفتح الباب ووجد الغرفة خالية، والنافذة مفتوحة، والفراش على ما كان عليه من انتظام أول الليل.
ونادى عند ذاك صاحبة المنزل، وسألها عن الأرلندية فقالت إنها لم ترها.
وكان في ذلك البيت امرأة من ساكنيه فقالت إنها رأت الأرلندية خارجة من البيت في أول الليل.
فأظلم النور في عيني شوكنج، وأشرف على اليأس وخرج من البيت لا يعي وأخذ يطوف في الشوارع والأزقة المجاورة سائلا عن الأرلندية ذاكرا أوصافها فلم يرشده أحد إليها.
وقال في نفسه: لقد فقدت كما فقد الغلام، ولولا إدماني الشراب لما أصبت بهذه النكبة، فويح لنفسي ماذا أقول للكاهن صموئيل، وماذا أقول للرجل العبوس؟
وقد ذكر عند ذاك موعده مع العبوس في محطة كروس فقال: لأذهب إليه فإن هذا الرجل قادر على كل شيء، فهو يجد الغلام وأمه وقد أخطأت ولا بد لي من إخباره بما حدث.
وذهب إلى المحطة فوجد الرجل العبوس بانتظاره، ورأى معه الكاهن صموئيل، فعظم العبوس في عينيه، إذ وفى بما وعد به من إنقاذ الكاهن، لكنه كان مضطرب الوجه متلعثم اللسان، ولم يعلم منه العبوس خبر اختفاء الأرلندية إلا بعد الجهد، ولما أتم حكايته قال له: ألم تهتد إلى المكان الذي يمكن أن تكون فيه.
فقال شوكنج: لو كنت أعلم ذاك المكان لكنت ذهبت إليه.
فهز الرجل العبوس رأسه وقال: ألا تذكر أنك أوقفت اللورد بالمير على أثرها فمن من الناس غيره يهتم بشأنها؟
فقال الكاهن: أتظن أن اللورد اختطفها؟ - لا أقول ذاك على سبيل الظن بل إن لي ملء الثقة، وإذا كانت الأرلندية قد اختطفت فهي دون شك عند اللورد بالمير.
ولما سمع شوكنج كلامه هم بالذهاب.
فقال له العبوس: إلى أين؟ - إلى بيت اللورد . - كلا لم يحن الوقت ، إذ يجب أن نجد الابن قبل الأم. - متى نجده؟ - في هذا المساء ونحن في حاجة إليك فهلموا بنا لأن الوقت فسيح لدينا.
26
كان اللورد بالمير يتحدث مع ابنته في الساعة السابعة من المساء.
وكانت ابنته مسز ألن من الفتيات اللواتي إذا شبهت بالثمرة، فقد يقال فيها إنها نضجت قبل أوان النضج، فإنها على غضاضة شبابها، وما يدعو إليه سنها من الاندفاع في تيار الصبا.
كانت تتشاغل عن ملاهي النساء على فرط جمالها بأحاديث السياسة وآراء العلماء. ولم يفتها شيء من دقائق تاريخ بلادها، وأسرار الثورة الأرلندية، وكانت تشبه أباها بكره أرلندا، وهي مهد أسرتها وأم آبائها، وتكره كل ممالئ لها على الإنكليز، بحيث كانت أعظم نصير لأبيها في تلك الأغراض.
وكان أبوها في تلك الساعة يحدثها عن الأرلندية وابنها، فبدأت بمعارضته قائلة: إني لم أدرك قصدك إلى الآن. - لكنه بسيط فإني أريد الاستيلاء على الغلام، وحرمان الأرلنديين منه إذ قد يتولى زعامتهم متى ترعرع وبلغ رشده. - إن القصد حسن، لكن. - لقد فهمت ما تريدين فإنك تنكرين علي تربية الغلام الذي لطخ أبوه اسم عائلتنا بموته شنقا. - هو ذاك.
فابتسم وقال: أصغ إلي يا ابنتي فإني بت واثقا الآن أن الغلام لم يسرقه الأرلنديون ليجعلوه رئيسا لهم، بل اختطفته امرأة لتبيعه من عائلة تتبناه، وهنا لا بد لك أن تعجبي كيف أني أسعى إلى إنقاذه وحقي أن أدعه وشأنه بين أولئك السارقين، لكن أصغي إلي إصغاء تاما تعلمي قصدي.
إني أريد الاستيلاء على الأم وابنها وإرسالهما إلى قصرنا، في ضواحي فلاسك، فأملق الولد كل تمليق، وأوهم الأم أني أرلندي المشرب، وأني عامل على استقلال أرلندا بالسر، ثم أعين للغلام كثيرا من الخدم والمرشدين يربونه على ما أريد. - ولكن أمه تربيه على ما تريد وتدربه على حب أرلندا؟
فابتسم اللورد ابتسام الأبالسة وقال: إن الأم قد تموت فإن المرء معرض للموت كل حين.
فقد تسقط من شاهق فتقتل، أو تشرب ماء باردا إثر تعب فتموت، أو تأكل أكلة تتخمها، وأكثر موت الناس بالتخم، فلنفرض أن الأم ماتت عن ولدها وهو في الثانية عشرة من عمره، فإذا ربيناه على حب الإنكليز، لا يبلغ سن الشباب حتى ينسى أرلندا والأرلنديين، وإذا كان إنكليزيا صادقا، فإنه يخلفني في مجلس اللوردية بعد موتي.
واندهشت الصبية وقالت: ماذا أسمع يا أبي إني لا أفهم ما تقول. - إني أريد أن أجعل هذا الغلام زوجا لك يا ألن.
فامتعض وجه الفتاة وظهر النفور والكبرياء بين عينيها قائلة: أنا أتزوج هذا الشريد الطريد المتسول؟ - لا تنسي يا ابنتي أن أباه أخي وفوق ذاك فإني لم أقل لك كل ما في نفسي بعد ومتى علمت كل قصدي هان الأمر عليك. - إني مصغية إليك. - أول ما أبدأ به أني في عرف الناس من أغنى الأغنياء، لكني في الحقيقة أوشك أن أكون فقيرا فقد خسرت ثلاثة أرباع ثروتي في تلك الهوة التي يدعونها البورصة، وأصل ثروتنا أن أبي حين تخلى عن أرلندا، وهو يومئذ رئيسها وحالف الإنكليز كافأته الحكومة أعظم مكافأة فمنحته معظم أراضي العصاة التي ضبطتها بحيث بات جدك أعظم غني في بلاد الإنكليز.
ولم يكن يخطر له في بال أن أخي أدمون سيخون الإنكليز ويعود إلى أرلندا، فقسم تلك الثروة العظيمة بيني وبينه قبيل وفاته بإذن خاص من البرلمان، فإن حق الإرث في الأسرات النبيلة للبكر كما تعلمين، فبت كثير الغنى ولكني لم أنل غير نصف ثروة أبي. - وماذا جرى للنصف الآخر؟ - ضبطته الحكومة حين شذ أخي عن طاعتها، وذهب إلى أرلندا وتولى زعامة الثائرين، لهذا أردت أن أربيه على حب الإنكليز، فإذا اشتهر أمره تمكنت من حمل الحكومة على إرجاع مال أبيه إليه، وإذا تزوجت به تزوجت رجلا غنيا تحفظين به مقام أسرتك ونفوذها فهل تجدين نفورا منه بعد الآن؟ - كلا يا أبي، ولكن كم عمر هذا الغلام؟ - عشرة أعوام. - وأنا لي من العمر ستة عشر عاما. - وماذا عليك إذا كان أحدث منك فإن الزواج أصبح في هذه الأيام زواج غايات، فإذا تزوجته تزوجت ثروته، وهذا كل ما يطلب منك فعله. - لقد رضيت والآن أتعلم أين هو الغلام؟ - كلا فإن المرأة العجوز سترشدني إليه، وقد حان الموعد ولا بد من الذهاب الآن. - أتذهب وحدك، ألا تخاف مكيدة في شارع لا يسكنه غير الأرلنديين؟ - لقد حذرت قبل أن تحذريني فطلبت إلى رئيس البوليس أن يرسل إلى ذاك الشارع أربعة متنكرين من رجاله يعرفونني فلا خوف علي وهم يخفرونني، والآن إني ذاهب في مركبة للأجرة فاعتني بالأرلندية وابذلي الجهد في حملها على الثقة بنا. - لم يبق لنا حاجة بذلك فقد باتت ثقتها بنا لا حد لها بعد أن أريتها صورة زوجها أدمون.
وقبل اللورد جبين ابنته وانصرف.
وبعد خمس دقائق كان اللورد في الشارع، فرأى مركبة واقفة معدة للأجرة فصعد إليها وأمر السائق أن يسير إلى ديدلي ستريت، وانطلقت المركبة ودفعها السائق فجعلت تنهب الأرض نهبا، لا جرم فإن شوكنج كان فيما مضى من عهده من سائقي المركبات الماهرين.
وذهبت المركبة فمرت بشارع دبر وستمنستر فشارع البرلمان إلى أن مرت بشارع الأميرالية، فأوقف اللورد المركبة وأطل من نافذتها فرأى رجلين واقفين فأسرعا إلى المركبة.
فقال له أحدهما: نحن الذين تنتظرنا يا حضرة الميلورد.
وفتح لهما باب المركبة قائلا: إذن اصعدا.
فصعد الرجلان وجلسا أمامه، ودفع السائق المركبة إلى حيث أمره اللورد أي إلى بيت فانوش.
ولما وقفت عند بابه خرج اللورد وطرق الباب، فأسرعت إليه العجوز إذ كانت في انتظاره.
وقالت: لقد خفت في البدء أن لا تعود، ثم تعلمت حينا بهذا الرجاء، وتمنيت أن لا تعود لشدة خوفي. - مما تخافين؟ - من أولئك الذين سأخونهم فإنهم إذا عثروا بي قتلوني لا محالة.
فأخرج اللورد محفظته من جيبه، وقال لها ببرود: لقد أحضرت لك المال الذي طلبتيه، وتذكرة السفر في القطار الذي يبرح لندرا إلى بريتون عند منتصف الليل.
فمدت العجوز يدها بلهف لتقبض المال، غير أن اللورد أرجع المحفظة إلى جيبه وقال لها: لا أعطيك شيئا إلا بعد أن أرى الغلام فأوصلك بنفسي إلى المحطة.
فظهرت علائم الريب على العجوز، وقالت: من يضمن لي أنك لا تخدعني؟ - يضمنه اسمي فإني أدعى اللورد بالمير. - لقد وثقت بك، لكن ماذا عزمت أن تصنع بالغلام؟ - أريد أن أرده إلى أمه.
فاضطربت العجوز اضطرابا شديدا لاعتقادها أن الأرلندية في قعر التيمس، وقالت: أين هي أمه؟ - إنها عندي وقد وصلت إلي بعد أن نجت من الموت بشكل عجيب، أرأيت كيف أني عالم بكثير من الأسرار، فلا تضيعي الوقت عبثا، واعلمي أني أحضرت معي بوليسين سيذهبان معنا، فإما أن تهديني إلى الغلام فأدفع لك المال وأوصلك إلى المحطة، وإما تمتنعي فأسلمك إلى البوليسين.
فهلع قلب العجوز وقالت: إني أقسم لك يا سيدي أني أرشدك إلى موضع الغلام. - إذن هلمي بنا.
فخرجت من المنزل، ودخلت مع اللورد إلى المركبة، ورأت فيها رجلين كما قال، غير أنها لم تتبينهما، لأن مركبات لندرا لا مصابيح فيها، فسألها اللورد: إلى أين ترغب الذهاب. - إلى همبستماد في شارع ماتمونت نمرة 18. - أنجد الغلام هناك؟ - دون شك.
فأمر اللورد السائق أن يسير إلى الجهة التي عينتها العجوز فامتثل السائق وهو شوكنج كما عرف القراء.
وبعد ساعة وصلوا إلى المكان المعين فرأوا منزلا صغيرا تحيط به حديقة متسعة، فأمر اللورد العجوز أن تخرج من المركبة كي ترشدهم فذعرت وقالت: أسألك بالله أن تبقيني في المركبة فإنهم يقتلونني دون شك إذا رأوني. - إذن ابقي فيها فإن المال معي، ولا أخالك تهربين دونه.
ثم خرج من المركبة وخرج في أثره الشخصان المتنكران، فدنا من الباب وحاول أن يقرعه.
غير أن أحد الشخصين حال دونه وقال له: لا يجب أن ننبه أهل البيت بطرق الباب. - ولكن كيف ندخل إليه؟ - لقد تحسبت لكل شيء.
ثم أخرج من جيبه حلقة ضخمة فيها كثير من المفاتيح المختلفة الأشكال، وأخذ يعالج الباب بتلك المفاتيح، حتى فتحه وقال للورد: تفضل يا سيدي بالدخول.
فدخل اللورد آمنا مطمئنا، ودخلا في أثره وأقفلا الباب ثم انقضا عليه فجأة وألقياه إلى الأرض وقيداه ووضعا في فمه كمامة، وعلى عينيه عصابة وألقياه عند جذع الشجرة.
وعند ذاك قال أحدهما لرفيقه: هلم بنا الآن لنبحث عن الغلام.
وكان هذا الرجل المتنكر العبوس كما كان سائق المركبة شوكنج.
27
ولنعد الآن إلى حيث تركنا الغلام مع خادمة فانوش، فإن تلك الخادمة انهالت عليه بالسوط، وضربته ضربا مؤلما فجعل يصيح وهو كلما صاح زادته ضربا.
وعند ذاك فتح الباب فجأة، ودخلت منه فانوش وكانت الخادمة لا تزال تضربه فصاحت بها فانوش صيحة قوية، وهجمت عليها وانتزعت السوط من يدها، وطردتها من الغرفة فخرجت الخادمة دون أن تفوه بكلمة.
وعادت فانوش إلى الغلام، وضمته إلى صدرها، وجعلت تقبله وتسترضيه فنفر منها وقال لها: أين أمي؟
فقالت له بلطف: إن أمك يا بني قد سافرت إلى حين وعهدت إلي بالاعتناء بك.
فنظر إليها نظرة رجل فاحص كأنه يريد أن يخترق خفايا قلبها وقال: إنك تخدعينني. - وأي غرض لي بخداعك يا بني وأنت ترى عطفي عليك، أما أمك فقد سافرت حقيقة لكنها ستعود؟ - متى تعود؟ - غدا. - إنك تخدعينني أيضا، وأنا أريد الذهاب من هذا المنزل. - إلى أين تذهب يا بني؟ - إلى اللحاق بأمي. - ولكن هذا مستحيل، فإن أمك سافرت.
وضرب الأرض بقدمه وقال: إني أريد أن أخرج من هذا البيت. ثم مشى إلى الباب.
واعترضته فانوش وقالت له بلطف: قلت لك يا بني إن أمك مسافرة، فإذا أردت أن نعاملك معاملة اللين واللطف، وجب عليك أن تكون هادئا مطواعا لنا وإلا ... - اضربيني كما تشائين، لكني دعيني أخرج من هنا.
فأجفلت فانوش لما رأته من عناد الغلام، ونادت الخادمة فأقبلت وبيدها السوط، فقالت لها: أدخلي هذا المتمرد إلى مضجعه.
ثم خرجت وتركته مع الخادمة، فأخذت الخادمة يده وجرته بعنف، فكان يصيح وهي تضربه ويستغيث بأمه باكيا، حتى لم يعد يستطيع صبرا على الضرب، فكف عن المقاومة والاستغاثة ودخل إلى مضجعه، فجلست الخادمة بقربه تتهدده بالسوط إلى أن دب النعاس إلى جفنيه فنام.
ولما صحا رأى أشعة الشمس قد ملأت غرفته، وأجال في تلك الغرفة نظرا حائرا، ورأى أنه وحيد فيها وعاد إلى مناداة أمه.
ففتح الباب ودخلت فانوش وهي تبتسم، وحاولت أن تقبله فدفعها عنه وقال: أريد أن أرى أمي. - إنها ستعود غدا.
وتظاهر الغلام بتصديقها، وكف عن البكاء والسؤال.
فجعلت فانوش تملقه وتلاطفه وتعده بقرب عودة أمه، ثم أذنت له أن يلعب في الحديقة.
ونزل إليها وأقام فيها نحو ساعتين يتسلق من شجرة إلى أخرى حتى مل اللعب، وعاد إلى البيت وقد علم أنه غير البيت الذي كان فيه مع أمه وقال في نفسه: لا بد لي من الهرب منه والذهاب إلى البيت الذي تقيم فيه أمي إذ أجدها دون شك.
وقد تجسم هذا الخاطر في فكره، فلم يعد يفتكر إلا بالفرار، لكن فانوش كانت كل النهار معه، فصبر صبر الرجال بعد أن قرر خطة الفرار، وتظاهر أمامها بملء الطاعة والانقياد، فباتت واثقة من إدراك قصدها منه.
وبعد العشاء قالت له: لقد حان وقت الرقاد فهلم إلى غرفتك.
ولم يعترضها ودخل معها طائعا ساكتا، فخلعت عنه ملابسه وأرقدته في مضجعه، ثم أقفلت الباب وخرجت إلى غرفة أخرى، وأقامت مع خادمتها تتحدثان.
أما رالف فإنه صبر ساعة، ثم قام فلبس ملابسه جميعها دون الحذاء، وعول على الفرار واثقا من إدراك أمه إذ لم يكن يعلم شيئا من اتساع لندرا، وهو يحسبها لحداثته كالقرية التي ولد فيها.
ولما أتم ملابسه فتح النافذة المطلة على الحديقة، وهناك شجرة كبيرة تتصل أغصانها بالنافذة تتدلى منها إلى الحديقة دون أن يسمع له حس.
وبينما كان الغلام قد وثب إلى الحديقة، كانت المرأتان تتحدثان، وكانت الخادمة تلوم فانوش لإخبارها العجوز بأنها أتت بالغلام إلى هذا المنزل، وكانت فانوش تخطئها لعدم الثقة بالعجوز، إذ لا يوجد ما يحملها على الخيانة.
وفيما هما تتحدثان سمعتا حركة فقالت فانوش: ما هذه الحركة التي أسمعها ألعلها صادرة من غرفة الغلام؟ - كلا، بل يخال لي أنها من الحديقة، وإني أسمع وقع خطوات. - وكيف يكون ذلك وباب الحديقة محكم الإقفال؟ - لا أعلم.
ثم أصغت قليلا وتابعت: إني أسمع وقع خطوات، وإن الخطوات تقترب .
واصفر وجه فانوش لأنها سمعت أيضا صرير مفتاح في قفل باب المنزل، ثم وقفت موقف الحذر وقالت: الويل لهم إذا كانوا لصوصا فإني لا أخافهم.
لكنها لم تكد تتم كلامها حتى فتح باب الغرفة، ودخل منه رجلان وهما الرجل العبوس والفقير.
وكان بيد العبوس مسدس فصوبه على فانوش وقال لها ببرود: لا حاجة إلى الصياح يا سيدتي فما نحن من اللصوص، لكني أريد أن أحادثك، ويجب أن تصغي إلي.
فذعرت فانوش وراعتها نظرات هذا الرجل الساحرة، فلم تقو على النظر إليه وطأطأت رأسها ثم قالت: من أنت وماذا تريد؟ - أتعرفين اللورد بالمير يا سيدتي؟
فاطمأنت فانوش لسماعها اسم رجل من أعضاء البرلمان وقالت: كلا. - إن هذا اللورد يبحث الآن عن ابن أخيه. - إني لا أفهم ما تقول. - لكنك ستفهمين، فإنك تقيمين في الشارع الأرلندي، ومهنتك تربية الأطفال ولك شريكة عجوز وهي التي أرشدت اللورد إلى منزلك هذا، وباعته أسرارك بمبلغ جزيل.
فقالت لها الخادمة: أرأيت كيف صدق ظني لحذري من هذه الخائنة؟
وعاد الرجل العبوس إلى محادثتها فقال لها: لكن هذه العجوز لم تقبض المال بعد لحسن الحظ؛ فأعطينا الغلام وخذي أنت المال.
وظهرت على فانوش علائم الفرج، ونظرت إلى غرفة الغلام كأنها تستوثق من إقفال بابها.
وباغت الرجل العبوس هذه النظرة وقال: لقد عثرنا به هذه المرة.
ثم وثب إلى باب الغرفة وفتحه، ولكنه ما لبث أن دخل حتى وقف على عتبة الباب حائرا مبهوتا؛ لأنه لم ير الغلام ولكنه رأى سريرا صغيرا عليه أثر الغلام، فدنا منه ووضع يده عليه فوجده لا يزال حارا.
ونظر إلى النوافذ فرأى إحداها مفتوحة، وهي التي تطل على الحديقة فأطل منها، فلم ير أحدا.
وعند ذلك دخلت المرأتان وصاحتا صيحة دهش صادقة لم يشكك الرجل العبوس بعدها أن الغلام قد هرب من النافذة دون أن تعلما، فتسلق الشجرة ونزل إلى الحديقة كما نزل الغلام وبحث في جميع ضواحيها وأطرافها، فلم يجد له أثر إلى أن وصل إلى شجرة تصل أغصانها إلى أعلى الجدار، ورأى غصنا منكسرا ساقطا منها، وعلم من الكسر أنه حديث فأيقن أن الغلام قد تسلق هذه الشجرة إلى سور الحديقة، ووثب منه إلى الشارع.
وكان الفقير قد أدركه إلى الحديقة، وكذلك شوكنج فقال لهما الرجل العبوس: إن الغلام لم يهرب إلا من زمن قريب، ولا بد أن نجده في همبستاد فهلموا نبحث عنه.
ثم خرج الثلاثة باحثين عن الغلام، وقد ترك العجوز في المركبة وهي توشك أن تجن من الخوف واللورد بالمير مقيدا مكموما مبرقعا ملقى في الحديقة على الأرض.
28
ولنعد الآن إلى مس ألن ابنة هذا اللورد، فإنها كانت تنتظر عودة أبيها وقد جلست مع الأرلندية تلاطفها وتعدها أجمل الوعود، وتمنيها بمستقبل ابنها التماسا لثقتها بها وبأبيها.
غير أن الأرلندية كانت في غنى عن هذه الوعود، فإن ثقتها باتت قوية باللورد حين رأت في قصره صورة زوجها، وهو في العشرين من عمره، ولم يخطر لها أن اللورد يحقد عليه؛ لأنه لم يخبرها بشيء من ماضيه.
وبقيت مس ألن معها إلى منتصف الليل، وهما في غرفتين متجاورتين، ثم استأذنت منها وسألتها أن تستريح بالنوم قائلة إن اللورد لا يعود بابنها قبل الصباح؛ لأن القصر الذي وضعه فيه بعيد، فاطمأنت الأرلندية وذهبت مس ألن إلى غرفتها.
وقد استبطأت أباها وباتت عرضة للهواجس والأفكار، ففتحت نافذة غرفتها وأشرفت منها على حديقة القصر الغناء تستنشق النسيم العليل، وتفرج كربة السأم بمناظر الأشجار.
ثم ملت هذه المناظر فجلست قرب مكتبتها، وأخذت كتابا فجعلت تقرأ فيه وهي مولية ظهرها للنافذة المفتوحة.
وفيما هي تقرأ وتشاغل نفسها بالمطالعة، عن غياب أبيها سمعت صوت حركة في الغرفة، فالتفتت ورأت رجلا واقفا وراءها مشهرا بيده خنجرا، وهو ينظر إليها بعينين براقتين فعلتا في نفسها فعل الكهرباء بالجسم، وعقد لسانها عن الصياح.
أما الرجل العبوس فإنه دنا منها وقال: احذري أن تستغيثي إذا كنت تؤثرين السلامة.
وتراجعت منذعرة وعيناها شاخصتان إلى هذا الرجل الذي تجاسر على إنذارها بالقتل، وهي لم تره مرة من قبل.
على أن هذا الرجل كان جميل الملابس تدل هيئته على أنه من الأشراف، وكان أعجب ما فيه عينيه، فقد كان لهما سلطة غريبة على القلوب تغض لهما الأبصار.
وكأنما مس ألن قد اطمأنت قليلا لهيئته، فحلت عقدة لسانها وقالت له: من أنت وماذا تريد وكيف دخلت إلى هنا؟ - إني أسألك العفو مرارا يا مس ألن فقد أكرهت على الدخول إلى غرفتك من النافذة، إذ لا يجب أن يراني أحد.
وكان يقول لها هذا الاعتذار بلهجة لطيفة، أثرت في فؤادها أكثر من تأثير عينيه، وخافت تلك النظرات أكثر مما خافت من الخنجر.
فعادت إلى سؤاله عما يريد وقد استندت إلى الجدار حذرا من السقوط لفرط اضطرابها.
فقال لها: إني آت يا سيدتي لأكلمك باسم أبيك.
فدهشت الفتاة وقالت: باسم أبي؟
ثم جعلت تنظر إليه نظرات الدهش فأخرج خاتما من إصبعه، وأعطاها إياه وقال لها: أتعرفين هذا الخاتم؟
فنظرت الفتاة إلى الخاتم وقالت: نعم، إنه خاتم أبي فهل هو أعطاك إياه؟
فابتسم الرجل وقال: نعم ولا يا سيدتي أي إن الخاتم برهان على أن أباك في قبضة يدي، وأن حياته متعلقة بحياتي.
فذعرت الفتاة وقالت: ولكن من أنت أيها الرجل؟ - إن اسمي لا يفيدك شيئا، يا سيدتي، فإنهم يدعونني «الرجل العبوس».
ثم دنا منها أيضا وقال: يوجد عندكم يا سيدتي، امرأة تدعى حنة الأرلندية.
فعاد إلى الفتاة بعض ثباتها وعنفوانها فقالت له: ماذا يهمك شأنها؟
فقال لها العبوس بملء السكينة. إنك تسأليني يا سيدتي سؤالا يحق لك سؤاله ولذلك أجيبك عنه فأقول: إن اللورد بالمير أباك كان منذ يومين في سفينة يجتاز النهر فلقي هذه المرأة مع غلامها، وعلم من ملامح الغلام أنه ابن أخيه السير أدمون بالمير.
وحاولت الفتاة أن تصيح صيحة دهش، غير أن نظرات هذا الشخص ضغطت عليها فسكتت.
وعاد إلى الحديث فقال: إن اللورد بالمير قد اختطف هذه المرأة، وجاء بها إلى منزله وعول على اختطاف الغلام أيضا لفرط اهتمامه بهما، ولما كنت أنا أيضا أهتم بهذه المرأة وغلامها فقد خاطرت بالدخول إلى غرفتك، وتسلقت سور الحديقة ثم تسلقت الأشجار إلى النافذة، بحيث لو رآني البوليس أو خدم القصر لقضيت بقية أيامي في أعماق السجون.
فزادت دهشة مس ألن وجعلت تنظر إلى هذا الرجل نظرة الفاحص، فتراه على أحسن حال ثم تراه يكلمها بملء السكينة كأنما قد جاءها بعد موعد، ولكنها كانت مصغية إليه فلم تجبه.
ومضى العبوس في حديثه فقال: إني فعلت أعظم مما رأيت مني إني قبضت على نبيل من مجلس اللوردية، فقيدته ووضعت في فمه كمامة. فاحذري من أن تفوهي بحرف، فإني إذا لم أخرج من هنا حرا سالما فإنك لا ترين هذا اللورد المقيد إلى الأبد، وهو أبوك لأن حياته موقوفة على حياتي.
ثم قال: وهي تنظر إليه نظرات ممزوجة بين الرعب والإعجاب: إن الأرلندية في هذا المنزل، وأنا أريد أن أراها.
وقد قال هذا القول بلهجة سيادة هاجت كبرياء الفتاة فقالت: لم يقل أحد لي كلمة أريد قبل الآن. - وأنا أعتذر إذا كنت أول من قالها لك، وقد ألجأتني الضرورة فلا تضيعي الوقت لأن حياة أبيك في خطر، وقد يحدث عن امتناعك ...
فقاطعته الفتاة وقالت: ما يضمن لي صحة ما تقول؟ - يضمنه خاتم أبيك الذي أريتك إياه.
فعضت شفتها ولم تجب. فقال لها: إذن، أرجوك أن تذهبي بي إلى غرفة الأرلندية.
وكانت نظراته لا تزال ضاغطة عليها، تفعل فيها فعل السحر. وفوق ذلك فقد أيقنت أن أباها معرض للخطر. ففتحت باب غرفتها ودلته على غرفة الأرلندية المجاورة لغرفتها، فقال لها قبل أن يخرج: لي كلمة أيضا يا سيدتي. - قل. - لقد قلت لك إن أباك في خطر، إلا إذا خرجت من منزلك حرا سالما. واحذري أن تنادي خدمك لأني إذا لم أعد إلى عصابتي عند الفجر، يصبح اللورد بالمير جثة لا حراك فيها.
ونظرت إليه نظرة هائلة دلت على ما في فؤادها من الحقد وقالت: سأعمل ما تريد لكنك إذا سلمت اليوم لا تسلم غدا. - قد تدركون ما تريدون مني في الغد. أما اليوم إن السيادة لي.
ثم فتح باب غرفة الأرلندية ودخل. فسقطت تلك الفتاة المتكبرة على كرسي وقد وهت قواها. ثم غطت عينيها بيديها كأنها تخاف أن تصيبها نظرات ذلك الشخص.
وكانت الأرلندية لا تزال ساهرة تصلي، وهي تنتظر عودة اللورد بابنها. وقد كان الحديث بين الرجل العبوس والفتاة بصوت منخفض، فلم تسمع شيئا منه. ثم إنها لم تشعر بدخول الرجل إليها لانصرافها إلى الصلاة حتى دنا منها ووضع يده على كتفها فالتفتت إليه منذهلة. فأسرع إلى إسكاتها بإشارة وقال لها: أستحلفك باسم ولدك أن تصغي إلي، وأن لا تصيحي أدنى صيحة تنبه إلينا الخدم.
وعرفته الأرلندية بالرغم من تغيير زيه، وذكرت أنه أنقذها من يد البحار فقالت له باطمئنان: ماذا تريد مني؟ - إني آت لأكلمك باسم زوجك الميت وابنك الحي.
فارتعشت تلك الأم لاسم ولدها وقالت: إنهم سيردونه إلي. - وأنا آت يا سيدتي لأكلمك أيضا باسم أرلندا التي تحاولين خيانتها دون أن تعلمي ما تفعلين، بل أنا آت باسم هذا الكاهن الذي جئت بولدك من أرلندا لتقدميه إليه.
ونظرت إليه منذهلة وهي لا تعلم ما يريد فقال: أنت يا امرأة السير أدمون أتعلمين أين أنت الآن؟ - إني في منزل أخو زوجي، وحامي ولدي. - بل أنت في قبضة قاتل زوجك، ومضطهد ولدك، بل أنت في منزل ذلك الخائن الذي دمر أرلندا وقتل منقذيها. - إنك كاذب دون شك.
فوضع يده فوق صدره وقال: إني أقسم لك باسم ولدك الذي لا يرده إليك سواي إني لا أقول غير الحق. - ماذا تقول عن ولدي؟ إن اللورد بالمير سيأتيني به، قبل أن يطلع الصباح.
فأجابها ببرود: إن اللورد بالمير لا يعود إلى منزله، إلا إذا خرجت أنت منه! - كيف ذلك أتريد أن أبرح هذا المنزل؟ - إني باسم زوجك الميت، وولدك الحي، والكاهن الذي ينتظرك، وأرلندا التي تعتمد عليك، أدعوك إلى الخروج من هذا المنزل والذهاب معي.
وكانت الأرلندية تنظر إليه نظرات الريبة، فما خفي ذلك على العبوس وقال: أرى أنك غير واثقة بي.
فأطرقت ولم تجب.
وتابع قائلا: إنك لا تثقين بي كما أنك لم تثقي بالكاهن؛ لاسترسالك بثقتك إلى شقيق زوجك وما هو إلا قاتله. - من يضمن لي صدق ما تقول؟ - لقد أصبت فقد وعدتك في المرة الأولى أن أرد لك ولدك فما فعلت فصار يحق لك أن لا تصدقي الآن ما أقول. - رد لي ولدي أصدقك في كل شيء. - إني لا أستطيع رده إلا إذا خرجت أنت من هنا. واسمعي السبب إن ابنك قد اختطفته امرأة تتاجر ببيع الأطفال، لكنه لو كان عندها أو لو كان شريدا تائها في أحياء لندرا لما لقي من الخطر نذرا مما يلقاه في منزل اللورد بالمير. وماذا قال لك هذا اللورد؟ إنه قال إني أخو زوجك وإن ولدك ولدي ومنزلي منزلك. - نعم لقد قال لي هذا الكلام. - وهو سيفي بوعده فتعيشين في بيته عيشة كرائم العقائل، وينشأ ابنك عنده كما ينشأ أبناء النبلاء، لكنك أنت قد تموتين. - وماذا علي من الموت إذا غادرت ولدي سعيدا؟ - لقد أصبت، إنه قد يبلغ أقصى درجات السعادة. لكنه ينشأ يا امرأة السير أدمون محبا لإنكلترا، كارها لأرلندا وشهدائها، ومنهم زوجك الفقيد.
فارتعشت وقالت: ماذا تقول؟ - أقول إن زوجك مات شهيد أرلندا، وهو يلعن إنكلترا. لكن اللورد بالمير كان من أشد أعضاء البرلمان نفوذا، وكان يستطيع إنقاذ أخيه من الشنق، لكنه رضي له الموت وقتل الأسد، وهو الآن يريد أن يجعل الشبل إنكليزيا فينتقم مرتين.
إن ابنك قد يصبح لوردا نافذ الكلمة، عظيم الجاه، كارها لأرلندا متشيعا للإنكليز ويعيش عيشا سعيدا، غير أن أباه في قبره ينكره ويأنف أن يكون والدا له أفترضين بهذا؟
فذعرت الأرلندية وقالت له: كفى بالله! إن ابني لا يكون إنكليزيا ما حييت. - إذن، اعلمي أنك إذا خرجت معي من هذا المنزل يغدو ابنك فقيرا ويعيش عيش الشقاء والجهاد. لكنه يغدو زعيما لجيش سري، وإن هؤلاء الجنود الأمناء، قد يضحون اليوم بدمائهم في سبيل الوطن، لكن لا بد لهم أن ينتصروا، ويطردوا الإنكليز من أرلندا، فتذكري كلام زوجك السير أدمون واختاري.
وكأنما ذكرى زوجها قد فعلت بها فعل السحر فوقفت قائلة هلم بنا، إني رضيت أن أبرح هذا المنزل. - كلمة أيضا يا سيدتي، إن ابنك لم نجده بعد، لكن لا بد لنا أن نجده لأن أرلندا تبحث عنه الآن لتجعله رئيسها. - لقد وثقت بكلامك لكن أتظن أن اللورد بالمير كان يخدعني حين وعدني أن يعود بولدي؟ - كلا، لكنه فشل كما فشلنا، لأن المرأة التي سرقت ولدك ذهبت به إلى همبستاد، وعرف اللورد بالمير المنزل الذي خبأته فيه وذهب لإحضاره مع شخصين كنت أنا أحدهما.
فتعجبت قائلة: كيف أنت؟
نعم، لأنه كان يحسبني من رجال البوليس السري، ولما وصلنا إلى المنزل وجدنا أن ابنك قد هرب منه.
لكن ذلك لا يحمل على الخوف؛ لأنه سوف يتوه في الأزقة ساعة أو ساعتين فيهتدي إليه البوليس، ويأخذه إلى الدير كولد متشرد، فيبيت فيها بمأمن إلى أن نذهب ونطلبه. - أتقول الحق؟ - دون ريب لأنه لا يجد في الأزقة من الخطر معشار ما تجدينه ويجده في منزل هذا اللورد. - لقد وثقت بك يا سيدي، لأن عينيك وقلبي يحملاني على الثقة بك، والركون إليك. - أشكرك باسم أرلندا، هلمي بنا لأن الكاهن صموئيل ينتظرنا خارج الباب فقد أخرجته من السجن. - ليكن ما تريد، هلم بنا.
فتأبط العبوس ذراعها، وذهب بها إلى غرفة مس ألن فقال لها: إنك يا سيدتي قد وفيت بشيء مما طلبته إليك، لكن بقي لي عندك مأرب ولا تزال حياة أبيك في خطر حتى تقضيه. - ماذا تريد مني؟ - أريد أن توصلينا إلى باب الحديقة الخارجي؛ لأننا سنخرج من ذلك الباب إلى الزقاق، فلا يشعر بنا أحد.
فنظرت مس ألن إلى الأرلندية وقالت لها بلهجة العتب: إذن عولت على فراقنا، والذهاب مع هذا الشخص؟ - هذا ما تريده أرلندا.
فحاولت أن تجيبها، غير أن نظرات الرجل العبوس كهربتها، فحملت بيدها المصباح، وسارت أمامهما من رواق إلى رواق حتى انتهوا إلى الحديقة، ففتحت بابها الخارجي مغضبة حانقة وقالت للرجل العبوس: هو ذا قد بلغت ما أردت.
فقال لها متهكما: إلى اللقاء يا سيدتي.
فهاجت فيها عوامل الكبرياء والحقد وقالت: نعم إلى اللقاء ولا بد لنا أن نلتقي، وسيكون بيننا ما يقل دونه الموت.
29
ولقد كان الرجل العبوس صادقا فيما قاله عن الغلام، فقد تفرق هو وشوكنج والفقير في جميع جهات همبستاد، باحثين سائلين عن الغلام، فلم يجدوه لأن الغلام بعد أن نزل من النافذة إلى الحديقة، لم يكن يجول في خاطره غير الهرب من فانوش وما لقي في منزلها من العنف.
وكان يعتقد أنه إذا خرج من المنزل لا بد أن يجد أمه؛ لذلك أسرع إلى تسلق سور الحديقة، فسقط مرارا وتهشمت يداه ورجلاه الصغيرة، ولكنه كان كلما سقط زاد همة وعزيمة. وعاد إلى تسلق الجدار، مستعينا بما يكتنفه من الأشجار حتى بلغ مراده، وبلغ إلى أعلى الجدار فتدلى منه وألقى نفسه إلى الشارع العام ذاكرا اسم أمه فقط، ورض جسمه رضوضا شديدة، ودميت يداه ورجلاه، لكنه لم يكترث لما أصابه بعد أن ظفر بحريته، وهو لو بقي هنيهة في المنزل لأنقذه العبوس ونجاه من خطوب كثيرة.
وكان أول ما عمله بعد أن نهض، أنه نظر إلى ما وراءه نظرة المنذعر، كأنه خشي أن تكون فانوش قد أدركته بسوطها، فجعل يركض هائما على وجهه حتى بعد بعدا شاسعا عن همبستاد وبلغ لندرا المتصلة بها.
ولم يكن يخطر لهذا المسكين أنه يبعد عن المنزل الذي كانت فيه أمه هذا البعد الشاسع، فقد جاءوا به وهو نائم إلى همبستاد، وجميع أزقة لندرا متشابهة. فكان يسير من حي إلى حي هائما حائرا، والدم يسيل من قدميه وركبتيه.
ولم يكن يعرف اسم الشارع الذي غادر فيه أمه فيسأل عليه، فجعل يسير مندفعا إلى الأمام، وإذا رأى شارعا يشبه الشارع الذي كانت فيه أمه جد في السير، واتقدت عيناه بأشعة الأمل. وإذا طال سيره وعلم أنه أضل السبيل، وقف قانطا جازعا يذكر أمه ويبكي، ثم لا يجد من يجيبه ويرثي لدموعه، فيستمر في سيره.
وبقي على ذلك 4 ساعات حتى وهت قدماه من المشي، وضعفت نفسه من الجزع، فجلس على حافة باب منزل واسترسل إلى البكاء، فكان بكاؤه يقطع القلوب من الإشفاق.
غير أن أهل لندرا مشهورون بعدم الاكتراث، فقد مر بهذا المسكين كثير من الناس، فلم يكترث أحد لبلواه، بل إن كثيرين منهم لم ينظروا إليه. إلى أن اتفق مرور امرأة به فوقفت تنظر إليه نظرة المتوجع، ثم وضعت يدها فوق كتفه وقالت له بصوت حنون: ماذا أصابك يا بني؟
والتفت رالف إلى تلك المرأة التي رقت له فرآها صبية حسناء، وخيل له أنها تشبه أمه فزاد بكاؤه وشهيقه.
فقالت له: ألعلك ضائع يا بني؟ - إني أبحث عن أمي؟ - ماذا تدعى أمك؟ - حنة. - أأنت أرلندي؟ - نعم. - وأنا أيضا أرلندية مثلك واسمي سوزان، أتحب أن تذهب معي لأعينك على لقاء أمك.
فنظر إليها الغلام نظرة شكر. لكن عينيه كانتا تدلان على الارتياب فقالت: تعال معي أيها الحبيب كي لا يقال إن سوزان الأرلندية تدع غلاما من أبناء وطنها يموت في أزقة لندرا من البرد والجوع، ثم أخذت بيد الغلام وسارت به.
غير أن الغلام حاول الامتناع في البدء، إلى أن رأى في نبرات صوتها الرقيقة ونظراتها الحنونة ما دعاه إلى الامتثال فقال لها: أحقيقة إنك أرلندية يا سيدتي؟ - إني ولدت في دبلين يا بني. - وتساعديني على لقاء أمي؟ - دون ريب وإذا كانت أرلندية فإن إيجادها سهل ميسور؛ لأن جميع الأرلنديين متعارفون في هذه المدينة لما بينهم من جامعة الشقاء. - أقسمي لي إنك لا تخدعيني. - أقسم لك بالله يا بني إني صادقة، وإني أريد لك الخير، فأين تقيم أمك وفي أي شارع؟ - في سانت جيل. - ليس هذا اسم شارع بل اسم كنيسة. - لا أعلم غير هذا الاسم. - حسنا سنذهب غدا إلى سانت جيل، فإذا كنت أنت تبحث عن أمك فهي أيضا تبحث عنك دون ريب.
فاضطرب رالف وقال: لماذا لا نذهب الآن؟ ولماذا التأجيل إلى الغد؟ - لأن الكنائس لا تفتح في الليل.
فأيقن الغلام أنها مصيبة في قولها، فمسح دموعه بكم ثوبه وقال: لكن الغد بعيد.
فابتسمت له قائلة: كلا يا بني ألا تعلم أننا الآن في منتصف الليل؟
فاقتنع الصبي، وسار معها حتى وصلا إلى مطعم، فقالت له: ألعلك جائع؟ - كلا.
فواصلا السير حتى اقتربت من الشارع التي كانت مقيمة فيه، فلقيها كثير من الناس، وجعلوا يمازحونها بشأن الغلام، وهو لا يفهم شيئا مما يقولون، حتى مرت قرب خمارة، فلقيها أحد الفتيان وقال: كيف حال ولتون؟ - لا أعلم، إني لم أره منذ يومين. - ألعله مسجون؟
فردت بصوت مضطرب: لا أعلم. - ومن هذا الغلام الذي معك؟ - لقيته جالسا عند باب يبكي. - إن مخائل النجابة تبدو بين عينيه، وسيكون له أعظم شأن بين اللصوص. - لكني أرجو له غير ما ترجوه؛ لأني سأرده غدا إلى أمه.
فقال لها الفتى: لو سمعك ويلتون تتفوهين بهذا الكلام، لما نجوت من ضربه.
ثم ودعها وانصرف.
وسارت سوزان والغلام حتى وصلت إلى منزلها، وهناك رأت رجلا آخر تعرفه فقالت: أرأيت ويلتون؟ - كلا، لكني أعلم أنه بدأ بعمل خطير، قد ينجح فيه لأن سرقة الجيوب لم تعد تفيد في مهنتنا لكثرة حذر الناس.
فلم تجبه ودخلت والغلام إلى المنزل فأنارته، وظهر لرالف أن هذا المنزل مؤلف من غرفة واحدة أعدت للطبخ والاستقبال والنوم، ووجد طاولة صغيرة كان عليها بقية من الطعام وإبريق فيه بقية من البيرا.
فسألته سوزان: أتريد أن تأكل الآن؟ - كلا يا سيدتي. - أتريد أن تنام؟ - حبذا النوم، ولكني لا أستطيعه إلا إذا وعدتني وعدا صادقا بلقاء أمي غدا. - لقد أقسمت لك يا بني فنم مطمئنا.
ثم حملته إلى سرير كان في زاوية الغرفة، فلم يكد يستقر عليه حتى نام لفرط ما عاناه من التعب. غير أنه لم يسترسل في نومه حتى صحا، إذ سمع وقع أقدام في الغرفة تلاها صيحة فرح من سوزان. ففتح عينيه ورأى رجلا في الغرفة، ورأى سوزان تعانقه وتقول: قد طال غيابك حتى خشيت أن تكون مسجونا، فضحك الرجل وأجابها بقبلة.
فاضطرب رالف وكاد يصيح، إذ رأى يد الرجل عارية، وهي مصبوغة بالدماء.
30
ولم يكن هذا الرجل قد رأى الغلام بعد لانشغاله بسوزان، وكانت سوزان قد نسيت الغلام لفرحها بقدوم الرجل.
أما رالف فإنه كان يضطرب في سريره، ولا يجسر أن يتكلم.
ودار الحديث بينهما فقالت سوزان: لقد خفت عليك خوفا عظيما فأين كنت؟
وكان هذا الرجل عشيقها ويلتون، فجلس بقربها وقال لها: لقد كان أمري خطيرا، وأوشك الجنود أن يقبضوا علي، ولكني فزت فوزا تاما وسلمت من الجنود. ثم مد يده إلى جيبه وجعل يخرج منه دنانير ويلقيها أمامها، حتى اجتمع منها قدر كثير. وعند ذلك رأت سوزان يده مخضبة بالدماء فذعرت وقالت: ماذا أرى ألعلك قتلت الشيخ المنكود؟ - كلا، إني وعدتك أن لا أسفك دما بشريا إلا إذا اضطررت. - إذن من أين هذه الدماء؟ - اسمعي ما جرى إن المنزل الذي سرقناه كائن بين الحقول - كما تعلمين - ولم يكن فيه غير صاحبه الشيخ، فدخلنا إليه وقيدنا العجوز ثم أخذنا ماله فاقتسمناه أمامه بملء السكينة.
ولما تمت القسمة وحاولنا الخروج من الباب، رأينا العسس وراءنا، فعدنا إلى حديقة المنزل. وجرى في أثرنا الجنود بعد أن اغتصبوا الباب. وأسرعت أنا إلى سور الحديقة وتسلقت الجدار فأدركني جندي وجذبني برجلي فهويت إلى الأرض وقبض علي وأخذ يصيح مستغيثا بإخوانه لأنهم كانوا يطاردون رفاقي. وهنا رأيت أنه لا بد لي من سفك الدماء، فأغمدت خنجري في صدره وهربت.
وكان رالف يسمع الكلام ولا يفهمه، لكن هيئة ويلتون كانت تدعوه إلى الخوف.
أما الرجل فكان جميل الوجه، يمتزج جماله بالقسوة، فكانت سوزان تعجب بجماله ولا تهاب قوته، ولكن رالف لم يكن يتجاوز العشرة أعوام، فخاف هذا الشخص خوفا قويا.
وحالت التفاتة ويلتون ورأى الغلام، فدهش وقال بلهجة المغضب: من هذا؟
فأغمض رالف عينيه لخوفه وحبس أنفاسه وردت سوزان بلهجة المستعطف: إنه ولد فقير، التقيته تائها في الطريق يبكي، فأشفقت عليه لأنه أرلندي مثلي كما تعلم.
فقال متهكما: يسرني أن أرى منك هذا الإشفاق.
ثم دنا قرب السرير كي يرى الغلام، فأمسكت يده قائلة له: أرجوك أن لا تسيء إليه فهو نائم ، انظر إلى جماله إنه يشبه الملائكة. - إنه جميل كما ... ولكن ماذا تريدين أن تصنعي به؟ - سأرده غدا إلى أمه، في شارع الأرلنديين، قرب كنيسة سانت جيل. - حسنا، والآن أتريدين أن ننام ثلاثتنا في سرير واحد؟ - سأنقله إلى المقعد.
ثم دنت من رالف، وأيقظته ففتح عينيه، وتطلع خائفا إلى ويلتون فقالت له: لا تخف يا بني إنه لا يؤذيك.
فلم يجبها الولد، لكن الخوف كان باديا بين عينيه.
أما ويلتون فإنه حدق بالولد مليا، ثم قال لسوزان: قد أخطأت إذ عزمت على إرجاعه إلى أمه وخير لنا لو بقي عندنا.
فاضطرب رالف اضطرابا قويا. أما سوزان فإنها اعترضته بعنف قائلة: كلا يجب أن يسقط إلى الهوة التي وقعنا فيها، وأكون أنا التي قذفته إليها. - أراك من أهل الفضيلة هذه الليلة، فدعي شرفك هذا الآن؛ لأن هذا الغلام يفيدنا على حداثته فائدة بليغة. - كلا، إن هذا لا يكون.
فغضب ويلتون وقال: ويحك؟ أبلغ من قحتك أن تجسري على اعتراضي. ثم رفع يده منذرا إياها بالضرب.
فردت قائلة: اضربني ما تشاء، ولكني لا أريد أن يخرج هذا الصبي لصا مثلك.
فهاج غضبه وقال: أتحتقريني أيضا أيتها الشقية.
ثم هم بضربها، ولكن حدث أمر لم ينتظر، وهو أن الغلام الصغير الذي كان واقفا عند السرير، يرتعش من الخوف أسرع إلى ويلتون وحال بينه وبين سوزان قبل أن تصل إليها يده، وقد اتقدت عيناه وحسب نفسه رجلا قادرا على حماية تلك المرأة.
فلما رأى ويلتون ما كان من جرأته سر به سرورا عظيما، وضحك قائلا: طب نفسا أيها العزيز، إني لا أضربها إكراما لك. ثم أراد أن يعانقه فنفر الغلام منه، وتهدده بالنظر الشذر فقال ويلتون: لقد أحسنت أيضا. ثم عانق سوزان وقال: إني أعانقها أيضا إكراما لك فاطمئن.
فارتاح خاطر سوزان وقالت: إنك تظهر من الشر ما ليس فيك. - سأفعل ما تريدين أيتها الحبيبة، وسنرد الغلام غدا إلى أمه، ودعيه الآن ينام.
وكان يكلمها وينظر إلى الغلام نظرات حنو. لكن رالف لم يطمئن حتى عادت سوزان إلى وعده وتطمينه، فذهب إلى المقعد ونام آمنا.
ولما أيقن ويلتون أنه نام قال همسا في أذن سوزان: إن الأقدار أرسلت إلينا هذا الغلام. - ماذا تعني؟ - إننا غدا في مثل هذه الساعة يكون لنا بفضل هذا الغلام من المال ما يكفينا شر هذه المهنة.
فقالت بلهجة التأنيب: لقد قلت لك يا ويلتون، إني لا أريد أن يكون هذا الغلام من اللصوص. - لا تغضبي أيتها الحبيبة، وأصغي إلي تعلمي ما أريد.
وكان الولد نائما لا يسمع الحديث، وفوق ذلك فقد كانا يتكلمان همسا مبالغة في الحذر، فقال ويلتون: إني أريد أن أعمل عملا أخلص به من هذه المهنة الخطيرة، فإني إذا بقيت عليها لا يبعد ذلك اليوم الذي ترقص فيه رجلاي بالخلاء في سجن نيوجات. - لا تقل هذه الأقوال، فإنك تخيفني من الموت فتميتني من الخوف. - ولكن الشنق نصيب أمثالي فلا بد أن ألاقيه. - بالله كفى. - إني ملاق هذا الجزاء؛ لأن الله الذي تستحلفيني به كائن حي سيبلوني بهذا العقاب على أنه لو كان لي ألف جنيه فقط؛ لنجوت من الشنق وعشت عيشة السعداء. - إذا ظفرت بهذا المال ترجع عن مهنتك الشائنة، وتمتنع من السرقات وتبرح إنكلترا؟ - دون شك، أسافر بك إلى فرنسا، وأتزوج منك ونعيش ما بقي لنا من العمر عيش الأشراف.
فتنهدت وقالت: وا أسفاه إن التعلل بالأماني سهل، وأين لنا أن نظفر بهذا المال. - من يعلم فإن هذا الولد يخدمنا خدمة جليلة، ويحق لنا الرجاء.
فعادت سوزان إلى تأنيبه وقالت: لماذا تريد أن تصير هذا الولد الشريف المنكود لصا، ألم تر جماله ونبله، أيخلق بمثل هذا الولد وهو يشبه الملائكة أن يكون مأواه السجون؟
فضحك اللص ضحك الساخر وقال: يعجبني أن أراك نبيلة العواطف، ولكني أعدك وعدا صادقا أن أرد الولد إلى أمه متى قضيت مأربي. - وما هو مأربك؟ - أصغي إلي فإني مهتم بأمر خطير منذ عهد بعيد، ولم أطلع عليه العصابة كي لا تشاركني بما سأختلسه، فإنه يبلغ ألف وقد يبلغ أربعة آلاف. - أربعة آلاف جنيه! إنها ثروة لا تدرك بالأحلام، وممن تسرقها؟ - من رجل يسرق الناس مثلي، ولكنه يعد من أشراف اللصوص؛ لأنه يسرق الناس بالعلانية والجهر، ونحن نسرقهم بالسر، ولأنه لا يرحم فقيرا، ولا يشفق على عامل وقد ملأ اسمه القلوب ذعرا. - ما اسم هذا الرجل؟ - هو توماس الجن. - أهو ذلك المرابي الشهير؟ - هو بعينه فإني أتهيأ منذ عام لسرقة ما سرقه من الناس ولدي الآن مفاتيح تفتح جميع أبواب منزله. - أين يقيم؟ - في شارع فلبيرن قرب محطة وسترن، وهو يعيش وحده فليس في منزله خادمة أو خادم. - ولكنه يبقي نقوده في صناديق مصرفه، ولا يضع مثل هذا المبلغ في بيته وهو فيه وحده كما تقول؟ - إني أراقبه منذ عام أتم المراقبة، وقد علمت أنه يبقي نقوده في مصرفه جميع أيام الأسبوع ما خلا يوم الأحد لعلمه أن بعض الناس يحتاجون إلى المال في هذا اليوم فلا يجدونه إلا عنده في بيته لإقفال الأسواق أيام الأحد؛ فيطمع فيهم ويأخذ من الربا قدر ما يشاء، ولذلك يأخذ مساء السبت مبلغا كبيرا من المال النقدي والأوراق المالية إلى بيته وهو آمن على ماله في ذلك البيت، لأنه يضعه في صندوق ضخم من الحديد لا يستطيع أحد اغتصابه إلاي، فإني علمت سره. - كيف ذاك؟ - إني قبل أن أكون لصا كنت تاجرا صغيرا، وكنت متزوجا زواجا شرعيا، فما خرب تجارتي غير هذا المرابي، وهو الذي قتل امرأتي رغما، فإني علقت بشركه واستدنت مبلغا صغيرا، وتجسم المبلغ بزوره واحتياله، وبلغ معدل ما أخذه من الربا ثلاثمائة في المائة، فأفلست حين عجزت عن الدفع، وغلت يدي عن الأعمال، ودخلت إلى سجن المفلسين، وكان ذاك اليوم بدء عهدي بالسرقات.
أما صندوق هذا المرابي، فقد وضعه في غرفة ليس لها غير باب واحد، ولهذا الباب نافذة صغيرة جدا، فإذا أتى أحد لمقابلته في منزله ينظره من تلك النافذة قبل أن يفتح له الباب، ولو كنت أستطيع مد يدي من النافذة لبلغت مرادي من صندوق هذا المرابي منذ عهد طويل. - أليس لك مفتاح لهذا الباب؟ - نعم ، ولكني إذا فتحته أقتل في الحال، وذلك أن هذا الخبيث قد وضع وراء الباب بندقية بشكل عجيب بحيث إنه إذا فتح الباب أطلقت البندقية، ووقع رصاصها في صدر من يفتحه. - ولكنك قلت لي إن هذه الغرفة ليس لها غير باب واحد، فكيف يدخل منه توماس ولا تصيبه البندقية؟ - وهذا السر الوحيد الذي لم أوفق إلى كشفه من أسرار منزله. - إذن لا رجاء بسرقة صندوقه، إذ يستحيل الدخول إلى الغرفة. - كلا، فإن نافذة الباب لو كانت متسعة لمددت يدي منها، وقطعت بمقص حبلا ربط به الباب واتصل بالبندقية، وإذا قطع الحبل لا يبقى خوف من انطلاقها، لكن النافذة ضيقة ويدي ضخمة، ولهذا أردت أن أبقي الغلام عندنا كي أستخدم يده الصغيرة فيقطع الحبل، وعند ذاك أبلغ مرادي من الصندوق، وأتوب إلى الله توبة صادقة، ولا أعود بعدها إلى ارتكاب منكر. - أتعدني وعدا صادقا أن ترد الولد إلى أمه بعد قضاء مأربك؟ - أقسم لك بالله.
أجابت: ولكن توماس قد لا يخرج من منزله متى كان فيه هذا القدر من المال. - كلا، فإني أراقبه منذ عام كما قلت لك، فهو يضع المال في الصندوق كل ليلة سبت، ثم يضع البندقية في موضعها، ويخرج آمنا فيقضي ليلته في الملعب. - حسنا، وماذا تصنع بالولد إلى يوم السبت؟ - إني أتعهد بحمله على الصبر.
فقالت له بصوت مضطرب: ألعلك تريد ضربه؟ - أقسم لك إني لا أفعل شيئا من هذا. - حسنا. ماذا تصنع؟ - سوف ترين.
وهنا انقطع حديثهما فأطبقا أجفانهما، وناما كما نام الولد.
31
ولما استفاقا صباحا كان رالف لا يزال نائما فقال ويلتون لسوزان: كنت عولت على أن أسقي الولد مخدرا فينام إلى المساء، حيث أذهب به إلى بيت المرابي، لكني رأيت أن ذاك يحمله على الشك بنا، والذي أراه الآن هو أن تذهبي به حين يصحو بحجة البحث عن أمه، وتسيرين به كل النهار من شارع إلى شارع، وتبعدين كل البعد عن سانت جيل حذرا من أن يظفر بأمه اتفاقا.
ومتى أقبل المساء، تدخلين به إلى الخمارة الكائنة في أول عطفة من شارع إدورد فتتعشين معه، وقبل أن تفرغا من الطعام أحضر إليكما بمركبة وأنا في ملابس نظيفة، وهناك يكون بدء العمل. - سأفعل كل ما تريد على شرط أن تجدد وعدك إلي بإعادته إلى أمه. - سأفعل بعد أن يقطع حبل الباب، ويكون ذلك أول ما أهتم به. ثم تركها وخرج من البيت على أن يجتمعا مساء في المكان المعين.
أما سوزان فإنها خرجت بالولد بعده، وجعلت تسير به من شارع إلى شارع، وتنتقل من مكان إلى مكان، ومن كنيسة إلى كنيسة، وفي كل موضع توهمه أنها تسأل عن أمه بحيث بات له فيها كل الثقة، لكنه لم يظفر بأمه، وكان يمشي حزينا منكسر القلب.
وما زال هذا دأبهما حتى الليل، فدخلت به الخمارة المعينة، وطلبت أكلا وشرابا، وكان رالف قد تعب تعبا شديدا، حتى اضطرت سوزان إلى حمله فأكل بملء الشهية، لكنه كان يلهج كل حين بأمه، ولا يذكر غير اسمها، وكانت سوزان تعلله بالعودة إلى البحث عنها غدا، وتضمن له لقاءها فيثق بها ويرتاح لوعودها.
وفيما هما يأكلان فتح باب الخمارة، ودخل ويلتون فقال للغلام لقد وجدت أمك يا بني.
ولم يدر الولد بما يجيبه لشدة فرحه، لكنه وثب إليه فتعلق به، وجعل يعانق هذا اللص ويذرف دموع الامتنان.
وقال له ويلتون: لا تحول إلينا الأنظار يا ابني وأصغي إلي لأخبرك الحقيقة، إن أمك في السجن، لكنها ليست مسجونة في سجن الحكومة، بل في منزل أحد الأشرار، كما كنت أنت مسجونا في ذلك المنزل الذي كانوا يضربونك فيه.
فأجفل الصبي وقال: أيجسرون على ضربها؟ - كلا، لم يضربوها بعد ولكنا إذا تأخرنا عن إنقاذها فلا بد أن يضربوها، وقد عرفت لحسن الحظ المكان المسجونة فيه.
ثم غمز سوزان بعينه فقالت له بملء البساطة: أين هو ذاك المكان؟ - إنه غير بعيد.
فقال رالف: إذن هلم بنا لإنقاذها الآن.
فابتسم ويلتون وقبل رالف قبلة حنو ثم قال له: إني معجب ببسالتك يا بني، ولكن وقت إنقاذ أمك لم يحن بعد. - لماذا؟ - إذ يجب علينا أن ننتظر إلى أن ينام حراسها، فأتم الآن عشاءك وسنذهب بعد العشاء.
ثم انصرف عنه إلى سوزان، وجعل يحدثها بلغة اللصوص الاصطلاحية، وهي لغة لا يفهمها رالف فقال: لقد أعددت كل المعدات، وأرجو أن نعود بفوز عظيم ونرتاح من عناء المهنة. - أأنت واثق من وجود المال في المنزل. - نعم، فقد راقبته ورأيته دخل إلى البنك في الساعة الثالثة والنصف، وخرج منه بكثير من الأوراق المالية، وقد التقى ساعة خروجه بصديق له فسمعته يواعده على اللقاء في ليشتر سكار في الساعة العاشرة، لذلك لا بد له من ركوب القطار في الساعة التاسعة ونصف، ولا بد لنا أن نصبر حتى نسمع صفير القطار. - ومتى ظفرنا بالمال، فماذا نصنع بالولد!
نذهب به إلى كنيسة سانت جيل، فلا بد لأمه أن تطلبه منها فنودعه هناك، ونذهب توا إلى فرنسا.
وأقاما يتحدثان بمثل هذه الأحاديث إلى أن حان الوقت المعين، فخرجوا من الخمارة إلى مركبة كان أعدها ويلتون، فدخلت إليها سوزان والغلام، وصعد ويلتون فجلس بجانب السائق وأمره أن يسير إلى المحطة.
ولم يكد يبلغ إليها حتى رأى ويلتون توماس الجن صاعدا مسرعا إلى درجات سلم المحطة، فأيقن أنه مسافر وأن الجو قد خلا له، فأمر السائق أن يسير إلى منزل المرابي، ولما بلغ إليه أوقفه عند باب الحديقة، ونزل من المركبة فأخرج منها سوزان والطفل.
ثم فتح باب الحديقة بمفتاح كان معه، ودخلوا جميعا فأقفل الباب وبقيت المركبة تنتظر في مكانها.
وبعد أن اجتازوا الحديقة، صعدوا سلما انتهوا منها إلى باب المنزل، فأخرج ويلتون مفتاحا وفتح الباب مطمئنا لوثوقه أنه لا يوجد أحد في المنزل. فسأل الولد: أهنا محبوسة أمي؟ - نعم، يا بني وسوف تراها فاحذر أن تتكلم كي لا يستيقظ النيام.
وبعد ذاك مشوا في رواق طويل، انتهوا منه إلى باب الحجرة التي فيها الصندوق.
وأنار ويلتون شمعة كانت في جيبه، وخاطب سوزان انظري ألا ترين هذا الثقب الصغير في باب الغرفة؟ - نعم . - هذا هو الثقب الذي يجب أن يمد رالف يده منه ويقطع الحبل.
32
ولنعد الآن إلى توماس الجن فإنه خرج من البنك بعد أن قبض منه ألفي جنيه، وعاد بها إلى مكتبه فجعل يكتب رسائل إلى عملائه، إذ كان ذلك اليوم يوم السبت والبريد لا يشتغل يوم الأحد في بلاد الإنكليز.
وقبل أن يفرغ من كتابة رسائله قرع باب مكتبه؛ فأمر الطارق بالدخول دون أن ينهض من مجلسه، ولكنه ما لبث أن رأى هذا الزائر حتى وثب من مكانه مضطربا وأسرع إلى استقباله بملء الاحترام.
وكان هذا الزائر رجلا طويل القامة، عليه مسحة من الشباب، وهو براق العينين، تبدو عليه مخائل النجابة والعزم الأكيد.
وكانت ملابسه كلها سوداء مثل رجال الدين فقال له: إنك لم تنتظر زيارتي يا مستر توماس. - كلا يا سيدي، لم يخطر لي في بال أن أنال هذا الشرف. - إن الوقت غير متسع لي الآن، فلا أطيل المباحثة وأدخل توا في الموضوع، إنك أوقفت الكاهن صموئيل، وهو لا يستطيع أن يعقد حفلة 26 أكتوبر، لكن سجنه لا يكفي لنجاح المهمة التي نخدمها، وقد جاء إلى لندرا أربعة رجال خطرهم عظيم على إنكلترا، وبحثوا بحثا دقيقا عن الكاهن فلم يظفروا به، ولكن عيوننا لم تغفل عنهم فإن واحدا منهم قد سرق وهو قادم من أميركا إلى لفربول. وكان معه حوالة على بنك همبري وشركاه، غير أن هذه الحوالة قد سرقت أيضا فلم يبق له شيء من المال. لكن أحد عمالي كان يقفوه في الليل والنهار، وقد أقنعه على الالتجاء إليك فهو سيحضر إليك غدا الأحد، ويسألك أن تسلفه ألف جنيه لميعاد شهر فتعطيه ثلاثة آلاف. - أحب أن أعطيه كل ما تأمرني به غير أن البنك أقفل الآن، وليس لدي غير ألف جنيه. - لقد توقعت ذاك؛ فأحضرت لك المال.
ثم أخذ محفظته من جيبه، وأخرج منها أوراقا مالية بقيمة ثلاثة آلاف جنيه، وأعطاه إياها وقال: هذا كل ما أردت أن أقوله لك اليوم، ثم تركه وانصرف. فشيعه المرابي إلى الباب بملء التعظيم والاحترام.
ولما أصبح وحده قال في نفسه: هذه أول مرة اجتمع فيها لدي في منزلي خمسة آلاف جنيه، فلا بد لي من مضاعفة الحذر والاحتياط. ثم خرج من مكتبه، فركب مركبة وذهب بها إلى المنزل.
وهناك دخل إلى الحجرة التي وصفناها من بابها فوضع المال في الصندوق الحديدي، ووضع البندقية في موضعها، فربط زنادها بطرف حبل رفيع، وربط الطرف الآخر بالباب بحيث إذا فتح الباب من الخارج اشتد الحبل، وأطلقت البندقية على فاتحه.
غير أن المرابي لم يقتصر هذه المرة على البندقية لكثرة ما كان لديه من الأموال، فعمد إلى احتياط آخر لم يكشفه ويلتون قبل الآن، وهو أنه كان لديه مدفع صغير من المدافع الرشاشة، يضعه عندما يريد المبالغة في الحذر فوق الصندوق الحديدي، ويربط زناده بحبل ويشد الحبل إلى أعلى الباب بحيث لا يستطيع الناظر من نافذة الباب أن يراه، بل يرى فقط حبل البندقية، ولهذا خفي أمره على ويلتون.
فلما أتم وضع البندقية والمدفع، واطمأن باله أراد الخروج ولكنه لم يخرج من الباب بل أنه أزاح سريره قليلا، وضغط على لولب كان مستترا وراء السرير ففتح باب سري يؤدي إلى سلم في جوف المنزل؛ فخرج منه وأقفله ثم نزل درجات السلم فانتهى منها إلى باب سري آخر ففتحه، فإذا هو بالحديقة فخرج منها إلى الشارع، وذهب منه إلى المحطة.
ولما وصل إليها ذهب ليشتري تذكرة، فسمع وهو يصعد السلم صوتا يناديه فالتفت ورآه وعلم أنه جوهان كالفرن، وهو جندي السجن الذي ذهب بالكاهن إليه فقال له الجندي: إني كنت ذاهبا إلى مكتبك يا سيدي غير أني رأيتك داخلا إلى المحطة فأسرعت إليك. - ماذا تريد مني؟ - إني آت إليك بالدين الذي كان على الكاهن الأرلندي.
فاضطرب المرابي وقال: كيف دفع ومتى، ومن أين جاءوه بالمال؟ - لا أعلم، ولكنه دفع منذ يومين، فأطلق حاكم السجن سراحه وأمرني اليوم أن أحضر لك المال. ثم أعطاه أوراقا مالية قيمتها مائتا جنيه، وهو يعجب لما يراه من دلائل استياء المرابي وانقباض سحنته والعهد به أنه لا يفرحه غير المال.
أما توماس فإنه أخذ الأوراق ووضعها في جيبه، ونظر في ساعته فقال في نفسه: لا يزال الوقت فسيحا وليس من الحكمة أن أذهب إلى محلات اللهو والشراب ومعي مثل هذا المبلغ، فلأعد به إلى البيت وأسافر في قطار آخر.
وعند ذلك خرج من المحطة وسار عائدا إلى منزله، وقبل أن يبلغ إليه رأى مركبة عند بابه فاضطرب وقال: من عسى أن يكون في منزلي؟
وأسرع في خطواته فرأى باب الحديقة مقفلا والسائق نائما في المركبة، ولم يجد أثرا للنور في البيت فقال في نفسه: لعل وقوف المركبة هنا من قبيل الاتفاق، ثم فتح باب الحديقة ودخل. •••
كان ويلتون وسوزان والصبي في المنزل حين دخل إليه المرابي، وقد ذكرنا للقراء كيف دخلوا إليه.
وكان أول ما صنعه ويلتون أنه نظر من نافذة الباب الصغيرة فرأى الحبل في مكانه وقال للصبي: إن أمك في هذا المنزل كما قلت لك، فإن شئت أن تراها وجب عليك أن تفعل كل ما أقوله لك. - سأفعل كل ما تريد.
فحمله ويلتون وقال له: مد يدك من النافذة، وابحث عن حبل متصل بها.
فمد الصبي يده وقال: قد عثرت بالحبل.
فأعطاه مقصا وقال: قص الحبل بهذا المقص.
فامتثل الغلام، وقص الحبل.
فأنزله ويلتون إلى الأرض، فأخذت سوزان بيده، ووقفت معه إزاء الباب فنظر ويلتون من النافذة، فرأى الحبل مقطوعا ساقطا إلى الأرض؛ فاطمأن من البندقية وأخذ مفتاحا من جيبه فوضعه في قفل الباب وأداره، ثم جذب الباب إليه وخرج دوي هائل يشبه دوي الرعد القاصف، واشترك بهذا الدوي صيحتان، إحداهما خرجت من صدر ذلك الغلام الصغير المنكود؛ فسقط مضرجا بدمائه، والثاني من سوزان فإنها أصيبت برصاصة بصدرها، وكان ذلك دوي المدفع الرشاش.
أما ذلك اللص الأثيم فقد نجا من المدفع بأعجوبة، فسلم الأثيم وأصيب البريء.
وفي الوقت نفسه فتح باب الحديقة، وكان الذي فتحه توماس الجن، فلما بوغت بصوت المدفع جعل يصيح مستنجدا إذ أيقن أن المدفع لم ينطلق إلا لمباغتة اللصوص.
أما ويلتون فلم ينتبه لصياح المرابي، ولم يكترث لمصاب الغلام، ولم يحفل بسرقة الأموال، فلم يشغله غير تلك الخليلة التي رآها مضرجة بدمائها، فإن عواطف الحب الصادقة قد تتمكن حتى في نفوس اللصوص فاحتملها وأسرع بها هاربا إلى الحديقة، فابتدره توماس وقبض على عنقه وهو يقول: أيها اللص إنك ستنال جزاءك.
وكان بين الاثنين عراك شديد في الظلام أسفر عن أن ويلتون طعن المرابي بخنجره في بطنه، وهرب بسوزان وهي مغمى عليها، أما ذلك الطفل المنكود فقد تركه صريعا على الأرض وهو مصاب برصاصة في كتفه.
33
وحمل ويلتون سوزان إلى المركبة، وهو يكاد يجن إشفاقا عليها وأمر السائق أن يسير، فسار بهما إلى المنزل وهناك أطلق سراح السائق، وأخرجها من المركبة وهي لا تزال مغميا عليها، فأدركه وهو عند الباب صديق له يدعى كرفان فذعر لما رآه من إغماء سوزان واضطراب عشيقها فقال: ماذا حدث؟ - حدث أني فشلت في مهمة أتأهب لها منذ عام، وأظنهم قتلوا لي هذه الحبيبة فإنها جريحة.
وكان يقول هذا القول بصوت يتهدج من الاضطراب والإشفاق، كمن يجهش بالبكاء، فطيب كرافان خاطره، وساعده على حملها إلى المنزل وقال: إني كنت خادما عند طبيب جراح؛ فتعلمت منه بعض المبادئ.
وكانت سوزان مصابة برصاصتين، إحداهما تحت الثدي الأيمن، والثانية في العنق، فلما وضعها ويلتون فوق السرير ورآها لا تتحرك، جعل ينتف شعره ويلطم وجهه ويصيح ويلاه إنها قتيلة لا رجاء فيها.
ففحصها كرافان وقال: كلا إنها مغمى عليها، وليست جراحها خطرة انظر إن إحدى الرصاصتين أصابت ضلعا، والثانية لم تنل غير الجلد فهلم الآن نضمد الجرحين.
فأخذ هذان اللصان يمزقان ملابسهما؛ ليضمدا بها الجراح، ويمنعا نزف الدماء ثم خرج كرافان من المنزل، وعاد مسرعا بشيء من الخل فجعل يدعك به صدغيها، فما طال بها الأمر حتى تنهدت ثم فتحت عينيها، ورأت ويلتون وصاحت صيحة فرح وابتسمت له.
وجعل هذا اللص يبكي سرورا، وقد أعاده الحب إنسانا، فأخذ يقبلها ويقول إنك حية والحمد لله.
فقالت سوزان : إني أحمد الله لنجاتك ، أما أنا فقد دنت ساعتي.
ثم خطر لها خاطر فجائي، فالتفتت إلى ما حولها وقالت: رباه أين الغلام؟ - لا أعلم حقيقة أمره لانصرافي إلى الاهتمام بك، فإما أن يكون قتيلا أو هو جريح.
فاضطربت وقالت: لقد أخطأت يا ويلتون، فإنك ستحمل تبعة دمه المسفوك ظلما. ثم جعلت تبكي.
أما ويلتون فإن وجهه تجهم عند ذكر الغلام وقال: إني أوثر أن يكون قد مات كي لا يبوح بما علمه من أمرنا.
فعادت المخاوف إلى سوزان، وجزعت على حبيبها قائلة له: إني الآن بين يدي الموت كما قلت لك فودعني أيها الحبيب آخر وداع، واهرب فإن البوليس يبحث عنك دون شك. - أأنا أهرب وأودعك على ما أنت فيه فإني أوثر ألف شنق على هذا الغدر الذميم. - يسرني أن أراك قبل موتي، ولكن لي أخ بين الذين أحبهم أريد أن أراه. - أأنت لك أخ؟ - نعم إنه رجل فقير يكسب رزقه بشق النفس؛ لأنه بقي شريفا وأبى أن ينغمس في الآثام، فلا ترفض طلبي بالله فهذا آخر ما أطلبه إليك. - ولكن أين هو أخوك؟ - إنه يقيم في ديدلي ستريت وهو إسكافي.
فتحمس كرافان لكلامها وقال لها: وماذا يدعى أخوك؟ - جون كولدن. - لقد عرفته أليس نمرة البيت المقيم فيه 27؟ - هو بعينه.
فقال له ويلتون: إذا كنت قد عرفته أيها الصديق، فأرجوك أن تذهب إليه وتأتي به.
فامتثل كرافان ومضى، وبقي ويلتون ينظر إلى سوزان نظرات اليأس.
فقالت له بلهجة المؤنب: لماذا أيها الحبيب لم تصغ إلي، وترد الغلام إلى أمه؟
فغطى وجهه بيديه وقال: هو القدر أيتها الحبيبة ولا حيلة برده. ثم ركع أمام سريرها، وخاض في عباب التصورات.
34
أما كرافان فإنه سار توا إلى شارع ديدلي ستريت، ووقف عند البيت الذي نمرته 37، وهناك أقبية تحت الأرض ينزل إليها بسلم من الرصيف، يشتغل فيها العمال، فنزل كرافان إلى القبو فرأى صاحب دكان الأحذية، وأمامه العمال يشتغلون فدنا منه وقال: إني أبحث عن جون كولد، فقد قيل لي إنه يشتغل عندك.
فامتعض وجه صاحب الدكان وأجابه . كلا إنه ليس هنا. - أين أستطيع أن أجده الآن؟
فنظر إليه الرجل نظر المشفق وقال له: ألعله من أصدقائك؟ - كلا، لكني قادم إليه بمهمة.
وجعل العمال يتساءلون حين سمعوا اسم كولدن ويتكلمون همسا.
أما صاحب الدكان فإنه نهض عن كرسيه إلى كرافان وقال له: إني لا أعرفه، لكني أرى أنك من الإنكليز، ويجب على الإنكليز أن يتعاونوا، ولهذا وجبت علي نصيحتك فاعلم يا بني أنك إذا كنت من أصدقاء جون كولدن فخير لك أن تقاطعه وتبتعد عنه. - لماذا؟ - لأنه ضل سواء السبيل وانضم إلى أولئك الأرلنديين الذين دأبوا على كيد المكائد لبلادنا الحرة. - أشكرك لنصحك، لكني أتيته بمهمة كما قلت لك ومتى أنهيتها لا أكترث لأمره، بل أعين البوليس إذا انتدبني للقبض عليه، ولكني في حاجة إلى أن أراه، وأرجوك أن ترشدني إلى مكانه. - إني طردته من دكاني حين علمت أنه دخل في سلك تلك الجمعية السرية الأرلندية التي تأتمر كل يوم بدولة الإنكليز، فهو لا يشتغل عندي منذ ذلك العهد. - لكن ألا تعلم أين يقيم؟ - رأيته عدة مرار يتردد إلى هذه الخمارة التي بإزائنا.
فشكره كرافان وذهب توا إلى الخمارة، وجعل يقول في نفسه: إني لا أجد في نفسي ما يجده هذا الإسكافي من الغيرة على بلاده، ويسرني وجود هذه الجمعية السرية فإنها منذ تكاثر أعضاؤها انصرف البوليس عن الاهتمام باللصوص، وتركنا نفعل ما نشاء.
قال هذا في نفسه وذهب إلى الخمارة، فطلب كأس شراب وأجال نظره في الحاضرين فوقع على رجل لابس ملابس جديدة، فأحدق به وأخذ ينظر معجبا إلى ملابسه ويقول: إني أعرف هذا الشخص حق المعرفة، لكني أنكر ما أراه عليه من ظواهر النعمة فقد عهدته من أمثالي.
ثم دنا منه فوضع يده على كتفه قائلا: أي صديقنا شوكنج لقد أصبحت من أهل الثروة كما أرى، فمن أين هذه النعمة؟
فنظر شوكنج إلى محدثه ثم نظر إلى ملابسه نظرة ملؤها الكبرياء وقال: إن من جد وجد. - لقد أحسنت البيان غير أني لا أجد فرقا بين الشقاء والرخاء، فإنك على ما أنت فيه من ظواهر الإثراء مفكر مهموم كمن حكم عليه بالشنق.
فتنهد شوكنج تنهدا طويلا دون أن يجيب، ولكنه نظر إلى الساعة المعلقة في الحائط نظر الجازع، فقال له كرافان: ألعلك تنتظر أحدا؟ - نعم ... - وأنا أيضا فإني أنتظر جوهن كولدن.
فدهش شوكنج وقال: من الذي تنتظره؟ - جوهن كولدن. - وأنا أيضا أنتظر الشخص نفسه، أليس ذلك بعجيب؟
غير أن كرافان لم يتمكن من الرد، فإن باب الخمارة فتح عند ذلك ودخل منه كولدن فصاح الاثنان قائلين: هذا هو.
أما كولدن هذا فهو نفس الشخص الأرلندي الفقير الذي رآه الرجل العبوس عند باب منزل فانوش، وأدخله في سلك عصابته.
ولما دخل كولدن لم يكترث لكرافان ودنا من شوكنج فقال له: إننا على وشك أن نجد الصبي، فلقد قيل لنا أن امرأة وجدته يبكي عند باب أحد المنازل فأخذته.
فانتبه كرافان للحديث وقال: ألعلكم تبحثون عن غلام؟
فالتفت جوهن إليه وقال: أهذا أنت؟ ثم صافحه قائلا: نعم إننا نبحث عن غلام فقدناه. - ما هي صفات هذا الغلام وعمره؟ - إنه أرلندي أشقر جميل، لا يزيد عمره عن عشرة أعوام. - إذا كان هذا ما تقولون فأنا أرشدكم إليه، ألم تقل يا جوهن إنه كان يبكي، وأن امرأة قد أخذته؟ - نعم. - إذن، اعلم أن هذه المرأة التي لقيت الصبي الأرلندي هي أختك سوزان.
فصاح جوهن قائلا: ليحمي الله أرلندا.
ثم أحنى رأسه مكتئبا، فلم ينتبه شوكنج لكآبته وقال: إذن هلموا بنا إلى مكان الصبي.
35
وسار الثلاثة إلى منزل سوزان، فكان كرافن يقول في نفسه: إني أتيت لأدعو أخا سوزان، وليس من شأني أن أخبرهم بتفصيل ما جرى للغلام، بل قد أخطأت بالحديث عنه.
وأما شوكنج فكان يتبعه ويقول في نفسه: إن الأرلندية هربت من المنزل، إذ لا ثقة لها بي، وقد أصابت في شكها، لأني كنت السبب في دخولها إلى منزل فانوش، ولكني سأرد لها غلامها الآن فأستعيض تلك الثقة، وفوق ذلك فإن الرجل العبوس يعود إلى ثقته بي، لأنه يحسبني الآن من البله.
وأما كولدن فكان يقول: ما عسى تريد مني أختي، وأنا لم أرها منذ عهد؟
وسار الثلاثة حتى اقتربوا من المنزل، فتأبط كرافن ذراع كولدن وقال له: ألعلك لم تر أختك من أمد طويل؟ - نعم فإنها قد نهجت مناهج الضلال، وقد أنكرتها حين رأيتها تخطر بثياب الحرير فإن أبناء أبي لا يأكلون طعامهم إلا ممزوجا بعرق الجبين، وإذا كنت قد رضيت أن أتبعك إليها لأني أريد أرى هذا الغلام رجاء أن يكون هو الذي أبحث عنه. - لا أظنك تجهل أن أختك تقيم مع رجل يدعى ويلتون. - نعم أعرفه وهو من اللصوص. - هو ما تقول وقد حدثت نكبة.
فاضطرب كولدن وقال: ما هذه النكبة؟ - إن سوزان وويلتون حاولا سرقة منزل، فخبط سعيهما وأصيبت سوزان بجراح.
فارتعد جوهان كولدن، ونسي حياة أخته الأثيمة. فلم يذكر إلا أنها أخته. وأسرع في خطواته حتى بلغوا إلى المنزل. فكان أول من دخل إليه وتبعه شوكنج، ووقف على عتبة الباب وأجال في الحضور نظرا وقال: أين هو الصبي؟
فتلفت ويلتون إليه، ثم التفت إلى كولدن وقال له: ماذا يريد هذا الرجل؟
فأجابه شوكنج قائلا: إني أريد الولد. - أي ولد هذا؟ - الولد الذي وجدته امرأتك. - إنك لا تراه فقد بات من الأموات.
فأن شوكنج والأرلندية أنين الموجع، وأمسك جوهان كولدن ذراع أخته وهزها بعنف وقال: لا أعلم إذا كانت جراحك خفيفة أو كنت في خطر الموت، وإنك إذا أردت أن يعفو الله عن ذنوبك الماضية، فأخبرينا أين هو الصبي؟
فتوجعت سوزان واغرورقت عيناها بالدموع وردت: إني أنا وجدته، أما ويلتون فأضاعه.
فاضطرب شوكنج ودخل إلى الحجرة وهو يقول: أضاع أيضا؟
ولم تجبه سوزان، بل قالت لأخيها: ألعلك تعرف هذا الولد؟ - نعم ألا يدعى هذا الولد الذي عثرت به رالف؟ - نعم.
فقال لها بلهجة الوعيد: إذن أخبرينا بما جرى له. - لا أعلم حقيقة أمره، فقد يكون قتيلا، وقد يكون مجروحا مثلي.
وعندها أخذت تعترف لأخيها وشوكنج بكل ما حدث دون أن يجسر ويلتون على مقاطعتها، حتى إذا انتهت من كلامها، رأت دمعة تجول في عين أخيها وسمعته يقول لها: ويحك أيتها الشقية إنك أضعت أرلندا بأسرها بإضاعتك هذا الصبي. - أرلندا؟ - نعم، إنك لا تعلمين أية نكبة نكبت بها وطنك وبلادك، واعلمي أنه يجب عليك أن تخبرينا أن تركتيه، فقد يكون جريحا كما تروين. - تركناه في كلدن ستريت في منزل توماس الجن المرابي.
فارتعد ويلتون خوفا وقال: ماذا تفعلين يا سوزان أتريدين أن ترسليني إلى المشنقة؟
وكان شقيق سوزان ضخم الجثة، قوي العضل، فوقف أمام ويلتون وقال له: إذا كان الولد قد قتل، فليس إقرار سوزان الذي سيرسلك إلى الشنق، بل هو خنجري الذي يقذف بك إلى هوة الأبد.
وحسبت سوزان أن عشيقها وأخاها سيختصمان فقالت لهما: بالله خليا الخصام فليس هذا وقته، ودعاني أنظر إليكما النظر الأخير.
وكان كرافن قد خرج هنيهة من الحجرة، فعاد عند ذلك منذعرا وهو يقول: قد أقبل رجال البوليس وهم كثيرون يا ويلتون. أسرع إلى الفرار لأنهم ما جاءوا إلا للقبض عليك.
فقال ويلتون: يا للشقاء إن الولد لم يمت، وقد باح لهم بأمري، دون ريب.
وسمعه شوكنج يتكلم هذا الكلام، فسر سرورا عظيما، وقال له: إذا كنت صادقا فيما تقول، أيها اللص الأثيم، وكان الولد حيا صفحت عنك.
أما ويلتون فلم يصغ إليه، بل وثب من الغرفة لخوفه من البوليس، وصعد درجات السطح وهو لا يلوي من خوفه على أحد.
ولما بلغ السطح كان الجنود قد دخلوا إلى الغرفة؛ فتقدم رئيسهم وقال إننا نبحث عن شخص يدعى ويلتون.
فرد كرافن قائلا: إن الطير قد هرب من القفص. - وإننا نبحث أيضا عن امرأة تدعى سوزان.
فأجابته سوزان، بصوت يتهدج من الاضطراب، قائلة: أنا هي يا سيدي.
وكان الجنود يعلمون أن كرافن من اللصوص. غير أن البوليس في بلاد الإنكليز لا يقبض على اللص إلا حين يرتكب الجريمة، فاقتصر على أن يأخذه كشاهد فقط.
ولذلك سأله عما يعلم فقال له: إن شوكنج وجوهان كولدن أتيا إلى الحجرة، وسألا عن ولد أضاعاه.
فأكد رئيس الجنود أن الولد لا يزال حيا، وأنه مصاب بجرح خفيف.
وهنا ضمت سوزان يديها إلى صدرها وقالت لرئيس الجنود: إنني أنا وويلتون المجرمان وأما الصبي فهو بريء.
أما رئيس الجنود لم يحفل بكلامها وقال لها: لك أن تقولي ما تشائين. أما الولد فلا بد له أن يذهب إلى سجن الطاحون، ويقيم فيه إلى أن يبلغ العشرين من عمره.
وهنا ارتعدت فرائص شوكنج وجوهان، لأنهما كانا يعرفان هذا السجن الهائل، الذي اخترعه الإنكليز لتأديب السارقين، لأنهم يلقون فيه من العذاب ما يدل على أن الذين اخترعوه لا أثر في قلوبهم للرحمة.
ولما تأكد رئيس الجنود أن كرافن لا يد له في هذه السرقة، أذن له بالانصراف.
فانصرف باكيا بكاء الأطفال وهو يقول: ترى أيبقي العبوس هذا الطفل المنكود في ذلك السجن الهائل المخيف؟
36
ولنعد الآن إلى منزل توماس الجن، فإنه عندما دوى المدفع وسمع الجيران دويه، فخافوا وحسبوا أن أنابيب الغاز قد انفجرت، ولم يجسر أحد على الخروج، بل فتحوا النوافذ وجعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض ويتساءلون.
ثم خرج بعضهم بعد ربع ساعة، فكان قدوة لسواه واجتمع عند باب الحديقة كثيرون، ولم يجسر أحد على الدخول.
وبعد هنيهة أقبل البوليس وأخذ مصباحا ودخل، فتبعه الناس. وهناك رأوا ذلك المرابي طريحا على الأرض، يستغيث لفرط ما نزف من دمائه، لأن خنجر ويلتون قد أصاب ضلوعه فأسال دمه غزيرا.
أما الجرح فلم يكن خطرا، فنادوا على الفور طبيبا مجاورا وحملوا توماس إلى سريره، ورأوا عند باب الغرفة ذلك الفتى المنكود مضرجا بدمائه؛ فحملوه إلى غرفة توماس.
فصاح توماس قائلا حين رآه: هو ذا واحد من أولئك اللصوص الذين حاولوا سرقتي.
غير أن الحضور تلقوا كلامه بالشك لما رأوه من حداثة عمر الولد، وجماله النادر، وهيئته التي تدل على السلام، فنظر الطبيب جرح الولد أيضا، ورأى أن الرصاصة أصابت الجلد فقط.
وكان الفتى عندئذ مغميا عليه، فرد الطبيب صوابه إليه بما شممه من المنعشات. ولما فتح عينيه، أجال بين الحضور نظرا حائرا مضطربا، وأخذ يبكي.
وصرخ به توماس يقول: يا ربيب اللصوص، قل من الذين كانوا معك.
فذعر الولد وتمادى في بكائه دون أن يجيب.
ولما رأى توماس أنه لا يجيب، وأن الناس لا يعتقدون أن الولد شريك اللصوص، أراهم النافذة الصغيرة في الباب، وباح لهم بسر المدفع والبندقية، وأراهم الحبل المقطوع، وأثبت لهم أن الفتى مد يده من النافذة وقصه، وأن يد الرجل لا يمكن أن تدخل منها لضيقها.
أما رالف فقد هاله ما سمعه، واعترف بما يعرفه، وذكر اسم ويلتون وسوزان.
ولما سمع البوليس اسم ويلتون عرفه، ففرق الجميع وأخذ رالف وهو يقاسي من خوفه ما يكابده من جرحه، وسار به إلى مركز البوليس.
فعجب مأمور المركز لأمره، وسألهم عن هذا الولد، فأخبروه بما حدث له.
فركع رالف أمامه وأقسم له أنه غير لص.
أما المأمور فلم يحفل بكلامه، وأمر الكاتب أن يكتب ما يقول، وأخذ يستنطقه. فأخبره رالف بأمه وكيف أضاعها، وعن تلك المرأة التي سجنته في منزلها وكانت تضربه، وكيف أن الأرلندية وجدته، إلى آخر ما علمه القراء.
وكان يتكلم بلهجة مؤثرة، ولما أتم حديثه نظر المأمور في ساعته وقال للكاتب: اختم التقرير؛ لأن الساعة قد بلغت العاشرة الآن، وغدا يوم الأحد وهو يوم راحة. ثم أمر السجان أن يذهب به إلى السجن، وأن يعود به إليه يوم الإثنين.
فجعل رالف يبكي ويتوسل إلى المأمور أن يطلق سراحه ويبحث عن أمه، غير أنه لم يكترث له لاعتقاده أنه لص ذكي، تدرب على المهنة منذ حداثته، وأن الحكاية التي رواها ملفقة.
وكان طبيب البوليس واقفا فقال للمأمور: إن هذا الفتى جريح ويحتاج إلى عناية.
فأجابه بجفاء: لا بأس عليه، سيشفى في الحبس.
ثم أخذ تقريرا كان أمامه عن رجل قتل أمس، ورأى فيه أنهم يتهمون بقتله لصا يدعى ويلتون، وإذا كان قد سمع من رالف اسم ويلتون، أمر فريقا ليقبضوا عليه.
وقد عرف القراء كيف أنهم كبسوا منزله، وكيف فر منهم.
أما رالف فإن السجان دفعه بعنف إلى سجنه المؤقت، وهو يبكي وينتحب، فرماه على فراش من القش لينام عليه، والدم لا يزال يسيل من جرحه.
37
لم تكد تدق الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي، حتى غصت كنيسة سانت جيل بالمصلين، ومعظمهم بالملابس الرثة، بل إن كثيرين منهم كانوا حفاة الأقدام، مما يدل على شدة فقر الأرلنديين.
وكانوا خليطا عظيما من النساء والأولاد والرجال والشيوخ. وإنما كانوا كثيرين في ذاك اليوم، لما أشيع بينهم من أن كاهنهم صموئيل قد زج في الحبس، وكانت علائم الحزن والقلق بادية في وجوههم، وكلهم ينتظرون بفارغ الصبر، أن يفتح باب الهيكل، ليروا من الذي يخدم القداس.
ثم بدأت الصلاة والقلوب واجفة مضطربة، وفتح باب الهيكل فصاح جميع الحضور صيحة فرح بصوت واحد؛ لأنهم رأوا الأب صموئيل واقفا بالباب.
وبدأ الأب صموئيل بالصلاة حتى إذا فرغ من تلاوة الإنجيل، وقف بباب الهيكل وقال يخاطب الناس:
أيها الإخوة
في مثل هذه الساعة من يوم 26 أكتوبر، أي منذ أربعة أيام، وكان موعد الاحتفال بقداس خاص، وكنا ننتظر قدوم أربعة من بلاد بعيدة لا يعرف بعضهم بعضا، ولكنهم مجموعون متعارفون في حب أرلندا وطننا العزيز، وكان الاتفاق أن أكون أنا واسطة التعارف بينهم.
وقد اتفق ما حال دون حضوري في ذاك اليوم، فلا أعلم إذا كانوا قد حضروا فيه، ثم لا أعلم إذا كان قد حضر أحد منهم اليوم، فإذا كانوا قد جاءوا فليدخلوا إلى الهيكل بعد انتهاء القداس.
وبعد أن فرغ من خطبته، أتم حفلة القداس.
وكان عند باب الهيكل امرأة راكعة تصلي، وتذرف الدمع السخين، وهي الأرلندية والدة رالف، الذي تركناه جريحا ملقيا في الحبس على فرشة من القش. وكان بالقرب منها رجل ينظر إليها نظرات الإشفاق، وهو الرجل العبوس.
ولما انتهت الصلاة وتفرق الناس، أخذ العبوس بيد الأرلندية، ودخل بها إلى الهيكل ووقف أمام صموئيل.
ثم دخل في أثرهما رجلان، واقتربا من الأب صموئيل، وأظهرا له إشارات سرية عرفهما وأجابهما بمثلها، ثم التفت إلى العبوس وقال له: لم يحضر من الأربعة غير اثنين.
فأجابه الرجل العبوس قائلا: إني سأعثر عليهما، إذ لا بد أن يكونا في لندرا.
فاطمأن الأب صموئيل لحديثه وقال للاثنين: من أين أتيتما؟
فقال أحدهما: من أيكوسيا.
وقال الآخر: من بلاد الغال.
فقال للأيكوسي: كم رجل عندك؟ - عشرون ألفا.
وسأل الآخر هذا السؤال، فرد: ثلاثون ألفا.
فأطرق الرجل العبوس برأسه وقال: إن هذا العدد لا يكفي، ولم يحن وقت العمل.
فقال الأيكوسي: ولكنه لا بد أن يحين، فأين هو الفتى الذي ننتظره؟
فوضع الأب صموئيل يده فوق كتف الأرلندية وقال: هذه أمه.
فاصفر وجه الأيكوسي وقال: إني أراها تبكي، فهل أصيب الفتى بمكروه؟
فرد صموئيل: نعم إنه في قبضة أعدائنا.
فنظر العبوس نظرات متقدة، تكهرب الأجسام، وقال: سأنقذه من أيديهم.
فارتعش الرجلان لنظراته وقالا له: من أنت؟ - إني مثلكما وأحد زعماء هذه المهمة النبيلة التي نخدمها.
فقال أحدهما: ما اسمك؟ - لا اسم لي.
فبهت الرجلان لهذا الجواب الغريب، وأخذ كل منهما ينظر إلى الآخر، فقال لهما العبوس: إني أنوب عن شخص مات شهيد أرلندا، وقد تلقيت أوامره الأخيرة قبيل موته، وكنت واقفا تحت مشنقته.
فقالا: وهذا الشخص ماذا يدعى؟ - فالتن.
فانحنى الرجلان احتراما.
وعندها التفت العبوس إلى الأب صموئيل وقال له: إنك أصبت بصلاتك اليوم صلاة الأموات عن نفوس الذين سيموتون، إذ لا بد أن يسفك دم كثير قبل أن ننزع الغلام من أيدي المضطهدين الآثمين؟
فارتعش الرجلان لكلامه، ورفعت الأرلندية عينيها إلى السماء، وهما مغرورقتان بالدموع، وقال له صموئيل: سيكون شهداء أرلندا كثيرين، وستسيل دماؤهم الزكية فتروي الأرض، وإني أزودك ببركات الله وأرجو أن يحميك ويقيك.
وعندها تركهم العبوس، وخرج من الكنيسة فلقي عند بابها شوكنج ينتظره؛ لأنه قد عرف منه حوادث الأمس.
ولم يكن شوكنج كاثوليكيا أرلنديا فوقف عند باب الكنيسة، ولم يشترك في الصلاة لأنه من شيعة البروتستانت.
وكان منذ أسبوع لا يكترث لأمور أرلندا، ولا تهمه شئون الأرلنديين. فبات الآن كواحد منهم بعد أن عرف الأرلندية والأب صموئيل، وبحث عن الغلام، ولا سيما بعد أن تعلق بخدمة هذا الشخص السري الذي يتنكر باسم الرجل العبوس.
ولما لقيه العبوس قال له: أفعلت كما قلت لك؟ - نعم، إن ويلتون قد قبض عليه، وذلك أنه صعد إلى السطح كما أخبرتك أمس، ولكنه لم يجسر على النزول منه، لأن البيت كانت تطوقه الجنود، فاختبأ داخل أنبوبة المستوقد طول ليله.
وعند الصباح كانت الجنود لا تزال في الطريق، ولكنه رأى نافذة قد فتحت أمام المستوقد، وبرز منها لص يدعى جاك، ويلقبه إخوانه بالعصفور الأزرق، فقال لويلتون: أسرع بالخروج، لقد عثرت على طريقة لإنقاذك.
فامتثل ويلتون وخرج من مخبأه. وفيما هو ينزل درجات السلم، أطبقت عليه الجنود، وكانوا مختبئين في منزل فطوقوه وأسروه. - يظهر أن جاك قد خانه. - هو ذاك، والسبب في هذه الخيانة أن جمعية اللصوص عقدت جلسة حين كان ويلتون مختبئا فوق السطح فحكمت عليه. - لماذا ولأي ذنب اقترفه؟ - إنه سرق أخيرا منزلا مع بعض زملائه، فأخذ فوق نصيبه من القيمة اختلاسا، أي إنه سرق إخوانه. ولهذا قررت الجمعية تسليمه بدلا من إنقاذه. وهذا سبب ما كان من خيانة العصفور الأزرق، فإنه خدعه بأمر الجمعية. - ألم يدافع ويلتون عن نفسه حين طوقه الجنود؟ - نعم، فإنه دافع دفاع اليأس، ولم يقبضوا عليه إلا بعد أن جرح اثنين منهم جراحا خطرة، ولذلك ساروا به توا إلى سجن نيوجات، وسيشنق بعد أسبوعين. - وماذا حدث لعشيقته سوزان؟ - إنهم لم يستطيعوا نقلها من غرفتها، لفرط ما نزف من دمائها، وقد قرر الطبيب إنها لا تشفى قبل شهر، فوضع البوليس حارسا على باب منزلها إلى أن تشفى. - ومتى شفيت يذهبون بها إلى السجن؟ - دون ريب إذا أراد اللصوص. - كيف ذلك؟ - هذا ما أخبرني به كرافان، فإن جمعية اللصوص التي حكمت على ويلتون، ستجتمع أيضا وتنظر في أمر سوزان. وهم مختلفون بشأنها والأكثرية ترى أنها غير مذنبة، وإذا أجمعوا على تبرئتها أنقذوها. - أينقذونها رغم البوليس؟ - بل بملء إرادته، لأن البوليس في هذا الشارع لا يفعل إلا ما يريده اللصوص.
فابتسم العبوس وظهر من هيئته كأنه يذكر أمورا بعيدة، ثم التفت إلى شوكنج وقال له: أين جوهان كولدن؟ - إني لم أره، ولكنه يجب أن يكون قرب مركز بوليس كلبيرن يراقب الفتى.
فافتكر العبوس هنيهة ثم قال له: أصغ إلي الآن، فإنك قد لا تراني عدة أيام فلا تقلق علي، وانتظر هنا إلى أن يخرج الأب صموئيل والأرلندية فإنها اطمأنت الآن، لأننا لم نخبرها بما حدث لولدها، ووعدناها بإرجاعه وهي واثقة بنا.
فقال له شوكنج: أترى تصدق هذه الوعود، وينجو هذا الغلام المنكود؟
فهز العبوس كتفيه وقال: إنك لا تزال ساذج القلب، وكيف لا ينجو؟ أتريد أن ندعه في ذاك الحبس المخيف؟ - وكيف تمنع البوليس أن يدخله إليه؟
فابتسم العبوس ولم يجب. وقال له شوكنج: لدي رأي، أرجو أن يكون مصيبا. - ما هو هذا الرأي؟ - هو أن نحيط مركز البوليس بخمسين رجلا من الأشداء، فإذا خرجت الجنود برالف إلى الحبس أطبقنا عليهم وأخذناه بالهجوم. - إن رأيك في غاية السداد. ولكنه فاتك أنه يوجد قرب مركز البوليس ثكنة غاصة بالجند، إذا نفخ بالبوق أتوا زرافات، ومزقونا برصاص بنادقهم كل ممزق. - أصبت فلم تخطر لي هذه النكبة، أما إذا دخل الفتى إلى حبس الطاحون فكيف تخرجه منه؟ - ذاك موكول لي، وسوف ترى. فابق هنا إلى أن يخرج الأب صموئيل والأرلندية، واحرص عليها كل الحرص، فقد وكلت حراستها إليك.
ثم تركه وسار إلى الشارع الكبير، وركب مركبة وأمر سائقها أن يسير به إلى شارع بال مال، وهو شارع عظيم لا يقيم فيه غير النبلاء.
فسارت المركبة وجعل العبوس يقول في نفسه: لقد مضى عهد طويل دون أن أعود إلى المنزل، فماذا عسى أن تقول عني صاحبته؟
ولما وصلت المركبة إلى ذاك الشارع، أوقفها عند باب منزل فخم، وخرج ودفع أجرة السائق، وأخذ مفتاحا من جيبه ففتح الباب ودخل. فكان السائق ينظر معجبا إلى ملابسه الرثة ويقول: ماذا يصنع هذا الفقير في منازل اللوردية؟
38
وبعد ساعة خرج الرجل العبوس من هذا المنزل، وهو لابس خير الملابس، وقد امتطى جوادا من أفضل الجياد ، وخرج وراءه خادم على جواد آخر.
وكان في قرب ذلك المنزل بائع كتب، رأى الرجل العبوس حين دخل بملابسه الرثة. فأنكر دخوله وظن فيه الظنون. ثم رآه خرج وهو على أفخر ما يكون من الهندام والتأنق، فحار في أمره وراح ينظر إليه منذهلا حتى ابتعد عنه ولم يعد يراه.
أما العبوس فإنه سار يتبعه خادمه، فقطع شارع بال مال إلى جمس ستريت، ثم إلى بيكاديللي وذهب منها إلى هايدبارك. وكانت الساعة العاشرة صباحا، وقد كثر المتنزهون من رجال ونساء، ومعظمهم يمتطون الجياد.
فما سار هنيهة في أروقة ذلك البستان الكبير، حتى رأى فتاة مقبلة على فرسها وراءه، فالتقى النظران واتقدا اتقاد السلاح المصقول أصابته أشعة الشمس، فصرخت الفتاة منذعرة: هذا هو.
وقال العبوس: هذه هي مس ألن.
وكانت مس ألن، ابنة اللورد بالمير، تسير يتبعها خادم عجوز. ولما رأت أن الرجل العبوس قد تجاسر وحياها، غضبت غضبا عظيما والتفتت إلى خادمها، وأشارت إليه أن يوافيها، فلما دنا منها وقالت له: أرأيت هذا الشخص الذي حياني؟ - نعم. - أريد أن تتبعه الليل والنهار، وتلازمه ملازمة ظله، ولا تعود إلي إلا بعد أن تعرف اسمه وأين يقيم.
فانحنى الخادم ممتثلا، وسار في أثر العبوس.
أما هو فلما رآها تكلم خادمها، أدرك قصدها فقال في نفسه: إن خادمك لن يقضي المهمة التي انتدبته إليها. ثم فك أزرار ثوبه، وأخرج من جيبه دفترا، فانتزع منه ورقة وكتب عليها ما يأتي:
يظهر يا مس ألن أنك تريدين أن تعرفي من أنا اطمئني فسأتشرف بإخبارك عما ترغبين الوقوف عليه بنفسي في الليلة القادمة عند نصف الليل.
خادمك المطيع
المجهول
ولما فرغ من الكتابة طوى الورقة، ونادى خادمه فقال له: أسرع بإدراك تلك الفتاة، وأعطها هذه الورقة.
فأخذها الخادم وقال له: أين ألقاك يا سيدي بعدها؟ - لست محتاجا إليك، فاذهب بعد إعطائها الرسالة إلى المنزل.
ثم افترق الاثنان وذهب الخادم إلى الفتاة، وسار العبوس يتنزه وخادم مس ألن يتبعه كيفما سار.
وظل العبوس يسير من مكان إلى مكان ، وهو يهزأ بالخادم الذي يتبعه، حتى انتهى إلى غدير يفصل بين طريقين، حرم البوليس على الفرسان قطعه. ولكن العبوس لم يحفل بهذا المنع، فبحث عن أضيق مكان في الغدير، ولكز بطن فرسه فوثب به من ضفة إلى ضفة، وجرى في الطريق الآخر يسابق الرياح.
وكان الخادم العجوز يبعد عنه عدة أمتار، فأسرع في أثره وأراد الاقتداء به فجمح جواده وأبى الوثوب، فكان بين الفرس والفارس نزاع قوي أسفر عن انتصار الفارس، فوثب الجواد كما أراد راكبه. ولكنه لم يتمكن من اجتياز الغدير فبلغت يداه الضفة، ولكن رجليه سقطتا في المياه، فانقلب الخادم إلى الأرض. وأسرع إليه البوليس كي يغرمه بالجزاء المفروض على الذي يجتاز النهر. فلم يكد ينتهي الخادم من نقاشه مع البوليس، حتى رأى أن العبوس قد احتجب عن الأنظار. فعاد إلى مولاته بالخيبة والخذلان.
أما الرجل العبوس فإنه واصل سيره آمنا، وهو يقول في نفسه: لأذهب الآن إلى مركز البوليس كيلبرن علي أعثر على طريقة لإنقاذ الفتى قبل إرساله إلى الحبس. •••
إن مراكز البوليس في لندرا تشبه مراكزه في مصر، غير أن الفرق بينهما أنه يبقى في كل مركز قاض دائم يحق التبرئة والحكم وإطلاق المسجونين. وكان رئيس هذا المركز قاضيا شريف الأخلاق حاد الطباع، لكنه كان عاقلا خبيرا شديد الوطأة على اللصوص، حتى إنه كان يقطع دابرهم.
وكان له ابنة يحبها حبا عظيما، لا يلين فؤاده القاسي غير صوتها الحنون. وقد كان ذلك اليوم يوم أحد، وهو يوم يرتاح فيه القضاة فلا يشتغلون، فكان هذا القاضي يراجع في منزله بعض المذكرات، وبيته فوق مركز البوليس.
وفيما هو منهمك في تلاوتها فتح باب غرفته، ودخلت منه ابنته فانقطع عن القراءة، وابتسم لها قائلا: ماذا تريدين يا ابنتي؟ - إني أراك منهمكا في الأشغال، أتشتغل يوم الأحد؟ - ذلك لا بد منه، إذ يجب علي أن أضع تقريرا لحادثة الأمس. - وأنا قد أتيت أيضا لأحادثك في هذا الشأن، وأتمنى أن لا تؤنبني يا أبي؟
فقال لها بلهجة حنو: متى كنت أؤنبك يا ابنتي قولي ما تشائين. ثم شدها نحوه وقبلها بجبينها. - إن طبيب المركز قد جاء الآن. - ماذا يريد ألعله أتى من أجل هذا الولد الجريح؟ - نعم يا أبي، فقد أتى يسألني ضمادا لجرح الولد المنكود، أعطيته وساعدته على ضمد جراحه، ولكني واثقة يا أبي من براءة هذا الصغير. - أتظنين أنه بريء؟ - بل أؤكد وقد قص علينا حكايته، وهي تؤثر بالجماد.
فهز القاضي كتفيه دون أن يجيبها، وانصرف عن محادثتها إلى النظر في تقرير كان أمامه، فما أتم تلاوته حتى ارتعش وقال: ما هذا؟
فلم تجسر الفتاة على محادثة أبيها بشأن الولد بعد ما رأت اضطرابه، ولكنه هو افتتح الحديث بشأنه، فقال لها: تقولين أن الولد قص عليك حكايته ماذا قال لك؟ - يقول إنه أتى إلى لندرا منذ أربعة أيام فقط مع أمه، وأنه أرلندي وأمه تدعى حنة، وأن امرأتين فصلتاه عن أمه، وحبستاه في بيت له حديقة، فهرب من هذا البيت راجيا أن يلقي أمه وصار يركض في شوارع لندرا، وهو لا يعلم أين يسير حتى عثرت به امرأة تدعى سوزان، فسارت به إلى دارها ووعدته أن تجمعه بأمه في الغد.
فضرب القاضي يده على المذكرة التي قرأها وقال: ما هذا الاتفاق الغريب انظري هذه المذكرة، فقد أرسلها لي الآن معاون بوليس مالبورج، وأظنها خاصة بهذا الولد فاقرئيها.
تناولت الفتاة المذكرة، وقرأت ما يأتي:
في صباح اليوم أتى إلى مركزنا اللورد بالمير، أحد أعضاء المجلس الأعلى، وقال لنا أن ولدا أرلنديا يدعى رالف وعمره عشرة أعوام سرقته امرأتان وأخذتاه إلى بيت في همستاد، فغافل الولد المرأتين وهرب من البيت، ولا بد أن يكون تاه في شوارع لندرا، وأن البوليس حجر عليه كما يحجر على المتشردين.
وإن اللورد بالمير يهتم بهذا الولد كل الاهتمام، ويطلب أن يرد إليه على عهدته، ثم إنه وضع جائزة قدرها ألف جنيه يمنحها لمن يرد إليه الولد.
فرحت الفتاة فرحا عظيما وقالت: لا شك أن الولد هو الذي يطلبه، وأنك سترده إليه أليس كذلك يا أبي ؟ - إن الأمر مستحيل؛ لأن الولد قد اشترك بسرقة، ويجب على اللورد بالمير أن يحضر غدا بنفسه ويطلبه مني. - لا بأس فيسطلق سراحه في كل حال، وهذا ما أتمناه، ولكن ألا يجب أن نخبر اللورد بأمره؟ - لقد أصبت يا ابنتي، وسأذهب بنفسي وأخبره.
ثم قام فلبس قبعته وقال: إني ذاهب إلى منزل اللورد، وقد أغيب ساعة، فإذا حدث أمر بغيابي فادعي سكرتيري المستر توب، ولكن اكتبي المذكرات بيدك، فإني لم أجد أجهل من هذا السكرتير على طول عهده بالخدمة.
ثم خرج وهو يقول في نفسه، ما أجمل هذا الاتفاق فسأقبض الجائزة، وهي تبلغ قيمة راتبي عن عشرة أعوام فأجعلها مهرا لابنتي؟
وعادت الفتاة إلى غرفتها، ولم يطل جلوسها حتى سمعت وقع حوافر جواد في الشارع، فأطلت من الشباك فرأت فارسا جميلا، نزل عن حصانه عند باب المركز فأعطاه لأحد الغلمان ودخل إلى المركز، وكان هذا الفارس الرجل العبوس.
39
ولنذكر الآن من أين جاء الرجل العبوس قبل أن ندخل بأذهان القراء معه إلى مركز البوليس، فإنه حين تخلص من مراقبة خادم مس ألن ذهب توا إلى منزل توماس الجن ذلك المرابي الجريح، فوجد الناس مزدحمين عند باب الحديقة يتحدثون بحادثة الأمس، وكل منهم يرويها رواية مختلفة.
وكان جميع سكان ذلك الشارع يعرفون ذاك المرابي المحتال، فما وجد بينهم من أشفق لنكبته، بل كان بعضهم يأسفون لعدم فوز اللصوص.
وقد حاول بعض الجيران أن يعودوه، ليس إشفاقا عليه بل من قبيل الفضول، غير أن المرابي أتى بممرضة في الليلة، وأمرها أن لا تأذن لأحد بالدخول إليه.
فلما وصل الرجل العبوس، ورأى الناس جمال فرسه وملابسه، ما شككوا أنه من كبار النبلاء، ثم رأوه قد اختلط بفريق منهم، وسألهم عن سبب تجمعهم فحكوا له ما حدث لتوماس، وكيف أنهم سمعوا دوي المدفع، فأظهر عجبا شديدا وقال لهم: إني من أهل الشذوذ والفضول، وقد تعودت أن أقيد في دفتري جميع الجرائم الكبرى التي تحدث في لندرا، ولا بد لي من أن أرى هذا الرجل.
وإن أهل الشذوذ كثيرون في بلاد الإنكليز بين نبلائهم، حتى إن الشذوذ يكاد يكون خاصة بهم، لذلك تلقى الجمهور كلامه بالارتياح، فأخذ العبوس دفترا من حقيبته، وأخذ يكتب فيه أجوبة الأسئلة التي كان يلقيها على الحضور، حتى إذا فرغ من الأسئلة قال: إني أريد أن أرى هذا المرابي.
فقال له أحدهم: لا سبيل يا سيدي اللورد إلى رؤيته، فإنه لا يؤذن لأحد بالدخول. - لكنه يأذن لي.
ثم ترجل عن فرسه ودفعه لأحد الحاضرين، وتقدم من باب المنزل وقرعه.
وبعد حين أتت الخادمة فقال لها: قولي لسيدك إن لوردا نبيلا يريد أن يرى منزلك، ويدفع مقابل ذلك عشرة جنيهات.
ودهشت الخادمة لهذا الكرم، وعادت إلى توماس لتخبره.
والعادة عند الإنكليز أنهم يتراهنون على كل ما يحتمل الرهان، ويغتنمون كل فرصة لفرط ولوعهم بالمراهنة، فلما رأوا الخادمة عادت إلى سيدها لتستأذن الرجل بالدخول حمي وطيس المراهنة بين القائلين بقبول توماس بإدخاله والقائلين برفضه، ووقفوا ينتظرون عودة الخادمة.
ثم عادت الخادمة فتطاولت إليها الأعناق، وسمعوها تقول له: تفضل يا سيدي.
فاسودت وجوه وابيضت أخرى، ودخل الرجل العبوس إلى المنزل، ورأى المرابي مضطجعا في سريره.
وعند ذاك طلب إليه أن يريه المدفع وأراه إياه، وأخبره بطريقة وضعه ثم أخبره بكل ما حدث في تلك الليلة، حتى إذا وصل بحكايته إلى الغلام الأرلندي سأله العبوس: أين هو الغلام؟ - في السجن. - في أي سجن؟ - في سجن مركز كلبورن. - إذن أريد أن أراه، وإني أدفع لذلك عشرة جنيهات أيضا.
فطمع المرابي بالمال وقال: إن للقاضي صديق لي، فهو لا يرفض طلبي إذا طلبت منه أن يأذن لك بمشاهدة الغلام. - إذن اكتب لي كتاب توصية، فإني أدعى اللورد كورنهيل.
فكتب المرابي ذلك الكتاب إلى القاضي، ثم قبض المال من العبوس، وهو يتنهد بشرا.
أما العبوس فإنه أخذ الكتاب، وودع المرابي وخرج، فلما وصل إلى باب الحديقة، رأى الخادمة تجادل شخصا يريد الدخول لمقابلة توماس وهي تأبى إدخاله قائلة إنه مريض لا يستطيع مقابلة أحد، ولما رأى أنه لا حيلة معها قال لها: قولي لسيدك إني غريب قادم من أميركا.
ولما سمع الرجل العبوس وارتعش، ثم أحدق به وقال: أتتكلم الفرنسية يا سيدي؟
فرد الأميركي بتلك اللغة.
وفي خلال ذلك أشار العبوس بسرعة تلك الإشارات الخاصة بزعماء الأرلنديين فانذهل الأميركي ورد بمثل إشارته، فقال العبوس بالفرنسية: إذن أنت هو الشخص الذي ننتظر قدومه من أميركا فهلم بنا، إذ لم يبق لك حاجة بالدخول إلى هذا المرابي المحتال، فقد أنقذتك يد الاتفاق من شراكه.
40
وسار الاثنان إلى مركز البوليس، فلما وصلا إليه وقف الأميركي بعيدا، وترجل العبوس عن فرسه، ودنا من الباب وطرقه.
وكانت ابنة القاضي قد رأته من النافذة، وأعجبت به كما تقدم فلم تنادي السكرتير بل قامت بنفسها، وفتحت الباب فحياها العبوس أحسن تحية وقال لها: إني أخشى يا سيدتي أن أكون مخطئا، إذ لا يمكن أن تكون فتاة لها ما لك من الجمال، وهي تفتح أبواب السجون.
فسرت الفتاة لهذا الثناء، ورأت عليه ظواهر النبلاء فقالت: إلى أين أنت ذاهب يا سيدي الميلورد؟ - إلى مركز بوليس كليبرن. - لقد وصلت فهذا هو المركز، وما أنت بمخطئ. - إني أريد أن أرى القاضي؟ - هو أبي. - لا شك يا سيدتي أن أباك كثير العجب والافتخار بهذا الجمال الباهر.
فاحمر وجه الفتاة، وأطرقت بنظرها إلى الأرض فقال لها: لدي كتاب يا سيدتي لأبيك من المستر توماس الجن. - أهو ذلك المرابي الذي كادوا يقتلونه ليلة أمس؟ - هو بعينه فاسمحي لي يا سيدتي أن أخبرك من أنا، فإني أدعى اللورد كورنهيل، وأنا مولع منذ أعوام بجميع تواريخ الجرائم وتفاصيلها، فبات لدي منها مجموعة نفيسة. - ولكن أبي غائب الآن.
فظهرت على العبوس علائم الاستياء، غير أن الفتاة استدركت فقالت: إنه يحق لي يا سيدي أن أفتح رسائل أبي، لقد خولني هذا الحق. - إذن خذي واقرئي يا سيدتي.
وأعطاها كتاب التوصية، ففضته وقرأت ما فيه ثم قالت: إذن يجب أن أدعو مستر توبي. - من هو؟ - إنه سكرتير أبي، فإنه يقرأ التوراة في غرفته.
ثم وقفت في باب غرفتها، ونادت السكرتير فرد عليها.
وعادت إلى العبوس وقالت: إنك لو رأيت يا سيدي الميلورد هذا الغلام المنكود لأشفقت عليه كل الشفقة فإنه يشبه الملائكة، وقد أخطأ المستر توماس باتهامه لأنه بريء دون شك، كما اتضح لي من حكايته. - ألعله قص عليك أمره؟ - نعم يا سيدي وقصته محزنة. - حبذا يا سيدتي لو حكيتها لي، فأكتبها في دفتري. - حبا وكرامة.
ثم قصت عليه كل ما علمته من أمر الغلام، حتى إذا أتمت حكايتها قالت: لكني أظن أنهم سينقذونه غدا. - من الذي ينقذه؟ - شخص نبيل من اللوردية، طلبه من المركز.
فارتعش العبوس وقال: أتعرفين اسم هذا اللورد؟ - نعم، فإنه يدعى اللورد بالمير. ثم حكت له كل ما علمته من أبيها عن ذاك اللورد، وعندها أقبل سكرتير أبيها فقالت له: أليس مفتاح السجن معك يا مستر توبي؟ - دون شك. - إذن أعرفك باللورد كورنهيل فإنه واسع الثروة، شديد الولع بجمع أخبار الجرائم، وهو يريد أن يرى الغلام الأرلندي السجين. - إن ذلك محال يا سيدتي. - لماذا؟ - لأن المستر بوث ... - ألا تعلم أن المستر بوث هو أبي؟ - لا أنكر ذلك. - ألا تعلم أنه يستحسن كل ما أفعله؟ - لا أنكر أيضا يا سيدتي ما تقولين، ولكنه ... - حسنا، ماذا؟
واضطرب السكرتير قائلا: لكني أخشى أن يكون حضرة الميلورد يريد إنقاذ الغلام.
وضحك الرجل العبوس، واستاءت الفتاة من السكرتير، وقالت للعبوس: أرجوك يا سيدي أن تعذره فما أخطأ أبي بتلقيبه بالأبله.
وتألم السكرتير من كلامها، وكان يهواها وهي تهزأ به فقال لها: أنت يا سيدتي صاحبة الأمر فمريني أطع، ولو دعت هذه الطاعة إلى طردي. - إذن لا أحملك هذه التبعة فهات المفتاح.
وتنهد السكرتير وأعطاها مفتاح السجن، فأخذته منه وقالت للرجل العبوس: تفضل يا حضرة الميلورد فإني أفتح لك السجن. - وهل أرى الغلام؟ - دون شك فإنه سجين فيه.
ثم مشت أمامه فأخرج الرجل العبوس ورقة مالية من جيبه وأعطاها للسكرتير، وذهب في إثر ابنة القاضي.
41
ووصلا إلى الباب الأول وهو مصفح بالحديد، ففتحته الفتاة وتقدمت إلى الرجل العبوس وبيدها مصباح، فاستوقفها العبوس وكتب في دفتره مذكرة عن الباب الحديدي.
وابتسمت الفتاة لما رأته من غريب أخلاقه، ونزلت أمامه سلما طويلا يبلغ ثلاثين درجة، وهناك انتهت إلى باب حديدي آخر، أشد كثافة من الأول، فتوجع العبوس للغلام المنكود وقال في نفسه: يا ويحهم إنهم زجوه في أعماق السجون، كما يسجنون من يحكم عليه بالإعدام.
وفتحت الفتاة الباب، ودخلت إلى دهليز طويل مظلم وتبعها وقلبه يخفق إشفاقا على هذا الغلام الصغير الذي قدر له أن يبيت جريحا في الحبس، ويؤخذ بجريرة اللصوص.
وبعد أن مشيا في الرواق المظلم بضع خطوات، سمع الفتاة تقول: لا تخف هذا أنا.
ونظر العبوس ورأى الغلام المسكين منطرحا على فراش من القش، ونسي الدور الذي يمثله واغرورقت عيناه بالدموع.
أما رالف فإنه لما سمع صوت الفتاة أنس بها، لأنها هي التي ضمدت جراحه مع الطبيب.
فقالت له: ألا تزال تتألم؟ - قليلا يا سيدتي، ولكني شديد الظمأ.
ثم نظر إليها نظرة الملتمس وقال لها: إنك كريمة يا سيدتي، كما ظهر لي منك فلماذا لا تخرجينني من هذا الحبس المظلم، وتدعينني أبحث عن أمي؟
وعندها دنا الرجل العبوس من الفتاة وسألها: أتسمحين لي يا سيدتي أن أكلم هذا الفتى بلغة بلاده؟
فابتسمت الفتاة وقالت: أليست لغة الأرلنديين والإنكليز واحدة؟ - هو ذاك، ولكن للأرلنديين لغات خاصة تتكلم بها عامتهم، فهل تأذنين لي أن أكلمه بها. - افعل.
ولم يكد العبوس يفوه بالكلمة الأولى حتى صاح الغلام صيحة دهش، وأصغى إلى الحديث كل الإصغاء.
وقال له بتلك اللغة التي لا تفهمها الفتاة: اعلم يا بني أني صديق لأمك التي تبحث عنك وتبكي لبعادك، ولكني سأردك إليها فأصغي إلي الآن.
وكان رالف قد ألف هذه الوعود حتى لم يعد يصدقها، لكنه حين سمع الرجل يكلمه بلغة قومه وثق به.
وجعل الرجل العبوس يحدثه عن أمه، وجميع ما حدث له منذ قدومه إلى لندرا، والفتى مصغ إليه إلى أن أتم حديثه فقال: يجب عليك أن تكون رجلا، وأن تكترث بالصعاب فإنهم سيحاكمونك غدا ؛ لأنك كنت شريك سوزان وويلتون.
وبكى الفتى وقال: أقسم لك بأني لم أكن عالما بما كانوا يريدونه مني. - إني واثق يا بني من براءتك، لكن القضاة لا يصدقون ما تقول.
فقال رالف بلهجة اليأس: رباه إذن أيبقونني في الحبس؟ - نعم، وسينقلونك إلى حبس آخر، وعند ذلك أخلصك من الحبس؛ لذلك يجب عليك أن تصبر إلى غد. - وأمي ألا أراها؟ - ستراها غدا دون شك. - أتعدني وعدا أكيدا يا سيدي؟ - بل أقسم لك يا بني فاطمئن.
وعند ذلك التفت إلى الفتاة وقال لها: لقد أزعجتك يا سيدتي بحديث لم تفهميه. - ولكن ماذا قلت له؟ - أخبرته أنه سيحضر لورد من النبلاء فينقذه من الحبس، ويرده إلى أمه.
وهنا عاد إلى محادثة رالف بلغة قومه فقال: إذا كنت تريد أن ترى أمك يا بني، فاحرص أن تفوه بكلمة مما قلته لك للفتاة.
فابتسم الفتى ابتسام رجل وقال: لا تخف فلا أبوح بحرف.
ثم تمدد على فراش القش الذي خصص له، وعند ذلك خرجت الفتاة من الحبس وتبعها الرجل العبوس.
وبعد هنيهة كان العبوس يمتطي فرسه ويقول: هو ذا المعركة قد نشبت بيني وبين اللورد بالمير وابنته، والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء. ثم ذهب لمقابلة الأميركي الذي كان ينتظره في منعطف الشارع.
42
يوجد في لندرا كثير من عصابات اللصوص، كل عصابة مستقلة عن سواها، غير أن جميع تلك العصابات خاضعة لجمعية واحدة.
ولتلك الجمعية مكان سري تحت الأرض، يجتمع فيه أعضاؤها عند الاقتضاء، وهي مثل المحاكم المنظمة فيها قضاة ومحامون ومنفذون للأحكام الصادرة منها، ولها قانون منظم لا يحيدون عن بنوده، فإذا اتهم أحد اللصوص بخيانة عرضت خيانته على محكمة الجمعية، فإذا صدر الحكم عليه بالإعدام خنقوه في منزله في ليلة حالكة الأديم، وألقوه مكتوف اليدين والرجلين في نهر التيمس أو غير ذلك مما يختارونه من أنواع القتل.
وقد كانت جلسة تلك الجمعية معقودة في تلك الليلة، للحكم غيابيا على سوزان، فإن اسمها كان مسجلا بدفتر اللصوص، وكانت جريحة لا تستطيع الحضور.
فلما التئمت الجلسة قال الرئيس: هل تكامل عدد الأعضاء؟
فعدهم الحاجب وقال: نعم فإنهم اثنا عشر. - أين الشاكي؟
فتقدم لص منهم وقال: أنا هو. وكان ذلك اللص الذي يلقبونه بالعصفور الأزرق.
فقال الرئيس: وأين المحامي؟
فتقدم كرافان صديق ويلتون وسوزان وقال: أنا.
فالتفت الرئيس إلى الأول وقال: تكلم.
فأخذ العصفور الأزرق يثبت للقضاة أن سوزان كانت شريكة لويلتون، وأن ويلتون قد سرق مع عصابته أحد المنازل، فخص نفسه اختلاسا بالقسم الأكبر من القيمة. ولما كانت محكمة اللصوص قد حكمت على ويلتون بتسليمه إلى البوليس. ثم لما كانت سوزان شريكته بالجريمة، فهو يلتمس من المحكمة إبقاء هذه المرأة بين أيدي الجنود الذين يخفرونها، وعدم السعي في إنقاذها.
ولما فرغ من كلامه أذن الرئيس للمحامي أن يتكلم، فأثبت كرافان للقضاة أن سوزان لم تكن شريكة لويلتون في جرائمه، بل كانت له خليلة صادقة خاضعة.
وبعد أن أيد بالبرهان أن ويلتون لم يكن يطلعها على أسراره، وأنها لم يكن لها علم بخديعة ويلتون لرفاقه، طلب من المحكمة تبرئتها، والسعي في إنقاذها من الجنود المحيطة بمنزلها.
وبعد أن سمع الرئيس أقوال الخصم والمحامي اختلى بالأعضاء، فتداول معهم مليا ثم أصدر حكمه ببراءة سوزان، وبضرورة مساعدتها وإنقاذها.
وفيما هم يتداولون في اختيار طريقة صالحة لإنقاذها، سمعوا وقع أقدام على سلم المغارة التي كانوا يجتمعون فيها فذعروا؛ لأنهم لم يكونوا بانتظار أحد ووضع كل يده على خنجره.
ثم دخل هذا الزائر الجديد فهموا بالهجوم عليه، غير أن العصفور الأزرق صاح بهم قائلا: لا تفعلوا فهو منا.
فرد الزائر قائلا: دون ريب.
ثم تقدم مبتسما إلى وسط الحلقة، وكان هذا الزائر الرجل العبوس.
وكان العبوس مرتديا تلك الملابس التي كان يلبسها حين ذهابه إلى الخمارة السوداء، ولم يكن يعرفه بين أولئك اللصوص المجتمعين غير العصفور الأزرق؛ لأنه كان يراه في تلك الخمارة.
وكان اللصوص يحترمون العصفور الأزرق لاشتهاره بينهم، فلم تؤثر عليه خسارة قضيته على سوزان، ووثقوا بما قاله لهم عن العبوس. فمشى العبوس إليهم بقدم ثابتة، وأجال بينهم تلك النظرات الجاذبة. وكان اللصوص ينظرون إليه معجبين بإقدامه خاضعين لنظراته.
وإن للصوص لندرا لغة اصطلاحية كسائر اللصوص، فتقدم العبوس من العصفور الأزرق، وصافحه شاكرا ثم التفت إلى جمعية اللصوص، وخاطب أعضاءها بلغتهم الاصطلاحية فقال: اعلموا أيها الأصدقاء أني قد نهجت قديما في مناهجكم، وامتهنت مهنتكم، وإذا كنت اليوم قد اتخذت غير هذه المهنة، فذاك لأني لقيتها أفضل.
فحدث ضجيج بين أولئك اللصوص، وظهرت عليهم ظواهر الانذهال، إذ لا يعتقدون أنه يوجد مهنة تفضل مهنة اللصوصية.
وعاد العبوس إلى الحديث وقال للرئيس: إنكم حاكمتم سوزان، أليس كذلك؟ - نعم ... - وحكمتم بضرورة إنقاذها؟ - دون ريب.
فنظر إليه كرافان نظرة ارتياب وقال له: ألعلك تريد الاعتراض على هذا الحكم؟ - معاذ الله إني أحب هذه المرأة، وإنما أتيت إليكم من أجلها.
ثم التفت إلى الرئيس وقال: بأية طريقة تريدون إنقاذها؟
فرد الرئيس: بالطريقة التي ألفناها؛ لأن الجنود الذين يخفرونها لا يزيدون عن ثمانية وسنجمع رجالنا، ونطلب إلى الجنود الإفراج عنها حسب العادة فإما ننقذها بالرضى أو بالقوة. - أهذه هي خطتكم في إنقاذها؟ - نعم إنها أسهل خطة. - لكنكم مخطئون ولا تعلمون.
فصاح الجميع بصوت واحد قائلين: لماذا؟ - إني مخبركم بالسبب، وهو أن البوليس في هذه الأيام لا يهتم باللصوص لانصرافه إلى الاهتمام بالأرلنديين، وأنتم تعلمون أن سوزان أرلندية، وقد بلغ البوليس أن لها علائق بالجمعيات الأرلندية السرية، فعزمت الحكومة على تعيين أحد قضاة لندرا لاستنطاقها.
قال الرئيس: متى؟ - غدا.
فقال العصفور الأزرق: ولكنها جريحة، لا يتيسر نقلها إلى مركز القاضي. - القاضي سيحضر بنفسه إليها.
فضحك اللصوص جميعهم وقالوا: إن هذا أعظم تشريف لنا؛ لأنها أول مرة يحضر القضاة شوارعنا.
فقال العبوس: لقد علمتم الآن فرط اهتمام الحكومة بسوزان، لأنها سترسل القاضي إليها، ولفرط خوفها من الأرلنديين عينت مائتي رجل من البوليس السري، يقيمون حول منزلها إلى أن يتم التحقيق في أمرها، ولذلك يتعذر عليكم إنقاذها بالكره؛ لأن الجنود أكثر منكم عددا وخير لكم أن تصبروا إلى الغد.
فقاطعه كرافان قائلا: أية فائدة من الغد، لأنه سيكون مثل اليوم؟ - كلا ، لأن سوزان لا تعلم شيئا مما يصنعه الأرلنديون. فمتى أتاها قاضي التحقيق، وحقق في أمرها يعلم أنها لا علاقة لها بالأرلنديين، وأنها فقط من اللصوص، فيكتفي بالجنود الساهرة عليها، وينصرف رجال البوليس السري إلى شئونهم.
فقال كرافان: إذا كان ما تقوله حقيقة، إني موافق لرأيك. - هي الحقيقة دون ريب.
فقال الرئيس: إذن أنت أرلندي! - هو ما تقول فأنا أريد إنقاذها؛ لأن أخاها من عصبتنا، وأنتم تريدون إنقاذها لأنها منكم. ثم ارتد إلى العصفور الأزرق قائلا: أتعرفني أنت؟ - دون شك، إني لم أنس قتالك مع البحار. - ألك ثقة بي. - إني أتبعك حتى الحبس. - إني لا أكلفك مثل هذا العناء، بل أقتصر على أن ترشدني إلى منزل سوزان. - لكن الجنود هناك لا يأذنون لك بالدخول.
فابتسم العبوس وقال: سوف ترى أني داخل إلى حيث أشاء. - إذن هلم بنا.
فحيا الرجل العبوس اللصوص، وخرج مع العصفور الأزرق، فلما توسطوا الطريق قال له اللص: لا أعلم إذا كانت جمعيتكم أفضل من جمعيتنا، ولكنك إذا دخلت في زمرة اللصوص، ضمنت لك أن تكون الرئيس علينا.
فابتسم العبوس وقال: سوف نرى.
ثم سار الاثنان حتى قدم من منزل سوزان، فدله عليه فودعه العبوس قائلا: لم يعد لي حاجة إليك.
ثم افترقا وذهب العبوس توا إلى المنزل، وكان على الباب أحد أفراد البوليس فمنعه عن الدخول، غير أن العبوس أشار له تلك الإشارات السرية الأرلندية، فانحنى البوليس وأذن له بالدخول. فصعد سلم ذلك المنزل وهو يقول في نفسه: مسكينة إنكلترا فهي تعتقد أنها سيدة العالم، ولا تدري أن عدوها بين جندها، وأن الأرلنديين في كل مكان.
43
كانت ملابس العبوس الظاهرية تدل على الفقر لرثاثتها، فهي ثوب طويل خلق، ولكنه كان يستر تحت هذا الثوب الطويل ملابس أخرى. فلما بدأ بصعود السلم خلع ثوبه الخلق وقلبه وحمله على ساعده، فظهر من تحته بملابس رسمية سوداء، ثم أخرج من جيبه عصا صغيرة من العصي التي يحملها ضباط البوليس.
وإن في لندرا عادة غير موجودة في غيرها من البلاد، وهي أن أشرافها يتطوعون في خدمة البوليس خدمة شرف.
فإذا اتفق حدوث خصام في شارع، وقوي فيه المتخاصمون لكثرة عددهم على البوليس، برز من الناس المتجمهرين واحد أو أكثر من النبلاء، فأخرجوا من جيوبهم تلك العصي القصيرة، وأعانوا البوليس في القبض على المتخاصمين.
وقد كان العبوس مقيما في شارع بال مال، أشهر شوارع لندرا. وكان ظهر بمظهرين، أحدهما سري فيعاشر من عرفناهم، وينتاب المحلات التي تقدم لنا وصفها، والآخر ظاهري فكان يعاشر النبلاء، ويتردد على أفخم الأندية؛ ولذلك كان أحد أولئك الضباط المتطوعين.
ولما وصل إلى باب غرفة سوزان، لقي جنديين واقفين فأراهما العصا، فانحنيا أمامه ودخل، فأشار إلى الجنود الذين كانوا داخل الغرفة، فخرجوا ولم يبق منهم أحد وهم يحسبونه من كبار رجال البوليس، وأنه أتى للتحقيق بأمر الأرلندية.
أما الرجل العبوس، فإنه لما خلا بسوزان قال لها: إني آت من قبل أخيك.
فارتعشت قائلة: ألعلك تعرفه؟ - بل هو صديقي.
فبان على سوزان ظواهر الريبة، وحسبته يريد إغواءها، فابتسم العبوس وقال لها: إني صديقه وسأثبت لك ما قلته.
ثم أخذ يكلمها بلغة أهل الشواطئ الأرلندية عن زمن حداثتها وعيشها العائلي بما لا يعلمه غير أخيها.
وأزال من نفسها كل ريب، وقالت: مر يا سيدي، فقد باتت لي فيك ملء الثقة. - إنك عشت يا سوزان عيشة دعارة وفساد، ولكنك على غوايتك لم تنسي وطنك العزيز. - إني أحب وطني، وأفديه بدمي. - وكذلك أخوك فإنه من أعضاء جمعيتنا السرية، وأنا أحد رؤسائها، وإنما زرتك الآن لأن أرلندا محتاجة إليك. - أتحتاج إلي أنا ومن عسى أن أكون فتحتاج إلي البلاد إني امرأة لصة متهمة بجناية سيحكم علي بأشد عقاب؟ - كلا، إنهم لا يحكمون عليك بشيء فقد اتفق الأرلنديون على إنقاذك. ألست أخت جوهان؟ إن جوهان ورفاقه سينقذونك على أن تخدمي أرلندا الخدمة التي تطلبها إليك. - قل يا سيدي، ماذا تريد أن أصنع؟ - إنك ذهبت بغلام إلى الموضع الذي جرحت فيه.
فغطت سوزان وجهها بيديها وقالت: مسكين هذا الفتى، فقد يكون قضي عليه وذلك ذنب ويلتون لا ذنبي. - إني أعرف ما تعرفينه، وأزيدك إن الغلام لم يمت، ولكنه مسجون وسيأتيك القاضي ويسألك عنه. - إذن أقول الحقيقة، إنه بريء ونحن خدعناه. - وهذا ما أتيت لأجله؛ لأني لا أريد أن تثبتي براءة الفتى. - كيف ذلك؟ - أصغي إلي ...
ثم أخذ يكلمها همسا مدة طويلة، فلم يدرك بما جرى بينهما أحد. ولكنه حين أتم حديثه قالت له: لقد علمت كل قصدك الآن، وسأطيعك في كل ما تريد. - إذن أودعك الآن على أمل اللقاء قريبا، فتشجعي واعلمي أن أرلندا لا تنسى من يخدمها. ثم تركها وانصرف، فودعه الجنود بالاحترام.
ولما سار في الشارع ركب مركبة وسار بها إلى بيكاديللي، وهناك رأى شوكنج واقفا قرب خمارة، فأوقف المركبة وناداه ثم سأله: أين الكاهن والأرلندية والأميركي؟ - إنهم في الكنيسة. - إذن اذهب إلى الأب صموئيل، وقل له إننا سنعقد جلسة في الساعة الثانية بعد نصف الليل. - ألعل الجلسة للمباحثة في شأن رالف؟ - هو ذا فأسرع الآن بالذهاب.
ثم أمر السائق أن يذهب إلى شارع هاي ماركت، وهناك نظر في ساعته، فرأى أنه لا يزال باقيا خمس دقائق لانتصاف الليل، فقال: لقد حان الوقت للذهاب إلى مس ألن، فقد وعدتها أن أزورها حين انتصاف الليل، ولا بد من الوفاء.
44
ولنذكر الآن ما حدث في قصر اللورد بالمير منذ يومين. فإنه منذ دخل الرجل العبوس إلى ذلك المنزل، من نافذه غرفة مس ألن، وخرج منه بالأرلندية، بعد أن صعق تلك الفتاة بنظراته الساحرة. باتت تلك الليلة مضطربة، واجفة القلب. فكانت كالحمامة طاردها البازي فأفلتت منه بعد العناء.
وقد جلست على كرسي، قرب النافذة المفتوحة، إلى أن أشرق الصباح. وهي تفتكر بهذا الرجل الجريء المقدام، خضعت لنظراته هذا الخضوع.
وفيما هي مشردة الفكر شعرت أن باب غرفتها قد فتح، فاضطربت إذ لا يدخل عليها أحد دون استئذان.
ونظرت فرأت أن هذا الداخل هو أبوها، فزاد اضطرابها لما رأته من دلائل غضبه، واختلال ثيابه واتساخها فصاحت تقول: ما هذا الذي أنت فيه وماذا دهاك؟
فقال بصوت يتهدج من الغضب: يا ويح أولئك اللصوص! فقد مكروا بي. - من تعني يا أبي؟ - أولئك الأرلنديون الذين تجاسروا أن يقبضوا على أبيك، ويقيدوه ويلقوه في إحدى زوايا الحديقة، وقد كاد يموت لو لم تنقذه فانوش وخادمتها عند الصباح. - إني أعرف يا أبي الرجل الذي فعل بك هذه الفعال.
فدهش وقال: كيف تعرفيه؟ - إنه جاء أيضا إلى بيتنا؟ - متى؟ - هذه الليلة.
فاضطرب اللورد وقال: أمجنونة أنت أم حالمة؟ - لا هذا ولا ذاك يا أبي، لأن هذا الشخص لم يخرج من هنا إلا بالأرلندية.
ثم قصت عليه ما حدث لها، وكيف أنه دخل من النافذة، ولم تستطع أن تستغيث لتأثير نظراته بها، ولأنه هددها بقتل أبيها إذا لم يعد إلى العصابة في الموعد المعين.
وكان اللورد بالمير واثقا من شجاعة ابنته، فأيقن لما رآه من اضطرابها، أن ذاك الشخص أثر بها تأثيرا عظيما.
وكان لديه طريقتان ينهجهما، وهما إما أن يخبر البوليس على الفور بما جرى له، أو يكتم الأمر ويعهد إلى البوليس أمر التفتيش على الغلام. غير أنه فضل الرأي الأخير؛ لأن ابنته ضغطت عليه.
ومضى على ذلك يومان، وجاء يوم الأحد فقالت مس ألن في نفسها: إن القتال سيكون هائلا بيني وبين ذاك الشخص، ولكني سأكون قوية شديدة بقدر كرهي له وحقدي عليه.
وخرجت بعد ذلك تتنزه على فرسها، فلقيت الرجل العبوس. وأمرت خادمها أن يقتفي أثره، كما قدمنا، وبعد هنيهة رأت خادم العبوس قد دنا منها وأعطاها رسالة. فاضطربت وقالت: لقد بلغ من وقاحته أن يكتب لي.
ثم دفعها الفضول إلى معرفة محتوى الرسالة، فأخذتها من الخادم وقرأتها فاحمر وجهها، وبدت عليها ظواهر الأنفة والاستكبار، لأن الرجل العبوس كتب إليها أنه سيزورها هذه الليلة عند انتصاف الليل.
فمزقت الرسالة قطعا صغيرة وألقتها إلى الأرض، ثم نظرت إلى الخادم وقالت: إذا أردت أن تكون من أهل الثروة، فقل لي من هو الشخص الذي أعطاك الرسالة. - هو سيدي. - أعرف ذلك ولكني أسألك عن اسمه.
فابتسم الخادم وقال: لا أعلم.
أما هي فقد أمسكت كيسا ملؤه الذهب، ودفعته إلى الخادم قائلة: إذا كنت تقول لي عن اسم مولاك وأين يقيم أعطيك ألف جنيه، بل أعطيك ثلاثة أضعاف هذه القيمة إذا صدقت في خدمتي.
فرد الخادم كيسها وقال لها ببرود: مهما بلغت ثروتك فإن سيدي أغنى منك، ومن يخدمه لا يخونه. ثم انحنى أمامها، وأطلق لجواده العنان.
فامتعض وجه الفتاة وقبض القهر نفسها، فعادت إلى منزلها وهي تشبه أهل القنوط.
وهناك وجدت أباها منشرح الصدر طيب النفس، فقال لها حين رآها: أبشري لقد وجد الغلام. - أين وجد، وأين هو؟ - إنه في أحد سجون البوليس، وقد كان القاضي الذي تولى تحقيق أمره عندي الآن. - وماذا جرى؟ - سأذهب غدا إلى ذلك المركز، وأطلب الغلام. وقد اتفقنا أن يرده القاضي إلي.
فهزت الفتاة رأسها وقالت: لماذا لا تطلبه اليوم يا أبي؟ - لأن الصبي وجد بين عصابة لصوص، ولا بد للقاضي من محاكمته علنا، حسب الأصول، قبل أن يرده إلي. وهذا اليوم يوم أحد، لا تشتغل فيه المحاكم. - لكني أخشى غدا أن يكون فات الأوان.
فاندهش اللورد وقال: لماذا؟ - أصغ إلي يا أبي، إني لا أستطيع الزيادة في التصريح. لكن ثق أن أعداءنا ليسوا من اللصوص ولا المتسولين، بل إن رجلا نبيلا واسع الثروة، يثير علينا هذا العداء. - ماذا تعنين بذلك؟ إني لا أفهم شيئا مما تقولين؟
فأخذت الفتاة يد أبيها وقالت: أتثق بي يا أبي؟ - دون شك. - أتصغي؟ - تكلمي. - أتريد أن تعكس السلطة بيني وبينك، فتكون لي سلطة الوالد، ولك امتثال الولد؟
ثم نظرت إليه نظرة غريبة، استدل منها على أن الأمر خطير، ورأى أن الطبيعة قد منحتها سلطانا عليه. فأطرق بنظره إلى الأرض وقال: تكلمي يا ابنتي فسأصنع ما تريدين.
45 - أول ما أبدأ به يا أبي رجاؤك أن لا تسألني عن شيء، وأن تعدني بإجابتي إلى كل ما أسألك إياه. - لقد وعدتك فقولي.
فأخذت مس ألن بيد أبيها، وسارت إلى رواق يصل بين غرفته وغرفتها من إحدى جهتيه، وينتهي من الجهة الأخرى إلى قاعة فسيحة أعدها اللورد لأشغاله. فوقفت في تلك القاعة وقالت له: أريد أن تكون هنا في هذه الليلة، قبل انتصاف الليل بقليل، ويكون معك خادمان وكلكم مسلحون.
فارتعش اللورد، وقال: لماذا؟
ولم تجبه على سؤاله، بل مضت في حديثها فقالت: وينبغي أن تدع باب الغرفة مفتوحا، وتصغي كل الإصغاء. - سأفعل كل ما تريدين ولكن لماذا؟ - أما وعدتني يا أبي أن لا تسألني، واعلم الآن أنك متى سمت دوي غدارة ...
فقاطعها اللورد وقد اصفر وجهه وقال: دوي غدارة؟ - لا تخف يا أبي فأنا سأطلقها. - ولكن لماذا؟ - ألعلك نسيت وعدك يا أبي، فعدت إلى السؤال؟ - حسنا ومتى سمعت دوي الغدارة؟ - تسرع إلي مع الخادمين، وإذا وجدتم باب غرفتي مقفلا اكسروه، وعند ذلك تعلم ما يجب أن تصنع.
ووقفت مس ألن عند هذا الحد، ولم توضح لأبيها كلمة عن قصدها، وتركته مضطرب البال عليها.
وعادت إلى غرفتها، وأمرت وصيفاتها وخادماتها أن لا يدخلن إليها إلا إذا نادتهن.
ثم أقفلت باب غرفتها، وأقامت وحدها فكانت مصفرة الوجه، بادية الاضطراب، ولكن عينيها كانتا تدلان على عزم أكيد.
ومما دل على صدق عزمها، أنها قامت إلى خزانة، ففتحتها وأخرجت منها مسدسا ففحصته ووضعته في جيبها.
ثم فتحت النافذة المشرفة على الحديقة، وهي النافذة التي دخل منها الرجل العبوس، وجلست بقربها وهي تتطلع إلى الحديقة، وتنتظر قدوم الرجل العبوس.
وكانت السماء صافية، والرياح ساكنة والحديقة خاوية، ولكن الوهم كان يمثل لعينيها الرجل العبوس.
وإذا رأت غير شيء ظنته رجلا لا سيما وأنه لا يستطيع الوصول إليها إلا من الحديقة، كما فعل في المرة السابقة.
وأقامت تنتظر ساعة وهي متنبهة كل التنبه، حتى دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، دون أن يحضر حسب الوعد، فوقفت مضطربة وقالت: أيجسر أن يهزأ بي؟
ثم تحولت عن النافذة إلى المستوقد، ولم تكد تخطو خطوة حتى صاحت صيحة ذعر، وجمد الدم في عروقها، واضطربت قدماها حتى أوشكت أن تسقط، ذلك أنها رأت رجلا واقفا ينظر إليها مبتسما، وهو الرجل العبوس.
فحاولت أن تصيح وتستغيث، ولكن لسانها تلجلج، وأرادت أن تمشي فما استطاعت، وهي منذعرة من هذا الرجل لا تعلم كيف دخل إلى غرفتها، وهي مقفلة الأبواب حتى حسبته من عالم الخيال. ثم حلت عقدة لسانها فقالت بصوت مختنق: أهذا أنت؟
فأجابها بلهجة تشف عن أرق العواطف: وعلام العجب يا سيدتي؟ ألم أقل لك إني سأزورك عند نصف الليل، وإنما أتيت إليك لأعلم إذا كنت راضية عني؟
فقالت بلهجة الاستكبار: ومن أي شيء تريد أن أرضى؟ - من صدق وعدي، ألم يعد أبوك حيا؟ - إنك أتيت يا سيدي إلى غرفتي من حيث لا أعلم، فهل تريد أن تخبرني كيف دخلت؟ - إني دخلت من الباب. وأنت ترين يا سيدتي، أن لي أصدقاء في نفس منزلك. - لكنها جرأة نادرة. - هو ما تقولين يا سيدتي، وإني مقترح عليك الآن اقتراحا أحب أن تسمعيه.
فاضطربت الفتاة لنظرات هذا الرجل وقالت له: قل إني مصغية إليك كل الإصغاء. - إن أباك يا سيدتي عازم على أن يطلب غدا من مركز بوليس كليبرن ابن الأرلندية.
فتراجعت منذعرة وقالت: أتعرف هذا أيضا؟ - إني أعرف كل شيء، وأرجوك أن تمنعي أباك عن طلب الفتى.
فردت بعظمة: لماذا تريد أن أمنعه؟
فابتسم قائلا: لأن ذلك يرضيني.
وهنا اتقدت عيناها لمساس كبريائها، والتقى نظرها بنظره فقاومته وقالت: أصغ إلي الآن يا سيدي، فقد آن لي أن أتكلم. - قولي يا سيدتي ما تشائين. - أريد أن أعرف من أنت، ولماذا تجاسرت على الدخول إلى غرفتي.
فرد متهكما: أحقا ما تقولين؟ - إني أمهلك عشر ثوان للتفكير. - وبعد الثواني العشر؟
فأخرجت الفتاة المسدس من جيبها وقالت له: إني بعد ذلك لا أكون مسئولة عن حياتك. ثم شهرت مسدسها عليه وقالت: قل أم أنت مقتول.
وكان العبوس بعيدا عنها، بحيث لا يفيد خنجره فكررت مس ألن قولها: قل أو أطلق عليك النار!
46
على أن العبوس لم يظهر عليه شيء من الخوف ولم ينبس بكلمة، بل وضع يديه فوق صدره وابتسم. فهاجت مس ألن لبسالته واستخفافه، فأطلقت المسدس، فلم يخرج له صوت، فأعادت ست مرات فلم ينطلق رصاص المسدس.
وعند ذلك جرد العبوس خنجره، ووثب إليها فقال: إذا صحت فإني لا أقتلك أنت بل أقتل أباك، فإنه على مسافة خطوتين منا، إذا سمع صياحك حضر في الحال.
وكانت المس ألن باسلة، غير أن ثبات هذا الشخص وخوفها على أبيها حملاها على التسليم، فأرخت نظرها إلى الأرض، وهي ترتعش وقالت له: ماذا تريد مني؟ - أريد أن أحدثك ببعض الشئون.
ثم أخذ بيدها، وأجلسها على كرسي، ولبث واقفا أمامها.
فقال لها: لقد قلت لك يا مس ألن إنه لي أصدقاء في منزلك، ويثبت ما أقوله لك عدم انطلاق المسدس، فقد نزعت يد خفية ما كان فيه من الرصاص.
أما وقد علمت ذلك، فاسمعي الآن ما أقول: إني أتيت لأعرض عليك الحرب أو السلم، فاختاري بين الاثنين.
أما السلم فهو أن ترجعي مع أبيك عن الخطة التي جريتما عليها، وتكفا عن الأعمال التي كثر تداخلكم فيها. فإنكم خنتم أرلندا وأنتم منها، فارتكبتم أعظم شطط.
إن أباك يا مس ألن لم يقتصر على خيانة أرلندا، بل إنه خان أخاه ودفعه بيده إلى الموت.
فقد وقع هذا التقريع في نفس الفتاة وقالت: إن أبي من الإنكليز. - ولكن أباه من زعماء الأرلنديين. وهو حر أن يكون كما يشاء، غير أنكم إذا رضيتم الصلح بقي أبوك غنيا شريفا عضوا في البرلمان.
فقالت بلهجة المتهكم: أتأذن له بالبقاء في البرلمان؟
فلم يكترث لتهكمها وقال: نعم، ونصفح أيضا عما جناه على أخيه. وفي مقابل ذلك ترجعان عن غاية الاستيلاء على ابن عمك السير أدموند، لأنه الزعيم الوحيد الذي تنتظره أرلندا بجملتها بصبر وثبات أن يبلغ العشرين من عمره، ليتولى رئاستها فقد عقدت كل رجائها عليه.
فقالت متهكمة أيضا: أهذه شروط السلم؟ - نعم يا سيدتي. - إني كنت أجهل من أنت حتى الساعة، أما الآن فقد علمت أنك أحد زعماء هذه الجمعية الأرلندية التي تريد أن تحارب إنكلترا، وليس بين أعضائها غير اللصوص. - ربما.
فتشجعت الفتاة وقالت: لقد عرفنا بشروط السلم، فهات شروط الحرب. - هي أن ترجعوا عن المطالبة بالغلام، وعن المداخلة في أي شأن من شئون أرلندا.
واتقدت عينا الفتاة ببارق دل على أنفتها واستكبارها وقالت: إذن نختار الحرب، وستكون هائلة بيننا.
فقال لها ببرود: أستودعك الله يا سيدتي، وليكن ما تريدين. - بل قل إلى اللقاء، فلا بد أن نلتقي. - هو ما تقولين.
ثم أسرع إلى النافذة المفتوحة، ووثب منها إلى الحديقة، وتوارى عن الأبصار. •••
بعد ذلك بساعة كان الرجل العبوس حاضرا في جلسة عقدها الكاهن وزعماء الأرلنديين الثلاثة، لأن الرابع لم يعرفوا مقره، وكان حاضرا في تلك الجلسة الأرلندية والدة الغلام، فقال لهم الرجل العبوس: اعلموا يا سادتي أن رجلا عظيما سيطلب غدا أن يأخذ الغلام، وهو اللورد بالمير.
فاضطربت الأرلندية وقالت: ولكني أنا أسبق إلى طلبه فيردوه إلي، وهو ولدي. - كلا أيتها العزيزة فإنك أرلندية وابنك متهم بسرقة فلا يردونه إليك بخلاف اللورد، فهو من أعيان الإنكليز فيربى في منزل ذلك الخائن، وينشأ على احتقار وطنه، أتريدين أن ينشأ مواليا للإنكليز؟
فاتقدت عيناها وقالت: كلا والله بل أوثر ألف مرة أن يموت. - كلا إنه لا يموت، بل سأرده إليك. - متى؟ - متى نقلوه إلى سجن الطاحون.
فنظرت إليه نظرة قلق المرتاب وقالت: كيف ذلك يا سيدي، أتستطيع أن تفتح أبواب السجون؟
فأجابها بلهجة الواثق المطمئن: إني أستطيع كل ما أريده يا سيدتي فاطمئني.
وقال لها الكاهن عند ذلك: تذكري يا ابنتي كلام زوجك الأخير وكوني قوية. - سأكون.
فقال لها الرجل العبوس: سنلتقي غدا في مركز البوليس، وسأعلمك ما يجب أن تقوليه.
ثم نهض فقال: إن شهادة سوزان وحنة كافيتان لمنع اللورد من الاستيلاء على الغلام. •••
وفي اليوم التالي كان قاضي مركز كليبرن في منزله مع ابنته، يتناول طعام الصباح فقالت له ابنته: إذن سترد الفتى اليوم للورد بالمير. - نعم يا ابنتي، ولكن حصلت مشكلة جديدة أخشى منها، وهي أن سوزان الأرلندية سئلت أمس عن الفتى فقالت: إن أمه قد وضعته عندها ليتعلم، ولما كانت هذه الفتاة من اللصوص فقد باتت الجريمة ثابتة عليه؟ - وماذا تفيد شهادة المرأة، إذا كان مثل هذا اللورد النبيل يطلبه؟ - هو ما تقولين فإني لا أحفل بشهادة هذه المرأة إذا جاء اللورد، ولكن إذا جاءت أم الفتى فلا بد لي عن سؤالها، فإذا وافق كلامها كلام سوزان، لم يبق سبيل لرد الفتى إلى اللورد.
وعند ذلك جاء سكرتير القاضي وقال: قد دنت الساعة العاشرة يا سيدي، فهل أفتح باب المحكمة ويدخل الناس؟ - نعم، افتحه وها أنا قادم في الحال.
وانصرف السكرتير وقام القاضي، فلبس رداء أسود ووشاحا أزرق، ودخل إلى المحكمة وجلس في مجلسه، وكانت القاعة قد غصت بالحضور، فأمر القاضي أن يحضر الفتى السجين فأحضروه وقال له: ماذا تدعى؟ - رالف. - أأنت أرلندي؟ - نعم يا سيدي. - أين أهلك؟
وبدأ الفتى بحكاية ما جرى له غير أن القاضي أسكته بإشارة، والتفت إلى الحضور فقال: أيوجد بينكم من يرضى أن يضمن هذا الفتى؟
فخرج اللورد بالمير من بين الجمهور ودنا من القاضي وقال له: أنا أضمنه.
فسأله القاضي قائلا: أتعرف هذا الفتى! - نعم.
فقال للفتى: وأنت أتعرف اللورد؟ - كلا. - لا بأس إن حضرة اللورد، قد تنازل إلى ضمانتك.
وكان الفتى عند ذلك يجيل نظره بين الحضور، فصاح صيحة أجيب بمثلها ومد يديه فقال: يا أمي.
وأسرعت أمه إليه وقالت: ها أنا يا ولدي لا تخف.
وعند ذلك أوقفها القاضي قائلا لها: من أنت أيتها المرأة. - إني أدعى حنة، والدة الفتى.
وصادق اللورد على كلامها، وقال لها القاضي ببرود: إن النظام يقضي علي أن أسألك فاحذري مما ستقولينه، فإن على كلامك تتوقف حرية ولدك الذي يطلبه حضرة اللورد.
فاضطربت حنة وقالت له: إذ كان لا بد يا سيدي من تسليم ولدي لهذا اللورد، فإني ألتمس منك أن تبعث به إلى السجن، فإن هذا اللورد يحاول إغوائي، وهو يرجو أن يظفر بي متى ظفر بولدي.
فضج الناس لهذا القول الغريب وقال اللورد: إن هذه المرأة كاذبة.
إلا أن كلامه ضاع بين ضجيج الناس، ولم يحفلوا به ومالوا إلى تصديق الأرلندية ، فإن المرء بالطبع ميال إلى الضعيف.
ولما رأى القاضي سوء منقلب اللورد، قال للأرلندية: أتعترفين أيتها المرأة أنك أم هذا الفتى؟ - نعم. - أتعرفين امرأة أرلندية تدعى سوزان؟ - إنها صديقة لي، وهي من بلدي. - أأنت أودعت عندها ولدك كما تقول؟ - نعم.
فتلا القاضي عند ذلك إقرار سوزان، ثم أصدر حكمه على رالف بالحبس خمسة أعوام في سجن الطاحون، فصاحت أمه صيحة عظيمة، وسقطت مغميا عليها بين يدي الرجل العبوس.
وبعد هنيهة استفاقت فخرج بها وهو يقول: لقد فزنا اليوم أعظم فوز بإنقاذه من اللورد وسأنقذه قريبا من السجن.
47
إذا ذكر حبس الطاحون أمام الناس يعتبرونه حبسا عاديا، فلا يخامر قلوبهم شيء من الرعب، ولكن من عرف هذا الحبس ترتعد فرائصه خوفا، وتسيل نفسه إشفاقا على من حكم عليه نكد الطالع بالسجن فيه.
إن هذا السجن يسمى بالطاحون؛ لأنه يشبه الطواحين والنواعير بما أعد فيه من الآلات وذلك أنه يوجد فيه عمود طويل، ركبت فيه صناديق فارغة على الجانبين وفيه لولب يدار فتدور الصناديق الفارغة من الأعلى إلى الأسفل، كما تدور الصناديق في النواعير.
ويقابل هذه الصناديق خشبة ثابتة، لا تتحرك يمسك بها المحكوم عليه بالأشغال، وتبقى رجلاه في الفضاء فيسندهما إلى أحد الصناديق التماسا للراحة، غير أن هذه الطاحونة تدور، فإذا دار الصندوق هوت رجلاه، فأسندها إلى صندوق آخر فيهوي أيضا، وهكذا لا تزال الصناديق تدور ورجلاه تعلقان بها وتفلتان منها، فيكون مثل رجليه في هذه الطاحونة مثل الماء في صناديق النواعير، وهو لا يستطيع أن يوقف هذه الحركة، فإذا أوقف رجليه قبل أن تقف الطاحونة، مرت بهما الصنادينق في دورانها فكسرتهما.
ويستمر عقاب هذا المنكود على ما قدمناه ربع ساعة فيوقف السجان الطاحونة، فينزل المحبوس ويأتي بمحبوس آخر يعاقبه نفس العقاب.
هذا هو الحبس الهائل المخيف الذي سيق إليه الولد الصغير، وحكم عليه بالتعذيب فيه على هذه الطريقة المرعبة خمسة أعوام، تكفيرا عن ذنب لم تقترفه يداه.
وكان هذا الحبس قديما جدا يديره حاكم خاص وقائد من الجيش، وكانت الحكومة شارعة ببناء سواه بدلا منه في نفس مكانه، فلا تهدم مكانا حتى تبني حبسا سواه.
وكان لهذا الحبس مأموران: أحدهما للداخل، والآخر لحراسة الباب الخارجي الذي يدخل منه أهل المحبوسين لمشاهدتهم.
وهذا المأمور أرلندي الأصل كاثوليكي المذهب، ولكنه كان يتشيع للإنكليز بالظاهر تشيعا عظيما وهو أرلندي النزعة في الباطن، فلم يكن أحد من الإنكليز يظن أنه من الأرلنديين.
وكان الباب الذي يتولى حراسته مشرفا على الشارع، ففي اليوم الذي دخل فيه الولد إلى الحبس جاء إلى هذا المأمور رجل عليه دلائل الفقر المدقع فحياه تحية الأهل وناداه بابن عمه فأجفل المأمور - واسمه المستر بين - لظواهر فقره وقال له: من أنت، وكي تدعوني ابن عمك؟ - إني أدعوك بابن عمي لأني أدعى جوهن كولدن.
فحدق به المأمور مليا وقال: لقد أصبت فلقد تبدلت تبدلا عظيما من عشرين عاما فما عرفتك، ثم مد يده وصافحه وقال له: ماذا أتيت تعمل هنا؟ - إذا أردت الحقيقة يا ابن عمي العزيز، فإني آت لأراك.
فامتعض المأمور لما رآه من ظواهر فقره ولكنه كان طاهر القلب طيب السريرة فقال: أرى من ملابسك ما يدل على فقرك ولكني فقير مثلك، فإن لي امرأة وبنتين وراتبي الصغير لا يكاد يفي بحاجتهم.
فابتسم جوهن وقال: إني أعلم ما أنت عليه فما أتيت أسألك مالا، بل ألتمس مساعدتك في أمر لا يؤذيك بشيء. - قل أيها القريب فإننا أبناء أخوين. - هو ذاك ونحن أيضا أرلنديان. - اخفض صوتك فليس من يعرف هنا أنني من الأرلنديين. - لقد أحسنت في تنكرك فقد ساءت سمعة الأرلنديين في هذه الأيام وبات الإنكليز ينظرون إليهم بعين الجفاء. - يسرني أن أراك ترتئي رأيي. - كما يسوءني أن العامل الأرلندي لم يعد في وسعه أن يجد عملا يرتزق به في هذه العاصمة الواسعة لما يجده من جفاء الإنكليز، فقد مر بي شهر كامل لم أعمل فيه عملا على فرط اهتمامي بإيجاد عمل. - ما هي مهنتك؟ - إني إسكافي وبناء، ولكني أفضل مهنة البناء لمكاسبها، لهذا أتيت إليك راجيا إدخالي بين العمال الذين يشتغلون في بناء السجن الجديد. - إن ذلك سهل ميسور، لكن يجب علي أن أخبرك بحسنات هذه المهنة وسيئاتها في هذا السجن، أما الحسنات فهي أن من يشتغل في قسم منه لا يخرج! - عجبا كيف ذلك؟! - ذلك أنهم لم يقتصروا على بناء سجن جديد، بل إنهم يصلحون أيضا القديم، وفي نظام السجون أن المسجونين لا ينبغي أن يكون لهم علاقة مع أحد خارج السجن، فإذا كان البناء يشتغل في ترميم الحبس القديم فلا بد له من الاختلاط مع المسجونين، فإذا أذنوا للعامل أن يخرج من الحبس قبل انتهاء العمل فقد يحمل كلاما أو رسالة من أحدهم إلى أهله أو عصابته فيسهلون له سبيل الفرار. - أيشتغل جميع العمال في الحبس القديم؟ - كلا، بل بعضهم، وطريقتهم في ذلك أنهم يجمعون كل العمال كل يوم سبت ويقترعون على العدد الذي يحتاجون إليهم في الحبس القديم، ومن أصابته القرعة فلا بد له من الامتثال، وإنما يقترعون، إذ لا يوجد بينهم من يرضى بالاشتغال بالحبس القديم، وعند ذلك يصبح هذا العامل كواحد من المحابيس. - ولكن أيكون حبسه طويلا؟ - كلا، بل يقيم فيه ثمانية أيام، فينزعون ثيابه عند دخوله ويلبسونه ثياب الحبس، فإذا انتهى الأسبوع فتشوه تفتيشا دقيقا، وأعادوا إليه ثيابه ويعود إلى الاشتغال بالقسم الجديد، وهناك تطلق له الحرية. - إني لا آسف إذا أصابتني القرعة، إذ ليس لي امرأة وبنون. - حسنا، قد تصيبك القرعة كل مدة اشتغالك؟ - ذلك سيان عندي بشرط أن أشتغل. - إذن سأدخلك بين العمال، غير أنه بقي لي شرط آخر، وهو أنه يجب أن تنكر جنسيتك كما أنكرتها فإنهم لا يقبلون الأرلنديين، وفوق ذلك سأقول لمدير الأشغال إنك ابن عمي تسهيلا لقبولك. - أقسم لك إني سأدعي أني إنكليزي بحت، متى تقدمني للمدير؟ - هذه الليلة بين الساعة الثامنة والتاسعة، فاذهب الآن وعد إلي في الموعد المعين.
وعند ذاك افترقا فودعه جوهان كولدن، وسار حتى انتهى إلى خمارة فدخل إليها وهناك لقي العصفور الأزرق بانتظاره فقال له: ماذا فعلت؟ - إنهم يدخلونني غدا في الخدمة. - إذن سأخبرك عن العوائد المألوفة في ذلك السجن، فإنك شقيق سوزان وقد وجبت علينا خدمتك، والآن أتعلم أنهم سينقذون سوزان هذه الليلة بمساعي الرجل العبوس؟
ثم أظهر إعجابه به وقال: حبذا لو رضي هذا الرجل أن يكون منا، فإنه يتولى رئاستنا المطلقة.
وقاطعه جوهان قائلا: لنتكلم الآن عن حبس الطاحون.
48
في يوم السبت من ذلك الأسبوع الذي جرت فيه الحوادث المتقدمة، دقت الساعة الثانية في سجن الطاحون، وقرع الجرس الكبير الخاص بالذين يعملون في الحبس الجديد.
وكان الحبس القديم في الجهة الغربية، والحبس الجديد في الجهة الشمالية، وكانوا يعملون فيه ببطء، وكلما بنوا غرفة من الجديد، هدموا غرفة تماثلها من القديم.
وكان كلا الحبسين محاط بسور عظيم ليس له غير باب واحد، وهو الباب الذي يتولى خفارته ابن عم جوهان كولدن، ومن هذا الباب يدخل صباحا جميع العمال، فيفتشهم المأمور تفتيشا دقيقا حذرا من أن يدخلوا إلى السجن أشياء ممنوع إدخالها.
وبعد أن يدخل العمال من الباب الخارجي، يجدون قاعة فسيحة لها بابان من الحديد، أحدهما يؤدي إلى الحبس القديم حيث يحبس المسجونون، والآخر يؤدي إلى الحبس الجديد الذي كانوا يشتغلون فيه.
وكان الجرس يدق مؤذنا بالساعة التي يرتاح فيها العمال، فامتنعوا عند سماعه عن العمل واجتمعوا وجعلوا يتحدثون ويتنادمون إلى أن ينقضي وقت الراحة.
وكان واحد منهم جالسا بينهم، ولكنه لا يحدث أحدا، فالتفت أحدهم إلى رفيق له وسأله: من هذا العامل؟ - إنه عامل جديد دخل في صباح اليوم. - ماذا يدعى؟ - جوهان، وقد أدخله مأمور الحبس الجديد، وهو من أهله كما يقول. - إذن حبذا لو أصابته القرعة بدلا مني. - إني أراك شديد الخوف من هذه القرعة وتظهر اضطرابك منها في كل أسبوع في حين أنك كنت أسعد العمال، فإنك تعمل في هذا الحبس منذ عامين ولم تصبك القرعة غير واحدة فلماذا هذا الخوف؟ - إني لا أخاف على نفسي أيها الصديق وسيان عندي أن أبيت في المنزل أو في الحبس. - إذن على من تخاف؟ - ألعلك متزوج؟ - كلا. - إذن أعذرك إذا أنكرت علي الخوف من البقاء في الحبس ثمانية أيام.
فأجابه آخر كان يسمع الحديث: لقد اتضحت الآن أسباب خوفك فإنك متزوج بامرأة حسناء تغار عليها. - لقد أصبتم، فلقد كان لي امرأة حسناء وكنت أغار عليها كما يغار كل متزوج على زوجته. ثم تنهد وتابع: ولكن امرأتي قد ماتت وا أسفاه.
قالوا: إذن على من تخاف بعد موتها؟ - أخاف على بنتها وبنتي فإنها في ريعان الصبا والجمال، وهي تعمل في أحد المخازن فأذهب بها صباح كل يوم إلى ذلك المخزن وأعود بها منه في المساء، فإذا غبت عنها ثمانية أيام فماذا يصيبها وأهل الدعارة تغص بهم شوارع لندرا؟
وعند ذلك تقدم جوهان كولدن فاختلط بين العمال وقال لذلك الذي يخاف أن تصيبه القرعة: إني هنا أيها الرفيق منذ هذا الصباح فلم تستحكم الصلة بيني وبينكم بعد، غير أن حديثك أثر بي وأنا رجل عازب وليس لي عائلة، فإذا أصابتك القرعة دخلت إلى الحبس القديم مكانك.
فمد الرجل يده إليه وصافحه شاكرا وأثنى جميع العمال على ما أظهره جوهان من المروءة.
وعند ذلك فتح باب كبير ودخل منه رجل كبير ضخم فسكت المتحدثون واتجهت الأنظار إليه، فإنه كان يحمل كيسا مملوءا بالكرات الصغيرة المنمرة.
ودنا جوهان كولدن من والد الفتاة وقال له: كيف يكون عادة الاقتراع؟ - انظر إلى هذا الرجل الذي دخل الآن، إنه مدير الأعمال وهذا الكيس الذي معه يحتوي على كرات خشبية بقدر عدد العمال، وهي نمر متسلسلة من الواحد إلى آخر ما يبلغ إليه عددنا وسيقترب كل واحد منا فيهز الكيس ويأخذ نمرة من النمر، وبعد تفريق النمر ينادي المدير مبتدئا من نمرة واحد فإذا كانوا يحتاجون مثلا إلى خمسة عشر عاملا ينادي من نمرة واحد إلى نمرة خمسة عشر، ومن كان معه أحد هذه النمر أصابته القرعة ودخل إلى الحبس العتيق. - لقد فهمت فاجعل وقوفك بجانبي حتى إذا رأيت أن القرعة أصابتك أعطيتني نمرتك وأخذت نمرتي.
وتأثر الرجل وقال: أحقا أنك تحل محلي إذا أصابتني القرعة؟ - دون شك. - ولكنك لم تعرفني قبل اليوم فما دفعك إلى هذا الصنيع؟ - لم يحملني عليه غير تأثري من حكايتك وإشفاقي على ابنتك من أن تنالها يد الأشرار، وأنا وحيد شريد، لا فرق عندي بين أن أكون سجينا أو مطلقا.
فشكره الرجل شكرا جزيلا.
وقاطعهما عند ذلك مدير العمال فقال لهم بصوت جهوري إني مخبركم يا إخواني بخبر سيئ، وهو أنه تهدم حائط في الحبس القديم، ويلزم لإصلاحه كثير من العمال، لذلك سيزيد عدد الذين تقع عليهم القرعة اليوم عن مثله في كل أسبوع.
وجعل كل من العمال ينظر إلى الآخر نظرات تشف عن اضطرابهم، ثم عاد المدير إلى الحديث فقال: إننا محتاجون إلى خمسة عشر عاملا، أي بزيادة عشر عمال عن العدد المألوف، فتشجعوا أيها الإخوان وهلموا إلى النمر فإنه أسبوع يمضي كما مر سواه.
وكان عدد العمال مائة وستصيب القرعة ربعهم، فاصطفوا صفا طويلا وجعل المدير يمر بهم، فيمد كل منهم يده إلى الكيس، ويأخذ نمرة فكان بعضهم ينظر إلى نمرته ليطمئن، وبعضهم يبقونها في أيديهم دون أن ينظروا إليها.
أما والد الفتاة فلم يطق الصبر، ونظر إلى نمرته فاصفر وجهه؛ لأنها كانت ثلاثة وخشي أن تكون نمرة كولدن قريبة أيضا.
ولما أخذ جوهان كولدن نمرته نظر فيها، وابتسم ثم دنا من والد الفتاة وقال له: ما هي نمرتك؟ - ثلاثة وا أسفاه.
فأبرقت عينا جوهان ببارق الرجاء وقال: لا بأس هات نمرتك، وخذ نمرتي فإنها تجاوزت عدد خمسة وعشرين وهي 69 وقبل والد الفتاة شاكرا، وتبادل الاثنان النمرتين.
ولما فرغ المدير من توزيع النمر جعل يناديهم بالأعداد، مبتدئا من الواحد إلى الخمسة وعشرين، فكان كل واحد معه نمرة من هذه النمر، يلبي النداء حتى تكامل عددهم، فسيقوا جميعهم اثنين اثنين إلى السجن الداخلي.
وكانوا يمرون جميعهم بالمعامل المختلفة، كالحدادة والنجارة حيث يعمل فيها الذين حكم عليهم أحكاما خفيفة من المسجونين.
ثم اجتازوا إلى الحبس حيث يقيم المسجونون الذين حكم عليهم بالتعذيب بالطاحونة على ما قدمناه، فانقبض جوهان حين علم أن هذا الصغير المنكود سيعاقب هذا العقاب الشاق .
49
والآن لنعد إلى حيث ذهبوا برالف إلى الحبس، وهو ذلك الغلام الذي يقول التاريخ إن آمال أرلندا كانت معلقة عليه، فإنهم ساروا به في مركبة المجرمين، في اليوم التالي للحكم عليه، وكان قد جاءه أحد رجال البوليس فحمله ووضعه في المركبة، فلم يبال بعد أن فرقوا بينه وبين أمه بأي سجن يكون.
ولم يكن رأى ذلك البوليس قبل الآن، ولكنه ارتعش ارتعاشا عظيما، حين سمعه يهمس في أذنه فيقول: «لا تخف يا بني، إن أمك وأصدقاءها ساهرون عليك.»
وكان همس في أذنه الكلام، بتلك اللغة الخاصة التي كلمه بها اللورد كورنهيل في الحبس، حتى لقد خيل للغلام أن صوت الاثنين واحد، لكنه حدق تحديقا طويلا بالبوليس، فلم يجد به أقل شبه باللورد، ومع ذلك فإن الرجاء ملأ قلبه الصغير؛ لأن هذا الرجل كلمه عن أمه وبلغة قومه.
وسارت به المركبة من مركز إلى مركز، وكلما وقفت عند مركز ينقلون إليها المحكوم عليهم بسجن الطاحونة.
حتى وصلت إلى ذلك السجن الرهيب فخرج منها البوليس، وأخرج منها الغلام فقال له بصوت خشن: امش.
غير أن قسوته لم ترهبه، فمشى بقدم ثابتة غير هياب.
ودخل البوليس برالف إلى رئيس السجن ففتح سجلا أمامه وجعل يسأل الأسئلة المألوفة، فكان البوليس يجيبه فيذكر اسم الفتى وعمره والجريمة التي ارتكبها والحكم الذي صدر عليه.
ولما أتم الرئيس الكتابة جعل ينظر إلى البوليس نظر الفاحص ثم قال: إني لم أرك قبل الآن.
فأجابه البوليس بسكينة: لقد أصبت يا سيدي فهذا أول يوم توليت فيه هذه الخدمة. - كيف ذلك؟ ألعل مستر لنتون مريض؟ - هو ما تقول يا سيدي، وإنك لم ترني قبل الآن لأني كنت بوليسا في الأقاليم، وقد دعوني إلى العاصمة منذ يومين. - أين كت في الأقاليم؟ - في منشتر وكنت أخدم فيها السجون أيضا. - حسنا. هات سواه. - لي كلمة أيضا يا سيدي أمرني قاضي المركز أن أقولها لك، وهي أن اللص الصغير جريح في كتفه، وهو يرجوك أن لا تعاقبه بالطاحونة قبل أن يشفى من جراحه، ولا يقتضي ذلك غير بضعة أيام. - ليس ذلك من شأني، بل هو شأن الطبيب وسنعرضه للفحص غدا.
في صباح اليوم التالي دخل رئيس الحراس والطبيب إلى الغرفة المسجون فيها الفتى، فقال له الرئيس بلهجة عنيفة قف أيها اللص احتراما للطبيب فإنه قادم لفحصك.
فلم يخف رالف من تلك اللهجة القاسية لارتياحه إلى ذلك الصوت، واقترب الطبيب منه وقال: أهذا هو الفتى الذي سرق صندوق توماس الجن؟
ثم جعل ينظر إليه ويقول: إنه جميل الوجه ومن الحيف أن يكون من اللصوص.
ثم اقترب منه وجعل يبحث في جرحه بقسوة دعت رالف إلى الصياح من الألم.
وقال له الرئيس: إني أراه جريحا لا يستطيع عمل شيء ولا أدري كيف خطر للقاضي أن يحكم عليه بالطاحونة وهو لم يبلغ عشرة أعوام. - لا أنكر أنه جريح، لكن الرصاصة خرجت من كتفه وليس هناك خطر فقد اندمل الجرح.
ثم جعل يهز كتف الفتى بعنف إثباتا لقوله ويقول: لم يبق من الجرح غير الأثر القليل وسيزول الأثر بعد أسبوع. - وفي تلك المدة ألا ترى أنه يجب وضعه في المستشفى؟ - لا حاجة إلى ذلك فإنه معافى.
فتجهم وجه الرئيس وحاول أن يعترض، غير أن الطبيب قاطعه قائلا: لقد قلت لك إنه لا فائدة من ذلك فإن اللص الصغير يستطيع العمل. - أيعمل اليوم؟! - نعم.
فتنهد الرئيس وخشي الطبيب أن يتهمه بالقسوة فقال له: إني كثير الرأفة ولذلك عينت رئيسا لنادي الرحمة بالإنسان، غير أن القسوة في موضعها رأفة ولا يحسن الرأفة باللصوص.
ثم خرج من غرفة رالف وتبعه الرئيس وأقفل الباب وبقي رالف وحده نحو ساعة.
وبعد ذلك فتح الباب فحسب الفتى أن البوليس قد فتحه، ولكنه رأى حارسين من حراس الحبس دخلا إليه وبيد أحدهما شهادة من الطبيب أن الفتى معافى يستطيع العمل وجرداه من ثيابه وألبساه ثياب السجن وذهبا به إلى محل العمل.
وفي ذلك الحين خرج رئيس الحرس من الحبس، وسار في الشارع حتى انتهى إلى خمارة، فدخل إليها ورأى رجلا يشرب فيها، وكان هو الرجل العبوس، فحياه تحية سرية ثم جلس وجعلا يتحدثان باللغة الأرلندية الاصطلاحية، فسأله الرجل العبوس قائلا: أين الفتى الآن أنقلتموه إلى المستشفى؟ - كلا، بل في حبس الطاحونة.
فاصفر وجه الرجل العبوس، وقال رئيس الحراس إن الطبيب لا رحمة في قلبه فإنه واسع الثروة كثير الحرص فلو ولي القضاء لحكم بالإعدام على من يسرق درهما.
فقال له الرجل العبوس: لقد فسدت خطتنا فإنها مبنية على اعتبار أن الفتى في المستشفى. - دون شك. - وهل هو في قاعة الطاحون. - نعم، وليس في تلك القاعة من أعتمد عليه. - ألعل قاعة الطاحون بعيدة عن المستشفى؟ - كلا. - أيستطيع العمال أن يدخلوا إلى تلك القاعة؟
فارتعش الرئيس، وقال لقد خطر لي خاطر، وهو أن الجدار الفاصل بين هذه القاعة وبين محل العمال غير متين. - متى يسقط؟ - حين أريد. - إذن احرص أن لا يكون ذلك قبل يوم السبت، إذ سيدخل في اليوم بين العمال واحد من إخواننا.
فقال الرئيس: لينقذ الله أرلندا.
ثم جعل الاثنان يتحدثان بصوت منخفض.
وكان رئيس الحراس، واسمه باردل، يكلم الرجل العبوس بملء الاحترام، ويخضع له الخضوع التام.
وذلك لأنه كان من أعضاء الجمعية الأرلندية السرية، التي كان الرجل العبوس أحد زعمائها. وهي جمعية كانت في ذلك العهد عظيمة، تضطرب لها إنكلترا. ولا تزال أسرارها خفية لأن التاريخ لم يكشف إلا القليل منها إلى الآن.
ومن أسرار هذه الجمعية أن أعضاءها لم يكونوا يتعارفون إلا بالإشارات السرية والكلمات الاصطلاحية التي كانت تتغير مرة كل شهر.
وكان السبب في تعارف الرجلين، أنه حين حكم على رالف، تنكر العبوس بالملابس التي كان يلبسها حين كان يدعو نفسه اللورد كرونهيل، وذهب إلى ذلك الحبس قبل أن يرسلوا الفتى إليه، بحجة أنه مولع بجمع أخبار الجرائم.
ودخل إلى المستشفى ومحلات العمل، وفحص جميع السجن فحصا دقيقا ما خلا قاعة الطاحون قائلا: إنه سيعود إليها مرة أخرى.
وكان غرضه من زيارة هذا الحبس، أن يبحث عن الموظفين فيه إذ كان يعلم أنه يوجد بينهم كثير من الأرلنديين، كما كان يوجد بين البوليس.
فجعل ينتقل من قاعة إلى قاعة، ويتفحص الموظفين بالإشارة. إلى أن مر برئيس الحراس وأشار له تلك الإشارة، وأجابه بمثلها فسر العبوس، وسأله الاختلاء به.
ولما اختليا أشار إليه إشارة الرؤساء، فانحنى باردل وقال: مر أيها الرئيس بما تشاء فإني من المطيعين. - لا أستطيع أن أقول لك شيئا هنا، كي لا أنبه الظنون. فإذا رأيتني خرجت من الحبس، فاخرج منه بعد ساعة ووافني في الحال إلى أول خمارة في الشارع. - سأكون عندك في الموعد المعين.
وبعد ساعة اجتمع الاثنان في الخمارة فقال العبوس: ألا يوجد في دائرة نفوذك أحد من إخواننا؟ - كلا. - أحتى من المسجونين؟ - كلا. - ولكني علمت أن مأمور الباب الخارجي أرلندي. - هو ذاك. ولكنه كثير البنين، شديد الفقر، وهو يحرص على منصبه كل الحرص. وقد يبيع، في سبيل الاحتفاظ به، أرلندا والأرلنديين. - بأية طريقة نستطيع إدخال العمال الأحرار إلى حبس الطاحون؟ - لدي طريقة سهلة وهي أن الطاحونة الكبيرة تمر حين دورانها بأحد جدران القاعة، وقد بات متداعيا إلى السقوط. فإذا وقفت تلك الآلة فجأة، صدمت الحائط صدمة عنيفة، فيسقط دون شك. - كيف توقفها؟ - إني أضع في سبيل دورانها قطعة من الحديد، فإذا مرت بها تفككت وصدمت الحائط تلك الصدمة. - حسنا اسمع الآن خطتي إنه يوجد بين العمال الذين يدخلون حبس الطاحون عامل من إخواننا، أتراه يكفي لإنقاذ الغلام؟ - قد يكفي. وذلك أن العمال حين يدخلون هذا الحبس، يعاملون نفس معاملة المسجونين، ما عدا الطعام. فيحبس كل منهم في غرفة حين المساء. فإذا سقط حائط الطاحونة، فلا بد لهؤلاء العمال من المبيت في الرواق المجاور لهذه الطاحونة.
ثم إنه يوجد لكل رواق حارس خاص يستحيل إغراؤه؛ لأنهم جميعهم من المتعصبين على الأرلنديين. - ولكن ظهر لي أن كل رواق ينتهي إلى فسحة. - هو ذاك.
فقال العبوس: إذن لنفرض أن جوهان يبيت في الرواق المسجون فيه الفتى، أليس ذلك ممكنا؟ - دون شك؛ لأنه منوط بي. - ولنفرض أيضا أن حارس الرواق من أتباعنا. - ولكن هذا محال . - قلت لنفرض. فإذا أخذ جوهان الفتى، وسار به إلى فسحة الرواق، ألا يجد معك مفتاح باب الفسحة؟ - دون شك. - وإن كل فسحة تنتهي إلى باب يؤدي إلى السجن الجديد، أليس لديك مفتاح هذا الباب؟ - نعم، ولكن مفتاح الباب الخارجي مع المستر بين، وهو لا يفارقه لحظة. - ذلك سيان عندي، لأن جوهان متى وصلت بالفتى إلى الحبس الجديد، فهو لا يخرج به من باب الحبس العام. وعلى ذلك لم يبق أمامنا غير حائل واحد، وهو حارس الرواق. - ولكنه أعظم حائل يا سيدي، كما قلت لك.
فابتسم الرجل العبوس وقال: سوف ترى أن الأمر على عكس ما تراه. والآن فلننظر في نتيجة أبحاثنا، إن الحائط يسقط يوم الجمعة مساء أي ليلة السبت؟ - نعم. - وفي يوم السبت، يدخل جوهان مع رفاقه العمال إلى حبس الطاحونة لترميم الجدار. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك تأتي إلي يوم السبت مساء في الخمارة، فأريك كيف أن كل شيء ممكن. - إذا كانت حياتي مفيدة لأرلندا، فإني أسفك دمي من أجلها. - لا حاجة إلى ذلك بل إننا سننقذ الفتى، وتبقى أنت في منصبك ولا يعلم بأمرك أحد. - إذن إلى اللقاء.
ثم افترقا، وذهب كل منهما في شأنه.
50
ولنعد الآن إلى رالف، ونقص ما جرى لهذا الشهيد الصغير في ذلك السجن الرهيب.
كان اليوم يوم سبت، أي بعد أن دخل رالف إلى الحبس بخمسة أيام. فكان عذابه الأيام الأولى من سجنه لا يحيط به وصف، ولا يستوفيه تغيير، فإنه كان يتعلق بيديه الصغيرتين بتلك الخشبة، ولا يكاد يلقي رجليه على الصناديق، كي يستريح حتى يشعر أنها دارت، وباتت رجلاه في الخلاء.
وعذبوه هذا العذاب ربع ساعة، ثم أراحوه فأنزلوه، وهو يلهث من التعب. وقد بلت ثيابه من العرق، واصفر وجهه حتى بات كالأموات، وأشفق عليه المسجونون فودوا لو تحملوا عنه عذابه، ولكن تنفيذ العقاب في إنكلترا لا تقبل فيه شفاعات.
وكان يتولى تعذيب أولئك المنكودين رجل فظ الطباع، قاسي القلب يدعى ويب.
ولم يكن هذا اسمه الحقيقي، بل لقبا لقبه به إخوانه، لما رأوه من فظاعته وقسوته؛ لأن هذه اللفظة عندهم معناها الكرباج.
وإنما لقب بالكرباج، لأن كرباجه لم يكن يسقط من يده إلا على ظهور أولئك المسجونين.
فإذا تأفف أحدهم من الألم أو شكا من التعب، انهال عليه بذلك الكرباج دون إشفاق، حتى يدوي صياحه في ذلك الحبس.
وهذا ما أصاب ذلك الفتى المسكين، فقد لقي من كرباج ذلك العاتي أعظم نصيب.
ولما أقبل المساء ذهبوا به إلى سجنه، وهو واهي القوى، ولم يكن يبكي ولم يقنط، لأن كلمة ذلك الرجل الذي قال له: إن أمك ساهرة عليك. كانت قد رسخت في أذنه، وملأت نفسه أملا.
وبات على العقاب والأمل إلى يوم السبت. فأخرجوا المسجونين صباحا، وساروا بهم صفا طويلا إلى قاعة التنكيل يتقدمهم ويب.
وجعلوا يصعدون بهم إلى الطاحونة، وهي أربعة أقسام، كل قسم منها مستندا إلى جدار.
حتى إذا وضعوا أربعة منهم في الطواحين الأربع أدير اللولب، فدارت الطواحين في البدء دورانا بطيئا ثم أسرعت فجأة. ولكنها لم تتم دورتها الأولى، حتى خرج صوت هائل كدوي الرعد؛ ذلك أن إحدى هذه الطواحين صدمت بالحديد الذي وضعه رئيس الحراس، فوقفت بغتة وصدمت الحائط صدمة هائلة، فسقط وخرج له ذاك الدوي العظيم.
وهنا اختلط المسجونين، وأصيب بعضهم بشظايا الآلة، فانجرحوا وساد الرعب في جميع السجن، فأقبلوا إلى قاعة الطاحونة من كل ناحية.
وأسرع عمال السجن ورؤسائه، لحذرهم من ثورة المسجونين، واغتنامهم تلك الفرصة. وكان بين الموظفين رئيس السجن العام ورئيس الحراس، فارتأيا إرجاع المسجونين إلى غرفهم.
ثم أحضروا المهندسين، فقرروا بعد فحصهم أن هذا الحائط لم يكن متينا، خلافا للحيطان الثلاثة، أي إن الطواحين الثلاث الباقية، لا خوف عليها في عملها.
فأعادوا المسجونين من غرفهم إلى قاعة الطاحونة، وجعلوا يعذبونهم بالطواحين الثلاث.
ثم جاء دور البنائين، فدخلوا إلى الحبس القديم، وفي طليعتهم جوهان كولدن.
فأجال بين المحكوم عليهم بالعذاب نظرا فاحصا، وجعل يبحث عن الفتى فرآه جالسا على الأرض، إذ كان في ذلك الحين دوره بالاستراحة، ورأى العرق ينصب منه فدنا منه وقال له همسا: لا تخف إني صديق لأمك، ثم أسرع بالابتعاد عنه، والاختلاط بين العمال دون أن يراه أحد.
أما الصبي فإنه صاح صيحة دهش سمعها ويب، فالتفت إليه وجلده بكرباجه، فصاح متألما وجلده مرة ثانية.
فرأى الصبي جوهان واقفا بعيدا عنه ينظره، ويشير إليه بإصبعه أن يسكت، ففهم الفتى إشارته وسكت.
ولكن ويب لم يكتف بجلده، بل أصعده إلى الطاحونة قبل مجيء دوره بالتعذيب انتقاما منه لصياحه. •••
وفي اليوم نفسه كان الرجل العبوس وباردل رئيس الحراس، متفقين على الاجتماع في الخمارة.
ولما حانت الساعة السابعة، كان العبوس في الخمارة حسب الاتفاق، أما باردل فلم يحضر.
ثم فتح الباب ودخل شوكنج، ولم يكن يوجد في الخمارة أحد فقال العبوس: ماذا فعلتم أأعدتم كل شيء؟ - نعم وقد أحضرنا الحبل الطويل المعقد، وستكون المركبة على باب المنزل في الوقت المعين. - أين هي الأرلندية؟ - لقد أتينا بها مع سوزان، وهما الآن في المنزل. - ومتى تحضر المركبة؟ - سيحضر فيها كرافان في الساعة التاسعة.
وعند ذلك فتح باب الخمارة أيضا، ودخل منه باردل رئيس الحراس، وكان العبوس ينتظره فدعاه إلى الجلوس معه. ودار بينهما الحديث باللغة الأرلندية الاصطلاحية.
فقال العبوس: قل لي ماذا حدث؟ - إن الحائط سقط. - أأصاب الفتى بجراح؟ - كلا. - وجوهان كولدن؟ - إنه يعمل في قاعة الطاحونة مع العمال. - هل فعلت ما قلته لك؟ - بالتدقيق. - أعد علي ما فعلت. - إني أقمت جوهان في نفس الرواق الذي أقمت فيه الفتى، وأقفلت الأبواب بيدي، وأعطيت جوهان خنجرا. - ولكني أرجو ألا يحتاج إليه. - وبعد أن أقفلت جميع الأبواب، تركت بابه مفتوحا، ثم أبعدت خفير الفسحة الكبرى بحجة المطر، وأنه لا فائدة من حراسة السجن الجديد، لعدم وجود أحد فيه. - ومن هو حارس الرواق؟
فقطب باردل حاجبيه وقال: إنه رجل وحشي الأخلاق، نلقبه بالكرباج، لقسوة طباعه، وأخشى أن يحتاج جوهان كولدن إلى استعمال الخنجر.
ففكر العبوس هنيهة ثم قال: أيدخن هذا الرجل التبغ؟ - إنه مولع به مثلي. - إذن لقد سهل الأمر، انظر إلى هذه العلبة إنها تغنيك عن الخنجر. - كيف ذلك إني لا أفهم شيئا؟ - ألا ترى أن هذه العلبة تفتح من الجهتين؟ - نعم. - إن فيها طبقتين، يفصل بينهما حاجز رقيق يستره التبغ، فانظر إلى الطبقة اليمنى تجد عليها نقشا خلافا للطبقة الأخرى، فهي ملساء، ففي الساعة التاسعة اذهب لمراقبة الحراس، فإذا وصلت إلى هذا الحارس، فقدم له سيكارة من الطبقة ذات الباب المنقوش، وخذ لنفسك من الطبقة ذات الباب الأملس. - لقد فهمت فإن تبغ الطبقة المنقوشة ممزوج بمادة مخدرة. - هو ذاك، والآن تريد أن تعلم كيف يخرج جوهان كولدن، والغلام من السجن الجديد؟ - دون شك، فإن خروجهما لا يزال لدي متلبسا بالغموض.
قال العبوس: اخرج قبلي وانتظرني في عطفة الشارع، فسأوافيك بعد عشر دقائق.
فامتثل وبقي العبوس هنيهة مع شوكنج يحدثه ببعض الشئون، ثم خرج الاثنان من الخمارة.
وكانت الليلة حالكة السواد، وقد تكاثف ضبابها، فكانت أنوار مصابيح الغاز تظهر من خلاله، كما يضيء الجمر من خلال الرماد.
وكان باردل واقفا في عطفة تحت نور أحد المصابيح ينتظر العبوس، فلما وافاه أخذ بيديه وقال له: هلم بنا فسأريك كيف أننا لا نحتاج في سبيل إنقاذ الفتى إلى الخروج به من باب السجن العام.
51
وسار الرجل العبوس وباردل يتبعهما شوكنج، حتى وصلوا إلى منزل مشرف على الحبس الجديد، يدل السكون فيه على أنه لا يسكنه أحد.
ففتح الرجل العبوس بابه، وصعد الثلاثة سلالمه إلى أن وصلوا إلى الدور الأعلى فيه.
وهناك فتح العبوس باب غرفة، وظهر لهم نور شمعة ضعيف، ورأى باردل غرفة تدل على فقر ساكنيها، إذ لم يكن يوجد فيها من الأثاث غير ما لا يمكن الاستغناء عنه.
ثم رأى في هذه الغرفة امرأتين، لا ينطبق جمالهما الباهر على ظواهر هذا الفقر.
وكانت هاتان المرأتان سوزان والأرلندية والدة رالف، فإن العبوس جاء بهما إلى ذلك المنزل.
فقال: ستجتمعين بابنك في هذا المساء.
وقد بدأ العبوس حين دخولهم إلى الغرفة بأن أطفأ الشمعة، ثم ذهب إلى النافذة ففتحها ونادى باردل قائلا: انظر.
وأطل باردل من النافذة وقال: إن الضباب كثيف، ولا أرى كل شيء، ولكن يخال لي أن هذه النافذة مشرفة على فسحة السجن الجديد. - هو ما تقول. - وأرى أنه لا يفصل بينهما غير عرض الشاعر، وهو أضيق شوارع لندرا. - هو ذاك، وإن الفاصل بينهما أيضا سور السجن العريض، وهو لا سقف له كما ترى.
فلم يفهم رئيس الحراس مراده، وقال له: ماذا تعني بذلك؟ - أصغ إلي تعلم قصدي. إن النافذة يبلغ ارتفاعها ستين قدما. - تقريبا. - فافترض أنك أنت وجوهان، تأتيان بالفتى من سجنه إلى الفسحة التي تراها، أي فسحة السجن الجديد. - نعم. - فسألقي لكم من هذه النافذة حبلا طويلا معقدا، أعلق طرفه بحديد النافذة، فيسقط الحبل من فوق السور إلى فسحة السجن، حيث تكونون. وعند ذلك يركب الفتى ظهر جوهان، ويتسلق به الحائط بواسطة الحبل المعقد، حتى يبلغ إلى أعلاه. وبين أعلى السور وهذه النافذة مسافة ثلاثة أمتار، فإذا وضع لوح سميك من الخشب بينهما، سار بالغلام على اللوح، ودخل من النافذة إلى الحجرة. - وأين هو الحبل؟ - هذا هو.
ثم أراه حبلا طويلا ملفوفا، وقد كثرت فيه العقد، وجعلت المسافة شبرا بين العقدة والأخرى؛ تسهيلا للصعود عليه، بحيث يصبح شبيها بالسلم.
فابتسم باردل وقال: إن هذا الفكر جميل وبسيط، ولكنه لا يخطر لي. - وكذلك علبة التبغ، فإنها لم تخطر لك أيضا. - هو ذاك. - والذي أراه الآن أنه يجب الإسراع؛ لأن الوقت غير متسع لدينا. - أيطول زمن بدء التأثير بالمخدر؟ - بعد خمس دقائق من شربه. - وماذا يحدث للحارس حين يدخن تلك السيكارة؟ - ينام نوم الأموات، ولا توقظه المدافع، ولا يستفيق إلا عند الصباح. - إذن الفرار بالصبي بات سهلا؛ لأني أبعدت حراس فسحة السجن الجديد، ولم يبق شيء نخافه غير الصدفة. - أي صدفة تعني؟ - لا أدري فقد يمر بنا أحد الحراس اتفاقا، بل يخطر للمدير العام أن يجول في الرواقات، ويراقب مراقبة فوق العادة. - وبعد ذلك؟ - إذا لم يحصل شيء من هذا، نصل إلى فسحة السجن كما صممت، ويفر جوهان بالصبي إلى هذه الغرفة، ولكني أرى أنه يجب علي أيضا أن أفر معهما. - لماذا؟ - لأني إذا بقيت في السجن، يعلمون بفرار الغلام. - دون شك. - وهم يعلمون أن مفتاح باب الفسحة لا يكون إلا معي في الليل. - ليعلموا. - ولكن ذلك يدعو إلى اتهامي بتسهيل فراره.
فابتسم العبوس وقال: أتظن أنهم يتهمونك؟ - بل أؤكد، لأن الحارس ويب سيقول فوق ذلك إني سقيته مخدرا. وفي كل حال فلا يسعني إلا الامتثال لأمرك، فمر أطع. ولكني أستطيع إذا كنت مطلق السراح أن أفيد أرلندا بشيء. ولهذا أفضل الفرار فإنهم إذا اتهموني وزجوني في أعمق سجن، فلا أعود أستطيع خدمة الوطن العزيز بشيء.
فأجابه العبوس ببرود: إن كل ما تقوله ملؤه الحكمة والصواب، ولكن لا فائدة فيه.
فتراجع منذعرا وقال: كيف لا فائدة فيه؟ - دون شك. - ألا تحتاج أرلندا إلى خدمتي؟ - بالعكس. - إذن كيف أستطيع خدمتها، وأنا مغلول اليدين في السجن؟ - إنك لا تذهب إلى السجن ولا تغل يداك، بل تبقى في حبس الطاحونة، وتفيدنا فيه فوائد كثيرة. - أأبقى في حبس الطاحونة سجينا؟ - بل تبقى كما أنت الآن محترما محبوبا، وتبقى في منصبك وهو رئاسة الحراس.
فنظر باردل إليه نظرة بلاهة وقال له: إني لا أفهم شيئا من هذه الألغاز.
فابتسم العبوس وقال: سوف ترى أن الأمر بسيط، كما رأيت في مسألة الحبل وعلبة التبغ. - أأبقى رئيس الحراس في سجن، وأسهل فيه فرار المسجونين، ويكون الأمر بسيطا؟ - دون شك. - ومفتاح الفسحة. - إنهم سرقوه منك. - وتخدير التبغ؟ - إنك تخدرت أيضا، كما تخدر الحارس ويب. - كيف ذلك؟ - ذلك أنك بعد أن تخدر ويب وينام. وبعد أن تساعد جوهان ويفر بالصبي، تعود بملء السكينة والارتياح إلى الحبس القديم، وتدخن سيكارة من تلك السكاير المخدرة التي أعطيت منها ويب، وتنام مخدرا في نفس الرواق الذي نام فيه.
فصاح باردل صيحة دهش وقال: إن هذا الفكر بسيط جدا، ولكنه لم يخطر لي. - ذلك لأنه بسيط. والآن اعلم أنهم سيدققون غدا كل التدقيق، ثم تنجلي أبحاثهم عن اتهام بائع التبغ، فإذا سئلت عن الذي باعك التبغ فقل إنك اشتريته من الدكان الصغيرة الكائنة في أول الشارع. - لماذا؟ - لأني أمرته أن يسافر الليلة إلى فرنسا، وسيبحثون عنه فلا يجدوه فتثبت التهمة عليه وتنجو. والآن لم يبق لدينا من الوقت غير ساعة، فعد إلى الحبس وافعل كل ما قلته لك.
فامتثل باردل وانصرف. وعاد العبوس إلى الأرلندية فرآها تبكي فقال لها: إن بكاءك سيستحيل بعد ساعة إلى بكاء سرور، حين تضمين إلى صدرك ولدك، فكفي عن البكاء وثقي بمراحم الله.
52
كان ويب الحارس، أي الرجل الملقب بالكرباج، مشهورا بالفظاعة كما قدمنا. وكان يكره الأرلنديين كرها عظيما. فإذا دفع نكد الطالع أحدهم إلى ذلك السجن، وتولى هو تشغيله عذبه عذابا لا يطاق، ونكل به أفظع تنكيل. وكان يعلم أن الفتى أرلندي، فكان يجور عليه كل الجور غير مشفق على جسمه الصغير.
وقد تقدم لنا القول أنه سمع رالف، وصاح صيحة دهش، فأيقن أنه رأى بين البنائين رجلا يعرفه، فجلده بكرباجه وأصعده إلى الطاحونة قبل أن يجيء دوره.
ثم لما فرغ من تشغيله هذا الشغل الشاق، ناداه بلهجته المألوفة فأيقن المسجونون أنه ناقم على الفتى يريد جلده، وود كل منهم لو تحمل عنه ألم الضرب؛ لفرط إشفاقهم عليه.
أما رالف فإنه لبى النداء، وسار مرتفع الرأس شامخ الأنف، غير مكترث بنظرات ذلك الرجل الوحشي.
فسأله ويب عن الرجل الذي عرفه من بين البنائين، وأنذره بالضرب فلم يجبه رالف إلا بالإنكار، فحقد عليه وضربه ضربا مؤلما، ثم أعاده إلى الطاحونة. ودام يعذبه هذا العذاب والمسجونون ينظرون ولا يجسرون على اعتراضه حتى المساء.
فجاء باردل وشاهد أعمال ويب المنكرة، فوبخه أقسى توبيخ ولم يسعه إلا أن ينظر إلى الفتى نظرة إشفاق لم تخف على ويب. فهاج لها وحقد على رئيسه حقدا عظيما؛ لتوبيخه إياه أمام المسجونين، لا سيما وأنه كان يكرهه منذ زمن بعيد؛ لأن باردل كان قد شكاه مرتين للمدير العام، لما يرتكبه من الفظاعة، فعاقبه المدير في المرتين.
ومع ذلك فإن باردل لم يجسر على إبعاده عن الخدمة في تلك الليلة ، وتركه يتولى حراسة الرواق الذي أقام فيه البنائون ورالف.
وعادة الحراس في ذلك السجن أنهم يتغيرون كل ساعتين. وأما في الليل فقد تحتم على الحارس أن يحرس أربع ساعات متوالية.
وقد ذهب ويب يتعشى في الساعة السادسة، أي حين كان باردل يدخل المسجونين والبنائين إلى غرفهم، وقد دفع الخنجر إلى جوهان، وترك غرفته وغرفة رالف مفتوحة كما قدمنا.
وكان باردل يعلم أن ويب يعود إلى الحراسة، في الساعة الثامنة والنصف.
وانصرف بعد إدخال المسجونين إلى لقاء الرجل العبوس.
أما ويب فإنه ذهب للعشاء مع صديقه جوناتان، ولم يكن له صديق سواه بين عمال السجن، لاتفاقهما في الفظاعة، ولاتحادهما على كره رئيسهما باردل.
وفي المثل المأثور أن الطيور على أشكالها تقع. فلما اجتمع هذان الحارسان، جعلا يتعشيان ويطعنان بباردل طعنا قبيحا، ويتمنيان له كل شر، ويستنبطان الحيلة شأنهما في كل اجتماع.
وقد دار بينما في تلك الليلة الحديث الآتي فقال جوناتان: لقد طال عسف هذا الرئيس بنا، وإني أراك أصلح منه للرئاسة.
فأجابه ويب: ومتى كانت الناصية تعطى لمستحقيها، فإن جميع الرؤساء متحاملون علينا، حتى لقد بت أخشى أن أقضي العمر كله في هذا المنصب الحقير. - ولكنك إذا سعيت قد تنال منصب باردل. - وأين لي ذلك أيها الصديق، ألا ترى ميل المدير إليه وتعلقه به؟ - إن المدير مخطئ. - وهذا رأيي أيضا. - وفوق ذلك فإن باردل يتهامل في الخدمة منذ بضعة أيام. - أتظن أنه يتهامل؟ - بل أظن أنه يحاول مساعدة أحد المسجونين على الفرار.
فارتعش ويب واتقدت عيناه وقال: وما حملك على أن تفتكر به هذا الفكر، ألديك برهان؟ - إني أراه منذ يومين يكثر الخروج من السجن، حتى إنه يخرج ثلاث مرات في اليوم الواحد. - وأين يذهب؟ - إلى الخمارة في أول الشارع. - خمارة الحارس القديم الذي عزل؟ - هو بعينه، وقد رأيته أمس، مختليا في تلك الخمارة مع رجل لم ترضني هيئته. - أحق ما تقول؟
وخفض جوناتان صوته وقال: أسمعت بأولئك الأرلنديين الذي يشغلون الحكومة في هذه الأيام؟ إن قلبي يحدثني بأنه منهم وأنه الآن خارج السجن . - لقد كذب حديث قلبك دون شك، فقد تركته الآن منشغلا بإدخال المسجونين والعمال إلى غرفهم. - ولكنه سيخرج من السجن متى قضى هذه المدة. - يسوءني أني رضيت أن أنوب هذه الليلة بالحراسة عن زميلنا بيرلي. - لماذا؟ - لأني كنت أقفو أثر باردل حين خروجه من الباب العام.
فقال له جوناتان: إننا أيها الصديق، مرتبطان بوثاق الصداقة منذ عهد بعيد. - ماذا تعني بذلك؟ - أعني أني هذه الليلة حر إلى منتصف الليل، فإذا شئت أن تقفو أثر باردل توليت الخدمة مكانك إلى أن تعود. - لا أحب إلي من ذلك، فإن ما قلته لي قد هاج بي عاطفة الحقد على باردل، غير أنه يجب أن تنتظر إلى أن يسلمني باردل الخدمة، فتحرس مكاني. - كما تريد.
وقد تم الأمر على ما توقعه جوناتان، فإن ويب ذهب إلى الرواق، فتبعه باردل وقال له: قف مكاني في الحراسة، فإني سأخرج من السجن لبعض الشئون، وأعود في الساعة التاسعة للتفتيش.
ثم تركه وانصرف إلى الخمارة التي واعد الرجل العبوس على الاجتماع به فيها.
وبعد عشر دقائق أقبل جوناتان فتولى الحراسة مكان ويب، وذهب ويب إلى مأمور السجن الخارجي، فتكلف هيئة الاهتمام وقال له: ألم تر باردل؟ - إنه خرج الآن، وأظن أنه ذهب إلى الخمارة. - يجب أن أحادثه في شأن هام، فاسمح لي بالخروج.
فأذن له المأمور وذهب ويب توا إلى الخمارة، ولكنه لم يدخل إليها بل لبث واقفا خارجها، ونظر من زجاج بابها الخارجي، فرأى في داخلها باردل جالسا مع الرجل العبوس، ومختليا به خلوة سرية.
وبعد هنيهة خرج باردل فاختبأ ويب، ثم اقتفى أثره دون أن يراه، ورأى أنه لم يذهب إلى السجن، بل إنه وقف في عطفة ينتظر، فوقف هو أيضا بعيدا عنه إلى أن أقبل الرجل العبوس وشوكنج، فرآهما قد انضما إلى باردل، وساروا جميعهم في الطريق.
53
كان ويب على فظاعته فطنا حكيما مبالغا بالحيلة والحذر، بحيث كان يسير في أثرهم فيراهم ولا يرونه، حتى رآهم قد دخلوا إلى منزل مشرف على سور السجن، فوقف يراقب ماذا يكون، وهو لا يجسر أن يتبعهم إلى ذلك المنزل.
ووقف بعيدا وعيناه شاخصتان إلى النوافذ، ورأى نورا ضعيفا من خلالها، ثم رأى أن النور قد انطفأ، وأن النافذة قد فتحت.
وكان ثاقب البصر، فحدق بتلك النافذة ورأى رأسي رجلين قد برزا منها، وأيقن أن باردل أحدهما.
وهنا اقترب حتى أصبح تحت النافذة، وجعل يصغي متنصتا عله يسمع كلمة من حديث الرجلين، غير أن الصوت يذهب صعدا ولا ينزل من الأعلى إلى الأسفل، ومع ذلك فإنه كان يسمع لغطا، ولكنه لا يفهم شيئا من الحديث.
على أنه بات واثقا مما قاله له جوناتان، وهو أن رئيس الحراس يأتمر منذ أيام لإنقاذ أحد المسجونين، فبذل جهدا عظيما، وأصغى إصغاء تاما، حتى إنه حبس أنفاسه عله يفهم كلمة واحدة مما يتحدث به الرجلان، وسمع ولكنه لم يسمع غير كلمة واحدة وهي الحبل، فاضطرب قلبه وقال في نفسه: أما وهما قد ذكرا الحبل، فلم يبق شك بصدق ظنون جوناتان من أنهم يحاولون إنقاذ مسجون، وإذا كان ذلك فلا بد أن يكون باردل شريكا بالجريمة.
وعند ذاك رأى ويب أنه قد عرف كل ما يمكن أن يعرفه، وأنه لم يعد بحاجة لوقوفه تحت ذلك المنزل، فعاد على أعقابه وبلغ السجن قبل أن يخرج باردل من المنزل.
وكان أول ما خطر له حين دخوله إلى السجن، أن يذهب إلى المدير العام ويعرض له ما سمعه ورآه، لكنه عاد عن هذا القصد حذرا من أن لا يصدقه المدير لميله إلى باردل، ورأى أن من الحكمة أن يقبض عليه متلبسا بالجريمة. وعند ذلك ذهب توا إلى صديقه جوناتان، ورآه في موقف الحراسة ينتظر عودته بفارغ الصبر.
أما جوناتان فإنه رآه يبتسم ابتساما معنويا، فأيقن أنه وقف على سر من الأسرار وقال: ما وراءك؟ - لقد كنت مصيبا في ظنونك أيها الصديق. - أرأيت أن لباردل علائق خارجية؟ - نعم. - مع من؟ - مع قوم لا أعرفهم، ولكني واثق أنهم يريدون إنقاذ أحد المساجين، غير أني لم أوفق إلى معرفة هذا السجين . - ولكني أنا عرفته. - كيف ذلك؟ - أليس باردل الذي أقفل أبواب غرف المسجونين هذه الليلة؟ - نعم. - ولكنه ترك باب إحدى الغرف مفتوحا. - باب أية غرفة؟ - نمرة 16 تعال وانظر.
وجعل صدر ويب يخفق خفوقا قويا وقال: إنها غرفة الغلام الأرلندي. - ألم أقل لك إن باردل من جمعية الأرلنديين؟ - أصغ إلي إنه يجب أن تبقى هنا في الرواق. - دون شك. - وإن باردل سيأتي في الساعة التاسعة. - ربما. - وبعد سيسألك لماذا خلفتني في الحراسة فتقول له إني مريض؛ لأنه يحذرني أكثر مما يحذرك. - أتظن ذلك؟ - بل أؤكد، وهو سيبعدك بحجة من الحجج. - وعند ذلك ماذا أصنع؟ - تذهب إلى الفسحة، وتختبئ فيها. - وبعد ذلك؟ - ليس الوقت فسيحا فأوضح لك كل شيء، ولكني واثق أن باردل سيخرج الغلام من سجنه، ويأتي به إلى فسحة السجن الجديد، بعد ذلك نتبعه إلى تلك الفسحة، وتصيح مستنجدا وعلي البقية إذ أكون هناك، فنقبض عليه متلبسا بالجريمة.
ثم تركه وانصرف إلى الفسحة، فاحتجب عن الأبصار.
وبعد هنيهة جاء باردل، وهو متشح بوشاحه وقد علق في زناره حلقة فيها مفاتيح الغرف وبيده مصباح.
وكان جوناتان واقفا في موقف الحراسة، فدنا منه وارتعش حين رآه في مكان ويب وقال: أين ويب وكيف أنت هنا؟ - إنه يا سيدي مريض، وقد أنابني عنه. - لماذا لم يقل لي؟ - لأنه خشي أن توبخه، وقد سألني أن أنوب عنه ونحن على العشاء.
وقال بجفاء: أخاف أن يكون أخطأ في اختيارك، فإنك لا تصلح لحراسة الليل كما أرى. - لماذا يا سيدي؟ - لأنك لا تطيق السهر؛ لأن النعاس قد سرى إلى عينيك منذ الآن.
ثم وضع المصباح على الأرض، وأخذ من جيبه علبة السكاير التي أعطاه إياها الرجل العبوس وأعطاه سيكارة قائلا: خذ ودخن كما أصنع أنا، فإن التدخين يعين على السهر.
وأخذ جوناتان السيكارة شاكرا، وأشعلها وجعل يدخن وهو مطمئن.
54
إن الرجل العبوس أعطى باردل هذا السيكار المخدر كي يدخن منها ويب، فكانت من حظ جوناتان، غير أن باردل رأى أن النتيجة واحدة، فإن جوناتان كان يخلف ويب في الحراسة، والغرض تخدير حارس الرواق.
وصار الاثنان يدخنان، فكان جوناتان يظهر عجبه بالتبع وارتياحه ثم قال: من أين تشتري يا سيدي التبغ الفاخر؟
فضحك باردل وقال له: مهما يكن فاخرا فلا أراه يفيدك في السهر، فإنك عدت إلى النعاس، فخذ هذه السيكارة الأخرى ما زلت معجبا بهذا التبغ.
تناولها وأشعلها من السيكارة الأولى، وصار يدخن بها.
وعند ذلك قال باردل: ابق في مكانك واحذر أن تنام، فإني ذاهب الآن وسأعود للمراقبة، ثم تركه وانصرف.
فصار جوناتان يشيعه بالنظر وهو معجب بأمره، ويقول في نفسه: لقد أخطأ ويب في حسابه، إنه كان يعتقد أنه سيتخذ حجة لإبعادي، فإذا هو يبعد نفسه.
ثم جعل يسير في الرواق ذهابا وإيابا وهو يقول: إن ويب سيطول انتظاره ويأتي لينقذني، فأسلمه الحراسة وأذهب في شأني.
فقد مثل لنا الحقد على باردل أمورا لا حقيقة لها، فإن هذا الرئيس يتولى منصبه من عشرين عاما، لا يخاطر به من أجل غلام وهو طامع بالترقي.
وفيما هو يمشي شعر ببرد فجائي، لم يدر سببه فالتف بردائه وقال: لا شك أن النار مطفأة في المستوقد، وإلا من أين هذا البرد الشديد؟
ثم اشتد عليه البرد، وكان ذلك من تأثير المخدر، فذهب إلى زاوية ووقف فيها كأنه يحاول الفرار من البرد، شعر أن ساقيه لا يحملانه فجلس القرفصاء، وعند ذلك شعر بصداع أليم فأطبقت عيناه، وحاول أن يقف فلم يستطع، وأن يستغيث فلم يخرج له صوت، ثم حاول أن يفتح عينيه فلم تفتحا، فكاد يجن مما أصابه، ولكن عذابه لم يطل فإنه سقط على الأرض فاقد الرشد، وقد بلغ منه المخدر كل مبلغ.
وعند ذلك فتح باب الرواق، وظهر منه باردل ومصباحه بيده فدنا من جوناتان، وهو ملقى على الأرض لا حراك به فناداه وهزه، لم يجب، رفسه برجله وقال: لقد نال ما يستحق، ثم تركه وذهب إلى غرفة جوهن كولدن.
وكان جوهن لا يزال ساهرا ينتظر عودة باردل، ففتح باردل باب غرفته وناداه بتلك اللغة الأرلندية الاصطلاحية أن يخرج إليه.
أسرع جوهن إليه وقال له باردل: ألا يزال خنجرك معك؟ - نعم. - إذن هلم بنا، فقد أزف الوقت. - إني مستعد لكل شيء، لنسر إلى حيث تريد.
ثم سار الاثنان فمرا بجوناتان، وهو صريع على الأرض، قال له جوهن: ألعلك قتلته؟ - كلا، بل قتلت حواسه فهو نائم الآن نوم تخدير.
ومشيا في الرواق إلى أن وصلا إلى غرفة الغلام، وكان المسكين قد أنهكه التعب في النهار مما لقيه من عناء الطاحونة وكرباج الحارس، فنام نوما عميقا.
وجعل الاثنان يتأملان وجهه الجميل هنيهة، قال جوهن: ألا ترى هذا الوجه الملائكي، والله إني أكاد أشفق أن أوقظه؟ - إن نومه سيكون أكثر هدوءا بعد ساعة، حين ينام في حجر أمه.
ثم هزه برفق وجعل الاثنان يبتسمان كي لا يخاف، ففتح عينيه ونظر إلى باردل وقال له: أهذا أنت الذي تقفل باب سجني كل ليلة وتحدثني عن أمي؟ - نعم أنا هو يا بني، فقم واتبعني ولا تفه بحرف.
وأسرع الغلام إلى لبس ثيابه دون أن يسأله إلى أين يذهب به، فأمسك جوهان بيده، وسار باردل أمامهما فتبعاه إلى باب الفسحة، وهناك أطفأ باردل مصباحه وفتح الباب.
وكان السكون سائدا في فسحة السجن والظلام حالكا، فتقدمهما باردل وتبعه جوهان بالغلام، وهو لا يجسر أن يكلمه كلمة عن أمه؛ خوفا من أن تبدر منه صيحة فرح فينفضح أمرهم.
وكانوا لا يزالون في فسحة السجن القديم، ولا يفصل بين القديم والجديد غير باب، ففتحه باردل ودخل الثلاثة إلى الفسحة الكبرى، وعند ذلك سأله جوهان قائلا: إلى أين نحن سائرون؟ - انظر إلى العلاء، ألا ترى منزلا مشرفا على السور؟ - نعم. - ألا ترى نافذة مفتوحة؟ - نعم. - إنه يوجد حبل معقد ربط أحد طرفيه إلى حديد تلك النافذة، وسقط الطرف الآخر إلى أرض الفسحة، أفهمت الآن؟ - نعم ...
وتقدم الرجلان بالغلام حتى بلغا إلى السور، فارتعش باردل فجأة وصاح صيحة دهش وخوف، ذلك أنه رأى رجلا ملتصقا بجدار السور، وبيده ذلك الحبل المعقد.
ولما رأى هذا الرجل باردل، مشى إليه مشي الظافر وقال له: لقد قبضت عليك متلبسا بالخيانة، ولم يبق سبيل للإنكار.
واضطرب باردل اضطرابا عظيما، إذ علم من صوته أنه ويب، ذلك الحارس الوحشي الذي ادعى أنه مريض؛ كي يخلفه جوناتان بالحراسة.
55
أما ويب فقد كان رابط الجأش آمنا؛ لوثوقه من أن جوناتان قادم لنجدته من وراء باردل، خلافا لباردل فإنه ذعر ذعرا شديدا، ولم يكن خوفه على نفسه، بل على الغلام الذي فوجئ عند الوثوق من إنقاذه من هذه النكبة، ولكن وقت اضطرابه لم يطل، وعاد لفوره إلى سكينته العادية!
أما ويب فإنه قال متهكما: بورك لك في هذه المهنة الجديدة أيها الصديق العزيز، فإنك تسهل للمساجين سبيل الفرار، وتبعد عنك الخفراء، وتطلق الحبال من نوافذ المنازل المجاورة، لكن عين ويب ساهرة عليك، وأنه.
ولم يدع له باردل فرصة لإتمام حديثه، فانقض عليه وقبض على عنقه بيده، كي يمنعه عن الصياح.
وجعل ويب يصيح بصوت مختنق مستنجدا بجوناتان، وهجم عليه جوهان كولدن عند ذلك بخنجره، وقال له باردل: اطعنه والله يحمي أرلندا.
وكان باردل وجوهان قريبين، غير أن ويب كان يدافع دفاع اليأس، وكان هم باردل أن يلقيه على الأرض، ويضغط على عنقه كي يمنعه عن الاستغاثة، فإن أضعف صوت يصل إلى الخفراء يستفزهم، لذلك كان يضغط على عنقه ضغطا شديدا، فلم يمسك يده ولم يخطر له أنه يحمل خنجرا مع أن مدير السجن العام كان أصدر أمره إلى جميع الحراس بحمل الخناجر.
أما ويب فإنه شعر أن باردل يكاد يخنقه بضغطه على عنقه، لكن ذلك لم يمنعه عن استلال خنجره.
وقال باردل لجوهان: اطعنه بخنجرك.
وصاح جوهان عند ذلك صيحة ألم، لأن ويب كان سبقه إلى طعنه بخنجره، ولما شعر جوهان بألم الطعنة هجم عليه هجوم الكواسر، وطعنه بخنجره طعنة نجلاء، ولم يعد يدافع عن نفسه، وشعر باردل وهو لا يزال ضاغطا عليه أنه قد انحط وتلاشى؛ لأن الخنجر قد أصاب قلبه، فاخترقه وقضى عليه في الحال.
وتركه باردل عند ذلك، فسقط على الأرض ميتا لا حراك به.
أما الغلام فقد كان واقفا، ينظر هذا المشهد الهائل وقد ملأ الذعر قلبه، فدنا منه باردل وقال: لا تخف يا بني لقد نجوت، وسوف ترى أمك.
ثم أمره أن يركب ظهر جوهان، وأمره أن يتسلق الجدار بواسطة الحبل المعقد.
وكان الضباب كثيفا فلم ير الغلام النافذة، ولا المنزل، بل كان يرى الحبل، كأنه معلق في السماء.
وركب ظهر جوهان، وطوق عنقه بيديه.
وأخذ جوهان الحبل وبدأ يصعد.
غير أنه لم يثب الوثبة الأولى، حتى شعر أن قواه قد اضمحلت، فأفلت الحبل مرغما، وسقط بالغلام إلى الأرض وهو يقول: وأنا أيضا قد أصبت بما أصيب به.
ذلك أن خنجر ويب كان قد أصاب فخذ جوهان، فنزف دمه بغزارة ودعا إلى ما رأيناه من انحطاط قواه.
ولما رأى باردل ما أصابه، أوشك أن يجن من يأسه، وخاف أن تكون الأقدار قضت على المشروع بجملته، ولم يجد بدا من أن يتولى هو بنفسه إنقاذ الغلام.
وكان رالف قد نهض واقفا، فأسرع إليه باردل وقال له: اركب ظهري وتعلق بي جيدا، فسأحاول بنفسي الصعود بك.
وكان رئيس الحراس على ما يبدو من ظواهر قوته قد تجاوز سن الكهولة، ولم يكن متمرنا على شيء من الألعاب الرياضية، ولم يكن لأعضائه شيء من تلك المرونة الخاصة بأعضاء الشباب، فحاول أن يتسلق الجدار، بينما كان جوهان راكعا يحاول النهوض فلا يستطيع ويقول لباردل: أنقذ الفتى، ولا تهتم بسواه الآن.
فصعد وعلم لأول وهلة أنه لا يجد قوة تعينه على بلوغ المراد، وأن صعوده محال فلبث ممسكا بالحبل، وهو يكاد يجن من اليأس.
وفيما هو على هذه الحالة من القنوط، لا يعلم ماذا يصنع، سمع صوتا يناديه ويقول: عد إلى الأرض، واترك الحبل.
فسقط باردل على الأرض منذهلا، والفتى فوق ظهره، ورفع عينيه إلى مصدر الصوت، فرأى رجلا ينزل من السور مستعينا بالحبل، حتى بلغ الأرض، ورأى أنه الرجل العبوس.
أما الرجل العبوس فإنه نظر نظرة سريعة إلى ما حوله، فرأى ويب قتيلا وجوهان جريحا، فعلم كل ما حدث وقال لباردل: إني سمعت من النافذة ما حدث بينكم، وأسرعت لنجدتكم فأين رالف؟ - ها هو.
فنظر إلى جوهان وقال: أين جرحت؟ - في الفخذ. - أتشعر بضعف. - إني كثير الضعف، وأراني مشرف على الموت، ولكني لا أكترث بالموت، إذا نجا الغلام. - بل أنقذكم جميعا.
وكان الحبل طويلا يجر على الأرض، فأخذه الرجل العبوس، وربط به وسط جوهان ثم قال له: إنني صاعد الآن برالف إلى الحجرة، ومتى وصلنا إليها وبات الفتى بمأمن اسحب الحبل مع شوكنج، وأنت مربوط به، فننقذك أيضا.
ثم التفت إلى باردل وقال له: أما أنت فافعل ما أوصيتك به، ولم يبق لديك ما تخشاه من ويب فهو قتيل، فعد إلى رواق السجن القديم، ودخن سيكارة من التبغ الذي أعطيتك إياه، فإذا رأوك مخدرا لا يتهمونك.
فأشار باردل إشارة امتثال، وأركب الرجل العبوس الفتى فوق ظهره، وجعل يتسلق به ذلك الجدار المرتفع بخفة الغلمان، حتى توارى عن نظر باردل، فصاح صيحة فرح وقال: لقد نجا الفتى، فلتحيا أرلندا وليحيا زعيمها.
فأجابه جوهان بصوت خافت بمثل دعاءه ثم قال: اذهب الآن أيها الحبيب، وأستودعك الله. - بل إلى اللقاء، فسيرفعونك بالحبل، وتشفى من جرحك.
ثم ودعه وهو متأثر لنكبته، وعاد إلى السجن القديم، ليفعل ما أمره به الرجل العبوس، وينجو من تهمة الخيانة.
أما جوهان كولدن فكان يتمتم بصوت ضعيف قائلا: إني أصبت بجرح قاتل، لكن عزائي أني أموت شهيد أرلندا، فلتحيا بعدي، وليحيا نصراؤها.
وكان الرجل العبوس قد أدرك مراده في ذلك الحين، ودفع رالف إلى أمه، وقد عرف جوهان ذلك من الحبل المعلق به، فإنه بدأ بالتوتر، ثم أحس بالجذب، ثم رأى نفسه قد ارتفع عن سطح الأرض، فملئ فؤاده رجاء، لكن هذا المنكود لم يكد يصل إلى مرتفع السور، حتى صاح صيحة رعب هائلة، وهوى ساقطا على الأرض.
ذلك أن الحبل انقطع لثقل جسمه، فكان آخر ما قاله ذلك المنكود، إني كنت واثقا من دنو ساعتي، فلو سلمت من الشنق، لما سلمت من الجرح، فلتذهب تلك النفس شهيدة وطنها، ولأمت فداء ابن أرلندا.
قلب المرأة
قلب المرأة
قلب المرأة
قلب المرأة
روكامبول (الجزء الثالث عشر)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
قلب المرأة
1
عرف القراء من رواية ابن أرلندا، كيف فاز الرجل العبوس بإنقاذ ذلك الغلام الذي كانت أرلندا بجملتها عاقدة آمالها عليه، وكيف أن اللورد بالمير عم هذا الفتى، ومس ألن ابنة ذلك اللورد، يبذلان ما يسعهما من الجهد في سبيل الاستيلاء على هذا الفتى؛ طمعا بثروته، وابتغاء تشتيت شمل الأرلنديين بعد فقد زعيمهم.
ونحن نبسط للقراء في هذه الرواية ما جرى من الحوادث الغريبة بين الرجل العبوس وبين تلك الفتاة ابنة اللورد، التي أقسمت على التنكيل بالرجل العبوس منقذ زعيم الأرلنديين وساعدهم الأيمن في المهمات.
وكان آخر عهدنا بالرجل العبوس أنه صعد بالفتى من فسحة السجن إلى تلك الغرفة المشرفة عليها، حيث كانت والدة الفتى وشوكنج، وأنه حاول إنقاذ جوهان كولدن فلم يفز لانقطاع الحبل به.
فلما دفع الغلام إلى أمه كان مشهدا مؤثرا لا يحيط به وصف.
وكان الرجل العبوس أعد مركبة تنتظر على باب المنزل، فقال للأرلندية: كفى يا ابنتي وهلم بنا إلى الفرار؛ لأننا غير آمنين في هذا المنزل، وإذا بقينا به هنيهة فقد يقبضون علينا ونساق جميعنا إلى السجن.
ثم خرج بها وبالفتى وبشوكنج فركبوا تلك المركبة وسارت بهم، فأخذ الرجل العبوس يد الأرلندية وقال لها: إني قد رددت إليك ابنك، ولكنه محكوم عليه بالسجن خمسة أعوام، وقد ارتكب فوق ذلك جناية الفرار من سجنه، وقتل بسببه أحد حراس السجن.
وأريد بذلك أن ابنك ليس لك الآن، بل هو للبوليس ويجب أن نبالغ في الحرص عليه.
فطوقت الأرلندية ولدها بذراعيها كأنما الخطر قد تمثل لها حقيقة، وقالت: إني أحميه.
فابتسم الرجل العبوس، وقال: ولكن الأفضل أن نحذر من البوليس. - كيف ذلك؟ - ذلك ما أتعهد به إذا كنت تثقين بي.
فأجفلت الأرلندية وقالت: ألعلك تريد أن تفصلني عن ولدي أيضا؟ - كلا، ولكني سأجد طريقة تستطيعين أن تريه بها كل يوم بل كل ساعة، ألم تسمعي بمدرسة أبناء المسيح؟
فنظرت إليه نظرة انذهال وقالت: كلا. - إنها مدرسة إذا دخل إليها الفتى وتزيا بزي تلامذتها، لا تستطيع الحكومة القبض عليه لما لها من الامتيازات؛ لأن ابنك قد بات الآن بين خطرين، أحدهما خطر الحكومة التي حكمت عليه، ولا بد لها من البحث عنه بعد فراره.
والثاني وهو الخطر الأشد، اللورد بالمير، قاتل أخيه زوجك وعم ولدك، فهو لا يفتأ يبحث عنه مع فتاته.
ولذلك فقد وجب أن نغير اسم ولدك، وندخله في هذه المدرسة، بحيث يبيت فيها آمنا كل خطر.
وإني سأفعل جميع ذلك، غير أني أحتاج إلى مهلة يومين، يجب أن أحذر بهما عليكما كل الحذر، ولا أستطيع ذلك إلا إذا أطعتني طاعة لا حد لها. - ومتى عصيتك يا سيدي في أمر منذ عرفتك إلى الآن؟
فلم يجبها الرجل العبوس، وجعل ينظر إلى مياه التميس مفكرا، والمركبة تسير على ضفته إلى أن وقف السائق بها حيث أمر.
فقال لها العبوس: لقد وصلنا يا ابنتي فانزلي.
ثم وثب من المركبة إلى الأرض، وأنزل الفتى، ثم خرجت الأرلندية من المركبة ونظرت إلى ما حولها، فرأت خلاء متسعا ليس فيه غير بعض بيوت صغيرة متفرقة، وفي وسط هذا الخلاء كنيسة كاثوليكية تحيط بها مقبرة متسعة، وهي كنيسة سانت جورج الكاتدرائية.
فقال العبوس عند ذلك لشوكنج: اذهب الآن في شأنك، وعند الصباح تذهب إلى سانت جيل فترى الأب صموئيل، وتقول له: إن الأمور قد جرت على ما تمنيناه، وإن الغلام قد نجا.
فذهب شوكنج بالمركبة، وعاد الرجل العبوس إلى الأرلندية، فقال لها: إننا سنكون بمأمن هنا من رجال الحكومة؛ إذ لا يوجد في جميع لندرا بوليس يجسر على أن يبحث عنا في المقابر.
ثم سار بها وبالفتى في تلك المقبرة التي كانت قبورها البيضاء تظهر للعين على شدة الظلام حتى وصلوا إلى الكنيسة، فقرع الرجل العبوس بابها ففتح الباب على الفور، وظهر رجل يحمل بيده مصباحا، فقال له العبوس: إننا نحن الذين تنتظرهم.
قال له الرجل: من أرسلكم؟ - أرسلنا ذلك الذي نخضع له كلنا، إلى أن يبلغ الزعيم رشده ويغدو رجلا. - إذن ادخلوا.
2
وكان هذا الرجل شيخا أحنت ظهره الأيام، وبيضت شعره السنون، وطالت لحيته حتى بلغت صدره.
فلما دخلوا أقفل الباب وسار أمامهم بمصباحه، فاجتاز إلى الكنيسة، ثم صعد بهم سلما يؤدي إلى جرس الكنيسة، وهناك غرفة تحت قبة الجرس دخلوا إليها.
فقال الرجل العبوس للأرلندية: هو ذا المكان الذي تختبئين فيه مع ولدك، وإني أستحلفك بأبيك وباسم أرلندا أن لا تبرحي هذا المكان إلا حين أعود إليك بنفسي.
وأنت هنا في مأمن مع ولدك حتى ولو وشوا بك إلى البوليس، فإنه لا يجسر على الدخول إليه، ولكنه إذا علم بوجودك مع ولدك في هذه الكنيسة طوقها بالرقباء إلى أن تخرجي منها، فيطول سجنك في الغرفة. - لا أبالي بالسجن مهما طال عهده إذا كان ولدي معي. - إذن اقسمي لي أنك لا تبرحين الحجرة. - أقسم لك بتربة زوجي الشهيد. - وأنا سأعود إليك بعد يومين.
ثم قبل الفتى، وودعها وانصرف.
ولما خرج من الحجرة لقي الشيخ حارس الكنيسة ينتظره، فسأله: أحقيقة ما قلته لي؛ إنه في كل يوم تأتي امرأة بملابس السواد عند الفجر تبكي وتصلي فوق أحد القبور؟ - نعم يا سيدي، فإني أفتح باب المقبرة في الساعة السادسة من صباح كل يوم، فأجدها على الباب. - إذن تقفل الباب في كل ليلة؟ - نعم، وإنما أبقيته مفتوحا الليلة من أجلك. - وبعد ذلك ماذا تصنع تلك المرأة؟ - تدخل إلى المقبرة، ولم أر وجهها إلى الآن؛ لأنها تتبرقع بنقاب كثيف وتذهب إلى القبور. - أما رأيتها عند أي قبر تقف؟ - نعم. - إذن سر أمامي ودلني عليه.
فسار الشيخ أمامه، وهو يبسط أشعة مصباحه على القبور كي يهتدي إلى القبر، وكان الرجل العبوس يقول في نفسه: إذا كانت هذه المرأة هي التي أظنها، فقد أصبح اللورد بالمير في قبضتي، وبت قادرا على قتال مس ألن مقاتلة الأكفاء للأكفاء.
وبعد هنيهة وقف الشيخ أمام قبر، فأخذ العبوس المصباح من يده وأدناه من الضريح، فرأى مكتوبا عليه:
هذا ضريح ديك هارمون، مات في العشرين من عمره، شهيد الغرام.
فقال للشيخ: أهنا تقف المرأة وتبكي؟ - نعم.
ولم يكن يوجد تاريخ تحت الكتابة، غير أن ظاهر الضريح كان يدل على أنه حديث البناء، فقال الرجل العبوس للشيخ: أتعلم متى دفن هذا الشاب؟ - كلا، ولكني أشاهد تلك المرأة من عهد قريب كل يوم دون انقطاع، وقد أخبرت الأب صموئيل بما رأيته. - حسنا، فقد عرفت ما كنت أريد أن أعرفه.
ثم أقفل راجعا، ولكنه لم يخرج من باب المقبرة، بل عاد إلى الكنيسة، فدهش الشيخ وقال له: ألعلك تريد مقابلة الأرلندية أيضا؟ - كلا، ولكني أريد أن أنتظر في الكنيسة إلى أن تحين الساعة التي تحضر فيها المرأة.
ثم تركه ومضى إلى مكان الاعتراف ودخل إليه.
أما الشيخ فإنه كان يعلم أن الرجل العبوس من كبار زعماء الأرلنديين فلم يعترضه بشيء، بل انحنى أمامه وقال: متى تريد يا سيدي أن أوقظك؟ - متى فتحت باب المقبرة.
فانصرف الشيخ، والتف العبوس بردائه، ونام نوما هادئا.
وعند الصباح أقبل الشيخ لإيقاظه، فوجده مستيقظا، فقال له: أفتحت الباب؟ - نعم. - أأتت المرأة؟ - كلا، ولكنها ستحضر قريبا.
فتركه العبوس وذهب إلى ذلك الضريح الذي رآه في الليل، واختبأ وراء ضريح يشرف عليه.
ولم تمر هنيهة حتى رأى المرأة مقبلة، وهي مقنعة بقناع كثيف، فمشت توا إلى الضريح حتى إذا وصلت إليه ركعت أمامه، وجعلت تبكي وتنتحب، وتقول أقوالا تقطع القلوب من الإشفاق، فكان مما قالته وسمعه العبوس: أين أنت يا ولدي؟ أحق أن الأموات لا يرجعون؟ وما بالك لا تجيب نداء أمك ولا ترثي لنحيبها؟ ألم تكن بي برا رحوما! فما للعهد غير فيك يا ولدي! وكيف أنا عائشة بعدك! إنهم قتلوك حبا، ولكنهم قتلوني دونك، فإنما الميت ميت الأحياء.
ثم تشهق وتنتحب، وتذرف الدمع السخين، وتنادي ولدها بأشجى النداء، كأنما هي ترجو أن يجيب نداءها، حتى إذا ثاب إليها رشدها ورأت أنها تخاطب ميتا، حبست دمعها المنسكب، وانصرفت إلى الصلاة عن نفس فقيدها الحبيب.
ثم نهضت نهوض القانطين، وذعرت حين رأت الشمس مرتفعة، كأنها خشيت أن يفاجئها أحد وهي في هذا الموقف، فأسرعت إلى ضريح ولدها، وقبلت ذلك الحجر المنقوش عليه اسمه قبلة الخاشع، وعادت مسرعة من حيث أتت.
وعند ذلك سار الرجل العبوس في إثرها، وهي لا تراه، حتى انتهت إلى منزلها وهو في زقاق ضيق، وحاولت أن تدخل فأسرع العبوس ووضع يده على كتفها، فالتفتت إليه مرتعبة وهمت أن تصيح، ولكنه بادرها بإشارة سرية من أشائر الأرلنديين، وذهب اضطرابها، وجعلت تنظر إليه بدهش، فقال لها: ألست والدة ديك؟
فجزعت تلك الأم عند سماع اسم ولدها الميت، وقالت له: بالله لا تذكر هذا الاسم أمامي وأشفق علي. - إني كنت صديق ديك وأنت أمه. - قلت لك لا تذكر هذا الاسم؛ فإنهم يقتلوني أيضا إذا عرفوا أني في قيد الحياة؛ لأنهم يعتقدون أني ميتة كولدي، ولم يبق لي غير عزاء واحد في هذه الحياة التعيسة، وهو أني أذهب عند مطلع كل فجر فأبكي على ضريحه، فإذا علم الذين قتلوه أني في قيد الحياة كان الخطر عظيما علي. - لقد كان الخطر عظيما أمس، أما اليوم فقد زال كل خطر. - لماذا؟ - ذلك لأني سأحميك؛ فإني كنت صديق ولدك، وأنا ألد أعداء مس ألن بالمير التي مات ابنك ضحية هواها.
فصاحت المرأة عند ذلك صيحة خرجت معها مكنونات صدرها.
فقال لها الرجل العبوس: لا تفوهي بحرف هنا، وادخلي بي إلى منزلك؛ إذ يجب أن أعرف كل شيء، كي أستطيع أن أنتقم لابنك الحبيب.
3
ثم أخذ العبوس بيدها ودخل بها إلى منزلها، فذهبت تلك الأم المنكودة إلى غرفة ففتحتها، وقالت: هنا مات ولدي.
ثم انطرحت على مقعد في تلك الغرفة، وهي واهية القوى، وقالت للرجل العبوس: تقول إنك عرفت ولدي، وكنت صديقا له، فأين كنت تراه؟ - في ويت هال. - لا أعرف ذاك المكان الذي تذكره، ولكني كنت أعلم أن ولدي كان يبرح المنزل كل ليلة، فما كنت أعترضه؛ إذ كنت أراه يكاد يجن من يأسه.
فقال العبوس: إني غادرت لندرا مدة، ثم عدت إليها، فأخبروني أن ابنك قد مات شهيد الغرام، ولم أجد بين إخوانه من يخبرني حقيقة أمره؛ ولذلك أردت أن أعلم منك كل شيء بالتفصيل.
فوثقت تلك الأم منه لما رأته من دلائل الصدق والوفاء بين عينيه، ولا سيما أنه قد أشار لها تلك الإشارة الدالة على أنه مثلها من الأرلنديين، فحكت له حكايتها كما يأتي: إني امرأة أرلندية كان زوجي إنكليزيا، وهو من جنود البحارة، فرآني يوما في أحد موانئ أرلندا، وتزوج بي على اختلاف مذهبينا فتبعته إلى لندرا.
وبعد سنة من زواجنا غادرني وسافر في دارعة، فولدت غلاما بعد شهر من سفره، وما رأيته بعد ذلك العهد؛ لأن تلك الدارعة غرقت، وما نجا أحد من بحارتها، فعينت لي الحكومة راتبا صغيرا.
وقد خطر لي عند ذلك أن أعود إلى أهلي في أرلندا، غير أن مستقبل ولدي أثناني عن السفر، فاستخدمت في محل تجاري فكان راتبي منه وما أقبضه من الحكومة يساعداني على تربية ولدي وتعليمه.
ولما بلغ السادسة عشرة من عمره ترك المدرسة، واستخدم في أحد المصارف براتب كان يكفينا، فمنعني عن العمل، وأقمنا في هذا المنزل الذي تراه.
ودام ذلك عامين كنت في خلالهما أسعد أم وأسعد امرأة، إلى أن جاءنا يوما صاحب المنزل الذي نقيم فيه فقال لولدي: إن أرض هذا المنزل للورد من أعظم نبلاء إنكلترا، وإن هذا اللورد محتاج إلى سكرتير، فهل تريد أن تكون في خدمته فأسعى لك هذا السعي، فإنك تكسب منه ضعف ما تكسبه الآن.
فما ترددنا في قبول هذا الاقتراح، وفي اليوم التالي ذهب بولدي إلى اللورد، فأعجب بذكائه وعينه سكرتيرا له، فكان في كل يوم يذهب إلى منزله فيكتب له بإملائه جميع رسائله.
ومضى على ذلك شهران وأنا أحسب نفسي سعيدة بسعادة ولدي، وقد تغيرت عوائده تغيرا فجائيا لم أفطن له في ذلك العهد، مع أن عيون الأمهات تنفذ إلى أعماق قلوب أبنائهن فلا تخفاهن خافية من أسرارها.
فقد كان من عادته قبل دخوله في خدمة اللورد أن لا يكترث للبهرجة والزينة، وكانت ملابسه على أتم البساطة، لكن عاداته تغيرت بعد ذلك، فأصبح شديد التأنق كثير البهرجة، ثم تبدلت أخلاقه من الزهو إلى الانقباض بالتدريج، فما مر به عهد طويل حتى تجهم وجهه، ولم يعد يلقى إلا مقطب الجبين، فما شككت أن الغرام قد نفذ إلى قلبه.
وقد أتى لي يوما قائلا: إن اللورد بالمير كثرت أشغاله في هذه الأيام لانعقاد جلسات البرلمان، وإنه مضطر إلى الاشتغال معه في الليل، فصدقته وبقي شهران يخرج كل ليلة بعد العشاء، ومن ذلك العهد بدأت حياته السرية، وبدأ عذابه وعذابي، فكنت يوما أرى وجهه مقتما بظلمات اليأس فينقبض قلبي، ويوما أراه مشرقا بنور البشر فأفرح لفرحه، لكنه لم يكن يبوح لي بشيء من مكنونات صدره.
وما زلت معه بين اليأس والرجاء إلى أن جاءني يوما وعلائم السرور بادية بين عينيه، فقال: لقد حان لي أن أبوح لك بسري، فإني أحب ابنة اللورد بالمير.
فذعرت لهول هذا الخبر وقلت: ويحك أيها التعس كيف تحبها وبينكما هذا التباين في المقام؟ - ولكنها تحبني.
فجعلت أبكي وأتوسل إليه أن يرجع عن هذا الجنون، وأن يعتزل خدمة اللورد، لكنه أبى لاعتقاده أنها تحبه، وأنها راضية بزواجه، فاضطررت مكرهة إلى الامتثال؛ لأني رأيت السهم قد نفذ، ولم يبق سبيل لرده عن هذا الغرام الجائر.
ولا أدري ما جرى بينه وبين هذه الفتاة الهائلة، ولكني رأيت اليأس قد دب إلى قلبه بعد زمن قريب، فلم يعد يلين بكلامي، ولم يعد يتحدث بغير الموت.
إلى أن أصيب بحمى عقبها هذيان، فلم يكن يتكلم إلا عن مس ألن، ولم أكن أفارقه لحظة، ثم خفت وطأة الحمى وزال الهذيان بعد أسبوع، وكان ذلك اليوم يوم أحد، فسول لي القدر المحتوم أن أذهب إلى الكنيسة، فلما عدت منها رأيته شديد الاصفرار، فصحت بالرغم عني صيحة ذعر، أما هو فابتسم وقال: أسألك العفو يا أماه لما ترينه مني من نكران الجميل، فإني قد نسيت أمي الحنون ، ولم أفتكر إلا بشقائي والخلاص منه.
وعند ذلك رفع عنه الغطاء فصحت صيحة هائلة؛ ذلك أني رأيت الفراش مصبوغا بدمه الزكي.
وهنا انقطعت عن الحديث، وجعلت تبكي بكاء شديدا.
فأخذ الرجل العبوس بيدها، وجعل يعزيها بأرق الألفاظ إلى أن حبست دمعها، وعادت إلى الحديث فقالت ...
4
إن القنوط تمكن من صدر ولدي المنكود، وطعن نفسه بخنجر ثلاث طعنات.
ولما رأيت هذا المنظر الهائل جعلت أصيح مستنجدة، فأسرع إلي صاحب البيت، أما ولدي فإنه قال لي وهو يبتسم: لا فائدة من الاستغاثة يا أماه، فقد دنت الساعة.
ولم يكن مخطئا وا أسفاه! فإن كل جرح من جراحه الثلاثة كان قاتلا، ولكنه غالب بشبابه الموت ستا وثلاثين ساعة، لم يكن يفتر في خلالها عن طلب الغفران مني عما جناه علي، وعن ترديد اسم ألن.
ولما بدأ دور النزاع نظر إلي نظرة الحزين، وقال لي: إني أريد يا أماه أن أدفن في مقبرة كاثوليكية، وأن تدفن معي هذه المحفظة المختومة فتجعلينها وسادة لرأسي، فإن هذه المحفظة تحوي الرسائل التي كانت تبعثها إلي تلك الظالمة.
ثم قضى نحبه على صدري، فدعوت كاهنا أرلنديا فأخبرته بكل ما حدث وهو الكاهن صموئيل، فذهب وعاد بأربعة من الأرلنديين، وكنت قد وضعت المحفظة بيدي تحت رأسه، فأقفلوا التابوت وساروا بذلك الابن الحبيب الذي طالما تمنيت أن أفديه.
وهنا عادت إلى البكاء الأليم حتى لم يبق في جفنيها دمع، فقال لها الرجل العبوس: ألعلك رأيت مس ألن؟
فاضطربت المرأة واتقدت عيناها حين سمعت اسم قاتلة ابنها، وقالت: نعم رأيتها مرة واحدة، وعلمت أن ولدي قد أحبها لفرط جمالها، وأنها قتلته لما رأيت في عينيها من دلائل المكر والشر. - أين رأيتها يا سيدتي؟ - رأيتها هنا، فقد زارتني بعد وفاة ولدي بيوم واحد، وكنت وحدي لا أنيس لي غير اليأس، فرأيت الباب قد فتح ورأيت فتاة دخلت منه، فحسبت حين رأيتها أنها من ملائكة السماء، إلى أن كلمتني فعلمت أنها من أبالسة جهنم، وإليك ما قالته بلهجة السيادة والاستكبار: أيتها المرأة إني ابنة اللورد بالمير، وإن ولدك عشقني عشقا لم أدفعه إليه، وقد علمت وعلم أبي أنه لم يخلف لك شيئا من المال، ولذلك أتيت إليك كي أعطيك ما في هذه المحفظة من الأوراق المالية، فإنها تعينك على العيش، وفي مقابل ذلك أن تعطيني جميع أوراق ولدك.
فعلمت أنها تريد أن تشتري مني رسائلها إليه، فدفعت لها محفظتها باحتقار وقلت لها: إن كل أثر لولدي مقدس لا تمسه يدك الدنسة. فخرجت وقد نظرت إلي نظرة ملؤها الضغينة والحقد.
ومر على ذلك ثلاثة أيام، وبينما أنا جالسة في الليلة الثالثة أندب ولدي، رأيت زجاج النافذة قد كسر فجأة، ودخل منها رجلان متنكران مقنعان، فهجما علي ووضعا كمامة في فمي، ثم جعلا يبحثان في المنزل، فعلمت أنهما يبحثان عن رسائل مس ألن، ولكنهما ذهبا دون أن يظفرا بشيء؛ لأن الرسائل كانت في الضريح.
وفي اليوم التالي جاء صاحب المنزل وكان من المشفقين علي، فقال لي: إن حياتك هنا معرضة للخطر. فذهبت إلى أقفر شارع في لندرا فاختبأت به شهرين، وأذاع صاحب المنزل في خلالهما خبر وفاتي، فلما أيقنت أن خبر وفاتي قد اتصل بمس ألن عدت إلى المنزل الذي مات فيه ولدي، وأنا لا أخرج منه إلا مرة كل يوم عند الفجر كي أزور الضريح.
وهنا انتهت حكايتها وعادت إلى البكاء، فوقف الرجل العبوس وقال لها: إذن قد وضعت رسائل مس ألن في الضريح؟ - نعم. - ألا يعلم أحد بوجودها فيه؟ - لا يعلم بأمرها سواك، وإني لم أبح لك بسرها إلا حين رأيت إشارتك الرئيسية الأرلندية التي يجب أن يخضع لها كل الأرلنديين. - وأنا لا أبوح بما أؤتمن عليه من الأسرار، فثقي إن دم ولدك لا يذهب هدرا، والآن أخبريني كيف تعيشين؟ - إني أعيش بشغل يدي، وبفضل صاحب المنزل الذي أنا فيه.
فأخذ من جيبه قبضة من الجنيهات ودفعها إليها قائلا: إن أرلندا لا تهمل أبناءها.
ثم أفلت منها مسرعا كأنه لا يريد أن يسمع شكر هذه الأم البائسة، وسار في الشارع وهو يقول: لقد أصبحت ابنة بالمير في قبضة يدي. •••
وبعد حين كان مع الأب صموئيل يتباحثان عن ابن أرلندا، فقال له الكاهن: أرى أن الغلام لا يزال معرضا للأخطار. - لا خطر عليه ما زال مختبئا مع أمه في كنيسة المقبرة. - ولكن لا يمكن أن يقيما فيها مدة طويلة حذرا من افتضاح أمرهما. - هو ما تقول، لذلك سأذهب الآن وأخرجهما؛ إذ قد وجدت مكانا ليقيم الغلام فيه ولا يستطيع أحد إخراجه منه. - أين؟ - في مدرسة أبناء المسيح، وهي المدرسة التي بناها إدورد السادس، فجعلها تحت رعاية محافظ العاصمة، وجعل من امتيازاتها أن كل تلميذ يلبس ملابسها الرسمية لا يستطيع أحد مسه بسوء ولو كان من القاتلين، فلنفرض أن رالف دخل إلى هذه المدرسة ولقيه يوما أحد حراس سجن الطاحون، فإنه ينحني أمامه ولا يجسر على القبض عليه. - إني أعرف جميع ما ذكرته عن امتيازات هذه المدرسة، لكني أعلم أيضا أن إدخال الغلمان في سلك تلامذتها من أصعب الأمور. - ولكني وجدت طريقة ميسورة، ألا تذكر أنه حين وصول الفتى إلى لندرا مع أمه سرقته امرأة تدعى مسز فانوش؟ - نعم أذكر، لكني لا أدري ما كانت تريد من سرقته. - لكني أنا أعلم، فإنها أرادت أن تستعيض به عن غلام قتلته، وكان أهله عهدوا إليها بتربيته، وهذا الغلام إذا كان في قيد الحياة يحق له الدخول إلى هذه المدرسة؛ لأن أباه من الضباط، ولذلك سأعيد رالف إلى مسز فانوش.
فأجفل الكاهن وقال: كيف ذلك؟
أما الرجل العبوس فإنه ابتسم وقال: أرجوك أن تثق بي ألم تجربني في المهمات؟
ونظر إليه الكاهن نظرة إعجاب وقال: ولكن من أنت، فإني على طول عهدي بك لم أعرفك إلى الآن؟
فأطرق العبوس برأسه إلى الأرض وقال: لقد قلت لك إني رجل ارتكب أعظم الآثام، وهو يرجو عفو الله بأعظم توبة.
ثم نهض يحاول الذهاب، فقال له الكاهن: إلى أين؟ - إلى مسز فانوش.
ثم ودع الكاهن وخرج من الكنيسة، فلقي عند بابها شوكنج ينتظره، فقال له: إن فانوش لم تعد إلى منزلها في لندرا، وهي لا تزال في همبستاد. - إذن هلم بنا إليها.
5
لقد تركنا مسز فانوش في الجزء الأول من هذه الحلقة في منزلها في همبستاد، وكانت ترسل خادمتها كل يوم إلى لندرا؛ لأنها لم تكن تجسر على الذهاب إليها، فقد كانت تخشى ثلاثة أمور: أولهما أن يشكوها اللورد بالمير فتحقق الحكومة في أمرها، والثاني أن يعود أولئك الرجال الذين بحثوا عن رالف ولم يجدوه، والثالث أنها كانت تخشى مس إميلي وزوجها أن يطالبانها بولدهما.
وقد مرت العشرة أيام ولم يعد إليها الرجل العبوس وأعوانه، ولم يأتها أحد من قبل اللورد بالمير.
وفي اليوم العاشر أرسلت خادمتها إلى لندرا كي تبحث لها عن رسائل، وأقامت تنتظر وهي خائفة وكأنها تتوقع حدوث مصاب، إلى أن عادت الخادمة تحمل كتابا، أخذته وفضته بيد ترتجف ونظرت إلى التوقيع فاضطرب فؤادها، ثم قرأت الكتاب فكان متضمنا هذه الكلمات الوجيزة:
غدا أحضر مع امرأتي، ونرى ولدنا العزيز ...
وكان هذا الكتاب من الماجور واترلي زوج مسز إميلي، وضعت فانوش رأسها بين يديها وقالت: ماذا أعمل الآن؟ إني قتلت ولدهما منذ عشرة أعوام، أي حين عهد به إلي تخلصا من نفقاته، ولم أخبرهما بموته كي يواصلا إرسال النفقات، وسرقت ابن الأرلندية حين علمت بعزمهما على الحضور كي أجعله بدلا من ولدهما، فهرب الأرلندي مني، رباه كيف أعمل؟
وكانت الخادمة تسمع كلامها فقالت لها: لا أجد بأسا عليك، فإن والد الغلام سيذهب إلى منزلك في لندرا فتقول له العجوز إنك مسافرة مع الغلام.
فتنهدت فانوش وقالت: ولكنها تبيعني بعشرة جنيهات، بل إذا دفع لها أقل من هذا المبلغ ترشده إلى منزلي هنا، أنسيت كيف خانتني مع اللورد بالمير؟ - لقد أصبت، إذا شئت فلنسافر حقيقة. - ولكن إلى أين نسافر والماجور قادم غدا؟ - نسافر إلى بلدي في أيكوسيا. - ولكن الماجور يشكوني إلى الحكومة، ولا بد للبوليس أن يعلم في النهاية أين أنا، ثم يهتدون إلى ولتون الذي كان يعيننا على قتل أولئك الأطفال، فيحكم علينا بالإعدام جميعا.
فلم يظهر على الخادمة شيء من علائم الخوف ، وقالت: أما الشنق فهو أقل ما نستحقه، ولكن عزائي أن تلك العجوز الشمطاء ستموت معنا، فلو لم ترشد اللورد بالمير إلى منزلك لما أصبنا بهذه النكبة.
ولم تكد الخادمة تتم حديثها حتى سمعتا وقع خطوات في الحديقة، فوقفت المرأتان منذعرتين، وكان الليل قد أرخى سدوله فلم تريا أحدا ولكنهما كانتا تسمعان صوت اقتراب الخطوات.
ولم تمض هنيهة حتى رأتا أن باب الغرفة قد فتح، وظهر منه شوكنج، فرجعت فانوش منذعرة إلى الوراء؛ إذ عرفت أنه أحد أولئك الرجال الذين قيدوا اللورد وطلبوا منها رالف.
ثم رأت بعده الرجل العبوس، ولكنه لم يكن يلبس تلك الملابس التي رأته فيها منذ عشرة أيام، بل كان متنكرا بزي البوليس، فما شككت أنهما قادمان للقبض عليها.
وكان الاثنان مسلحين، فأشهر الرجل العبوس مسدسه، ودنا من فانوش وقال لها: إنك تعلمين، كما أعلم، أنه لا يوجد جيران لك في هذا المنزل، إذا استغثت لا يجيبك أحد، وفوق ذلك إني بملابس البوليس كما ترين.
سقطت فانوش راكعة على ركبتها والتمست العفو منه، فنظر إلى شوكنج وأمره أن يذهب بالخادمة إلى المطبخ ولا يدعها تهرب، فأخذ الخادمة ممتثلا، وبقي العبوس فقال لها: أول ما أبدأ به أني لست آتيا للقبض عليك، اطمئني، فإذا كنت لم أقبض عليك على ما لدي من براهين على جرائمك، فذلك لأني أريد الاتفاق معك، فإني أراك ذكية الفؤاد.
فارتعشت فانوش وجال في خاطرها أن هذا الرجل يريد أن يسهل لها سبيل الفرار مقابل مبلغ من المال، فقالت له: إني يا سيدي أفعل كل ما تريده مني، ولكني لست غنية.
فابتسم العبوس وقال: إنك مخطئة فلست بطالب مال، فاصغي إلي ودعيني أذكر لك شيئا من أمرك، فإنك قتلت إلى الآن عشرة أطفال منهم ابن الماجور واترلي، وسيأتي هذا الماجور غدا يطالبك بولده، فلا تستطيعين رده إليه، فيشكوك وينفضح أمرك، ولا يكون عقابك غير الشنق.
وكانت فانوش تضطرب اضطرابا شديدا، فقال لها: لكن إنقاذك ممكن من جميع هذه الأخطار، فإن الفتى الأرلندي الذي هرب من منزلك قد وجدناه، ويمكنك أن تقدميه للماجور بأنه ولده، فهو لا يعرف ابنه وقد دفعه إليك وهو في المهد منذ عشرة أعوام، ولم يره مرة بعد ذلك العهد.
وسألت فانوش: أين هو الفتى؟ - عندي. - أترده إلي؟ - كلا، لكني أضعه في مكان تذهبين إليه مع مسز إميلي والماجور فتجدونه فيه. - إني لا أفهم شيئا مما تقول. - لا بأس إذا لم تفهمي، فستعلمين كل شيء فيما بعد، أما الآن فانظري من هذه النافذة، ألا تجدين المنزل الأحمر المعتزل؟ - نعم، لكنه مقفر لا يسكنه أحد في الشتاء. - بل سيسكنه رجل عجوز يجب أن تذهبي إليه، وهو يخبرك بما يجب أن تصنعيه. - والغلام؟ - سيكون هناك. - أيكون وحده؟ - كلا مع أمه.
فأشكل هذا القول على فانوش، وعاد إليها سوء الظن بالرجل العبوس، فقالت: إني لا أعرف ذلك الرجل، حتى إني لا أعرف اسمه. - إنه يدعى ليرتون، فإذا ذهبت إليه يستقبلك في الحال، لكني أرى من دلائل عينيك أنك غير واثقة مني فدعيني الآن أهديك نصيحة، وهي أن تفعلي كل ما أقوله لك دون اعتراض، وإلا فإنك لا تسلمين من العقاب الذي تعرفينه.
فاضطربت فانوش وقالت: سأطيعك في كل ما تريد. - وإني أحذرك أيضا من الفرار، فإنك لا تخطين خطوة حتى يقبض عليك الجواسيس، أما إذا لم تخالفي قولي فإنك تبيتين آمنة من كل ما تخشينه. - لكن بقي أمر يا سيدي أظنك تجهله، وهو أن هذا الغلام الأرلندي وافر الذكاء شديد البأس، فهو يقول للماجور إنه ليس بولده الحقيقي، ويشكوني إليه. - إنك مخطئة، فإن الغلام سيعانقك حين يراك، ويفعل ويقول كل ما تريدينه، والآن أستودعك الله على أن أراك غدا، فاحذري أن تنقصي شيئا مما قلته لك، ولا تنسي المشنقة.
ثم تركها وذهب إلى شوكنج وقال له: هلم بنا، فإن لدينا مهمة خطيرة يجب قضاؤها في هذه الليلة.
ومشى أمامه فتبعه حتى وصلا إلى منزل صغير، فقال له الرجل العبوس: أتدري إلى أين نحن ذاهبان؟ إن ذلك لا يخطر في بالك ، مهمتنا في هذه الليلة نبش قبر ميت.
فاضطرب شوكنج، وقال: ألعل الميت في هذا المنزل؟
ولم يجبه الرجل العبوس، بل صعد أمامه وهو يشيعه، ففتح إحدى غرفه بمفتاح كان معه، ودخل ثم أقفل باب الغرفة.
ونظر شوكنج في أثاث الغرفة فلم يجد فيها غير كرسي وخزانة ومقعد، ولكنه لم يجد قبورا ولا موتى، فابتسم العبوس وقال له: إن القبور لا تبنى في المنازل أيها الأبله. - ولكني أراك في هذا المنزل كأنك صاحبه، وأنا أعرف منزلك. - إن لي في لندرا عشرين منزلا فاطمئن، فإنك لا تنام في الخلاء ما زلت في خدمتي، أما دخولي إلى هذا المنزل الآن فلكي أتنكر بغير الزي الذي أنا فيه؛ لأن رجال البوليس لا يحفرون القبور.
ثم خلع ثيابه وارتدى ملابس غيرها، وخرج مع شوكنج توا إلى الكنيسة، حيث كانت الأرلندية وابنها.
وقرع الباب ففتح له حارس الكنيسة، ودخل مع شوكنج وقال له: أحدث أمر جديد؟ - إن الغلام وأمه لا يزالان في الغرفة، وقد حضر في هذا المساء الكاهن صموئيل، فقابلهما وأمرني أن أطيعك في كل أمر.
وقال العبوس لشوكنج: انتظرني خارج الكنيسة إلى أن أعود إليك.
وقال لحارس الكنيسة: أحضر لي معدات الحفر؛ لأني أريد أن أنبش القبر الذي تعهده.
ثم تركه وصعد إلى الأرلندية المقيمة مع ولدها في قبة الجرس.
أما شوكنج فإنه وقف عند باب الكنيسة، وجعل ينظر نظرات خوف وذعر إلى القبور، فيضطرب ويقول في نفسه: إني ما خفت في حياتي من الأحياء، أما الأموات فلا طاقة لي على لقائهم.
وجعل المسكين ينتفض من الخوف بالرغم من ثقته الشديدة بالرجل العبوس، حتى إنه ترحم على أيام شقائه الماضية، وكاد يندم لانتظامه في خدمة الرجل العبوس.
ثم أقبل العبوس يحمل معدات الحفر فقال لشوكنج: هلم بنا.
فنظر شوكنج إلى تلك المعدات نظرة ذعر، وقال: أحق إذن إننا سننبش قبرا؟ - متى كنت ممازحا أيها الأبله؟
ثم التفت إلى حارس الكنيسة، وقال له: متى تفتح باب المقبرة عادة؟ - عند الفجر. - إنني سأذهب هذه الليلة بالفتى وأمه، فمتى ذهبنا تقفل باب المقبرة، ولا تفتحه إلا قرب الظهر أتدري لماذا؟ - لا. - ذلك كي لا تستطيع تلك المرأة التي تأتي عند كل فجر الحضور غدا حسب عادتها، فإننا سننبش القبر هذه الليلة، ولكن اطمئن فإننا لا نريد أخذ الميت، وفي صباح غد تحضر الحفار وتأمره أن يصلح الضريح بحيث إذا جاءت المرأة لا تعلم أنه قد نبش.
ثم تركه ومشى بين القبور أمام شوكنج، فكان يتبعه ورجلاه تضطربان من الخوف، حتى وصلا إلى ضريح شهيد الغرام، فأعطى العبوس المصباح لشوكنج، وجعل يحفر الضريح حتى انتهى إلى التابوت.
وهنا أخذ العرق ينصب من جبين شوكنج، وسقط المصباح من يده وانطفأ، وجعلت أسنانه تصطك من الخوف، وقال للعبوس بصوت يتهدج: ألعلك يا سيدي تضطرني إلى حمل الجثة. إني أسألك المعذرة فإن ذلك فوق طاقتي. - تبا لك من أبله، أتراني تلميذ طبيب يسرق الجثث لتشريحها، اذهب وانتظرني في الكنيسة فسأقضي هذه المهمة وحدي، بل قف مكانك فقد فرغت من هذه المهمة.
ثم فتح التابوت دون أن ينير المصباح، وأخرج لفافة من الورق كانت موضوعة تحت رأس الميت كما أخبرته أمه، وعاد فأهال التراب كما كان وهو يقول: نم آمنا أيها الحبيب فسأنتقم لك.
وعاد إلى الكنيسة وقال للحارس: أصحا الغلام من رقاده؟ - نعم. - إذن قل لأمه تحضر به، فإني أنتظرهما.
وبعد هنيهة خرج العبوس وشوكنج والغلام وأمه، فأقفل الحارس الباب، وركبوا جميعهم مركبة وسارت تنهب الأرض إلى همبستاد.
6
وكان الرجل العبوس قد أخبر الأرلندية بمشروعه، فركبت معه دون أن تسأله سؤالا، وكذلك ولدها فقد كان آمنا مطمئنا مع العبوس.
ولما سمع شوكنج العبوس يأمر السائق بالذهاب إلى همبستاد قال له: ألعلنا عائدين إلى منزل فانوش؟
فاضطربت الأم ورالف لذكر هذا الاسم، لكنهما لم يخافا.
أما العبوس فإنه قال: كلا، بل نحن ذاهبون إلى منزلي في البرية. - ألك منزل أيضا في البرية؟ - ليس منزلي بل منزلك.
فاختبل شوكنج وقال: أنا لي منازل في البرية؟ - نعم أنت.
ورأى شوكنج أن علائم الجد بادية بين عيني الرجل العبوس ، فقال له: إني رأيتك يا سيدي تخترع العجائب، وكنت أول من آمن بك، غير أني ليس لي منازل بل إن الغرفة التي استأجرتها ستنتهي مدة إيجارها غدا، وربما بت في الخلاء.
فقال له بلهجة المؤنب: ألعلك أنفقت الجنيهات العشرة التي قبضتها من اللورد بالمير؟
فأطرق برأسه خجلا وقال: إني ما قبضت مثل هذا المبلغ في حياتي، ولما وصل إلى يدي ظننت أنه لا يفنى وأسرعت في إنفاقه. - لا بأس فإن الأموات لا يحتاجون إلى مال ومنازل.
فابتسم وقال: لكني حي يا سيدي، أكلمك وتكلمني كما ترى. - أما أنا فسأبرهن لك أنك لست ميتا فقط، بل إنه لم يعد يوجد في الأرض اسم شوكنج.
وضحك شوكنج، وقال: إني شديد الأمانة يا سيدي، لكن ليس إلى هذا الحد. - اصبر وسترى، لكنك قائل في نفسك الآن إني من المجانين.
ولم يجبه شوكنج، لكنه جعل ينظر إليه وعلائم القلق بادية في عينيه. - وإذا طلبت إليك أن تذهب بي إلا بدلام بدلا من أن تتبعني إلى همبستاد، لا تجزع واصبر، وسترى أن كل ما قلته لك حقيقة لا ريب فيها.
واندفع شوكنج مع تيار الهواجس، وقد كانت حادثة المقبرة ضعضعت رشده، فأجهز كلام العبوس عليه.
ومما زاد في اضطرابه أن الأرلندية كانت تسمع كلام الرجل العبوس، فلم يظهر عليها شيء من علائم الدهشة على غرابة تلك الأقوال.
واستمرت المركبة تسير حتى أوقفها العبوس، فنظر شوكنج من بابها وقال: إننا ذاهبون إلى منزل فانوش. - أتظن؟ - بل أؤكد، انظر أليس هذا منزلها؟ - دون شك، ولكن اخرج الآن من المركبة وسوف ترى.
ثم خرج العبوس والأرلندية وغلامها، وخرج بعدهم شوكنج، وهو يعجب كيف أن العبوس يهزأ به على ما عرف به من الجد؟
وساروا جميعهم بضع خطوات يتقدمهم العبوس، إلى أن وقف عند منزل مقابل لمنزل فانوش وطرق بابه، فأسرع خادمه وفتح الباب.
وعند ذلك التفت شوكنج إلى الرجل العبوس وقال: إلى أين نحن ذاهبون؟
لزيارة منزلك في البرية. - ألا تزال تهزأ بي يا سيدي؟ - ومتى رأيتني مزحت أو كذبت؟
وعند ذلك فتح الباب فدفع العبوس شوكنج وساروا في إثره واجتازوا مماشي الحديقة، ثم دخلوا فسحة متسعة أرضها من المرمر، وفيها كثير من التماثيل، ففتح الخادم بابا فظهرت منه غرفة مفروشة بأجمل الرياش، وفي وسطها مائدة رصفت عليها صحون الطعام وأنواع الشراب، فقال شوكنج في نفسه: لا شك أني حالم، لكنه حلم جميل أرجو أن يطول إلى أن أشرب ما على هذه المائدة من الشراب.
فجلس العبوس حول المائدة واقتدوا به، فقال لشوكنج: لا شك أنك جائع، فإننا ما تعشينا بعد. - ولكني من الأموات يا سيدي وكيف يأكل المائتون؟ - إن شوكنج الذي مات ولست أنت. - ألست واحدا أنا وشوكنج؟ - سوف ترى أنك مخطئ، ولكن من كان مثلك من خيرة النبلاء لا يجلس على المائدة بهذه الملابس. - لنفرض أني أمسيت نبيلا، لكني أين أجد غير هذه الثياب؟ - إن خادم غرفتك يذهب بك إلى غرفة التزين، فتلبس ما يروق لك.
فجعل شوكنج يحيل نظره بين العبوس والأرلندية ويقول: خادم غرفتي! غرفة التزين! لا شك أني حالم، لكن هذا الحلم سيذهب بعقلي!
وعند ذلك قرع العبوس جرسا، ففتح باب ودخل منه خادم، فأسرع إلى شوكنج وانحنى أمامه بملء الاحترام، وقال: أتأمرون سعادتكم أن أذهب بكم إلى غرفة الملابس؟
فلما رأى شوكنج هذا الاحترام، وسمع الخادم يلقبه بألقاب السعادة، دنا من الرجل العبوس وقال له: اقرص يدي بالله، علي أستفيق فقد راعني هذا الحلم.
فدفعه العبوس بيده وقال: اذهب أيها الأبله، وكفاك حماقة.
فأيقن شوكنج بعد هذه الصدمة أنه حقيقة في يقظة، وسار في إثر الخادم وهو يقول في نفسه: إن الرجل الذي يهزأ بالبوليس، وتفتح له أبواب السجون، غير كثير عليه أن يهزأ بي.
وخرج الخادم من تلك الغرفة يتبعه شوكنج، وسار به من فسحة إلى فسحة، ومن قاعة إلى قاعة، وشوكنج ينظر إلى ما حوله من فاخر الرياش نظرات المجانين، حتى دخل به إلى قاعة الحمام وقال: يجدر بسعادتك أن تستحم.
فعاد شوكنج إلى الظن أنه حالم، لكنه وجد الحلم جميلا، فخلع ثيابه الرثة البالية واستحم، فلما فرغ من الاستحمام التمس منه الخادم أن يمشطه ويزينه فأذن له، ثم خرج من الحمام إلى القاعة التي خلع فيها ثيابه، فوجد بدلا من تلك الثياب الرثة قميصا من أنعم الكتان، ورباط رقبة أبيض، وصدرة أزرارها من النحاس الأصفر، وأخذ الخادم يلبسه بملء الاحترام.
ولما فرغ من جميع ذلك نظر في المرآة فأعجب بنفسه، ورأى أنه بات يشبه اللوردية، فقال له الخادم: والآن يا صاحب السعادة، أتريد أن أوصلك إلى قاعة الطعام؟
ونظر عندها شوكنج إلى الخادم نظرة تأنيب وقال له: والآن أيها الوقح ألا تريد الإيضاح؟ - مر يا سيدي ماذا تريد؟ - أولا أريد أن أعلم من أنت؟ - إني خادم غرفة سعادتكم. - أراك تلقبني بألقاب السعادة. - أما أنت اللورد ويلموت؟ - أنا اللورد ويلموت؟! - دون شك يا سيدي. - وأين أنا الآن؟ - في قصرك. - ولكن ألا تعلم أيها الأبله من أنا؟ - كيف لا أعلم يا سيدي، ألم أقل لك إنك اللورد ويلموت؟ - بل إني أدعى شوكنج، وليس لي منازل إلا في الحانات.
وعند ذلك سمع صوتا يقول له عند عتبة الباب: بل أنت اللورد ويلمورت، وهذا القصر قصرك فشوكنج قد مات.
فالتفت منذعرا فرأى الرجل العبوس وقد تردى بتلك الملابس التي كان يلبسها حين كان يدعو نفسه اللورد كورنهيل، فقال له الرجل العبوس: هلم بنا الآن إلى العشاء، وسأخبرك كيف أن شوكنج قد تقمص بجسم اللورد ويلموت.
فمشى شوكنج يريد أن يتبعه، ولكن الخادم استوقفه وقال له: لقد نسيت يا سيدي أن تأخذ نقودا.
فوقع هذا الكلام على شوكنج وقوع المياه الباردة على الرأس وقال: نقود! ومن أين تريد أن آخذها؟
فأجابه العبوس ضاحكا: إنك تأخذها من خزانتك يا حضرة اللورد.
ثم أراه خزانة جميلة كانت في الغرفة ومفتاحها فيها، وقال له: افتحها وخذ منها ما تشاء.
فامتثل وفتح الخزانة بيد ترتجف، فقال له: افتح الآن هذا الدرج.
ففتحه واصفر وجهه لما رآه من أكداس الذهب، ورجع خطوة إلى الوراء وهو يقول: ما هذه المناظر إني أكاد أجن. - إذا كان ذلك فخذ ما تريده من الذهب، فينتفع به قبل أن تجن.
فمد شوكنج يده إلى المال وهي ترتعش، وأخذ خمسة جنيهات وضعها في جيبه، وإنما اقتصر عليها لأنه ما رأى في حياته مثل هذا القدر من المال، فراعه منظر الذهب حتى إنه لم يستطع اغتنام الفرصة.
أما الرجل العبوس فإنه أخذ بيد شوكنج، وقال وهو يبتسم: إنك جائع دون شك. - لا أعلم، وكيف تريد أن أعلم إذا كنت جائعا وأنا لا أدري إلى الآن إذا كنت ميتا أم حيا؟
فضحك العبوس وسار به إلى المائدة، ولم يكن فيها فسأل شوكنج: أين الأرلندية وولدها؟ - إنهما نائمان. - أهما نائمان في قصري؟ - نعم.
فتمعن هنيهة ثم قال له: إني أخدمك يا سيدي منذ عهد بعيد، ألم أخدمك بإخلاص؟ - دون شك. - إذن أي ذنب جنيته فعاقبتني عنه بالهزء؟ - لست هازئا بك ولا ريب عندي بإخلاصك، فاجلس أمامي واشرب كأسا من الخمر ولنتحدث.
فصب في كأسه وشرب، وعند ذلك قام الرجل العبوس إلى منضدة صغيرة عليها معدات الكتابة، فأدناها من المائدة. - ما هذا ولماذا أدنيت أدوات الكتابة؟ - لتكتب وصيتك.
فصاح شوكنج صيحة منكرة، وسقطت الكأس من يده وقال: لقد علمت الآن سبب قولك لي إن شوكنج قد مات، فإنك وضعت لي سما في الخمر التي شربتها.
7
جرى بين الرجل العبوس وشوكنج حديث طويل، وفي اليوم التالي زارت فانوش شوكنج. فلندع الآن ما جرى بينهم إلى مقام آخر، ولنذهب بتصور القارئ إلى فندق سانت جمس حيث يقيم الماجور واترلي وامرأته مسز إميلي والدا الغلام اللذان أودعاه مسز فانوش.
كانت مسز إميلي قد تزوجت الماجور واترلي بعد موت أبيها، وهو من الأشراف الأغنياء، ولكنها لم ترث منه شيئا؛ لأن مال الأب لا يرثه غير بكر أبنائه في اصطلاح الإنكليز، وكان زوجها فقيرا فلم يكن لهما غير راتبه من الجيش.
وقد وصلا إلى لندرا في انتصاف الليل، فذهبا إلى ذلك الفندق وباتا فيه، وعند الصباح نهضا باكرا وجعلا يتحدثان ، قالت له امرأته: أأنت واثق من أننا سنلاقي هذا الولد العزيز بعد الفراق الطويل؟ - دون شك أيتها العزيزة سأجده حيث تركناه. - ولكني أشعر بانقباض في نفسي لا أدري له سببا، وأخشى أن يكون أصيب بمكروه، إننا لم نعلم شيئا عنه منذ عشرة أعوام. - إني أؤكد لك أنه حي.
فغطت رأسها بين يديها، وقالت: أما أنا فلا أجسر على تصديق ما تقول. - ما هذا الجنون أيتها الحبيبة، إني أقسم لك بأننا سنجده قويا جميلا معافى. - يظهر أن ثقتك شديدة بهذه المرأة التي عهدنا إليها تربيته.
فارتعش الماجور، وقال: دون شك. - مسكين ولدنا، من يدري كيف يكون مستقبله؟ - إنه لا يكون غنيا، ولكنه يخرج جنديا كأبيه. - ما هذا الظلم الفادح في شرائعنا، إن أبي مات عن كثير من الملايين ورثها أخي البكر. أيكون لأخي مثل تلك الثروة، ويعيش ولدي فقيرا منكودا؟
فسالت دمعة من عين هذا الوالد الحنون، وقال: ليست السعادة بالغنى أيتها الحبيبة، والآن إني ذاهب إلى منزل تلك المرأة، وسأعود إليك قريبا بولدنا الحبيب. - كيف ذلك؟ ألا أذهب معك؟ - كلا، إن السفر قد أتعبك، ثم إن الفرح قد يؤذيك، فابقي هنا وسأعود بعد ساعة. ثم تركها وركب مركبة وذهب إلى منزل فانوش في لندرا، حتى إذا وصل إليه دق الباب بيد تضطرب، ففتحت له الخادمة وقالت: ماذا تريد؟ - أريد مسز فانوش. - إن منزلها هنا يا سيدي، ولكنها ليست في منزلها، ألست الماجور واترلي؟ - نعم، أين ذهبت. - إنها في منزلها في همبستاد، وقد أرسلتني إلى هنا كي أنتظرك وأذهب بك إليها، فإنها مع ولدك في البرية.
فصاح الماجور صيحة فرح وقال: أهو بخير؟ - إنه على خير وعافية، فهلم بنا يا سيدي، إني أرى دلائل الجزع بادية عليك.
وسار الاثنان إلى همبستاد، وكانت فانوش تنتظر الماجور في غرفتها، فكان أول سؤال له: أين ولدي؟
فابتسمت فانوش وقالت: إني أعلم نفاد صبرك وشوقك إلى لقائه، غير أني أرجوك أن تصغي إلي، إن ابنك بخير وعافية، وهو على مسافة خطوتين من هذا المنزل، وسأذهب بك إليه في الحال .
فسكن جأش الماجور، وعادت فانوش إلى الحديث فقالت: إني عهدت بتربية غلامك إلى امرأة أرلندية فربته خير تربية، وصار يدعوها بأمه، فلما ورد كتابك كتبت إليها أن تحضر به. - ولكن لماذا لم تجئ به إلى هنا؟ - تفضل يا سيدي وانظر من هذه النافذة، ألا ترى سور حديقة، وأنه يوجد وراء هذا السور قصر للورد أرلندي واسع الثروة، وقد أحب هذا اللورد ولدك حبا شديدا، وهو يدعى اللورد ويلموت، فأحب أن يتبناه إذ ليس له أهل ولا بنون، وإنما قلت لك تلك الأقوال كي تعلم السبب لوجوده الآن في قصر اللورد، والآن هلم بنا إذا شئت أن تتبعني. - أأرى ولدي هناك؟ - دون شك.
وذهب الاثنان إلى القصر، فلما دخلا الحديقة كان رالف يلعب فيها، فنظر إلى الماجور نظرة انذهال، وقالت فانوش له: هو ذا ولدك. فأسرع إليه فحمله بين يديه، وصار يضمه إلى صدره ويقبله.
وفيما هو على ذلك أقبل خادم وقال له: إن مولاي اللورد ويلموت يعد نفسه سعيدا باستقبال الماجور واترلي في غرفته، فإنه مصاب بداء النقرس ولا يستطيع الخروج لاستقبالك.
فحمل الماجور رالف، وهو يعتقد أنه ولده وذهب إلى ويلموت، أي إلى صاحبنا شوكنج.
8
وكانت هذه الرواية قد مثلت مرارا أمام مؤلفها الرجل العبوس، حتى أتقنوا تمثيلها كل الإتقان.
فلما دخل الماجور رأى امرأة تذرف الدموع الغزيرة، وهي الأرلندية، فدنت منه قائلة: أتوسل إليك يا سيدي أن لا تفرقني عن ولدي، فقد ربيته وغذيته بلبني حتى بت أحبه.
فتأثر لكلامها ووعدها بما طلبت، ثم سار وراء الخادم إلى غرفة اللورد ويلموت، فوجد شيخا هرما نائما في سريره، وبالقرب منه شخص لابس ملابس سوداء.
وكان هذا الشيخ اللورد ويلموت، أي شوكنج، والرجل الواقف بالقرب منه العبوس، فحياهما الماجور، وجلس قرب السرير ومعه رالف.
ولما خرج الخادم قال ويلموت للماجور مشيرا إلى الرجل العبوس: إنه يا سيدي طبيبي الخاص.
فانحنى أمام الطبيب وعاد ويلموت إلى الحديث فقال: إن لهذا الغلام يا سيدي فضلا عظيما علي، فقد كان عزائي الوحيد في متاعبي وأوجاعي، وقد كان يأتي إلي كل يوم، فأذكر حين أراه ولدا وحيدا فقدته لما بينهما من الشبه الغريب. - أفقدت ولدك وهو في هذا العمر؟
فظهرت على اللورد علائم التأثر وقال: نعم، إنه يشبهه في كل شيء، واعلم يا سيدي أني أحببت ولدك كما كنت أحب ولدي، وأنا الآن مصاب بداء عضال، فأذن لي أن أضمن مستقبل هذا الغلام الحبيب.
ثم أشار إشارة إلى الطبيب، فجاءه بمحفظة، فأخذها اللورد وقال يخاطب الماجور: إنني لا أقرباء لي وليس لي من يرثني، فأحببت أن أجعل ابنك وريثي، وكتبت وصيتي بهذا الشأن بحيث لم يبق إلا أن توقع أنت عليها؛ كي يصح أني تبنيته، وإني جعلته وريثي، ولكني أشترط مقابل ذلك شرطا واحدا. - قل يا سيدي اللورد. - إن ولدك سيكون بفضل الثروة التي سأمنحه إياها من كبار الناس، ولذلك يجب أن يتعلم خير تعليم، وشرطي الذي أقترحه عليك هو أن يتعلم في مدرسة أبناء المسيح، وإن إدخاله سهل عليك لأنك من ضباط الجيش البري، وأبناء الضباط يؤثرون على سواهم في دخول هذه المدرسة. - هو ما تقول يا سيدي، فإن قضاء هذه المهمة سهل ميسور علي. - وإني أزيد على شرطي اقتراحا آخر، وهو أني أحب تنفيذ الشرط في الحال؛ إذ قد أموت قريبا لاستفحال دائي، ولا تستغرب هذا الطلب مني يا سيدي، فإن ولدي الفقيد كان من تلامذة هذه المدرسة. - إني أقبل يا سيدي جميع شروطك راضيا مسرورا، فإنني لا أرى أحسن من هذه المدرسة.
فأخذ اللورد عند ذلك عقد التبني وعرضه على الماجور، وفي هذا العقد بيان ثروة اللورد، وهي أموال يبلغ ريعها ثلاثين ألف جنيه في العام، وأراض كثيرة في أرلندا.
فلما رأى الماجور هذه الثروة العظيمة التي ستكون لولده، ورأى أنه هو الذي سيتولى إدارتها، أخذ القلم ووقع على العقد في الحال.
وعند ذلك تنهد الرجل العبوس تنهد الفرج؛ لأن هذا الضابط بات مقيدا بعد توقيعه، متعهدا بإدخال رالف الذي يعتقد أنه ولده إلى مدرسة أبناء المسيح .
أما الماجور فإنه قال للورد ويلموت: إن امرأتي تنتظر عودتي إلى الفندق بفارغ الصبر؛ لأنها لا تعلم إذا كان ابنها بين الأحياء أو الأموات، أتأذن لي يا سيدي أن أذهب إلى لندرا وأعود بها كي تشاركني في التوقيع على العقد؟ - دون شك فاذهب يا سيدي بأمن الله. •••
وبعد أن ذهب الماجور قال الطبيب - أي الرجل العبوس - للمرحوم شوكنج: إني راض عنك يا شوكنج، فقد أحسنت تمثيل دورك. - إني فهمت كل ما حدث يا سيدي ما خلا أمرا واحدا. - ما هو! - هو أن رالف بات ابن الماجور واترلي. - ذلك يكون إلى أن أظهر للماجور بالبراهين الناصعة أن رالف هو ابن السير أدمون بالمير، لكن هذا اليوم لا يزال بعيدا، وما زال الغلام في هذه المدرسة نكون آمنين عليه إلى أن يبلغ رشده، ويتولى زعامة الأرلنديين. - لقد سلمت في ذلك، لكن هذه الثروة الطائلة لمن تكون؟ - للغلام. - أهي حقيقة؟ - دون شك. - والأرض؟ - إنها بعض ما خصص للمهمة التي نسعى إلى قضائها. - ووالدة الغلام ماذا نصنع بها؟ - سندخلها بصفة خادمة للغلام.
فنظر شوكنج إلى العبوس نظرة إعجاب، وكف عن السؤال.
9
ولنعد الآن إلى مس ألن عقدة هذه الرواية، وعدوة الرجل العبوس اللدودة، فإنها كانت جالسة مع أبيها اللورد بالمير في غرفة أشغاله، يتحدثان عن مقالة كتبتها صحيفة التيمس عن فرار الغلام الأرلندي من سجن الطاحون بمساعي أحد زعماء الأرلنديين يلقب بالرجل العبوس، وأن البوليس أعياه التفتيش عن الغلام وعن العبوس الذي قتل أحد حراس السجن، ونوم الآخرين نوم تخدير، حتى إنها وضعت جائزة لمن يقبض عليه.
وكان أبوها يقرأ هذه المقالة، فلما أتم تلاوتها قالت له: لقد أخطأت التيمس يا أبي، فإن الرجل العبوس ليس من عامة الأرلنديين كما ذكرت، بل هو زعيمهم الأكبر، وهو نفس الشخص الذي قيدك في منزل تلك المرأة التي ذهبت إليها لإحضار رالف، وهو نفس الشخص الذي تجاسر على الدخول إلى غرفتي عند انتصاف الليل، وقد صدقت التيمس بقولها إنه سارق الغلام من السجن، وهو الذي أخفاه عن العيون. - ولكن أين خبأه ؟ - إني أعلم ما لم يعلمه البوليس من أمره، فإنه نكر الغلام باسم غريب، وأدخله مدرسة أبناء المسيح، فبات البوليس عاجزا عنه كما تعلم.
فاحتدم اللورد غيظا وقال: لكن كيف عرفت جميع هذا؟ - اصغ إلي يا أبي، إني لست سوى امرأة، ولكني أقسمت يمينا محرجة أن أحبط مشروع الأرلندي وأسحق واضعه. - إني لا أفهم ما تقولين. - إن الأرلنديين متى فقدوا زعيمهم تفرقوا، وتشتت شملهم، وما زعيمهم غير هذا الذي يلقبونه بالرجل العبوس، ويحسبونه من عوام الناس. - أتريدين مخاصمة هذا الشخص الشديد؟ - نعم، وإني واثقة من الفوز عليه، لكن بشرط واحد. - ما هو؟ - هو أن لا تسألني عن خطتي، وتفعل ما أقول لك دون اعتراض.
فاضطرب اللورد وقال: أحب يا ابنتي أن أرضيك في كل شيء، لكني أراك مقتحمة أخطارا قد تسوء عاقبتها.
فابتسمت الفتاة وقالت: لا أنكر يا أبي أني من النساء، لكن بين جنبي قلبا يحب الانتقام، وأنا أكره هذا الشخص السري كرها عجيبا، يسدد عزائمي وينيلني مأربي من إسقاطه؛ لذلك يجب أن تطيعني دون أن تسألني عن شيء.
فأطرق اللورد برأسه إلى الأرض وقال: سأفعل يا ابنتي كل ما تريدين.
وعلى ذلك فقد اتفق الاثنان على كره الرجل العبوس والانتقام منه.
وكان كره اللورد له أنه انتزع منه الغلام وحرمه من تلك الثروة الطائلة التي كان يطمع فيها، وهي تكرهه لأنه امتهنها ودخل إلى غرفتها في منتصف الليل ووقف على سرها، فإنه كان أخبرها بالرسائل التي عثر عليها بالضريح، فإنه لقيها في اليوم التالي، وقال لها إني أعرف مكان تلك الرسائل التي كتبتها إلى ديك المنكود الذي مات شهيد غرامك، فأصبحت منذ ذلك الحين تخضع له صاغرة، وتضمر له في نفسها حقدا لا يطفئ حره إلا القتل.
وكان الرجل العبوس قد وعدها حين لقيها آخر مرة أن يزورها في اليوم التالي عند انتصاف الليل، فمضى الزمن المضروب دون أن يحضر، ولكنها لقيت على المستوقد رسالة لم تعلم كيف أتت، ففضتها بيد ترتجف وقرأت ما يأتي :
مس ألن
سأغيب بضعة أيام، فلا أستطيع أن آتي في الموعد المعين، لكن اطمئني، فإني شديد الحرص على الرسائل فلا تنالها إلا يدي.
عدوك اللدود
فجعلت مس ألن منذ ذلك اليوم تنتظر الرجل العبوس كل ليلة، ولكنه لم يحضر فزاد حقدها وعولت على قتله شر قتل؛ لأنه بات مطلعا على أسرارها الفاضحة، ورأت أن أباها غير كفؤ لإعانتها، فعزمت على أن تستعين على عدوها برئيس الأساقفة الإنجليكان، لما بين الإنجليكان والكاثوليك من العداء الديني الذي لا يقارنه عداء.
ولما استقرت على هذا الرأي ركبت مركبة وذهبت إلى منزل الأسقف، لكنها قبل أن تبلغ إليه ذهبت إلى منزل امرأة فقيرة، كانت تستخدمها في أغراضها، فأوقفت مركبتها في الشارع ودخلت ماشية في الزقاق المؤدي إلى منزلها، فعلمت من تلك المرأة أن زوجها في السجن لدين عليه، فدفعت لها قيمة الدين، وأمرتها أن ترسله إليها بعد خروجه من السجن.
وكانت هذه المرأة مريضة، فعلمت منها أن الأب صموئيل يعودها في مرضها، وينعم عليها بما يقيها شر الجوع، فسرت مس ألن بهذا الاتفاق؛ إذ باتت واقفة على أثر هذا الكاهن، وذهبت من عندها بعدما حذرتها بوجوب كتمان أمرها عن الكاهن.
10
كان الزقاق الذي تسكن فيه هذه المرأة قذرا، كثرت فيه الحانات والسكارى، فبينما كانت مس ألن سائرة فيه إلى الشارع حيث تنتظرها المركبة رأت رجلين يتعقبانها، فخافت وأسرعت في سيرها، لكن أحد الرجلين أدركها فتأبط ذراعها، ثم خاصرها، وقال: إلى أين أنت ذاهبة أيتها الحسناء؟
فأفلتت منه وهربت، غير أنه جعل يركض في إثرها وقد انضم إليه رفيقه، فقبض عليها مرة ثانية وقال لها: لقد عرفتك، فإنك خليلة فارلن عدوي اللدود، إني ضربته أمس ضربة كسرت أسنانه، وسأسلبه اليوم خليلته.
وحاولت مس ألن أن تفلت منه فلم تستطع، فقالت له: دعني لست بخليلة هذا الرجل، وما سمعت اسمه قبل الآن. - بل أنت كاذبة، فقد عرفتك وليس خليلك هنا الآن فيحميك.
فتملصت مس ألن وجعلت تركض، ولكن السكير أدركها، وفيما هو ضاغط على خصرها أخرجت خنجرا صغيرا من جيبها وطعنته به طعنة نجلاء في صدره فأفلتها الرجل، وسقط يخبط بدمه، وأسرعت الفتاة بالعدو حتى كادت تبلغ موقف المركبة.
لكن السكارى خرجوا من تلك الحانات لما سمعوه من صياح الرجل، وانطلقوا كلهم في إثر الفتاة، فلم تمض هنيهة حتى طوقوها، وباتت محصورة بينهم، وكان بعضهم يمتهنها ويقول إنها من أهل الحي، وبعضهم يقول هي غريبة سارقة، وآخرون يقولون بل هي قاتلة سفاكة، هلموا إلى القبض عليها وجرها إلى مركز البوليس.
أما مس ألن فكانت تقاوم ما أمكنها المقاومة وتحاول الفرار، وفيما هي تناضل عن نفسها سقط البرقع الكثيف التي كانت مقنعة به، فانكشف وجهها وظهر جمالها للعيون، وكان خير شفيع لدى أولئك السكارى، حتى إن أحدهم التمس لها عذرا وقال: حرام أن تموت هذه المليحة شنقا.
فرد آخر: إن الشنق لا مفر منه إذا كان الجريح بات قتيلا.
أما مس ألن فإنها خافت في البدء خوفا شديدا، ثم عادت إليها سكينتها، فأجالت نظرا تائها بين أولئك المتجمهرين وقالت لهم بلهجة السيادة: لقد رأيتم وجهي، فهل يوجد من يعرفني؟
فقال أحد الحاضرين: إني في هذا الحي منذ ثلاثين عاما، فلم أرها في خلالها مرة واحدة.
وعادت مس ألن إلى الحديث فقالت: إن هذا الرجل السكير تعرض لي بالسوء، وطاردني إلى أن قبض علي وأراد بي شرا فطعنته دفاعا عن نفسي، ومن منكم لا يدافع عن نفسه في مواقف الخطر؟
فقال بعض الحاضرين: إنها مصيبة فيما تقول ولا لوم عليها.
وقال آخرون: بل يجب أن تسلم للشرع، وهو يحكم بأمرها.
وقالت صاحبة الخمارة: لا تغتروا بجمالها ونعومة يديها، فإنها من السارقات.
فتحمست مس ألن لهذه التهمة وقالت لها: لقد كذبت أيتها المرأة، ولو عرفتم من أنا لأطرقتم الرءوس إجلالا.
فقهقه بعض الحضور وقال: لنذهب بها إلى البوليس، فهو أعلم منا باحترام الأشراف.
وهنا اختلف المتجمهرون؛ فكان بعضهم معها وبعضهم عليها، غير أن الأكثرية كانوا يريدون الذهاب بها إلى مركز البوليس.
وقد اشتد نضالهم حتى كادوا يتخاصمون، وكاد الفريق القاضي عليها يفوز بها ، وفيما هم على ذلك دخل رجل بينهم لم يعلم أحد من أين أتى، ولكنه انقض عليهم انقضاض الصاعقة، فجعل يبدد شملهم يمنة ويسرة، ويدفع مس ألن إلى موقف المركبة، وكان كلما دفع رجلا من أولئك السكارى سقط على الأرض من قوة الصدمة.
وما زال يفرق عنها الناس وأنصارها منهم يساعدونه، حتى بلغ بها المركبة ففتح بابها وأدخلها إليها، ثم صعد في إثرها وأقفل الباب، وأمر السائق أن يسير إلى شارع أدم ستريت.
وعند ذاك تفرست مس ألن في ذلك الرجل الذي حماها وأنقذها من الافتضاح، فلما رأته صاحت صيحة دهش غريبة قابلها بالابتسام، فإنه كان عدوها الرجل العبوس.
11
ثم تنهدت جزعا ونظرت إلى هذا العدو الشديد نظرة الرجل الخائف، فابتسم الرجل العبوس وقال لها: اعترفي يا سيدتي أني أتيت حين الحاجة إلي فأنقذتك.
وزاد اضطراب الفتاة وقالت: أنت! - نعم أنا كما ترين. - ولكن من أنت؟ وكيف أجدك في كل سبيل؟ - إن ذلك من عوامل الصدفة والاتفاق يا سيدتي. - لكني لا أرى للصدفة دخلا في شئونك. - بل أقسم لك أني وجدت الليلة اتفاقا في هذا الشارع، فقدر لي أن أنقذك مما كنت فيه من الأخطار، وإني لا أعلم يا سيدتي كيف أتيت إلى هذا الشارع، ولعلك جئت إليه للبحث عن والدة ديك.
فاضطربت الفتاة لذكر اسم الفتى الذي قتلته حبا وقالت له: اسكت. - إذن أسألك المعذرة يا سيدتي عن جلوسي معك في هذه المركبة، فإني ما فعلت ذلك إلا لأني أحب أن أحادثك في بعض الشئون. - قل ما تريد فإني مصغية إليك، وفي هذا المقام لا يسعني إلا شكرك عن إنقاذي هذه الليلة، فإنهم لو ساروا بي إلى مركز البوليس لاضطررت إلى إظهار اسمي.
وقد قالت هذا القول بصوت أجش، دل على أنها مكرهة بعامل الأدب على شكره، لكن عينيها كانتا تدلان على ما يضمره قلبها من الحقد والشر.
ولم يكثرت العبوس لظواهر حقدها، وقال لها: أبدأ يا سيدتي بالاعتذار عن إخلالي بالموعد الذي عينته لك، ثم أخبرك أين توجد الرسائل التي كتبتها إلى ديك.
فاصفر وجه الفتاة، وخافت خوفا شديدا، حتى إنها أسفت لنجاتها من السكارى.
أما الرجل العبوس فإنه مضى في حديثه فقال: إن جواد مركبتك يا سيدتي سريع الجري، فقد وصلنا إلى جسر وستمنستر دون أن نتكلم شيئا، وأخشى أن نبلغ منزلك قبل أن يفرغ الحديث.
فأوقفت المركبة وقالت للسائق: لا تذهب بي توا إلى المنزل، بل سر بطريق الدير، وعرج على ندوة البرلمان، وسر من هذا الطريق حتى تصل إلى شارع ترافلفار، ثم نظرت إلى الرجل العبوس وقالت له: تكلم يا سيدي، فإني مصغية إليك.
فقال لها الرجل العبوس: إن ظواهر أعمالي يا سيدتي تدل على أني لست من أهل المدنية، لكني في الحقيقة على غير ذلك، ولا أنكر أني أخللت بما وعدتك به من زيارتك عند منتصف الليل، لكني كنت كثير المشاغل، فإنك تعلمين أنهم زجوا ابن أرلندا، أي ابن عمك العزيز، في سجن الطاحون، ثم علمت ما كان من إنقاذه وكفى بذلك شاغلا يمهد الاعتذار، لكنك تعلمين أيضا أن قيامة الحكومة قد قامت علي، وعينت جائزة لمن يقبض على الرجل العبوس ميتا أو حيا، فإذا كان الغلام أمن المخاطر ونجا من السجن، فإني في أشد مواقف الأخطار.
فقالت له بلهجة المتهكم: ألعلك تريد يا سيدي أن أحميك وأخفيك عن الرقباء؟ - بل إني أريد منك فوق ما تظنين، وأتوقع منك أشد من الخطر الذي أنا فيه. - كيف ذلك؟
فقال لها: إني ذلك الرجل الذي أنقذت الغلام من السجن، وأنا هو ذاك الرجل المتهم بقتل الحارس، وقد أخذ البوليس يبحث عني، فإذا عثروا علي حوكمت وشنقت، وأنت تكرهينني أليس كذلك؟ - لا أنكر أني أكرهك، وإن تكن قد أنقذتني منذ هنيهة. - ومع ذلك فإني صحبتك في مركبتك على معرفتي أنك عالمة بأمري، ونحن الآن في شارع البرلمان على قيد خطوتين من مركز البوليس، انظري تجدي البوليس واقفا على الرصيف، فإذا فتحت نافذة المركبة وأشرت إليه يسرع ويقبض علي، فلا يكون مصيري عندها إلا الشنق ، أهذا جل ما ترغبين ؟
فخفق فؤاد الفتاة خفوقا شديدا وردت: هذا أكيد. - ولكنك ترين أني لم أضطرب لهذا الخطر، ولا أزال جالسا بقربك غير خائف منك، فإني مسلح. - وماذا يفيدك السلاح مع رجال البوليس؟ - ولكنه يفيدني معك يا مس ألن، فليس سلاحي المسدس والخنجر، بل هو ذاك السر الذي تعلمينه.
فارتعشت مس ألن ولم تجب، ومضى في حديثه وقال: لقد قلت لك يا سيدتي إني أنتظر منك أكثر ما تظنين. - أحقيقة ما تقول وما عساك تريد مني؟ - أريد أن تكوني حليفتي فيما أنا شارع به من المهام.
فضحكت ضحك الهازئ وردت: لا شك أنك مجنون.
فقال لها ببرود: اصغي إلي يا سيدتي، إن أباك قد خان أرلندا. - إن أبي لم يخنها، فهو من الإنكليز. - ليكن ما تقولين، فإني لا أحب مجادلتك بالألفاظ، والذي أريده منك أن تشتركي معي في خدمة أرلندا. - إن هذا لا يكون، وإن فعلته فلا أفعله إلا مكرهة مضطرة. - من يعلم فقد تضطرين.
ثم نظر إليها تلك النظرة التي طالما فعلت في نفسها فعل الكهربائية، وأطرقت بنظرها كي يزول تأثير نظراته، ثم رفعت رأسها وقالت: إني أراك معتمدا على تلك الرسائل التي ألقتها إليك يد الاتفاق أو الجناية أو الإثم، أليست هذه الرسائل عندك؟ - نعم يا سيدتي. - من أين أخذتها؟ - من ضريح ديك هاريسون.
وتنهدت مس ألن وقالت في نفسها: لا شك أني بلهاء؛ إذ كان يجب أن يخطر لي هذا الخاطر.
وقد سكتت ولم تجب، وقال هذا الرجل العبوس: لقد أخطأت يا مس ألن، فإني غير معتمد على هذه الرسائل، ولكنني أبقيها عندي سلاحا أدافع به في آخر ساعة. - على أي شيء تعتمد في حملي على الاشتراك في خدمة أرلندا؟ - إن قلبك قد بلغ من كرهي إلى أبعد الغايات، ولكن لا بد لي من الاستيلاء على هذا القلب، ولا تعقد هذه المحالفة بيننا غير يد الغرام.
ثم فتح باب المركبة وهو يقول إلى اللقاء يا سيدتي. لا تخشي أمرا؛ لأن رسائلك في مكان أمين.
ووثب من المركبة مسرعا، وجعل يعدو مبتعدا عنها، وهي تنظر إليه باهتة معجبة حتى توارى عن الأنظار.
12
ثم ثابت إلى رشدها فكاد قلبها يتفطر من الغيظ وقالت: إن هذا الرجل قد غلبني، ولكن لا بد لي أن أسحقه كما الأفعى.
وكانت العواصف تثور في نفسها وتقول: من هذا الرجل الذي وقف على سري، وكيف عرف كل حقيقة من دقائق حياتي، وأنا لا أعلم شيئا من أمره، وإني أراه تارة من النبلاء، وتارة من العوام، فبينما هو يتنزه في هايد بارك ممتطيا أكرم جواد، إذ هو في وينغ في أقذر الحانات؟
وما هذه النظرات السحرية التي امتاز بها على أقرانه من الرجال؟ وما هذه القحة التي يبدو بها، فقد كلمني كمن له سلطان علي، وأنذرني واتهم أبي بالخيانة؟
ولما وصلت إلى هذا التصور شعرت أن كبرياءها قد انسحقت، فهاجت منها عوامل الانتقام وقالت: إن هذا لا يطاق، ولا بد من عقاب هذا الرجل، وليس له غير رئيس الأساقفة، فلا يفل الحديد إلا الحديد.
ثم أوقفت السائق وقالت: سر بي في الحال إلى لونتج هيل.
فامتثل السائق وسار جواده ينهب الأرض.
وكانت مس ألن تحدث نفسها خلال سير المركبة فتقول: لا جرم أن الكره الديني أشد من الكره السياسي، وهذا الأسقف سألجأ إليه فيعينني في انتقامي أكثر من مائة وزير.
وبعد ربع ساعة وصلت المركبة إلى منزل الأسقف، فخرجت مس ألن منها ودخلت إلى ذلك المنزل، فأقامت في قاعة الاستقبال وانتظرت فيها قدوم الأسقف.
ثم جاء الأسقف وهو بملابس السواد الدالة على أنه من أساقفة الإنجليكان، فلما دخل الغرفة ورأى مس ألن دهش بجمالها، ورجع خطوة إلى الوراء كأنما خشي تجربة الشيطان.
أما مس ألن فإنها ابتسمت، وقالت له: ألست يا سيدي بحضرة الأسقف السير بترس توين؟
فنظر إليها مقطبا وقال: نعم أنا هو. - ليطمئن بالك يا سيدي، فلست طالبة إحسان، وما أنا من عامة الناس. - من أنت يا سيدتي؟ - أرى أنك لم تعرفني. - هو ما تقولين، ولكن يخال لي أني رأيتك. - وأنا قد رأيتك مرتين عند أبي .
فدهش الأسقف وقال: عند أبيك يا سيدتي؟ - نعم، وقد حضرت مجلسكما فكنتما تتحدثان بأمور خطيرة.
فحدق بها وقال: إنني ذكرت الآن إني رأيتك، ولكني أرى أنك قد تغيرت. - لم يتغير بي شيء غير ملابسي، على أني لا أريد أن أتعب ذاكرتك، إني أدعى مس ألن ابنة اللورد بالمير.
فكان لذكر اسمها تأثير شديد على الأسقف، فإنه وقف وانحنى أمامها باحترام، ثم قال: أسألك المعذرة، يا سيدتي، فقد عرفتك الآن حق العرفان. - إذن اعلم يا سيدي الأسقف أني ما أتيت إليك في الساعة العاشرة إلا لأمر خطير.
فانحنى الأسقف أيضا، وقال: إني مصغ إليك. - إني قادمة من أجل أرلندا.
فاتقدت عينا الأسقف لذكر أرلندا، وظهرت منهما علائم الحقد، فسرت مس ألن لهذه العلائم وقالت له: إن ابنة اللورد بالمير يا سيدي مطلعة على دقائق السياسة كما لا يخفاك. - لا ريب عندي في ذلك يا سيدتي، فقد ذكرت حضورك حين كنت أحادث أباك بهذه الشئون واشتراكك معنا بالآراء. - ذلك لأن أبي ليس له كاتم أسرار سواي، فأنا أفتح رسائله، وأنا أكاتب باسمه كبار الناس، ولأبي نفوذ كبير في المجلس الأعلى كما تعلم. - ذلك أمر مشهور، فإنه أشد اللوردية نفوذا. - ثم إنه ألد عدو لأرلندا ولأولئك الأشقياء الأرلنديين الذين تفاقم شرهم في هذه الأيام، وجعلوا يحاربون إنكلترا بالسر.
فاتقدت عينا الأسقف ببارق الحقد.
وأتمت مس ألن حديثها وقالت: غير أن أعداءهم أشد من أعداء أبي وأحزابه.
فقطب الأسقف جبينه وقال: من هم هؤلاء الأعداء يا سيدتي؟ - أنت ورجالك. - أتظنين؟ - أؤكد؛ لأن العداء السياسي قد يزول بزوال السبب، خلافا للعداء الديني فإن ناره لا تخمد. وإن الكاهن الإنجليكاني يكره الكاثوليكي، وما مقر أولئك الكاثوليك في بلادنا غير أرلندا. - هو ما تقولين. - ولأجل هذا أتيتك؛ لأني أذكر أنك عرضت على أبي أن تساعده بذلك الجيش السري الذي تتولى أنت قيادته، أليس كذلك؟
فنظر السير بترس توين إلى الفتاة دون أن يجيبها، فرآها تبتسم ابتسامة ممزوجة بالثقة والهزء كما يبتسم أهل السياسة .
وعادت إلى الحديث فقالت : إن للمذهب الإنجليكاني جمعيات دينية لها أغراض سياسية، ولديها جمعيات سرية لها نفوذ عظيم على أساقفة المذهب، حتى على أسقف كونتوربوري نفسه. وأنا أعلم يا سيدي أنك الزعيم الأكبر لأعظم هذه الجمعيات السرية، التي عزمت عزما أكيدا على إبادة الأرلنديين. - هو ما تقولين. - ولأجل هذا أتيتك؛ لأن أبي أخطأ برفض ما عرضته عليه من المساعدة، غير أني لا أرتكب ما ارتكبه من الخطأ. - ألعل أباك اللورد أدرك هذا الخطأ. - كلا لست آتية من قبل أبي. - إذن من قبل من؟
فأجابته ببرود: إني آتية من نفسي.
فنظر الأسقف عند ذلك إليها معجبا، ثم ارتعش حين التقى نظره بنظرها، ورأى ذلك الشعاع الذي ينبعث من عينيها، فيدل على توقد الذكاء وثبات الإرادة، فوثق لفوره بهذه الفتاة التي زادتها الطبيعة قوة بما وهبتها من سلاح الجمال، وقال لها: تكلمي يا سيدتي، إني مصغ إليك وفي إصغائي دلالة على رضاي بمحالفتك. - إذن اعلم يا سيدي، ولا أزيدك علما أنك ورجالك قد ضربتم أرلندا ضربات رهيبة، ولكنكم لم تفوزوا إلى الآن؛ لأن توماس الجن ذاك المرابي الخاضع لكم كل الخضوع، قد أحبطت مساعيه، فإنه ما لبث أن سجن الكاهن صموئيل، حتى خرج الكاهن من سجنه وعاد إلى زعامة قومه. - أتعرفين هذا؟ - بل أعرف أيضا أن أعداءكم الأرلنديين كانوا ينتظرون أربعة زعماء اتفقوا على الاجتماع في صباح الأحد في كنيسة سانت جيل، مع ذلك الكاهن الذي ذكرته لك. - هذا أكيد. - إن الكاهن خرج من السجن، ولكن الزعماء الأربعة تاهوا في شوارع لندرا، ولم يتمكنوا من الاجتماع في الكنيسة لسجن الكاهن في اليوم المعين، وهم لا يعرف بعضهم بعضا. - هذا أكيد أيضا. - وإن توماس الجن كاد يموت قتيلا، وخرج الكاهن من السجن، واجتمع الزعماء الأربعة بعد تفريقهم. ألا ترى يا سيدي، إني واقفة على دقائق هذه الحوادث؟ - هو ما تقولين، ولكني معجب كيف وقفت على هذه الأسرار؟ - وسيكون عجبك أشد حين تعلم أني أعرف منها فوق ما تعرف، أتذكر يا سيدي كيف أنهم خطفوا ابن أرلندا من السجن؟ - نعم، وقد كان خطفه رجل من عمال الأرلنديين، ويلقب بالرجل العبوس. - وهذا الذي تجهله يا سيدي؛ لأن هذا الرجل ليس من عمالهم، بل هو زعيمهم الأكبر، أرأيت أني علمت ما لم تعلمه وأنت رئيس الجمعية السرية الكبرى، وما لم يعلمه أبي وهو أعظم رجل في البرلمان؟
فحاول السير بترس توين أن يجيبها، ولكنها أوقفته بإشارة وقالت: إن الرجل الذي عرفت أنه زعيم الأرلنديين الأكبر، والذي عجز عنه بوليس لندرا، قد عرفته أنا ورأيته.
فاضطرب الأسقف وقال: أنت رأيته! وأين كان ذلك؟ - إني رأيته مرات كثيرة في منزلي وفي الخارج. - متى؟ - لقد جاء إلى منزلي منذ ثلاثة أسابيع، ورأيته أيضا منذ أسبوع، ومنذ ساعة. - منذ ساعة؟ - نعم، وقد كان جالسا أمامي في المركبة، يكلمني دون كلفة كما أكلمك.
فتعجب الأسقف وقال: ولكن، من أين أتى ذاك الشخص؟ وماذا يريد؟ - إن هذا سر من أسراري. والآن، أتريد أن تعلم لماذا أتيت إليك؟ - دون شك. - إذن، أعلم أنك مع أصحابك تكرهون أرلندا كرها قويا دعا إليه التعصب الديني، ولكني أكره أرلندا؛ لأني أكره الشخص الذي يتولى زعامة الأرلنديين، ويعد لهم فوزا قد يكون قريبا.
فامتعض وجه الأسقف وقال: كلا، إن ذلك لا يكون. - بل هو كائن إذا تغافلنا عنه، ولكني أقسمت يمينا محرجة أن لا تثبط لي همة، ولا تتراخى لي عزيمة قبل أن أسحق ذاك الشخص، وهذا هو السبب الذي أتيتك من أجله.
وإذا تحالفنا كنت عوني على زعيم الأرلنديين، وكنت عونك على تمزيق شملهم.
أتريد أن تكون حليفي؟
فمد الأسقف يده وصافحها، وقد اتقدت في عيونها بوارق الانتقام، وبات للرجل العبوس عدوان قديران لا يستهان بهما.
13
ولنعد الآن إلى امرأة بادي، وهي تلك المرأة التي زارتها مس ألن وأعطتها ما على زوجها من الدين كي تخرجه من السجن، وأمرتها أن تبعثه إليها بعد إطلاق سراحه.
وفي اليوم التالي أخرجت المرأة زوجها من السجن، وجاءت به إلى المنزل، فسر سرورا عظيما، ثم سألها عن الذي أحسن إليها ، فقالت له: مس ألن .
فلم تظهر عليه علائم الامتنان، بل إنه امتعض وقال: لا شك أنها محتاجة إلي. - هو ما تقول، إنها تنتظرك الليلة. - أين؟ - عند باب حديقة منزلها.
فصمت بادي هنيهة، ثم قال: إن مس ألن نبيلة وغنية، ولكنها شريرة. - إني أعلم ما تعلمه عنها، ولكنها محتاجة إلينا، فهي تدفع لنا أجرة خدماتنا. - وإذا أرادت أن تستخدمنا لأمر سيئ؟
فهزت امرأته كتفيها وقالت: إن من برح به الفقر، وبات يخشى على أولاده من الموت جوعا، لا يبالي بالمقاصد؟
فاضطرب بادي وقال: إني بت نادما لخروجي من السجن. - هذا ما كنت أتوقعه منك، فقد تعودت الكسل حتى بت عاجزا عن العمل.
وكأنما هذا التقريع قد أثر بالزوج فقال لها: اصغي إلي يا امرأتي العزيزة، إنك تعلمين أني أنتهي بعد كل جدال بالإذعان لك والامتثال لما تريدين، فاعلمي الآن أن مس ألن لم تشفق علينا هذا الإشفاق إلا وهي تريد أن تستخدمنا في أسوأ المقاصد، فإذا شئت كنت آلة في يدها، ولكني إذا أصبت بمكروه، وكانت عاقبة خدمتي تلك الفتاة الشنق، فإن تبعة دمائي تقع عليك، وأنت المسئولة عن بنينا. - إني راضية بهذه التبعة، وإنها لن تقع علي. - إذا كان ذلك فإنا راض، وسأذهب إلى مس ألن كما تريدين.
وتعشى بادي مع امرأته وأولاده، ثم خرج من المنزل وقال لامرأته: إني ذاهب لمقابلة الأصحاب. - ولكن احذر أن تنسى الموعد المعين، فإنها بانتظارك.
ومضى بادي إلى إحدى الحانات حيث يجتمع أصدقاؤه، فلقي اثنين منهم، فجلس معهما وجعلوا يتحدثون بالأعمال ومشاقها، فكان بادي يشكو ويتململ، والرفيقان يتشاوران بالنظر.
إلى أن بدرت منهما نظرة تدل على الاتفاق، فقال له أحدهما: لقد خطر لنا أن نشركك في مهمة عهدت إلينا يكون لك منها مال وفير. - ما هي هذه المهمة؟ - إن الحكومة عينت جائزة قدرها مائتا جنيه لمن يقبض على الرجل العبوس، وقد وقفنا على آثار ذاك الشخص الهائل وعلمنا أين يقيم، فهل لك أن تكون معنا فيكون لك ثلث الجائزة؟ إننا نستفيد من قوة ساعدك ، وأنت تستفيد من وقوفنا على آثاره. - لا أرفض ولا أقبل، وسأرجئ جوابي إلى الصباح إذ علي مهمة.
فأجابه أحدهما: لقد أخطأت فإن فوزنا مضمون. - ولكني تعهدت عهدا لا بد لي من قضائه، وقد أقضي مهمتي في ساعة وأتبعكما، فأين تكونان؟ - في روتشريت قرب الكنيسة، وربما كنا في المقبرة. - في أية ساعة؟ - عند انتصاف الليل. - إذن سأوافيكما.
ثم شرب كأسه وودعهما، وانصرف إلى منزل مس ألن وهو يقول: لا أدري ماذا تريد مني تلك الفتاة، ولكني كنت أؤثر لولا امرأتي أن أكون مع هذين الزميلين، وأعينهما على سفالة غايتهما، فإنهما أشرف من صدق تلك الفتاة كيف كان. •••
ولندخل الآن إلى قصر اللورد بالمير من حديقته إلى غرفة مشرفة عليها، حيث كانت مس ألن جالسة وحدها تنتظر، فإنها بعد أن تعشت مع أبيها تركها وذهب إلى البرلمان، ودخلت هي إلى مخدعها، بعد أن منعت الخدم من الدخول إليها.
وكانت قد أقامت في الليلة السابقة في تلك الغرفة، فكانت تخرج من حين إلى حين إلى الحديقة وتطل من بابها، عساها تجد بادي الذي كانت تنتظره ولم يحضر.
وفي الليلة التالية دخلت إلى الغرفة نفسها، ولم تكن وحدها بل كان معها الأسقف بترس توين.
وكان كلاهما يتكلمان بصوت منخفض، فكانت مس ألن تنهض عند كل فترة من الحديث إلى النافذة، فتطل منها وتصغي.
فسألها الأسقف: ألعلك تنتظرين قدوم أحد؟ - نعم، إني أنتظر ذلك الرجل الذي أخبرتك عنه، وإني معجبة لإبطائه وقد دفعت لامرأته ما كان عليه من الدين كي تخرجه من السجن. - لعلها لقيت بعض الموانع، وما عسى تريدين منه؟ - إنه ينفعنا نفعا كبيرا، فقد قلت لك إن امرأته وأولاده كانوا عائشين مدة سجنه من فضل كاهن كاثوليكي. - ألعله الأب صموئيل زعيم الأرلنديين؟ - هو نفسه، ولكن هذا الكاهن ليس زعيم الأرلنديين، بل هو أحد الزعماء، وما الزعيم الأكبر إلا الرجل العبوس؛ ولذلك أرجو باستخدام هذا الشخص الذي أنتظره أن أعرف مركز الأب صموئيل، ومتى اقتفينا أثر الأب عرفنا مكان الرجل العبوس. - لقد أصبت، ولكن هذه الحرية والمساواة في إنكلترا، تضران بنا ضررا بليغا.
إن الحكومة تعلم أن لهذا الكاهن أعظم اتصال بالعصابات الأرلندية السرية، فلو كان ذلك في غير هذه البلاد لقضت الحكومة عليه في الحال، ولكنها عندنا لا تقبض عليه إلا متلبسا بالجريمة مهما علمت خفاياه، ولولا ذلك لبلغنا منه ما نريد. - إنك ترى إذن ما أراه، وهو أنه لا بد من استعمال الحيلة. - هو ما تقولين، وهذا ما كنت أبحث عنه، ولعلي أجد حيلة تسهل لنا المراد.
وعند ذلك سمعت مس ألن قرعا على باب الحديقة، فقالت: هو ذا الشخص الذي أنتظره قد أتى، فاصبر إلى أن أفتح له.
ثم خرجت إلى الحديقة وفتحت الباب، فكان الطارق بادي، فسارت أمامه وأمرته أن يتبعها إلى حيث كان الأسقف ينتظرها.
فقالت له: لا بأس أن تجيبني عما أريد أمام حضرة الأسقف، فإنه من أصدقائي، واعلم أني ما دعوتك إلا لمهمة تضمن لك الخير والمستقبل الحسن.
فانحنى بادي أمامها وقال لها: هذا ما أرجوه يا سيدتي، فقد أبيت الآن قضاء مهمة كان لي منها مال جزيل. - قل لي ما هي تلك المهمة؟ - يظهر أن الحكومة وضعت جائزة، لمن يقبض على شخص يدعى الرجل العبوس.
فارتعش الأسقف والفتاة وقالت له: كيف عرفت ذلك؟ - عرفته من صديقين لي يقولان إنهما يعرفان مكان هذا الرجل، وطلبا إلي أن أساعدهما في القبض عليه على أن أنال ثلث الجائزة.
فبرقت أسرة الأسقف، واتقدت عينا الفتاة بأشعة الفرح، ولم يعلم أحد ما حصل بينهما وبين بادي، غير أن هذا الإنسان كان يقول حين خرج من ذلك القصر: ويح لنفسي! إنني بعتها بيع السلع لهذين الشيطانين الرجيمين.
وسار ذاك المنكود إلى منزله، فلقي ولديه نائمين وعليهما دلائل الراحة، وأمهما ساهرة بجانبهما، فقال لها بلهجة المتهكم: يظهر من نومهما الهادئ أنهما تعشيا عشاء طيبا هذه الليلة. - نعم، إن ذلك من فضل مس ألن المحسنة إلينا، ألعلك رأيتها؟ - نعم. - ولكني أراك آسفا، فهل لم تحسن استقبالك؟ - بل إنها قابلتني خير مقابلة. - إذن ألم تعهد إليك بمهمة؟ - بل كلفتني بما كنت أتوقعه منها.
ثم جعل يدخن صامتا مفكرا، وامرأته تنظر إليه، دون أن تجسر على مقاطعته، إلى أن قال لها فجأة: في أي يوم يزورك الأب صموئيل؟ - غدا، إذ تعود أن يزورنا كل أحد. - إنه من أهل الخير والصلاح، أليس كذلك؟ - دون شك فطالما أحسن إلينا، ووقى أولادنا شر الجوع.
فابتسم بادي ابتساما هائلا، وقال: إذن اعلمي أيتها الأم أننا سنخون هذا الإنسان الذي خلص أولادنا من الجوع.
فارتعشت المرأة ولم تجب، وعاد بادي إلى الكلام قائلا: إننا سنخون هذا الإنسان عملا بإرادة مس ألن، ألم تقولي لي أن من برح به الفقر، وخشي على أولاده الجوع لا يبالي بالمقاصد؟
فتنهدت المرأة وقالت: نعم، إن هذا معتقدي. - إذن سنخون هذا الأب الجليل. - ولكن كيف؟ - سوف ترين.
ثم قام يحاول الانصراف فسألته: إلى أين؟ - إلى حيث أنفذ أوامر مس ألن.
وودعها وانصرف ناظرا نظرة حنو إلى ولديه.
فلما توارى عن امرأته ابتسمت وقالت: وما تهمني خيانة هذا الكاهن، إنه أرلندي، وهل تجب الشفقة على الأرلنديين؟
أما بادي فإنه ذهب إلى مقبرة كنيسة سانت جورج، فالتقى بصديقيه اللذين لقيهما في الخمارة، وكانا كامنين في تلك المقبرة للرجل العبوس؛ كي يقبضا عليه وينالا جائزة البوليس.
14
لقد تركنا السير بترس توين ذلك الأسقف ومس ألن تلك الفتاة الهائلة مختليين في غرفتها، فلم يعلم أحد ما دبراه من مكائد السوء.
وبقي الأسقف عندها إلى الساعة الثانية بعد نصف الليل، فلما انصرف كانت علائم الفرح الأكيد ظاهرة على وجه الفتاة، إشارة إلى الانتصار، فإن الحقد لم يتجسم في قلبها تجسمه في تلك الليلة.
وكان من عادة مس ألن أن تدخل إلى مخدع أبيها في أي وقت أرادت، فخرجت من الغرفة التي كانت فيها مع الأسقف، وحاولت الذهاب إلى غرفة نومها فرأت، وهي سائرة في الرواق، نورا ينبعث من غرفة أبيها، فقالت في نفسها: إن جلسات البرلمان تعقد ليلا، وندر أن تنتهي في مثل هذا الوقت، ثم إن من عادة أبي أن يذهب إلى النادي بعد انصرافه من البرلمان، فلا يعود إلى المنزل قبل الفجر، فما باله اليوم قد غير تلك العادة؟
وقد شغل بالها على أبيها، فذهبت توا إلى غرفته وقرعت بابها، ثم والت القرع فلم يجبها أحد فقالت في نفسها: ألعله نام ونسي أن يطفئ المصباح؟
وعند ذلك نظرت من ثقب القفل، فرأت مائدة كبيرة وضعت عليها الكتب والجرائد، ورأت شخصا جالسا أمامه مديرا ظهره للباب، وهو غارق في بحار الهواجس والتأملات.
فعلمت من ذلك الثوب الطويل الذي كان متشحا به أنه ثوب أبيها، ففتحت الباب ودخلت، ولكن هذا الرجل الفكير لم ينهض من مكانه ولم يلتفت إليها.
فابتسمت مس ألن وقالت في نفسها: إن أبي يعتقد أنه من كبار رجال السياسة، فهو يتصور الآن أن العالم بات في قبضة يده.
ثم تقدمت خطوة إلى الأمام.
وعند ذلك سقط الرداء فجأة عن ذلك الرجل، والتفت إلى مس ألن، فصاحت صيحة رعب وجمد الدم في عروقها، وانعقد لسانها عن الكلام؛ ذلك أن هذا الرجل الذي كان متشحا برداء اللورد بالمير لم يكن اللورد بالمير، بل كان الرجل العبوس.
لما رأى الرجل العبوس ما كان منها وثب مسرعا إلى الباب، وأقفله كي يحول دون فرارها.
غير أن مس ألن لم تكن تستطيع الفرار لاضطراب رجليها، ولا تستطيع الاستغاثة لانعقاد لسانها من الرعب، فدنا منها الرجل العبوس وقال لها مبتسما: إني وعدتك يا مس ألن بزيارة، فوجب علي الوفاء بوعدي.
ثم تقدم منها ووضع يدها بين يديه، فتكهرب جسم الفتاة حين لمست يده، وعادت إليها كبرياؤها وهيبتها، فقالت له بصوت يتهدج من الغضب: أيها الشقي، إنك لن تخرج من هنا.
ثم وثبت إلى الجدار المعلق فيه حبل الجرس، ولكن العبوس سبقها إليه فحال بينها وبينه، وقال لها بصوت منخفض: اطمئني يا سيدتي، فإني لا أريد قتلك، ولا أتجاوز معك حد الاحترام، بل أقسم لك إني لا أقاوم خدمك متى دعوتهم للقبض علي، ولا أمنعك عن دعوتهم بعد أن تسمعي كلامي.
فعاد الرعب إلى قلبها وقالت: أنت! أنت !
أما العبوس فبقي محافظا على سكينته وقال لها: اصغي إلي يا سيدتي، وافعلي بعد ذلك ما تشائين، أما الآن فاعلمي أن أباك في النادي يلعب بالورق مع أصحابه، وهم أصحابي، وسيدوم لعبهم إلى الساعة الرابعة بعد نصف الليل، فإذا لم أعد إلى ذلك النادي في الساعة الرابعة، تكون حياة أبيك معرضة للخطر، فإن اثنين من رجالي كامنان له عند باب النادي ومستعدان لقتله حين خروجه منه، إلا إذا عدت إليهما وألغيت هذا الأمر.
أعلمتي الآن الخطر الذي ينذر أباك إذا قرعت الجرس، وقبض علي خدمك، اقرعيه إذا كنت تجسرين؟
فتجلدت مس ألن وقاومت نظرات العبوس، فقال لها: إني أحب منك هذه البسالة، فإنك عدو شديد من كان مثلي يحسب له حسابا، وإن عواطف المرأة لم تتغلب عليك؛ لأنك حويت في صدرك قلب رجل، فهلم نتحدث إذ لا تزال بيننا ساعة تكفينا للحديث.
ثم أخذ يدها مرة ثانية، وأجلسها على المقعد، فجلس بقربها وقال لها: إنك تكرهيني كثيرا. - نعم، إني أكرهك أشد كره، ولا أخافك. - لقد علمت أنك أقسمت يمينا محرجة على قتلي، وأن أسعد أيامك سيكون ذلك اليوم الذي أعلق فيه مشنوقا في سجن نوايت. - إنك واقف على الحقيقة، وهذا هو قصدي بعينه، اقتلني إذا شئت فإنك قادر على قتلي، وأنا لا أستطيع دفاعا.
فابتسم الرجل العبوس، وقال: كلا، إني لا أريد بك شرا، ولا أريد لك غير الخير. - ذلك لأنك معتمد على تلك الرسائل التي يفضحني إظهارها، ولاعتبارك أنها خير سلاح، ولكنك مخطئ يا سيدي، اعلم أن المرأة إذا اشتد حقدها تضحي بشرفها في سبيل الانتقام.
ففتح الرجل العبوس عند ذلك سترته، وأخذ من جيبه محفظة أوراق، ودفعها إليها وقال لها: إن رسائلك يا سيدتي في هذه المحفظة فخذي افحصيها، واطرحيها في النار.
مدت مس ألن يدا مضطربة إلى المحفظة، وقالت له: احذر فإنك تجرد نفسك من السلاح.
فأجاب مبتسما: إني ألقاك أعزل، ولا أخشاك.
فاصفر وجه الفتاة من الغيظ، وأخذت الرسائل منه وهي تقول : أتحسب نفسك قويا إلى هذا الحد؟
فلم يجبها العبوس إلا بالابتسام.
15
فهزت أريحية المروءة مس ألن، وقالت: وأنا أيضا لا أحارب عدوا مجردا من السلاح، فخذ هذه الرسائل التي كنت تنذرني بها، فإن القتال بيننا يكون أشد.
ابتسم العبوس أيضا وقال لها: بل دعيها معك وألقيها في النار، فلا فائدة لي بها، واسمعي أحدثك بأمر آخر، ألم أقل لك إني أقمت رجلين على باب النادي ليقتلا أباك إذا لم أعد إليهما في الساعة الرابعة؟ - نعم. - إذن فاعلمي أني كنت كاذبا فيما قلته، فإني لم أر أباك، ولا يكمن له أحد، وإنك ترين أني أصبحت من غير سلاح، فإن الرسائل معك، وإن أباك آمن في النادي، وما يمنعك من أن تقرعي الجرس وتنادي الخدم، فيقبضوا على الرجل الذي عجز بوليس لندرا عن القبض عليه.
ثم وقف أمامها مبتعدا عن الجرس، وقد وضع يديه فوق صدره وجعل ينظر إليها بسكينة واطمئنان.
فكانت عينا ألن تتقدان نارا وجسمها ينتفض، فقالت له: إنك شديد الجرأة أو غير حكيم، وإلا لما بدرت منك هذه الأقوال. - إذا كنت ترين ذلك لما لا تغتنمين الفرصة؟ - ألا تعلم أني أقسمت أن أسلمك للقضاء؟ - دون شك. - إذن أنت تريد أن تكون أكرم مني فيما فعلت، ولكني لا أدعك تفوز علي مثل هذا الفوز، نعم إني أكرهك وأريد لك كل شر، ولكني إذا كنت أريد هلاكك، فلا أحب أن أناله بالخيانة.
ولقد أحسنت بأنك جردت نفسك أمامي من السلاح، فلا أقاتلك وأنت أعزل، فخذ رسائلي إن شئت وارحل حرا آمنا، إن البوليس لن يقبض عليك تحت سقف منزلي.
فكف الرجل العبوس عن الابتسام، وتجهم وجهه، وقال لها: يا مس ألن أنت لست المرأة التي أريد أن تكون محط أمالي، غير أنك مشيت خطوة إلى قصدي.
فقالت له بلهجة المتهلل: أحق ما تقول؟ - إنك قد أصبحت مخلصة بعدائك. - ولكنه عداء لا يقف بي عند حد. - لكن كيف شئت، فإنه سيخدم مقاصدي في مستقبل الأيام.
فقالت له بلهجة تشف عن الاحتقار العظيم : تقول إنك تطمع أن أخدم مقاصدك، فهل يمكن معرفة هذه المقاصد؟ - دون شك، فإني ما أتيت إلا لهذا. - إذن تكلم، فإني مصغية إليك.
فقال لها الرجل العبوس وقد تكلف الرقة والدعة: يا مس ألن إنك صبية حسناء، وهبتك الطبيعة خير ما تهب أبناءها من الحمية والذكاء، وأنت من أنبل نساء المملكة، فإذا أيدت مشروعا فلا بد له من النجاح. - هذا ما أرجوه. - عفوك يا سيدتي، فقد أخطأت في تأويل كلامي، فإني لا أريد بما قلته المشروع الذي تخدمينه الآن، بل المشروع الذي ستخدمينه، وهو الذي سيفوز. - ما هو المشروع؟ - أرلندا؟
فأجابته بضحك يشف عن هزئها واحتقارها.
غير أن الرجل العبوس لم يكترث لظواهر احتقارها فقال لها: لقد كان لأبيك أخ مات شهيد أرلندا التي تهزئين بها الآن. - إن هذا الأخ كان من المتمردين العصاة. - سيأتي يوم يا مس ألن لا يكون الخائن المتمرد في عرفك هذا الأخ بل ... - حسبك لا تتم القول إنك تريد أن تعني أبي فيما أظن. - إذن سيأتي يوم وما هو ببعيد، توقفين فيه شبابك وجمالك وثروتك وذكاءك لخدمة أرلندا مهد أجدادك.
وكان الرجل العبوس يتكلم بلهجة الواثق المطمئن، فاضطربت مس ألن لسكينته وقالت له: اذهب يا سيدي. - لا أذهب قبل أن أخبرك كيف يكون تغيرك وانتقالك من حزب إلى حزب، وهو منحصر بكلمتين يا سيدتي وهما إنك ستحبينني.
فعبق وجهها بالاحمرار، وقالت له: كفى، اذهب في الحال، أو أفقد رشادي وأنادي الخدم.
وكان العبوس حين قال لها هذا القول تراجع حتى التصق بالجدار المسدولة فوقه الستائر.
وعادت تأمره بالذهاب، وهي تشير بيدها إلى الباب.
غير أنه لم يخرج من الباب التي كانت تشير إليه، بل إنه مد يده من تحت الستار، ولم يكن غير لحظة حتى رأت أنها باتت وحدها في تلك الغرفة.
ذلك أن هذا الرجل الغريب قد توارى عن أنظارها، وخرج من منفذ سري لم تعرفه هي ولا أبوها وهو منزلهما، فكادت تجن من الهوس لعرفانها أنه يستطيع الدخول إلى منزلها والخروج منه دون أن يراه أحد.
ووقفت هنيهة حائرة مضطربة لا تجسر على شيء إلى أن زال خوفها تباعا، فأخذت المصباح ودنت من المكان الذي توارى منه الرجل العبوس، فأزاحت الستار وبحثت طويلا في الموضع الذي رأته مد يده فيه، ولكنها لم تعثر على شيء.
فجعلت تنقر على الجدار علها تقف من اختلاف الصوت على مكان المنفذ فما اهتدت إلى شيء.
وطال بحثها حتى أدركت عجزها، ووضعت مصباحها فوق المستوقد قائلة: ما هذه العجائب التي مرت بي، ألعلي حالمة أو أنا من المجانين؟
غير أن الرسائل التي تركها الرجل العبوس كانت لا تزال في موضعها تجيبها بأفصح لسان أنها ليست مجنونة ولا حالمة.
وأسرعت إلى المحفظة، وأخذت منها تلك الرسائل التي كتبتها إلى ذلك الفتى المنكود، الذي قتلته حبا، وجعلت تعدها لأنها كانت تعرف مقدارها، فما انتهت من عدها حتى اصفر وجهها؛ إذ رأت أنها تنقص رسالة، ربما كانت هي الرسالة التي أوضحت فيها غرامها كل الإيضاح، وأغوت بها ذاك الفتى المنكود.
ولما خطر لها هذا الخاطر هاجت هياج اللبؤة وقالت: ويح لهذا الشقي، أنه لا يزال يهزأ بي، وإن ظفرت به مرة أخرى لا يجد في قلبي ذرة من الإشفاق والرحمة.
ثم طرحت تلك الرسائل في النار حتى إذا صارت رمادا سمعت صوت إقفال الباب الخارجي، وعلمت أن أباها اللورد بالمير قد عاد من النادي.
16
ووقفت عندها مس ألن موقف المترددة بين أن تنتظر أباها في غرفته حيث كانت، وبين أن تخرج منها قبل وصوله.
ثم رأت أنها لا بد لها من إخبار أبيها؛ لأن الرجل العبوس لو كان قد خرج من الباب لتمكن إنكار أمره عن أبيها، لكنه خرج من منفذ سري فلم تجد بدا من محادثته في شأنه للاشتراك معها في البحث عنه.
وعلى ذلك بقيت في الغرفة تنتظر دخول أبيها، فانذهل حين رآها وقال: ما تفعلين هنا في مثل هذه الساعة؟
فقالت له ببرود: إنك تعلم يا أبي شروطي. - نعم، إني أعلم أني أنا الساعد العامل، وأنت الرأس المرشد ، أليس كذلك؟ - نعم، ولكن يجب أن تكون أيضا الأب الذي يشير ويعلم ابنته ما تجهله. - ما تعنين بذلك وما تجهلين؟ - اسمح لي يا أبي قبل أن أوضح لك السبب لوجودي في غرفتك، أن أسألك أسئلة أرجو أن لا تدهش منها، فقل لي هل المنزل الذي نقيم فيه لنا؟ - دون شك يا ابنتي، فقد اتصل إلي بالإرث من أبي، ولم هذا السؤال؟ - سأخبرك فقل لي أيضا هل ألواح القاعة الخشبية قديمة العهد؟ - نعم. - وهذه القاعة التي نحن فيها، ألها غير بابين؟ - كلا وأنت ترينهما. - إنك مخطئ يا أبي، إنه يوجد باب ثالث. ثم أخذت المصباح وقالت له: تعال معي.
فتبعها اللورد بالمير إلى الجدار الذي طالما بحثت فيه عن اللولب السري.
وهناك أشارت إلى مكان فيه، وقالت: إن الباب الثالث يجب أن يكون هنا.
فأخذ اللورد المصباح من يدها، وجعل يبحث في كل مكان من الجدار، إلى أن أعياه البحث فقال لها: أين وجدت هذا الباب يا ابنتي، إني لا أرى له أقل أثر. - وأنا أيضا لا أراه مثلك، ولكني واثقة أنه موجود.
ثم تابعت بلهجة ثقة زعزعت اعتقاده: إني رأيت بعيني هذا الباب قد فتح وأقفل، وقد خرج منه شخص كان هنا منذ ساعة.
فرجع اللورد منذعرا، وقال: من هذا الشخص، وكيف يدخل إلى غرفتي؟ - إنه كان فيها وهو متشح بردائك وعلى رأسه قبعتك، وكان جالسا حول طاولتك، وظهره إلى الباب الذي دخلت منه.
فنظر اللورد إلى ابنته نظر الخائف، كأنما خشي أن تكون قد فقدت رشادها، غير أنها أشارت بيدها إلى ردائه وقبعته اللذين تركهما الرجل العبوس على الكرسي.
فنظر اللورد إليهما وقال: ولكن من هو؟ - إنه هو.
وقد قالت هذه الكلمة بصوت يتهدج من الغضب، ويعرب عما في فؤادها من الحقد، فعلم اللورد أنه ذلك الرجل الذي انتزع منه الغلام، وبات زعيما للأرلنديين، أي ذاك الرجل العبوس الذي عبث ببوليس لندرا، وتجاسر على الدخول إلى منزل لورد كي يخلو بابنته، بل ذاك الرجل الذي قيده وكممه في حديقة منزل فانوش، فاضطرب لجسارته النادرة، والتفت إلى ابنته وقال: إني أريد يا ألن أن أسديك نصيحة. - ما هي؟ - هي أن تنقطعي عن مناظرة هذا الرجل، فلنبرح إنكلترا سائحين. - لماذا يا أبي ألعلك خفته؟ - ليس خوفي على نفسي يا ابنتي، بل عليك. - لقد كان هذا اليوم يا أبي آخر أيام انتصارات هذا الرجل، وسأسحقه سحق الزجاج.
وكانت يد اللورد بالمير لا تزال تبحث في الجدار، فقال لها: ولكني لا أجد شيئا من أثر ذاك الباب، فإما أن يكون هذا الرجل من السحرة، أو تكون عيناك قد مثلتا لك هذه الأوهام.
ولكنها لم تجبه بل تركته، وأسرعت إلى النافذة، وجعلت تصغي فسمعت صوت صفير اصطلاحي.
وقد وصل الصفير إلى مسمع أبيها، فقال لها: ما هذا؟ - انتظرني هنا يا أبي.
ثم خرجت من الغرفة إلى الرواق، وهناك سلم نزلت منه إلى الحديقة.
وكانت الساعة قد بلغت الرابعة بعد انتصاف الليل، فاجتازت الحديقة غير هيابة، وفتحت بابها المشرف على الطريق.
أما الصفير الذي سمعته فقد كان رمزا اتفقت عليه مع بادي حين كان عندها، فإنه وعدها حين خروجه أن يعود إليها بعد اجتماعه برفيقيه الطامعين بالقبض على العبوس.
ولما فتحت الباب رأته واقفا فقالت له: ماذا حدث؟ - إني عرفت المكان الذي يختبئ به الرجل العبوس، فإنه يقيم في قبة جرس كنيسة سانت جورج.
فارتعشت، إذ ذكرت أن الفتى الذي خدعته وقتلته بغرامها قد دفن في مقبرة الكنيسة.
ثم قالت له: أعلم رفيقاك بهذا الاكتشاف؟ - لقد كانا يحسبان من قبل أنه في الكنيسة، فلما وثقت أنه في القبة أرجعتهما عن تلك الفكرة. - حسنا فعلت، فاحرص أن تخبرهما بشيء، وتعال معي الآن فإني محتاجة إليك.
فدخل بادي وأقفلت باب الحديقة وسارت أمامه، فتبعها طائعا ممتثلا، وذهبت به إلى غرفة في الحديقة فيها معدات وآلات، وأمرته أن يأتي بمطرقة وإزميلا ثم قالت له: اتبعني.
فحمل الآلتين وتبعها.
17
ولم يكن بادي يعلم شيئا مما تريده مس ألن، غير أنه عندما باع إرادته للفتاة عول أن يكون آلة صماء في يديها لقضاء أغراضها ، وفوق ذلك فقد كان يرى نفسه فقيرا معدما مغلوبا على أمره من امرأته وبنيه، ولم يكن قد تربى تربية صالحة تبعده عن مواقف الزلل، فرأى أنه لا وسيلة له يعيش بها عيشا شريفا، ورضي أن يخدم مس ألن كيف كانت مقاصدها.
أما مس ألن فإنها اجتازت به الحديقة إلى السلم، وصعدت منه إلى الرواق، ثم دخلت منه إلى الغرفة وهو يتبعها.
وكان اللورد لا يزال مضطربا لما سمعه من ابنته، فلما رآها عائدة بذلك الرجل الفقير، دهش وقال لها: من هذا؟ - هو شخص أستخدمه. - وما الآلات التي يحملها؟ - إن عيني لم تمثلا لي الأوهام يا أبي، كما قلت، ولست من اللواتي يعتقدن بالسحر، فلا بد أن يكون في الجدار مخرج سري أريد أن أعرف إلى أين ينتهي.
ثم حملت المصباح، وعادت إلى البحث في الجدار بحثا مدققا، فلم تقف على أثر لذلك الباب الذي رأته فتح وأغلق أمامها، ولكنها كانت تذكر مكانه فدلت بادي عليه وقالت له: افتح لي ثقبا هنا.
فأخذ بادي مطرقة وإزميله وبدأ بالعمل.
غير أن اللورد اعترض ابنته وقال: ماذا تفعلين إن صوت المطرقة سيوقظ جميع من في المنزل من الخدم، فيسرعون إلينا ويقفون على السر.
فقالت له بسكينة: اقفل الباب من الداخل بالمفتاح فلا يدخل إلينا أحد، وعاد بادي إلى العمل، فأزال قشرة الجدار وأصاب إزميله جسما صلبا.
فقال اللورد بالمير: إنه صخر صلب. - كلا، بل صفيحة من الحديد. - إذن أزل هذه الصفيحة.
وكانت إزالتها سهلة، فإنه جعل يثقب ما حواليها حتى أزال كل ما كانت عالقة به من الطين، فأخرجها من الجدار وانكشف ما تحتها، وصاحت مس ألن صيحة انتصار؛ إذ رأت بابا مصبوغا بلون الحديد لا قفل له ولا زلاج، لكن به زر من النحاس.
فأدارت الزر ففتح الباب في الحال، ودخل منه هواء رطب، وظهر رواق ضيق مظلم.
فالتفتت مس ألن إلى أبيها وقالت له: يجب أن نعلم إلى أين ينتهي هذا الدهليز. - وأنا من رأيك فاصبري إلى أن أعود.
ثم خرج إلى غرفة مجاورة، وعاد بمسدسين فدفع واحد لابنته، وتسلح بالآخر، وقال لها: هلمي بنا الآن.
أما مس ألن فإنها أعطت المصباح لبادي، وقالت له: سر أمامنا بهذا الدهليز.
وسار بادي أمامهما يحمل المصباح وهما يتبعانه، ولم يكن الدهليز طويلا فانتهوا منه إلى سلم، وعند ذلك نزل بادي ورفع المصباح إلى ما فوق رأسه كي ينير لهما الطريق.
وكانت درجات السلم كثيرة، ولما نزلوا ثلاثين درجة وقف بادي فقالت له: لماذا توقفت؟ - إني أسمع صيحة لا أعلم ما هي.
فأصغت وسمعت صوتا يشبه أمواج البحر يبلغ إلى المسامع من مسافة بعيدة، فقالت لبادي: إذا كنت خائفا هات المصباح فأنا أسير أمامك. - كلا يا سيدتي، فإني لست من الذين يخافون.
ثم مشى أمامهما وتبعاه، وكان هواء الدهليز يتغير تباعا كلما تقدموا في المسير حتى صار باردا نقيا، فعلمت مس ألن أنهم قد تجاوزوا حدود المنزل، وأنهم ينزلون في جوف الأرض.
ثم انتهوا من نزول السلم، فشعر بادي بأنه يسير فوق أرض رطبة تكاد تكون موحلة.
ورأى الثلاثة على نور المصباح أنهم في محل يشبه القبور، وفي هذا القبو منفذ إلى دهليز عريض.
والتفتت مس ألن عند ذلك إلى أبيها، وقالت له: لم نعلم شيئا من أمر هذا السلم والدهليز، فإن كليهما قديم العهد، انظر إلى حجارة القبة، فإنها سوداء تدل على مرور العصور بها.
وكان ذلك الصوت الذي سمعوه آخذا بالارتفاع، فوضع اللورد بالمير يده فوق جبينه، وقال: لقد ذكرت، فإننا الآن فيما أظن على مسافة قريبة من ويت هال، ولا شك أن الدهليز قد حفر في عهد شارل الأول حين كان سجينا، وقد حفره أعوانه لإنقاذه، وأظن أنه متصل بنهر التيمس قرب جسر وستمنستر، أما الصوت الذي نسمعه فهو صوت تكسر الأمواج على الصخور. - إذن فلنسر إلى النهاية.
ثم أخذت المصباح من بادي وسارت أمامهما في ذلك الدهليز، وهي تقول في نفسها: عجبا كيف تيسر للرجل العبوس اكتشاف الدهليز؟
18
وقد أصاب اللورد بالمير فيما قاله؛ لأن الدهليز قد حفره أنصار ذلك الملك التعيس شارل الأول كي ينقذوه.
وكانت مس ألن وأبوها وبادي كلما تقدموا خطوة في الدهليز وجدوا آثارا تدل على القدم، وقد رأت فوق تلك الأرض الرطبة آثار أقدام، فما شككت أنها خطوات العبوس صنعت تلك الآثار، فإن الدهليز لم يدخل إليه إنسان منذ مائتي عام.
ولبثت مس ألن تسير في طليعة رفيقيها، وصوت الأمواج يزيد ارتفاعا كلما تقدموا، مما يدل على قربهم من التيمس.
وفيما هم سائرون نفذت إليهم نسمة شديدة كادت تطفئ المصباح، فجعلت مس ألن تحميه بيديها وتصونه من الهواء، إلا أن الهواء اشتد فجأة فأطفأ المصباح، وباتوا يتخبطون في ظلام دامس.
ولكنها لم تحضر معها كبريتا وغيره من معدات النور، فاضطربت وخشيت أن لا تهتدي إلى الطريق، إلا أن بادي كان لديه علبة من ذلك الكبريت الشمعي الذي يستعمل للزينة لاقتباس النور، فهو لا يحرق لكنه ينير نورا أحمر هنيهة وجيزة ثم ينطفئ.
وأعطى بادي العلبة إلى اللورد، فأضاء واحدة منها وقال: إن العلبة تكفينا للعودة. - إلى أين نعود؟ - إلى المنزل. - هذا محال، فلا بد لي من البلوغ إلى نهاية الدهليز ولو مشيت في الظلام الحالك، ثم مشت أمامهما دون أن تنتظر جواب أبيها، غير مسترشدة إلا بذلك النور الضعيف.
وما زالت تسير وهي تشعر كلما تقدمت بازدياد رطوبة الأرض، حتى شعرت فجأة أنها تسير في المياه.
واقترح اللورد مرة ثانية أن يعودوا إلى المنزل ولكنها اعترضت، وعند ذلك ظهر لهم نور أحمر ينبعث من بعيد كأنه مصباح معلق بقبة الدهليز. - لم نعد في حاجة إلى النور، فإن النور المنبعث يرشدنا.
ولكنها لم تسر بضع خطوات حتى شعرت أن الماء قد بلغ إلى ركبتيها.
وكان اللورد يسير مقتفيا أثرها ويده على مسدسه، ومستعد لإطلاقه عند أول خطر تتعرض له ابنته.
وكانوا كلما قربوا ينجلي لهم النور، وتزيد أصوات المياه ارتفاعا حتى انتهوا من اجتياز السرداب المظلم، وعلموا أنه مشرف على نهر التيمس، ورأوا ذلك النور فكان مصباحا من الغاز موضوعا عند ضفة النهر، تنبعث منه أشعته إلى أول السرداب من ثقب متسع كان محفورا في جسر النهر على علو مترين من سطح المياه.
وكانت مس ألن قد وصلت قبل رفيقيها إلى ذلك الثقب، فعرفت الطريق التي سلكها الرجل العبوس والثقب الذي دخل منه، ورأت حلقة من الحديد مربوطة في الثقب، فأيقنت أن العبوس قد أتى إلى السرداب بقارب وعاد به كما أتى.
فلما انتهت من جميع أبحاثها قال لها أبوها: ألا تقولين لي الآن عما أسفرت تلك الأبحاث والرحلة الليلية؟ - إنها أرشدتني إلى طريقة سأنهجها. - ما هي؟ - ذلك سر من أسراري، وأنت تعلم شروطي يا أبي، فاسمح لي أن أكتم عنك هذا السر، وهلم نعد الآن على أعقابنا، فقد عرفنا الطريق.
فعادوا جميعا والظلمات تكتنفهم، فكانوا يسترشدون من حين إلى حين بكبريت العلبة وهم يسيرون ويتوقون الاصطدام بأيديهم كما يسير العميان، حتى وصلوا إلى القبو واهتدوا إلى السلم.
وبعد ربع ساعة كانوا جميعهم في غرفة اللورد بالمير، فأخذت مس ألن كيسا مملوءا بالذهب، ودفعته إلى بادي قائلة: خذ هذا المال مقابل كتمانك لما رأيت، واعلم أن هذه الهبة لا دخل لها بما وعدتك به من المكافأة.
فأخذ بادي الكيس دون أن يظهر عليه شيء من علائم السرور، وقد أطرق برأسه إلى الأرض وقال: لا حاجة يا سيدتي إلى أن تدفعي لي الهبات عن كتماني، فإني عاهدت نفسي على الإخلاص لك، منذ رضيت أن أكون من عبيدك وبعتك نفسي.
فهزت مس ألن كتفيها دون أن تجيبه، ونظرت إلى أبيها فقالت له: يوجد في لندرا كثير من العمال الماهرين، فيجب أن يصلحوا هذا الباب الذي كسرناه، ويعيدوا الجدار كما كان، وإنما ينبغي إتمام كل ذلك اليوم؛ لأن الرجل العبوس قد يعود في المساء، ولا يجب أن يعلم شيئا من اكتشافنا.
وعندها أشارت إلى بادي أن يتبعها وخرجت من الغرفة إلى الرواق، ونزلت إلى الحديقة وهو في إثرها حتى بلغت إلى الباب.
وكان الفجر قد انبثق، وبدت أشعته تخترق ذلك الضباب الكثيف الذي يخيم على لندرا ستة أشهر في العام، ففتحت مس ألن باب الحديقة كي يخرج بادي وقالت له: إن هذا اليوم يوم أحد، وهو موعد زيارة الأب صموئيل لامرأتك وأولادك أليس كذلك؟ - نعم يا سيدتي. - وأنت تظن أن الرجل العبوس يختبئ في قبة جرس كنيسة سانت جورج؟ - بل أنا واثق. - اذهب الآن وانتظر في منزلك إلى أن يأتي الأب صموئيل فتقول له هذا القول، وهو أنه يوجد ثلاثة رجال يفتشون عن الرجل العبوس، وقد علموا أنه يبيت في قبة الجرس، وقد رأوا أن يدخلوا إليها في الليلة التالية ويقبضوا عليه، ثم تذكر له أسماء رفاقك الذين يبحثون عنه.
ودهش بادي وقال: ولكن الأب صموئيل أرلندي، والعبوس مثله، فإن أخبرته بذلك يحذره فيهرب.
فابتسمت مس ألن وقالت له: افعل ما قلته لك، ولا تحاول أن تفهم مقاصدي.
19
ولنعد الآن إلى أحد أشخاص هذه الرواية الذي تركناه منذ زمن بعيد وهو الأب صموئيل، ذلك الكاهن الرءوف الذي شغف الفقراء، وملأ حبه قلوب البؤساء حتى اللصوص.
كان ذلك اليوم يوم أحد، والأب صموئيل يحتفل في صباحه بقداس في كنيسة سانت جيل.
وهناك فريق من المصلين راكعون على الأرض الباردة؛ لأن الكنيسة لم يكن فيها شيء من الكراسي والمقاعد لفقرها.
وكان الأب صموئيل واقفا في باب الهيكل يبارك الشعب بعد انتهاء القداس، ويرشدهم خير إرشاد، وكان موضع عظته في ذاك اليوم وجوب الإحسان إلى الفقير، ومساعدة البائس، ونصرة الأرامل واليتامى، وكان يتدفق كالسيل، ويلقي أجزل الكلام، ويمثل لذة المحسن وأجره أجمل تمثيل.
وبعد ذلك انتقل إلى الكلام عن الجامعة الأرلندية، فبدأ بالكلام عن بني إسرائيل، وسيرهم في التيه إلى الأرض الموعودة، ثم شبه الأرلنديين بالإسرائيليين والإنكليز بالمصريين من حيث الاضطهاد، فكان لكلامه أعظم وقع وأجمل تأثير.
وكان بين الذين يسمعون عظته رجلان لابسان ملابس السواد، كانا يصغيان إلى أقوال صموئيل كل الإصغاء دون أن ينتبه إليهما أحد.
ولما فرغ الأب صموئيل من عظته، وتقدم الناس لتناول القربان، انسل الرجلان من بين الحضور وخرجا مسرعين من الكنيسة، ولم يقفا حتى بلغا شارع كرافانشامل.
وكان الرجلان متفاوتين في العمر، أحدهما السير بترس توين، والآخر قسيس فتى من قسس تلك الطائفة.
فقال القسيس للرئيس: ما رأيك بهذا الأب؟ - أرى أنه لو كان يوجد مثله كثيرون بين كهنة الكاثوليك لجذبوا بسحر بيانهم جميع الإنجليكان. - إذن نحمد الله أنه لا يوجد في لندرا سواه. - نعم، ولكن الأب صموئيل استطاع بدهائه من ضم كثيرين إلى مذهبه، وهو أحد الشخصين الذين نخشاهما، وأما الآخر فهو ذاك الشخص الذي عجز بوليس لندرا عن إيجاده، وهو الذي يلقبونه بالرجل العبوس. - ألم ترد إليك رسالة في هذا الصباح من ابنة اللورد بالمير؟ - نعم، وقد قالت لي فيها أن هذا الشخص سيكون في قبضة يدنا بعد ثلاثة أيام، ولكني أريد أن أقبض على هذا الزعيم الثاني الذي يدعونه الأب صموئيل. - وا أسفاه! إنك ترجو المحال يا سيدي فيما أراه أن للمذهب الكاثوليكي مطلق الحرية في أرلندا، وليس لدينا برهان يثبت اشتراك الأب صموئيل مع الثوار الأرلنديين. - هو ما تقول، ولكني حيث كنت أسمع عظته، خطر لي أن الأب صموئيل شديد المطامع لتوقد ذكائه، وإننا نستطيع أن ندخله إلينا من هذا الباب. - ولكنك تعلم أنه شديد الزهد بالمال، وأنه يفرق كل ما يملكه على الفقراء. - قد لا يطمع بالمال، وقد يغره الجاه والرتب، فأساعده على نيل كل ما يريد شرط أن أحادثه ساعة، فقد وضعت خطة أرجو أن تسفر عن الفوز بعد أن أقابله. - أأنت تطلب أن تراه؟ - لست أنا بل أنت.
فدهش القسيس، وقال: أنت يا سيدي على جلال قدرك تقابل مثل هذا الصعلوك، وأنت أعظم رجال كنيستنا، بل أنت الذي تلقي الأوامر سرا حتى إلى أسقف كنتربوري.
فأجابه بجفاء: إن الغاية تبرر الواسطة، وفوق ذلك فإن هذا الشخص من أصحاب العقول الراجحة، وهو في قومه أرفع منزلة مني بين قومي، فاصغ الآن إلى ما ألقيه إليك واعمل بالتدقيق، اعلم أنه يوجد في سوتوارك قرب كنيسة سانت جورج زقاق يدعى آدم ستريت. - إني أعرفه. - وفي هذا الزقاق يوجد ممر يقيم فيه شخص يدعى بادي له امرأة وولدان، وهذه العائلة إنجليكانية، ولكن الفقر قد برح بها حتى اضطرت إلى قبول الصدقات من كاهن كاثوليكي، وهذا هو الأب صموئيل، وقد علمت أنه سيذهب إليها اليوم بين الساعة العاشرة والحادية عشرة على هذا الصباح، فاعمل أن تكون قرب ذلك المنزل في هذا الوقت.
ومتى رأيت الكاهن خرج من المنزل تعرض له في الطريق وقل له: «يوجد شخص مشرف على الموت، وهو كاثوليكي المذهب، ولكنه كان يتظاهر أنه إنجليكاني حرصا على مركزه، وهو الآن على فراش الموت، وقد طلب إلي أن أجيئه بكاهن كاثوليكي.» - أتظنه يقبل بالحضور إذا قلت له هذا القول؟ - دون ريب. - وبعد ذلك؟ - تأتي به إلى البيت المجاور لمنزلي أي بيت طباخي. - أيوجد فيه حقيقة شخص يحتضر؟ - نعم وهو طباخي بعينه. - ولكنه من الأرلنديين يا سيدي، وقد طردته حين عرفته. - هو ما تقول، ولكني أرجعته اليوم، بعد أن تعهد أن يخدمني بإخلاص.
فانحنى القسيس، وانصرف لتنفيذ أوامر سيده.
وبعد ساعة كان واقفا في زقاق آدم ستريت، فرأى بعد هنيهة الأب صموئيل داخلا إلى منزل بادي، فوقف عند الباب ينتظر خروجه.
20
أما الأب صموئيل فإنه لما قرع الباب رد عليه صوت رجل من الداخل، فسر صموئيل لأنه عرف أنه صوت بادي، وكان سروره أنه خرج من السجن، فلما دخل حياه قائلا: أهذا أنت؟ أخرجت من السجن؟
فقبل يده باحترام وهو يضطرب، وقال: نعم يا سيدي. - ألعلك دفعت دينك أم هربت؟ - لا هذا ولا ذاك يا سيدي، بل دفعوا عني.
فابتسم الأب صموئيل ابتسامة رضى وقال: يسرني أنه لا يزال يوجد أهل مروءة في بابل التي يلقبونها بلندرا.
فأطرق بادي مستحييا وقال: لا تهنئني يا سيدي بخروجي من السجن، فإنك لو عرفت من أطلق سراحي لما غبطتني.
وهناك أقبلت امرأته وولداه فقبلوا يد الكاهن، فقال بادي لامرأته بجفاء: اذهبي أيتها المرأة إلى السوق واشتري خبزا، وأنتما اذهبا والعبا فإني أحب أن أبقى وحدي مع حضرة الأب صموئيل.
فانصرفت المرأة بولديها على الفور ممتثلة.
أما الأب صموئيل فقد أعجب بلهجة بادي، لما رآه عليه من علائم القنوط، وأما بادي فإنه لبث مطرقا برأسه إلى الأرض إلى أن سمع إقفال الباب الخارجي.
وعندها التفت إلى الأب صموئيل وقال له: إني يا سيدي إنكليزي، ومذهبي إنجليكاني، ولكنك أرلندي طالما أحسنت إلى عائلتي، وحميت ولدي من الموت جوعا، فلا أحب أن أسيء إلى أرلندا وأنت منها.
إني يا سيدي كنت سجينا لدين علي قيمته عشرة جنيهات، وهو مبلغ زهيد لدى الكثير من الناس، وأما لدينا فهو يعادل جميع كنوز إنكلترا.
وقد كنت ليلة أمس في السجن فسمعنا الجرس يدق، والأبواب توشك أن تقفل، وإن الإنسان يا سيدي شرير بالطبع، غير أن الشقاء يزيده شرا ويحكم ملكة السوء فيه.
وإني بينما كنت أبكي ذاكرا امرأتي وولدي وما يقاسون من الجوع، كان المسجونون معي يضحكون علي ويهزءون بي، فيقولون لي هو ذا الجرس قد قرع من أجلك، وهذه امرأتك التي ترثي لشقائها قد أتت لتدفع دينك وتخرجك من السجن.
وقد كانوا يقولون ذلك على سبيل الهزء، وفيما هم على ذلك جاءني الحارس، وقال: تعال فقد أتى من ينقذك.
فظننت أنه يهزأ مثلهم، ولكني تبعته إلى أن بلغنا الفسحة، ودهشت حين رأيت نقولا.
فقال الأب صموئيل: من هو نقولا هذا؟ - إنه شخص محتال سيئ السيرة والسريرة، أكرهني الشقاء مرات إلى مشاركته في بعض المهمات. - أهذا الذي أخرجك من السجن؟ - نعم يا سيدي، فلما أطلق سراحي وخرجت وإياه من السجن قلت له: ألعلك أصبحت غنيا وبت قادرا على افتدائي بعشرة جنيهات؟
فأجابني: كلا، ولكني أرجو أن أكون غنيا في حين قريب، أما الآن فقد عهدوا إلي بمهمة خطيرة إذا فزنا بها كان لنا منها خير وفير، ودفعوا لي قسما مقدما، فرأيت أن أشركك في قضاء هذه المهمة، فنغدو أربعة: أنا وأنت ومكفرسون وجوهان.
ولم يشأ نقولا أن يزيد شيئا على ما قال، فغادرني عند جسر واترلو قائلا: اذهب الآن إلى امرأتك وأولادك، وسنلتقي هنا عند منتصف الليل.
فقال له الأب صموئيل: إنك ذهبت دون ريب إلى هذا الملتقى، فما هي هذه المهمة؟ - هي أن نقبض على شخص أرلندي محكوم عليه بالإعدام، يلقب بالرجل العبوس. - لقد عرفت سبب اضطرابك الآن، ولكن ثق أنهم لا يجدون هذا الشخص الذين يبحثون عنه. - إنك مخطئ يا سيدي؛ لأن نقولا يعرف أنه مختبئ في قبة الجرس في كنيسة سانت جورج.
فاصفر وجه الأب صموئيل، ولم يقل كلمة.
وأتم بادي كلامه فقال: إن البوليس قد عرف أيضا هذا المحل الذي يختبئ فيه، فكمن له في الطريق حتى يخرج؛ إذ لا يحق للبوليس الدخول إلى الكنيسة.
وهنا تنهد بادي تنهد الآسف الحزين، وركع أمام الأب صموئيل فقال له: إني يا أبي لا أخدع من يحسن إلي، فأنقذ هذا الشخص قبل أن يقبضوا عليه.
فسر الكاهن من إخلاصه، وقال له: إنك رجل شريف طاهر السريرة يا بادي، وسنكافئك عن هذا الإخلاص، فقل كم هي حصتك من جائزة القبض على الرجل العبوس؟ - مائة جنيه. - إن أرلندا فقيرة، ولكنها على فقرها لا تتقاعس عن مكافأة المخلصين لها، فسأحضر لك مائة جنيه يوم الأحد القادم.
ثم أخرج جنيها من جيبه ودفعه لبادي، فأبى أن يأخذه وقال: لسنا بحاجة إلى النقود؛ لأن نقولا أعطاني مقدما جنيهين، وهما يكفيان لنفقات أسبوعين، فادفع هذه الصدقة لمن هو أتعس منا.
فتأثر الكاهن من كلامه، ورد المال إلى جيبه، ثم صافحه مودعا وهو يقول: إنك إنسان طيب السريرة، وسيجازيك الله عما فعلت.
وبعد أن ذهب الأب صموئيل عادت امرأة بادي، فلقيته واضعا رأسه بين يديه، والدمع يترقرق في عينيه، فقالت له: ماذا حصل أوثق الكاهن مما قلته له، إذن ستكون مس ألن راضية عنا؟
فغضب بادي على امرأته وتهددها بقبضة يده، ثم عاد إلى نفسه فقال: ويح لنفسي ما أشقاها!
فأجابته امرأته بضحك قوي، ثم قالت له: لا ريب أنت ساذج القلب كما أراه من علائم الندم. وعلام الندم، أعلى ما قبضته من مس ألن؟ إن الفقراء لا يندمون إلا على ما يفوتهم، ومن كان مثلنا يجب عليه خدمة من يقيه الشر والعوز.
فلم يجبها بادي بشيء، ولكنه برح المنزل فذهب يتنزه على شاطئ النهر تفريجا لكربته، فإن خيانته للكاهن نغصت عيشه، وكاد يقتله تقريع الضمير.
21
أما الأب صموئيل فإنه خرج من منزل بادي وهو ضيق الصدر مضطرب البال، لخوفه على الرجل العبوس، بعد أن وثق أن البوليس قد عرف مكان اختبائه.
غير أن خوفه من الذين اتفقوا على القبض عليه لنيل الجائزة كان أشد من خوفه عليه من البوليس، فإن كان الإنكليزي يطمع بالمال يقدم على جسام الأمور ولا تعترضه الصعاب.
ولذلك كان أول ما خطر له حين خروجه من منزل بادي أن يسرع إلى كنيسة سانت جورج لإنذار العبوس.
وكانت الكنيسة قريبة من المنزل الذي خرج منه، فلما خرج ذهب توا إلى الكنيسة.
وكان القسيس الذي أرسله بترس توين ينتظر خروج الأب صموئيل في عطفة الزقاق كما تقدم، فرآه مصفر الوجه شديد الاضطراب حين خروجه، ثم رآه قد سار في طريق الكنيسة معارضا الطريق الذي كان ينتظره فيه، فلم ير من الحكمة أن يناديه.
ولكنه تبعه مقتفيا أثره، وكان الأب صموئيل يسير مسرعا غير منتبه إلى القسيس لشدة اضطرابه، حتى وصل إلى الكنيسة فدخل إليها، وبقي القسيس منتظرا في الخارج وهو يقول في نفسه: سأنتظر إلى أن يقضي شأنه في الكنيسة، فلا بد له من الخروج منها.
أما الأب صموئيل فإنه دخل توا إلى الكنيسة، وكان الناس لا يزالون مزدحمين فيها، فصعد مسرعا درجات السلم المؤدية إلى قبة الجرس، ودخل إلى الغرفة التي يبيت فيها العبوس، فلقيه نائما نوما هادئا، وظهرت على محياه سيماء البشاشة.
وزاد اضطراب الأب صموئيل لما رآه عليه من ظواهر الدعة والاطمئنان، وقال في نفسه: قد يكون نائما مثل هذا النوم إذا فاجأه أولئك الأشقياء هذه الليلة.
ثم دنا وهز كتفه برفق، ففتح العبوس عينيه، ونظر إلى الأب صموئيل مبتسما، فجلس في سريره وقال له: أسألك المعذرة إذ لقيتني نائما؛ لأني لم أكن أنتظر زيارتك.
ثم تأمل محيا الأب صموئيل فراعه اصفراره، فقال له: ماذا حصل؟ وما دعاك إلى هذا الاضطراب؟
فرد صموئيل خائفا: إنهم عرفوا مكانك. - هذا الذي كنت أتوقعه، فقل لي يا سيدي ماذا حصل؟ وكيف عرفت ذلك؟
فقص عليه الأب صموئيل عندها جميع ما سمعه من بادي.
فقال له الرجل العبوس: لقد قلت لك إني كنت أتوقع ذلك؛ لأن شوكنج قد وقع أول أمس في قبضة أولئك الأشقياء، ونجا منهم، وكان بينهم بادي، ولكن ألم تقل لي الآن أن بادي خرج من السجن ليلة أمس؟ - هذا ما قال لي. - ولكنه كاذب فيما قاله؛ لأنه خرج من السجن منذ يومين، ولا أدري قصده من كذبه، كما أني لا أعلم الآن غايته من خيانة رفاقه بغية إنقاذي، ولكني سأقف على الحقيقة غدا.
فبهت صموئيل لما رآه من سكينة العبوس وقال له: ولكنك لا تبقى هنا على الأقل.
فابتسم العبوس، وقال: بل أبقى هنا، أي إني أعود في المساء، أما الآن فإني مضطر إلى الذهاب إلى هايد بارك. - لأي غرض؟ - لأقابل مس ألن. - لتقابل ابنة اللورد بالمير ألد أعدائك؟! - نعم، إني أريد أن أجعلها من أخلص الخادمين لأرلندا.
ثم نزل من سريره، ففتح حقيبة ملابس كانت في الغرفة، وقال للأب صموئيل: إنك إذا نزلت إلى الكنيسة، وأقمت فيها هنيهة أمر بك فتراني ولا تعرفني، وإنما أقول لك هذا كي تطمئن علي؛ لأني لا أخاف أولئك الكامنين لي.
فهدأ بال الأب صموئيل لسكينة العبوس، ونزل إلى الكنيسة فركع عند باب الهيكل قرب مدخل السلم المؤدي إلى القبة، بينما كان العبوس منهمكا في تغيير زيه.
22
لبث الأب صموئيل راكعا عند باب الهيكل، وهو ينظر من حين إلى حين إلى مدخل السلم راجيا أن يرى العبوس، فلم يره حتى انتهت الصلاة، وأخذ المصلون يخرجون من الكنيسة.
وعند ذلك رأى شخصا دنا منه وحياه، وركع أمام باب الهيكل، فرد الأب تحيته دون أن يكترث به ورأى أنه لا يعرفه.
وكان لابسا ملابس بسيطة، ولكن في غاية التأنق، وفي خنصره خاتم ثمين من الماس ، وفي يده كرباج قبضته من الفضة.
وكان أسود الشعر والعينين، غير أن هيئته كانت تدل على أنه من الإنكليز، فركع وصلى صلاة قصيرة، ثم نهض وحيا الكاهن مرة ثانية، ومشى إلى الباب الخارجي ببطء.
وإن الشعب الكاثوليكي في لندرا شديد الفقر؛ لأن معظمه من الأرلنديين، فعجب الأب صموئيل لما رآه من ظواهر غنى هذا الرجل، وأخذ يراقبه وهو منذهل أشد الانذهال.
حتى إذا خرج هذا الشخص من الكنيسة إلى الفسحة الخارجية رأى خادما أيكوسيا يمسك بيده لجام فرس كريم، فزاد دهش الأب صموئيل حين رأى الخادم أسرع بالفرس إليه وقدم له اللجام بكل احترام.
ووثب الرجل إلى ظهر الجواد ولكنه لم يسرع بالسير؛ لأن فقراء الأرلنديين تجمهروا حوله ومدوا أيديهم له مستعطين، فأشار إلى خادمه أن يوزع عليهم الصدقات بسخاء عظيم.
ثم دنا منه جندي شيخ فقير، قطعت يداه في المعارك، وسأله الإحسان فأعطاه جنيهين، وقال له، مشيرا إلى الأب صموئيل: أتعرف هذا الكاهن؟ - نعم، فهو الأب صموئيل. - اذهب وقل له يدنو مني.
وكان الأب صموئيل لا يزال ينظر إليه معجبا بما يراه، ففهم من الإشارة ما يريده، وأتى إليه بنفسه، فأخذ الرجل محفظة ملأى بالأوراق المالية من جيبه وقال له: أتأذن لي يا حضرة الكاهن أن أقدم لك هذه الهبة للكنيسة؟
فاشتدت دهشة الأب صموئيل، ولكن دهشته هذه المرة لم يكن لما رآه من سخاء هذا الإنسان، بل لما قد سمعه من صوته، فقد ذكر أن هذا الصوت صوت الرجل العبوس، فإنه لم يبق من دلائل الشبه به غير هذا الصوت.
ولما رأى الأرلنديون الأب صموئيل يحادث هذا الشخص النبيل، ابتعدوا عنهما احتراما.
فقال الرجل العبوس للكاهن وهو يبتسم: إذا كنت أنت لم تعرفني بعد هذا التنكر، فكيف تخاف أن يعرفني البوليس، وأولئك الكامنون لي للقبض علي فاطمئن؛ لأني لو أردت لجئتك في هذا المساء شيخا عجوزا يلتمس منك صدقة فلا تعرفه.
وعندها حياه وسار بجواده وهو لا يزال ينثر المال على أولئك البؤساء، فتفرق الناس تباعا بعد هنيهة وتوارى العبوس عن الأنظار ، ولم يبق في تلك الفسحة غير الأب صموئيل، وهو تائه في بوادي الأفكار.
وكان القسيس الذي أرسله بترس توين إلى الأب صموئيل ينتظر منذ ساعة، فلما رأى تفرق الناس والكاهن وحده في الكنيسة، دخل إليه ودنا منه، فذعر الأب صموئيل حين رآه؛ لاستفحال العداء بين قسس الإنجليكان وكهنة الكاثوليك في ذلك الوقت.
غير أن القسيس لم يكترث لهذه الظواهر، فدنا منه وحياه بملء البشاشة والاحترام.
ثم قال له: إننا يا سيدي الكاهن مهما بلغنا من الافتراق، فإننا نأتلف بجامعة الحنان حين يدعونا الواجب المقدس إلى مساعدة الإنسان.
فرد عليه صموئيل تحيته، وقال: لقد أصبت يا سيدي، إن افتراق كلمتنا بالمذهب لا يمنع اجتماعنا في المبدأ. - إني ذهبت في البدء إلى كنيسة سانت جيل، ولما لم ألقك فيها أتيتك إلى هنا، ولقد اتفق لك كثيرا يا سيدي، فيما نعلم أنك كنت تساعد بنقودك واعتنائك كثيرا من الذين أخنى عليهم الدهر من أهل طائفتنا. - إن جميع الناس إخوان. - ونحن أيضا يا سيدي نجري على مبدئك، ودليل ذلك أنه يوجد الآن بين يدينا شخص تعس كاثوليكي، وهو في حالة النزع، وقد بذلنا له كل ما يمكن بذله من الجهد والعناية تعزية له عما هو فيه، ولكنه حين رأى نفسه مشرفا على الموت سألنا أن ندعوك إليه ليعترف، ولا أظنك تأبى الذهاب معي إليه يا سيدي. - كيف أرفض، ومن يرفض مساعدة شخص يحتضر؟ - إذن هيا معي.
فخرج الاثنان ولقيا مركبة أجرة، فركبا بها وسارا.
23
ولم يكن الأب صموئيل يعلم إلى أين يسير به القسيس، إلى أن وصلت بهما المركبة إلى الجسر، فأمر القسيس السائق أن يتجه إلى كنيسة سانت بول.
فأجفل الأب صموئيل، وقال له: كيف يكون ذاك الشخص كاثوليكيا وهو في كنيستكم؟ - لا أعلم، وما أنا إلا منفذ لأوامر السير بترس توين، فهو الذي أرسلني.
فلم يجبه الأب صموئيل، ولكنه غرق في بحار الهواجس ولم يفه بكلمة، حتى وصلت المركبة إلى كنيسة الإنجليكان، فنزل الكاهنان منها ودخلا إلى الكنيسة ، وكانت أول مرة يدخل فيها الأب صموئيل إلى كنائس الإنجليكان.
وكان للكنيسة سلم يؤدي إلى منزل السير بترس توين، وهو طويل يبلغ مائة درجة.
فقال له القسيس: إن الشخص المريض يا سيدي في منزل السير بترس توين، فاصعد هذا السلم إليه تجده هناك مع المريض.
فبقي القسيس في الكنيسة وصعد الأب صموئيل، حتى إذا انتهى من درجات السلم الطويل، لقي السير بترس توين واقفا عند باب غرفة، فأحسن استقباله وقال له: تعال معي فإن المريض في هذه الغرفة.
ودخل الأب صموئيل في إثره، فلقي سريرا فيه شخص تبدو عليه علائم قرب الموت.
وعند ذلك خرج السير بترس توين وهو يقول للأب صموئيل: إن المسكين يا سيدي يود أن يعترف فاسمح لي إذن أن أدعكما منفردين، وستراني عند انصرافك في انتظارك كما رأيتني حين قدومك.
ثم خرج فأقفل الأب صموئيل الباب، وعاد إلى ذلك المريض فتأمله وعرفه، فقال له: كيف فاجأك المرض وقد كنت معافى، وكيف عدت إلى خدمة هذا الزعيم بعد أن طردك؟
فرد الأرلندي بصوت منخفض: اصغ إلي يا سيدي، فقد أمروني أن أمثل هذا الدور كي يحتالوا عليك بالحضور إليهم، فلم أجد بدا من الامتثال؛ لأنهم أنذروني بالقتل، وكنت في قبضتهم.
أما أنا فلا أخون الأرلنديين، واعلم أن زعيم الإنجليكان إنما أرجعني إلى خدمته لهذه الحيلة، ولا أعلم ما يريدون منك، ولكن يجب أن تحذر منهم كل الحذر، فإنهم سقوني شرابا لا أدري ما هو فأصبت بعده بالحمى، وأصبحت كما تراني غير أني لم أفقد صوابي، ولهذا احرص من هؤلاء الأشرار.
فعجب الأب صموئيل للمكيدة ولم يعلم الغرض منها، فأقام نحو نصف ساعة مع الأرلندي يسأله أسئلة مختلفة عله يقف على شيء من أسرار هذه الحيلة، ولم يهتد إلى مراد.
وكان السير بترس توين واقفا عند باب الغرفة ينتظر خروج الأب صموئيل من عند المريض وهو يحسبه يعترف.
فلما عجز الأب صموئيل عن الوقوف على خفايا المكيدة من الأرلندي، خرج من عنده مصفر الوجه، ولكنه ثابت الجأش مستعد لمقاومة كل ما يتوقعه من الأخطار، فلقيه السير بترس توين قرب الباب، وقال له: تعال معي يا سيدي؛ إذ يجب أن أحدثك في بعض الشئون. فتبعه الأب دون أن يجيبه.
إن كنيسة بول مبنية فوق قمة عالية، وهي مرتفعة البناء بحيث إن المطل منها تظهر له لندرا بجملتها؛ لإشرافها عليها من كل جهاتها.
وقد ذهب السير بترس توين بالأب صموئيل إلى سطح الكنيسة، كما ذهب الشيطان بالسيد المسيح إلى قمة الجبل لإغوائه، فقال له: انظر إلى ما يمتد إليه بصرك.
فقال له الأب صموئيل: لماذا تريد أن أنظر إلى لندرا؟ - إن لندرا سيدة العالم، وهذه الكنيسة التي تقف الآن فوق سطحها سيدة لندرا، إنك يا سيدي لا تزال في مقتبل الشباب، وأنت متوقد الذهن، ذكي الفؤاد، فصيح اللسان، لم لا تكون عظيما كما تقتضيه نفسك العظيمة؟
فبهت الأب صموئيل، وقال: إني لا أفهم ما تقول. - لا أسألك أن تنظر إلى ما تحت قدميك، بل انظر هناك، في الجهة الغربية، إلى ذلك القصر الشاهق العظيم، الذي لا يحجبه الضباب عن الأنظار، ألا تراه؟ - نعم، فهو قصر لمبث بالاس.
فقال له السير بلهجة العظمة والكبرياء: إن هذا القصر يقيم فيه رئيس طائفتنا، وهو قصر فخيم، وشيت جدرانه بالذهب، وبنيت سلالمه بالمرمر، إني أقدم لك هذا القصر.
فرجع الأب صموئيل خطوة إلى الوراء، ونظر إليه كما نظر السيد له المجد إلى الشيطان حين قال له إني أهبك مملكة الأرض. ثم قال له: ألي أنا تريد أن تمنح هذا القصر؟
وقد قال له هذا القول بلهجة المضطرب، فحاول السير توين أن يستفيد من اضطرابه وقال: انظر إلى هذه المدينة الواسعة التي يدعونها لندرا، إنها عاصمة إنكلترا، بل عاصمة ثلاث ممالك، بل هي عاصمة العالم بأسره، فإنك في أي مكان جلت فيه من المعمورة حتى الصحارى، وفي أي ماء مخرت فيه من البحور إلى الغدران والخلجان، تجد الراية الإنكليزية خافقة تشير إلى ما بلغناه من العظمة.
إن لندرا سيدة البلاد تسود عليها سلطتان إحداهما سلطة النبلاء، والثانية سلطة رجال الدين، فيتولى رئيس الوزراء إحداهما، ويتولى أسقف كنتر بوري عامة الأخرى، أتريد أن تكون يوما خليفة هذا الأسقف وتصبح رئيس رجال الدين في بلاد الإنكليز؟ إن توقد ذهنك يدل على أن الله إنما خلقك لتكون من قادة الأفكار ورسل الهدى، فلا بد أن تكون نفسا طامحة إلى العلاء، فدع هذا المذهب العتيق، فقد صدأ لما تعاقب عليه من الدهور، وتخلى عن هذه الكنيسة القديمة، وهلم إلينا تجد عندنا ما تطمع فيه من مجد وهناء.
فاستحال انذهال الكاهن إلى احتقار، ولكنه لم يفه بكلمة، فحسب السير توين أنه تمكن من إغوائه، فاندفع في حديثه يحاول إتمام الغواية وقال: إنك نشئت على المذهب الكاثوليكي وصرت كاهنا في عهد شبابك، وخدمت مذهبك بملء الغيرة والإخلاص، فقل لي ماذا لقيت من الفوائد؟ فإنك تعظ أولئك الأرلنديين الفقراء وتعيش فقيرا مثلهم، وتخدم مبدأهم الذي لا بد أن يكون نصيبه الفشل، أيروق لك أن تفني شبابك وأنت على ما عرفت به من الذكاء في خدمة مبدأ لا رجاء بفوزه، وتنفق العمر معدما فقيرا؟
تعال إلينا تجد الثروة قد فتحت لك أبوابها، والنعم مغدقة عليك من كل صوب، والأماني تبتسم لك أين سرت، فلا يمر بك عهد قريب حتى تصبح أحد ذينك السائدين على لندرا، بل على إنكلترا بأسرها.
وهنا لم يسع الأب صموئيل السكوت، فقال له بصوت مختنق: إذن أنت تسألني أن أستبدل مذهبا بمذهب؟
فأجابه السير بملء القحة: بل أريد أن تعتقد اعتقادا راسخا بأفضلية مذهبنا، وتعتنقه باختيار واعتقاد.
وعند ذلك خطا الكاهن إلى السير توين، فأخذ يده وقال له: اصغ إلي يا سيدي كما أصغيت إليك.
وقد انقلب الأب صموئيل فجأة من حال إلى حال، فاتقدت عيناه بأشعة الغضب وتهدج صوته، حتى إن السير بيترس توين أطرق بنظره إلى الأرض، كأنه لم يطق أن يتحمل نظراته.
أما صموئيل فإنه مشى بمحدثه خطوة وأراه أيضا لندرا، فقال له: نعم، لقد أصبت فإن لكم القصور الباذخة الموشاة جدرانها بالذهب، ولكم البحار وما فيها من الجواري والمنشآت ، ولكم السيادة التجارية في جميع أرجاء العالم.
إنك أريتني يا سيدي لمبث بالاس والبرلمان ووستمنستر، وأنا أرجوك أن ترسل نظرك إلى أبعد من هذه الأماكن في جهة الشمال، وتطلقه حول تلك المنازل الحقيرة، ألا ترى بينها تلك الكنيسة البسيطة التي تدعوها كنيسة سانت جورج؟
إن هذه الكنيسة لنا يا سيدي، وهي تعادل كنيسة القديس بطرس في روما، وإن الهيكل الذي نصلي فيه هو نفس الهيكل الذي كان يصلي فيه الكهنة المسيحيون الأولون منذ ثمانية عشر قرنا.
وبعد، فكيف تحدثني بقدم مذهبنا، ومتى كان طول العهد بالمذهب شأنا له؟ ألا ترى أن شيعتكم قد أسست منذ الأمس، فما مر بمذهبكم الجديد نصف قرن حتى تشعب إلى طوائف، وبتم أنتم أخوان تتقاتلون اقتتال الأعداء، يبتدع الزعيم منكم بدعة فيلتف حوله الناس، وفي كل يوم لكم بدعة، أما نحن فليس لنا غير هيكل واحد.
ثم إنكم تضعون في كنائسكم صور عظماء رجالكم من القادة والأمراء، أما نحن فإننا نضع تماثيل زعماء كنيستنا الأقدمين، فإنهم لم يبلغوا هذا المبلغ من الإكرام عندنا إلا لثباتهم في الإيمان.
ومهما يكن من أمر كنيستنا الأرلندية وضعفها، فإنها تثبت ثبوت الجبل الراسخ مهما هبت عليها العواصف؛ ذاك لأن إيماننا خالد أبدي لا يتزعزع.
إنك تريني مملكتكم وقصوركم، وأنا أريك منازلنا الحقيرة المحيطة بكنيستنا الفقيرة، ولكني أقول لك إننا على فقرنا أغنى منكم على ثروتكم، ولو خيرنا لما رضينا بغير هذا الفقر، فإنه مع إيماننا الصادق خير من مجدكم الباطل.
وكان الأب صموئيل يقول هذا القول بصوت رنان يشبه صوت أوتار الأرغن، وقد اتقدت عيناه ببارق من الغضب حتى خشي السير بترس توين أن يعترضه، ولم يجسر على النظر إليه.
أما الأب صموئيل، فإنه وقف في حديثه عند هذا الحد، وأشار إلى السير توين إشارة ملؤها العظمة والكبرياء، فابتعد السير توين من طريقه وخرج الأب مرتفع الرأس شامخ الأنف، فنزل من سلم المنزل إلى الكنيسة ومنها إلى الشارع.
وكان القسيس الذي أتى به لا يزال واقفا في مكانه ينتظر أوامر رئيسه، فلما رأى الأب صموئيل على هذه الحالة، أيقن أنه قد حدث بينه وبين رئيسه أمر خطير.
وأسرع إلى سطح الكنيسة فرأى السير توين واقفا متكئا على الشرفة ودلائل الاضطراب بادية عليه، ولم يشعر بقدوم القسيس، ولم يجسر على مفاتحته بالحديث إلى أن حانت التفاتة من الزعيم ورأى القسيس، وقال له بلهجة الغاضب الحاقد: إن هذا الكاهن بات من ألد أعدائنا فقد فشلت معه، لكني سأسحقه سحق الإناء، وسيكون القتال شديدا بيننا.
ثم ضم يديه وأشار بهما إلى كنيسة سانت جورج، وقال: الويل لأبناء هذه الكنيسة ولزعيمهم، فسيكون لهم معي شأن تذكره بعدي التواريخ.
24
ولندع الآن الأب صموئيل خارجا من الكنيسة، والرجل العبوس ذاهبا إلى هايد بارك على أمل أن يرى مس ألن، ولنعد إلى جوهان ونيقولا، اللذين كانا يحاولان القبض على العبوس.
فإن بادي تربص معهما قسما من الليل، ثم قال لهما: إنكما مخطئان، فإن العبوس غير مقيم في القبة.
فقال له نيقولا: أين تظنه مختبئا؟ - ذلك سري فلا أبوح به. - ولكننا الآن شركاء، فلا حق لك أن تكتم عنا أمرا إنما اشتركنا من أجله.
فقال له بادي: أرجوك أن لا تستاء مني، وأن تصغي إلي، فإني حين لقيتكم كنت أنا أيضا متعهدا بالقبض على الرجل العبوس، ولكني لم أكن أعمل لأجلي. - لأجل من؟ - لأجل شخص غني قادر أن يدفع أضعاف ما يدفعه البوليس من المكافأة، وقد قلت لكم الآن إني أعلم أين يختبئ العبوس. - إذن لماذا لا ترشدنا إلى مكانه. - لا أستطيع أن أرشدكم إليه قبل أن يأذن لي الذي أخدمه، ولا تخشيا خسارة الجائزة، فإنكما ستنالان ضعف ما ترجوان.
وكان بادي يتكلم بلهجة تشف عن الصدق والإخلاص، فوثق به نيقولا وقال له: متى ترى هذا الشخص الذي تخدمه؟ - في هذه الليلة، وأنا ذاهب الآن. - ومتى نراك؟ - حيث تريدان.
فقال له نيقولا: إذن تجدنا هنا عند ضفة النهر، فإننا سننام في أحد القوارب. - وأنا سأوافيكما.
ثم تركهما وانصرف.
وقد عرف القراء ما حدث لبادي، فإنه تركهما وذهب إلى المس ألن، ففتح لها الدهليز كما قدمناه.
وقد كان بادي أخبرها بما حدث، فأمرته أن يخبر الأب صموئيل بأن البوليس علم مكان الرجل العبوس، وأطلقت سراحه، فغيرت بذلك جميع الخطة التي اتفق عليها مع رفيقيه.
أما جوهان ونيقولا، فإنهما انتظرا بادي مدة طويلة إلى أن دب النعاس في أجفانهما، فناما في القارب واستيقظا بعد نوم طويل، فلم يحضر بادي مع أنه عاهدهما على الملتقى.
واستاء جوهان واشتدت ظنونه ببادي، وقال لرفيقه: إني أرى غير ما رأيته من هذا الرجل، فهو إما يهزأ بنا أو أنه يخوننا.
فقال له نيقولا: وأية فائدة له من خيانتنا؟ - إنه يخدم الأرلنديين، ألا تعلم أين يقيم؟ - إنه يقيم في زقاق من أزقة آدم ستريت. - إذن هلم نذهب إليه فنقف على الحقيقة.
فوافقه نيقولا، وذهب الاثنان إلى شارع آدم ستريت.
وكانت الساعة التاسعة صباحا، أي في الوقت الذي أقبل فيه الأب صموئيل لمنزل بادي، فرآه جوهان حين ذهابه، وهز يد رفيقه وقال له: انظر ألا ترى الرجل اللابس السواد، ألا تعلم من هو؟ - إنه الأب صموئيل الأرلندي، بل زعيم الأرلنديين، ولا شك أنه يعرف مقر العبوس، فلم لا نتبعه بدلا من أن نسير إلى منزل بادي.
فوافقه أيضا وسارا على بعد بضع خطوات من الكاهن يقتفيان أثره.
ثم رأياه قد وقف عند منزل بادي ودخل، فاضطربا ونظر جوهان إلى نيقولا وقال له: لم يبق لدي ريب أن بادي يخدعنا، ما زال الأب صموئيل قد دخل إلى منزله.
وبعد هنيهة رأيا امرأة بادي وولديه قد خرجوا من المنزل، فمر جوهان بالمنزل ونظر نظرة الفاحص من إحدى نوافذه، فرآه يصافح بيده يد بادي ويهزها، وقد ظهرت على وجهه علائم الامتنان.
ونادى رفيقه بالإشارة وقال له: انظر أعندك شك بعد أنه من الخائنين؟ - ما زال الأمر كذلك فلا بد من عقابه، وهنا تحالف الرفيقان واتفقا على قتل بادي.
ثم انصرفا على أن يعودا في المساء، فإن القتل أستر في الظلام.
وبعد حين، عادت امرأة بادي فجعلت تحادثه بما سيناله من الثروة في خدمة مس ألن، بينما كان جوهان ونيقولا يتآمران على قتله.
25
ولنعد الآن إلى الرجل العبوس، فقد تركناه خارجا من كنيسة سانت جورج ممتطيا فرسا كريمة، وقد بالغ في التنكر حتى إن الأب صموئيل نفسه لم يعرفه إلا من صوته.
وسار بجواده خببا إلى وستمنستر، واجتاز شارع التلغراف، ودخل إلى الحديقة الملكية عند الظهر.
والعادة في لندرا أن الأشراف يتنزهون في هايد بارك في أواسط النهار، فإذا بزغت الشمس واخترقت أشعتها ضباب لندرا الكثيف، أقبل الفرسان والفارسات إلى تلك الحدائق إقبال العطاش على موارد الماء.
وقد صفا الجو في ذلك اليوم بعد الصفاء، فلما قدم العبوس رأى كثيرا من الناس قد سبقوه إلى تلك الحدائق الغناء، فجال بينهم واستلفت فرسه أنظار الجميع لندور الجياد الأصيلة في بلاد الإنكليز.
وكان جماعة من الفرسان مجتمعين حين مر بهم العبوس، فاختلفوا بين أن يكون إنكليزيا، أو فرنسيا، أو أميركيا، وكان اختلافهم مؤديا إلى الرهان حسب عادة الإنكليز، فلا أحب إليهم من الرهان.
وقد طال خلافهم حتى قال بعضهم: إنه هندي.
وقال آخرون: بل إنه برازيلي.
وكان بينهم شاب يدعى البارون إدموند فقال لهم: إني أعرف هذا الرجل، فهو روسي يدعى الكونت ر. وهو عاشق مفتون بالمس ألن ابنة اللورد بالمير.
فاعترضه أحد الحاضرين، وقال له: ما هذه القصص التي ترويها يا إدموند. - إني لا أستنبط، بل أروي الحقيقة، فإنكم تعلمون أن مس ألن أجمل فتاة في بلاد الإنكليز، وقد ردت كل خطابها، وليس فيهم غير الغني النبيل، ألا تذكرون حكاية ابن اللورد س. وكيف أنه حاول الانتحار من أجلها في العام الماضي؟
فرد أحدهم: بل نذكر أيضا البارون وليم الذي سفك دمه منتحرا في سبيل غرامها. - إذن فاعلموا أن مس ألن سافرت على إثر هذه الحادثة إلى إيطاليا، وأقامت فيها عامين وهنا يبدأ تاريخها.
وقال الجميع: بالله ارو لنا شيئا من أخبارها. - أروي لكم ما تعلق بهذا الروسي، فأنها أقمت شهرا في موناكوا، وهذه المدينة يزورها كثير من الروسيين كما تعلمون، وخلبت في هذا الشهر عقل الكونت، وأقسمت على أن يتزوجها.
قال أحدهم: أتظن أن هذا الرجل الذي مر بنا هو الكونت الروسي، وكيف تؤيد رأيك؟ - بأمر بسيط، وهو أن مس ألن لم تأت إلى هايد بارك منذ ثلاثة أشهر، وهي قد أتت اليوم.
ورد أحدهم: لقد أصبت، فقد رأيتها الآن داخلة من ويث هال.
وقال آخر: إن قولك هذا لا يبرهن على شيء.
فاعترض عند ذلك واحد منهم، وقال: إنكم تستطيعون عقد الرهان أيها السادة، وأنا أراهن مع إدموند وأثبت صحة ما قاله.
وكان المعترض فتى يدعونه المركيز لاكروا، فقالوا له: كيف تثبت ذلك أيها المركيز؟ - ذلك سهل ميسور لدي، فإني أذهب إلى مس ألن نفسها وأسألها، فإني من أصدقائها.
وقال له أحدهم ممازحا: ولكنك لا تتزوجها فيما أعتقد. - معاذ الله، فإن زوج مس ألن لا يكون زوجا لها بل عبدا.
وعند ذلك تراهن الفريقان على ألف جنيه، فقال قسم منهم إن العبوس هو الكونت الروسي عاشق مس ألن، وقال الفريق الآخر إنه ليس روسيا ولا عاشقا.
ولما تم الاتفاق على الرهان بينهم، لكز المركيز بطن جواده، وسار مقتفيا أثر مس ألن حتى أوشك أن يدركها، فالتفتت إلى ورائها وعرفته فحيته وهي تحسب أنه سيمر بها دون أن يكلمها، ولكنه حين وصل إليها جعل جواده محاذيا لجوادها، وقال لها: إني عقدت رهانا يا مس ألن. - ما هو هذا الرهان؟ - هو أن الكونت الروسي في لندرا، وأنه الآن في هايد بارك، وقد أتى ليراك.
فابتسمت وقالت: إن هذا الكونت قد هام بي في موناكو، ولكنه نسيني الآن دون شك. - ولكن ذلك محال يا سيدتي، فإنه في لندرا. - ألا يمكن أن يكون أتى إليها لغير مهمة الغرام؟ - ومع ذلك فإنه الآن معنا في هذه الحدائق. - ألعلك تعرفه؟ - كلا، ولكننا رأينا فارسا مر بنا لا يعرفه أحد منا، غير أن السير إدموند يقول إنه الكونت. - وأين هذا الفارس؟ - هو الذي أمامك على فرسه الأسود ووراءه خادم.
فنظرت إلى حيث أشار فرأت ذلك الفارس أي الرجل العبوس، فقالت: إني بعيدة جدا عنه ولا أرى وجهه، فلا أستطيع أن أعلم إذا كان هو الكونت، فهل تريد أن تصحبني لأدركه؟ - حبا وكرامة يا سيدتي.
ودفعت عند ذلك فرسها، وانطلق انطلاق الريح والمركيز يتبعها، ولكنه لم يركض بها هنيهة حتى أوقفته فجأة؛ لأنها اقتربت من الرجل العبوس وعرفت فرسه والخادم الذي كان يتبعه.
فانذهل المركيز وسألها: لماذا أوقفت الجواد؟
فاصفر وجه الفتاة، ولكنها تجلدت وابتسمت؛ إخفاء لاضطرابها ثم قالت: إنك تعلم يا حضرة المركيز إني غريبة الأخلاق، فأنا أريد منك الآن أن تبقى هنا. - لماذا؟ - لأني أريد أن أدنو من هذا الرجل وحدي، فإذا كان هو الكونت الروسي أو لم يكن عدت إليك، فتعلم إذا كنت خسرت الرهان أو كنت من الرابحين. - ليكن ما تريدين.
فتركته مس ألن واقفا في ظل شجرة، وأرخت لجوادها العنان، فاندفع في إثر الرجل العبوس.
26
أما العبوس فإنه رأى مس ألن تتبعه فدفع جواده مسرعا إلى أحد أبواب الحديقة؛ كي تقرب المسافة ويسهل عليه الخروج حين الاقتضاء.
وتبعته مس ألن مسرعة أيضا، وهي بين الشك واليقين في أمره، فإنها وثقت أنه هو بعينه حين رأت الجواد وخادمه، ولما دنت منه وتبينت وجهه صاحت صيحة دهش، وانذهلت ذهولا شديدا حين رأت أنه غير العبوس الذي تعرفه.
ولم يتمالك العبوس عن الابتسام، ونظر إليها تلك النظرات المكهربة، فغضت بصرها وهي تقول في نفسها: لا شك أنه هو بعينه، فإذا كان قد غير وجهه فإنه لم يغير عينيه.
وكان العبوس عند ذلك دنا منها بجواده، وحياها بصوت رخيم كشف النقاب عن تنكره؛ إذ عرفته أيضا من صوته، فقال لها: أسألك العفو يا مس ألن، فإني اضطررت إلى هذا التنكر.
فقالت له معجبة: أهذا أنت أيضا؟ - نعم وسترينني كل يوم إلى أن تحبينني.
ثم سار بجواده بإزاء جوادها، والخادم يسير في إثرهما على مسافة بعيدة.
وأخذ يحادثها من غير كلفة فيقول: ما أجمل هذا اليوم! إنه يشبه أيام الربيع، وما أرق أحاديث الغرام فيه! أليس كذلك؟
ونظرت إليه نظرة احتقار، وقالت له بلهجة المتهكم: ألا تزال على ما كنت فيه من الجنون. - ربما. - إنك أمس مثلت دور السحرة، وأراك اليوم تمثل دور الدون جوان، وتحاول استغواء القلوب. - يعجبني منك هذا التهكم، فإنه يدل على البغض، وإن البغض مقدمة الحب لدى من يعرفون خفايا القلوب.
فهزت كتفيها احتقارا، وقالت: إنك كنت أمس تحت سقف منزلي، فاحترمت حقوق الضيافة، أما الآن فإننا في محل عمومي، ويوجد بالقرب منا نحو عشرين نبيلا يعتقد بعضهم أنك كونت روسي، وأن هذا الكونت أيضا من عشاقي. - ماذا تعنين بذلك يا مس ألن؟ - أعني أني إذا أشرت إشارة إلى هؤلاء النبلاء أسرعوا إلي، ولا يبقى علي إلا أن أقول لهم إن هذا الرجل الذي لا تعرفونه والذي حسبتمونه نبيلا ...
فقاطعها الرجل العبوس وقال لها مبتسما: إنه من أشقياء الناس، وإنه زعيم أولئك الأشرار الذين يتآمرون على إنكلترا، وإنه ذلك اللص الذي أنقذ الغلام الأرلندي من سجن الطاحون، أليس هذا الذي تريدين أن تقوليه يا مس ألن؟ - نعم، فإني أستطيع أن أناديهم وأقول لهم هذا القول.
وأجابها بسكينة: وإنهم من النبلاء كما تقولين، ولكل نبيل الحق بأن يكون بوليسا عند الاقتضاء، فلا يحتاجون إلى بوليس للقبض علي، إذن اصدري أمرك إليهم، فإني لا أتزحزح من مكاني ولا أحاول الفرار. - إنك تنذرني كما أرى، ولكن احذر.
فقال لها بلهجة المتهكم: وأنت يا سيدتي، ألا تحذرين من أن يقال عنك بأنك ذات علائق مع اللصوص. - إني لا أبالي بما يكون من سمعتي، إذا بلغت غايتي من الانتقام. - إذن نادي هذا المركيز الذي ينتظرك في ظل الشجرة. - كلا، بل أريد اليوم أن أكون كريمة أيضا، كما كنت أمس، وفوق ذلك فإن هذا اليوم يوم أحد تعقد فيه المهادنات. - وماذا تخشين مني يا مس ألن بعد أن أرجعت إليك الرسائل التي كتبتها إلى ذلك الفتى المنكود؟
وقطبت جبينها، واتقدت عيناها ببارق الغضب، وقالت له: أتجسر أيضا أن تباحثني في هذه الرسائل، بعد أن حجزت واحدة منها عندك .
فاضطرب العبوس فجأة، وقال: إن هذا محال يا سيدتي، فقد عددت الرسائل التي أعطيتك إياها، فهي سبع عشرة رسالة. - وأنا كتبت ثماني عشرة.
فقال لها بلهجة تشف على الصدق الأكيد: إني أقسم لك يا مس ألن أني ما وجدت في الضريح غير سبع عشرة رسالة، وإني لا أعلم شيئا من أمر الرسالة المفقودة، لكني أقسم لك أيضا أني سأقف على حقيقتها، فإذا كانت موجودة رددتها إليك.
ثم حياها مودعا، وابتعد عنها يعدو خببا بجواده، فوقفت مس ألن تنظر إليه حتى توارى عن الأنظار.
فقالت في نفسها: إن هذا العدو عدو شريف، وأنا واثقة أن الرسالة ليست عنده، ولكن أين هي؟
وبعد أن توارى العبوس عن أنظارها، عادت إلى المركيز الذي كان لا يزال ينتظرها، فقالت له مبتسمة: يسوءني أنك خسرت الرهان يا سيدي المركيز؛ لأن الشخص ليس الكونت الروسي، فادفع الرهان ولا تعد لمثله.
ثم تركته ضاحكة، وذهبت في طريق آخر. •••
وبقيت تتنزه في الحدائق إلى الساعة الثانية بعد الظهر، فلما عادت إلى منزلها أعطاها الخادم رسالة باسمها ففضتها، ولم تكد تقف على ما فيها حتى اضطرب قلبها، فإنها كانت تحتوي على الرسالة المفقودة، ورسالة من الرجل العبوس هذا نصها:
إن والدة الفتى حفظت تلك الرسالة على سبيل التذكار، فأرجعتها إليك مع تقديم واجب الاحترام، فاقبليه من ذاك الذي لا بد أن تحبيه.
الرجل العبوس
فهاجت أحقاد مس ألن هياج البراكين النارية، فمزقت الرسالتين وقالت: أما الآن وقد بت لا أخشاك فسوف ترى ما يكون مني، إن الحرب قد بدأت الآن، وسأسحقك سحق الزجاج.
27
إن يوم الأحد في لندرا أقبح أيام الأسبوع، لما يعتري الإنسان فيه من الملل، فإن جميع المخازن والأندية تقفل أبوابها، وتعطل الأعمال بجملتها، وتسود السكينة فيها، فلا تجد في شوارعها غير شراذم من الناس يسيرون الهويناء سكوتا وجوما، بعضهم من قبيل التدين احتراما لذلك اليوم، وبعضهم على سبيل العادة.
ولذلك يعدون هذا اليوم كليلة العاشق لا نهاية لها.
حتى إذا توارت الشمس في الحجاب، واتقدت مصابيح الغاز في الشوارع، وفتحت الحانات أبوابها، تنفس الناس الصعداء، وخرجوا متهللين مستبشرين فغصت الطرقات، وعادت الأعمال إلى مجاريها، فكانوا كلهم كأنهم في حفلة عيد.
وأخص ما يكون الزحام في شوارع الفقراء، فإن الحانات فيها تفتح أبوابها في الساعة الثامنة، فتغص بالسكارى، ويعربدون على قدر سكرهم، ولكن البوليس يتساهل معهم في تلك الليلة تساهلا عظيما، فلا يقبض على سكير ولا يؤنب معربدا؛ كي لا ينغص على الناس سرورهم بعد ضجرهم العظيم في ذلك اليوم الطويل.
وكان بادي مقيما في منزله مع امرأته وولديه في ذلك اليوم، فلما أقبل المساء حنت نفسه إلى الشراب، وقال لامرأته: إني ذاهب أتنزه قليلا، فإني مصاب بصداع خفيف. - ولكن البرد يزيد صداعك؛ لأنه قارص. - إني أزرر ثوبي فأتقيه. - أؤثر أن تبقى في المنزل، ولا أدري لماذا؟ - أقول لك الحق، إني كنت مصابا بصداع، ولا أريد التنزه، بل أريد أن أشرب كأسا مع الإخوان. - يوجد عندنا إبريق ملآن من البيرا السوداء، فاشرب منه ما تشاء. - إن الشرب في المنزل لا يلذ كالشرب في الحانات.
فتنهدت امرأته، وقالت: وقد صدق من قال فيكم معشر الرجال إنكم فطرتم على العناد.
فتغلبت عواطف الجفاء من بادي على عواطف السلام، وقال لها مغضبا: لماذا تودين أن أبقى في البيت؟ ولم هذا الاستبداد؟ - قلت لك لا أعلم. - أيكفي هذا البرهان السخيف لحملي على الامتثال لك، أم تحسبين أننا خلقنا لإرضائكن ولنكون لكن عبيدا؟ - إن قلبي يحدثني بحلول مصيبة، وقد ظهر لي من الأب صموئيل أنه غير واثق بك.
ثم لا أعلم ما كانت غاية مس ألن من أمرها لك أن تحذر صموئيل من الكامنين للرجل العبوس. - وأنا لا أعلم أيضا، ولا أزال أعد أمرها من الألغاز. - إنها مثل أبيها، تكره الأرلنديين أشد الكره، فكيف تسعى إلى إنقاذ هذا الأرلندي. - قلت لك لا أفهم شيئا من مقاصدها، حتى إني لا أريد أن أبحث في أوامرها الغامضة، وإني عولت على الخضوع لها، منذ بعتها نفسي بيع السلع.
ثم تركها وخطا خطوة إلى الباب، ولكنها أمسكت ذراعه وأوقفته، وقالت له: اصغ إلي، فلقد قلت لك إنه خيل لي أن الأب صموئيل غير أمين معك. - ماذا تريدين بذلك؟ - أريد أن تبقى في المنزل؛ لأني أخاف عليك من الأرلنديين.
فهز بادي كتفيه استخفافا وقال: إذا كان لا بد من الخوف، لا يكون خوفي من الأرلنديين. - ممن إذن؟ - من نيقولا وجوهان. - لماذا؟ - لأني وعدتهما أن أوافيهما في الليلة السابقة، غير أن مس ألن منعتني من رؤيتهما.
ولكني لا أقابلهما في هذه الليلة، فإني ذاهب إلى الحانة التي بجوارنا، وهما لا يزالان كامنين قرب الكنيسة.
فقالت له بصوت مضطرب: إذن لا بد لك من الذهاب. - دون شك فقد قتلني الضجر، وسيحييني الشراب. - بادي، أرجوك أن تبقى.
وقد قالت له هذا القول بلهجة دلال، فخشي بادي أن يؤثر عليه دلالها، فتكلف الغضب، وقال: لقد لقيت من الضجر منك أكثر ما لقيه الناس من هذا اليوم الثقيل، فدعيني أذهب إلى حيث أشاء، فقد سجنت شهرا كاملا، أتريدين أن تسجنيني أنت أيضا؟
ثم أبعدها بجفاء، وخرج من المنزل.
فلم يبتعد عنه مسافة قريبة حتى لقيه جوهان، وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ - إلى خمارة إليزابت، أشرب كأسا من البيرا. - إذن هلم بنا، إني رفيقك.
ثم تأبط ذراعه وسار به، فلم ير الناس بعد ذلك العهد بادي المنكود حيا.
28
لقد رأينا كيف كانت امرأة بادي تلح على زوجها بالبقاء في المنزل، وتنتقل معه من التحذير، إلى الضغط، إلى الاستعطاف والالتماس، دون أن تفوز بمراد، فإن النساء مهما بلغ من سلطتهن على الرجل لا يبلغن منه مرادا متى أصر على قضاء بغيته، ولا سيما إذا كانت بغية السكر أو المقامرة.
فلما خرج بادي من المنزل غير مكترث لامرأته وتوسلها، أنامت المرأة ولديها، وجعلت تقرأ في التوراة منتظرة عودة زوجها، وهي تنظر إلى ولديها النائمين من حين إلى آخر.
ولبثت تقرأ، حتى انقطعت أصوات الناس من الخارج، إشارة إلى تقدم الليل، فزاد اضطراب تلك الزوجة واشتدت هواجسها، فأقفلت توراتها وقامت إلى الباب الخارجي، فوقفت على العتبة تنتظر على أحر من الجمر.
وكانت كلما رأت شخصا قادما حسبته زوجها، حتى إذا مر بها واستمر في سيره، زادت هواجسها، وتمكنت منها المخاوف، فإن قلبها كان ينذرها بمصاب أليم.
ولما طال انتظارها دون أن يعود، عولت على أن تبحث عنه في الخمارات التي يختلف إليها.
فدخلت إلى المنزل فتفقدت ولديها، ثم خرجت فأقفلت الباب وسارت في تلك الخمارات تبحث عنه فلم تجده.
وكانت تسأل عنه السكارى وكلهم يعرفونه، فقال لها أحدهم: إني رأيته ذاهبا في جهة التميس.
فأيقنت المرأة أنه ذاهب إلى خمارة إليزابيت؛ لأن جيبه كان مفعما بالنقود، فآثر هذه الخمارة لغلاء المشروبات فيها.
فذهبت إلى تلك الخمارة، فلم تجده ولم تجد أحدا يعرفه، ولكنها سألت الحاضرين إذا كان بينهم من يعرفه أو رآه.
فأجابها أحدهم: إني رأيته منذ ساعة ذاهبا إلى كنيسة سانت جورج وهو يتمايل في مشيته كالسكران. - أكان وحده؟ - كلا، بل كان مع شخصين أظنهما أرلنديين.
وكان هذا الشخص الذي يحدثها جوهن، الذي لقي بادي حين خروجه من منزله.
فاضطربت المرأة اضطرابا شديدا حين سمعت ذكر الأرلنديين، وخرجت مسرعة عائدة إلى منزلها، وهي تحسب أنها تجد زوجها فيه، وتقول في نفسها: إن الساعة كانت قد بلغت الرابعة صباحا، فإذا هو لم يعد فقد أصيب بنكبة لا محالة.
وكانت كلما اقتربت من المنزل شعرت باضطراب في ساقيها وخفوق في قلبها، حتى إذا وصلت إلى مدخل الزقاق الذي يقيمون فيه رأت جماعة من الرجال يتحدثون، وعليهم علائم الاهتمام كأنهم يتحدثون بأمر خطير، فدنت منهم مضطربة دون أن ينتبه لها أحد، فرأت الزقاق غاصا بالناس، ورأت بينهم نحو عشرة من أفراد البوليس.
وكان البوليس والجماعة واقفين أمام منزلها، فدنت خطوة أيضا، ثم وقفت منذعرة وقد رعبت رعبا قويا؛ ذلك أنها رأت باب المنزل مفتوحا، ورأت بعض الناس فيه، ثم سمعت صوتا لا يمكن أن تنخدع فيه وهو صوت ولدها.
وقبل أن تخطو أتت إليها إحدى جاراتها، فصافحتها وهي تقول: ما هذه النكبة أيتها العزيزة، إنها لا تقبل العزاء.
ولم تكن قد عرفت شيئا بعد، ولكنها علمت كل شيء بعد صراخ ولديها، وكلام جارتها.
فدخلت إلى المنزل، وقد اصفر وجهها، واحمرت عيناها، فلقيت فيه زوجها بادي ولكنها لقيته ميتا لا حراك فيه.
وقد رأته منطرحا على الأرض، وولداها حول الجثة يصيحان صياحا يقطع القلوب، وكان منظر الجثة هائلا، فإنها كانت مطعونة أربع طعنات اثنتين في بطنه، واثنتين في الكف والوجه.
غير أن بادي لم يقتل بهذه الجراح؛ إذ لم يكن بينها جرح قاتل، ولكنه مات مخنوقا، فإن أثر ضغط الأيدي كانت بادية في العنق.
ثم إن ملابس الميت كانت تدل على أنه دافع دفاع اليأس قبل أن يموت، فإنها مقطعة ممزقة، كما أن آثار الضغط والجراح الأربعة كانت تشير إلى أن قاتله لم يكن واحدا بل جماعة.
وكان البوليس الطواف قد عثر حين طوافه ببادي ملقى في أحد الأزقة وهو مضرج بدمه، فعرفه واحد منهم وقال: إني لا أعرف اسم القتيل، ولكني أعرف أين يقيم.
ولذلك أتوا به بدلا من أن يرسلوه إلى المحل المعين لعرض القتلى.
وكان الناس قد تجمهروا عليهم حين ذهابهم به، فعرفه كثيرون، ولم تمض هنيهة حتى انتشر الخبر في ذلك الشارع، وأقبل الناس من كل صوب إلى المنزل.
وكان رئيس البوليس قد حضر في ذلك الحين وباشر التحقيق.
أما امرأة بادي فقد أصيبت بذهول عظيم حين فوجئت بهذه النكبة، فأرادت أن تبكي فحبس دمعها، وحاولت أن تعول فانعقد لسانها.
وأخذ رئيس الشرطة يسأل من كان حوله من الناس عما يعلمون من أمر ذاك القتل الذريع، فلم يجد بينهم من يجيبه.
ولكن امرأة بادي لم تلبث أن سمعت سؤال الرئيس حتى حلت عقدة لسانها، فدنت من الرئيس وقالت له بصوت مختنق يتهدج: إن قاتله هو الكاهن، فلم يكن لزوجي أعداء.
فقال لها الرئيس وقد حسب أنه وقف على سر الجناية: أي كاهن تعنين يا سيدتي؟ - الكاهن الكاثوليكي. - أتظنين أنه قاتل زوجك؟
فاتقدت عيناها من نار، وظهرت على وجهها علائم الانتقام الوحشي، فقالت: إذا لم يكن الكاهن قد قتله، فهو الآمر بالقتل دون ريب، وإن رجاله الذين قتلوا زوجي المسكين. - أوضحي يا سيدتي كل ما تقولينه بالتفصيل، فإن في بلادنا الحرة لا يسلم مجرم من العقاب مهما ارتفع مقامه وعظم منصبه.
فاختنق صوت المرأة وقالت: إن هذا الكاهن الكاثوليكي الذي أتهمه أرلندي، وقد أحسن إلينا مرات كثيرة، فاضطررنا إلى قبول إحسانه مكرهين لشدة فقرنا.
فتعجب الرئيس وقال لها: إذا كان ذاك الكاهن قد أحسن إليكم، كما تقولين، فكيف يسيء بعد ذلك الإحسان؟ وأية فائدة له من قتل زوجك؟ - إن زوجي كان مشتركا مع اثنين بغية القبض على الرجل العبوس، ونيل الجائزة من الحكومة، وقد علم الكاهن بذلك، ولما كان أرلنديا وكان الشخص الذين سيقبضون عليه أرلنديا، فقد حقد الكاهن على زوجي وأمر أتباعه بقتله فقتلوه.
وكان يوجد كثير من الناس في البيت يسمعون إقرار المرأة، واتهامها الكاهن الأرلندي بالقتل، فصادفت التهمة هوى من نفوسهم ووافقوا المرأة على أقوالها.
وكان بين أولئك الناس رجلا لابسا ملابس السواد، وكان واقفا بينهم دون أن ينتبه إليه أحد، فلما سمع التهمة اتقدت عيناه بأشعة الفرح، فانسل من بين الجماعة وبرح المكان مسرعا وعليه علائم الاهتمام.
أما ذلك الرجل فقد كان السير بترس توين، ألد أعداء الأب صموئيل.
أما رئيس البوليس فإنه لما رأى أن التهمة عظيمة، وإنها لاحقة بأحد رجال الدين، أمر بتفريق الناس وإخراجهم من البيت؛ استيفاء للتحقيق مع المرأة.
فأخرجوا جميعهم ووقفوا جماعات متفرقة في الشارع، وجعلوا يتحدثون بهذه التهمة، ويذكرون الأب صموئيل، فيختلفون فيه بين مصدق للتهمة وبين منكر لها؛ لأنه كان مشهورا بالخير ولا سيما بين الطبقة السفلى، فلم يعدم أنصارا بين أولئك المتجمهرين.
وإنهم على أحاديثهم تلك إذ امتزج بينهم شخص لم يعرفه أحد من قبل، فجعل يسأل الناس عن سبب تجمهرهم حتى وقف على الحقيقة، فذهب إلى منزل بادي وقال للبوليس الواقف على الباب: ألا توجد جثة قتيل في المنزل، والرئيس يحقق في أمره؟ - نعم يا سيدي، وما شأنك في ذلك؟ - أرجوك أن تبلغ الرئيس بأن لدي تعليمات عن هذه الجناية يجب أن أبلغه إياها.
فدخل البوليس إلى المنزل، وأخبر رئيسه بما سمعه من ذلك الرجل، فأمر بإدخاله على الفور.
ودخل الرجل فسأله الرئيس: من أنت يا سيدي؟ - إني طبيب ألماني. - ماذا تسمى؟ - كونار هوزر. - تقول إن لديك تعليمات عن الجناية، فقل ما تعلمه. - إني أستطيع أن أظهر لك القاتل.
فارتعشت امرأة بادي وقالت: إنك إذا فعلت هذا تباركك نفسي، وتباركك عظام زوجي تحت الثرى.
وقال له رئيس البوليس: إذن أنت تعرف القاتل، فقل لنا ما اسمه. - إني لا أعرف اسمه يا سيدي ولا أعرفه أيضا، ولكن إذا أمر سيدي بإجراء ما أطلبه إليه أظهرت صورة القاتل لجميع الناس.
فاستغرب الرئيس كلامه، وقال: إني لا أفهم ما تقول. - لقد قلت لك يا سيدي إني طبيب، وأنا أشتغل منذ عشرين عاما في مسألة طبية خطيرة، توفقت لاكتشافها، وهي التي لمحت لك عنها الآن.
وكان يتكلم بسكينة ورزانة، تشف عن اعتقاد متين، وتشير على أنه من العلماء الخبيرين، غير أن الرئيس لم يتمالك عن فحصه؛ إذ خشي أن يكون مجنونا.
فقال له الطبيب مبتسما: لا تطل فحصي يا سيدي، فإن ما قلته لك حقيقة راهنة عندي، وسأكشف لك القاتل، وأمثل رسمه لجميع الناس، وأنا لا أسألك أن توقف سير التحقيق أو تمتنع عن القبض على المتهمين بالجناية. - إذن ماذا تطلب؟ - أطلب أمرا بسيطا، وهو أن ترسل هذه الجثة إلى مستشفى القديس بورتولمايو، أو تبقى هنا، ولكن بشرط أن لا يمسها أحد إلى صباح غد. - وبعد الصباح؟ - أظهر لكم القاتل دون شك.
ثم أخذ من جيبه محفظة وأخرج منها أوراقا مالية قيمتها خمسون جنيها، وقال: إن العادة يا سيدي أن يدفع من يريد المداخلة في تحقيق جريمة تأمينا ماليا يدل على سلامة قصده، فتفضل وخذ مني التأمين.
فأبى الرئيس أخذها وقال: لا حاجة إليها، أما الجثة فستبقى هنا مكانها بحراسة اثنين من البوليس، وغدا تفعل ما قلت عنه، وأما الحكومة فإنها بالطبع لا توقف تحقيقها بانتظار نتائج أبحاثك.
فانحنى الرجل شاكرا وانصرف، فما سار بضع خطوات في ذلك الزقاق حتى لقي شخصا ينتظره، فتأبط ذراعه وسار وإياه.
29
أما هذا الشخص الذي كان ينتظره فقد كان شوكنج، وقد عرف القراء دون شك أن ذاك الألماني لم يكن غير الرجل العبوس الذي تجاسر على المثول أمام رئيس البوليس، والبوليس يبحث عنه في كل مكان، وقد عين جائزة لمن يقبض عليه.
وكان السبب في قدوم العبوس إلى الزقاق، أنه كان يسير مع شوكنج مستطلعا أخبار بادي للوقوف على خديعته للكاهن.
فلما وصل قرب منزله رأى احتشاد الناس، وسمع لغطهم وترديدهم اسم الأب صموئيل، فأمر شوكنج بانتظاره وامتزج بين الناس، وعلم منهم تلك التهمة الهائلة التي يتهمونه بها.
وقد عرف القراء كيف دخل إلى منزل بادي، وكيف خرج منه مزودا بإذن رئيس البوليس أن يجري امتحاناته العلمية بالجثة.
فلما مشى مع شوكنج لم يجسر شوكنج على مباحثته، لما رأى عليه من علائم الانشغال، حتى إذا وصلا إلى جسر وستمنستر، قال له شوكنج: أتريد يا سيدي أن تجتاز للضفة الثانية؟ - نعم، إذ يجب أن نذهب إلى سانت جيل، لأرى الأب صموئيل، ألم تسمع ما كان يقول الناس؟ - نعم سمعتهم يتهمونه بقتل بادي، ولكني مطمئن الخاطر عليه، فإنه ليس من أهل الإثم. - أما أنا فلست مطمئنا، فاصغ إلي الآن، إنهم قتلوا بادي واتهموا الأب صموئيل بقتله، وهي تهمة تتلقاها الحكومة بملء الارتياح؛ لأنها تعلم أن الأب صموئيل زعيم الأرلنديين، وهي تقبض عليه بأضعف من تلك التهمة. - هو ما تقول، ولكنه يثبت براءته. - ليس هو الذي يستطيع إثباتها، بل أنا، فإني سأظهر لهم القاتل. - وعندها يطلقون سراحه. - كلا، فإن الحكومة إذا أرادت التسويف في أمر بلغت منه ما تبتغي، فهي تبقي الأب صموئيل في الحبس إلى أن تقبض على القاتل، ولكن البوليس لا يقبض على القاتل، بل يسهل له سبل الفرار كي يبقيه في الحبس. - إذن ماذا نعمل؟ - إن رئيس البوليس لم يصدر أمره بعد بإلقاء القبض عليه، فيجب أن ننذره كي لا يخرج من الكنيسة قبل ظهور الحقيقة. - ولكنهم يقبضون عليه في الكنيسة. - يسوءني منك يا شوكنج أنك تجهل قوانين بلادك، وإني أحتاج أن أعلمك إياها وأنا غريب عنها.
فاعلم أن البوليس في بلاد الإنكليز يحق له أن يقبض على أي شخص في قارعة الطريق ويذهب به إلى المركز، ولا يحق له القبض عليه في منزله إلا بأمر خاص، وأما الكهنة ولو كانوا من الأرلنديين، فلا يحق له القبض عليهم في كنائسهم، مهما عظمت الجريمة، إلا بأمر خاص من وزير العدلية، ولا يستطيع الوزير إصدار الأمر إلا بعد مصادقة البرلمان، فينبغي لذلك يومين على الأقل. - وفي هذين اليومين؟ - إذا لم يقبض البوليس على المجرم الحقيقي، قبضت عليه أنا. - إذن أنت تعرفه. - كلا.
فقال شوكنج بملء السذاجة: إني رأيتك يا سيدي تفعل أمورا غريبة، أما ما تقوله الآن فوق حد تصوري.
فابتسم العبوس وقال: سترى أعظم من هذا.
ثم استمرا في سيرهما حتى وصلا إلى سانت جيل، وكانت الساعة الخامسة صباحا، فلقيا الكاهن مستيقظا يصلي صلاة الفجر.
فدخل إليه العبوس وبقي حتى أتم صلاته، فقال: يجب يا سيدي أن تنزل إلى الكنيسة فلا تخرج منها أبدا.
فدهش وقال: لماذا؟ - إنك تعرف المدعو بادي. - دون شك، فإنه هو الذي أخبرني أنهم كامنون لك قرب كنيسة سانت جورج. - إذن اعلم أن بادي مات قتلا، وإنهم يتهمونك بقتله.
فتراجع الكاهن مندهشا، وقد بدت عليه علامات الأنفة والاشمئزاز وقال: أنا!
وعند ذلك سمعوا وقع أقدام عند باب الكاهن، فارتعب شوكنج وقال: إنهم قدموا للقبض عليه.
أما العبوس فإنه استل خنجره، ووقف بين الكاهن وبين الباب يحاول الدفاع عنه إلى آخر نسمة من حياته.
30
ثم سمعوا صوت وقوع الأقدام على السلم، فتطلع العبوس إلى الأب صموئيل فرآه يضطرب، فقال له: إنهم لا يبلغون إليك إلا بعد أن يمشوا على جثتي.
فأجاب: رد خنجرك إلى غمده يا بني، ومعاذ الله أن أرضى أن تسفك نقطة دم لأجلي.
وعندها طرق الباب، فأسرع الأب وقال: من الطارق ؟
فأجابه صوت من الخارج باللغة الأرلندية: إننا شخصان محتاجان إلى كاهن.
فقطب الرجل العبوس حاجبيه، وأسرع الأب صموئيل ففتح الباب، ودخل شخصان عرف الأب صموئيل أحدهما فقال له: أهذا أنت؟ وماذا تريد؟
فرد الأرلندي باكيا إن امرأتي ولدت منذ أسبوع فمات المولود، وهي الآن مشرفة على الموت، وليس لي مال لإحضار طبيب ولا أستطيع أن أحضر لها غداء، ولا أحب أن تموت دون اعتراف.
فرق الأب لشكواه وقال: اصبر فإني أذهب معك.
ثم دخل إلى غرفته وتناول ما كان في خزانته من المال اليسير لإنفاقه عليها حين الاقتضاء، وهم بالخروج.
فاعترضه العبوس قائلا: أستحلفك بالله أن تصغي إلي.
فدهش الأب وقال: ماذا تريد؟ - أريد أن أذهب مكانك لإغاثة تلك المرأة، وأنت تعلم أن لي إلماما بالطب، فإذا رأيتها مشرفة حقيقة على الموت، عدت إليك وذهبت بك إليها غير مكترث بالأخطار. - كلا، يجب علي الذهاب حيث يدعوني الواجب. - غير أن قلبي يحدثني بأنها مكيدة نصبت لك، وأن أعداءنا قد رشوا ذينك الرجلين. - ذاك محال، فإني أعرف أحدهما حق المعرفة، ومهما يكون الأمر يجب علي الذهاب.
ثم أفلت منه، وقال للرجلين: سيرا أمامي، فإني في إثركما.
فقال العبوس: ونحن أيضا نسير معكم.
ثم أشار إلى شوكنج أن يتبعه، فخرج الأب والرجلان، وسار العبوس وشوكنج في إثرهما على قيد بضع خطوات.
وفيما هما سائران قال العبوس لشوكنج: أظننتني مخطئا باسترسالي إلى المخاوف، فإن رئيس البوليس لم يتمم تحقيقه بعد، ومتى ذهب إلى منزله ينام، فلا يصدر الأمر بإلقاء القبض على الأب صموئيل إلا قرب الظهر. - أتظنه يستطيع الرجوع إلى الكنيسة قبل صدور الأمر؟ - نعم، وهو بعيد عن الخطر إلا إذا حدث ما ليس في الحسبان.
وفيما هما سائران ضغط الرجل على يد شوكنج، وقال له بصوت منخفض: ما هذا؟ انظر إلى الرصيف. - إني أرى ثلاثة رجال من أفراد البوليس يتحدثون همسا، ولكن تلك الأمور مألوفة. - ولكني أرى غير رأيك، فقد رابني اجتماعهم.
وكان الأب صموئيل يسير مستعجلا والرجلان يتقدمانه، فلما وصلوا إلى حيث كان أفراد البوليس اعترضهم الجنود، ودنا أحدهم من الكاهن فقال له: من أنت؟ - أنا الأب صموئيل. - أأنت كاهن كنيسة سانت جيل؟ - نعم. - إذن، سألقي القبض عليك باسم الشرع، وبأمر ناظر العدلية، فتفضل واتبعنا.
وهنا وجف قلب شوكنج وصاح صيحة ذعر، فضغط الرجل العبوس على يده، وقال له: لا تفه بكلمة؛ إذ يجب علينا إنقاذه، ولا يفيد العنف في هذه الأحوال، بل إن الغنيمة بالفرار.
ثم أخذ بيد شوكنج ودخل به زقاقا ضيقا، وتواريا عن الأنظار.
31
وقد أشكل على العبوس صدور الأمر إلى البوليس بالقبض على الأب صموئيل، في حين أن التحقيق في مقتل بادي لم يكد يتم، على أننا نوضح للقراء كيف كان ذلك، وكيف كان العبوس مصيبا بمخاوفه على الكاهن فحذره من الأرلنديين اللذين قدما في طلبه.
يذكر القراء أنه حين كان الناس متجمهرين في منزل بادي يتهم معظمهم الأب صموئيل بقتله، كان بينهم بترس توين، وأنه لم ينتبه إليه أحد منهم على جلالة قدره وعلو مكانته بين الإنكليز.
ويذكر القراء أن مس ألن أخبرت السير بترس توين حليفها بما قاله لها بادي: إن الرجل العبوس مختبئ في كنيسة سانت جورج، وأنه يبيت في قبة جرسها.
ولم يكن ذاك الزعيم القوي ناقما على الرجل العبوس بل على الأب صموئيل، فسر للخبر وقال في نفسه: إن الأب صموئيل لا بد أن يزور الرجل العبوس لما بينهما من العلائق، ولذلك يجب تعيين الرقباء قرب تلك الكنيسة كي أعرف مواعيد زياراته.
فلما عين الرقباء ذهب قبل انسدال الظلام إلى وكيل العدلية، فاستقبله الوكيل خير استقبال.
وعند ذلك قال له بترس توين: إني أستطيع أن أسلمكم الشخص الذي تبحث عنه الحكومة، ولكني أشترط لذلك أن تعطيني أمرا بالقبض، وتدع فراغا في محل اسم الشخص الذي يقبض عليه.
فاعترضه الوكيل قائلا: إن الشرائع الإنكليزية لا تجيز مثل تلك الأمور.
فقال له بترس: إننا لا نستطيع القبض على الرجل العبوس إلا إذا قبضنا على شريكه. - من هو شريكه؟ - كاهن كاثوليكي يدعى الأب صموئيل. - كيف تثبت اشتراكه مع العبوس؟ - إنك تعلم أن من كان مثلي لا يستخف بالشرائع، ولا يقدم على مثل هذه الأمور إلا بعد التثبت، إذا كنت أسألك أمرا بالقبض فما ذلك إلا بعد وثوقي من عدالة المطلب، وأنه قانوني لا اعتراض عليه.
فقال الوكيل: ولكن هناك أمرا لا يمكن مخالفته، وهو أننا لا نستطيع القبض على كاهن في منزله إلا بأمر ناظر العدلية. - ولكن لا أقبض عليه في منزله ولا في كنيسته، بل في الشارع، وليس في ذلك ما يمنعه القانون.
وما زال الاثنان يتجادلان حتى أفحم الوكيل، فكتب الأمر ووقع عليه وأعطاه إياه، فأخذه بترس توين وخرج به يحسب أنه ملك الدنيا لفرط حقده على الأب صموئيل.
ثم سار إلى الجهة التي أقام فيها المراقبين لتفقدهم، مر بجهة منزل بادي ولقي الناس محتشدين وسمع منهم أن بادي قد قتل، وأن امرأته تتهم الأب صموئيل فغير كل مشروعاته السابقة، وانسحب من بين الجمع وذهب إلى أحقر شارع يقيم فيه أفقر الأرلنديين، وهناك لقي ذينك الرجلين الأرلنديين فأغواهما بالمال، وأرسلهما إلى الأب صموئيل، وأبلغ البوليس صورة الأمر بالقبض عليه، فامتثل وكمن له كما وصفناه.
أما الأب صموئيل حين رأى البوليس قد تعرض له، أيقن بصدق ظن الرجل العبوس، ولكن بعد فوات الأوان، قال للبوليس القابض عليه: لماذا قبضتم علي؟ وبماذا اتهمتوني؟ - بجناية قتل.
فأطرق برأسه إلى الأرض، وقال: إني بريء مما أنا متهم به، ولكني أتبعكم إلى حيث تريدان، إلى أين تذهبان بي؟ - إلى حبس نوايت.
فنظر الأب إلى حواليه باحثا عن العبوس وشوكنج، ولكنه لم يرهما، فإنهما تواريا عن الأنظار.
32
وسار الجنود بالأب صموئيل إلى الحبس الخاص بالذين يرتكبون الجنايات الكبرى، فدهش مدير الحبس حين رآه؛ لأنه كان يعرفه، لا سيما حين عرف أنهم يتهمونه بالقتل، فأيقن أنه بريء وأن في الأمر خديعة أو سوء ظن، غير أنه فحص الأمر بالقبض عليه، فوجده صريحا لا يحتمل التأويل، بحيث إنه لم يجد بدا من سجنه، فسجنه في خير غرفة من غرف الحبس واعتنى به كل الاعتناء.
أما الأب صموئيل فإنه كان راضخا لأحكام القدر، وكان يعتقد أن براءته لا بد أن تظهر فيرتاح باله، ثم يتذكر أن له عدوا قويا قادرا يدعى بترس توين فيخاف.
ولم يكن خوفه على نفسه، بل على أولئك البؤساء الذين كان يعولهم بما يجمعه لهم من أهل البر والإحسان.
وأقام في ذلك الحبس ثلاث ساعات، ثم فتح باب سجنه ودخل إليه المدير وصافحه بيده، وقال له مبتسما: لقد أرسلوا إلي أوراق التحقيق بأمرك، ووقفت على تفاصيل التهمة، فسرني أنك ستخرج بريئا بإذن الله، فإنهم يتهمونك بقتل إنسان يدعى بادي، والذي يتهمك امرأة القتيل دون سواها، وليس لديها شيء من البراهين. لا بد من تبرئتك. - هذا ما أرجوه، إن من كان مثلي لا يرتكب جرائم القتل. - وسيذهبون بك الآن إلى القاضي، ويوقفونك أمام جثة القتيل، والمرجح لدي أنهم سيطلبون إليك ضمانة مالية ويطلقون سراحك.
فهز الأب رأسه أسفا وقال: إن مقدار الضمانة في مثل هذه المواقف يكون عظيما، وهيهات أن أظفر به، فلا بد لي في الحالين من البقاء في الحبس. - المروءة لا يعدم أبناؤها، فستجد من يدفع عنك المال.
ثم أخرجوه من الحبس فوضعوه في مركبة، وساروا به إلى منزل بادي حيث كان رئيس البوليس.
وكانت الجثة لا تزال في موضعها، فإن الرئيس قد وفى بما وعد به الرجل العبوس.
وكان كثير من الناس محتشدين عند باب المنزل، فلما أنزل الكاهن من المركبة استقبله بعض الأجلاف بالشتم واللعن، واستقبله آخرون بالهتاف، فاختلطت الأصوات حتى لم يعرف القادح من المادح.
أما الأب فإنه دخل إلى المنزل غير مكترث بما لقيه، فكان ثابت الجأش بادي السكينة، ولما رأته امرأة بادي زأرت زئير الوحوش، وهمت بالانقضاض عليه وهي تقول: تبا لك من قاتل سفاك.
إلا أن البوليس حال بينها وبينه، وأعادها إلى موقفها، فكانت تنظر إليه ولهيب الانتقام يتقد من عينيها.
أما الكاهن فنظر إليها نظرة المؤنب، وقال لها: أتحسبين أني أنا سفكت دم الرجل الذي كنت أساعد امرأته وابنته؟
فأطرقت المرأة رأسها إلى الأرض اتقاء لنظراته، ثم قالت: إنك إذا لم تكن أنت القاتل فقد قتله أحد رجالك بأمرك. - إنك منخدعة يا سيدتي. - إن زوجي لم يكن له أعداء، فمن يكون قاتله غير أحد الأرلنديين؟
وكان البوليس يحول دون دخول الناس إلى المنزل، غير أنه لما أتى القاضي وكان النظام بأن تكون المحاكمة علنية أمر بإدخال الناس، فدخلوا أفواجا، وكان بينهم رجل دنا من المرأة، وقال لها: اطمئني يا سيدتي، سأظهر لك القاتل في أقرب حين.
وعرف رئيس البوليس هذا الرجل الذي أوهمه أنه طبيب ألماني، وما هو إلا العبوس كما قدمناه.
وكان يصحب العبوس شخصان يحملان آلة مغطاة بجوخ أخضر، فقال له الرئيس: ما هذا؟ - هي الآلة التي أخبرتك أني سأكتشف بها القاتل.
ولما سمع الكاهن صوته عرفه فارتعش، أما العبوس فإنه عاد إلى محادثة رئيس البوليس فقال: إنك سترى يا سيدي دون شك من لهجة الكاهن أنه بعيد عن مواقف التهم، وأن هذه التهمة باطلة، ألا ترى أن تطلق سراحه بضمانة حسب المعتاد؟ - سنفعل ذلك متى أظهرت لنا القاتل كما وعدت.
وعند ذلك دخل اثنان إلى المنزل، أحدهما فتاة مرتدية ملابس بسيطة يحسبها الناظر إليها لأول وهلة أنها من عوام الناس، والآخر متشح بملابس سوداء لم يكد الكاهن يراه حتى علم أنه السير بترس توين، فتأكد أنه هو الذي نصب له هذه المكيدة لما بينهما من الأحقاد.
أما الفتاة فقد عرفتها امرأة بادي، إذ كانت مس ألن نفسها، فانذهلت وحاولت أن تكلمها، ولكنها وضعت سبابتها على فمها بغية إسكاتها، وحولت نظرها عنها إلى ذلك الطبيب الألماني، ولم تكد تراه حتى بدت على وجهها آثار الاضطراب، وكان الرجل العبوس قد رأى هذا الاضطراب منها، فقال في نفسه إنها عرفتني.
ولكنه لم يكترث لها ودنا من الآلة، فأزاح عنها غطاءها الأخضر، فانكشفت آلة تصوير شمسي، فانذهل الحضور وجعلوا يتساءلون ما عساه أن يصنع بهذه الآلة.
33
ولقد قلنا إن الرجل العبوس لم يكترث لمس ألن حين تأكد أنها عرفته، والحقيقة أنه تظاهر بعدم الاكتراث، إلا أن قلبه كان يخفق خفوقا شديدا، فإن هذه الفتاة كانت تستطيع بعد أن عرفته أن تخطو خطوة إلى القاضي، وتهمس كلمة في أذنه فيقبض عليه.
غير أنها لم تفعل شيئا من ذلك، حتى إنها لم تكلم السير بترس توين بشأنه، ولا ندري إن كان ذلك مروءة منها، أم أنها كانت تريد أن تصبر إلى النهاية كي تعلم ما يريد أن يصنعه بالآلة.
ولم يكن خوف العبوس على نفسه بل على الأب صموئيل، فإنه إذا لم يكشف القاتل وقعت التهمة على الكاهن، وأعيد إلى سجن نوايت.
ولذلك تلبس بلباس الصبر فطرد الخوف من نفسه، وأسرع إلى القاضي فقال له: أرجوك يا سيدي أن تأمر بإيقاف الجثة، وإسنادها إلى الجدار، بحيث يكون وجه القتيل إلى جهة الآلة.
فقال له: ماذا تريد أن تصنع؟ - إني ضعيف التعبير باللغة الإنكليزية يا سيدي، وسيظهر لك من فعلي أكثر ما يظهر من قولي.
فأمر القاضي جنديين أن يفعلا ما سأله الطبيب، ففعلا.
فأخذ الرجل العبوس عند ذلك زجاجة من جيبه تحتوي على سائل لا لون له كالماء.
وسأله القاضي: ما هذا؟ - سائل البيلادونا، وسوف ترى ما أصنع بها.
ثم دنا من بادي ففتح عينيه اللتين أغمضهما الموت، وصب فيهما بضع نقط منها.
وكان السكوت سائدا بين الناس يكادون يحبسون أنفاسهم، حتى إن امرأة بادي نفسها أوشكت تنسى أحزانها لانذهالها مما كانت تراه.
والتفت العبوس إلى مس ألن فرأى وجهها قد اصفر، ورأى أنها مهتمة أكثر من جميع الحاضرين بما يفعله، فنظر إليها تلك النظرة السحرية، فغضت بصرها ولم تستطع مقاومة نظراته.
وربما كانت هذه النظرات قد أثرت عليها في ذلك الحين، فإنها كانت قادرة أن تزج هذا الرجل في أعماق الحبس بكلمة واحدة تصدر من فمها.
وفيما هم على ذلك، دخل رجل ظهرت عليه علائم الاهتمام أكثر من سواه، فقالت امرأة بادي حين رأته: هذا هو جوهان، وقد رأى زوجي في ذات الليلة التي قتل فيها.
فتطاولت الأعناق إلى جوهان، وقال: نعم، إني رأيت هذا المنكود ذاهبا إلى الخمارة، ولو توقعت له مثل هذه النكبة لما فارقته لحظة، فقد كان من أخلص إخواني، ثم مسح دمعة سالت فوق خده.
أما الرجل العبوس فإنه بعد أن قطر من ذلك السائل في عيني بادي عادتا إلى الانطباق، فوقف أمام الجثة يراقبها وهو بعيد عنها والناس كلهم ينظرون.
وعند ذلك صاحت امرأة بادي صيحة دهش عجيبة، وقالت: رباه! ماذا أرى؟ ألعل زوجي قد قام من الموت؟
ذلك أن العينين قد فتحتا من تلقاء نفسهما، فذهل جميع الحاضرين نفس ذهول امرأة بادي، وحسبوا ذلك من خوارق العجائب.
وهمت امرأة بادي أن تدنو من الجثة، فاعترضها العبوس قبل أن تصل إليها، وقال لها متلطفا: إن الأموات لا يحيون يا سيدتي ولا يرد إليهم الحياة غير الله، والذي ظهر من عيني زوجك إنما كان من تأثير البيلادونا فيهما، فإن هذا السائل إذا قطر في العينين اتسعت الحدقة حتى يضيق عنهما الجفن، فأرجوك أن تبقي في مكانك ولا تعرقلي عملي.
فامتثلت المرأة، وأخذ الرجل العبوس الآلة التصويرية ووضعها بإزاء الجثة، وأخرج الرجلان اللذان كان يصحبانه قناني محتوية على سوائل يستعملها المصورون.
وكان قرب تلك الغرفة التي كانوا فيها غرفة مظلمة، فأمر العبوس الرجلين أن يدخلا الصندوق والزجاجات إلى تلك الغرفة، ثم بسط الغطاء فوق الآلة، وصوبها إلى وجه بادي وغطى رأسه بالوشاح، وبعد عشر ثوان أزاح الوشاح عن رأسه، وأخرج من الآلة قنينة دخل بها مسرعا إلى الغرفة المظلمة واحتجب عن أنظار الناس.
وهنا زاد عجب الناس، ولم يكن بينهم من يعلم مراده، حتى إن القاضي نفسه كانت تظهر عليه علائم الانذهال.
وبعد حين خرج العبوس فرآه الناس مضطربا، والعهد به أنه هادئ، فمشى إلى رئيس البوليس وقال: أسألك يا سيدي أن تأمر بإقفال باب المنزل، ولا تدع أحدا من الحضور يخرج منه.
وزاد اضطراب الناس لهذا القول، وأمر الرئيس أن يقفل الباب، فاصفر وجه مس ألن ونظرت نظرة قلق إلى السير بترس توين، وكان عدد الموجودين في المنزل يبلغ ثلاثين بينهم جوهان.
34
وكان البوليس قد أحكم إقفال باب المنزل، فلم يستطع أحد الخروج منه، وقد ظهرت علائم القلق على الجميع ما خلا العبوس، فإن السكينة قد عادت إليه، فالتفت إلى القاضي وقال: إني أسألكم المعذرة يا سيدي فقد أطلت انتظارك، ولكني فزت فوزا بمهمتي أتى أعظم مما كنت أتوقعه، فإنني لم أكتشف القاتل فقط، بل إني أثبت أنه موجود هنا بيننا.
وكان لهذه الكلمات وقع شديد على الجمهور، حتى إن واحدا بينهم رجع من الصف الذي كان فيه إلى الصف الذي كان وراءه.
وعاد العبوس إلى مخاطبة القاضي، فقال: إن هذا القتيل المنكود كانت آخر نظراته إلى قاتله، فانطبعت صورته في إنسان عينه، كما انطبعت الحادثة كلها بتفاصيلها الأخيرة.
وقد صورت عيني المغدور فظهرت على الزجاجة صورة المجرم والحادثة والمكان الذي حدثت فيه الجناية.
فاندهش القاضي وقال: أهذا من الممكنات؟ - ليتفضل سيدي القاضي، وليأت معي إلى هذه الغرفة المظلمة، يجد كل ما قلته له أكيدا لا ريب فيه.
فوافقه القاضي ودخل الاثنان إلى تلك الغرفة، فساد السكون على الجمهور، وكان حزنهم لا يوصف.
أما العبوس فإنه أغلق باب الغرفة، وصب على الزجاجة بعض السوائل وعرضها على القاضي، وحدق بها القاضي وهو يوشك أن لا يصدق عينيه؛ إذ رأى رسم عيني بادي، وقد طبع على العين اليمنى شخص قابض على عنق شخص، وكان المجرم واقفا مشهرا خنجرا يقطر من دم ذلك المنكود، وهو ينظر إلى جثته نظر الفائز المنصور.
فقال العبوس للقاضي: كيف رأيت يا سيدي؟ - أرى أنك أفدتنا فائدة جليلة بهذا الاكتشاف. - إنك رأيت رسم المجرم يا سيدي في هذه الصورة، فإذا أظهرته لك أمام الجمع أتعرفه؟ - دون شك فإن الصورة ظاهرة تماما.
وخرج الاثنان من الغرفة المظلمة إلى الغرفة المجتمع فيها الناس، فجلس القاضي في مجلسه.
وأجال العبوس نظره بين الحضور، فرأى مس ألن لا تزال في موقفها، وهي وحدها التي عرفته بين الجمع، فقال في نفسه: إنها لم تفضح أمري بعد.
وهو لا يعرف السير بترس توين ، ولكنه عرف أنه العدو الألد للأرلنديين، فلم يكترث لهما ومشى خطوة إلى الأمام وهو يقول: إن المجرم بينكم. ثم وثب وقبض على شخص وقال: هذا هو.
وكان هذا الشخص جوهان فصاح صيحة منكرة، وحاول أن يتخلص من العبوس، غير أن العبوس انتزعه من بين الجمع ودفعه دفعة شديدة، فانقلب تحت قدمي القاضي.
أما القاضي فإنه تطلع تطلع المشمئز الآنف المستنكر، وتأمل وجهه فوجد أنه ينطبق على الرسم الذي رآه فوق الزجاجة منطبعا في عيني بادي.
وأما امرأة بادي فإنها اضطربت حين رأته، وقالت: نعم، نعم، لا بد أن يكون هو القاتل.
وهنا ضاع رشاد جوهان؛ لأن غرابة اكتشاف الجريمة ضعضعت صوابه، بحيث لم يقو على الإنكار فقال: نعم، أنا هو القاتل ... إن بادي قد خاننا فانتقمت منه.
ثم قص على القاضي كل الجريمة بتفاصيلها، وكيف أنه خدعهم حتى اضطر إلى قتله، وكيف سار به إلى زقاق مقفر، وطعنه بخنجره ثم قضى عليه خنقا.
وكان قد تحمس لذكر الانتقام، فأراد أن يزيد الجريمة إثباتا فجرد خنجره، وهو لا يزال مصبوغا بدم بادي وألقاه على الأرض أمام القاضي، وهو يقول: هذا هو الخنجر الذي طعنته به فافعلوا بي ما تشاءون.
فأمر القاضي الجنود بالقبض عليه، والتفت إلى الأب صموئيل فقال: إن براءتك قد ظهرت يا سيدي، فأنت الآن حر.
فشكره وهم بالخروج، ولكنه قبل أن ينصرف رأى السير بترس توين قد دنا من القاضي وقال: إنك تتجاوز حد سلطتك يا حضرة القاضي.
فاندهش القاضي وقال: كيف ذاك؟ - لأن الأمر بالقبض على هذا الكاهن موقع عليه من دار العدلية، ولا يحق لك نقضه. - لقد أصبت، ولكنني أستطيع إطلاق سراحه بضمانة إلى أن يحاكم المجرم، وعندها يحضر إلى المحكمة ويثبت براءته، فإنها جلية واضحة كما رأيت، لا سيما وأن المجرم الحقيقي لا يعرفه كما هو ظاهر، وهذا ما يدل على أن المجرم المعترف لا شريك له بالجريمة.
وقال جوهان مؤيدا كلام القاضي: كلا، ليس لي شريك في الجريمة، ولا أعرف هذا الكاهن. - وأنا أيضا أؤيد ما قلته من وجوب إطلاق سراحه بضمانة مالية.
فدنا الأب صموئيل عند ذلك من القاضي، وقال: إني يا سيدي شديد الفقر لا أستطيع أن أدفع لك شيئا.
فكثر الهرج بين الناس لهذا القول، وعند ذلك خرج من بينهم عبد أسود أبيض الشعر، فدنا من القاضي وقال: إني يا سيدي مستعد لأن أدفع عن هذا المحترم أية ضمانة.
أما هذا العبد فقد كان لابسا خير الملابس، فحسبه الناس سفيرا لإحدى الجمهوريات الأميركية.
35
أما هذا العبد فلم يكن إلا شوكنج، فلنبسط للقراء الآن كيف وجد في منزل بادي مستعدا لدفع المال، عائدين إلى الوقت الذي قبض فيه على الأب صموئيل، فهرب الرجل العبوس وشوكنج وذهب الاثنان إلى شارع ليستر، ثم عطفا منه على شارع جيرارد وهو شارع يقيم فيه كثير من الفرنسيين.
وكانت الساعة الخامسة صباحا، ولا يزال الناس نياما، فقال العبوس لشوكنج: هلم معي إلى هذا المنزل، فإنه أحد منازلي الكثيرة التي أخبرتك عنها.
ثم أخذ مفتاحا من جيبه، ففتح باب منزل في الشارع ودخل يتبعه شوكنج، وصعدا إلى الدور الثالث.
ووقف عند باب مكتوب عليه هذه الكتابة «ساجون فرنز مصور شمسي» وقرع الباب.
وبعد هنيهة سمع صوت من الداخل يقول: من القادم؟
فأجابه الرجل العبوس من الخارج: إن أشعة الشمس خير مساعد للمصورين.
وكانت هذه الكلمة رمزا اصطلاحيا بين الأرلنديين دون شك، فإن الباب فتح في الحال وظهر منه رجل في مقتبل الشباب، وعيناه تدلان على أن النعاس لا يزال متمكنا فيه.
فقال له العبوس باللغة الفرنسية: إني لم أزرك منذ عهد بعيد، وقد زرتك اليوم مبكرا.
ففرك المصور عينيه، وقال: كل التبكير، كم الساعة الآن؟ - الساعة الخامسة. - إنك خير قادم في أية ساعة أتيت، ولا سيما في هذه الأيام. - ألعلك تريد أن تقول إن المال قليل لديك؟ - بل غير موجود. - لا بأس، فخذ الآن هذه الجنيهات العشرة، فيسر بها أمرك، وإني أطلب منك أن تعيرني آلة التصوير التي عندك لبضع ساعات. - أتصور بها قبل أن تشرق الشمس؟ - كلا ، فإني محتاج إليها في الساعة العاشرة. - أين تريد أن أرسلها؟ - إلى خمارة شونت في شارع سوتوارك. - إذن أذهب بها بنفسي. - لا حاجة إلى أن تحضر أنت، فأرسل بها اثنين من عمالك، والآن عد إلى فراشك فإني منصرف.
ثم تركه وخرج مع شوكنج، فاستوقف مركبة وأمر سائقها أن يذهب بهما إلى همبستاد.
فتنهد شوكنج وذكر تلك الليلة التي جعله فيها العبوس لوردا عظيما، فمرت مرور الأحلام.
وأدرك العبوس سر تنهده، وقال مبتسما: سأرد لك مجدك السابق، وأجعلك أعظم من اللورد.
وما زالت المركبة سائرة بهما حتى وقفت عند منزل في همبستاد، فدخلا إليه وخلا الرجل العبوس بشوكنج في غرفة فخمة، وقال له: أتعلم ما أنا صانع بك الآن؟ - كلا، ولكني لا أبالي فقد تعودت عجائبك. - إني أريد أن أجعلك عبدا أسود، وأصبغ وجهك ويديك وكل ما يظهر للعيون من جلدك بلون الأبنوس.
فصرخ شوكنج قائلا: أأنا أكون من العبيد؟
فلم يحفل به وقام إلى خزانة، فأخرج منها بضعة وسامات تبهر الأنظار، وقال: سأضع فوق صدرك أيضا هذه النياشين.
فخف وقر السواد على شوكنج، وجعل ينظر إلى هذه النياشين نظرة المتعجب.
فقال العبوس: ولكن أتعلم ماذا يكون اسمك؟ - كلا، ولكني أريد اسما ينطبق على هذه الوسامات الكثيرة. - بل هو أعظم منها، فإنك تدعى «دون كريستوفور إيمتدز إيكوردوفا إبسنتافيا إيبوغوتا».
فضحك شوكنج وقال: ما هذا الاسم الطويل، أيمكن أن يكون من أسماء البشر؟ - إنه اسم رجل من نبلاء أهل البرازيل، وأنت الآن من كبار موظفي حكومة الأرجنتين، فاحفظ اسمك واحذر أن تنساه.
فجعل شوكنج يكرر هذا الاسم الغريب، وخرج الرجل العبوس هنيهة، ثم عاد بإناء فيه صباغ أسود وإسفنجة، وصبغ بها وجه شوكنج ويديه وعنقه، وألبسه ملابس البرازيليين، وزين صدره بتلك الوسامات اللامعة.
فأخذ ينظر إلى المرآة معجبا بشكله، وقد تعزى بلقبه الجديد عن لقب اللوردية القديم.
أما العبوس فإنه تركه أمام مرآته وذهب إلى الخزانة، فأخذ منها محفظة تكدست فيها الأوراق المالية ودفعها إليه.
فبهت وقال له: ما هذا؟ - هي أوراق مالية ، تبلغ قيمتها ألفي جنيه ، أريد أن تضعها في جيبك. - لأية غاية؟ - سأخبرك بغايتي، فاجلس الآن وأصغ إلي.
فجلس ممتثلا، ولكنه احتال كي يكون مجلسه أمام المرآة، فلا يحرم التطلع إلى تلك النياشين التي يزدان بها صدره.
36
فلم يتمالك العبوس عن الضحك لما رآه من غرور شوكنج وخيلائه، فقال له: لا بد أن تكون علمت يقينا أني لم ألبسك هذه النياشين، ولم أمنحك اللقب الرنان كي تعجب بمشاهدتها في مرآتك.
فخجل وقال: دون شك، وأنا أنتظر أوامرك. - لقد قلت لك إني سأكتشف قاتل بادي، ولكن تذكر ما قلته لك منذ ساعتين، وهو أنهم إذا قبضوا على الأب صموئيل، فإنهم قد يبقونه في الحبس، ولو تأكدوا من براءته، وقد رأيت كيف أنه لم يكترث للأخطار، وخاطر بما نبهته منه في سبيل الواجب، فسقط في الفخ الذي نصب له؛ ولذلك فقد وجب علينا إنقاذه. - وهو ما أرجوه، وفي اعتقادي أنك قادر على كل شيء. - إذن، خذ هذه المحفظة المالية واتبعني، فقد يتفق أنهم يبرئون ساحة الكاهن في الموضع الذي نحن ذاهبون إليه، غير أنه قد يصعب إيجاد المجرم في الحال؛ ولذلك إما يرجعونه إلى الحبس، وإما يطلقون سراحه وقتيا بضمانة.
وهنا يبدأ دورك؛ لأن الكاهن لا يستطيع دفع الضمانة، فمتى سمعته يتكلم عن الضمانة تلبث صامتا مختلطا بالجمع دون أن تفوه بكلمة إلى أن يتكلم الكاهن، ويظهر عجزه عن دفع الضمانة. - وعند ذلك أدفع المال؟ - دون شك، وسأخبرك في المركبة كيف تتصرف لضيق المقام الآن، فهلم بنا.
ثم خرج العبوس وشوكنج إلى المركبة التي كانت تنتظرهما، فسارت بهما إلى الخمارة التي كان ينتظر فيها آلة التصوير، فأخذها وسار بها مع شوكنج إلى منزل بادي.
وقد عرف القراء كيف أن شوكنج دنا من القاضي، وعرض عليه دفع الضمانة عن الكاهن، وكيف أن الناس قد انذهلوا من منظر هذا العبد، وعجبوا لما أبداه من المروءة.
أما القاضي فإنه تفحصه بنظره، وقال: من أنت؟
فأجابه: إني أدعى كريستوفور إيكوذوفا ذيمندس إبسنتافيا إيبوغوتا.
وقد قال ذلك بلهجة إسبانية على ريق لم يبلعه، ونفس لم يقطعه، ثم ظهرت عليه علائم كأنه يعتز بهذا النسب الطويل، وقال: إني كاثوليكي المذهب، وإن ديني يقضي علي أن أساعد الكاهن الكاثوليكي، وأفرج كربته.
ثم أخذ من جيبه محفظة الأوراق المالية، وأفرغ ما فيها أمام القاضي دون اكتراث، وهو يقول: قل يا سيدي مقدار الضمانة التي تريدها. - ألفا جنيه. - هي أمامك فخذها.
فاصفر وجه السير بترس توين، ونظر القاضي إلى الأب صموئيل، وقال: إنك يا حضرة الكاهن مطلق السراح، بشرط أن تحضر إلى المحكمة يوم محاكمة هذا المجرم.
فشكره الأب صموئيل، وخرج من بين الجمهور، وكان الناس يحنون له الرءوس احتراما.
أما العبوس فإنه كان قد دنا في ذلك الحين من مس ألن، فنظر إليها تلك النظرة الجاذبة، وقال لها: إنك عرفتني أليس كذلك؟
فأجابته بصوت مضطرب: نعم. - ولماذا لم تسلميني إلى البوليس؟
فارتعشت الفتاة وقالت له: اخرج معي أخبرك عن السبب.
وعند ذلك أمر القاضي بفض الجلسة، فشكره العبوس لخدمته الجليلة، وبرح المنزل.
فخرج الناس، وكان أول المنصرفين الرجل العبوس، فتبعته مس ألن على الأثر وتأبطت ذراعه دون كلفة، حتى لقد توهم الناس أنها من أهله، وأنها جاءت معه.
فلما ابتعدا قليلا من المنزل قال لها: إني معجب لأمرك، فإن كلمة واحدة منك كانت كافية لزجي في الحبس. - ولكني لم أقل هذه الكلمة. - لماذا؟ - هذا سري. - ولكني عرفت هذا السر. - ما هو؟ - هو أن ساعة حبك قد دنت.
فنزعت يدها منه، وقالت له: لقد تسرعت بالحكم علي.
فأجابها ضاحكا ضحك الواثق المطمئن.
وذهب هو مواصلا سيره، وبقيت هي واقفة تنظر إليه إلى أن توارى عن أنظارها، فعضت شفتها من الغيظ، وقالت: نعم، نعم، لقد دنت الساعة، ولكنها ليست الساعة التي أتدانى فيها إلى حبك، بل الساعة التي أسحقك فيها تحت قدمي سحق الزجاج.
وهنا ذكرت السير بترس توين، فرأت أن تعود إليه.
37
وعادت لفورها إلى منزل بادي، فوجدت الناس يتفرقون، والبوليس قبض على جوهان، وساروا به إلى الحبس، ولم يبق هناك أثر يدل على الجريمة.
وقد ذهب الناس وكلهم راضون عن حكم القاضي وإطلاق سراح الكاهن، ما خلا السير بترس توين، فإنه كان لا يزال واقفا في الزقاق يسير ذهابا وإيابا، وهو يرغي ويزبد من الغيظ ويقول في نفسه: لقد أساء إلي هذا القاضي إساءة لا تغتفر، وسيكون لي معه شأن، فإني أخبرته همسا من أنا وقلت له أن ناظر العدلية يريد أن يبقى الأب صموئيل في الحبس، ولكنه تظاهر أنه لم يفهم ما قلته ولا بد لي من عزله.
وفيما هو يناجي نفسه في هذه الشرور، ويمهد سبل الانتقام من القاضي النزيه، شعر بيد وضعت على كتفه، فالتفت فرأى مس ألن، فقال لها: أين كنت، فإني بحثت عنك كثيرا؟ - إني رافقت الطبيب الألماني إلى آخر الزقاق لشدة إعجابي بما فعله.
فقال لها متهكما: ألعلك استحسنت عمله؟ - دون شك، فإن اكتشافه لم يسبقه إليه أحد.
فعاد إلى تهكمه، وقال: إذن لماذا لا توصي أباك اللورد ليعرض مكافآته على البرلمان.
فابتسمت مس ألن وقالت: الحق إنه كان يستحق المكافأة، فإنه كان السبب في إطلاق سراح كاهن أرلندي. - وهذا العبد الذي تبرع بتقديم الضمانة؟
فابتسمت ابتساما مما يدل أنها تعرفه أيضا.
فغضب السير، وقال: أرى أنك كنت تعرفين هذا الطبيب من قبل، فصحبته حين خروجه. - دون شك، فإني أعرفه وأعرف العبد أيضا، فإنه شريكه.
فاشتد غضبه حتى كاد يتميز من الغيظ، وقال: إن هؤلاء الأشرار قد اتفقوا على إنقاذ الكاهن.
فابتسمت مس ألن وقالت: إني أريد أن أخبرك بأمور خطيرة، ولكن يجب من أجل ذلك أن تكون رابط الجأش، وقبل كل شيء أن تبرح هذا الزقاق، فقد استلفت وقوفنا فيه أنظار الناس. - إلى أين تريدين أن نذهب؟ - نركب مركبة ونذهب بها إلى منزلك. - ليكن ما تريدين، فلنذهب.
ولما سارت بهما المركبة قالت له المس ألن: لقد قلت لك إني أعرف الطبيب والعبد، والآن أقول إنهما والأب صموئيل من الأرلنديين المعادين للإنكليز. - إن الأب صموئيل مشهور أمره، فهل الطبيب والعبد من جمعيته السرية؟ - إني لا أؤكد ذلك كل التأكيد ، ولكني رأيت حين التحقيق أن الطبيب قد تبادل مع العبد نظرة سرية، فأيقنت أنهما شريكان. - ولكن من هو هذا الطبيب الألماني؟ - إن هذا الرجل ليس ألمانيا، ولا طبيبا، ولا أظنه إنكليزيا أيضا، بل ربما كان من الفرنسيين، ولكني لا برهان لي على ذلك. - كيف ذلك؟ ألم تقولي إنك تعرفينه؟ - دون شك، ولكني أعجب بك كيف لم تدرك هذا السر على ما عرفت به من الحذق والذكاء، فإن هذا الرجل الذي يتلبس كل يوم بألف وجه، ويتخلق بألف خلق، وعجز بوليس لندرا عن القبض عليه، إن هذا الطبيب الألماني يا سيدي هو الرجل العبوس.
فاختبل السير توين وقال لها: ماذا تقولين؟ أهذا هو الرجل العبوس؟ - هو بعينه. - وقد عرفتيه حين انعقاد الجلسة. - بل عرفته حين دخل.
فضحك ضحكا عصبيا وقال: لا شك أنك مجنونة يا مس ألن. - لماذا؟ - لأنك كنت تستطيعين إيقافه بكلمة واحدة تقولينها للقاضي.
فقالت له ببرود: هو الحق ما تقول، ولكن لم أكن أريد أن يقبض عليه في ذلك الوقت.
وكانت المركبة قد وصلت إلى منزل السير بترس توين، فلم ينتبه إلى وقوفها لفرط اضطرابه، فنزلت مس ألن وقالت له: هلم معي الآن، فسأوضح لك كل شيء في غرفتك.
ثم دخلا إلى المنزل.
38
وكان في غرفة السير بترس توين قسيس شاب ينتظر عودة رئيسه، فلما رآه داخلا مع مس ألن حاول الخروج، فاستوقفته الفتاة وقالت: إنك تستطيع البقاء معنا، فإني أعلم أنك مساعد رئيسك الأيمن، فلا أخشى أن أتكلم أمامك.
وكانت هيئة بترس توين قد خرجت عن حد الإنسانية لفرط غضبه واضطرابه؛ فقد احمر وجهه حتى كاد الدم يخرج منه، وظهر الزبد على شفتيه كالجمال الهائجة، واحمرت حدقتاه حتى بات كالحيوان المفترس بعد معركة، خلافا لمس ألن فإنها كانت ساكنة هادئة مبتسمة، فتطلعت إلى ذلك الزعيم الهائج وقالت: اجلس يا سيدي، وأصغ لما أقول.
فامتثل وهو لا يعي، وبدأت الفتاة حديثها وقالت: أتذكر يا سيدي حين زرتك أول مرة ماذا قلت لك؟ قلت لك يوجد رجل أكرهه كرها لا تصفه الأقلام لأنه قد أهانني، أتريد أن تشترك معي بالانتقام منه، فأجبتني بالرضى، أليس كذلك يا سيدي؟ - دون شك. - إذن فاعلم أني إذا كنت لم أقبض على هذا الرجل اليوم، وإذا كنت قد خرجت معه دون كلفة، فما ذلك إلا لأن ثمرة انتقامي لم تنضج بعد، وإنه لدينا مهمة خطيرة يجب علينا أن نهتم بها قبل القبض على هذا الرجل. - إني لا أفهم ما تقولين. - إني موضحة لك الأمر، فأصغ إلي؛ إنك تعلم أن للأرلنديين زعيما أكبر وهو غلام لا يتجاوز عمره عشرة أعوام، وأن الأرلنديين بجملتهم ينتظرون بفارغ الصبر أن يبلغ أشده كي ينضموا تحت لوائه.
وقد كنا استولينا على ذاك الغلام أنا وأبي، ووضعناه في منزلنا، ولكنهم اختطفوه منا. - وهل فقدتم أثره؟ - كلا، فإني أعلم أين هو الآن، فإنهم قد خطفوه أيضا من حبس الطاحونة، وكان خاطفه الرجل العبوس. - إني أعلم تلك التفاصيل، ولكني لا أعلم ما حدث بعد ذلك للغلام. - إنهم أدخلوه مدرسة أبناء المسيح.
فاضطرب وقال: إن ذاك محال. - قد يكون مستحيلا، ولكني واثقة من صحته، وأنا أجهل كيف أدخلوه إلى تلك المدرسة، ولكنه مقيم فيها وهو بحماية اللورد المحافظ، كما أن المدرسة لا تسري عليها القوانين. - إذن لا بد أن يكون قد انتحلوا له اسما آخر، ولا بد لنا من إظهار اسمه الأصلي.
فابتسمت مس ألن وقالت: أرأيت كيف يجب أن نضع العبوس في المقام الثاني، فإنك تعلم ضرورة القبض على الغلام. - دون شك. - هذه هي المرة الخطيرة التي يجب أن تفرغ جهدك في إتمامها. - ولكنها مهمة صعبة، فإن هذه المدرسة لا تسري عليها القوانين، ولا يؤثر فيها النظام. - ولكن الحيلة أبلغ من النفوذ في قضاء الحاجات، وإن لنا مساعدا عظيما يدعونه مسز فانوش، وهي التي حبس عندها الغلام أول مرة وسأجد تلك المرأة.
ثم نهضت تهم بالذهاب، فقال لها السير بترس توين: أراك ذاهبة يا سيدتي، ألعلك نسيت ما وعدتني به من الإيضاح. - لقد أصبت، فإنك تريد أن تعرف كيف أني اكتشفت أمر الرجل العبوس، فاعلم أن هذا الرجل قد خطر له خاطر غريب، جعله نصب عينيه، وهو أن كرهي له سيستحيل إلى حب.
ثم قالت وقد ابتسمت ابتسامة هائلة: وأنا أيضا قد خطر لي نفس ما خطر له. - كيف ذلك؟ ألعلك تريدين أن تحمليه على حبك؟ وما هو قصدك؟ - نعم، إني أريد أن يهواني، وعند ذلك يبدأ انتقامي، إنك قد لا تفهم كلامي، ولكن لا بأس، فستصلك أخباري غدا، والآن أستودعك الله.
ثم تركته وانصرفت، فلبث الكاهنان ساكتين إلى أن سمعا إقفال الباب الخارجي من ورائها.
ثم قال السير بترس توين للكاهن الشاب: لقد بدأت أخاف من هذه الفتاة، إذ لا بد لها أن تخوننا.
فدهش الفتى وقال: لماذا؟ - إذ لا يوجد بين البغض والحب غير خطوة، ولكني سأراقبها فلا يفوز علينا هؤلاء الأرلنديون.
39
يوجد في لندرا مكان أطلق عليه اسم جهنم، تديره امرأة تدعى مسز بيرتون.
وليس في هذا المحل ما ينطبق على مسماه من نار حرها لا يطفأ، وأبالسة سلاحهم الفئوس، بل إن فيه ما ينطبق على معنى هذا المسمى كما ستراه.
إن الداخل إلى هذا المحل يجد على يساره محلا لبيع التبغ، وعلى يمينه فندقا فرنسيا يتولى إدارته الألمان.
وكانت صاحبة محل التبغ امرأة لا هي عجوز ولا فتاة، لا هي قبيحة ولا حسناء، وكانت تتقن اللغة الفرنسية، ولمحلها كثير من الزبائن.
ولم يكن يظهر في هذا المحل الملقب بجهنم نور ولا نار، ولا يسمع له حس من الخارج، في حين أن بابه كان يفتح ويغلق كل حين.
وكانت المركبات تصل إليه وتقف، فيخرج منها تارة رجل نبيل، وتارة امرأة متأنقة، فيفتح الباب لهؤلاء الزائرين ثم يقفل، فتعود المركبات مسرعة من حيث أتت.
وحيث لو كان الدخول إلى هذا الجحيم ممنوعا لما تمكن البوليس من رؤية الداخلين لإسراعهم في الدخول، على أن مسز بيرتون كانت تدفع رسما فلا يعارضها البوليس.
ففي الليلة التي نقص فيها هذا الحديث، كان رجلان عليهما مظاهر النبل يسيران مشيا على الأقدام إلى هذا المنزل السري.
وكانت الساعة الأولى بعد نصف الليل، فتنهد أحدهما وقال لرفيقه: إن لندرا قد تغيرت تغيرا عظيما منذ سبعة أعوام.
فأجابه رفيقه: هو ما تقول، ولكنها على تغيرها لا تزال عاصمة العالم، ولا يزال الذهب الحاكم المطلق فيها، وهو رسول إلى الملذات. - إني كنت أتوقع منك هذا الجواب أيها البارون، فإني حين برحت إنكلترا إلى الهند كان لي ما لك من العمر، ولكن قلبي لم يكن يتسع إلا لغرامي السري. - إني أعلم غرامك القديم بالمس إميلي، ولكني علمت أن هذا الغرام أسفر عن الزواج، وأنك من أسعد الأزواج.
فتنهد الرجل وقال: وا أسفاه!
إن هذا الرجل كان الماجور واترلي، وهو الرجل الذي دفع ولده إلى مسز فانوش، كما تقدم في الجزء السابق، وقد أوهموه أن ابن أرلندا ولده، ووافق على إدخاله بمدرسة أبناء المسيح، على أن يكون وريثا للورد ويلموت أي شوكنج.
فأجابه رفيقه: إني أعجب لتنهدك حين ذكر سعادتك، وهل يتنهد السعداء؟ - نعم أيها البارون، متى كانت سعادتهم لم تتم. - ألعلك سلوت مس إميلي؟ - بل لا أزال أعبدها. - إذن ماذا ينقصك بعد ذلك؟ - إني ولعت بعادة صعبة المراس حين كنت في الهند، ومن أجل هذا رجوتك أن تعرفني بالمسز بيرتون. - ولكني ما فهمت شيئا بعد مما تعنيه. - إذن فاعلم أني مولع بشرب الأفيون، ولا يوجد في جميع لندرا محل صالح لدخول الأشراف إليه، فإن جميع المحلات التي يشربون فيها الأفيون يكثر تردد العامة إليها، ولا يليق بأمثالنا انتيابها.
فابتسم رفيقه، وكان يدعى البارون متشل، وقال: إذن اطمئن. - أيشربون الأفيون عند مسز بيرتون؟ - نعم، ولكنهم يتعاطونه بالسر، ولا يقبلون في هذا المكان إلا من كان مشهودا له بالظرف والرزانة والكتمان، وموصى به خير توصية. - أتظن أن مسز بيرتون تقبلني في عداد زبائنها؟ - دون شك ما زلت أنا الموصي بك، فإنها لا ترفض لي طلبا، ولكن محل شرب الأفيون منفصل في ذلك المكان عن محل اللعب، وأنا أدخلك إليه بشرط أن لا تحكم علي بمرافقتك. - ليكن ما تريد.
وعندها وصلا إلى باب جهنم، فطرق البارون متشل الباب، ففتح على الفور ودخل الاثنان.
40
وقد دخل الاثنان فأقفل الباب وراءهما، ومشيا في رواق يكاد يكون مظلما لضعف النور فيه؛ إذ لم يكن فيه غير مصباح صغير معلق في قبة الرواق.
فدهش الماجور وقال: إذا كان مدخل هذا المكان دليلا عليه، فقد أخطأنا في المجيء إليه. - سوف ترى.
ثم سارا في ذلك الرواق حتى انتهيا إلى آخر، فوجدا بابا مقفلا فطرقه البارون متشل طرقتين خفيفتين، وصبر هنيهة فطرقه طرقة ثالثة قوية، كأنما هذا النوع من الطرق مصطلح عليه.
ففتح الباب ودخل الزائران إلى قاعة فسيحة كثرت فيها الأنوار، ولكن لم يكن فيها شيء من أدوات الزينة والبهرجة.
وكان يوجد فيها مستوقد ومحل الشاي، وفي وسط القاعة طاولة بسيطة كانت جالسة أمامها امرأة بيضاء الشعر، وعليها كثير من الحلى وفي أصابعها كثير من الخواتم الثمينة.
على أنها على بياض شعرها كانت حادة البصر، وعليها مسحة من جمال قديم.
فحياها البارون متشل تحية تدل على الصداقة، فردت تحيته بمثلها ونظرت إلى الماجور واترلي، فأخذ البارون بيده ودنا منا، وقال: أقدم لك يا سيدتي الماجور واترلي، فإنه من النبلاء وهو خير أصدقائي.
فانحنت العجوز أمامهما، وقالت لهما: لا مانع من دخولكما يا ولدي، فادخلا.
فاندهش الماجور واترلي من قولها؛ لأنه لم يجد في تلك القاعة غير الباب الذي دخل منه.
ولكن متشل أخذ بيده وسار به إلى الجدار، فأدار لولبا ففتح باب على الفور ودخل منه الزائران.
وقد رأى الماجور أنه بات في رواق آخر يشبه الرواق الأول، ولكنه أعرض من الأول وأكثر نورا، ورأى في الأرض بسطا ممددة، وعلى الجدران رسوما تمثل الطيور والأزهار.
وكان كلما سار خطوة يجد مصابيح متلألئة، موضوعة فوق أعمدة من الرخام.
فلم يسيرا بضع خطوات حتى سمعا أصوات من الداخل، فقال متشل: إنهم يرقصون، ولا شك أن المدموازيل أولمب تعزف على البيانو. - من هي المدموازيل أولمب؟ - إنها فتاة فرنسية بارعة الجمال، جاءت إلى لندرا فلقيت نجاحا باهرا ، وهي تتردد دائما على محل مسز بيرتون.
فقاطعه الماجور قائلا: إني أيها الصديق جندي قدمت حديثا من الهند، فلا أعلم عوائد النبلاء ومصطلحاتهم، فهل تأذن لي أن ألقي عليك سؤالا؟ - اسأل ما تشاء أيها الصديق. - إننا دخلنا إلى منزل يقامرون فيه ويرقصون ويشربون الأفيون، فإذا كان ذلك كما رأيت، فلماذا جعلوا له هذا المدخل؟ ولماذا هذا التكتم والتحفظ؟ ألعله من البيوت الممنوع الدخول إليها؟ - كلا. - إذن ما هذه الألغاز؟ - يدهشني منك أيها الصديق أنك تتكلم ببساطة أولئك الأقوام الذين يعيشون تحت سماء خط الاستواء، فإنك تجهل الشرائع الإنكليزية على كونك من الإنكليز.
ألا تعلم أن شرائعنا تبيح لكل إنسان أن يفعل كل ما يشاء، على أن لا يضر سواه.
وهذا منزل مسز بيرتون معد للقمار والرقص والسكر بالأفيون كل الليل، فلو كان على قارعة الطريق وكانت نوافذه مشرفة على الشارع، ألا يؤذي ضجيج الرقص وعربدة السكارى من يجاور هذا المنزل من الناس ويؤرقهم عند نومهم؟ - لقد علمت الآن، ولكن هذه المرأة التي استقبلتنا في القاعة، أهي مسز بيرتون أم هي جدتها أم أمها؟ - لا هذا ولا ذاك، بل هي مراقبة المنزل، فلا يدخل أحد إليه إلا إذا عرفته، ولا يمكن أن يدخله أحد إلا إذا كان من الأشراف، والآن سيخبرونها بقدومنا وسأقدمك لصاحبة المنزل.
وكانا قد وصلا عند ذلك إلى آخر الرواق، فوجدا حارسين لابسين ملابس حريرية مزركشة بخطوط الذهب، وفتح أحدهما مصراعي الباب، فانفتح عن قاعة عظيمة كان فيها كثير من الأعيان، وكثيرات من الحسان، وحفلة الرقص دائرة.
ودخل الزائران وقال البارون لرفيقه الماجور: اصبر إلى أن ينتهي الرقص فأقدمك لصاحبة المنزل.
41
ثم انتهى الرقص، وذهب الرجال بالنساء إلى مجالسهن، فأخذ البارون متشل بيد الماجور واترلي وذهب به إلى امرأة بين العمرين، ولكنها أقرب إلى الكهولة، وهي متأنقة وفي عنقها عقد من اللؤلؤ الثمين.
وكانت على كهولتها لا تزال حسناء، وهي المسز بيرتون صاحبة المنزل.
فدنا منها البارون متشل فلثم يدها، وقدم لها صديقه الماجور، فصافحته بيدها وقالت: إن هذا المنزل منزلك منذ الليلة يا سيدي.
وجرت بينهما المجاملات المألوفة ثم افترقا، فذهبت إلى باب المنزل لاستقبال زائر جديد، وبقي الماجور مع رفيقه البارون، وقال له البارون: أرأيت كيف أن هذا المنزل يشبه منازل النبلاء في كل شيء؟ - هو ما تقول، ولكني لم أعلم إلى الآن أين يشربون الأفيون فيه؟
فابتسم البارون وقال: إنك كثير التسرع أيها الصديق، وما بعد العجلة إلا الندامة.
فانقطع الماجور عن سؤاله، وهو يجيل نظرا حائرا بين الراقصين والراقصات، فلا يقع بصره إلا على فتاة حسناء وفتى نبيل.
ثم قال له البارون: هلم بنا الآن إلى قاعة المقامرة.
فامتثل الماجور منقادا له انقياد الأعمى، وذهبا إلى منضدة كان عليها بعض اللاعبين، وبينهم أحد النبلاء ويدعى السير روبرت هاتون، فعرفه البارون بالماجور، وابتسم ابتسامة معنوية.
وأدرك السير روبرت معنى ابتسامته، وقال للماجور: يبدو يا سيدي أنك مثلنا من شراب الأفيون، فصبرا إننا ذاهبون إلى قاعة التدخين متى دنت الساعة.
فدهش الماجور وقال: ألعل الأفيون له ساعة معينة؟ - نعم، وهي الساعة الرابعة بعد نصف الليل، أي حين ينصرف اللاعبون والراقصون ولا يبقى في تلك القاعات غير أولئك الأذكياء، الذين يؤثرون ملاذ الروح على ملاذ الجسد.
فصادق البارون متشل على هذا القول من قبيل المجاملة، وشكر السير روبرت ضاحكا، فأجابه السير معتذرا وقال: لقد نسيت أنك لا تشرب الأفيون، على إني لا أزال أنتقد عليك أنك تجهل ملذات شربه التي لا حد لها.
هز البارون كتفيه دون أن يجيب.
غير أن السير روبرت أبى إلا أن ينتصر للأفيون وأحزابه، فقال: إنكم أيها المجانين لا تكرهون الأفيون إلا لجهلكم ملاذه، على أنكم لو اندمجتم في سلك شرابه لعلمتم أنكم في ضلال، وإني أقول لك ذلك بشكل خاص، إنك من أهل الخيال، ولا أرى إلا أن تصحبنا ليلة فتصبح بعدها من أشد أنصارنا. - أما أن تكون هذه الملذة الروحية على ما وصفته لي، فإن ذلك من الممكنات، وأما أن تغويني على الاقتداء بك فلا، ولكني أرجوك أن تصف لي القاعة التي تدخنون فيها . - هي قاعة صغيرة غطيت جدرانها بالأقمشة الشرقية، ويوجد فيها مقعد طويل يمتد من أول القاعة إلى آخرها، فيتربع فوقه المدخنون وفي يد كل منهم غليون يضع فيه التبغ وحبة من الأفيون، فيولعه ويدخن.
حتى إذا انتهى من تدخين الحبة الأولى امحت مظاهر تلك القاعة كلها وزالت جدرانها، وانكشفت لعينيه السماء الزرقاء، وتألقت منها الشمس الساطعة، وبرزت الجواري الحسان ففتنت عقله بابتسامتها.
فضحك البارون متشل وقال: أهذا الذي تدعوه ملذة لا حد لها؟ إني أؤثر ألف مرة أن ألثم أنامل مدموازيل أولمب، تلك الفتاة الحسناء الجالسة هناك قرب المستوقد، على تلك الملذة الروحية التي لا حد لها كما تقول، وأؤثر ابتسامتها الحلوة الصحيحة على ابتسامة الحورية الوهمية التي يمثلها لكم الأفيون، فينتهي بكم إلى الخمول.
نظر السير روبرت إلى الماجور واترلي، وقال له وهو يبتسم ابتسام المشفق عليه لهذا الاعتقاد: لا سبيل إلى جداله. - دون شك ولا سبيل إلى مجادلته في الأفيون، إنه لن يدرك شيئا من أسراره إلا بالسماع.
فقال البارون متشل: قد تكون مصيبا، إن الجدال في هذا الشأن محال، ولكن عاقبة الحشيش والأفيون لا يجهلها أحد، وكفى بذلك برهانا أن أوله خوف وآخره ضعف.
فتنهد الماجور وقال: هي الحقيقة بعينها، ولكن بينهما ساعة لا تباع بالملك. وقد ظهرت عليه علائم الشوق الشديد، فقال للسير روبرت: ألم يحن بعد الزمن؟
فضحك السير روبرت وقال: لا يزال أمامنا ساعة، وسأعرفك الآن بهذه الفتاة الآشورية.
أجابه الماجور دون اكتراث: من هي هذه الفتاة؟ - إنها فتاة حسناء يكسف أشعة حسنها جمال الحوريات التي يمثلها لكم الأفيون.
تبودلت بين السير روبرت والماجور نظرة إشفاق على البارون متشل، وقال له البارون: احكم علي بما تشاء على أن تأذن لي بأن أعرفك بالآشورية، فقد وعدتها بذلك فأوشكت أن تجن من سرورها، لا سيما حين علمت أنك قادم من الهند. - سأمتثل لك فيما تريد، ولكنك تعلم أني أعبد امرأتي عبادة، لا يؤثر علي جمال النساء. - سوف ترى، فيا طالما قال الأزواج قبلك هذه الأقوال.
وبعد أن انتهى من اللعب ذهب البارون متشل بالماجور واترلي إلى قاعة كان فيها كثير من النساء، وهناك فتاة طلعت بينهن مطلع القمر بين النجوم، وهي بسامة الثغر، سوداء الشعر، براقة العينين، فلم يكد يراها الماجور حتى ارتعش، ونسي أنه قادم إلى منزل مسز بيرتون لشرب الأفيون.
42
كان لهذه الفتاة التي يلقبونها بالآشورية اسم آخر دون شك، ولكن هذا اللقب تغلب على اسمها حين قدمت إلى لندرا ونالت فيها شهرتها البعيدة.
وكانت بارعة في جمالها، وقد اشتهرت أيضا في باريس وفينا وفلورنسا، إلا أن شهرتها في لندرا كانت أعظم؛ إذ راقت في عيون الإنكليز لسواد شعرها، وندور سواد الشعر بين الإيكوسيات، والأرلنديات.
ولم يكن أحد يعلم من أين أتت، بل لا أحد يعلم حقيقة أصلها، فإنها كانت تتكلم أكثر اللغات الشائعة كأبنائها، وقد عثرت بها مسز بيرتون، فجعلتها زينة منزلها، وازدحم الناس في ذاك المنزل بعد قدومها، وكان ذلك منذ شهرين.
ثم امتدت شهرتها وانتشرت في جميع لندرا، لا سيما بعد تزاحم العشاق عليها واقتتالهم في سبيل هواها، فقد حدثوا عنها أن اللورد ه. هام في هواها وهو في مقتبل الشباب، ولما لم يرق في عينها انتحر عند باب منزلها، ورووا كثيرا من هذه الحوادث المفجعة حدثت في سبيل هواها، فكانت من أدعى أسباب شهرتها.
أما الماجور واترلي الذي كان يدعي أنه يعبد امرأته، فإنه لم يكد يراها حتى اختلج وارتعش، وأحس أن لهذه الحسناء سلطانا خفيا عليه.
أما الفتاة فإنها أشارت إلى كرسي بقربها، وسألته أن يجلس بجانبها، فامتثل ونسي منذ تلك الساعة الغاية التي أتى من أجلها إلى منزل مسز بيرتون، وهي شرب الأفيون؛ ذلك أنه لقي من سكر عينيها ما لا يذكر معه سكر الأفيون بشيء.
وأما البارون متشل الذي كان واسطة التعارف بين صديقه الماجور وبين الآشورية، فإنه بعد أن قضى هذه المهمة ترك صديقه وشأنه، وجال في القاعة بين الحاضرين باحثا كأنه يفتش على شخص واعده على الملتقى، فلم يجد ضالته وقال: أظن أن صديقي أرثير يهزأ بي.
ولكنه لم يتم جملته حتى فتح باب القاعة ودخل منه رجل في مقتبل الشباب، فأسرع إليه البارون متشل وقال: لقد طال انتظاري حتى كدت أقنط من حضورك.
وكان هذا الرجل نفس ذلك المركيز الشاب الذي تبع مس ألن في هايد بارك، حين كان رفاقه يتراهنون على الرجل العبوس، وقد حسبوه الكونت الروسي، فقال له المركيز: ها قد أتيت فماذا حدث؟
وقال له البارون: حدث كل ما أردته، فإن الماجور قد حضر. - أهو هنا؟ - نعم، وهو يحادث الآن الآشورية. - إذن إن الأمور سائرة على محور النجاح. - سيذهبون به قريبا إلى قاعة تدخين الأفيون إذا اقتضى الأمر، ولكني أظن أن عيني الآشورية تقضيان الحاجة، وتفعلان به أكثر من الأفيون، انظر إليه أيها الصديق تر أن روحه باتت بين شفتي هذه الفتانة.
ونظر المركيز إلى الماجور، ورأى أن الآشورية قد فتنته بدلالها، وأنه شاخص الطرف لا ينظر إلا جمالها، ولا يسمع غير أقوالها.
وهنا انقطع الصديقان هنيهة عن الحديث، ثم أخذ البارون متشل بيد الماجور وسار به إلى مكان خال من الناس في القاعة، وقال له: أتريد أن نتحدث قليلا أيها الصديق؟ - ليكن ما تريد. - لقد أدهشتني بأعمالك حتى بت في حاجة إلى طلب الإيضاح منك.
فابتسم المركيز، وقال: إني لا أنكر عليك انذهالك من إهمالي، فأنا نفسي مندهش منها أكثر منك. - إني لا أفهم شيئا مما تقوله إلا إذا كنت تريد الهزء بي. - معاذ الله أن أهزأ بأصدقائي. - إذن أوضح لي ما أسألك عنه. - سل ما تشاء. - اجتمعنا أول أمس في النادي فاقترحت علي أن ألاعبك بالورق، ووضعت شرطا غريبا في بابه، وهو أني إذا كنت أنا الرابح تدفع لي ألف جنيه، وإذا كنت أنت الرابح أصنع مدة ثلاثة أيام كل ما تطلبه إلي، على شرط أن لا تسألني إجراء ما يمس بالشرف.
واصبر فإني لم أنته بعد، فإنك حين غلبتني سألتني إذا كنت أعرف الماجور واترلي؟ فأجبتك بالإيجاب، وقلت لي إني أريد أن تدخله إلى منزل مسز بيرتون، ثم قلت لي يجب أن تعرفه بالآشورية وتسكره بغرامها، وإذا لم يؤثر عليه جمالها يجب أن يسكر بالأفيون. - نعم، فقد قلت لك كل هذا.
وقال البارون: وأنا قد فعلت كل ما طلبته إلي، وجئت به كي يشرب الأفيون، ففعلت به عينا الآشورية ما لا يفعله ذاك السم. - حسنا فعلت، لقد وفيت بعهودك. - نعم، ولكني أريد أن أعلم غايتك من سكر الماجور أو غرامه. - ليس لي غاية.
وأظهر البارون عجبه وقال: كيف يكون هذا ممكنا؟ - هي الحقيقة بعينها أيها الصديق، وأنا أمتثل لسواك كما أنت تمتثل لي. - ألعلك لعبت مثلي على مثل هذا الشرط وخسرت؟ - كلا، ولكني أنا أيضا قد فتنت بآشورية كما فتن الماجور، ولكن الآشورية التي فتنت بها لا تدخل إلى مثل هذه المنازل، وهي التي أمرتني لسبب لا أعلمه أن أجمع بين الآشورية والماجور واترلي. - أيمكن أن تذكر لي اسم الفتاة التي تهواها. - نعم، فإنها تدعى مس ألن بالمير.
ودهش البارون وقال: ما هذه الألغاز إني لا أفهم شيئا منها. - لا يروعك ذلك، فإني أنا أيضا لا أفهم شيئا منها.
وكان الناس قد بدءوا في ذاك الحين ينصرفون؛ لأن ساعة شرب الأفيون قد حانت.
43
في الليلة نفسها في الساعة الخامسة صباحا كانت مركبة واقفة في زاوية من شارع بالتين.
وكان وقوفها منذ ساعة كأنما السائق كان ينتظر خروج أسياده من أحد منازل الشارع، حتى كان يحسب الناظر أنها خالية لا أحد فيها، لو لم يكن يرتفع سجفها من حين إلى حين ويبرز منه رأس امرأة كانت تطل وتنظر نظر الفاحص.
وكانت واقفة قرب باب جهنم، أمام منزل مسز بيرتون، وكان باب المنزل يفتح كل ربع ساعة، ويخرج منه أحد الزائرين.
وكانت السيدة المقيمة في المركبة تراقب كل خارج من المنزل، حتى إذا رأته أرخت السجف، إلى أن خرج المركيز الذي تقدم لنا وصفه، وأبقت السجف مرفوعا حتى دنا منها فقالت له: ادخل.
ودخل المركيز إلى المركبة، وأقفل بابها ثم حيا تلك السيدة تحية الهائمين؛ لأنها كانت مس ألن.
وسارت بهما المركبة فسألته مس ألن: أخبرني الآن ماذا حدث؟ - حدث كل ما أردته، فإنه أشبه بالمجانين. - ألعله شرب الأفيون؟ - كلا، إذ لا حاجة إليه، ومع ذلك فإنه أتى خصيصا لشربه؛ لأن له به ولعا غريبا، كما يظهر، غير أن نظرات الآشورية أنسته الأفيون، حتى إنهم جاءوا يخبرونه بافتتاح قاعة التدخين لم يجبهم لانصرافه إلى الآشورية. - ألعله باق معها؟ - نعم، ولكنه سينصرف قريبا؛ لأن مسز بيرتون أرسلت أحد خدامها لإحضار مركبة لهما. انظري فهذه مركبة قد وقفت عند باب جهنم. - أتظنه يسير معها؟ - بل أؤكد، فإنه كان ينظر إليها نظرات المفتون.
وأمرت مس ألن سائقها أن يتقدم إلى باب جهنم، وأن يقف أمام المركبة المنتظرة، ثم قالت للمركيز: إني أريد أن أتحقق الأمر بنفسي.
وبعد هنيهة فتح باب جهنم الخارجي، ورأت مس ألن امرأة خرجت منه، وهي متشحة بشال من الكشمير فعلمت أنها الآشورية.
وكانت متوكئة على ذراع رجل رآه المركيز همسا لمس ألن: هذا هو الماجور واترلي.
ثم رأت مس ألن أن الآشورية صعدت إلى المركبة، وسمعتها تقول للماجور: اصعد بجانبي.
فصعد ممتثلا وسارت بهما المركبة.
وعند ذلك قالت مس ألن للمركيز: لقد اطمأن بالي الآن فأشكرك لإخلاصك.
وقال لها المركيز: أتعلمين يا سيدتي أني لم أفهم شيئا إلى الآن من كل ما يجري. - ذلك لأني لا أريد أن تفهم، أنسيت شروطنا يا حضرة المركيز، ألم تسألني أن أأذن لك بمرافقتي مرتين في الأسبوع في هايد بارك، واشترطت عليك أن تخدمني مقابل ذلك دون أن تحاول الاطلاع على أسراري، وقد وفيت بوعدي فوجب عليك أن تفي بوعدك. - وهذه الأسرار أتبقى غامضة علي إلى الأبد؟
وضحكت مس ألن قائلة: إني لا أقول هذا القول، فإذا كنت كتوما طائعا فقد أطلعك على بعض الأسرار، وإني مستعجلة فأستودعك الله. - كيف ذلك أتتركينني وحدي؟ - أتريد أن أوصلك إلى منزلك؟ - حبذا يا سيدتي.
وأمرت السائق أن يذهب إلى نمرة 24 في شارع بال مال، حتى إذا وصل بهما إلى ذلك المنزل لثم المركيز يدها، وقال لها: أين أنت ذاهبة الآن يا سيدتي؟ - هذا أيضا سر لا يجب أن تعلمه الآن.
وخرج المركيز من المركبة وهو يعجب لأمر هذه الفتاة، أما مس ألن فإنها أمرت السائق أن يسير بها إلى همبستاد نمرة 18.
فامتثل السائق، واتكأت مس ألن في مركبتها.
وبعد نصف ساعة وقفت المركبة عند باب منزل مسز فانوش، تلك المرأة التي اختطفت ابن أرلندا، والتي وجد اللورد بالمير في حديقتها مكبلا مكموما.
44
ولندخل الآن إلى منزل مسز فانوش التي عرف القراء أمرها مع ابن أرلندا، فنقول إنها رجعت عن مهنتها السابقة وهي تربية الأطفال، وتخلصت من تلك العجوز التي كانت تضرب الأطفال ذلك الضرب الموجع بعد أن خانتها كما تقدم.
ويذكر القراء ما حدث بينها وبين الرجل العبوس، فإنها بعد أن هرب رالف ابن أرلندا من منزلها في همبستاد عادت إلى لندرا، فرأت منزلها خاويا خاليا لا عجوز فيه ولا أطفال.
أما العجوز فقد كانت سافرت إلى حيث أرسلها اللورد بالمير بعد أن أرشدته إلى منزل مسز فانوش، وأما الأطفال فقد كان الرجل العبوس نقلهم إلى محل أمين يتربون فيه.
ولم تأسف مسز فانوش لفراق الأطفال والعجوز، وعادت إلى همبستاد، وباتت في منزلها مطمئنة إلى أن جاءها الرجل العبوس، فخافت خوفا عظيما؛ لاعتقادها أنه سينتقم منها ويعذبها شر عذاب، غير أنها اطمأنت حين علمت أنه يريد استخدامها في إيهام الماجور واترلي أن ابن أرلندا ولده بغية إدخاله مدرسة أبناء المسيح.
وكان العبوس قد دفع لها مقابل ذلك مبلغا عظيما من المال، فعاشت به عيشة السكينة، ولم تعد تخاف غير العبوس الذي تجاسر على أن يعبث بلورد نبيل من أعظم رجال البرلمان نفوذا.
وكانت لا تزال محتفظة بخادمتها الإيكوسية، وكانت ترسلها لاستطلاع الأخبار؛ إذ لم تكن تجسر على الخروج من منزلها، وعلمت أن الحكومة تتهم الرجل العبوس بجريمة تستوجب الإعدام، وأنه لم يعد إلى منزل شوكنج منذ عهد بعيد، واطمأن بالها لاعتقادها أنه سجين، وأن العقاب لا بد أن ينفذ فيه.
وفيما هي جالسة ذات ليلة تشرب الشاي سمعت طرق باب منزلها الخارجي، وأرسلت خادمتها كي ترى من الطارق، وعادت إليها برسالة لم يجئ بها عامل البريد، بل رجل لم تتبين وجهه؛ لأنه كان ملثما.
واضطربت مسز فانوش كأنما قلبها قد أنذرها بمصاب، وفتحت الرسالة بيد ترتجف، وأسرعت بنظرها إلى موضع التوقيع فلم تجد توقيعا، أما الرسالة فكانت كما يأتي:
يطلب إلى مسز فانوش أن تنتظر في هذه الليلة زيارة شخص يريد أن يحادثها بأمور خطيرة.
فإذا لم تفتح لهذا الزائر عرضت نفسها لأخطار لا تستطيع تفاديها.
وإذا خطر لها أن تلتجئ إلى البوليس وتعرض عليه هذه الرسالة، أو ائتمنت سواها على هذا السر، عرضت نفسها لغضب شخص قوي قادر.
وسقطت الرسالة من يدها لما أصابها من الرعب، ونادت خادمتها، وقالت لها بصوت يتلجلج: لقد خدعوك؛ لأن الرجل العبوس ليس في السجن.
ولبثت مسز فانوش منذ ذاك الحين على أشد حالة من الرعب والجنون، ولكنها امتثلت لما ورد في الرسالة فلم تطلع عليها البوليس، ولم تبح بسرها لخادمتها، بل أمرتها أن تذهب إلى مضجعها، وذهبت هي إلى تلك الغرفة المطلة على الحديقة، وهي الغرفة التي دخل منها قبلا الرجل العبوس وشوكنج فجأة كما تقدم، فجعلت تراقب باب الحديقة وتنتظر زيارة الشخص السري وهي ترتعش رعبا لأقل حركة تسمعها.
ومرت الساعة الثانية والثالثة والرابعة بعد انتصاف الليل دون أن يحضر أحد، وحسبت أن الرسالة مزورة.
وارتاحت بعض الارتياح، غير أن اطمئنانها لم يطل؛ فإنه لم تحن الساعة الخامسة حتى سمعت طرق الباب، فانتفض جسمها واضطرب قلبها حتى شعرت أنها لا تستطيع القيام.
ولكنها تجلدت وخرجت من الغرفة إلى الحديقة، فمشت بأقدام مضطربة إلى الباب، ولما فتحت الباب تنهدت تنهد المنفرج بعد ضيق؛ إذ رأت امرأة قصدت لها قائلة: أأنت هي مسز فانوش؟ - نعم يا سيدتي. - أنا هو الشخص الذي تنتظرينه، وأنا أدعى مس ألن ابنة اللورد بالمير، فسيري أمامي إلى منزلك.
45
وامتثلت مسز فانوش، وتبعتها مس ألن إلى الغرفة التي كانت تنتظر فيها منذ حين .
وقد اطمأنت فانوش أنها لقيت امرأة مثلها، وأنها حلوة رقيقة الحديث، وقالت في نفسها: لا بد أن تكون رقيقة الطباع لا سيما وهي ابنة لورد نبيل.
ولكنها حين وصلت إلى الغرفة، ورأت مس ألن أزاحت النقاب، ونظرت إليها بعينيها البراقتين لم يسعها إلا الارتعاش.
وقالت لها مس ألن: إن الوقت أضيق من أن ننفقه بالإسهاب الممل، وسأوضح لك سبب زيارتي بأوجز كلام، فقولي ألم تكوني مربية أطفال؟ - نعم. - ألم تتعودي خنق أولئك الأطفال حين لا تجدين فائدة من أهلهم؟
فاصفر وجه مسز فانوش، وقالت: إنها أراجيف يا سيدتي أشاعها عني بعض أهل الشر. - بل رواها رجل يدعى ويلتون، وهو الآن في السجن.
واضطربت فانوش حتى لم تعد تعلم بما تجيب، فهزت مس ألن كتفيها، وقالت لها: لقد قلت لك أيتها السيدة إن ضيق الوقت يمنعني عن الإسهاب، فاعلمي الآن أني أتيت لأخيرك بين أمرين، وهما إما السجن والحكم بالإعدام، وإما التبرئة ومكافأتك بأربعة آلاف جنيه، وهي ثروة تعيشين من ريعها مدى الحياة.
وحاولت فانوش أن تتكلم فقاطعتها مس ألن بجفاء، وقالت: اصغي إلي، تعلمي أني عالمة بكل شيء، فإنه منذ بضعة أشهر كتب إليك ضابط عائد من الهند يدعى الماجور واترلي، يطلب إليك إرجاع ولده الذي ائتمنك عليه.
وصاحت مسز فانوش قائلة: هو ذا يا سيدتي برهان على براءتي مما يتهمونني به، فإني أرجعت هذا الغلام إلى أبيه الماجور، والبرهان أنه اليوم في مدرسة أبناء المسيح.
فابتسمت مس ألن وقالت: إني أعرف كل ما تقولينه، وأعرف أيضا أن هذا الغلام ليس هو ابن الماجور، بل هو غلام أرلندي يدعى رالف وأنت التي سرقته.
وأطرقت فانوش برأسها إلى الأرض حين رأت مس ألن واقفة على حقيقة أمرها.
وعادت مس ألن إلى الحديث فقالت: إن الغلام قد هرب وسقط بأيدي عصابة من اللصوص أدت به إلى السجن في سجن الطاحون، فأنقذه رجل يدعونه الرجل العبوس كي تقدميه للماجور واترلي بصفته ولدا له.
واصفر وجه فانوش عند ذكر الرجل العبوس، وقالت: إن هذا الرجل قوي شديد، وقد أمرني ولم أجد بدا من الامتثال.
وأجابتها مس ألن ببرود: إذن اعلمي أني أنا عدوة هذا الرجل الشديد، والحرب ناشبة بيني وبينه. - أأنت تجسرين على معاداة الرجل العبوس؟
وقالت الفتاة بلهجة الواثق مما يقول: إني على وشك الظفر به الآن، وسأسحقه قريبا سحق الزجاج، غير أني محتاجة إلى مساعد لأضربه الضربة القاضية، وهذا المساعد هو أنت.
فارتعشت فانوش من الخوف وقالت: كلا يا سيدتي، لا أجسر على معاداته.
فمدت مس ألن يدها إلى جيبها، وأخرجت منها ورقة عرضتها عليها.
ووجف قلب فانوش وقالت: إن هذا أمر بالقبض علي؟ - نعم، وهو موقع عليه من ناظر الحقانية. - رباه، إذن هلكت. - هو ما تقولين، فإني أستطيع - حين أريد - إعطاء هذا الأمر إلى اثنين من رجال البوليس فيذهبان بك إلى السجن، ولا يكون جزاؤك غير الشنق بعد أسبوع، ولكني أؤثر أن أجازيك بما وعدتك به من المال إذا كنت تخدمينني. - ولكن إذا خدمتك يقتلني الرجل العبوس. - وإذا لم تخدميني تشنقين، فاختاري أهون الوبائين. - ويلاه! وأية فائدة من الاختيار بين الشرين إذا كان الموت يجول بينهما؟ - لا تقنطي واصغي إلي، ترين أن هذه الأخطار يمكن اتقاؤها، فإني حين أستخدمك للقضاء قضاء مبرما على الرجل العبوس يشنق هذا الرجل في اليوم نفسه، ولا يستطيع الانتقام منك. - ماذا يجب أن أصنع؟ - يجب أن تبادري بالكتابة لناظر الحقانية أن الولد الذي رد إلى الماجور واترلي ليس ولده، وأنه أرلندي اسمه رالف، وأنه نفس الغلام الذي هرب من سجن الطاحونة. - ولكني إذا كتبت هذه الكتابة أكون قد اعترفت بجنايتي. - دون شك، ويجب أن تعترفي أيضا أنك دفعت ولد الماجور واترلي الحقيقي إلى حليف لك يدعى ويلتون فأغرقه في النهر. - أذن يحكمون علي بالشنق. - هو ما تقولين، ولكنك تنالين عفو الملكة. - من يضمن لي نيل هذا العفو؟
وقالت لها مس ألن ببرود وبلهجة دلت على الإخلاص الأكيد: يضمنه لك ابنة اللورد بالمير واللورد بالمير نفسه.
46
طلع النهار كما يطلع عادة في لندرا، أي إن الضباب يحمر ويرق حتى ترى الأشجار من خلاله.
وقد نفذت أشعته إلى الغرفة التي كانت فيها ابنة اللورد، فقالت لمسز فانوش: هو ذا الصباح قد بزغ ولم أعد أستطيع البقاء، فإذا كنت لا تزالين خائفة من العبوس، هلمي معي أذهب بك إلى موضع أمين لا يصلك فيه شر المعتدين. - إلى أين تذهبين بي؟ - إلى منزل الأسقف بترس توين أعظم رجال لندرا نفوذا. - إني لم أسمع أبدا بهذا الاسم.
فابتسمت مس ألن وقالت: ولكنك سمعت بأسقف كنتربوري دون شك، فاعلمي أن هذا الأسقف العظيم يتلقى من السير بترس توين أوامر سرية.
وعلمت فانوش أنه لم يعد بد لها من الانقياد إلى ابنة اللورد؛ لأنها كانت تحمل الأمر بإلقاء القبض عليها، فقالت لها: إني مستعدة للذهاب معك إلى حيث تشائين.
واتشحت مس ألن بردائها، وأرخت النقاب على وجهها، وخرجت بفانوش من ذلك المنزل إلى مركبتها، وأمرت السائق أن يذهب بها إلى منزل الأسقف بترس توين.
وكأنما هذا الأسقف كان ينتظر زيارة مس ألن، فإنه بقي ساهرا إلى هذه الساعة، ولما وصلت المركبة إلى منزله دخلت مس ألن إليه مع فانوش وعرفته بها قائلة: هذه هي المرأة التي حدثتك عنها.
فأدخل الأسقف الاثنين إلى قاعة الاستقبال، وأخذ ينظر إلى فانوش نظرات الفاحص، فأشارت له مس ألن إشارة سرية أدرك قصدها، وذهب إلى غرفة أخرى فتبعته مس ألن تاركة فانوش وحدها في القاعة.
ولما خلا الاثنان قال لها الأسقف: أرضيت بما اتفقنا عليه؟ - إنها رضيت بكل شيء، فهل أبلغت ناظر الحقانية؟ - دون شك، ألم أرسل لك الأمر بالقبض عليها، ولكني أرى صعوبة جديدة لم نكن نتوقعها؛ فإن هذه المرأة ستكتب حكايتها بيدها، ثم تؤيد باعترافها الشفاهي أمام البوليس ما كتبته بيدها. - ولكني وعدتها بالعفو. - ذلك صعب، لأنها ستحاكم علنا وتنشر الجرائد أخبارها، وتحول دون العفو. - ولكن لا سبيل إلى محاكمتها، إذ يمكن إطلاق سراحها بضمانة، فتبرح إنكلترا قبل المحاكمة. - ولكنك ربما تجهلين نظام مدرسة أبناء المسيح، وما تتمتع به من الامتيازات منذ عهد إدورد السادس منشئها . - سوف ترى أني لا أجهل شيئا، فإن كل تلميذ من تلامذة هذه المدرسة، يلبس الوشاح الأزرق والجرابات الصفر لا يمكن القبض عليه، إلا إذا ارتكب جريمة في الطريق خارج المدرسة.
وأنا أعلم أنه لو قيل للبوليس إن هذا الغلام متنكر باسم سواه، وأنه من المجرمين المحكوم عليهم، فإما يصدق أو ينكر، وفي الحالين لا يجسر أن يقبض عليه.
وحتى لو تمكنا من إغراء أحد رجال الشرطة، وقبض عليه وذهب به إلى سجن الطاحون وعرفه جميع الحراس، فإن اللورد المحافظ يسرع في الحال إلى طلبه وإخراجه.
فقال لها الأسقف: أرأيت إذن كيف أن مساعينا تحبط أمام الامتيازات الممنوحة لهذه المدرسة؟ - ولكن الحيلة تعيننا على هذه الامتيازات، فإن الشرطة ستقبض على الغلام بغير زيه المدرسي.
ألم أقل لك إني اتفقت مع امرأة تدعى الآشورية على أن تغري الماجور واترلي؟ إذن فاعلم أن دور الغواية قد بدأ، وأنه لا تمضي ثمانية أيام حتى يصبح هذا الماجور آلة بيد تلك الحسناء تعبث به كما تشاء، ولا تعود تخطر امرأته له في بال، ثم إني احتلت أيضا على إبعاد امرأته كي يخلو الجو للآشورية، فإنها الآن خارج لندرا. - ماذا فعلت؟ - إني احتلت حيلة بسيطة، وهي أنه بعد أن خرج زوجها من منزله ذاهبا إلى قاعة جهنم كي يشرب الأفيون، وامرأته تحسب أنه ذهب إلى النادي حسب العادة، زورت تلغرافا وأرسلته إليها، وخلاصة هذا التلغراف أن أخاها في إيكوسيا، أصيب فجأة بمرض شديد، وأنه لا بد من حضورها.
فلما وصلها هذا التلغراف الملفق، بحثت عن زوجها في كل مكان فلم تجده؛ لأنه كان عند مسز بيرتون، فتركت له كتابا في المنزل وفي النادي، وسافرت في الحال إلى إيكوسيا، وهي ستجد أخاها معافى عند وصولها، فتعلم أن التلغراف مزور.
ولو افترضنا أنها عادت توا يقتضي لذلك أسبوع، وهو كاف لإتمام مهمتنا، وذلك أن الماجور واترلي سيصير في خلاله عبدا للآشورية، كما هو عبد للأفيون، ومن عادته أن يحضر ابنه مرة في الأسبوع من مدرسة أبناء المسيح، ويجيء به إلى المنزل، ولكنه سيجيء به هذه المرة إلى منزل الآشورية لغياب امرأته. - ولكننا لا نزال حيث كنا من الصعوبة، فإن كل أب ينقل ولده إلى هذه المدرسة، يتعهد أن لا ينزع ملابسه، إلا بعد أن تنتهي مدة تعليمه. - إني أعرف كل ذلك، ولكن الماجور لا يخل بتعهده، بل إن الآشورية تسكره بالأفيون حتى يضيع رشاده، وعند ذلك تغوي الغلام وتلبسه ملابس أجمل من ملابسه وأكثر لمعانا. - وعند ذلك تحضر الشرطة؟ - هنا ينتهي عملي، ويبدأ عملك. - ولكنك تعلمين أن القبض على الناس في المنازل يحرمه الشرع. - ولكنه غير محرم في هايد بارك، فإن الآشورية تغتنم فرصة انشغال الماجور بسكره الأفيوني، وتذهب بالغلام بغية التنزه بالحدائق.
وبينما كان الأسقف ينظر إلى مس ألن نظر المعجب بذكائها وتوقد ذهنها، سمع قرع الباب الخارجي ثم رأى أن باب الغرفة قد فتح ودخل منه سكرتيره، وقال: إن رئيس البوليس قد حضر يا سيدي. - أدخله إلى قاعة الاستقبال.
ثم ذهب بنفسه إلى تلك القاعة التي كانت تنتظر فيها فانوش على أحر من الجمر، وهي لا تعلم ما يكون مصيرها، فقال لها: لقد حان وقت اعترافك يا سيدتي بكل شيء.
وعند ذلك فتح الباب ودخل رئيس البوليس، فجعل العرق البارد ينصب من جبينها، وقد اشتد رعبها لمنظر البوليس، حتى خيل لها أن المشنقة قد نصبت أمامها، وأن الجلاد يقول لها لقد جاء دورك الآن فاصعدي.
47
ولندخل الآن إلى منزل الآشورية، فإن هذه الحسناء التي كان الناس يقتتلون عليها، والتي كانت عيناها تفعل فعل السحر بألباب الرجال، كان لها منزل عظيم في بورتلاند بالاس يشبه القصور الفخمة.
وذلك أن السير أرثر، ذلك النبيل المنكود الذي انتحر في سبيل هواها، بنى لها القصر وأهداها إياه من خلال ضريحه، فإنه كان قد شيد هذا القصر من أجلها، فاستعان على بنائه ونقوشه بخير المهندسين والمصورين والنقاشين، وأنشأ فيه حديقة غناء، وضع فيها التماثيل الجميلة، فبات أشبه بهيكل بناه لمعبوده.
غير أن معبوده أبى أن يقيم فيه ذلك العهد، فلما قنط السير أرثر من حبها انتحر، فوجدوا في وصيته أنه يهب هذا القصر بما فيه من الرياش للآشورية، فاستولت عليه غنيمة باردة وأقامت فيه دون أن يزجرها ضميرها كأنها اشترته بمالها.
وفي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم الذي جاءت فيه مس ألن بفانوش إلى منزل الأسقف، كانت الآشورية جالسة عند نافذة غرفتها المطلة على الحديقة، تستنشق نسيم الصباح، وتتدفأ بأشعة الشمس التي فازت على الضباب وبددته.
وكانت تنظر من حين إلى حين إلى رجل كان نائما في غرفتها على مقعد طويل وهو الماجور واترلي نفسه.
وكان نائما بملابسه - وهي مختلة النظام، وهو منفوش الشعر - نوما عميقا يدل على أنه أفرط في شرب الخمر والأفيون.
وكان في زاوية الغرفة مائدة عليها بقايا الطعام والشراب، وفي قربها نارجيلة ذات أنبوب طويل.
وكانت الآشورية تنظر إليه من حين إلى حين نظرات الفاحص، ثم تعود إلى الحديقة وتنظر إلى بابها نظرات الجزع، كأنها كانت تنتظر قدوم زائر.
ثم سمعت صوت مركبة وقفت عند بابها، فقالت في نفسها: سوف تراه نائما، وتعلم أني وفيت بوعدي.
وعند ذلك خرجت امرأة من تلك المركبة، كانت تدل خطواتها أنها في عهد الصبى، وكانت مقنعة بقناع كثيف يستحيل معرفة وجهها من خلاله، ولكن الرجل العبوس لو لقيها وأرسل نظراته من النافذة إلى ذلك القناع لاخترقه، وعلم أنها مس ألن، فإنها هي نفسها كانت تلك الزائرة التي تتوقعها الآشورية.
وكانت عائدة من منزل الأسقف بترس توين، حيث جرى كل شيء فيه طبق رغائبها، فإن مسز فانوش غرها المال وأخافها العقاب، فاعترفت لرئيس الشرطة بأن ابن الماجور واترلي قد أماته خادمها غرقا، وأنها قدمت له بدلا منه الغلام الأرلندي وأوهمته أنه ولدها.
وبعد أن كتبت اعترافها اتفق الأسقف مع رئيس الشرطة على إطلاق سراحها بضمانة قدرها ألف جنيه، فدفعت مس ألن المال، وأقامت فانوش في منزل الأسقف آمنة انتقام الرجل العبوس.
أما مس ألن فقد كان ظمؤها إلى الانتقام من العبوس شديدا، فأرادت قبل أن ترسله إلى المشنقة أن تنزع من نفسه كل رجاء، فتقضي على حليفته فانوش، وتعيد ابن أرلندا إلى سجن الطاحونة، وتضرب الأرلنديين الضربة القاضية.
وبعد أن ذهب رئيس البوليس، قالت لبترس توين: يجب الآن أن تهتم بإيجاد رجل ثقة خبير من خير رجال الشرطة، فإن مثل هذه المهمة لا يجب أن تعهد لغير الأكفاء.
وعند ذلك افترق الاثنان، فذهب الأسقف إلى إدارة الشرطة العمومية، وذهبت مس ألن إلى منزل الآشورية.
فلما وصلت ورأت الماجور واترلي نائما، وقربه نارجيلة الأفيون، ظهرت عليها علائم السرور، ونزعت برقعها وظهرت للآشورية بجمالها وعلائم كبريائها، فغضت بصرها وشعرت أنها لا تستطيع إلا أن تكون خاضعة لهذه الفتاة.
أما مس ألن فإنها جلست، وقالت لها: ماذا حدث؟
وبقيت الآشورية واقفة احتراما، وقالت: لقد أتيت به منذ الساعة الرابعة بعد أن كاد يفتتن بي، وأقسم لي أنه يتبعني إلى حيث أريد، فتعشينا وشرب مقدارا كبيرا من الخمر، وكثيرا من الأفيون حتى غاب عن الصواب، ولكنه استيقظ من الصباح، وعاد إليه شيء من صوابه، فذكر امرأته وقال: مسكينة إنها الآن على أسوأ حال لغيابي.
فأطلعته على كتابها إليه، وهو الكتاب الذي تخبره به عن أخيها ومرضه الفجائي واضطرارها إلى السفر إلى إيكوسيا، ثم أخبرته أن امرأته أرسلت هذا الكتاب إليه في النادي، فأرسلوه من النادي إلي.
فقرأ الكتاب وتأثر تأثيرا أطار سكرته، فأخذت يده بين يدي، وقلت له: إذا كانت امرأتك قد سافرت، فمم تخاف؟
فرأيت أن جسمه قد تكهرب لنظراتي، فناديت خادمتي وأمرتها أن تعد النارجيلة، وأخرجت من درج حبة من الأفيون، فلما رآها أشرق وجهه ونسي كل ما فيه، وأقبل على أنبوب النارجيلة، فما تركه حتى نام وبات كما ترينه الآن.
فقالت مس ألن: لقد أحسنت، ولكن يجب إيقاظه بعد ساعة أو ساعتين، فليدعك صدغاه وأعصابه بهذا الماء.
ثم أعطت الآشورية قنينة فيها سائل أحمر، وقالت لها: إنك إذا فركت صدغيه بهذا السائل استفاق، ويبقى خامل الذهن، ولكنه يفهم ما تقولين له. - ماذا تريدين أن أقول له؟
وقالت لها مس ألن بلهجة السيدة الآمرة التي تعودت أن تطاع: اصغي إلي، تعلمي ما أريد.
48
قد يعجب القراء من خضوع الآشورية لمس ألن على ما مثلت به هذه المرأة من الشهرة والدلال على عشاقها، وتألق أهل الشبيبة من حولها، ومن كان في منزلتها لا يخضع التماسا للمال ولا يرهب علو المقام.
غير أن هذه الحسناء، على وفرة جمالها وسلطان دلالها، كانت مقيدة بماضيها الذي يجهله جميع سكان لندرا، ما خلا السير بترس توين، ومس ألن.
وقد اتفق أن مس ألن كانت محتاجة، لتنفيذ أغراضها الخفية، إلى امرأة جميلة مدنية تستطيع أن تقودها بلجام ذنوبها الماضية، وتعهد إليها إغواء رجل فتطيع، فكاشفت بأمرها السير بترس توين، فأرشدها إلى الآشورية.
وقد كان هذا الأسقف معروفا بنفوذه، وانتشار بوليسه السري في سائر أنحاء لندرا، فلم تكن تخفاه خافية من كل ما يجري فيها، وإذا أراد نكاية أحد من كبار القوم عمد إلى الدسائس مستعينا عليها بما لديه من الأسرار، فأنزله إلى الحضيض.
وحكاية هذه الآشورية أنها كانت إنكليزية، وقد سرقت سرقات كثيرة وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وكانت تدعى في ذلك العهد إينا بيتلام وهي إسرائيلية.
وقد حكم عليها بالسجن عشرة أعوام؛ عقابا على جرائمها العديدة، فساعدها أحد عشاقها على الفرار من السجن.
وبرحت إنكلترا، وذهبت إلى فرنسا، ثم إلى إيطاليا، فشفع جمالها بغموض ماضيها، وأقامت في دار الغربة عشرة أعوام إلى أن وثقت من نسيان أمرها في لندرا، فحنت إلى الوطن وعادت إلى لندرا منذ عام، فلقيت من احتفاء الشباب بها ما جعلها في مقام الأميرات.
وبقيت وهذا دأبها إلى أن اكتشف بوليس هذا الأسقف أمرها، فلما طلبت إليه مس ألن امرأة حسناء مجرمة أرشدها إلى الآشورية، وحكى لها كل ما عرفه عن ماضيها.
ففي الليلة نفسها تنكرت مس ألن وذهبت إلى منزل الآشورية، وكان أول ما فاجأتها به أنها حيتها باسمها القديم أي إينا بيتلام، فاصفر وجهها وعلمت أن أمرها قد انفضح، ولم تكن إلا في غرور.
فاغتنمت مس ألن فرصة اضطرابها، وقالت لها: إنك الآن مهددة بالعودة إلى السجن إلا إذا خدمتني خدمة صادقة في ما أريد، وأنا لا أطلب إليك ما يستحيل إجراؤه، بل أسألك قضاء أمر تفعلين مثله في كل ليلة، وفوق ذلك أكافئك خير مكافأة.
فرضخت الآشورية لمطالبها، وباتت عبدة لها منذ ذلك الحين، ففعلت كل ما طلبته إليها.
فلما فاجأتها أخيرا، ورأت الماجور نائما كما قدمناه، قالت لها: اصغي إلي الآن، فإنك تعلمين الدور الذي يجب أن تمثليه حين يصبح الغلام في منزلك.
وقد كنت أمس مترددة في تعيين اليوم الذي يجب فيه الإجراء؛ لأني كنت أجهل تأثيرك بالماجور، أما وقد وثقت من حسن هذا التأثير، فقد حان وقت العمل.
اعلمي الآن أن هذا الماجور حين يستفيق من سكره قد يخطر على باله عزيزان، وهما امرأته وولده، فإذا صحا تأمري خادمك أن يذهب إلى منزل الماجور فيعود منه بهذه الرسالة البرقية المزورة المختومة، وهذه الرسالة من امرأته إليه وهي تحتوي على ما يأتي:
زوجي العزيز
إن أخي بات آمنا من الخطر، وأنا سأقيم بين العائلة أربعة أيام، وفي اليوم الخامس أكون في لندرا.
ثم أعطتها الرسالة قائلة: إن الماجور حين يطمئن على امرأته، ويعلم أنها ستغيب خمسة أيام، يعد نفسه سعيدا بالإقامة عندك في هذه المدة.
غير أنه يذكر أن هذا اليوم يوم الخميس، أي يوم الإجازة في مدرسة أبناء المسيح، وأنه تعود أن يذهب بولده إلى النزهة في مثل هذا اليوم من كل أسبوع، فإذا كان ذكر أمامك، وهو لا بد أن يذكره، فأظهري شوقك إلى رؤية ابنه، وعلي الباقي. أعلمت ما أريد منك؟ - نعم. - إن الغلام يتغدى عندك، وفي خلال الغداء اسقي الماجور من قناني الخمر التي جئت بها إليك، فإن فيها مخدرا إذا شربه نام على الأثر، وعند ذلك تظهرين للغلام هذه الملابس الجميلة التي أحضرتها لك أيضا، وتلبسيه إياها بدلا من ملابسه. - وفي أية ساعة تريدين أن أذهب؟ - في الساعة الثامنة بعد الظهر، فتدخلين به من باب بال مال، وتذهبين به ماشية إلى ضفاف الغدير، فأمر بك ممتطية جوادا وأشير إليك إشارة خفية أعين لك فيها المكان المقيم فيه البوليس السري.
فوعدتها الآشورية بالامتثال لرغائبها، فأرخت مس ألن نقابها الكثيف على وجهها، وذهبت إلى مركبتها، فعادت توا إلى المنزل.
وكان أبوها قد عاد من النادي، فنام وهو يحسب أن ابنته نائمة حسب عادتها، فلما وصلت مس ألن إلى المنزل رأت عند الباب رجلا ينتظرها، وهو رجل نحيف الجسم واضعا على عينيه نظارات زرقاء، فأعطاها رسالة وقال لها: إنها من السير بترس توين.
ففضتها وقرأت فيها ما يأتي:
إني مرسل إليك رجلا من رجال البوليس السري، وهو ثابت الإرادة شديد العزيمة، فسيقبض على الغلام بمهارة، بحيث لا يستلفت إليه الأبصار، غير أنه لما كنا نخشى تيقظ الأرلنديين ومراقبتهم لهذا الغلام الذي يعتبرونه سيدهم الأعلى، أعطتني إدارة البوليس كثيرا من الجنود السرية يخفرون البوليس الذي سيقبض على الغلام، ويحولون دون هجوم الأرلنديين.
فلما أتمت مس ألن تلاوة الرسالة، نظرت إلى هذا الرجل، فأعجبتها سكينته الواضحة وقالت: أتعلم أني قد عينت جائزة قدرها ألف جنيه لمن يقبض على الغلام. - أشكرك يا سيدتي، ولكني لا أعرفه. - اذهب في الساعة الثامنة بعد الظهر إلى الحدائق، وقف عند مدخلها من جهة بال مال أظهره لك.
فانحنى الرجل مسلما عليها بملء الاحترام وانصرف.
49
في هذا اليوم نفسه قبل أن تشرق الشمس، وقبل أن يتبدد الضباب المخيم على لندرا، كان نور ينبعث من نافذة غرفة في مدرسة أبناء المسيح، وأشعته تضطرب من وراء الستائر.
وكانت هذه الغرفة غرفة امرأة صبية، هي إحدى الغاسلات في تلك المدرسة.
وكانت المرأة تنقطع عن العمل من حين إلى حين، وتطل من النافذة فتزيح الستارة وتتطلع إلى الشارع.
على أنها لم تكن تتوقع دخول أحد إليها من الخارج، فإن هذه المدرسة لا يدخل إليها غريب عنها، ولكنها كانت تطل كي تراقب الفجر، وتعلم الساعة التي هي فيها، فإنها كانت تنظر دنو الساعة السابعة بفارغ الصبر، فلما دقت الساعة دق الجرس، فبدت على وجه المرأة علائم السرور.
وكان هذا الجرس جرس المدرسة المؤذن باستيقاظ التلامذة، وهذه المرأة والدة ابن أرلندا التي أدخلها العبوس إلى المدرسة بصفة عاملة كي ترى ابنها كل يوم؛ إذ لم تكن تطيق فراقه.
فبعد أن دق الجرس بعشر دقائق قرع باب غرفة الأرلندية، ودخل ولدها رالف فأكب على عنقها يقطعه تقبيلا ويقول: ما أطول الليل يا أماه! فإني لم أرك منذ أمس. - اسكت ولا تناديني بأمك، فأنت تعلم أني في عيونهم مربيتك، وإذا عرفوا حقيقة أمرنا كان جزاؤنا الشنق.
فرعب رالف وقال: إنهم يرجعونني إلى سجن الطاحونة، أليس كذلك؟ - نعم يا بني وا أسفاه، وكفى أنهم أذنوا لي أن أراك في صباح كل يوم، ثم ضمته إلى صدرها وجعلت تقبله قبلات حنو لا يدرك حقائق أسرارها غير الأمهات، وقالت له: أتعلم أن هذا اليوم يوم خميس، أي يوم الإجازة المدرسية؟ - نعم، وسيأتي هذا الرجل الذي أدعوه بأبي فيذهب بي إلى النزهة، وإنه كثير الرأفة بي، وهذه المرأة التي أغضب حين اضطر إلى أن أدعوها بأمي تقبلني حين تراني، وتذرف الدمع السخين فلا يسعني عند ذلك إلا البكاء؛ لأني أفتكر بك. - كلا يا رالف، إني لا أريد أن تبكي، بل أريد أن تحب هذه المرأة، والآن افتكر يا بني أنك ستراني اليوم مرتين.
فصفق الغلام بيديه سرورا وقال: كيف ذلك؟ - ذلك لأني أنا أيضا سأخرج اليوم من المدرسة، فإن هذا اليوم من الأعياد، ومدير المدرسة يعلم أني كاثوليكية، فأذن لي بالذهاب إلى كنيسة سانت جيل مرتين في الأسبوع، والآن قل لي متى يأتي الماجور واترلي عادة للذهاب بك إلى النزهة؟ - في الساعة العاشرة صباحا. - إذن سأذهب إلى الكنيسة قبل هذه الساعة، ثم لا بد من أن أعود إلى المدرسة توا، فأقف عند الباب وأنتظر خروجك، فأراك مرتين.
وهنا دق جرس المدرسة مرة ثانية مؤذنا بدخول التلامذة إلى قاعات التدريس، فودع رالف أمه باكيا وانضم إلى التلامذة.
وبعد ذلك بساعة كانت الأرلندية داخلة إلى كنيسة سانت جيل، وكان رجل واقف عند الباب وهو خادم الكنيسة، فلما رآها دنا منها وقال لها: إن الأب صموئيل أمرني أن أنتظرك هنا لأخبرك أنه يجب أن يراك.
فقلقت الأرلندية لهذه الدعوة، وافتكرت بابنها وحسبت ألف حساب، وجعلت تقول في نفسها: ما عسى أن يريد مني الكاهن، لا شك أنه يوجد خطر جديد.
ولما انتهت الصلاة أسرعت إلى الكاهن وقالت له: ماذا حدث؟ وأي خطر ينذر ولدي؟ - إنهم يريدون اختطافه من مدرسة أبناء المسيح.
فاصفر وجه الأرلندية اصفرارا شديدا، وعقد لسانها فلم تستطع أن تنطق بحرف.
فقال لها الكاهن: لقد وردني أمس من الرجل العبوس هذه الرسالة، وهذه هي فاقرئيها.
فتناولتها تلك الأم المنكودة بيد تضطرب، وقرأت ما يأتي:
يوجد خطر جديد يتهدد الغلام، ولم أعرف حقيقة أمره بعد، ولكني سأعرفه قريبا، وأما الذي علمته الآن فهو أنهم يحاولون اختطاف الغلام من مدرسة أبناء المسيح، ولذلك يجب الحذر الشديد، فإذا رأيت أم الغلام قل لها أن تقف في مواقف الحذر.
فصاحت الأرلندية: رباه ما عساهم يفعلون بولدي بعد كل ما فعلوه؟
فطيب الكاهن خاطرها، وقال لها: لا تخشي أمرا فإن الله يحمينا، لكن عودي الآن في الحال إلى مدرسة أبناء المسيح، فراقبي ولدك كل المراقبة. - لكن اليوم يوم الإجازة المدرسية، وسيحضر الماجور واترلي فيذهب به إلى النزهة حسب عادته كل يوم خميس. - إذن اجتهدي أن تريه قبل ذهابه، وقولي له أن لا يخلع وشاحه الأحمر، ولا جراباته الصفراء مهما حدث له، فإنه ما زال متشحا بهذه الملابس لا يستطيع أحد أن يقبض عليه.
وغادرته الأرلندية، وذهبت وهي تفتكر كيف تستطيع أن ترى ولدها قبل ذهابه إلا إذا انتظرته في الطريق.
ولما استقرت على هذا الرأي قررت أن تنتظره عند باب المدرسة.
وكان يوجد قرب هذا الباب دكان بائع حلوى، فدخلت وجلست في مكان مشرف على الطريق، وطلبت شرابا وحلوى كي يحق لها الإقامة والانتظار.
ولم يطل انتظارها، فإنها رأت بعد حين مركبة وقفت عند باب المدرسة، وخرج منها الماجور واترلي، فأسرعت إليه قبل أن يقرع الباب؛ لأنها لا تستطيع محادثة ولدها إلا بواسطة الماجور، وكان الماجور غائر العينين، أصفر الوجه، مستدلي الشفة، كما يكون عادة شراب الحشيش والأفيون حين يستيقظون.
وقد حدث كل شيء وفقا لرغائب مس ألن، فإن الماجور واترلي حين استفاق من سكره، ورأى الآشورية أمامه لم يذكر شيئا مما مضى وقال: أين أنا؟
ثم عادت إليه الذكرى وصاح صيحة الوجل، وذكر اسم امرأته، فأعطته الآشورية ذلك التلغراف المزور، وعلم منه أن امرأته في إيكوسيا، وأنها لا تعود إلا بعد أسبوع، واطمأن باله ونظر نظرة المفتون إلى الآشورية، وذكر انطلاق حريته بغياب امرأته، ولم يعد يذكر غير تلك الحسناء، حتى أنه نسي ولده.
غير أن الآشورية لم يرق لديها هذا النسيان، وقالت له: ألعلك نسيت أيها الحبيب أن اليوم يوم خميس، أم أنك لا تحب أن تذهب بابنك إلى الحدائق؟ - كلا، ولكن جمالك أنساني كل شيء حتى هذا اليوم. - أما انا فلا أنساه؛ لأني أحب أن أرى ولدك، لقد أحببته لأنه ابنك. ثم طوقت عنقه بذراعيها، وقالت له: ألا تأذن لي بأن أراه أيها الحبيب، وأن يتغدى معنا اليوم على مائدتي؟ - دون شك، وها أنا ذاهب الآن لفوري.
ثم قام وهو يتعثر من سكره، وأصلح ثيابه وخرج من عند الآشورية إلى مدرسة أبناء المسيح، وهو لا يزال خامد الذهن لإفراطه في شرب الأفيون، حتى إنه حين دنت منه الأرلندية عند باب المدرسة وحيته، نظر إليها منذهلا ولم يعرفها فقال لها: من أنت؟ وماذا تريدين؟
أما الأرلندية فإنها اضطربت، وقالت له بصوت يتلجلج: إني مرضع ولدك، وأحب أن أراه.
وتذكرها الماجور عند ذلك وقال: حسنا، سترينه حين أخرج به من المدرسة.
فتركها ودخل.
وكانت الأرلندية قد رأت هذا الماجور مرارا ولم تعهد به غير الدعة وحلاوة اللسان، وراعها ما رأته من الانقلاب، وخشيت أن يكون ذلك من صنع الذين يريدون اختطاف ولدها.
وبعد نصف ساعة خرج الماجور بالغلام، ولما رأى أمه أسرع إليها وأخذ يقبلها، وكان الماجور ينظر إليها نظرات خامدة ساهية كنظرات شراب الحشيش.
أما الأرلندية فإنها أوهمت الماجور أنها تقبل ولدها، وهمست في أذنه قائلة باللغة الأرلندية: أوصيك يا ولدي أن لا تخلع هذه الملابس عنك مهما اختلقوا لك من الحجج، أتعدني بذلك يا بني؟ - دون شك، إني لا أخالف لك أمرا.
وعند ذلك أخذ الماجور رالف من يديه وصعد به إلى المركبة، وأمر السائق أن يسير.
وسارت المركبة، ووقفت الأرلندية تشيعها باكية حتى توارت عن الأنظار.
وعند ذلك همت بالدخول إلى المدرسة، ففاجأها عبد أسود لم تكن تراه وناداها، وأجفلت لمنظره، وقالت له: من أنت؟ وكيف تعرفني؟ - أنا شوكنج يا سيدتي، لا تدخلي المدرسة بل اتبعيني ولا تخافي؛ لأن الرجل العبوس ساهر على ولدك، وأنا آت إليك من قبله.
وعرفته الأرلندية من صوته، وسارت معه وهي تنظر إلى سواد لونه، منذهلة لهذه الاستحالة.
50
أما الماجور واترلي، فإنه سار برالف إلى منزل الآشورية، ولم يكن الغلام قد أدرك القصد من تحذير أمه أن لا يخلع ملابسه، غير أنه قرر أن يطيعها، لقد كان على حداثته وافر العقل، وعلم أن أمه لم تحذره هذا التحذير عبثا.
وكان الماجور واترلي قد عوده أن يذهب به كل يوم خميس إلى منزله، ولما رأى المركبة وقفت عند باب منزل لا يعرفه أنكر ذلك، وسأله: لماذا أتيت بي إلى هذا المنزل؟
فانتبه من خموله وقال له: إن أمك سافرت إلى إيكوسيا لبعض الشئون، وهذا المنزل لقريبة لي تريد أن تراك.
وكانت الآشورية تتنزه عند ذلك في الحديقة، وقد أعياها الانتظار، ولما رأت الماجور داخلا برالف أسرعت إلى الفتى، وأخذت تقبله قبلات تدل على الحنو، وتكلمه ألطف كلام، ثم صعدت به إلى المنزل وتبعها الماجور، فجلسوا جميعهم على مائدة وضع عليها أفخر أنواع الطعام، فأكلوا وصبت المدام في الكئوس، وهي المدام التي أرسلتها مس ألن فسكر الماجور وتخدر جسمه بما وضع في الخمر من المواد.
أما رالف فإن الآشورية كانت لا تسقيه من الخمر لاعتقادها أنه لا يمانع في تغيير ملابسه، فلا فائدة من تخديره.
وكان الغلام قد تعود هذه النزهة الأسبوعية في الحدائق، وكان ينتظرها بفارغ الصبر كل يوم خميس، ولما رأى أن الماجور قد تخدر ونام، نظر إليه نظرة الحزين وقال: لم يبق سبيل لذهابنا اليوم إلى الحدائق.
فضمته الآشورية إلى صدرها بملء الحنو، وقالت: سأذهب بك أنا يا بني. - أنت يا سيدتي! - نعم أنا، انظر يا بني من النافذة ألا ترى المركبة معدة؟
فأطل رالف من النافذة، ورأى مركبة جميلة يدهش رواؤها الأبصار، فقال: أنسير في هذه المركبة؟ - دون شك.
وعند ذلك قرعت الآشورية جرسا أمامها، فأقبلت خادمة ووضعت على المقعد قبعة حمراء وضع عليها ريش أخضر ولباس أزرق وسترة مخملية بلون العناب عليها شرائط جميلة، وسر الغلام بهذه الملابس، وقال لها: ما هذا يا سيدتي؟ - هذه ملابسك الجديدة أعدها لك أبوك كي تخرج بها إلى النزهة، فتصبح بها أجمل أقرانك، أما هي جميلة يا رالف؟
وتنهد الغلام وقال: لا أنكر أنها جميلة يا سيدتي، غير أني لا أستطيع أن أخلع ملابسي، فإن أمي منعتني. - ولكن أمك مسافرة، فكيف رأيتها؟
واضطرب رالف وقال: لا أريد بها أمي تلك، بل أريد بها مرضعتي لأني أسميها أمي. - إذن ألا تريد أن تلبس هذه الملابس؟ - كلا يا سيدتي.
ورأت الآشورية من تصميمه أنه ثابت الإرادة، وأنه يستحيل إغواؤه إلا بالحيلة، وعزمت على استخدام الشراب الذي أحضرته مس ألن، فصبت في كأسه قليلا من الخمر من زجاجة كان ينظر إليها رالف وهما على المائدة، فلا يجسر أن يطلب الشرب منها.
وشرب الغلام دون احتراس، وجعلت الآشورية تلاعبه وتداعبه وهو فرح بها، معجب بلطفها، ولم يمض على ذلك بضع دقائق حتى أثر الشراب فيه تأثيره العجيب، فإنه لم يشعر بدوار ولم ينم ولم يحدث له شيء من أعراض التخدر، ولكنه استحال بعد انقباضه وتحرسه إلى سرور غريب، وصار ينظر إلى الماجور واترلي وهو نائم على المقعد، فيضحك ضحكا شديدا حتى تسيل دموعه.
وكان النبيذ الذي شربه ممزوجا بمخدر هندي يستخلصه الهنديون من نبات، إذا شرب المرء عصيره يفقد الذاكرة إلى حين، وقد أحضرته مس ألن للآشورية كي تسقيه للغلام إذا عاند وأصر على عدم تغيير ملابسه، ففقد رالف ذاكرته فجأة حين شربه، ونظر إلى الماجور وضحك عليه ولم يعرفه، ثم نظر إلى المرآة فأنكر وشاحه وقال: ما أقبح هذه الملابس!
فقالت له الآشورية: ولكنك لا تريد أن تغيرها. - بل أريد، فإني لا أطيق النظر إليها. - ولكن ألم تقل لي أن أمك حذرتك من تغيير ملابسك.
وأمعن رالف الفكرة هنيهة عند ذكر أمه، فلم يخطر في باله شيء، ودنا من الآشورية وجعل يقبلها ويقول: أنت هي أمي.
وباتت الآشورية منذ ذلك الحين الحاكمة على الغلام، ونادت الخادمة فأسرعت إليها بتلك الملابس الجديدة التي أعدتها لرالف، ثم جردته من ثيابه القديمة وألبسته الجديدة، فسر بها سرورا لا يوصف، وكان سرور الآشورية أشد من سروره، فأخذت بيده وقالت: هلم بنا الآن إلى النزهة.
وبعد حين كانت الآشورية والغلام داخلين إلى حدائق هايد بارك من بال مال، حيث كانت مس ألن قد واعدت البوليس الذي تعهد بالقبض على رالف أن يوافيها إلى هذا المكان.
وقد كان البوليس ومس ألن واقفين في المكان المعين ينتظران، وكانت مس ألن ممتطية جوادا، وكان البوليس متنكرا بملابس الأشراف، وهي بعيدة عنه قدر عشر خطوات، وكان كلما مرت مركبة فيها غلام نظر إليها نظر السائل، فتشير له إشارة سلبية برأسها، إلى أن مرت مركبة الآشورية، ودخلت إلى الحدائق وحيت مس ألن، وأسرعت مس ألن إلى البوليس وقالت: هذا هو الغلام. - حسنا لقد عرفته، وسأجمع رجالي فإنهم متفرقون.
لا أظن أنك تحتاج إليهم فإن الغلام قد شرب مخدرا يحول دون مقاومته، وأما الأرلنديون فلا أظنهم عالمون بأمرنا ولا خطر علينا منهم.
ثم تركته وأدركت بجوادها مركبة الآشورية، وأشارت لها إشارة أوقفت بعدها المركبة، ونزلت مع الغلام وأخذت بيده وسارت تتنزه به عند ضفة الغدير ووقفت في مكان معين، بينما كانت مس ألن واقفة على بعد منها تراقب ما يجري.
وعند ذلك دنا البوليس من الآشورية فقالت له الفتاة: ماذا تريد؟ - أنا هو الذي تنتظرينه فاتبعيني، فأني سأركب معك في مركبتك، ونخرج من الحدائق فلا نستلفت إلينا الأنظار.
وامتثلت الآشورية وعادت بالغلام إلى المركبة، وصعد البوليس السري، فجلس بجانبها وأمر السائق أن يسير إلى حديقة ترافلغار، وانطلقت المركبة وتبعتها مس ألن، حتى إذا وصلت إلى تلك الحديقة، أوقفها ذلك البوليس السري ذو الشعور البيضاء عند تمثال شارل الأول.
وكان هناك مركبة تنتظر أمام منزل البوليس، فحمل الغلام بيده ونقله بعنف إلى المركبة الأخرى، وأمر السائق أن يذهب به إلى سجن الطاحونة.
فلما ابتعدت عن الأبصار دنت مس ألن من الآشورية، فقالت: لقد أحسنت الطاعة فستكونين مطمئنة بعد الآن وستنالين الجزاء.
فشكرتها الآشورية وعادت إلى الحدائق، أما مس ألن فقد كانت علائم الفرح بادية بين عينيها فقالت: لقد انتصرت الانتصار الأول على الرجل العبوس، ولكنه نصر مبين.
51
عرف القراء أنه ليست مس ألن وحدها التي قبضت على الغلام، فقد اشترك معها في ذلك السير بترس توين، وكانت له اليد الطولى، فهو الذي تحصل على الأمر بالقبض عليه، وهو الذي أرسل ذلك البوليس الحازم الذي قبض على الغلام، وهو الذي أرشد مس ألن إلى الآشورية، وعلى الجملة، فقد كانت ابنة اللورد أشبه بالقائد الذي يضع خطة القتال، وكان الأسقف أشبه بقلم الاستعلامات.
وكان الأسقف قد ذهب أيضا إلى الحدائق في الموعد المعين للقبض على الغلام، فإنه كان شديد القلق، وكان يخشى أن يعترض الأرلنديون البوليس، فإما يختطفون الغلام أو تهرق الدماء بين الفريقين.
غير أن الأمور جرت على غير ما توقع، فلما وثقت مس ألن من القبض على ابن عمها وسمعت البوليس يأمر السائق أن يذهب به إلى سجن الطاحونة، عادت يتبعها خادمها إلى الحدائق حيث لقيت فيها السير بترس توين جالسا في مركبته ينتظر معرفة النتيجة على أحر من الجمر.
ونزلت عن الجواد وأعطته للخادم، وصعدت إلى مركبة الأسقف، فقالت له بلهجة الفائز: كيف ترى؟ - أظن أن الأمر قد انقضى، وقد أرسلت كاتم سري إلى سجن الطاحونة كي يرى بعينه دخول الفتى إلى السجن.
فابتسمت الفتاة ابتسام الساخر، وقالت: ألعلك نسيت يا سيدي الأسقف أن هذا الفتى الذي تشمت به هذه الشماتة هو ابن عمي؟
فنظر إليها الأسقف نظر الحذر وقال: لا أظن أنك تريدين حمايته بعد ذلك. - بل سأحميه، فإن لي مآرب لا تعلمها.
ثم نظرت في ساعتها وقالت: لقد وعدنا البوليس بجائزة ألف جنيه، فهل يقبضها من منزلك أو من منزلي؟ - من منزلك. - ولكنه لا يأتي قبل ساعة إلى أن تتم إجراءات إدخال الغلام إلى السجن، فقل لسائق مركبتك أن يذهب بطريق سانت جمس إلى منزلي؛ إطالة للزمن فأحدثك بشأن هذا الغلام.
وأمر الأسقف السائق بما أرادت، وعاد إلى الإصغاء إليها فقالت: إن أبي أراد التنكيل مرارا بأولئك الأرلنديين فما فاز مرة بشيء من مشروعاته، وإن هذا الغلام الذي جعله الأرلنديون رئيسهم الأعظم هو ابن عمي، أي ابن السير أدمون الذي مات شنقا في دبلين وضبطت إنكلترا ثروته، أما غاية أبي فهي أن يضع عنده والدة الفتى ويربي ولدها على كره أرلندا، حتى إذا بلغ سن الشباب زوجني به واسترد ثروة أبيه المضبوطة.
فقال لها الأسقف: ولكن ذلك محال، فإن الغلام محكوم عليه ولا يمكن إطلاق سراحه. - ولكنك نسيت أن أبي من أشد أعضاء البرلمان نفوذا، وأنه لا يصعب عليه أن ينال عفو الملكة عن الغلام متى طلب أن يرد إليه. - لقد أصبت، ولكن أتعتقدين أنه قد تأسس على حب بلاده؟ - إننا حين نفرقه عن أمه، وحين يشنق الرجل العبوس ونأمن شر أولئك الزعانف، نربيه على ما نشاء.
فلم يعترضها الأسقف وقال لها: يجب أن نسرح إلى منزلك، فقد واعدت كاتم سري على أن يوافيني إليه ليخبرني بما جرى للغلام. - إذن مر السائق بالإسراع.
وبعد حين كان الاثنان في غرفة مس ألن المشرفة على الحديقة، فمرت بهما ساعتان، ثم ثلاث دون أن يعود كاتم سر الأسقف، فشغل بال الأسقف وكذلك مس ألن، فإنها أنكرت بطء البوليس في العودة لقبض الجائزة.
وفيما هما على هذا الاضطراب، قرع باب الحديقة فقام الأسقف لفتحه وتبعته مس ألن، فوجد الأسقف أن الطارق كان كاتم سره فقال له: ماذا حدث؟ - إن مدير السجن ينتظر قدوم الغلام منذ ثلاث ساعات، ولكنه لم يحضر إلى الآن، وعنده أن الغلام لم يقبض عليه بعد.
فالتفت الأسقف إلى مس ألن وقال: أيمكن ذلك؟ - ذلك محال فقد حضرت ساعة القبض عليه. - لعل البوليس ذهب به إلى سجن نوايت. - وذلك محال أيضا، فقد سمعته بأذني يأمر السائق أن يسير به إلى سجن الطاحونة.
فقال كاتم السر: إذن لا بد أن يكون الأرلنديون ظفروا به واختطفوه.
فاتقدت عينا الأسقف ببارق الغضب، وخرج من باب الحديقة مهرولا، فقالت له مس ألن: إلى أين أنت ذاهب؟ - إلى السجن لأرى ماذا حدث.
ثم ذهب فتبعه كاتم سره، وبقيت مس ألن وحدها خائفة وجلة، وهي تقول: إذا كانوا قد أنقذوه، فما أنقذه غير هذا الشيطان المريد الملقب بالرجل العبوس.
52
وقد اضطربت حواس مس ألن في البدء، فجعلت تمشي تحت الأشجار بخطوات غير موزونة، وعيناها متقدتان بلهب من النار كاللبؤة تدور في محبسها فلا تجد مخرجا.
وفيما هي على ذلك قرع باب الحديقة أيضا، فأسرعت إليه وفتحته، فوجدت أمامها ذلك البوليس الذي قبض على الغلام في الحدائق، فحياها مبتسما بملء الاحترام، وقال لها: أسألك عفوا يا سيدتي عن تأخري، فقد اضطررت إليه مكرها.
وكانت سكينة هذا الرجل ولهجته الدالة على الفوز، قد اطمأنت إليه وقالت له: إذن لم يحدث لك حادث؟
فتظاهر الرجل بالانذهال وقال: لم أفهم ما تريدين. - إني أكلمك عن الغلام.
لقد قبضت عليه وكنت أنت معي في هايد بارك، ورأيتني ذهبت به وبالآشورية، وقد اقتفيت أثرنا إلى ترافلغار كما أظن، ورأيتني أخذت الغلام إلى مركبة أخرى. - نعم، وسمعتك تأمر السائق أن يذهب بكما إلى سجن الطاحونة، غير أن كاتم أسرار الأسقف بترس توين كان في ذلك السجن، فلم يرك ولم ير الغلام. - لأني لم أذهب بالغلام إلى السجن. - كيف؟ ألعل الأرلنديين اختطفوه؟ - كلا، وهو لا يزال في قبضة يدي. - إذن لماذا لم تذهب به إلى السجن على الأثر؟
فابتسم الرجل وقال لها : يوجد لذلك سببان يا سيدتي، لا يقالان في هذا المكان. - هلم معي إلى المنزل، وتقدمته إلى غرفتها المشرفة على الحديقة، حتى إذا جلسا فيها أقفلت الباب، وقالت له: قل لي الآن ماذا دعاك إلى عدم الذهاب به إلى السجن؟ - لأني خشيت أن أمر بشارع الأرلنديين فغيرت الطريق، وذهبت إلى التيمس فوضعت الغلام في سفينة. - أتريد أنك وضعته في إحدى تلك السجون التي يستخدمها البوليس لتكون سجونا مؤقتة؟ - بل وضعته في سفينة سترفع مراسيها هذه الليلة وتسافر إلى فرنسا.
فذعرت مس ألن ذعرا شديدا، ونظرت إلى هذا الرجل نظر الحيرة دون أن تجيب، فلبث الرجل يبتسم وقال لها ببرود: هذا هو السبب الأول يا سيدتي، أتريدين معرفة السبب الثاني؟
فضربت الأرض برجلها وقالت: كيف لا أريد؟ تكلم. - إن السبب الثاني يا سيدتي هو أنه يجب أن يكون الغلام في أمان. - ألعلك اخترت سفينة تبرح إنكلترا بعد بضع ساعات. - لقد خدعتك يا سيدتي بما قلته لك، فإن السفينة قد سافرت بالغلام وأمه.
فصاحت صيحة منكرة وحدث عند ذلك ما يشبه العجائب، فإن هذا الرجل ذا الشعر الأبيض سقط شعره فجأة عن رأسه، وسقطت أيضا نظاراته الزرقاء التي كانت تحجب عينيه، فوقف أمامها وجعل يضحك ويقول: أما عرفتيني يا مس ألن؟
فرجعت منذعرة إلى الوراء، وقالت بصوت يتلجلج: من أنت؟ ماذا أرى؟ الرجل العبوس؟! - كان يجب أن تعرفيني من قبل، فاعترفي أنك خسرت هذه المعركة أيضا، واستعدي للمعارك القادمة إن كان لديك سلاح.
فنظرت إليه نظرة تشف عما داخل فؤادها من العجز والحقد، وقالت: أنت ... أنت ...
نعم أنا هو ... وسوف ترينني في كل حين يا مس ألن إلى أن تحبيني، ثم تجاسر على الركوع أمامها، وأخذ يدها ولثمها، وهي ترتجف ارتجاف الحمامة أدركها البازي.
غير أن براكين الانتقام هاجت في صدرها، فأفلتت منه ووثبت إلى المستوقد فأخذت خنجرا كان عليه، وهجمت به على الرجل العبوس وهي تقول: إني أكرهك كرها لا حد له. فحاول العبوس أن يخلو من خنجرها، ولكنه أصابه في ساعده فجرحه، وأسال دماءه، وعندها هجم عليها فقبض على يدها الجميلة المسلحة، وقال لها: إن سلاح عينيك أمضى من سلاح يدك. ثم ضحك وقال: ليس بعد هذا البغض الشديد غير الحب الأكيد.
وعند ذلك جردها بلطف من خنجرها، وقال لها: إلى اللقاء يا سيدتي. ثم وثب من النافذة إلى الحديقة، وسقطت مس ألن على مقعد واهية القوى، وقد اصفر وجهها حتى خشي عليها من الموت.
53
وإيضاحا لهذه الحادثة العجيبة التي لم تدرك مس ألن غير نتيجتها، لا بد لنا أن نعود إلى حيث تركنا شوكنج قد لقي الأرلندية والدة رالف عند باب المدرسة فعرفها بنفسه، وسألها أن تتبعه.
ولم تجد بدا من الامتثال وتبعته فاستوقف مركبة، وصعد بها إليها وأمر السائق أن يذهب إلى شارع عينه له، فوجف قلب تلك الوالدة المنكودة وقالت له: لقد بت خائفة على ولدي. - يحق لك أن تخافي يا سيدتي فإنك أم، أما أنا فإني مطمئن؛ فإن الرجل العبوس وعد بإنقاذه من الخطر، ومتى وعد وفى لا محالة. - رباه ما هذا الخطر الذي ينذره. ثم قالت له ببساطة: وما هذا السواد الذي صبغت به؟ ومن صبغك؟ - لقد صبغني الرجل العبوس وقاية لي من أعدائي، وإني أخشى أن يبقيني بهذا اللون إلى آخر العمر، ولكن أتعلمين ماذا أدعى الآن؟ - شوكنج أو اللورد ويلموت. - لا هذا ولا ذاك، لقد استبدلت اللوردية بالمركيزية، وأنا أدعى الآن دونكر بستوفورو إيكوردوفا إيميندس ريستتاقي إيبورغورا، وأحمل من الأوسمة وسام الليل الأبيض، والنسر الأصفر، والأفعى الزرقاء، ألا ترين علائم الشرف على صدري، إن في هذه الأوسمة والألقاب خير تعزية يا سيدتي عن لون بياضي.
ولم تتمالك الأرلندية عن الابتسام بالرغم عما هي فيه من الاضطراب.
وبعد حين وصلت المركبة إلى الشارع الذي عينه، فأطلق شوكنج سراحها وذهب بالأرلندية إلى النهر، فأراها سفينة بخارية راسية فيه وقال لها: إني ذاهب بك إلى هذه السفينة.
فاضطربت الأرلندية وقالت: أتريد أن أبرح إنكلترا دون ولدي. - كلا، بل إن ولدك سيحضر إليها أيضا فنسافر كلنا، إن الرجل العبوس قد وعد، وهو سيفي دون شك بما وعد.
وضمت الأرلندية يديها وقالت: سيان عندي إذا برحت إنكلترا وبرحت وطني ما دام ولدي معي.
ثم ركبت قاربا صغيرا مع شوكنج، وذهب الاثنان إلى الباخرة، فاستقبل ربان السفينة شوكنج بملء الإجلال والاحترام، وسألت الأرلندية شوكنج: إلى أين تسافر الباخرة؟ - لا أعلم، فإن لدي أوامر مختومة لا يحق لي أن أفتحها إلا في عرض البحر، أما الربان فإن لديه أوامر بمغادرة التاميز، وأن يسير في جهة هولندا.
وأقامت الأرلندية في تلك الباخرة عرضة للقلق والاضطراب مدة أربع ساعات؛ لشدة إشفاقها على ولدها، إلى أن رأوا قاربا يدنو من الباخرة، ولم يكد يبلغ إليها حتى صاحت الأرلندية صيحة فرح، فإنها رأت رجلا صعد من القارب إلى السفينة يحمل غلاما، وعرفت أن الفتى ولدها، ولكنها لم تعرف ذلك الرجل، فهمس شوكنج في أذنها قائلا: هذا هو الرجل العبوس.
وكان العبوس قد سقى رالف شرابا أزال تأثير الشراب الذي سقته إياه الآشورية، فعادت إليه ذاكرته ودهش حين رأى نفسه مع رجل لا يعرفه.
فقال له العبوس: ألم تعرفني يا رالف؟ - إن لك يا سيدي صوت الرجل العبوس، ولكن ... - تريد أنه ليس لي وجهه، فهل أنت خائف مني؟ - كلا، فإن هيئتك تحمل على الاحترام. - إذن اصغ إلي يا بني. ثم قص عليه جميع ما جرى له عند الآشورية، وأخبره بالخطر الذي كان محدقا به. - ولكن إلى أين أنت ذاهب بي الآن؟ - إلى باخرة تلقى فيها أمك.
فاطمأن خاطر رالف، وكان لقاؤه مع أمه مؤثرا عليه أشد تأثير، فتركهما الرجل العبوس يتعانقان، ونادى الربان وشوكنج وأحد الأرلنديين، فقال لهم مشيرا بيده إلى جهة الجنوب الغربي: إنكم ستبيتون بعد بضع ساعات بعيدين في عرض البحر عن مرامي المدينة الإنكليزية، وستجدون بين زبد الأمواج صخرا يتعاظم كلما دنوتم منه حتى تروه مدينة عظيمة، وهي مدينة كاليس أي بدء البلاد الفرنسية، حيث يجد ابن أرلندا إخوانا في البلاد التي يستطيع الكاثوليكيون أن يدخلوا فيها آمنين إلى كنائسهم، إنكم ذاهبون إلى هذه البلاد.
فصاح شوكنج قائلا: لتحي فرنسا.
ووجه الرجل العبوس عند ذلك كلامه إلى شوكنج، فقال له: أما أنت فإنك لا تذهب الآن إلى كاليس، بل تسير مع ركب الباخرة إلى أن تجتاز قصر دوفر، وهناك تلقى دون شك باخرة البريد فتستوقفها وتعود بها، فإني محتاج إليك.
وقالت الأرلندية: ونحن، ألا نعود أبدا إلى بلادنا؟ - إنكم تعودون متى أزفت ساعة النصر، ومتى أصبح ولدك رجلا قادرا أن يقود إخوانه إلى ساحة الحرب.
ثم ودع الأرلندية وعانق الغلام، وقال لشوكنج وهو نازل من الباخرة: أعط الربان تلك الأوامر المختومة التي أعطيتك إياها متى سرتم في عرض البحر، فيعلم منها ماذا يجب أن يصنع بالغلام وأمه، أما أنت فارجع إلي حتى أرجع لك لونك القديم.
فبهت شوكنج وقال: لكن أعدائي يعرفونني، فكيف تريد لي القتل. - ليس لك أعداء غير جوهان وهو سيشنق قريبا، ولا يبقى إلا أسفك لخسارة لقب المركيز، ولكني أعيد إليك لقبك القديم وهو اللورد ويلموت، فاطمئن في الحالين. - ليكن ما تريد يا سيدي، والآن أية مهمة بقيت علينا؟ - بقي علينا مهمات أخبرك بواحدة منها، وهي أنه يجب أن نشنق مسز فانوش، فإنها تستحق الشنق.
ثم ودعه ونزل إلى قارب سار به إلى الشاطئ.
وعند ذلك صفرت السفينة وأقلعت تشق أمواج التيمس السوداء.
ولبث الرجل العبوس واقفا ينظر إليها حتى اختفت وراء الأحواض.
فابتسم وقال: لقد بات ابن أرلندا الآن في أمان يا مس ألن، وقد كان كرهك لي عظيما وسيكون حبك أعظم.
54
كان الرجل العبوس قد أتى إلى منزل مس ألن بعد سفر الباخرة بالغلام وأمه، ويذكر القراء ما جرى بينه وبين تلك الفتاة، وكيف أنه وثب من نافذة غرفتها إلى الحديقة.
وقد خرج من باب تلك الحديقة فألفى الجو مقتما، وقد بدأت عجائب الضباب تظهر في سماء لندرا.
ولهذا الضباب تأثير في تلك العاصمة، فإنه يبدأ من الفجر إلى الساعة العاشرة، فتبدده الشمس، حتى إذا حانت الساعة الرابعة بعد الظهر عاد إلى ما كان عليه، وذلك في أغلب أيام الشتاء، فيسود وجه السماء، وتظلم تلك العاصمة حتى لا يهتدي المارة إلى سبيلهم، وتنار المنازل والمخازن والطرق، ويقف البوليس وبأيديه المشاعل كي يهدي من يضل سبيله من المارة، وحتى لا يتعطل سير المركبات، فتدخل جيادها إلى الإصطبلات إلى أن ينقشع الضباب.
وقد كان الضباب في بدئه حين خرج الرجل العبوس هاربا من منزل مس ألن، فلقي مركبة واقفة فصعد إليها، وسار به السائق شوطا بعيدا، حتى إذا استفحل أمر الضباب واشتد حلك الظلام أوقف السائق مركبته وقال للرجل العبوس: أسألك العفو يا سيدي؛ فإني لا أستطيع السير. - لا بأس فإني أسير ماشيا.
ثم نقده أجرته وتطلع إلى ما حوله، وعلم أنه بات في شارع بعيد عن منزل مس ألن، بحيث لم يعد يخشى أن يدركه لاحقوه.
وعند ذلك ذهب وهو يخترق الضباب دون تردد إلى شارع سانت جيل، وتطلع إلى منزل هناك فرأى في إحدى نوافذه مصباحا، وهي علامة متفق عليها دون شك، فوضع إصبعه في فمه وصفر، فأزيل النور من موضعه في الحال، ونزل رجل إلى الباب الخارجي فقال: من الطارق؟ - هو الذي تنتظره.
ففتح الباب ودخل العبوس.
وكان هذا الرجل باردل، رئيس حراس سجن الطاحونة، الذي كانت له اليد الطولى في إنقاذ رالف كما تقدم في الرواية السابقة.
فقال له الرجل العبوس: أنت هنا منذ عهد طويل؟ - كلا، فقد برحت السجن منذ ربع ساعة. - ماذا حدث؟ - حدث ما كنا نتوقعه، فإن حاكم السجن مل الانتظار، ولكن ثقته كانت قوية بالبوليس سيمونز الذي أرسله للقبض على الغلام.
فضحك الرجل العبوس وقال: أنا هو سيمونز.
فعجب باردل وقال: كيف ذلك؟ - إن سيمونز من جمعيتنا، وهو في خدمة البوليس الإنكليزي منذ عهد طويل، فلما عهد إليه مدير البوليس الأكبر القبض على الغلام أخبرني بما جرى، وتوليت عنه قضاء هذه المهمة، والغريب أنهم عهدوا إليه أيضا القبض على الرجل العبوس.
فقهقه باردل ضاحكا وقال: ماذا يكون مصيره بعد هذه الخدعة؟ - لا خوف عليه، فقد دبرت أمره خير تدبير، والآن أخبرني عما رأيته من حاكم السجن . - لقد قلت لك إنه سئم الانتظار، ولكنه لم يقنط، خلافا للكاهن الذي أرسله الأسقف بترس توين، فإنه أيقن أن في الأمر سرا فأسرع إلى إخبار سيده. - وماذا فعل الأسقف؟ - إنه أسرع إلى السجن وهو يرغي ويزبد، فطمأنه الحاكم بقوله إن ثقته شديدة بالبوليس سيمونز، وأنه إذا لم يعد بالغلام توا إلى السجن، فما ذلك إلا لأنه يخشى هجوم الأرلنديين عليه، فهو يترقب فرصة موافقة للحضور به. - هو قال ذلك؟ وماذا أجاب الأسقف؟ - إنه عول على الانتظار، وهو الآن في سجن الطاحونة. - إذن هلموا بنا إلى ناحية السجن، وقد خطر لي خاطر جميل سأنفذه بفضل الضباب. - ماذا عزمت أن تفعل؟ - سوف ترى.
ثم تأبط ذراعه وخرج به يخترق ظلمة الضباب حتى وصلا إلى الخمارة المجاورة للسجن، فدخل العبوس به إليها وقال: إني أريد أن أكتب رسالة أعهد إليك بإيصالها إلى السجن، ثم نزع ورقة من دفتر وكتب عليها ما يأتي:
إن الغلام في قبضتي فلا خوف عليه، ولكن يستحيل إحضاره إلى السجن، فإن الأرلنديين يرودون حوله وهم على أتم التأهب.
سيمونز
وبعد أن أتم كتابتها دفعها إلى باردل، وقال له: اذهب بها إلى مدير السجن، وقل له إن أحد الشيالين جاء بها.
فامتثل باردل وانصرف، فناداه الرجل العبوس قبل أن يبتعد، وقال له: إذا اتفق أن الأسقف خرج من السجن وهو محال، فاختلق حجة للخروج من السجن، وأسرع إلي وأخبرني.
وعاد العبوس إلى الخمارة، وطلب كأسا من الشراب، وكانت الخمارة خالية لا يوجد فيها غير شخص واحد من ساقة المركبات، كان واقفا يشرب فيحدث صاحب الخمارة ويشكو له شقاءه في مهنته، ولا سيما في أيام الشتاء، فيقول: إن هذا الضباب قد ضيق علينا سبل الرزق، فإني أضطر إلى دفع أجرة المركبة 10 شلنات لصاحبها، وأضطر إلى نفقات علف الجواد، ثم أكره على الإقامة في الخمارة بسبب هذا الضباب الثقيل.
وكان صاحب الخمارة يعزيه فيقول: إن هذا الضباب سوف ينقشع.
فأجابه السائق متأوها: ولكنه ينقشع بعد انقشاع الزبائن.
وكان العبوس مصغيا إلى الحديث ، فنادى السائق وسأله أن يشرب معه كأسا، فعد السائق ذلك نعمة وتنازل؛ لأن ملابس العبوس كانت تدل على أنه من الأعيان.
ولما جلس على مائدته قال له العبوس: يبدو أنك غير مسرور. - كيف يأتيني السرور وأنا مضطر أن أدفع غدا ثمانية عشر شلنا لصاحب العربة، ولم أشتغل كل يومي إلا بشلنين. - إني عارض عليك أمرا يكون فيه إصلاح حالك، فخذ أولا هذا الجنيه كي تطمئن نفسك، ثم اعلم أني قد عقدت رهانا غريبا، وهو أن أتنكر بزي سائق مركبة، وأقودها في هذا الضباب الكثيف إلى همبستاد دون أن أضل الطريق مرة.
فقال له السائق: إن هذا محال يا سيدي، فإن السواق أنفسهم لا يهتدون.
فأجابه ببرود عرف به الإنكليز: إذن أخسر الرهان، ولكن اسمع الآن ما أقترحه عليك، إني سأدفع إلى صاحب هذه الحانة مائة جنيه رهنا على مركبتك وجوادك، فأين هما الآن؟ - بجوار الخمارة. - حسنا، وسأعطيك أنت عشرة جنيهات مقابل ثوبك وقبعتك. - هذا فوق الزيادة، وقد رضيت بهذا الاقتراح.
وعند ذاك فتح باب الخمارة ودخل باردل، فدنا من الرجل العبوس وقال له باللغة الأرلندية الاصطلاحية: إن الأسقف لا يزال في السجن، وقد سر من تلاوة الرسالة، ولكنه سيبرح السجن الآن، فقد قال للحاكم إنه غادر في منزله امرأة مقيمة وحدها، ووعده أن يعود في الغد.
فقال له الرجل العبوس: ألم يطلب مركبة يعود بها إلى المنزل؟ - نعم، وقد أرسلني لهذا الغرض، ولكني غير واثق من إيجاد مركبة، فإن الضباب شديد. - انتظرني خارج السجن ولا تبحث عن المركبة، فسأتولى أنا البحث عنها.
فامتثل باردل وأخرج الرجل العبوس محفظة من جيبه، وأخذ منها أوراقا قيمتها مائة جنيه دفعها لصاحب الحانة، وقال له: إذا لم أرجع ظهر غد المركبة والجواد لهذا السائق، تدفع له هذا المال.
ثم دفع عشرة جنيهات للسائق وقال: هات الآن ثوبك وقبعتك.
فخلع السائق ثوبه وقبعته، وهو يعجب لغرابة أطوار هذا الرجل، فلبسهما العبوس وذهب مع السائق حيث كانت المركبة، فاستلمها منه وعاد إلى باردل، فقال له: اذهب الآن إلى السجن وقل للأسقف إنك أحضرت له المركبة، وإنها واقفة عند الباب.
55
وكان الأسقف قد اطمأن قلبه لرسالة البوليس، فإن السبب الذي اختلقه الرجل العبوس فيها، وهو خوفه من الأرلنديين، كان سببا معقولا لم يدع للأسقف أقل مجال للشك.
وكان ذلك رأي حاكم السجن أيضا، فلما أنس الأسقف بموافقة الحاكم قال: لم يبق لدي الآن عمل هنا.
فقال له الحاكم: ولكن كيف تذهب يا سيدي؟
فعجب الأسقف لقوله؛ لأنه أتى إلى السجن قبل انتشار الضباب، أي قبل أن ينقطع سير المركبات، وكان باردل يسمع الحديث فأخبره بالضباب وبتعذر إيجاد المركبات، فأمره أن يبحث عن مركبة، فخرج باردل مسرورا لأنه وجد فرصة لمقابلة الرجل العبوس.
وقد عرف القراء ما جرى في الخمارة، وبعد عشر دقائق خرج الأسقف من السجن وركب تلك المركبة التي كان يقودها الرجل العبوس، وأمره أن يذهب به إلى منزل في شارع كرسنت، فدفع العبوس الجياد وانطلقت العربة تسير في ذلك الظلام الدامس، وكان سرور الأسقف عظيما بفوزه، فلم ينتبه للطريق التي كانت تسير فيها العربة، لا سيما وأن الظلام كان حالكا وشوارع لندرا كلها متشابهة، غير أنه انتبه بعد ربع ساعة حين وصلت العربة إلى ساحة كثرت فيها الأنوار، فنادى السائق وقال له: ألا ترى أنك مخطئ، فإني أظن أننا في ليستر، وهي الجهة المناقضة لجهة منزلي؟
فقال العبوس: كلا يا سيدي، فإني لم أخطئ فإننا في سيسكس. - إذا كان ذلك فواصل السير.
واجتازت العربة تلك الساحة المنورة وعادت إلى الظلام، وجعل الرجل العبوس يسير بها في الشوارع الضيقة إلى أن أوقفها عند خمارة، فأنكر الأسقف وقوفه وسأله عن السبب، فقال: إني أريد شراء شمعتين.
ثم نزل من العربة ودخل إلى تلك الخمارة.
وبعد هنيهة عاد منها إلى كرسيه، فلم ينتبه الأسقف إلى أن رجلين قد خرجا معه وتعلقا بين دواليب العربة.
ثم استأنفت العربة السير إلى أن وقفت أيضا، فأطل منها الأسقف ورأى أنها وسط سهل، فأنكر وقوفها في هذا المكان ونادى السائق مغضبا، وقال : إلى أين أنت ذاهب بي؟ - لقد وصلنا يا سيدي. - ويحك كيف وصلنا؟
ثم فتح باب العربة ووثب منها إلى الأرض، فاشتد خوفه إذ رأى بقربه رجلين، ونظر إلى ما حواليه فلم يجد أثرا للمنازل، وسمع صوت اضطرابات الأمواج، فأيقن أنه عند جسر من جسور لندرا، وقال للسائق: ألم أقل لك أيها الرجل إنك ضللت الطريق؟
فقهقه العبوس ضاحكا ثم قال: كلا يا سيدي، وسوف ترى أني لم أخطئ.
ثم وضع أصبعه في فمه وصفر، فأسرع في الحال قارب في النهر إلى الدنو من الشاطئ.
وعند ذلك دنا العبوس من الأسقف وقال: إني أعترف يا سيدي بأني حدت بك عن الطريق، ولكني لم أفعل ذلك إلا في سبيل خدمتك، فقد علمت أنك تريد أن ترى رجلا طالما تحدث الناس به، وقالوا إنك تريد أن تشنقه.
فاضطرب الأسقف لهذه الكلمات وتراجع منذعرا، أما العبوس فإنه قال ضاحكا: أتشرف يا سيدي بأن أقدم لك الرجل العبوس الذي طالما بحثت عنه، وها هو في حضرتك بزي سواق المركبات.
فأن الأسقف أنين الموجع، وحاول أن يرجع ويهرب، لكن الرجلين حالا دون فراره ووضعا أيديهما على كتفه، فقال له الرجل العبوس: إنك الآن أسيرنا يا حضرة الأسقف.
وكان القارب قد وصل في هذا الحين إلى الشاطئ، فعلم هذا الأسقف أنه بات في قبضة العبوس، ونظر نظرا تائها إلى ما حوله، فلم ير غير أعدائه، فقال في نفسه: إني لو قبضت على هذا الرجل لعاملته دون إشفاق، وهو سيعاملني دون شك بما أضمرته له من الشر، فكان رعبه شديدا.
أما الرجل العبوس فإنه قال بلهجة المتهكم: أسأل يا مولاي المعذرة؛ فإني مضطر أن أتخذ معك بعض الوسائل. ثم أخذ حبلا من الحرير فعقده على عنقه وقيد يديه، فما شكك أنهم سيخنقونه، ثم قيدوا أيضا رجليه وأنزلوه إلى القارب، فقال الأسقف في نفسه: إنهم لو أرادوا قتلي لخنقوني وألقوني في النهر، ولكنهم يريدون سجني لا محالة لغرض خفي.
وعند ذلك أمر العبوس أحد الرجلين أن يعود بالعربة إلى صاحبها، ثم أمر أحد النوتية أن يسير بالقارب، وقال للأسقف: إنه لا بد أن يكون في جيبك يا سيدي أوامر خطيرة قد ينفعني الاستيلاء عليها.
ثم أمر أحد النوتية أن يفتش جيوبه، وجرد خنجره، وتهدد به الأسقف بالقتل إذا استغاث، وبعد حين أخرج النوتي محفظة من جيب الأسقف ودفعها للرجل العبوس، فأخذها وقال: سنفحصها متى وصلنا.
56
وكان النوتية أنفسهم لا يعلمون إلى أين يسيرون بالأسير، إلى أن همس الرجل العبوس في أذن أحدهم فأرشده إلى الطريق.
ولا بد أن يكون قد أشكل على القراء كيف أن الرجل العبوس قد ظفر بهؤلاء الأعوان، ولم يكن متأهبا من قبل للقبض على الأسقف، وبيانا لذلك نقول: إن العبوس كان مقتصرا منذ عرف الأب صموئيل على مساعدة بعض الأعوان كشوكنج وغيره من الأرلنديين، ولكنه كان يعلم أنه يوجد في لندرا مائتا ألف من الأرلنديين موزعين في كل أنحائها، وأنهم جميعهم يخضعون لمن يظهر لهم الأشائر الأرلندية السرية.
فلما كان سائرا بالأسقف في العربة ووصل إلى الخمارة، أوقفها بحجة حاجته إلى شراء شمع، وكان يعلم أنه لا بد من وجود أرلنديين في تلك الخمارة، فدخل إليها ولم ينتبه إليه أحد حين دخوله، غير أنه طلب كأس شراب بلهجة أرلندية محضة، ورأى أن بعض الأنظار قد تحولت إليه، فرسم علامة الصليب بالرمز الاصطلاحي، فأجابه بعض الحضور برسم مثلها، فأظهر الإشارة الدالة على رئاسته، فدنا عند ذلك اثنان منه وقالا له: مر أيها السيد بما تريد. فقال لهما باللهجة الأرلندية الاصطلاحية: إني محتاج إلى رجلين شديدين، فماذا تدعى أنت؟
فأجابه المسئول: هاريس. - وأنت؟ مشيرا إلى الآخر. - مشيل. - إذن اخرجا معي تجدا مركبة أنا أسوقها فاختبئا بين دواليبها من الوراء، واعلما أن في هذه المركبة ألد أعداء أرلندا.
أما وجود القارب في النهر وإسراعه إلى إجابة الرجل العبوس حين صفر؛ أن العبوس كان يقيم في هذا القارب كل ليلة مع اثنين من الأرلنديين منذ جعل يسير إلى منزل مس ألن من ذلك النفق السري الذي تقدم لنا وصفه ، فكان هذان الرجلان ينتظران قدوم الرجل العبوس كل ليلة تحت الجسر ولا يبرحان موقفهما.
وكان القبض على الأسقف قد جال فجأة في خاطره، فلم يعين المكان الذي يجب أن يسجنه فيه، ولكنه خطر له والقارب يسير أن يسجنه مؤقتا في عنبر إحدى تلك السفن الضخمة التي ينقلون عليها الخيول من التيمس إلى الخارج.
ولما وصل القارب إليها التفت إلى هاريس، وقال له: إني معهد إليك الآن بمهمة خطيرة، وهي حراسة هذا الرجل، فإنه أشد إيذاء للأرلنديين من البرلمان نفسه، فاصعد الآن به إلى السفينة.
فصعد به، وأمر العبوس أن ينزل به إلى العنبر ففعل، وكان الظلام حالكا فأنار العبوس شمعته فاستنار المكان، ونظر الأسقف ذلك الرجل فانطبع رسمه في ذهنه، وقال في نفسه: إني سأنتقم إذا قدرت لي النجاة انتقاما هائلا، وأعذبه عذابا لا تذكر معه فظاعة الأقدمين.
وعند ذلك طاف العبوس بشمعته فاستوثق من أنه لا يوجد منفذ في عنبر السفينة، فألقى الأسقف على قفاه وربط منديلا على فمه كي يمنعه من الاستغاثة، ثم صعد مع الأرلندي إلى ظهر السفينة بعد أن أقفل باب العنبر وقال له: يجب أن تبقى هنا لحراسة هذا الرجل إلى أن أعود، وسأرسل إليك الطعام بعد ساعة فاحذر أن تغادر السفينة، وأنا أوصيك بالحرص على الأسير باسم أرلندا، ثم يجب الاحتياط لكل أمر، فإن من عادة بعض المتشردين أن يناموا في أمثال هذه السفن، فاحذر أن تدع أحدا منهم يدخل.
فقال هاريس: ولكن قد يتفق أيضا أن يمر البوليس البحري لمراقبة أولئك اللصوص المتشردين في تلك السفن، فإذا أرادوا الصعود إلى هذه السفينة فماذا أصنع؟ - إذا رأيت البوليس دنا من السفينة بغية الصعود إليها، فاخنق الرجل المسجون بالعنبر. - حسنا، سأفعل كل ما قلته.
فتركه الرجل العبوس وعاد إلى البر مع أحد الأرلنديين، فنظر في ساعته فإذا الساعة العاشرة، فقال في نفسه: إن الباخرة التي سافرت بالغلام وأمه وشوكنج أقلعت من التيمس في الساعة الثالثة بعد الظهر، فيقتضي لها أربع ساعات كي تخرج من التيمس فتلاقي بعد ساعة باخرة البريد، فيوقفها شوكنج ويبلغ بها الشاطئ في الساعة التاسعة.
ويركب القطار القادم إلى لندرا ويعود إليها في فالافيه في هذه الليلة في الساعة الحادية عشرة.
وعند ذلك ذهب مع الأرلندي فاشترى طعاما، وأرسله معه إلى هاريس، وذهب توا إلى المحطة كي ينتظر شوكنج.
فلما وصل القطار كان شوكنج أول النازلين منه، فاستقبله العبوس وقال له: أأعطيت تعليماتي للربان؟ - نعم. - لقد اطمأن بالي الآن على الغلام وأمه، فلننظر الآن في شأن مسز فانوش. - ماذا يجب أن نصنع بها؟ - نقبض عليها بموجب أمر يقضي بالقبض على هذه المرأة موقع عليه من ناظر العدلية، غير أني مضطر إلى تغيير زيي، وأنت جائع دون شك، فادخل إلى هذا المطعم وانتظرني فيه، وحذار أن تفرط بالشراب. - وأنت إلى أين ذاهب يا سيدي؟ - إن لي غرفة في كل شارع، وغرفتي في هذا الشارع على قيد خطوتين من المطعم.
ثم افترقا فدخل شوكنج إلى المطعم، وبعد ربع ساعة عاد إليه العبوس وهو بثياب الشرطة، فخرج به إلى عربة، وأمر السائق أن يذهب به إلى منزل السير بترس توين، فاضطرب شوكنج وقال: كيف نذهب إلى هذا الرجل؟
فابتسم العبوس قائلا: ذلك لأنه ليس في منزله.
57
يذكر القراء أن مسز فانوش اعترفت بجميع جرائمها لرئيس الشرطة، وأن مس ألن دفعت ضمانة مالية فبقيت في منزل الأسقف.
ولما انصرف رئيس الشرطة قال لها بترس توين: إن تهمتك خطيرة جدا، ولا بد من محاكمتك بعد أسبوع، وليس بعد المحاكمة غير الحكم بالإعدام، ولكني سأسهل لك سبل الفرار إلى البلاد الأميركية قبل محاكمتك، فابقي في منزلي مع خادم غرفتي إلى أن أعود.
ثم تركها وذهب إلى الحدائق، فمنزل اللورد بالمير، فسجن الطاحون، إلى أن وقع أسيرا في قبضة العبوس، فسجنه في عنبر السفينة كما قدمناه.
أما العبوس فإنه ذهب مع شوكنج إلى منزل الأسقف، وكان متنكرا بثياب الشرطة، ولديه محفظة أوراق الأسقف، وهي تحتوي على أموال كثيرة، وبينها الأمر بالقبض على فانوش، فلما وصل إليه استقبله الخادم فأخبره أنه آت من قبل الأسقف للقبض على المرأة باسم الشرع.
فسأله الخادم إذا كان يحمل رسالة من الأسقف.
فقال له: بل أتيتك بخير من الرسالة، فإنه أعطاني محفظة أوراقه المالية، وفيها نحو خمسة آلاف جنيه، وأمرني أن أدفعها إليك فتكون خير علامة.
فأخذ الخادم المحفظة فعلم أنها لسيده، وعد ما فيها من الأوراق فوثق أن القبض على فانوش كان برضى مولاه، فلم يعترض وأدخل الرجل العبوس وشوكنج إلى غرفة فانوش.
أما فانوش فإنها حين علمت حقيقة مصيرها تمكن منها اليأس فسقطت مغميا عليها، فأمر الرجل العبوس شوكنج أن يحملها وخرجا بها إلى مركبة، فسارت بهما إلى منزل قاضي التحقيق، وهناك خرج العبوس من المركبة ودخل إلى منزل القاضي، فسأله باسم الأسقف أن يعيد إليه أوراق التحقيق في قضية مسز فانوش، كي يرسلها إلى سجن نوايت حذرا من فرارها، فدفعها إليه، وعاد بها إلى المركبة، وأمر سائقها أن يذهب إلى سجن نوايت.
وكانت فانوش لا تزال مغميا عليها، ولكنها استفاقت في الطريق وذعرت، وقالت: أين أنا؟
فضحك الرجل العبوس وقال: إنك أيتها العزيزة، بين بوليسين يذهبان بك إلى سجن نوايت، ولا تخرجين منه إلا يوم تنفيذ الإعدام.
فارتعشت فانوش وقالت: رباه! إني سمعت هذا الصوت من قبل.
فعاد العبوس إلى الضحك، وقال لها: إن هذا المصير يعلمك عاقبة خيانة الرجل العبوس.
فصاحت فانوش صيحة منكرة حين علمت أنها باتت في قبضة هذا الداهية، وعادت إلى الإغماء.
وبعد هنيهة أقفلت أبواب ذلك السجن الرهيب على تلك المرأة التي لم ترحم الأطفال، فلم يرحمها القضاء.
وعاد الرجل العبوس إلى المركبة، فقال له شوكنج: إلى أين نذهب الآن؟ - إلى همبستاد، فقد حان لي أن أفي بما وعدتك به الآن، وأن أرد لك لونك القديم.
فسر شوكنج وسارت بهما المركبة، فقال له شوكنج وهما على الطريق: إنك يا سيدي قد أنقذت الغلام وأمه وأرسلتهما إلى باريس، فبت في مأمن عليهما، ولكن أنت؟
فابتسم العبوس وقال: أما أنا فإن مهمتي لم تنته بعد، ولا يحق لي أن أبرح أرلندا، فإن الأرلنديين ينتظرون أن يبلغ زعيمهم الأكبر مبلغ الشباب، فيقودهم إلى النصر، ولكن هذا الجيش السري يحتاج الآن إلى قائد حازم نشيط ورجل نبيل يدبر هذه المؤامرة التي اكتنفت إنكلترا بأسرها، وإن الأب صموئيل يحتاج إلى شخص مثلي.
فهز شوكنج رأسه وقال: كل ذلك رائع، ولكن يوجد عدوان شديدان عولا على إهلاكك، وهما السير بترس توين، ومس ألن. - أما الأول فلا أخشاه، وأما الثانية فسأخافها إلى أن تحبني. - ألا تزال طامعا بقلب الفتاة؟ - نعم.
وقد قال هذا القول بلهجة الواثق، غير أن شوكنج لم يثق بفوزه، وقال له بعد سكوت قصير: إني أعجب كيف تميل إلى غرام هذه الفتاة، وهي ليس لها من الإنسانية غير ظواهرها! - ولكنها تصبح يوم تحبني عبدة لي، فأستخدمها كما أشاء لخدمة الأرلنديين.
فهز شوكنج رأسه أيضا وقال: لا أنكر عليك عنادك، فإنك من النوابغ، ولكل نابغة هوس.
ووصل الاثنان إلى همبستاد، وكان الفجر أوشك أن ينبثق، فركب العبوس مزيجا ودفعه لشوكنج وقال له: اطل بهذا المزيج ما اسود من جسمك، وادخل إلى الحمام واغتسل يذهب عنك السواد.
وبينما كان شوكنج في الحمام كان العبوس في غرفة يغير زيه، وقد خلع عنه لباس البوليس وانتزع شعوره البيضاء وأزال آثار الغضون والتجعيد عن وجهه، فأصبح شابا جميلا تشوق رؤيته الأبصار، ثم ودع شوكنج وقال: إني ذاهب لأعد سجنا موافقا لحضرة الأسقف يليق بمقامه.
وخرج من المنزل وعاد إلى لندرا، وأعد ذلك السجن، ثم ذهب إلى شاطئ التميس وصفر فأسرع قارب إلى الشاطئ وفيه ذلك الأرلندي.
فقال له العبوس: ألعلك فعلت ما أوصيتك به؟ - نعم، إني أخذت الزاد إلى هاريس. - ووكيف حال الأسير؟ - إنه لا يزال مسجونا في العنبر. - إذن سر بي إليه، إني أحب أن أراه.
فدفع الأرلندي إلى المكان التي كانت السفينة راسية فيه، حتى إذا وصل إليه صاح العبوس صيحة دهش وحذر؛ لأنه لم يجد أثرا للسفينة، وقد اختفت فاختفى معها الأسقف دون شك.
58
ولا بد لنا لمعرفة السبب في اختفاء السفينة مع الأسقف، أن نرجع بضع ساعات قبل وصول الرجل العبوس إلى خمارة قرب الشاطئ التي كانت راسية عنده السفينة.
كان في هذه الخمارة طائفة من الطبقة السفلى يعاقرون المدام، وقد انتصف الليل، فخفت منهم العقول وتثاقلت الأجسام، وإن بينهم ثلاثة يشربون على مهل وحذر، خلافا لسائر الحضور، وقد انفردوا حول المائدة وجعلوا يشربون ويتباحثون.
وبينما هم كذلك دخل عليهم رجل دلت ملابسه على الفقر المدقع، وهو نيقولا الذي عرف القراء عنه أنه كان شريك جوهان في التربص للرجل العبوس بغية القبض عليه ونيل الجائزة، فجلس بينهم وسألهم أن يطلبوا له كأس شراب لحسابهم.
فقال له أحدهم: أرى أنك أصبحت فارغ الوطاب بادي الأنقاض. - بل إني بت ليلة أمس على الطوى، ولم يتيسر لي الاحتيال على الطعام، فأنا أحتال على الشراب. - كيف ذلك؟ ألعلك تركت العمل في الأحواض؟ - لقد مللت هذه المهنة الشاقة، ويئست من رزقها الضيق فما ضيقت إلا على نفسي. - أتريد أن تشترك معنا في مهمة، يضمن لك فيها الطعام والشراب أسبوعا، ثم يكون لك بعد ذلك خمسون شلنا، تنفقها على ما تريد من أغراضك. - ما هي هذه المهمة؟ - هي أن المستر مانتاج تاجر الخيل الشهير عهد إلينا بإرسال بعض جياد إلى بولونيا بطريق التيمس، ونحن في حاجة إلى رابع. - إذن سأكون رابعكم، فقد تعودت خوض البحار.
وأقام الأربعة في تلك الخمارة إلى الساعة الأولى بعد نصف الليل، ثم ذهبوا جميعهم إلى تلك السفينة التي كان الأسقف سجينا فيها.
وكان هاريس لا يزال فيها يحرس الأسقف، فلما تقادم الليل اضطجع وهو بملابسه فوق باب العنبر.
واستيقظ حين سمع أصوات الأربعة، وصعد إلى ظهر السفينة، فأدرك لفوره أنه لا يستطيع لقاء أربعة، وأنه لا سبيل معهم إلا بالحيلة، فقال لهم بلهجة مستاء: ماذا تريدون؟
فأجابه زعيمهم: إننا نريد أن نستخدمك، ولا إخالك ترفض خمسين شلنا. - إن ذلك يتعلق بالمهمة التي تعهدون بها إلي.
فقال له الزعيم: ماذا تعمل في هذه السفينة؟ - وأنتم ما تريدون بالقدوم إليها ؟
قال الزعيم: أتشرف بإخبارك أني ربان هذه السفينة التي شرفتها الليلة بزيارتك. - إذن، أسألك المعذرة يا سيدي، فإني لم أجد محلا أبيت فيه، فأويت إليها. - لا بأس، ولكني أخيرك الآن بين أمرين، وهما إما أن تغادر السفينة فتقيم بقية ليلتك في غير هذا المكان، أو تسافر معنا إلى حيث نحن مسافرون إن كنت تعرف مهنة البحرية. - أما هذه المهنة فإني من أكفائها، فقد اشتغلت فيها عشرة أعوام بوظيفة مرشد للسفن. - إذن نعهد إليك بالدفة.
فسر هاريس لذلك؛ إذ خطر له خاطر سريع، وذلك أن الأسقف لا يفوه بحرف حين يشعر بسفر السفينة؛ لاعتقاده أن جميع من فيها من الأرلنديين، فإذا سارت السفينة وكانت دفعها بيدي، دفعت بها إلى الصخور فتحطمت وغرق الأسقف؛ لأنه مقيد اليدين والرجلين، أما أنا فأسلم لأني أجيد السباحة، وأما غرق الأسقف فهو جل ما يتمناه رئيسنا، فأكون قد أقمت بما تعهدت به؛ لأني لا أستطيع لقاء أربعة.
ولما خطر له هذا الخاطر رضي أن يسافر مع الجماعة، فصعدوا جميعهم إلى السفينة ورفعوا الصواري وأعدوا القلوع، وأقاموا ينتظرون ورود الجياد إلى أن وردت الساعة الخامسة، فأصعدوها إلى السفينة وأقلعت من مرساها تشق عباب التميس.
ولما سارت السفينة وفرغ نيقولا من مهمته وهي نقل الجياد، وحاول أن ينام، وخطر له النوم في العنبر اتقاء للبرد، ففتح بابه ونزل إليه وهو في ظلام دامس.
ولم يكد يستقر فيه حتى سمع أنينا ضعيفا، فأخذ علبة كبريت من جيبه، وأنار أحد عيدانها ونظر إلى مصدر الأنين، فرأى رجلا ممددا على الأرض مقيد اليدين والرجلين مكموم الفم، فأسرع إليه ونزع الكمامة عن فمه.
فقال له: من أنت؟
فأيقن الأسقف أن هذا الرجل لم يكن عارفا بأمره.
فقال له: إني رجل غني إذا أنقذتني مما أنا فيه كافأتك بمائتي جنيه، فقل لي أنت من أنت؟ - إني رجل من فقراء الإنكليز أتيت هذه السفينة عاملا فيها، وهي تشحن جيادا إلى بولونيا. - إذن أنت لست من الأرلنديين؟ - كلا. - وماذا جرى للرجل الذي كان في السفينة ؟ - إنه لا يزال فيها وهو يدير دفتها. - أتستطيع إنقاذي؟ - دون شك يا سيدي، فإني أخبر الربان بأمرك فيعود بالسفينة إلى البر وتخرج منها حرا آمنا. - كلا، فإني لا أحب أن يعلم أحد بأمري. - إذن يوجد طريقة أخرى لإنقاذك، وهي أن أفتح إحدى النوافذ وألقيك منها إلى النهر، فلا يشعر بسقوطك أحد. - إنها طريقة صالحة، ولكني لا أعرف السباحة. - أما أنا فإني أجيدها، وسألقي نفسي إلى المياه في إثرك، ونحن على مسافة قريبة من البر فأبلغ بك إليه سالما بإذن الله. - بل تلقي نفسك قبلي، فإني أخاف الغرق. - كما تشاء. - إذن ابدأ بفك قيودي، فقد وافقت على هذه الطريقة.
ففك نيقولا قيده، ثم فتح إحدى نوافذ السفينة، وتدلى منها إلى المياه، فاقتدى به الأسقف، واستمرت السفينة في سيرها دون أن يشعر أحد بفرار الاثنين.
59
مضى على ذلك أسبوعان جرى في خلالهما كثير من الحوادث، فإن شوكنج عاد إلى لون البياض، وصدر الحكم بالإعدام على قاتل بادي فأعدم شنقا، وصدر الحكم أيضا على فانوش بالإعدام فتعين موعد تنفيذه هذا اليوم الذي سنجد فيه الرجل العبوس وشوكنج.
في الساعة السادسة من صباح ذلك اليوم، أي قبل أن تشرق الشمس، كان الناس يتقاطرون أفواجا إلى جهة سجن نوايت ليشاهدوا شنق مسز فانوش، تلك المرأة العاتية التي قتلت كثيرا من الأطفال، فصح فيها قول الكتاب: أنذر القاتل بالقتل ولو بعد حين.
وكانت جميع المحلات العمومية المشرفة على السجن قد أجرت نوافذها للراغبين بمشاهدة قضاء الإنسان على الإنسان، وارتكاب القضاء تلك الجريمة نفسها التي يعاقب الناس عليها، أي جريمة القتل.
والعادة في بلاد الإنكليز أن الناس يقبلون على هذه المشاهد إقبال الفرنسيين في بلادهم على ملاعب الروايات؛ ولذلك لم تبق نافذة في تلك المحلات دون تأجير.
وكان بين أولئك المتفرجين، ومعظمهم من أهل المقامات، فتاة مبرقعة بنقاب كثيف ومعها وصيفة لها، وقد استأجرتا نافذتين وجاءتا قبل جميع الناس لشوقهما إلى مشاهدة هذا المنظر الكريه.
وكان جميع المستأجرين حضروا وجلسوا في نوافذهم المعينة، ما خلا نافذة واحدة لم يكن فيها أحد ، ولكن كان عليها كتابة تدل على أنها مأجورة كي لا يقيم فيها غير صاحبها.
وكانت هذه الفتاة تنظر من نافذتها إلى ساحة الإعدام، فترى أعوان الجلاد ينصبون المشنقة، ثم تعود إلى تلك النافذة الخالية فتنظر إليها لتعلم إذا كان قد أتى صاحبها ولتعرف من هو.
وبعد حين أقبل رجلان وهما بملابس تدل على الفقر، فجلس أحدهما في تلك النافذة، فعجب الناس لظواهر فقره واستئجاره هذه النافذة بالمال الكثير، ولكنهم قالوا إنه قد تنكر بهذا الزي لغرض من الأغراض، أو ليكون حرا بالفرجة كما يشاء دون أن يتقيد بعادات الأغنياء وآدابهم المألوفة، وكان هذان القادمان العبوس وشوكنج.
أما الرجل العبوس فإنه أطلق نظره بين الحاضرين، حتى أصاب تلك الفتاة ذات النقاب، فارتعش وتمتم قائلا: لقد قدر لي أن أراك هنا وهذا ما كنت أتوقعه.
ثم ترك شوكنج ومشى إليها بين ازدحام الناس، فوقف أمامها وقفة الاحتشام وقال لها: ألست يا سيدتي بحضرة مس ألن بالمير؟
فاضطربت الفتاة وقد عرفته وقالت له بصوت يتهدج: ادن مني نتحدث، فإني لم أرك منذ عهد طويل.
فدنا العبوس وكان الجلاد قد أعد المشنقة، فانشغل الناس عنهما بتلك المناظر، وبدأ الرجل العبوس الحديث، فقال: لقد كنت واثقا يا مس ألن أني سأجدك في هذا المكان. - ألعلك تشكك يا سيدي بأني أحب أن أرى نتيجة انتصارك، فإنك أنت سبب إعدام هذه المنكودة.
فابتسم العبوس وقال: إذا كان الله قد ولاني الانتصار للمظلومين، ألا يجب علي الانتصار للحق والقضاء على الظالمين؟
ألم تستحق هذه المرأة ما تلاقيه من عقاب القتل، بعد أن قتلت كثيرا من الأطفال الضعفاء؟
ثم غير مجرى الحديث وعاد إلى الابتسام، وقال: إني منذ أسبوعين لم أتشرف بلقائك يا مس ألن، فهل لا تزالين على كرهي؟ - بل إن هذا الكره قد زاد حتى لم يعد له حد.
فأخذ العبوس يدها بيده، فشعر أنها تضطرب اضطرابا خفيفا، وقال: أحقا إنك تبغضينني؟ - ليس بعد هذا البغض بغض. - هو ما تقولين، فقد دنت الساعة . - أية ساعة؟ - ساعة يستحيل هذا الكره إلى حب أكيد، يعادل ذلك البغض الشديد.
فلم تجب مس ألن بشيء، ولكنها تنهدت تنهدا خفيفا، لم يكد يظهر لاجتهادها في إخفائه، ثم نظرت في ساعتها كأنها تريد إشغال نفسها، إخفاء لتأثرها، وقالت: لم يبق لدي من الوقت غير عشر دقائق، فهل تأذن لي بسؤال؟ - سلي يا سيدتي ما تشاءين. - إنك وضعت ابن عمي العزيز في محل أمين، أليس كذلك؟ - دون شك، وإذا شئت أخبرتك بتفاصيل أمره، فهو الآن مقيم في فرنسا يتربى في إحدى مدارسها العالية إلى أن يصبح رجلا، وسترين يا مس ألن حين تدنو الساعة، ويتولى زعامة الأرلنديين ما يكون من أمره، فإنه خلق للزعامة.
وكانت يدها لا تزال في يده، فشعر أنها تزيد اضطرابا، ولكنها أخفت ما بها وقالت: أشكرك عما أخبرتني عنه، فهل لك أيضا أن تخبرني عما فعلته بالسير بترس توين؟
فارتعش الرجل العبوس لهذا السؤال، ونظر إليها نظرة حاول أن يخترق بها أعماق قلبها، ويكتشف مخبآت أسرارها، ثم قال لها: ألا تعلمين ما حدث له؟
فأجابته بلهجة تشف عن الصدق: إني لم أره منذ أتيتني متنكرا بثياب البوليس.
فخدع الرجل العبوس بظواهر صدقها، وتوهم أنها تقول الحق، وقال لها: اعلمي يا مس ألن أني اختطفت هذا الأسقف كما اختطفت الغلام، وذلك في الليلة نفسها، وسجنته في سفينة بحراسة رجل أرلندي يدعى هاريس.
واتفق لنكد الطالع أنهم احتاجوا إلى هذه السفينة، لنقل جياد عليها من فرنسا، فاضطر هاريس أن يكون فيها بوظيفة مدير الدفة، احتفاظا بالأسير.
فمخرت في التميس وانتشر الضباب بعد حين، وكان خير مساعد له في تحقيق مشروعه، غير أنه سمع سقوط جسمين في المياه، فظن أن أحد البحارة قد أنقذ الأسقف السجين في العنبر، ولم يستطع أن يتحقق هذا الأمر؛ إذ لم يكن يستطيع ترك الدفة، فلم يجد بدا من تنفيذ مشروعه وقد نفذه. - ما هذا المشروع؟ - هو أنه دفع السفينة إلى الصخور فتحطمت، ونجا هاريس سباحة دون أن يعلم ما حدث للسجين لكثافة الضباب ، ولكننا نرجو أن يكون الأسقف ...
وهنا توقف العبوس عن الكلام، لما سمعه من ضجيج الناس، فإن الجلاد أحضر مسز فانوش إلى المشنقة، وهي تصيح وتستغيث وتبكي وتحاول الإفلات من أيدي الجنود.
ولكن الجلاد أسرع إلى إلباسها القبعة السوداء، وأوقفها في موقف الإعدام، ثم وضع الحبل مسرعا في عنقها وأدار لولبا، فهوت تلك الجانية، وجعلت رجلاها ترقصان في الفضاء.
وعند ذلك خرج الرجل العبوس بمس ألن، وقال لها: كيف رأيت يا سيدتي؟
وقالت له بلهجة مؤثرة، خفقت لها جوانحه: رأيت يا سيدي أنك شخص هائل، فأنا أكرهك ولكني أعجب بك.
ثم حاولت التخلص منه فمنعها، وقال لها: إني أحب أن أراك، فعيني لي موعدا. - أتجسر أيضا أن تجيء إلى منزلي؟ - نعم لأنك ستحبينني، إذا لم تكوني قد أحببتني. - إذا كانت لك الجرأة، فاحضر إلي من ذلك الدهليز الذي كنت تأتي إلي منه من قبل. - متى؟ - غدا عند نصف الليل. - سأكون عندك في الساعة المعينة.
ثم حياها وأشار لشوكنج أن يتبعه.
60
وفي اليوم التالي لهذه الحادثة كان قارب يخترق مياه التميس قبل انتصاف الليل بحين وجيز، وفي هذا القارب رجلان أحدهما شوكنج وهو يجدف، والآخر الرجل العبوس وهو واقف في مؤخر القارب حاسر الرأس، متشحا بردائه، تائها في مهامه التفكير.
وكان الضباب كثيفا حتى إن أنوار الغاز كانت تظهر ضئيلة، فتشبه النور خلل الرماد.
وكان شوكنج يسير بالقارب وهو يتنهد من حين إلى آخر، فلا ينتبه إليه العبوس إلى أن دنا من جسر وستمنستر.
وقال لمولاه: أحقا يا سيدي أنك ذاهب إلى الموعد؟
فانقطع خيط تصور الرجل العبوس لكلام شوكنج، وقال له: دون ريب.
فتنهد شوكنج أيضا وقال له: إني لو كنت في مكانك لفعلت غير ما تفعل. - ماذا كنت تفعل؟ - كنت أرجع عن هذا الفكر. - لماذا؟ - لأني أخشى أن يكون في الأمر مكيدة.
فابتسم العبوس دون أن يجيب، ولكن شوكنج لم يعتبر نفسه مغلوبا وقال: ربما كنت مصيبا في هزئك بي يا سيدي، ولكني لا أستطيع مقاومة ما يحدثني به قلبي . - وبماذا يحدثك قلبك؟ - بأنك إذا ذهبت إلى الموعد أصبت بمكروه.
فهز العبوس كتفيه، ونظر في ساعته على نور سيكارته. - لم يبق لدينا غير ربع ساعة، فأسرع في التجذيف؛ إذ لا يجمل بي أن أدع هذه الحسناء تنتظر. - إذن أنت واثق من حب هذه الحية الرقطاء. - كل الوثوق.
ورفع شوكنج عينيه إلى السماء، كأنه يلتمس عفو الله لهذا الشخص الذي أضله الغرام، فإنه ليست مس ألن التي تهواه، بل هو الذي فتن بهواها.
وكأنما العبوس قد أدرك أفكاره فقال له بجفاء: أسرع إلى التجذيف قبل فوات الأوان.
فامتثل شوكنج مكرها، وعاد العبوس إلى تصوراته إلى أن وصل القارب إلى مدخل الدهليز، وربط شوكنج حبلا بحلقة حديدية كانت في الجدار، وربط بطرفه الأخير القارب، فقال له الرجل العبوس: انتظرني هنا إلى أن أعود.
غير أن شوكنج حاول أن يجادله أيضا على رجاء إقناعه، وقال: إنك إذن لا تصدق حديث قلبي؟ - كلا. - ولا تزال تظن أن الفتاة تهواك؟ - سأتوثق من حبها بعد ساعة.
ورفع عينيه أيضا إلى السماء كأنه يستشهد الله على جنون مولاه، ثم قال: ألديك مسدسك وخنجرك؟ - كلا.
فلم يتمالك شوكنج من إظهار غضبه وقال: ليس بعد هذا الجنون جنون، أتعرض بنفسك لهذه الأخطار ثم لا يكون معك سلاح؟
فضحك العبوس وقال له: ويحك أيها الأبله، ومتى كان العشاق يذهبون إلى مواعيد الغرام مدججين بالسلاح؟
ثم تعلق بالحلقة، فوثب منها إلى مدخل الدهليز قائلا لشوكنج: انتظرني إلى أن أعود، فإذا طلع الصباح ولم أعد، فاذهب إلى كاليس حيث ينتظرك الغلام وأمه، وخذ الأوراق من الربان، واعمل بما تراه مكتوبا فيها.
ثم توارى عن الأنظار.
فلما بقي شوكنج وحده قال: رباه لقد خفت، إن حديث قلبي صادق لا ريب فيه.
وإنما كان خوف شوكنج على العبوس لا على نفسه، إنه انتشله من وهدة الفقر المدقع إلى قمة النعيم، فبات وهو المتسول الشحاذ آمنا طوارق الأيام، لا يخاف الفقر، ممتعا بالألقاب والوسامات، لا تفرغ جيوبه من المال، في حين أنه لم يكن يرى الدينار إلا في أحلامه ، فهاله ما رآه من تهور العبوس؛ لأنه لم يكن يعتقد بصدق حب النساء، وكان يعتبر أن المرأة لا هم لها إلا خديعة الرجل، ولا شاغل لها غير العبث به من الصباح إلى المساء.
لما بقي وحده في القارب جعل يتأوه ويتنهد ويقول: لا شك أن لكل نابغة ضربا من الهوس والجنون، وأن العبوس من النوابغ، ولكنه أصيب بهوس الحب وألقى بنفسه إلى الفخ الذي نصب له، ولولا اعتقادي برجحان عقله سيجد مخرجا، لقتلت نفسي قانطا.
وكان شوكنج على اعتقاده بوجود المكيدة، قوي الثقة بذكاء سيده ومقدرته على النجاة، فمثلت له الوحدة والمخاوف أمورا لم تكن تجري إلا في مخيلته، فتوهم في البدء أنهم يقتلون العبوس وأنه يسمع صوت نزعه، ثم توهم أن الدهليز ملؤه براميل البارود لا تلبث أن تنسفها أيدي المعتدين، فيقتل العبوس شر قتل، غير أنه لم يجر شيء من ذلك إلا في مخيلة شوكنج لاشتداد مخاوفه، فقد كانت السكينة سائدة ولم يصدر أقل صوت من الدهليز.
ولكن شوكنج سمع فجأة صوتا خارجا من النهر لا من الدهليز، وكان الصوت صوت مجازيف تعمل في المياه بانتظام تام، فقال في نفسه: إما أن يكون هؤلاء من الصيادين، أو يكونوا من البوليس، وفي كل حال فإنهم لا يرونني لكثافة الضباب واشتداد الظلام.
وكان هذا الصوت يزيد ارتفاعا مما يدل على أن أولئك الملاحين يدنون من قاربه، ولكنه لم يكن يراهم بل كان يسمع أصواتهم متقطعة، فعلم أن الحديث كان دائرا بينهم على إعدام فانوش وجوهن، ولكنه علم أن صوت أحدهم كان صوت نيقولا رفيق جوهن الذي أعدم، فاضطرب وندم لتغيير لون السواد؛ لأن هذا الرجل كان من أصدقاء جوهن، وكان شوكنج من أعدائه، فخطر له أن يلقي نفسه في النهر ويعود سباحة إلى البر.
وفيما هو يتردد في تنفيذ ما خطر له كان قارب الملاحين قد دنا من قاربه، ووثب منه رجلان إليه فقبضا على عنق شوكنج وألقياه في ذلك القارب، فحاول أن يتخلص منهما وصار يستغيث، فصاح بهما رجل كان لا يزال في القارب، وقال لهما: كمماه، وإذا صاح اقتلاه. فعلم شوكنج أن هذا الآمر كان الأسقف بترس توين، كما علم أن القابض عليه كان نيقولا.
أما نيقولا فإنه ضغط على عنقه ضغط المنتقم، وقال له: إنك كنت السبب في قتل جوهن مع أنه كان رفيقك، فستنال جزاءك.
وعندها قال لهما الأسقف من القارب الثاني: اقتصرا الآن على تقييد هذا، ثم اصنعا به بعد ذلك ما ترومان، فقيداه وكمماه.
فصعد الأسقف وقال لهما: سيرا بي الآن إلى سلم جسر وستمنستر، فإنهم ينتظرونني عند اللورد بالمير، فذهبا به إلى الجسر، فترك القارب وصعد إلى البر.
ثم قال للرجلين: إنكما تعلمان ماذا يجب أن تصنعاه، فاذهبا الآن واصنعا ما أمرتكما به.
عاد الرجلان إلى موقف شوكنج الأول عند الدهليز، فكان شوكنج يقول في نفسه: لا شك أن العبوس قد سقط في الفخ الذي نصبته له تلك الفتاة الداهية، وأن الأسقف لم يغرق في النهر كما كنا نتوهم، وهو ذاهب إلى منزل اللورد بالمير.
أما الرجلان فإنهما حين وصلا إلى الدهليز عادا إلى سفينتهما، فأخرجا مخلين من الحديد ودنوا من حائط الدهليز، فجعلا يفتحان فيه ثقبا تحت خط المياه، فنظر شوكنج ما يصنعان وفهم مرادهما، إنهما كانا يحاولان فتح ممر للمياه إلى الدهليز فتدخل المياه إليه، فإما تغرق الرجل العبوس إذا كان في داخله، أو تقطع عليه خط الرجوع إذا كان في المنزل.
وهنا انقبضت نفس شوكنج بعد أن تمثلت له الحقيقة الهائلة، ولم يجد معزيا له غير الصلاة، فجعل يبتهل إلى الله كي ينقذه وينقذ العبوس من هذا الخطر العظيم.
ولكن نيقولا ورفيقيه كانا يواصلان الثقب في الجدار، وينزعان حجارته حجرا حجرا، إلى أن فتحا ثقبا متسعا، فارتج قاربهما حتى أوشك أن يغرق؛ فإن مياه النهر دخلت بعنف عظيم إلى الدهليز.
61
ولنقتف الآن أثر الرجل العبوس، فإنه صعد من القارب إلى فم الدهليز، ووثب منه إلى الأرض، فسار في ظلامه المخيف وهو مطمئن البال واثق من حسن النتيجة، حتى إنه لم يحمل سلاحا.
وتقدم لنا وصف هذا الدهليز حين اكتشفته مس ألن مع أبيها وبادي، فلا نعود إليه، بل نقول إن العبوس اخترقه حتى بلغ إلى بابه السري ففتحه، ودخل منه إلى غرفة مس ألن، فوجدها معطرة منورة، ولكنه لم يجد مس ألن فيها، وقال في نفسه: لا بأس، إذ يجب أن أكون السابق في مثل هذه المواقف، لكنه ارتاح إلى ما رآه من زيادة التأني في مفروشات الغرفة، واستدل من ذلك على ارتياح الفتاة.
ولكنه لم يكد يستقر في تلك الغرفة حتى دخلت مس ألن تتهادى في مشيتها، وقد لبثت ثوبا من المخمل الأسود كانت به فتنة للناظرين، فدنت من الرجل العبوس، ومدت يدها إليها وصافحته. - يسرني أنك دقيقة في مواعيدك.
ثم جلست على مقعد، وأشارت له بالجلوس بقربها.
وقالت له مبتسمة: ألا تزال تحبني يا سيدي؟ - كما تحبينني أنت.
ثم ركع عند قدميها وأخذ يدها بين يديه، وجعل يكلمها بأفصح لغة يوحيها الغرام، ويعرب لها عن وجدانات نفسه بألفاظ لا ترق وتعذب لدى شعب من الشعوب رقتها في أفواه الباريسيين.
وبينما الرجل العبوس يعتقد أنه قد سحرها برقيق ألفاظه، واستغواها بلطف معانيه، ضحكت تلك الفتاة الساحرة فجأة. - يا ويحك، إنك من المجانين.
ووقف الرجل العبوس متثاقلا، ولكن دون انذهال.
وقال: أحق إنك تشبهينني بالمجانين؟ - بل إنك مجنون وأبله معا. - لماذا؟
فنظرت إليه عند ذلك نظرة برقت عيناها، وقالت بلهجة الساخر: ذلك أنك تجاسرت على الاعتقاد بأني أحبك. - ولكني لا أزال أعتقد هذا الاعتقاد.
ثم أخذ يدها فقبلها، فاختلف ضحكها وارتجفت يدها، فقالت له: أتعلم أنك قد سقطت في فخ لا تستطيع أرلندا بجملتها إنقاذك منه، على أني حذرتك أمس حين قلت لك أتجسر على الحضور إلى منزلي؟
فأجابها ببرود: هو ما تقولين، ومع ذلك فقد أتيت.
فأشارت بيدها إلى باب السلم، وقالت له: انظر إلى منزل أبي وهذا السلم، فهما غاصان بالجنود.
فقال لها بسكينة دون أن يبدو عليه شيء من الاضطراب: أحقيقة ما تقولين ؟ - أحسبك طامعا أن تخرج من حيث دخلت، أي من الباب السري.
ولم يجبها الرجل العبوس، وجعل ينظر إليها نظرات غرام ضعضعتها، وهو غير مكترث لما تنذره به من الأخطار، كأنما غرامها قد أشغله عن كل خطر.
وبعد ذلك سمعا دويا يشبه دوي الرعد البعيد.
وقالت له: ألا تسمع هذا الدوي؟
فأجابها بسكينة وهو ينظر إليها مبتسما: نعم أسمعه، وأعلم أنه صوت مياه التميس دخلت إلى الدهليز، وسيبلغ إلينا بحيث لا يبقى لدي إلا واحد من أمرين، وهما إما الموت غرقا أو التسليم للجنود. - أتعرف هذا أيضا؟ - نعم، قد عرفته منذ الصباح. - عجبا! وكيف أتيت؟ إنك لا شك مجنون. - كلا، فإنك في الصباح كنت كارهة لي وربما تكرهينني الآن أيضا، أما إذا تمثل لك هلاكي فإنك تحبينني، وهذا كل ما أطمع فيه.
ثم نظر إليها تلك النظرات المغنطيسية الجاذبة، فتكهربت لها نفسها، وكان صوت مياه النهر يزيد ارتفاعا دلالة على تقدمها في الدهليز.
ولا يستطيع قلم كاتب أن يصف قوة تلك الجاذبية السحرية التي ترسلها النواظر أشعة مكهربة، فتصل بين القلوب وتفعل فيها فعل السحر، وغاية ما يقال عما جرى في تلك اللحظة أن مس ألن أصيبت بما تصاب به الحمامة حين يدركها البازي، فركعت أمام الرجل العبوس، وقالت له بصوت يتلجلج: رحماك، واعف عني، فإني أهواك.
وقد كانت هذه المرة صادقة في قولها، فإنها ما أتمت كلامها حتى نهضت فوثبت إلى عنقه تقطعه تقبيلا، وتقول: رباه ماذا صنعت! يجب أن نهرب، هلم إلى الفرار وإلا قبض عليك وهلكت. هلم إلى الفرار، فإن الوقت لا يزال متسعا.
وكانت تبكي فتدفعه بيدها قائلة: اهرب.
ثم تضمه إلى صدرها وتقول: بل نهرب معا، فإني أتبعك إلى حيث تشاء.
ثم تجذبه إلى الدهليز وتقول له: هلم بنا، فقد نجد منفذا منه.
أما العبوس فكان يتطلع إليها مبتسما دون أن يعترضها فيما تفعل، ويقول: لقد كنت واثقا أن جهادي معك سينتهي بهذا الفوز.
وعند ذلك تراجعت منذعرة، وصاحت صيحة منكرة قائلة: رباه! قد فات الأوان ، فقد وصلت إلينا المياه تحمل بين أمواجها الموت.
فابتسم الرجل العبوس أيضا وقال: لقد فات الأوان.
أما هي، فإنها أسرعت إلى الباب الذي كانت قد سدته بالحجارة في غرفتها حين اكتشفت الدهليز، وقالت له: إنك قوي شديد، اكسر هذا الباب، فإني لا أعلم إذا كان يؤدي بنا إلى النجاة، ولكن قد يكون لنا منه الخير.
ثم انقضت بنفسها على الباب تدفعه بيدها، وقال العبوس: لا فائدة من كسره، فإن المياه من ورائه.
وكان يقول ذلك بملء السكينة، دون أن يظهر عليه شيء من علائم الخوف، في حين أن مس ألن كانت تذرف الدموع الغزيرة، وقد ولهت لإشفاقها عليه حتى بلغت حد القنوط.
فكان يبتسم ويقول لها: لقد كنت واثقا أنك ستحبينني. كأنما لم يكن يشغله في تلك الساعة الرهيبة غير هذا الخاطر.
وكانت مياه التيمس تتصاعد حتى دخلت إلى الغرفة، وبلت أقدامهما، فاشتد يأسها وقالت له: إنك شجاع باسل، فافتح الباب واخترق هؤلاء الجنود، فإنهم لا يتجاوزون ثلاثين رجلا، خذ أيها الحبيب غدارتيك وجرد خنجرك وباغتهم بالانقضاض عليهم، فقد تفوز بالنجاة.
وقال لها بسكينة: ليس لدي أسلحة، ولا يجمل بي أن أزور من أحب مدججا بالسلاح.
فصاحت الفتاة صيحة قنوط، وهاجت هياج اللبؤة المشفقة على أشبالها، وكأنما أرادت أن تفدي حبيبها بنفسها وتقيه الموت، فطوقت عنقه بذراعيها وقالت: إنهم لا يقبضون عليك إلا بعد أن يقتلوني.
وعند ذلك سمع ضجيج على باب السلم.
ثم فتح فجأة وظهر منه السير بترس توين وكثير من الجنود، فقال لهم مشيرا إلى الرجل العبوس: اقبضوا على هذا الرجل.
فوقفت مس ألن بينهم وبينه، وحاولت إغواء الأسقف فقالت له: دعنا نمر بحق السماء. أستحلفك بالله، وبكل عزيز لديك أن تدعنا نذهب؛ فإني أحبه، لا تسئ إليه، أفعل لك ما تريد، وتكون قد اشتريتني بإحسانك.
ثم عادت إلى عناق الرجل العبوس، فجعلت تقبله وتبكي، ولو كان بيدها خنجر لانقضت على هذا الأسقف ومزقت أحشاءه.
أما الأسقف فإنه نظر إليها نظر الشامت، وقال لها بلهجة الساخر: إني كنت أتوقع يا مس ألن أن تسقطي في هوة هذا الغرام، وأن تصفحي عن هذا العدو اللدود، ولكني لست امرأة فلا أصفح عن أعدائي.
ثم أشار إلى الجنود أن يقبضوا عليه.
وتعانق الحبيبان.
واغتنم الرجل العبوس هذه الفرصة، وقال لها باللغة الفرنسية: إننا أيتها الحبيبة مفترقان، ولكن فراقنا لا يطول، فإني أخرج من السجن حين أشاء.
لا تهتمي بي أيتها الحبيبة، بل انصرفي إلى خدمة أرلندا والأرلنديين، ابرحي لندرا إلى باريس، وابحثي فيها عن رجل يدعى مرميس وآخر يدعى ميلون وامرأة تدعى فاندا، فقولي لهم تعالوا إلى لندرا بأمر الرئيس، يمتثلوا لأمرك ويحضروا في الحال.
إني أيتها الحبيبة ألقب في لندرا بالرجل العبوس، وأما في باريس فإني أدعى روكامبول.
وهنا أطبق الجنود على روكامبول، وساروا به إلى السجن بأمر ذلك الأسقف.
ولم تشفع له دموع ابنة اللورد ولا منزلة أبيها، ولكن دهاءه كان أعظم شافع لدى قلبها، فبلغ منه ما أراد.
تلميذ روكامبول
تلميذ روكامبول
تلميذ روكامبول
تلميذ روكامبول
روكامبول (الجزء الرابع عشر)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
تلميذ روكامبول
1
كانت أنقاض المنزل الذي تهدم متراكمة، وحجارة المنزل الذي يبنونه متكدسة، وبينهما نار مشبوبة يتألق لهيبها في ظلام الليل الدامس.
وكان قرب هذه النار رجلان، أحدهما حارس أدوات البناء، وهو جندي قديم، قطعت رجله في حرب القرم، والآخر بناء لا يتجاوز عشرين عاما.
وكان هذا الفتى قد اشتغل كل النهار بملء الاجتهاد، ولكنه على فرط تعبه وعلى تقدم الليل لم يكن نائما، بل كان ملتفا بردائه ومضطجعا قرب تلك النار وهو يحاول الرقاد فلا يستطيع، ويتقلب من جنب إلى جنب متأوها متنهدا كأنما هو في عذاب أليم.
وكان الحارس يراقب هذا الفتى مراقبة المشفق عليه من حين إلى حين، فلما طال تنهده قال له: ماذا أصابك يا ليمسون، وما لي أراك منذ أيام تبيت هنا في حين أن جميع زملائك يبيتون في منازلهم؟ - ذلك لأنه ليس لي منزل. - كيف يكون ذلك، ألا تقبض أجرتك في كل أسبوع أم أنك تنفقها على الملاهي ؟ - بل أرسل نصفها إلى أمي ويكفيني الباقي لاستئجار غرفة وللمعيشة كسائر رفاقي، ولكني أؤثر النوم بالهواء الطلق. - عجبا كيف تؤثره في مثل هذه الليالي الباردة؟ - ذلك لأني لا أخاف البرد.
فعجب الحارس لأمره وقال: ليكن ولكن ما لي أراك لا تعرف طعم الرقاد منذ أسبوع، وأنت لا تزال في مقتبل الشباب؟
فتنهد الفتى، وقال: إن النعاس لا يجد سبيلا إلى أجفاني.
فابتسم الحارس وقال: بل ذلك لأن أشعة الغرام قد نفذت إلى قلبك.
فاهتز الفتى وجلس متربعا على الأرض وقال: كيف عرفت ذلك، ومن أنبأك أني من العشاق؟ - إن دلائل العشق لا تخفى على أحد يا بني، كحامل المسك لا يخلو من العبق. وأنا لم أبلغ بعد حد الكهولة، فأبسط لي يا بني أمرك عساي أنفعك برأي صالح، فقد طالما تقلبت على مهاد هذا الغرام حتى بت خبيرا بأدواء القلوب.
فعاد ليمسون إلى التنهد وقال: ولكن هيهات أن تجد دواء لقلبي، فإن دودة أرض عشقت نجمة سماء فكيف تصل إليها؟
فضحك الحارس وقال: أراك تستعمل الاستعارات، فهل أنت دودة الأرض؟ - نعم. - والنجمة أين هي؟ - هي فوق.
ثم أشار بيده إلى منزل عال مشرف على البناء الجديد.
فابتسم الحارس وقال: لا تقنط يا بني فإن الدودة تصير فراشة فتطير وتدرك هذه النجمة.
فتنهد الفتى أيضا وقال: هب أنني صرت فراشة فليس لي رجاء؛ فإن نجمتي عالية جدا لا تدركها ذوات الجناح. - ألعلها من نساء الأعيان؟ - ربما كانت أميرة، فإني كل يوم حين تسطع أشعة الشمس أذهب فأقف عند بابها حين تخرج إلى النزهة في مركبتها. - هل تخرج وحدها؟ - كلا، بل يصحبها رجلان، ولكن هيئتها تدل على أنها تحتقرهما وتخافهما، حتى كان يخطر لي بعض الأحيان أن أهجم عليهما بمطرقتي وأقتلهما شر قتل. - ولكنك لن تفعل وإلا كنت من المجانين! - قد أكون مجنونا في هواها، ولكن ذلك لم يمنعها عن أن تبتسم لي. - أهي ابتسمت لك؟ - نعم، فإنها كانت واقفة في نافذتها تنظر إلى الشارع نظرة الطير المحبوس في القفص وكنت واقفا في معمل البناء أتأمل محاسنها الباهرة فنظرت إلي فجأة وعلمت أني مأخوذ بجمالها فابتسمت لي.
وكان الفتى يقول هذا القول بصوت يتهدج فقال له الحارس: لقد بت أخاف على صوابك، ولكن أتم بسط حكايتك؛ فقد أفيدك بنصيحة متى وقفت على كل أمرك.
2
فمضى الفتى البناء في حديثه فقال: إني لست من أهل الدهاء والرياء، ولكني لست من أهل السذاجة المطلقة، فأنا أعلم أن هذه الفتاة الحسناء لا تبتسم لي إلا لأنها محتاجة إلي في غرض من الأغراض. - أتظن أنها محتاجة إليك؟ - دون شك ألم أقل لك: إنها سجينة في منزلها؟ - ما أظنك إلا فقدت رشادك، ومتى كان السجناء يخرجون من سجونهم إلى المتنزهات؟ - وأي خطر من فرارها إذا كان السجانون يصحبونها؟ - إني تقلبت في جميع أنواع الغرام ومر بي كثير من الحوادث، فلم أجد مثل أمرك هذا! - أصغ إلي حتى النهاية وسوف بعد ذلك بساعة، كان مرميس وميلونترى، فإن حب هذه الفتاة باغتني لأول نظرة، فلم أتدبر في أمري، وشعرت أن هواها قد جرى في قلبي مجرى دمي في مفاصلي.
وقد رأيتها أول مرة في يوم سبت فلما رأيتها تبتسم لي تضعضع عقلي وغلت يدي عن العمل، حتى إن مدير البنائين أنذرني بالطرد إذا استمريت على ما كنت عليه من التهاون.
وكان اليوم التالي يوم الأحد؛ أي يوم دفع الأجور، فقبضت أجرتي واشتريت بها ثوبا جديدا فلبسته، وجعلت أتخطر حول المنزل طامعا برؤية هذه الحسناء.
وهي تقيم في هذا المنزل الذي تراه مشرفا على معمل البناء ومنزلها في الدور الثالث منه، فقد استأجرت جميع ذلك الدور، ورأيتها أول مرة تطل من نافذة غرفة زينتها.
فابتسم الجندي وقال: أظنها من غنيات أهل الدعارة، وأنها ما ابتسمت لك إلا للعبث بك.
ولكنه رأى أن الفتى قد اشمئز ونفر من قوله، فاستدرك خطأه وقال: ومع ذلك، فقد أكون مخطئا، فلنفترض أنها من الأميرات وتمم حديثك. - إني طفت حول المنزل نحو ساعة فلم أرها، فذهبت إلى هذه الخمارة المقابلة للمنزل فرأيت رجلا يسير ذهابا وإيابا، فما شككت أنه رقيب متنكر، ثم رأيت بواب المنزل واقفا عند الباب ولي معه سابق عشرة فدعوته إلى شرب كأس من الخمر معي علي أقف منه على شيء من أخبار الفتاة، فأجاب الدعوة ودخلنا إلى الخمارة فما شربنا الكأس الثالثة حتى بدأت أحادثه بأمر هذا المنزل الفخيم وأغبطه على استخدامه فيه.
فقال لي: قد يجوز أن تغبطني لو كان المنزل مأهولا بجملته، ولكن دورين منه لا يزالان فارغين، ثم إنه قد يحدث لنا أمور مزعجة مع هؤلاء الأجانب. - كيف ذلك؟ - يوجد الآن فتاة إنكليزية تقيم في الدور الثالث منه يظهر أنها من النبيلات، وأنها ابنة لورد هربت من منزل أبيها إلى هذا المنزل.
وقد صحبت معها حين حضورها خادمة وخادمين كلهم من الإنكليز، فلم تكد تستقر في المنزل حتى أحضرت مركبة وطافت بها جميع باريس كأنها تبحث عن رجل لا تعلم مقره.
ولم تعد إلا في المساء فجاء رجلان وطلبا أن يحادثاها، ولكنهما لم يخرجا من المنزل بعد المحادثة بل بقيا فيه، واستبدلا جميع ما كان من الخدم وجعلا يراقبانها مراقبة شديدة حتى إنها أرادت أن تكلمني فوقف واحد منهما ووالله لقد أشفقت عليها؛ فإنها تذهب إلى النزهة كل يوم، ولكن الرجلين يصحبانها فلا يفارقانها لحظة عين.
هذا كل ما يعرفه البواب من أمر الفتاة فتركته وقد أيقنت منه أن هذه الصبية من خير أسرات الإنكليز، وأنها أسيرة هذين الرجلين.
وفي اليوم التالي عدت إلى العمل وأنا منقبض النفس، أود لو بذلت نفسي في سبيل إنقاذها، فبينما أنا أشتغل بنحت حجر وعيناي تنظران إلى نافذتها، فتحت تلك النافذة، وأشرقت منها الفتاة إشراق القمر من السحاب، فكانت تجيل طرفها باحثة إلى أن رأتني، فاستقر نظرها علي وابتسمت لي.
فشعرت أن جسمي قد تكهرب، وقد اشتد خفوق قلبي حتى كدت أسمع ضرباته.
فشخصت عيناي إليها ولم يكن أحد يراقبنا، وكأنما أدركت ما أصاب نفسي من الاضطراب لابتسامها، فوضعت إصبعها على فمها، كأنها تشير علي بوجوب الكتمان.
ثم أخذت ورقة من جيبها وألقتها من النافذة فسقطت وراء أكداس من الأخشاب القديمة وأشارت إلي إشارة تفيد أنها ألقت الورقة إلي، ثم أقفلت النافذة ودخلت إلى غرفتها.
وكنت بعيدا عن هذه الأخشاب وما أحببت أن أسير إليها لالتقاط الورقة على الفور فقلت في نفسي: إن موعد فرصة طعام الصباح قريبة وسألتقطها حين يدق الجرس لا سيما وقد أيقنت أنه لم يرها أحد.
فقال له الجندي: وبعد ذلك؟
فتنهد الفتى وقال: سوف ترى ما كان من نكد طالعي وطالعها، فإني بينما كنت أنتظر فرصة الطعام لالتقاط الورقة وأنا آمن عليها وقد اطمأنت نفسي لوثوقي من احتياج الفتاة إلي، قدم شخص إلى ورشة البناء التي أعمل فيها وطلب أن يتكلم مع المدير.
فجعلت أنظر إليه دون اكتراث، وأنا أحسب أنه صاحب الأرض، أو أنه أحد المهندسين؛ إذ كانت ظواهره تحمل على الاحترام، وهو بين العمرين.
فأسرع إلى لقائه وسمعته يقول: إني أقيم في الدور الثالث من هذا المنزل وقد سقطت من النافذة إلى أرض المعمل ورقة لها أهمية عندي فأرجوك أن تأذن لي بالتفتيش عنها.
فأذن له المدير دون اعتراض، فذهب توا إلى حيث سقطت الورقة ورأيته وا أسفاه قد التقطها ووضعها في جيبه.
فقال له الجندي: إنك على ذلك لم تعلم ما كتبته لك. - كلا. - أما رأيتها بعد هذه الحادثة؟ - بل أرها في كل صباح، وإنها تفتح النافذة وتنظر إلي نظرة السائل كأنها تريد مني شيئا. - ذلك يدل على جهلها ما حدث لاعتقادها أنك قرأت رسالتها. - هذا أكيد وا أسفاه وهي تنظر إلي نظرات تشف عما داخل نفسها من الغم والانقباض مما يقطع القلوب من الإشفاق. - ألم تحاول الدخول إلى منزلها؟ - كلا.
وامتعض الجندي وقال: لقد كان العشاق في عهد الجندية أجرأ منكم على اقتحام الصعاب. - ماذا كنت تصنع لو كنت في مكاني؟ - كنت أدخل إلى المنزل من بابه. - وهذا الرقيب الذي لا يفارق الباب لحظة؟ - كنت أدق عنقه. - والبواب؟ - أرشوه بالمال فينصرف به إلى الخمارة. - والرجلان اللذين يحرسانها ويبيتان معها في المنزل؟ - أقتلهما إذا اعترضا سبيلي.
فأطرق الفتى البناء برأسه إلى الأرض وقال: لا أستطيع الموافقة على هذا الرأي. - ذلك لأنك لست من الجنود القدماء.
فابتسم الفتى ابتسام المكتئب وقال: إني لم أكن جنديا ولكني أسفك دمي طائعا مختارا في سبيلها. - إذا خاطر بحياتك على ما قلت لك. - إني لست من رأيك. - لماذا؟ - لأني إذا جريت على ما تشير به من العنف، في سبيل الوصول إليها، لا أبلغ ما أسعى إليه من تخليصها، بل تفضي النتيجة إلى عكس ما أريد وتريد. - إذا ماذا تعمل؟ - لقد خطر لي خاطر أرجو أن يكون مفيدا، ولكن لا يمكن تنفيذه قبل ثمانية أيام، وذلك إلى أن يتم بناء الدور الثالث من هذا البناء الذي نشتغل فيه، وذلك أن نوافذه تصبح مساوية لنوافذ غرفة الفتاة، لتساوي المنزلين بالارتفاع، وليس بينهما غير عرض الشارع، وهو لا يتجاوز ستة أمتار.
وإذا تم هذا البناء ترقبت ليلة مظلمة لا يكون فيها غير أنا وأنت في المعمل فمددت لوحا خشبيا من نافذة المنزل الجديد إلى نافذة منزلها ودخلت إليها على هذه الطريقة دون خطر ودون أن يراني أحد.
فسر الجندي لاقتراحه وقال: إنه خاطر حسن ويسرني أن أراك أشد جرأة مما كنت أظن. - ليس في الأمر جرأة، إني أعمل في حرفتي منذ عشرة أعوام وقد ألفت هذه الخطوات وإذا نجح قصدي هربت على هذه الألواح، حتى إذا صحا النيام رأوا أن الطير أفلت من القفص. - إن ذلك يدلني منك على التروي والحكمة، اصنع ما أنت صانع. - لقد علمت الآن السبب في نومي في المعمل في حين أن جميع الرفاق يذهبون إلى منزلهم، وأرجو أن تكتم سري بعد أن بحت لك به. - إني جندي والجندي لا يخون على أني لا أقتصر على كتمان سرك، بل أكون لك خير معين.
وكان الفجر قد انبثق وبدأت الطيور تناغي، فنظر الجندي إلى ذلك المنزل الذي دله عليه الفتى، ورأى النافذة التي كلمه عنها، ثم رأى أن النافذة قد فتحت فجأة وظهرت منها الفتاة .
فلم يتمالك الجندي من إظهار دهشته لما رآه من جمالها ووقف يتأمله معجبا بتلك المحاسن الفاتنة.
أما الإنكليزية فلم تراهما وقد فتحت النافذة لتستنشق نسيم الصباح.
وقال الجندي للبناء: أعرفت اسم الحسناء؟ - نعم، فقد قال لي البواب: إنه سمعهم ينادونها مس ألن.
وعند ذلك حانت التفاتة من الفتاة فرأت الفتى البناء ينظر إليها وارتعشت وجعلت تبتسم له كأنها علمت بأنه سيكون منقذها.
3
نعم إن تلك الفتاة كانت مس ألن بعينها، ابنة اللورد بالمير، تلك التي كانت من ألد أعداء الرجل العبوس - أي روكامبول - فأصحبت الآن من أشد الناس إخلاصا له وولاء في حبه.
وإن من قرأ الرواية السابقة - أي قلب المرأة - يذكر من دون شك تلك المكيدة الهائلة، التي نصبتها مس ألن لروكامبول، وهي تحبه وتحسب أنها تكرهه.
حتى إذا ظهر لها بمظاهر اليأس، ورأت أن الجنود أطبقوا عليه من جانب والمياه تدفقت عليه من جانب آخر، ثار في قلبها ذلك الحب الذي كانت تحسبه بغضا، وحاولت أن تقيه بنفسها وتجعل جسمها ترسا له، ولكنها لم تجد أثرا للرحمة في قلب ذلك الأسقف بترس توين رئيس المذهب الإنجليكاني وألد أعداء الأرلنديين.
وقد شعرت الفتاة فجأة، أنها تهوى ذلك الشخص الذي سلمته إلى أعدائه، فابتسم وقال: إنك سلمتني إلى أعدائي، ولكنك ستنقذيني منهم يا مس ألن.
ويذكر القراء، أنه بينما كان الأسقف بترس توين يصدر أوامره إلى الجنود بالقبض على الرجل العبوس، كان العبوس يقول لمس ألن باللغة الفرنسية: «إننا مفترقان أيتها الحبيبة، ولكن فراقنا لا يطول وإني أخرج من السجن متى شئت.
لا تهتمي بي أيتها العزيزة بل بأرلندا التي نخدمها، ولا تسألي أباك شيئا، ولا تهتمي بإخراجي من السجن، بل سافري من لندرا إلى باريس، وابحثي فيها عن شخص يدعى مرميس، وآخر يدعى ميلون، وامرأة تدعى فاندا، وقولي لهم: هلموا معي إلى لندرا بأمر الرئيس يمتثلوا لك ويسرعوا إلى المجيء.
إني أيتها الحبيبة ألقب في لندرا بالرجل العبوس، ولكني أدعى في باريس روكامبول».
ثم مشى روكامبول إلى السجن مع الجنود، يمشي مشية المنتصر لفوزه بقلب تلك الفتاة، وقد تركها وهي توشك أن تجن من حزنها، ولكنه بات موقنا أنها باتت رهينة هواه.
وكان أبوها لم يعد بعد من البرلمان.
ولما خرج الأسقف والجنود بروكامبول من المنزل، رأت أنها قد باتت أرلندية، وأنها لم يعد لها اتصال بأبيها.
واغتنمت فرصة غيابه، وجمعت ما كان لديها من الحلي والنقود ووضعتها في حقيبة.
وكان لديها خادمان وخادمة امتازوا في الإخلاص لها على سائر الخدم. وأخذت حقيبتها، وأمرت أولئك الخدم أن يسافروا معها، فلم يبلغ روكامبول سجن نوايت حتى بلغت مس ألن مع خدامها إلى المحطة، وبرحت معهم لندرا.
وفي مساء اليوم الثاني غادرت بولونيا، ووصلت إلى باريس عند انتصاف الليل.
وكانت مس ألن تعرف باريس كما يعرفها كبار أغنياء الإنكليز؛ فإن هذه العاصمة تشوق إليها الشعب الإنكليزي، ولا سيما الأغنياء منهم فلا يوجد بينهم من لا يزورها ولو مرة في العام.
ولم يكن روكامبول قد أرشد مس ألن إلى أماكن عصابته، بل اكتفى بذكر أسمائهم فعلق بذهنها اسم ميلون وفاندا.
ولكن ذلك لم يكن كافيا في تلك العاصمة المتسعة للاسترشاد إليهما، فرأت أنها لا بد من السعي والتعب للبلوغ إليهما.
وكانت حين تجيء مع أبيها إلى باريس تقيم عادة في منزل في شارع لويس الكبير، فذهبت مع خدامها إلى ذلك المنزل نفسه، واستقبلتها صاحبته بملء الترحيب والتكريم، وباتت فيه تلك الليلة.
وقد باتت بليلة الملسوع، فلم يغمض لها جفن، ولم يتمثل لها غير روكامبول وظواهر جلاله وكبريائه، وما عساه يعانيه في ذلك السجن الرهيب، ثم تذكر أنها هي التي كادت له، ورمته في السجن، فتتأوه وتبكي بكاء الأطفال.
وفي صباح اليوم التالي بدأت في البحث، فأخذت الكتاب الذي تنشر فيه أسماء التجار وأصحاب العمال، وجعلت تقلب فيه، وهي تقول في نفسها: إني أبحث عن ميلون، وإذا وجدت عنوانه ذهبت إليه وقلت له: أتعرف الرئيس؟ إنها طريقة بسيطة، ولكنها قد تكون أحسن الطرق إلى نيل المراد.
ثم جعلت تقرأ الأسماء فوجدت كثيرين يدعون بهذا الاسم فكتبت عناوينهم وذهبت إليهم جميعا فلم تجد بينهم من يعرف اسم روكامبول.
فعادت في المساء إلى المنزل وقد خطر لها خاطر غريب، لا يتمثل إلا للإنكليز فكتبت هذه الرسالة الآتية وهي:
المسيو ميلون، ومدام فاندا، وكلاهما صديقان للمسيو ر. يرجى منهما أن يسرعا في المجيء إلى شارع لويس الكبير، نمرة 50، والمسألة خطيرة جدا.
وعولت على أن ترسل هذه الرسالة إعلانا إلى جميع الجرائد فلا بد لميلون وفاندا وأصحابهما أن يقرءوا الإعلان فيحضران إليها.
غير أن لنكد طالعها، لم يتسع لها الوقت لإرسال هذا الإعلان؛ لأن جسمها كان قد أضنكه التعب في النهار، ولم تكن قد نامت ليلة أمس، فتعشت مسرعة، وحاولت أن تنام، ثم سمعت الخادم يحادث زائرا باللغة الإنكليزية.
ثم رأت الخادمة دخلت إليها تحمل رقعة زيارة كتب عليها الاسم:
سير جمس وود
أكسفورد ستريت
فهمت أن تجيب الخادمة أنها لا تقبل زيارة من لا تعرفه، ولكن السير جمس دخل في أثر الخادمة قبل أن تجيبها بشيء.
فاصفر محيا مس ألن لهذه الجرأة، وتوقعت مصابا، لا سيما أنها رأت من خلال الباب شخصين أيضا، كانا واقفين في الفسحة، وهي لا تعرفهما.
ولكنها على اضطرابها لم يذهب عنها شيء من عظمتها.
ونظرت إلى السير جمس نظرة ملؤها الكبرياء والإنكار، وقالت له: ماذا تريد أيها الرجل مني؟ وبأي حق تدخل إلى غرفتي دون أن أأذن لك؟ - إني أسألك العفو يا سيدتي، إني شخص شريف لا أغتصب الحقوق، ولم أدخل غرفتك إلا مسلحا بحق الدخول.
فاحمرت عيناها من الغضب وقالت: ماذا تعني؟ - أعني أني أحمل جوازا موقعا عليه من سفير إنكلترا في باريس. - وماذا يفيدني هذا الجواز؟ - ولدي أيضا يا سيدتي أمر من رئيس الشرطة، وأنا من كبار أفراد الشرطة في لندرا.
فتراجعت الفتاة منذعرة مما سمعته وأيقنت بحلول المصيبة.
أما هو فإنه قال لها ببرود: أعلمت يا سيدتي الآن، لماذا تشرفت بالدخول إلى غرفتك؟ إن أباك اللورد، وصديقه الأسقف بترس توين قد أرسلاني.
فصاحت الفتاة صيحة ذعر وسقطت على كرسيها واهية القوى مما أصابها من مفاجأة الاضطراب.
4
كان السير جمس يناهز الخمسة والأربعين من عمره، وقد وخط الشيب عارضيه، ولكنه كان قوي البنية أحمر المحيا جامد الحركة حسن البزة، يتكلم بملء السكينة لا يتجاوز حدود الاحترام مع محدثيه.
فالتفت إلى الفتاة وقال: أسألك يا سيدتي في البدء أن تعذريني، ثم أرجوك أن تصغي إلي وأن تكوني صبورة فقد قلت لك من أنا، وإني لا أفعل غير ما يدعوني إليه الواجب فلا لوم علي ولا تثريب.
إني يا سيدتي برحت لندرا مزودا بأوامر قانونية لا بد لي من تنفيذها ولا أتجاوز حدود سلطتي في شيء.
فقالت له الفتاة، وقد عادت إليها بعض سكينتها: أرجوك أن توضح لي كل ما تقول. - إني مستعد يا سيدتي للامتثال فسلي ما تشائين. - لقد قلت لي: إنك مزود بتعليمات بشأني؟ - نعم يا سيدتي. - من أعطاك تلك التعليمات أو الأوامر؟ - اللورد بالمير والدك النبيل. - وما هي تلك الأوامر؟ - إنها قد تكون شديدة الوقع يا سيدتي، ولكن خطتك وسلوكك يعدلانها. - كيف ذلك؟ - ذلك أن أباكي قد علم السبب الذي برحت من أجله لندرا وهو يريد أن تعودي إليها، بل إنه يريد أن لا يكون لك أدنى اتصال بأولئك الأشقياء الذين أتيت تبحثين عنهم في باريس. - وبعد ذلك؟ - إن الأوامر التي جئت بها تتعلق بهذين الأمرين. - وما هي هذه الأوامر؟ - إني أنفذت قسما منها، فذهبت إلى سفير إنكلترا في باريس وأطلعته على كتاب من أبيك، فساعدني رئيس البوليس، وحصلت منه على أمر بالقبض عليك.
فذعرت مس ألن وتراجعت إلى الوراء قائلة: إذا أنت آت للقبض علي؟ - إن ذلك يتعلق بك يا سيدتي. - كيف يتعلق بي؟ - لأن البرلمان تنتهي جلساته بعد أسبوعين فيتفرق أعضاؤه، ويستطيع أبوك عند ذلك مغادرة لندرا والبحث عن ابنته في باريس. - ومن الآن إلى انتهاء الجلسات ماذا تصنع؟ - أخيرك بين أمرين وهما أن أضعك في أحد المستشفيات الخصوصية أو أن تبقي حرة في هذا المنزل بمراقبتي، فإذا وافقت على الاقتراح الثاني، أضطر إلى إبدال خدمك بغيرهم وأقيم في هذا المنزل مع زميل لي بحيث لا تستطيعين الخروج من المنزل، إلا إذا كنت مصحوبة بواحد منا.
ثم ابتسم وقال لها: أرجو أن لا يزعجك هذا الاقتراح؛ فإنك سوف تحمدين صحبتنا وستخرجين كل يوم متنزهة إلى الغابات، وإذا شئت ذهبنا بك إلى الملاعب وإلى كل مكان يحلو لك الذهاب إليه، كأنك حرة مطلقة ولا يعلم أحد من الناس أننا رقيبان عليك، ثم إنك تستطيعين أن تنفقي بملء السعة، فإن أباك اللورد مرسل إليك حوالة على بنك روتشيلد في باريس تقبضين منه كل ما تحتاجين إليه من النفقات.
قالت له بلهجة المتهكم: وإذا رفضت اقتراحك ماذا تصنع؟ - أضطر يا سيدتي مكرها آسفا أن أذهب بك مع زميلي في هذه الليلة نفسها إلى مستشفى خاص حيث تراقبين فيه مراقبة خاصة.
وكان السير جمس يتكلم بلهجة تدل على ثباته، فما شكت أنه يفعل ما قال، ورأت من ملامحه أن إغوائه محال، وأنه لا يخل بالواجب الذي انتدب إليه.
ثم وازنت بين الويلين فرأت أن تختار أخفهما؛ فإنها إذا قامت في المستشفى تكون فيه أسيرة يصعب إفلاتها منه، وأما إذا بقيت في المنزل بمراقبة السير جمس بقي لها رجاء بالتملص بما تهيئه لها الصدفة وذهنها المتوقد.
وعند ذلك تظاهرت أنها تفتكر وتتمعن ثم نظرت إليه وقالت له: حسنا لقد رضيت باقتراحك.
ومنذ ذاك اليوم باتت معيشة مس ألن على ما وصفها الفتى البناء للحارس الجندي، فإن البوليسين باتا لا يفارقانها لحظة في النهار، فإذا أقبل الليل وضع أحدهما سريرا عند باب غرفتها بحيث لا تستطيع الخروج من تلك الغرفة دون إيقاظه.
فكانت مس ألن تجهد الفكرة بإيجاد طريقة للخلاص، وقد ضيق عليها هذان الرقيبان كل التضييق، حتى أطلت يوما من نافذتها وباغتت الفتى البناء وهو ينظر إليها نظرات الوله والهيام، فخطر لها أن تستخدم هذا الفتى في سبيل خلاصها.
وفي اليوم التالي ألقت إليه الرسالة من نافذتها وهي التي سقطت وراء الأخشاب والتقطها البوليس.
أما هذه الرسالة فقد كانت كما يأتي :
لدي مهمة عظيمة أحب أن أعهد إليك بها ويكون لك منها نفع عظيم إذا وفيت، فإذا قرأت هذه السطور فارفع نظرك إلى النافذة فإذا كنت راضيا بخدمتي فارفع قبعتك مرتين متواليتين إشارة إلى قبولك وعند ذلك أرسل إليك تعليماتي.
واتفق لنكد طالعها أن السير جمس باغتها بنظره وهي ترمي الرسالة، فأسرع إلى المعمل واستولى عليها قبل أن يتمكن الفتى البناء من معرفة ما فيها.
وفي ذلك اليوم قال لها: إنك إذا عدت يا سيدتي إلى ما فعلته اليوم أضطر إلى نقلك إلى ذلك المستشفى الذي أنذرتك به.
ومنذ تلك الحادثة لم يؤذن لها أن تفتح نافذتها في النهار؛ أي حينما يكون البنائون في المعمل، فإذا اتفق أنها فتحتها تجد أن أحد البوليسين قد أسرع إليها ووقف بجانبها.
وكان من عادة البنائين أنهم يحضرون في الساعة السادسة صباحا وينصرفون في الساعة السابعة مساء فيتولى الحارس الجندي عند انصرافهم حراسة المعمل، فلم يكن السير جمس يرتاب به؛ لأنه رأى أن الفتاة قد ألقت الرسالة إلى الفتى البناء.
ومر على ذلك ثمانية أيام إلى أن أرقت مس ألن ليلة وفتحت نافذتها عند الفجر فرأت ذلك البناء مقيما مع الحارس الجندي في المعمل.
وكان البنائون لم يحضروا بعد إلى المعمل والسير جمس لا يزال نائما لاعتقاده أن مس ألن نائمة في ذلك الحين، ولما رأت مس ألن ذلك الفتى ارتعشت وعاد إليها الرجاء بالنجاة، فأخذت من جيبها وانتزعت منه ورقة وكتبت عليها كتابة بمعنى الرسالة الأولى.
وقد استولى الفتى في هذه المرة على الرسالة، وكان يعرف القراءة، فلما أتم تلاوتها رفع قبعته مرتين متواليتين إشارة إلى القبول ودخلت مس ألن وأقفلت النافذة.
5
وقد دخلت وهي مطمئنة لوثوقها أن الفتى البناء يبيت في المعمل ولا يبرحه في المساء كما يفعل سائر البنائون.
أما السير جيمس فإنه استيقظ قبل أن يحضر البنائون، ولكنه لم يشك في شيء.
وفي ذلك اليوم ذهبت كعادتها إلى غابات بولونيا يصحبها الرقيبان ولم تعد إلا وقت العشاء، فدخلت إلى غرفتها لتغيير ثيابها، فاغتنمت هذه الفرصة وكتبت إلى الفتى البناء الرسالة الآتية:
ألا تستطيع أن تصل إلي بطريقة من الطرق، فإما أن تأتي إلى غرفتي بسلم أو تصعد إليها من المدخنة، إنك الرجل الوحيد الذي أعرفه في باريس، وأنا أسيرة في المنزل الذي تراني فيه، وإذا كنت تستطيع الوصول إلي فاكتب لي؛ لأني سأعلق في هذه الليلة خيطا رفيعا أربطه بالنافذة وأدليه إلى الأرض فلا ينتبه إليه أحد، اربط بطرفه جوابك، وإني في الختام أعيد عليك ما قلته قبلا وهو أني سأجازيك خير الجزاء.
ولما أتمت كتابة الرسالة طوتها وخبأتها داخل ثياب صدرها.
وكان السير جمس يراقب المعمل كل النهار حتى إذا أقبل الليل وانصرف البنائون زالت شكوكه وانصرف إلى مراقبتها.
أما مس ألن فإنها بعد العشاء قامت إلى البيانو، وجعلت تعزف عليها ألحانا شجية تشف عما داخل فؤادها من الوجد على روكامبول، ولبثت على ذلك إلى الساعة العاشرة.
ثم نام الرقيبان فدخلت إلى غرفتها وأقفلت بابها وأطفأت شمعتها ومشت مشيا خفيفا إلى النافذة ففتحتها بملء الاحتراس والسكينة، فلم يسمع لها صوت.
وأطلت منها فرأت رجلين يصطليان قرب النار ويتكلمان بأصوات منخفضة وعلمت أنهما الجندي والبناء.
وكانت الليلة مقمرة فلما رأى البناء أن النافذة قد فتحت وبرز منها وجه الإنكليزية خفق قلبه وهب مسرعا فوقف تحت النافذة.
وعند ذلك ألقت إليه الرسالة وتوارت عن الأنظار.
وأخذ البناء الرسالة وعاد بها إلى حيث كان الجندي وأطلعه عليها، فعجب الجندي لأمرها وقال: من عسى أن يكون قد أسرها في هذا المنزل، إلا إذا كان زوجها الغيور؟
أما الفتى فإنه أخذ قلمه الرصاصي الذي يرسم به الخطوط على الحجارة حين يقسمها، وبحث عن ورقة فلم يجدها فالتقط من الأرض قطعة من الآجر الأحمر وكتب عليها بقلمه الغليظ ما يأتي:
يوجد في ورشة البناء سلم طويل يصل إلى نافذة غرفتك، وإذا كنت تصبرين ستة أيام وصلت إليك وأنقذتك من الأسر إذا كنت ترغبين.
ثم أخذ قطعة الآجر وعاد بها إلى تحت النافذة.
وكانت واقفة وراء الزجاج فرأته يكتب على قطعة الآجر، فأدلت إليه خيطا دقيقا متينا من الحرير، فربط به تلك الآجرة فجذبتها إليها.
وبعد دقيقتين أرجعتها وكتبت تحتها هذه الكلمة: «سأنتظر.»
وقد أجهدت مس ألن فكرها كي تعلم الطريقة التي يحاول إنقاذها بها فلم تعلم، ولكنها كانت واثقة بهذا الفتى.
وفي اليوم التالي كانت جالسة وحدها على المائدة مع السير جمس فقالت له: متى يأتي أبي فيما تظن؟ - لقد وردني اليوم كتاب منه يقول فيه: إنه سيكون في باريس بعد ثلاثة عشر يوما. - إني معجبة لأمر وهو أنه لماذا لم يعهد إليك إرجاعي إلى لندرا بدلا من الحضور بنفسه ليعود بي إليها.
فابتسم وقال: لأنه لا نية له أن يعود بك إلى إنكلترا. - أحق ما تقول. - كل الحق يا سيدتي، فإنه لا يريد أن يجمعك بالأرلنديين في بلاد الإنكليز. - إلى أين يريد أن يذهب بي؟ - أظن أنه سيقيم معك فصل الشتاء في إيطاليا. - حسنا لقد علمت.
وانقطعت بعد ذلك عن محادثته.
وتوالت الأيام وهي تعدها بالدقائق والساعات، فكانت تلك السجينة المنكودة الحظ تنظر من حين إلى حين إلى ورشة البناء، فترى المنزل الجديد آخذا بالارتفاع، وإنهم يسرعون في بنائه سرعة عظيمة حتى إنهم بلغوا في اليوم الرابع إلى الدور الثاني على مساواة غرفتها.
وفي اليوم السادس فتحت نافذتها في ليلة مظلمة ورأت الفتى البناء واقفا تحت الغرفة وبيده قطعة من الآجر وعلمت أنه يود أن يراسلها وأدلت له الخيط، وربط بها القطعة ورفعتها إليها.
وكان الفتى قد كتب عليها هذه الجملة: «غدا أكون في غرفتك عند انتصاف الليل.»
ولما قرأتها ألقتها من النافذة وعادت إلى فراشها فلم تنم تلك الليلة لشدة هواجسها، ولكنها أخفت اضطرابها أمام السير جيمس فلم يشك في شيء.
وفي المساء دخلت إلى مضجعها وتظاهرت بالنوم، وكان السير جمس قد وكل حراستها إلى رفيقه وخرج لبعض الشئون وعاد في الساعة الحادية عشرة، فأطلق سراح رفيقه ووضع سريره عند باب غرفة الأسيرة.
ولم يكن يدخل إلى غرفتها على الإطلاق، لكنه كان قد ثقب في باب غرفتها ثقبا ضيقا يراقبها منه في الليل فنظر من الثقب ورأى أنها نائمة في فراشها فاطمأن خاطره وصعد إلى سريره فنام.
ولما انتصف الليل قامت إلى النافذة ففتحتها، وكان القمر يتلألأ في السماء، فأطلت منها ورأت الفتى البناء واقفا في شرفة دور المنزل الجديد الثالث ومعه الحارس الجندي.
ولما رأياها قد فتحت النافذة أخذ الاثنان لوحا كبيرا من الخشب وجعلا يتعاونان على جره إلى نافذتها وهي مقابلة للشرفة التي كان فيها.
فبدأت تفهم حيلة هذا الفتى لا سيما حين بلغ طرف اللوح إلى نافذتها واستقر عليها بينما كان طرفه الآخر مستقرا على الشرفة.
وعند ذلك أغمضت عينيها من الخوف، فإنها رأت ذلك الفتى الباسل قد ركب فوق هذا اللوح الخشبي الذي لا يبلغ عرضه قدما، يزحف فوقه إلى نافذتها، معرضا نفسه لأعظم الأخطار بالسقوط من ذلك العلو الشاهق.
6
غير أن الفتى كان قد ألف هذه المخاطر وتمرس عليها منذ الحداثة، فلم يكترث لها ولو وقف سواه هذا الموقف لأصيب بالدوار لعلو هذا الجسر الهوائي الذي كان يسير عليه.
وما زال يزحف متباطئا منحدرا إلى أن بلغ النافذة، وكانت قد فتحت روافدها فاستقبلته وأعانته على الدخول إلى غرفتها وقد قالت له همسا: احذر أن ترفع صوتك أو تذهب مساعينا أدراج الرياح.
وكانت قد أطفأت نور الغرفة غير أن أشعة القمر كانت ساطعة تنفد إليها وتضيئها، ويرى الفتى وجه الفتاة تسطع عليه تلك الأشعة وتزيده بهاء على بهاء.
وكأنما قد عقد لسانه فلم ينبس بكلمة، بل إنه حسب نفسه حالما لحظوته بهذا اللقاء على ما كان بينهما من تباين المقام، فإنه كان يرى نفسه بناء حقيرا، وينظر إلى ملابسه، فيجدها رثة بالية، وإلى يديه فيراهما ضخمتين محجرتين.
ثم يقارن بين حالته وحالتها فيجد أنها ابنة لورد، وينظر إلى ملابسها فيجدها ترفل بالدمقس والحرير، وإلى يديها الناعمتين المترفتين ويخشى أن يدميهما باللمس، ثم يسمع فمها الجميل يهمس في أذنه بأرق صوت كلاما يدل على الثقة، فيعلم أنها قد اعتمدت عليه وشاركته في أمرها ورفعته من حضيضه إلى أوجها، فيحسب نفسه من الحالمين.
أما مس ألن فإنها كانت تعلم دون شك موضع ذلك الثقب الذي ثقبه السير جيمس في باب غرفتها لمراقبتها، وأخذت بيد الفتى وسارت به إلى مكان من الغرفة لا ينفذ إليه الثقب، ولا تراهما عين الرقيب، فأدنت فمها من أذنه حتى لمستها وقالت هامسة: إني لا أعرفك ولكن ثقتي بك شديدة.
فتكهرب ذلك الفتى المنكود وقال لها: أنا أيضا لا أعرفك يا سيدتي. - تريد أنك مخلص لي؟ - بل إني أسفك دمي من أجلك.
فابتسمت له وقالت: وأنا أرجو أن لا تراق نقطة من دمك في سبيلي، وأؤمل أن تتمكن من خدمتي فيما أريد. - مري يا سيدتي أفعل. - لا سبيل الآن إلى الإسهاب؛ فإن الوقت ضيق وأنا أخبرك بملء الإيجاز عن حالتي، فإني ابنة لورد إنكليزي هربت من منزل أبي لقضاء مهمة أعتبرها خطيرة.
فنظر إليها نظرة إعجاب وقال: لو لم تكن مقدسة لما غادرت منزل أبيك!
وعادت إلى حديثها وقالت: إني أتيت إلى باريس للبحث عن رجل لا أعرفه ولا أعرف منزله، ولا بد لي من إيجاده؛ فإنه يدعي ميلون.
ودهش الفتى وقال: ميلون؟ - نعم، ألعلك تعرف من يدعى بهذا الاسم؟ - إن مقاول المنزل الذي نبنيه يدعى يا سيدتي ميلون. - رباه أيمكن أن يكون هو؟ - من هو يا سيدتي ألعله الرجل الذي تبحثين عنه؟ - قلت لك: إني لم أعرفه ولم أره. - ألا تعلمين إذا كان من الكهولة أو الفتيان؟ - كلا. - إن المقاول الذي أعنيه ضخم الجثة أبيض الشعر مشهور بكرم الأخلاق وطهارة القلب. - إن كل ما أستطيع أن أقصه عن الرجل هو أنه يجب أن يكون عارفا لامرأة تدعى فاندا ورجل يدعى روكامبول. - إن ذلك يكفي وسأذهب في الصباح إلى ميلون فأقول له: أتعرف رجلا يدعى روكامبول وامرأة تدعى فاندا، وإذا أجاب بالإيجاب كان هو الشخص الذي تبحثين عنه وأخبرك في الليلة القادمة. - حسنا، ولكني أحب أن أخرج من هذا المنزل، أتجد طريقة لإخراجي منه؟ - إن الطريقة سهلة ميسورة ولكن يجب أن أعود إلى المكان الذي أتيت منه. - لماذا؟ - كي أضع لوحا من الخشب أعرض وأثخن من هذا. - إني أجد هذا اللوح كافيا وأنا جريئة لا أخشى السقوط. - ولكن هذا اللوح رقيق لا يحتمل اثنين.
وتمعنت هنيهة وقالت: أرى أن الأفضل إرجاء ذلك إلى الليلة القادمة وأن ترى ميلون الذي أخبرتني عنه. - سأراه في الغد. - ثم تبحث لي عن غرفة خارج باريس وتحضر لي ثياب بسيطة مما يلبسه النساء الفقيرات، وخذ ما تحتاج إليه من النفقة.
ثم دفعت إليه كيسا محشوا بالذهب فقال لها: سأنفذ أمرك يا سيدتي بالتدقيق فاستعدي غدا في مثل هذه الساعة لأني سأمد لوحين مزدوجين من الخشب الثخين العريض فتسيرين عليهما دون خطر. - إنك رجل طيب القلب وستنال خير الجزاء عن إخلاصك.
ثم مدت إليه يدها فقبلها بملء الاحترام وخرج من النافذة إلى اللوح وعاد عليه إلى شرفة المنزل الجديد، وسحب اللوح وركعت مس ألن عند ذلك وشكرت الله لإرساله إليها من ينقذها.
ولما فرغت من صلاتها دنت من باب غرفتها وأنصتت ولم تسمع من السير جمس ما يدل على الرقاد، واضطربت ولكنها كانت تحادث الفتى بحيث يصعب أن يسمع الشرطي ذلك الحديث.
على أنها باتت تلك الليلة عرضة للقلق، ولم تطمئن إلا في صباح اليوم التالي حين رأت السير جمس؛ فإنها رأت السكينة بادية عليه فقال لها: أرجوك يا سيدتي أن تصبري على عشرتي، فإنك لا تتحملني على مضضها غير اثني عشر يوما.
وقالت مس ألن في نفسها: بل ربما نجوت منك الليلة، ثم انصرفت إلى التفكير بذلك الفتى البناء.
7
أما الفتى البناء، فإنه حين وصل إلى شرفة المنزل كان الحارس الجندي ينتظره، وتعاون على إرجاع اللوح إلى مكانه، وقص الفتى على الحارس جميع ما جرى له مع مس ألن.
وقال له الجندي بعد أن فرغ من حديثه: ماذا عزمت أن تفعل؟ - إن الأمر بسيط، لقد عزمت على أن أرى المسيو ميلون. - وبعد ذلك؟ - أسأله إذا كان يعرف رجلا يدعى روكامبول. - إني لا أوافقك على رأيك. - لماذا؟ - لأني رجل مجرب، وأنت لا تزال في مقتبل العمر وقد قلت لك: إن التسرع غير محمود في هذه الأمور. - أرجوك الإيضاح أيها الرفيق فإني لم أفهم شيئا مما تقول.
فقال له الجندي: افترض يا بني أن المسيو ميلون، مقاول هذا البناء لا يعرف روكامبول، وليس هو ذلك الشخص الذي تبحث عنه الإنكليزية، أليس ذلك ممكنا؟ - كل الإمكان. - وإذا سألته هذا السؤال فهو سيسألك عن السبب وأنت تخبره بالحقيقة. - دون شك. - وأن ميلون قد تجاوز عهد الشباب وخطا إلى الكهولة فهو لا يكترث بأمور الغرام، ولا ينظر إلا إلى مصلحته الخاصة أفهمت الآن؟ - كلا أيها الرفيق. - إذا فاعلم أن المسيو ميلون هو رئيسك، وأنه لا ينظر في جميع ما تقوله إلا إلى أمر واحد. - ما هو؟ - هو أنك تتغاضى عن عملك وتصرف نهارك بالغرام وليلك بتسلق البيوت المأهولة، وأن الشرطة قد تعلم بأمرك، وأن صاحب المنزل المأهول قد يشكو أمره إلى الحكومة ويكون كل ذلك بسببك.
وتنهد الفتى وقال: إنك مصيب فيما تقول؛ لأن كل ذلك قد يحدث. - وتكون النتيجة أنه يطردك من المعمل، ولا تعود قادرا على إنقاذ الإنكليزية.
وانقبضت نفس الفتى لهذه الحقيقة الظاهرة وسأله: ماذا كنت تصنع لو كنت في مكاني؟ - كنت أكتم الأمر عن المسيو ميلون وأهتم بإيجاد غرفة للفتاة، وما طلبته من الثياب، وعندما يقبل الظلام نمد لوحين من الخشب وتنقذها، حتى إذا صارت خارج المنزل وأمن عليها الرقباء تذهب إلى ميلون وتسأله إذا كان يعرف روكامبول؛ إذ لا تبالي بعد ذلك بما يكون منه؛ لأن الفتاة تغنيك عن العمل بعد إنقاذها. - لقد أصبت وسأعمل برأيك.
ثم ذهب الاثنان إلى غرفة كانا قد أوقدا فيها النار فناما، ولما أشرق الصباح قال الجندي: لقد خطر لي خاطر وهو أن لي أختا غسالة تقيم في شارع مقفر وهي تحبني حبا شديدا، فإذا سألتها أن تقيم الإنكليزية عندها لا تمانع.
وشكره الفتى شكرا خالصا.
ومضى ذلك النهار والبناء يترقب زوال الشمس بفارغ الصبر وهو لا يجسر أن يرفع عينيه إلى النافذة حذرا من أن يعلم رفاقه شيئا من قصده أو ينتبه إليه الذين يترقبون الفتاة.
ولكنه وجد لوحين قويين يفيدانه لتنفيذ مأربه فنقلهما إلى الدور الثالث.
ولما أقبل الليل انصرف العمال وجاء الحارس وهو يحمل صرة تحت إبطه وخلا بالفتى وقال له: لقد رأيت أختي وهي تنتظرك الليلة مع الإنكليزية، وقد أعطتني هذه الصرة من الثياب لتلبسها الفتاة حين فرارها.
وأوقدا نارا وأقاما حولها ينتظران انتصاف الليل.
وكانت تلك الليلة حالكة الظلام فقد تلبدت فيها الغيوم وحجبت نور القمر، وكان الحارس يظهر سروره بهذا الظلام؛ لأنه أستر للفرار.
وبعد أن مر قسم طويل من الليل رأيا نورا في غرفة مس ألن فقال الفتى البناء للحارس: إني لا أبرح مكاني ما زال النور في الغرفة. - لماذا؟ - لأنه يدل على أنها ليست وحدها في الغرفة فمتى انطفأ وضعنا الألواح بين الشرفة والنافذة.
وقبل أن يتم حديثه انطفأ المصباح وفتحت النافذة، فتعاون الاثنان على مد اللوحين حتى إذا فرغا ركب الفتى البناء الجسر الهوائي وجعل يزحف فوقه إلى غرفة الفتاة.
ولم يكد يبلغ نصف الطريق حتى رأى أن روافد النافذة قد فتحت بعنف وبرز منها وجه إنسان، لكنه لم يكن وجه مس ألن بل وجه رجل، فأخذ الرجل طرف اللوح المتصل بالنافذة ورفعه بقوه وألقاه في الفضاء، وسقط الفتى يهوي إلى الأرض من ذلك العلو الشاهق، وسمع الحارس الجندي صيحة هائلة خرجت من صدر ذلك الفتى المنكود الحظ.
8
إن من يقيم في باريس منذ عهد غير بعيد يرى الجهة اليسرى من الشانزليزه قد تغيرت تغيرا عظيما في العامين الآخرين، فإن قرية شاليوت القديمة قد اختفت بجملتها، وقصر دوقة دي إلب وبستانه، وهو عدة أفدنة قد استحال إلى أراض مخصصة للبناء بحيث لا يمر زمن وجيز حتى تشاد مكان هذه الأراضي مدينة جديدة.
وقد دعي الشارع الجديد شارع مورتي، ولم يكن فيه غير أراض معدة للبيع، وبعض أبنية جديدة متفرقة فيه.
وكان الشارع يقفر ليلا ولا تمر فيه مركبة، في حين أنه كان على قيد خطوتين من الشانزليزه، ولم يكن أحد يجسر على المرور فيه في الليل خوفا من اللصوص.
على أنه في تلك الليلة، وفي نفس الساعة التي هوى فيها ذلك الفتى المنكود من نافذة مس ألن إلى الأرض كانت مركبة جميلة تسير في ذاك الشارع يجرها فرسان كريمان، ولما بلغت إلى آخره قرب الشانزليزه وقفت ففتح شاب، كان فيها بابها ونزل منها.
وكان الشاب متشحا برداء لا تنفذ إليه الأمطار ووضع قبعة على رأسه اتقاء للمطر وأشعل سيكارا وقال للسائق: عد إلى المنزل. - ألا تريد أن أنتظرك يا سيدي؟ - كلا.
ورجع السائق وكان يلتفت مرارا عله يعلم أين يذهب سيده ماشيا على الأقدام في مثل هذه الساعة.
وكأنما الشاب قد أدرك قصد السائق ولبث واقفا في مكانه حتى توارت المركبة عن الأنظار، وسار مسرعا حتى بلغ التركيدارو فاجتاز منه شارع فرنسوا الأول، وهو مقفر أيضا، ووقف في مكان منه وقد سمع وراءه صوت رجلين يتكلمان بصوت منخفض.
ودخل بين الأدغال ووقف يسمع ما يتحدث به الرجلان حتى إذا دنوا منه رأى أن أحدهم ضخم الجثة عالي القامة وقال في نفسه: لا بد أن يكون هذا ميلون.
ثم سمع حديثهما وكان أحدهما يقول للآخر: إذا لا يجب أن أحضر إليك الليلة؟ - كلا، مهما دعت الحال إلا إذا عاد الإنكليزي الذي جاء في مساء أمس. - أأنت ذاهب إلى نفس المكان الذي تذهب عادة إليه؟ - نعم، فعد الآن إلى المنزل فلم يبق حاجة إليك.
وعاد الرجل الصغير من حيث أتى واستمر الرجل الضخم في سيره.
وعند ذلك خرج الفتى من الأدغال ودنا من الرجل الضخم، والتفت إليه الرجل وقال له: من أنت؟
فأجابه الفتى: أهذا أنت يا ميلون؟
وسر ميلون وقد عرف الفتى من صوته وقال: أرجوك المعذرة يا مرميس فما عرفتك إلا من صوتك لشدة الظلام.
فأخذ تلميذ روكامبول بيد ميلون ذلك الخادم المخلص الأمين لرئيسه وسار وإياه، فقال ميلون: أرأيت يا مرميس حرصي على الحضور في ميعاد جلستنا الشهرية ؟ - وأنا كذلك حريص مثل هذا الحرص. - إني واثق بأن جميع العصابة يحضرون. - ما خلا فاندا.
فذهل ميلون وقال: لماذا؟ - إني أرسلتها إلى إنكلترا باحثة عن روكامبول وعسى تجده.
فهز ميلون رأسه وقال بصوت يتهدج: إني أخشى أن يكون الرئيس أصيب بمكروه. - إنك كنت تخاف هذا الخوف وتقول نفس القول منذ أربعة أعوام حين كان الرئيس في الهند. - لا أنكر أني كنت أقول هذا القول. - ولكنك لا تنكر أن الرئيس قد عاد. - هو الحق أيضا غير أن المثل المأثور: «ما كل مرة تسلم الجرة.»
فأظهر مرميس نفورا من ميلون وقال له: إنك نسيت واجب الاحترام للرئيس يا ميلون، أيجمل بك أن تشبه الرئيس بالجرة؟ - اعذرني أيها الصديق، فأنت تعلم أني ساذج الفطرة سمج الألفاظ ولا تجهل مقدار احترامي للرئيس، ولكنه مثل ما جرى على لساني فنطقت به وأنا لا أريد غير معناه. - لا بأس، ولكنك نسيت أن هذا الرئيس القوي المحبوب يعبث بالموت ويستقبله باسم الثغر. - ولكن قد مضى عهد طويل يزيد عن نصف عام دون أن نقف على شيء من أخباره. - إن لندرا غير بعيدة عن باريس، فإذا كان الرئيس لم يوقفنا على أثر أخباره فقد يكون بذلك له مأرب خفي، غير أني سمعت الرجل الذي فارقك الآن يحدثك عن رجل إنكليزي فمن هو هذا الرجل؟ - نعم سأخبرك عنه متى وصلنا إلى محل الاجتماع.
ثم سار الاثنان حتى وصلا إلى أرض مسورة بالأدغال، ففتحا بينهما ممرا ودخلا.
وقال ميلون: أظن أننا أول القادمين. - أخبرني الآن من هو هذا الإنكليزي.
9
وأعاد ميلون مدخل الأدغال إلى ما كان عليه وسار مع مرميس جنبا إلى جنب في تلك الأرض.
وقال له: لقد جاءني منذ ثمانية أيام رجل إنكليزي.
ولم يكن الرجل من النبلاء أو الأغنياء، بل كان رجلا تدل ملابسه الرثة على فقره المدقع، فحسبته لأول وهلة متسولا وهممت أن أحسن إليه فمنعني عن ذلك بقوله: إني ما أتيت يا سيدي لمثل ذاك.
ثم قص علي قصة طويلة مفادها أنهم سرقوه وهو قادم من لندرا إلى باريس ، وكان مما سرق منه كتاب خطير، وهو يتضمن حوالة مالية على رجل يدعى ميلون أعطاه إياه رجل يدعى الرجل العبوس، أتعرف أحد يدعى بهذا الاسم؟ - كلا. - وأنا أيضا، ولكن خطر لي بعد ذهاب ذاك الإنكليزي أن الرجل العبوس قد يكون الرئيس. - ما الذي أوحى إليك ذاك الخاطر؟ - إن الإنكليزي أخبرني، حين سألته عن الرجل العبوس، أنه فرنسي وأنه يعمل على استقلال أرلندرا، وأنه رجل قوي قادر لا يقدم على أمر إلا يكون به من الفائزين، ومثل تلك الصفات تنطبق على روكامبول كل الانطباق.
فظهرت على محيا مرميس علائم التفكير وقال: أتم حديثك. - ويظن الإنكليزي أن الرجل العبوس الذي أعطاه كتاب الحوالة، قد وقع عليه بغير ذاك الاسم، ولكنه أعطاه إياه مختوما، فلم يذكر غير عنوانه وهو اسم ميلون وذهب إلى جميع الذين يدعون بهذا الاسم فكانوا يطردونه لظواهر فقره.
ولقد أخطأت أنا أيضا نفس الخطأ، فقد حسبته متشردا محتالا، وكان ذلك اليوم الذي جاءني فيه يوم سبت؛ أي يوم محاسبة العمال، فأعطيته عشرة فرنكات وقلت له: ليس لي وقت لمقابلتك الآن، اذهب وعد إلي في غير هذا اليوم. - ألعله عاد؟
فتنهد ميلون وقال: كلا، ولكني أمرت خادمتي ووكيلي وكل من يقيم في منزلي أن يحتفظوا بالرجل إذا عاد، وأن يسرعوا إلى إخباري في أي مكان كنت فيه. - أحتى في المكان الذي نحن ذاهبان إليه؟ - نعم. - لقد أحسنت بهذا الاحتياط، وإن قلبي يحدثني بأن الرجل قادم من عند الرئيس.
فتنهد ميلون أيضا وقال: ولكن إذا لم يعد فماذا تصنع؟ - نبحث عنه. - إن باريس واسعة ولا يكون مثلنا في البحث عنه إلا مثل الباحث عن إبرة بين أكداس الحشيش. - لقد أخطأت؛ لأن الإنكليز قليلون بيننا، ولا سيما الفقراء منهم.
وسار الاثنان في تلك الأرض المعدة للبناء، بين أنقاض المنازل المتهدمة وأدوات المنازل الجديدة، حتى انتهوا إلى محل يشبه البئر، وقد غطى فمه بالأدغال والشوك.
فأزاح ميلون تلك الأدغال، فانكشفت عن قبو متسع فدخل مرميس وتبعه ميلون.
وقال ميلون : إننا أول القادمين فلم يحضر أحد بعد. - لا بأس إننا ننتظر.
فأخذ ميلون شمعة من جيبه وكبريتا وأنارها، فظهر في القبو سلم داخل في جوف الأرض.
ونزل فيه وتبعه مرميس، حتى إذ نزلا ثلاثين درجة باتا في دهليز وظهر لهما نور بعيد.
وقال ميلون: يظهر أني كنت مخطئا، فمن عسى يكون قد تقدمنا من أفراد العصابة؟ - أظنه مورت إن منزله قريب من القبو.
فأطفأ ميلون الشمعة، وسار مع مرميس مسترشدين بذلك النور الذي كان ينبعث من ثقب قفل - كما يظهر - حتى وصلا إلى منبعث النور وهناك باب مقفل.
وطرقاه ثلاث مرات متوالية ففتح لهما ودخلا فوجدا رجلا ضخم الجثة وقد بيضت شعره الأيام.
10
كان هذا الرجل الذي فتح باب القبو جواني الجزار، وهو ذلك الرجل الذي تقدم لنا وصفه في الروايات السابقة، حين كان جلاد في سجن طولون، فأنقذه روكامبول من السجن، وأتى به إلى باريس وضمه إلى أفراد عصابته.
وكان أول القادمين إلى ذلك المجتمع السري في تلك المغارة التي كانت باقية من آثار الأبنية الأولى.
ولا بد لنا أن نذكر السبب في اجتماع العصابة في ذاك المكان مرة في كل شهر فنقول: يذكر القراء أنه حين عاد روكامبول من الهند سار بجميع رجاله إلى لندرا فلما استرد تلك الأموال التي اختلسها الماجور من ابن الرجاه لبث رجاله ينتظرونه في الباخرة، فلم يعد، ولكنه أرسل إليهم كتابا قال فيه: عودوا إلى فرنسا وسأتبعكم.
فمر على تلك الحادثة عام ولم يعد روكامبول.
وكان جميع أفراد عصابته وكل من أخلص له، يجتمعون مرة في كل شهر برئاسة مرميس أو ميلون في خمارة أو في قهوة، وكل منهم يرجو أن يعلم نبأ جديدا عن روكامبول حتى إن بعضهم سافروا مستطلعين مستكشفين فلم يقفوا على أثره.
ثم إن رجال روكامبول لم يكونوا من أولئك البؤساء والتعساء الذين يشغلهم الفقر عن الاهتمام بغير شئونهم، فإن روكامبول كان قد أتم إحسانه إليهم، وإنه لم يقتصر على تطهير قلوبهم من وصمة الشر والآثام وجعلهم من أهل الخير والصلاح، بل إنه التمس لهم عفو الحكومة بواسطة الكونتس أرتوف؛ أي باكارا، والكونت أرمان دي كركاز، وجعل لكل منهم مهمة يرتزق منها وينفق ما يزيد عنه على التعساء.
وقد أنشأ لجواني الجزار مجزرا، يبيع فيه المواشي واللحوم في شارع باسي، فكان الناس يحترمون هذا الرجل لما رأوه من ظواهر صلاحه.
وجعل ميلون مقاول أبنية ومنازل، فإنه كان بناء قبل أن يعرفه، وعين له رأسمالا عظيما من أموال مرميس التي اتصلت إليه من جيبسي النورية فانتظمت أعماله واتسع نطاق أشغاله حتى بلغ عدد العمال في معامله ألف وخمسمائة عامل وبات من أهل الثروة واليسار.
وافتتح من أموال مرميس أيضا مخزنا كبيرا لبيع الأخشاب عهد به إلى مورت فإنه كان في بدء عهده نجارا.
وعلى الجملة فإنه أشغل كل واحد من رجال عصابته بالمهنة التي يعرفها، فحسنت أحوالهم وعظم في نفوسهم ذاك الرجل الذي كان في بدء أمره لصا مثلهم فتاب وبات من أفضل أهل الخير والصلاح.
على أن منظر تلك العصابة حين اجتماعها في تلك المغارة السرية، كان من أغرب المناظر، فإن كلا منهم كان يأتي بالملابس التي يلبسها حين شغله، فيحتك ثوب فاندا الحريري بثياب النجار الزرقاء، وفروة ميلون الطويلة برداء مورت القصير، وتلتقي رائحة مرميس العطرية وملابسه الناعمة بثياب الجزار الخشنة وما تلطخ فوقها من لطخ الدهن وروائح اللحوم.
ثم إن اجتماعهم أشغل أفكار البوليس، فإنهم كانوا مرة مجتمعين في خمارة فارتاب أحد رجال البوليس في أمرهم وكتب عنهم تقريرا إلى مأمور القسم في ذلك الشارع.
وكان المأمور يعرف ميلون فدعاه إليه وسأله عن أسباب هذا الاجتماع فأجابه: إننا أصدقاء قدماء نأدب مأدبة في كل شهر تجمع عقدنا، وتجدد عقد صداقتنا.
فاكتفى المأمور بهذا الجواب غير أن ميلون رأى أن الحرص أفضل فقال لمرميس: إني أكره مداخلة البوليس في شئوننا، وسأدلك على محل نجتمع فيه في الشهر القادم فلا يهتدي إليه البوليس.
ولذلك اختار تلك المغارة القديمة في ذلك الشارع المقفر وأرشد إليه جميع العصابة، فكانوا يجتمعون فيها كل شهر آمنين مراقبة العيون.
وقد تقدم لنا القول أن جواني كان أول القادمين، ثم تلاه مرميس وميلون، ووصل بعدهما مورت وعشرة غيرهم.
وكان كل منهم ينظر إلى الرفاق نظرة تدل على الكآبة؛ لأنه لم يكن بينهم من عرف شيئا عن روكامبول.
فلما انتظم عقدهم قال مرميس: هل أتى الجميع؟
قال ميلون: نعم ما خلا فاندا.
قال مرميس: لقد قلت لك: إنها ذهبت إلى لندرا، وربما لا تتمكن من حضور مجتمعنا هذا.
وقبل أن يتم حديثه فتح الباب فجأة فصاحوا جميعهم صيحة فرح إذ رأوا فاندا واقفة على عتبة الباب.
وكانت لا تزال بثياب السفر وهي متشحة برداء مبطن بالفرو فقالت: إني أتيت من لندرا أحمل إليكم أخبارا عن روكامبول.
فصاحوا جميعهم صيحة ارتجت لها جوانب المغارة وقالوا: ليحيا روكامبول ليحيا الرئيس.
فلما انتهوا من صياحهم قالت فاندا: إني لا أعلم وا أسفاه أين هو، ولكني أؤكد لكم أنه لا يزال حيا.
قال مرميس: إذا ألم تريه؟ - كلا، ولكني اتبعت آثاره إلى عهد أسبوعين، وبعد ذلك اختفت عني تلك الآثار.
فقال ميلون: وا أسفاه إن ذلك يدل على أنه أصيب بمكروه. - كلا؛ لأني حين فقدت أثره كان منتصرا على أعدائه.
وقال مرميس: من هم أعداؤه. - إن أعداء روكامبول الآن هم أولئك الذين يضطهدون الأرلنديين، والكنيسة الكاثوليكية؛ أي: الشعب الإنكليزي، وقد ترأس روكامبول الأرلنديين في لندرا وهم يدعونه الرجل العبوس.
فصاح ميلون مندهشا: أتقولين إنهم يدعونه الرجل العبوس؟ - نعم. - لقد ثبت الآن أن ذاك الإنكليزي المنكود الحظ كان قادما إلي من عند الرئيس.
وقد ظهرت على ميلون علائم اليأس بعد هذا القول.
وقال مرميس لفاندا: أخبرينا الآن من أين أنت آتية؟ وماذا عرفت عن روكامبول؟
11
وكانت فاندا قد عادت تلك الليلة نفسها من لندرا، فلم تذهب إلى منزلها الفخم في شارع مارينيان، بل أتت توا من المحطة إلى مجتمع العصابة، وهي لا تزال بثياب السفر، فأوقفت مركبتها في شارع مورلي وأتت سيرا إلى المغارة.
وكان السكوت سائدا بين أفراد العصابة، وكلهم ينتظرون بملء الجزع ما سترويه لهم فاندا عن روكامبول.
فجلست فاندا قرب مرميس وقالت: إننا حين برحنا لندرا بأمر الشرطة، كان روكامبول مسجونا فيها، ولكنه خرج من السجن في اليوم التالي بضمانة.
ثم اختفى من لندرا عدة أيام، فتعذر على رجال الشرطة الإنكليزية إيجاد آثاره.
فقال لها ميلون: وأنت أوجدت آثاره؟ - نعم. - أفي لندرا؟ - في لندرا نفسها، فقد بدأت في التنقل من فندق إلى فندق، وأقمت في جميع الفنادق الفرنسية مدة ثمانية أيام، ولكن هذه المساعي لم تسفر عن الفوز، فقلت في نفسي: إني لا يمكن أن أجده في مثل هذه الفنادق فلأبحث عنه في غير تلك الأمكنة.
ثم ذهبت إلى شارع الأحواض فما أقمت في فندق، بل استأجرت غرفة في منزل حقير وتنكرت بثياب العوام.
وأنا أعرف اللغة الإنكليزية كأبنائها، فجعلت في النهار أتجول في الشوارع والأزقة، وفي الليل أدخل الحانات والمنتديات العمومية، فلم يفدني كل ذلك في شيء.
وكانت غرفتي في ذلك المنزل الذي كنت فيه في الدور الثاني، وكان يقيم في غرفتي عائلة مؤلفة من أبوين وابنتين، بينهم فتاة حسناء، وكنت أراها تمر أمامي فأرى عليها آثار نحول، تدل على أنها ناقهة من داء شديد، فكنت كلما رأيتها ابتسمت لها إلى أن أفضى الأمر بنا إلى التعارف.
فقلت لها يوما: إني أرى عليك أثر النحول، فهل كنت مريضة؟ - بل كنت مشرفة على الموت فأرسل لي الله من أنقذني. - أهو طبيب حاذق؟ - بل هو محسن نبيل، فإن دائي لم يكن يشفيه غير الراحة وتبديل الهواء وهو ما لم يكن ميسورا لفقري.
فأرسل الله إلي رجلا كريما نبيلا، عرف تلك العلة وأزالها بفكره الوضاح، وهو رجل أظنه فرنسي الأصل ولم أعلم حقيقة اسمه، فإنه كان يلقب بالرجل العبوس.
ثم قصت علي ما عرفته من أخبار ذاك الرجل وأخلاقه، ووصفت لي تقاطيع جسمه.
إلى أن أخبرتني أن لديها رسمه، فشاقتني أخبار ذاك الرجل إلى رؤية وجهه، فلما رأيت تلك الصورة صحت صيحة فرح؛ إذ عرفت أنها صورة روكامبول.
وعند ذلك جعلت أستقصي من تلك الليلة أخباره، فعلمت بإرشادها كثيرا من أموره، وجعلت أقفو أثره خطوة خطوة، وكلما أوشكت أن أظفر بلقائه فقدت ذلك الأثر.
وقد عرفت جميع الرجال الذين خدموه وكانوا تحت لوائه أشبه بالجيش الصغير، وعلمت غايته والمعارك التي خاضها والفوز الذي ناله.
ثم علمت أيضا أنه أرسل منذ ثلاثة أسابيع إلى فرنسا غلاما أرلنديا يعده الأرلنديون زعيمهم الأكبر.
وأرسل مع هذا الغلام رجلا إنكليزيا يدعى شوكنج، وينبغي أن يكون الآن في باريس، وهو لا بد أن يكون واقفا على كثير من أسرار الرجل العبوس.
فقال ميلون: لا شك أن هذا الإنكليزي، هو نفس الشخص الذي أتاني.
وعادت فاندا إلى الحديث فقالت: إن الغلام سافر إلى باريس، وبقي روكامبول في لندرا، فركب في إحدى الليالي قاربا ذهب فيه بمياه التميس إلى جسر وستمنستر ومنذ ذلك العهد لم يعد يراه أحد.
على أنه قال وهو في القارب: إنه قد لا يعود.
وقد بذلت جهدا عظيما للوقوف على ما جرى له فلم أعلم غير ما ذكرت لكم من أخباره.
فقال ميلون: وا أسفاه إنه بات من الأموات.
فهز مرميس كتفه وقال: إن روكامبول لا يموت.
وقالت فاندا: إني أعتقد نفس اعتقادك، ولكن كيف انقطعت أخباره وأين هو الآن؟
فقال جواني: إنه قد يكون في باريس.
وقال مورت: إني طالما ظننت هذا الظن.
وقال مرميس: إنه لو كان في باريس لكنا رأيناه.
وهنا عاد الأمل إلى قلب ميلون فقال: أذكر أننا حين كنا منذ أربعة أعوام قانطين من لقائه باغتني شخص وأنا قابع على عتبة الباب فوضع يده على كتفي وقال لي: أيها الأبله! إن من كانت لديه مهمة لا يموت قبل قضائها.
فالتفت فكان ذاك الرجل روكامبول.
فرد مرميس: إذا ثق أنه سيقول لك هذا القول مرة أخرى؛ لأن المهمة الأخيرة التي تولاها لم تتم بعد.
إن إنكلترا لا تزال تضطهد أرلندا، وتسيء إلى أساقفة الكاثوليك وتفرغ جهدها للتنكيل بالأرلنديين.
وعلى ذلك فإن روكامبول لم يمت بعد.
فقال ميلون: من يعلم إذا كان محتاج إلينا ، ويا حبذا لو تيسر لي لقاء ذاك الإنكليزي الذي زارني.
وعند ذلك سمعوا وقع أقدام خارج المغارة فقال مرميس: من عسى يكون القادم ألعلنا ننتظر أحد بعد؟
فرد جواني: كلا، إن عددنا قد تم.
فقالت فاندا: رباه! إني أسمع دقات قلبي لاضطرابي، ألا يمكن أن يكون القادم روكامبول؟
وهنا سادت السكينة وخفقت القلوب وانصرفت الأنظار إلى الباب.
12
وقد مرت بهم دقيقة هائلة لما تولاهم من الاضطراب، ثم فتح الباب فظهرت علائم الاشمئزاز على وجوههم.
ذلك أن هذا القادم لم يكن روكامبول، بل كان وكيل ميلون الذي رافقه في شارع مورني حين لقيهما مرميس، وحذره أن لا يجيء إليه إلا إذا أتى الرجل الإنكليزي.
فلما رآه ميلون داخلا قال له: لماذا أتيت إلي؟ - ذلك لأنه حدث مصاب عظيم يا سيدي.
فاضطرب ميلون وقال: ويحك ما هذا المصاب؟ - إنك تعلم أن فتى بناء ينام عادة في ورشة لويس الكبير. - كلا، لا أعلم ولكن أتم حديثك.
ثم التفت إلى مرميس وقال: أرجوك المعذرة، فإن هذا الأبله أتى يحدثني بأشغالي الخصوصية في هذا المكان. - لا بأس فليتمم حديثه.
فقال الوكيل: إن هذا الفتى يا سيدي، قد سقط من الدور الثالث، وربما ألقوه منه، فإني لا أعلم الحقيقة، غير أن هذا المنكود قد بلغ حد الاحتضار.
وقد ذهبوا به إلى مركز الشرطة، وهناك دعوني إليه، فلما رأيته قال لي: أرجوك أن تبحث لي عن ميلون لأراه قبل الموت، فإذا كان هو ميلون الذي يعرف روكامبول فقل له لدي سرا عظيما أحب أن ألقيه إليه قبل ذهابي إلى العالم الأخير.
فلما سمع ميلون حديث وكيله، وثب إلى الباب وقال: أهو قال هذا القول؟ - نعم يا سيدي. - إذا أنا ذاهب إليه. - يجب الإسراع يا سيدي، وقد أوقفت مركبة عند أول الشارع، فهلم إليه.
فهم ميلون بالخروج فقال له مرميس: اصبر إني ذاهب معك.
ثم التفت إلى الحضور وقال لهم: ابقوا هنا إلى أن نعود، إن غيابنا لا يطول أكثر من ساعة.
وخرج الاثنان في أثر وكيل ميلون ، فركبا المركبة التي كانت تنتظره في أول الشارع.
وسارت بهم إلى مركز الشرطة فبلغت إليه بعد ربع ساعة.
وكان الفتى البناء هناك، في حالة تقطع القلوب من الإشفاق، وقد وقف الجندي الحارس أمامه يرث لبلواه، ويعين الطبيب على ضمد جراحه، فكان يقول: إني موقن بقرب الساعة، ولكني لا أبالي بالموت إذا كان ميلون الذي أعرفه هو ذلك الرجل الذي تبحث عنه الإنكليزية، وإذا كان يدركني قبل الموت.
أما الحارس الجندي فكان يسمع أقواله ويبكي، ثم ينظر إلى الطبيب نظرة السائل.
لكن الطبيب لم يكن يجيب بحرف.
عندما جاء ميلون ومرميس ظهرت على وجه الفتى علائم البشر وقال لميلون: لقد كنت واثقا أنك أنت هو الذي كانت تبحث عنك.
قال له ميلون بصوت يضطرب إشفاقا على هذا المنكود الحظ: من هي التي تبحث عني يا بني؟ - الإنكليزية. - ومن هي هذه الإنكليزية؟ - هي الفتاة الأسيرة في المنزل المشرف على الورشة، وقد أردت إنقاذها فأصغ إلي يا سيدي، ولا تقطع علي الحديث فإني أخاف أن يدركني الموت قبل استيفائه.
فحال الحارس دون ما يبتغي وقال له: إني أعرف الحكاية يا بني كما تعرفها فدعني أرويها عنك، وإذا أخطأت أصلحت خطئي.
وعند ذلك خرج الطبيب احتراما لإرادة هذا المحتضر، واندفع الحارس في حديثه، فقص على مرميس وميلون جميع ما مضى مما عرفه القراء، أما ميلون فإنه لم يفهم شيئا مما تريده هذه الإنكليزية، ولكن مرميس لم تفته كلمة من حكاية الحارس.
فلما أتم حكايته ووافق عليها البناء نادى مرميس الطبيب وقال له: ألا يمكن نقل هذا الجريح من هذا المكان؟ - إن ذلك يستحيل قبل الغد.
فأوصاه وأوصى مأمور القسم به خيرا ونادى الحارس وقال له: هلم أنت معنا؛ لأننا محتاجان إليك.
فقال له ميلون: إلى أين تذهب؟ - إلى المحل الذي جرت فيه الحادثة فإني أحب أن أرى النافذة ثم خرج مع ميلون يتقدمهما الحارس إلى معمل البناء.
13
إن ميلون كان عارفا بذكاء مرميس فلم يكن يثق إلا به ولا يعتمد إلا عليه بعد روكامبول ، ولذلك تبعه إلى حيث أراد وهو واثق بأن بحثه سيسفر عن نتيجة حسنة.
فلما وصل إلى المعمل قال مرميس للحارس: أرني النافذة.
فأراه إياها وأراه اللوح الخشبي الذي سقط بالفتى فصعد مرميس إلى شرفة المنزل الجديد وفحص المسافة الفاصلة بينها وبين غرفة مس ألن، وأخذ دفترا من جيبه وخط فيه بعض كلمات.
ثم عاد إلى ميلون وقال له: أصغ إلي الآن فإنه يجب أن تعود إلى المغارة وتقول للعصابة: إننا لا نستطيع أن نخبرهم بشيء الآن، ولكننا نحتاج إليهم قريبا. - وأنت ماذا تصنع؟ - أقيم هنا. - أتقيم هنا وحدك؟ - نعم، إني سأجول قليلا في هذا الشارع ثم أعود، فقل للحارس أن يطيعني في كل ما آمره به.
فنادى ميلون الحارس وقال له: إني أنا مقاول هذا البناء، ولكن رفيقي مهندسه أفهمت المراد؟ - تريد أنك أنت تشبه الكولونيل وهو يشبه الجنرال، إني سأطيعه يا سيدي كما أطيعك.
فقال مرميس لميلون: يكفي الآن، اذهب إلى حيث قلت لك.
فامتثل ميلون دون أن يعترض أو يسأل، فإنه تعود أن يطيع مرميس كما كان يطيع روكامبول.
أما مرميس فإنه حين خلا بالحارس وضع يده على كتفه وقال له: تعال معي وتبعه الحارس وذهب الاثنان إلى شارع لويس الكبير، فدنا مرميس من منزل مس ألن وقال للحارس: أهو ذا باب منزل الفتاة؟ - نعم هو بعينه.
فأخذ دفتر وكتب فيه نمرة المنزل.
وقال الحارس: قد يمكن يا سيدي أن الفتاة لا تزال في المنزل، وأنها لم تبرحه هذه الليلة. - هذا ما أريده منك أن تساعدني على معرفته. - أتريد أن أقرع الباب وأسأل؟
فابتسم مرميس لسذاجته وقال: كلا، بل أريد أن تذهب معي إلى منزلي في البدء.
فاستغرب الحارس من قوله وقال له: إلى منزلك يا سيدي؟ - نعم، فهو قريب من الشارع.
وكان مرميس يقيم في منزل جميل ويسكن الدور الأول منه، فلما وصلا إليه وطرق الباب فتح له خادمه، فدهش حين رأى سيده عائدا إليه بعد انتصاف الليل يصحبه رجل رث الثياب مبتور الساق، ولم يمهله أن يمعن النظر بالحارس بل أمره أن يعود إلى فراشه.
ثم دخل بالحارس إلى منزله، وكان انذهاله أشد من انذهال الخادم لما رآه من الأثاث الفاخر، وجعل يسأل نفسه عن السبب بالمجيء به إلى مثل هذا القصر الجميل.
غير أن الجندي يتمرن على الصمت مدة خدمته ويغدو الصمت من طبعه، ثم إن ميلون قد أمره أن يطيعه، ولم يجد بدا من الامتثال، ولم يسأله عن شيء.
أما مرميس فإنه سار به إلى غرفة أشغاله فقال له: انظر إلى الآنية الموضوعة على المنضدة، فإن فيها ثلاث زجاجات مختلفة من الخمر، فاشرب ما يروق لك منها، وإذا نعست نم على هذا المقعد وسأعطيك رداء للنوم. - لست بحاجة إلى الرداء يا سيدي فإني أنام بثوبي. - أما أنا فإني محتاج إلى ثوبك وسأبدله بثوب آخر. - ماذا تريد أن تصنع به؟ - أريد أن ألبسه وأتولى حراسة المعمل الليلة. - ودهش الحارس وقال: إني لا أفهم يا سيدي ما تقول. - أصغ إلي تعلم المراد.
ثم صب له كأسا من الوسكي وصب لنفسه مثله وشربا، ثم قال له: إنك تعلم يقينا أنه ليست الإنكليزية التي ألقت اللوح من النافذة، ورمت ذلك الفتى المسكين. - دون شك؛ لأنه لم يرتكب هذا الإثم الفظيع غير أحد الرجلين الذين يحرسانها. - هو ذاك، ولا بد أن الرجلان قد رأياك مع الفتى البناء وهما على غير ثقة منك. - ربما. - لذلك أحببت أن أتولى عنك الحراسة، حتى إذا رأيا في الصباح سواك علما أن صاحب المعمل استبدلك فلا يشكان بي. - كل ذلك موافق يا سيدي، ولكنك لا تزال في مقتبل الشباب. - وماذا يضر ذلك؟ - وأنك سليم الأعضاء والعادة أنهم لا يستخدمون في هذه الوظائف غير الجنود المشوهين.
فضحك وقال: إذن سأقطع ساعدي.
فدهش الحارس وقال: ماذا تقول يا سيدي، وكيف تقطع ساعدك؟ - اخلع ثيابك واجلس أمام النار إلى أن آتيك بثياب غيرها.
وامتثل الجندي وأخذ مرميس ثيابه، ودخل إلى أحد الغرف وقال له: سوف ترى.
وبعد هنيهة عاد ونظر إليه الحارس نظرة دهش؛ إذ رأى سحنته قد تغيرت وابيض شعره وقطع ذراعه الأيسر، بحيث لم يعرفه إلا من صوته فقال له: إني عرفت ببياض شعرك؛ فإنك لبست شعرا مستعارا، ورسمت على وجهك خطوطا ظهرت كالغصون ولكني لا أعلم ماذا صنعت بذراعك. - إني ربطت باطن كفي بكتفي ولبست فوقه الثوب وصرت كأني مقطوع اليد.
ثم ابتسم وقال: إني كنت أيها الصديق ممثلا قبل أن أكون مهندسا، ولما كان التمثيل في هذا العهد شعوذة ومخرقة فقد تعلمت منه التنكير.
وعند ذلك أعطاه ملابس جديدة فلبسها، ثم تركه وسار إلى المعمل وهو يقول: سوف نرى إذا كان الشرطي الإنكليزي أشد دهاء من تلاميذ روكامبول.
14
ووصل وهو متنكر بزي الحارس إلى المعمل وصعد توا إلى الدور الثالث وبسط لوحا من الشرفة المحاذية لغرفة مس ألن، وأقام يراقب وهو يقول في نفسه: إنه لا بد لهذين الرجلين اللذين ألقيا الفتى أن يعودا إلى المنزل إذا كانا قد برحاه فأراهما من الشرفة دون أن يرياني، لكنهما إذا كانا باقيين في المنزل فإني لا أراهما إلا إذا أنارا مصباحا في الغرفة.
وقد أخطأ مرميس في حسابه فإنهما لم يخرجا من المنزل ولم ينيرا الغرفة، ولكن أحدهما فتح تلك النافذة التي سقط منها الفتى وأطل منها فجعل يراقب الطريق.
وكانت السكينة سائدة والمسافة قريبة بينه وبين الرجلين وأصغى إصغاء تاما، وسمع أحد الرجلين يقول لرفيقه: إن الحارس قد ذهب.
فقال له رفيقه: والفتى البناء؟ - إنهم حملوه. - أظن أنه لم يبح بشيء. - دون شك وسيعلل البوليس سقوطه من قبيل الاتفاق. - ذلك سيان عندي وخير لنا أن نبرح المنزل. - دون شك؛ إذ لم يعد لنا عمل به بعد أن بات الطير في القفص على أني لا أخشى أحدا حتى إني إذا اضطررت إلى قول الحقيقة اعترفت بها لقائد الشرطة، وفوق ذلك فإنه أطلق يدي.
وسمع مرميس كل ما دار بينهما من الحديث وقال في نفسه: لقد بت واثقا الآن أن هذين الرجلين من شرطة لندرا، وأنهما قدما للقبض على الصبية والعودة بها إلى بلادها، ولكني أود لو رأيت وجههما وحبذا لو أنارا مصباحا.
غير أنهما لم يقضيا رغبته، بل إنهما أقفلا النافذة وعادت السكينة إلى ما كانت عليه.
وصبر مرميس إلى أن أشرق الفجر، فلم ير شيئا فنزل من الدور الثالث إلى أرض المعمل، فأوقد نارا ووجد في جيب ثوب الحارس الذي كان يلبسه غليونا وتبغا فجعل يدخن.
ولم يكن موعد قدوم العمال قد حان بعد فأخذ يراقب تلك النافذة، ولكنها لبثت مقفلة فانصرف إلى مراقبة الباب ولبث مدة طويلة شاخصا إليه إلى أن فتح نحو الساعة السادسة، وخرج منه البواب يحمل المكنسة.
فكنس الرصيف ثم دخل إلى الخمارة المحاذية للمنزل فاقتدى به مرميس ودخل إلى تلك الخمارة وطلب إلى الخمار كأسا من الشراب وجعل يشكو من البرد.
ونظر إليه البواب وكان قد طلب أيضا كأس شراب فقال: من أنت ألعلك حارس المعمل؟ - نعم. - ولكنك غير الذي كان أول أمس. - نعم، فإني توليت الحراسة مكانه مساء البارحة؛ لأنه مريض. - إذا أنت الذي كنت في المعمل الليلة؟ - نعم. - لقد حدثت مصيبة في معملكم، ولكن حدث في منزلنا ما هو شر منها فأخبرنا عن تفصيل ما حدث عندكم. - إن أحد البنائين كان نائما في الدور الثالث فسقط منه. - ألعله قتل؟ - كلا، ولكني لا أظنه ينجو من الموت. - مسكين إني سمعت صياحه وأردت الخروج إليه فمنعتني امرأتي. - إنك لم تنم دون شك بعد الحادثة. - إن أسفي ليس من الحادثة، بل من هؤلاء الناس المقيمين عندنا، فإني لا أجد معهم ساعة راحة، وأخصهم هؤلاء الإنكليز؛ فإن لدينا منهم رجلين وفتاة حرموني لذة الرقاد. - كيف ذلك ألعلهم يعودون متأخرين؟ - إنهم يذهبون ويعودون ويعودون في كل ساعات الليل، مثال ذلك ليلة البارحة فإن الفتاة لم تعد إلى المنزل، وقد كانت خرجت في الساعة الثالثة بعد الظهر مع الرجلين فلم تعد إلى الآن. - والرجلان ألم يعودا؟ - إنهما عادا وأظن أنهما كانا يعدان معدات الرحيل كل الليل؛ لأني علمت في الصباح أنهما ذهبا.
وعلم مرميس من البواب ما كان يريد أن يعلمه، وهو أن مس ألن والبوليسين برحا المنزل ولم يبق عليه إلا البحث عنهما، وعن تلك الفتاة التي سجناها دون شك في غير المنزل بدليل رجوعهما دونها، وبدليل ما سمعه من أحدهما حين قال: إن الطير قد بات في القفص فلا حاجة إلى بقائنا في المنزل.
15
ولنذكر الآن ما جرى لمس ألن وكيف أن طريقة إنقاذها قد حبطت بعد أن كانت مدبرة أحسن تدبير؛ ولذلك يجب أن نعود إلى تلك الليلة التي تمكن فيها الفتى البناء من الدخول إلى غرفتها فنقول: إن السير جمس كان من أفضل رجال الشرطة وأبصرهم بمعرفة دخائل القلوب وأسرارها، وقد عرف أسرار ألن على مبالغتها في إخفائها.
وقد تقدم لنا القول: إنه ثقب ثقبا في باب غرفتها الذي كان يراقبها منها، وإنها كانت عالمة بهذا الثقب فوقفت مع البناء في مكان منحرف عن الثقب وكانت تعتقد أن الشرطي كان نائما.
غير أن مس ألن لم تفطن إلى مرآة كانت في غرفة البوليس تجاه الثقب، ودخلت إليها أشعة القمر من ذلك الثقب وعكست عليها صورتها والفتى.
وقد رآهما الشرطي فكتم أنفاسه وقام إلى الجهة التي كانا واقفين فيها وأصغى إليهما، ولم يفته حرف من حديثهما وعول على أن يقتحم باب الغرفة ويقبض على الفتاة لو كانت عزمت على الفرار مع الفتى في تلك الليلة.
غير أنه سمع اتفاقهما فلم يظهر شيئا من ريبه، ووضع في تلك الليلة الخطة التي يجب أن يجري عليها.
وفي اليوم المعين لفرارها خرج بها في ساعة النزهة فركبت بجانبه في المركبة وسارت معه حسب عادتها دون حذر، وذهبت المركبة إلى المنتزه حتى إذا دارت دورتها حول البحيرة أمر السائق أن يذهب إلى جهة الأرز.
فاستغربت مس ألن لتغيير خطة النزهة المألوفة وقالت له: إلى أين تريد الذهاب؟
فأجابها ببرود: لدي مهمة خاصة في تلك الجهة أحب قضاءها. - ولكننا ذاهبون إلى غابات بولونيا؟ - هو ما تقولين.
ولم تشأ مس ألن معارضته حذرا من أن تولد في نفسه الشكوك وقالت له: لنذهب .
ولما وصلت المركبة إلى الأرز سارت مسرعة إلى بولونيا، حتى إذا خرجت من الغابات رأت مس ألن رفيق السير جمس واقفا قرب مركبة يظهر أنها كانت تنتظر، أمر السير جمس السائق أن يقف حيث كانت واقفة المركبة.
فاضطربت ونظرت إليه نظرة المستطلع فابتسم لها وقال لها: إن البرد شديد يا سيدتي، فهلمي نستبدل مركبتنا المكشوفة بهذه المركبة المقفلة وقاية لنا من البرد.
فهمت أن تعترض، ولكنه قال لها: تأبطي ذراعي ولا تقاوميني.
وكان يقول هذا القول بلهجة سيادة هاجت لها الفتاة فقالت: أرى أنك نصبت لي مكيدة. - إنك مخطئة وسنتحدث مليا في المركبة.
وكان الشارع مقفرا وموقف الشرطة بعيدا عن المكان الذي كانوا فيه ورأت أنها باتت أسيرة الرجل، وأنها لا بد لها من الامتثال ونزلت من مركبتها وصعدت إلى المركبة الثانية، فصعد السير جمس بجانبها وأقفل الباب فأمر الشرطي الثاني العربة أن تسير.
ولما سارت المركبة قال لها السير جمس: إنك أنت يا سيدتي التي أكرهتني على أن أسلك معك هذا المسلك، ولو شئت لكنا بقينا في ذلك المنزل ننتظر والدك النبيل، ولكنك حاولت الفرار فلم أجد بدا من الاحتياط.
فاصفر وجه الفتاة وقالت: إلى أين أنت ذاهب بي؟ - إن الفتى البناء سيطول انتظاره لك يا سيدتي في الليلة القادمة.
فصاحت مس ألن صيحة اليأس وقالت له: ويحك أيها الشقي ماذا فعلت؟ - إنها كلمة يثقل وقعها علي أيتها السيدة، ولا تقال لأمثالي؛ فإني رجل شريف أتمم واجباتي. - ولكن إلى أين أنت ذاهب بي؟ - إلى مستشفى صحي.
فذعرت مس ألن ذعرا شديدا وهمت أن تفتح باب المركبة وتلقي نفسها منه، فضحك السير جمس وقال: إن الباب محكم الإقفال.
وحاولت أن تنظر من نوافذ الزجاج فرأت أنه مصبوغ بدهان يمنع نفوذ البصر منه، ووراءه قضبان من الحديد، فهاجت هياج اللبوة فقدت أشبالها، ولو كان لديها خنجر لمزقت أحشاء الشرطي.
أما السير جمس فإنه لبث ساكنا هادئا وكان يبتسم ويقول لها: لا فائدة يا سيدتي من هياج قد يؤذيك.
فانهالت عليه بالشتائم المفجعة، ولكنه لم يجبها ، وظلت المركبة سائرة وقد أجهدت فكرها كي تعلم الجهة التي تسير فيها فلم تستطع، فعادت إلى شتمه وإهانته، فأخذ عددا من جريدة كان معه وجعل يقرأ فيها غير مكترث لشتائمها.
وبعد حين وقفت المركبة، فأعاد السير جمس الجريدة إلى جيبه وقال: لقد وصلنا.
16
وكان رفيقه جالسا بجانب السائق، فلما وقفت المركبة وثب إلى الأرض وفتح الباب المقفل بالمفتاح.
وأخذ السير جمس يد مس ألن وخرج بها من المركبة، ورأت أنها في وسط فسحة مستورة من ثلاث جهات بجدران عالية، في الجهة الرابعة بناية عظيمة مربعة تشبه السجون؛ فإن جميع نوافذه كانت مشبكة بقضبان ضخمة من الحديد.
وكان هناك رجل لابس ثياب الجنود، فأسرع إلى السير جمس وحياه باحترام فسأله الشرطي: هل المدير هنا؟ - نعم يا سيدي، وأظن أنك الميلورد الذي ينتظره. - نعم أنا هو فأبلغ المدير زيارتي.
فدخل إلى المنزل وبقي السير جمس مع مس ألن وهي تنظر إليه نظرات تشف عن الحقد وحب الانتقام فقال لها: أتعلمين أين أنت الآن؟ - نعم إني في سجن. - بل في مستشفى المجانين، ولكنك لا تبقين فيه غير أسبوعين إلى أن يأتي أبوك من لندرا وهو الذي سيتولى إخراجك منه في اليوم الذي يحضر فيه.
فاضطربت وهالها هذا المصير فقالت: ولكني لست مجنونة. - إني لا أنكر ذلك، ولكننا لسنا في لندرا، بل نحن في عاصمة أجنبية، فمتى أردنا الاحتفاظ بإنسان نكاشف بأمره الشرطة الفرنسية، فيخيرنا بين حبسه في السجن أو في أحد المستشفيات، ألعلك تؤثرين سجن سانت لازار؟
فأجفلت لاسم هذا السجن وظهرت عليها علائم الرعب والأنفة فقال لها: إني كنت أؤثر أن أبقيك في أحد المستشفيات الصحية، ولكن من كان له ذكاؤك يسهل عليه الفرار من المستشفيات البسيطة، وأما في مثل هذا المستشفى فإن الطبيب نفسه يكون مسئولا عليك. - تريد أنك متفق وإياه على ارتكاب هذه الجريمة؟
فهز السير جمس كتفيه وقال: إني لا أبالي بهذه الشتائم، فإن ضميري لا يقرعني بشيء، وبعد فإني سأبتعد عنك فلا أتشرف بلقائك إلا في لندرا.
وعند ذلك عاد الجندي فقال للسير جمس: إن المدير ينتظر سيدي الميلورد.
فدنا السير جمس من مس ألن وقال لها بصوت منخفض: أقسم لك أنك ستعاملين هنا خير معاملة إذا لم تقاومي. - وإذا قاومت؟ - يضطرون إلى اعتبارك مجنونة حقيقة، ويعاملونك معاملة المجانين حين هياجهم؛ أي إنهم يصبون عليك المياه المثلجة.
واقشعر جسم الفتاة وقد مرت في خاطرها ذكرى سريعة هائلة، وهي أنها زارت مرة مستشفى المجانين المشهور في لندرا، فرأت المجانين يركعون ويتوسلون وهم يذرفون الدموع مسترحمين طالبين إنقاذهم من عقاب المياه الباردة.
أما السير جمس فإنه اغتنم فرصة رعبها فقال لها: لدي أوامر مهمة بإدخالك إلى هذا المستشفى، فكل ما تقولينه للطبيب لا يفيدك في شيء، أما مدير المستشفى فإن مهمته أشبه بمهمة السجان، فهو ينفذ الأوامر كما ترد إليه، ولا يد له في شيء.
وعند ذلك أكره مس ألن على أن تتأبط ذراعه ففعلت وسار بها في أثر الجندي، فجعلوا يجتازون من غرفة إلى غرفة حتى بلغوا إلى غرفة المدير، وهو رجل في الخمسين من عمره تدل ملامحه على حب الأثرة والاستبداد، فخف لاستقبالهما.
فقال له السير جمس: إني قادم إليك يا سيدي المدير باللادي التي كتبت لك عنها، وأرسلت لك أوامر الشرطة بشأنها، المعدة لها من سفارة إنكلترا.
فنظر المدير إليها نظرة تدل على عدم الاكتراث وقال له: لقد أعددنا لها الغرفة.
فأيقنت مس ألن أن هذا الرجل لا رجاء لها فيه.
أما المدير فإنه قرع جرسا كان أمامه، فجاء اثنان من الممرضين فقال لهما: اذهبا بالسيدة إلى الغرفة نمرة 13.
ولم يسع الفتاة إلا الاعتراض على عمله وقالت للمدير: ألعلكم تسجنونني كمجنونة في الغرفة؟
وأجابها المدير بجفاء: دون شك.
وعلمت أن هذا المدير شر من ذلك الشرطي، ونظرت إلى الاثنين نظرة احتقار.
وسارت في أثر الممرضين.
بعد ذلك ببضع دقائق كان السير جمس وزميله يصعدان إلى المركبة وقال له رفيقه: إلى أين تذهب الآن؟ - إلى شارع لويس الكبير. - لماذا، ألإحضار ثياب الفتاة؟ - كلا، فإننا سنرسلها إليها في وقت آخر، ولكننا نذهب إلى ذلك المنزل لانتظار الفتى البناء. - وأي شأن بقي لنا معه، فإنه ينتظر أن تفتح النافذة إلى أن يمل الانتظار فينصرف؛ لأن النافذة لا تفتح. - بل أفتحها أنا، فإن الفتى قد تداخل فيما لا يعنيه وكاد يفسد علي أمري ويعبث بسمعتي، فيجب أن يعاقب.
وعلى ذلك تقرر عقاب ذلك الفتى المسكين الذي دفعته المروءة إلى إنقاذ مس ألن.
أما مرميس فقد علم أن مس ألن أرسلت إلى مستشفى صحي، ولكنه لم يعلم أين هو ذلك المستشفى.
17
ولنعد الآن إلى مرميس، فإنه بعد أن وثق أن السير جمس ورفيقه قد برحا المنزل ولم يعودا إليه عاد إلى منزله.
وكانت الساعة السابعة صباحا ووجد أن الحارس الجندي قد شرب كفاءته من الشراب ونام، فغير مرميس ملابسه وأيقظ الجندي ثم أعاد إليه ملابسه وقال له: إني معهد إليك بمهمة؛ وهي أن تذهب إلى المسيو ميلون المقاول وتعطيه هذه الرسالة.
وهي رسالة دعاه فيها إلى الحضور إليه في الحال.
وبعد أن ختمها ودفعها إلى الجندي قال له: والآن لم يبق لي إلا أن أستحلفك بشرف الجندية بأن لا تخبر أحدا عما جرى في الليلة الماضية ولا عن الإنكليزية، وأن لا تذكر شيئا عن استبدال ثوبي بثوبك وتنكري بزي الحراس، وذلك لأن إفشاء هذه الأمور يضر بنا ضررا عظيما.
فأقسم الجندي بشرفه على الكتمان، ونفحه مرميس بمائتي فرنك فتردد الجندي في قبولها، فألح عليه وقال له: إني من أصحاب الملايين وأنت أحوج مني إلى هذه القيمة الزهيدة.
فأخذها الجندي شاكرا وأسرع بالذهاب إلى ميلون، ولم تمض نصف ساعة حتى أقبل فقال له مرميس: اعلم الآن أن الفتاة الإنكليزية قد اختفت. - منذ متى؟ - منذ أول أمس.
وقال ميلون: إذا لم تكن في المنزل حين أصيب هذا البناء المسكين، لكن أعلمت أين هي الآن؟ - لو كنت عالما بمقرها لما دعوتك لمشاركتي في البحث عنها. - وكيف يمكن إيجادها، إن ذلك مستحيل فيما أراه.
وابتسم مرميس وقال: إنك لا تزال على سذاجتك الفطرية إلا حين يكون روكامبول معنا، فإنه يفتح عينيك. - لقد أصبت، فإني حين أبتعد عنه أصبح كالحيوان الأعجم. - ولكن أصغ إلي واتبع تعليماتي، فإن الفتاة الإنكليزية التي أتت تبحث عن رجل يدعى ميلون وامرأة تدعى فاندا هي آتية من قبل روكامبول دون شك، وإنه لم يرسلها إلا لأنه في خطر ولأنه محتاج إلينا. - هذا لا ريب فيه كما يظهر. - إذا يجب أن نجد هذه الفتاة وننتزعها من أيدي الذين اختطفوها ونعلم ما يريده روكامبول منا. - لكن كيف نجدها؟ - بهذين الرجلين اللذين كانا يحرسانها فإنهما من أعداء روكامبول دون شك بدليل منعهما الفتاة عن الاجتماع بك وبفاندا، ولذلك يجب علينا أولا أن نبحث عن هذين الرجلين ومتى وجدناهما عرفنا أين هي مس ألن. - لكن كيف نستطيع إيجادهما؟ - إنهما من رجال الشرطة، ولا أسهل من إيجاد المشتغل بالمهنة. - كيف؟ - أيوجد لديك الآن نقود في منزلك؟ - نعم، لدي مائة ألف فرنك. - أين وضعتها؟ - في الصندوق الحديدي. - أهو ذاك الصندوق الذي اشتريته حديثا من لندرا؟ - هو بعينه. - إنه مثل الصندوق الذي عندي، وسأسرق غدا من صندوقك ما أودعت فيه من المال.
فحملق ميلون بعينيه وقال: ماذا تريد بذلك؟ - إنه لا يوجد غير لص واحد إنكليزي تمكن من طبع أقفال هذا النوع من الصناديق على الشمع، وصنع مفاتيح يفتحها بها حين تلوح له الفرصة أفهمت؟ - كلا، لم أفهم شيئا بعد. - مع أن الأمر بسيط، فإن أموالك تسرق من صندوقك فتشكو الأمر إلى إدارة الشرطة، فتعتقد الشرطة الفرنسية أن سارق المال هو ذلك اللص الإنكليزي لاشتهار أمره في هذه الصناديق، ولما كان هذان الرقيبان على مس ألن في باريس، فإن الشرطة الفرنسية تستعين بهما على إيجاد السارق. - ولكن هل تعلم إدارة الشرطة الفرنسية أن هذين الشرطيين موجودان في باريس؟ - إني واثق كل الوثوق، وسأبرهن لك عن ذلك وأوضح لك عن تلك الخطة التي وضعتها، فإن روكامبول نفسه لا ينتقد علينا.
ثم قام وأشعل سيكارا وأعطى مثله لميلون وقال: أصغ إلي الآن.
18
إنني إذا وفقت بين ما رواه لنا الحارس الجندي وبين أبحاثي نجد أن الأمر قد مضى كما يأتي: وهو أن روكامبول أرسل إلينا مس ألن فلم تكد تصل إلى باريس حتى أخذت تبحث عنك، ولكن البوليسين الإنكليزيين وصلا قبل أن تجدك فسجناها في المنزل وأقاما معها يراقبانها.
ومن هنا قد اتضح لي جليا أن الشرطة الفرنسية لها يد في هذا الأمر؛ لأن الشرائع الإنكليزية لا نفوذ لها في فرنسا.
ولو أرادت الفتاة أن تلجأ إلى أي نفر من أنفار الشرطة لأنقذها من الإنكليزيين.
فقال ميلون: ولماذا لم تفعل ذلك؟ - لأن الإنكليزيين قد سبقاها إلى إدارة الشرطة، فتمكنا بواسطة السفارة الإنكليزية من الحصول على أمر بالقبض على الفتاة، يعملان به حين الاقتضاء. - لقد فهمت الآن. - إذا انتبه لقولي، إنه يوجد في صندوقك مائة ألف فرنك. - نعم. - وسأسرقها.
فضحك ميلون وقال: ولكنك ستردها دون شك؟ - ولكن قبل أن أردها تذهب إلى إدارة الشرطة وتعرض شكواك وتهتم الشرطة بإيجاد السارق والمسروق. - وبعد ذلك؟ - إن الشرطي يعلم لأول وهلة أن السارق من الإنكليز. - كيف يمكن أن يتصل إلى هذه المعرفة؟ - ذلك منوط بي فلا تهتم به، واسمع إنه متى وثق أن السارق إنكليزي يستعين بالشرطيين الإنكليزيين، فأوهمهما أنني أنا السارق فيأخذان باقتفاء أثري، ولكني أدرك من أثرهما ما يدركانه من أثري ومتى عرفت مقرهما عرفت مقر مس ألن.
فنظر ميلون إلى مرميس نظرة المعجب به وقال له: إنه قد يمر ظروف أحسب في خلالها أنك الرئيس نفسه.
فابتسم مرميس وقال: إن روكامبول، لو لم يجدني أهلا لخدمته، لما جعلني تلميذه، ولما نهض بي من وهدة الشر وحضيض المفاسد، إلى ما أنا فيه. - لقد أصبت ولكن ... - لكن ماذا؟ - إنك تسرق المال وتوهمهم أنك السارق، فإذا اتفق أنهم قبضوا عليك، فكيف تبرئ نفسك؟ - لإنهم لا يقبضون علي، وعلى افتراض أنهم ظفروا بي، فإني أعددت طريقة الخلاص. - إذا لنصنع ما تريد. - متى تكون عادة في منزلك؟ - عند الظهر، وهو الوقت الذي يكون فيه عندي رؤساء عمالي لتلقي الأوامر. - إذا عد إلى منزلك وانتظرني فيه.
فامتثل ميلون طائعا وانصرف. •••
وقد رأى القراء كيف أن ميلون عاد إلى مهنته القديمة، فإنه قبل أن يدخل في خدمة والدة أنطوانيت، وقبل أن يزج في سجن طولون كان من البنائين.
وأعطاه مرميس رأسمالا كبيرا بأمر روكامبول كي يشتغل فيه بالأبنية، إلى أن يصدر أمر آخر من روكامبول.
فاحترف مهنته وكان يشتغل بملء الجد والوفاء، فاتسع نطاق أشغاله وصار لديه مئات من العمال.
وكان يقيم في شارع ماريتيان، على قيد بضع خطوات من منزل فاندا.
فكان منزله - ولا سيما في أيام دفع أجور العمال - يشبه الدوائر الكبرى لكثرة ما يحتشد فيه من البنائين والنجارين والفعلة والملاحظين، فإنه كان متوليا بناء نحو عشرين بناية في حين واحد.
وقد كان ذلك اليوم الذي اجتمع فيه بمرميس يوم سبت؛ أي يوم دفع الأجور.
وبينما كان ميلون يحاسب رؤساء العمال عند الظهر، وقفت مركبة جميلة عند باب منزله، وخرج منها رجل بسيط الثياب، ولكن جميع ظواهره تدل على أنه من الأعيان.
وكان هذا الرجل أشقر الشاربين أحمر شعر الرأس، لابسا قميصا أزراره من الماس الثمين، وهو يتوكأ على عصا قبضتها من الذهب ولابسا قبعة لا تصنع إلا في إنكلترا.
فطرق الباب، وفتحت له الخادمة، فقال لها: هل المقاول ميلون في منزله؟ - نعم.
فدخل توا إلى حيث كان ميلون وقال له بلهجة إنكليزية محضة: أتشرف يا سيدي بالسلام عليك، وإني أدعى اللورد كاندول من أعضاء مجلس البرلمان، وأنا مقيم في أوتيل موريس.
فاستقبله ميلون خير استقبال ورد تحيته بملء الاحترام.
فقال له الإنكليزي: إن طبيبي الخاص وصف لي الإقامة في باريس مراعاة لصحتي، فأحببت أن أشيد منزلا فخما في الشانزليزه. - إذا تفضل معي يا مولاي أريك ما لدي من الرسوم.
ثم دخل به إلى الغرفة التي كان فيها الصندوق، فلما خلا بهما المكان قال له اللورد بلهجة فرنسية: ألم تعرفني يا ميلون؟
فدهش ميلون؛ إذ عرفه من صوته أنه مرميس، فإنه كان يحدثه قبلا بصوت مستعار، وقال له: إن روكامبول نفسه لا يستطيع أن يعرفك بهذا التنكر . - إذا كنت لا أعرف أن أتنكر حين الحاجة، فكيف يحق لي أن أدعى تلميذا لروكامبول؟ - والآن هل أتيت لتسرقني؟ - كلا، بل لأهيئ معدات السرقة، غير أني أردت أن يراني رجالك، ولذلك اخترت الساعة التي يجتمعون فيها عندك لقبض الأجور، والآن فلنتحدث بما أتيت لأجله.
19
ثم سار به إلى الصندوق وقال له: أرني صندوقك قبل كل شيء.
وكان هذا الصندوق داخلا في جوف الجدار، فأخذ ميلون مفتاحا معلقا في عنقه، وفتح الباب الأول الكائن في الجدار، فانفتح عن صندوق إنكليزي.
وكان صندوقا ضخما، يبلغ ارتفاعه ارتفاع خزانة المرآة العادية، وتبلغ زنته ألف كيلوغرام.
وهو من الصناديق التي لا تعمل فيها النار.
ولم يكن له غير قفل واحد صغير، غير أن طريقة فتحه اصطلاحية، فإذا أدخل صاحبه المفتاح في هذا القفل أداره شمالا ويمينا عدة مرات مختلفة على طريقة لا يعرفها غير صاحب الصندوق.
فأمر مرميس أن يفتح الصندوق ففتحه وقال له: أين وضعت المائة ألف فرنك؟ - في هذه المحفظة السوداء التي تراها. - والآن أقفل باب الجدار.
فأقفله ميلون وفحص مرميس قفله وقال: إن اغتصابه سهل ميسور بحيث يمكن فتحه دون أقل عناء. - ولكن ماذا عزمت أن تفعل؟ - أول ما أبدأ به الخروج من عندك، فتشيعني إلى الخارج وتقول لي بصوت يسمعه كل من عندك من العمال: أيها الميلورد إني أتشرف بانتظارك في الساعة الرابعة. - وبعد ذلك؟ - وعند ذهابي توصي خادمتك أن تدخلني حين وصولي إلى غرفتك؛ أي إلى هذه الغرفة التي فيها الصندوق، فإني سأحضر قبل الساعة الرابعة، واجتهد أن تتأخر فتحضر بعدها، بحيث يثبت أني أقمت وحدي في غرفتك ثلاثة أرباع الساعة. - وعندما أحضر؟ - تجدني قد انصرفت بحجة تأخرك عن الموعد، فتدخل إلى غرفتك فتجد باب جدار الصندوق مكسورا والصندوق مفتوحا. - سأقل كل ما قلته ولكن بعد ذلك؟ - وإنك لا تعود وحدك إلى الغرفة، بل تعود مع أحد وكلائك، كي يكون شاهدا على ما ترى.
وتذهب معه بعد ثبوت السرقة إلى فندق موريس لتسأل عن اللورد كاندول فلا تجده بالطبع .
ثم تذهب إلى إدارة الشرطة فتعرض شكواك، وتتهم اللورد الإنكليزي، وتظهر للشرطة جميع إشاراته وملامحه وملابسه كما رأيتني. - حسنا وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك ينتهي عملك فلا تهتم بعد بالأمر.
ثم خرج وهو يقول له مبتسما: إن المال سيرد إليك دون شك، فلا خوف عليه.
فشيعه ميلون حتى إذا وصل إلى حيث كان عماله، قال له على مسمع منهم: حبذا يا حضرة الميلورد، لو تكرمت بالرجوع في الساعة الرابعة حيث أكون قد تفرغت من مشاغلي، فأريك الأرض المعدة للبيع التي حدثتك عنها.
فأجابه مرميس بلهجة إنكليزية قائلا: كم ينبغي من الزمن لبناء منزلي؟ - ثلاثة أشهر. - إنه زمن بعيد ولا طاقة لي بالصبر إلى هذا الحد. - إذا سأتمه بشهرين على أن نشتغل في الليل على أنوار كهربائية، ولكن ذلك يكلف كثيرا. - لا بأس، دعهم يشتغلون ليلا، فإني أدفع كل ما يطلب إلي من النفقات.
ثم تركه وانصرف، فقال أحد الوكلاء لميلون: إنك ستربح أرباحا كثيرة من هذا الإنكليزي.
فأجابه ميلون ضاحكا: وسنأخذ بثأرنا، من الإنكليز، عن معركة واترلو.
ثم أتم ميلون محاسبة وكلائه وصرفهم، فركب مركبة وذهب لتفقد المعامل، بعد أن أوصى الخادمة بإدخال الإنكليزي إلى غرفته، حين يعود.
غير أن خطة مرميس بدأ عليها حادث غير منتظر، عدلها تعديلا خفيفا، وذلك أن ميلون بينما كان ذاهبا لتفقد معامله، رأى رجلا يجتاز رصيف الشارع وهو مطرق الرأس يمشي مشية الحزين، فارتعش حين رآه وأمر السائق أن يقف في الحال.
ثم وثب من المركبة وأسرع إلى هذا الرجل، فإنه كان ذلك الإنكليزي الذي جاءه من قبل الرجل العبوس، فوضع يده على كتفه وقال له بلهجة الفرح المسرور: لقد تيسر لي لقاؤك بعد العناء الشديد، فهل كنت عائدا إلي؟
وكان هذا الرجل شوكنج نفسه، خادم روكامبول في لندرا، فقال له بلهجة المكتئب الحزين: نعم يا سيدي، لقد بلغ بي الشقاء حده بعد فقدي تلك الحوالة التي سرقوها مني مع المرأة والغلام، فبت في حالة تستوجب الإشفاق.
فقال له ميلون: لم يبق حاجة إلى الحوالة ، فإني أنفق عليكم منذ الآن عن سعة، وأعطيكم كل ما تحتاجون إليه، ألم تقل لي إن الذي أرسلك هو الرجل العبوس؟ - نعم يا سيدي. - إذا اعلم أنه أخلص أصدقائي.
ثم فطن إلى مس ألن فقال له: إنك عشت مدة طويلة مع الرجل العبوس فهل عرفت فتاة إنكليزية تدعى مس ألن؟
فاصفر وجه شوكنج، واتقدت عيناه ببارق من الحقد، وقال له: مس ألن؟ - نعم. - إنها يا سيدي ألد أعداء الرجل العبوس.
فتراجع ميلون منذعرا، وهو يقول: إنها ألد أعدائنا، ونحن نريد إنقاذها؟
20
كان شارع مارينيان مقفرا، كسائر الشوارع الجديدة المشادة في جوار الشانزليزيه.
وكان ميلون وشوكنج يتحدثان وهما واقفان على الرصيف دون أن يراهما أحد لندور المارة في ذلك الشارع.
وقد سكن اضطراب ميلون بعدما رأى شوكنج فقال له: أحق ما تقول: إن مس ألن عدوة الرجل العبوس؟ - بل هي شر عدو ويخشى بأسها، وهي تكره الرجل العبوس كرها لا يوصف. - ألديك برهان يثبت ما تقول؟ - تعال معي يا سيدي إلى حيث هي حنة ورالف، يعيدا عليك نفس ما قلته. - من هي حنة هذه؟ - والدة رالف. - ورالف؟ - إنه الغلام الذي سيغدو يوما زعيم الأرلنديين العام. - أهما في فرنسا؟ - بل هما في باريس، وأنا الذي جئت بهما إليها، فإن الرجل العبوس أعطاني حوالة ونقودا، وبعد وصولنا بثمانية أيام سرقت منا الحوالة والنقود. - ألم تشكو أمرك إلى البوليس؟
فابتسم شوكنج ابتسامة حزن وقال: إن الذين سرقونا هم أعظم منا، ولا تنالهم يد الشرع. - إننا في فرنسا وليس في بلادنا من يعلو على الشرع.
فهز شوكنج رأسه وقال: إن الذين سرقونا ليسوا فرنسيين، وفوق ذلك، فإنهم أعداء لنا تبعونا من لندرا، وليس الرجل العبوس معنا فيحمينا. - أين هما المرأة والغلام؟ - إنهما يقيمان معي في غرفة صغيرة قريبة من فندق لوريس، في أفقر شوارع باريس.
فقال ميلون: لقد أذكرتني معملا لي هناك، فهلم بنا نقضي المهمتين في حين واحد.
ثم عاد إلى الموضوع الوحيد الذي كان يشغل خاطره فقال: إذا إن مس ألن عدوة الرجل العبوس؟ - إنه لم يجد فيما مر به من الحوادث الجسام عدوا أشد منها، وطالما كنت أخشى عليه منها. - كيف ذلك؟ - إنه كان يحاول أن يحملها على حبه.
فذكر ميلون مقدرة روكامبول وقوة سلطانه على القلوب، غير أن ذلك لم يمنعه عن سوء الظن بمس ألن.
فقال لشوكنج: اصعد إلى مركبتي وانتظرني فيها إلى أن أعود، فإني داخل إلى منزلي لقضاء بعض المهام.
ثم تركه ومشى بضع خطوات إلى منزله، فدخل وكتب الرسالة الآتية:
لم يبق لنا فائدة من السرقة؛ إذ لا يفيدنا الاهتمام بمس ألن، لقد رأيت الإنكليزي الذي جاءنا من قبل الرجل العبوس، وأكد لي أن مس ألن عدوة لدودة، لا صديقة حميمة كما توهمنا، وأنها معولة على إهلاك روكامبول.
فابق في منزلي حين وصولك إليه وانتظرني فيه إلى أن أعود، فإني ذاهب إلى شارع لوريس.
ميلون
ثم أعطى الكتاب للخادمة، وقال لها: متى جاء الميلورد الإنكليزي الذي أوصيتك أن تدخليه إلى غرفتي، أعطه هذا الكتاب وقولي له أن ينتظر.
فأخذت الخادمة الكتاب وخرج ميلون إلى لقاء شوكنج وهو يقول: طالما ساعدنا أعداء الرئيس ونحن نحسب أنهم أعوانه.
في نحو الساعة الرابعة وقفت مركبة عند باب منزل ميلون، وخرج منها ذلك الميلورد الإنكليزي؛ أي مرميس، فأعطته الخادمة الرسالة وأدخلته إلى غرفة سيدها.
فلما خلا بالغرفة فتح الرسالة وقرأها وقال: إن هذا الرجل ساذج القلب، فلا يغير فطرته شيء حتى عشرة روكامبول.
ثم أخذ قلما وكتب إلى ميلون ما يأتي:
إنك أبله لا يمكن إصلاحك فإن مس ألن إذا كانت صديقة لروكامبول فقد وجب علينا إنقاذها.
وإذا كانت عدوة له فقد وجب علينا أن نقبض عليها؛ ولذلك كان إنقاذها واجبا في الحالين.
أما أنا فقد سرقت مالك، فلا تضع الوقت بالتفكير، وأسرع في الحال، حين تقف على رسالتي هذه، إلى إدارة الشرطة، واعرض شكواك.
وبعد أن كتب هذه الرسالة ختمها وعنونها باسم ميلون، وأقفل باب الغرفة من الداخل كي لا يدخل عليه أحد، ثم أخرج من جيبه مبردا ودنا من الصندوق، وهو يذكر مبتسما مهنته القديمة، فعالج باب الصندوق الخارجي ففتحه.
ويذكر القراء أن ميلون ترك الباب الداخلي مفتوحا فأخذ مرميس منه محفظة الأوراق المالية فوضعها في جيبه وأقفل باب الصندوق الخارجي كي لا يرى الباب مفتوحا.
وأقام في الغرفة نحو ربع ساعة ثم خرج والرسالة بيده فوجد الخادمة في الطابق السفلي فأعطاها الرسالة وقال لها بلهجة الحانق: إن سيدك رجل قليل التربية فإن من كان بمقامي لا يحملونه على الانتظار.
ثم تكلف هيئة العظمة وأعطاها ليرتين وانصرف.
وكانت مركبته لا تزال واقفة على الباب، فأمر سائقها أن يسير به إلى شارع مورتي، وهناك استوقفه فنزل من المركبة وذهب ماشيا على الأقدام إلى تلك المغارة التي كانوا يجتمعون فيها كل شهر، فخلع ثياب تنكره ولبس ملابسه العادية، ثم عاد إلى منزله وهو يقول في نفسه: إن مس ألن إذا كانت من أعدائنا فقد وجب علينا حتما إنقاذها واستخدامها في سبيل أغراضنا.
21
ولنعد الآن إلى ميلون فإنه سار مع شوكنج من شارع ماريبيان إلى شارع لورسين حتى انتهى إلى منتصف الشارع، فوقفت بهما المركبة عند باب منزل حقير كان أمامه أرض معدة للبناء، وقد نصب فيها لوح أسود كتب عليه بأحرف كبيرة: «ميلون المقاول البناء.»
فأراه شوكنج الكتابة وقال له: إني لم أهتد إليك إلا بها، فإن معملك بإزاء البيت الذي نقيم فيه، ذهبت إليك في المرة الأولى ولم أجسر أن أعود ثانية، غير أني كنت أرجو أن أراك مع حنة حين حضورك لتفقد الأعمال فترانا وتشفق علينا.
فقال ميلون: إن لدي كثيرا من معامل البناء في باريس بحيث لا يتيسر لي تفقدها بجملتها، ولو لم أرك اتفاقا لما اتفق لك أن تراني في ذلك المعمل لشدة بعده عن مركز أعمالي. - ولو لم ترني لكنا هلكنا جوعا؛ فإني خدمت سائسا في إصطبل قريب من هنا فلم أخدم أسبوعا حتى طرأ على صاحب الإصطبل ما دعاه إلى السفر، فباع الخيل والمركبات وعدت إلى التجول والاستعطاء.
وبينما كان شوكنج وميلون يتحدثان قرب باب المنزل مر بهما رجلان وسارا ذهابا وإيابا قرب المعمل عدة مرات كأنهما كانا يستغربان وقوف ميلون مع ما يبدو من ظواهر غناه مع شوكنج وظواهر فقره المدقع ماثلة للعيون.
ولم تكن هيئة الرجلين تدل على التجسس وحب الاستطلاع، بل كان يبدو منهما أنهما يتنزهان في تلك الجهة لكثرة أشجارها وصفاء هوائها، ولكنهما كانا يتكلمان بصوت منخفض.
غير أن شوكنج سمع منهما حين مرورهما بقربه كلمة استغرب لها، فقال له ميلون: ماذا أصابك؟ - لا شيء، غير أن الرجلين من الإنكليز. - ألا تظنهما من أهل الشارع؟ - كلا، بل أظنهما شرطيين إنكليزيين يراقباننا، وأظن أنهما هما اللذان سرقانا.
فهز ميلون كتفه وقال: إذا بدرت منهما بادرة سوء، أمرت البنائين عندي ينكلون بهما تنكيلا، والآن فلندخل لنرى المرأة والغلام فدخل الاثنان إلى المنزل من رواق طويل وبقي الإنكليزيان واقفين في آخر الشارع وقد رأياهما دخلا إلى المنزل.
وكانت الغرفة التي تقيم فيها الأرلندية وابنها حقيرة لا أثاث فيها ولا مستوقد لها، ولم يكن فيها غير طاولة قديمة ومقعد من الخشب كانت تنام عليه المرأة وولدها، وكيس من القش كان ينام عليه شوكنج.
ولم يكن على الطاولة كسرة خبز ولا قدح ماء، ولا شيء يدل على أن هؤلاء البؤساء قد أكلوا منذ عهد قريب.
فتأثر ميلون من ظواهر الفقر المؤلم، وعجب بجمال الأرلندية وظواهر أنفتها.
أما شوكنح فإنه عانق الأرلندية وقال لها: بشراك يا حنة قد نجونا فهذا هو ميلون صديق أبينا الرجل العبوس.
وأخذ ميلون الغلام بين يديه وقبله وقد اغرورقت عيناه بالدموع إشفاقا ثم قال لهم: إنكم لا تقيمون يوما بعد في هذه الغرفة، فإن منزلي كبير لا يضيق بكم، وستعيشون معي إلى أن ترد الأوامر بشأنكم من روكامبول.
وقد زادت هواجس ميلون على روكامبول بمناسبة ذكره، وجعل يسأل الأرلندية عنه أسئلة مختلفة، وهي تجيبه بما ينطبق على روايات فاندا بعد عودتها من لندرا.
ثم جعل يستقصي منهم عن السرقة، فأخبروه أنهم حين حضورهم إلى باريس كان لديهم كثير من المال وحوالة عليه فأقاموا في فندق جميل، وهو الفندق الذي سرقوا فيه، ولم يكن شوكنج يتهم أحدا بالسرقة، إلى أن أخبره صاحب الفندق أن رجلا إنكليزيا كان يقيم عنده في غرفة مجاورة لغرفتهم وأنه سافر مسرعا يوم حدوث السرقة.
وقال ميلون: إن المصيبة غير عظيمة، فقد لقيتموني وأنا لا يعوزني المال.
ثم أعطى شوكنج مائتي فرنك وقال له: اشتر ثيابا لكم جميعا وبعد ذلك خذ الغلام وأمه واحضر بهما إلى منزلي.
وعندها تذكر أن مرميس سيكون عنده في الساعة الرابعة، لكنه حسب أنه سيرجع عما قرره من سرقة المال من صندوقه حين يطلع على رسالته ويعلم منها أن مس ألن عدوة لا صديقة، فلم يذهب إلى المنزل، بل ذهب إلى المعمل ليتفقد الأشغال، فرأى أن الإنكليزيين لا يزالان يتمشيان في الشارع.
أما الرجلان فإنهما رأيا ميلون خارجا من المنزل إلى المعمل، فقال أحدهما لرفيقه: لا بد لنا أن نعلم ما كان يعمل هذا الرجل في المنزل.
22
إن هذين الرجلين اللذين كانا يراقبان ميلون وشوكنج وينظران إليهما خلسة، إنما كانا السير جمس، وإدوارد زميله الشرطي الآخر.
وكان السير جمس يقول لرفيقه: أرأيت يا إدوارد كيف أننا لم نضع وقتنا عبثا منذ البارحة، فإننا أصبحنا واثقين من عدم فرار مس ألن، ووجدنا أثر شوكنج والأرلندية وابنها. - لقد أحسنت إنما لا أعلم ماذا يجب أن نصنع الآن؟ - ماذا تعني؟ - أعني أننا أتينا بمهمة الوثوق من مس ألن ومنعها عن مقابلة الأرلنديين، ولكن أي شأن لنا مع شوكنج والغلام وأمه؟
فابتسم السير جمس وقال: إنني كنت الرأس المرشد، وكنت أنت اليد العاملة منذ أتينا لهذه المهمة، ولكن ما ظهر لي من دلائل حكمتك ورجاحة عقلك منذ أسبوعين، يحملني على الإباحة لك بحقيقة المهمة التي أتينا من أجلها إلى فرنسا. - إني مصغ إليك أيها الصديق فقل. - لا يخلق بنا الوقوف كي تحول حولنا الأنظار، فلنسر ذهابا وإيابا كمن يتنزه ولا تحول نظرك عن هذا المنزل.
ثم تأبط ذراع رفيقه وقال له وهما يمشيان، ليس اللورد بالمير وحده الذي أرسلنا إلى باريس، فقد أرسلنا أيضا الأسقف بترس توين، ذلك الرجل القادر الذي يتولى رئاسة المذهب الإنكليكاني، فإن أرلندا لم تهج فيما مر بها من الأدوار هياجها في هذه الأيام، وقد اشتد ساعد الأرلنديين حتى باتت إنكلترا نفسها تخافهم.
وقال له إدوارد: وهل هؤلاء المقيمون في هذا المنزل من الأرلنديين؟ - نعم. - ومس ألن؟ - إنها ابنة اللورد بالمير؛ أي إنها إنكليزية غير أنها تدلهت في حب رجل فرنسي يلقب في لندرا بالرجل العبوس، وهو الذي أرسلها إلى فرنسا لتجيئه بالمدد؛ لأنه الآن سجين في لندرا وسيحاكمونه قريبا، أما مهنتنا الأولى فهي أن نمنع اتصال مس ألن بأولئك الذين جاءت لتبحث عنهم. - ألعلك عرفتهم؟ - كلا، ولكني سأعرفهم فلنتحدث الآن عن الأرلنديين. - ولكني لا أجدهم يدعون إلى الاهتمام، فإنهم في أشد حالات الشقاء، ولا أراهم من أهل البأس والعقل، ولا من أهل البسالة والنفور. - إنك مخطئ، فإن شوكنج كان في لندرا كمساعد للرجل العبوس. - والمرأة؟ - إنها أرملة شقيق اللورد بالمير، وقتل زوجها شنقا لانضمامه إلى الأرلنديين، وهذا الغلام الذي رأيته زعيم الأرلنديين الأعظم وهو لا يتجاوز عشرة أعوام. - ماذا ينبغي أن نصنع بهم أنقبض عليهم؟ - كلا، فإن الوقت لم يحن بعد. - إذا تريد أن نخطفهم؟ - نعم. - ولكن ... - سوف ترى، فإن شوكنج لم يكن لديه درهم في هذا الصباح، فقد أرسلت من سرق أمواله، وحوالة كانت معه على ميلون المقاول. - أليس هو ذلك الرجل الضخم الذي دخل مع شوكنج إلى المنزل؟ - هو بعينه. - كيف اتفق التقاؤهما؟ - أظن أن شوكنج عاد إلى ميلون، وأن ميلون جاء معه كي يقابل المرأة ويتثبت من صدق أقواله، ولا بد أن تكون الأرلندية قد وافقت على أقوال شوكنج، وأن يكون ميلون أعطاهم ما يحتاجون إليه من المال، بل ربما خطر له أيضا أن يذهب بهم إلى منزله؟ - أتدعه يفعل. - لقد قلت لك: إنه ليس لدي أمر بالقبض على مس ألن، ولكننا نستطيع اختطاف الغلام؛ لأن الأسقف بترس توين واللورد بالمير وعداني بمكافأة قدرها عشرة آلاف جنيه إذا عدت بالغلام الأرلندي إلى لندرا. - أتعلم ماذا يريدان أن يصنعا به؟ - لا أعلم. - لعلهما يريدان إعدامه؟
قد يكون ذلك، ولكن تبعة الجريمة تقع عليهما، أما نحن فيقبض كل منا خمسة آلاف جنيه إذا تيسر لنا إيصاله إلى لندرا.
فطرب إدوارد لهذه الجائزة العظيمة وقال: إذا أسرع بالعمل. - ذلك يتعلق بالحوادث، فإن شوكنج لا بد أن يخرج من المنزل، وتبقى الأرلندية وابنها وحدهما فيه. - وبعد ذلك؟ - أصغ إلي، فإني أريد أن أبوح لك بسر لم تكن تعلمه، وهو أني كنت قديما من الجمعية الأرلندية ورقيت إلى منصب عظيم في جمعياتهم السرية، غير أني كنت فقيرا مثل جميع الأرلنديين وبعت نفسي لإنكلترا سدا لعوزي، ولأني لست من أصحاب المبادئ. - تريد أنك عارف بأسرار الأرلنديين؟ - بل إني أعرف رموزهم وإشاراتهم السرية التي يتعارفون بها.
وبينما هما يتكلمان رأيا شوكنج خارجا من المنزل فقال السير جمس: انظر إنه خارج من المنزل ويجب اقتفاء أثره. - أأحدثه؟ - دون شك، وتقول له: إنك إنكليزي، وإنك رأيته فقيرا معدما فوجبت عليك مساعدته، ثم تجتهد أن تسير به إلى الضفة الثانية من النهر بحجة تختلقها وتطيل معه الحديث بحيث يغيب ساعة عن المنزل وهو الوقت الذي أحتاج إليه. - وأنت ماذا تصنع؟ - سأعود أرلنديا وأقابل هذه الأرلندية.
وعند ذلك افترق البوليسان، فذهب إدوارد في أثر شوكنج وذهب السير جمس إلى منزل الأرلندية وهو يقول: لا بد لي من الاستيلاء على الغلام.
23
لقد عرف قراء «قلب المرأة» شوكنج وأخلاقه، فإن تأثير السعادة والشقاء كان يتخلف فيه، فهو إذا كان فقيرا معدما بات حكيما عاقلا حذرا، وإذا سمع رنة النقود في جيبه ذهبت حكمته، وانطفأ نور ذلك العقل.
ويذكر القراء أيضا حين جعله الرجل العبوس لوردا كيف أنه كان يرتكب الهفوة إثر الهفوة، حتى أوشك أن يفسد ما تقلده من أعمال لولا مراقبة الرجل العبوس.
ولما جاء باريس وسرق ما كان لديه من المال أقدم إقداما عجيبا، وفعل ما لا يستطيعه سواه في سبيل الارتزاق، كي يقوم بأود الأرلندية وابنها ويظفر بميلون.
ولما ظفر بصديق روكامبول، وملأ جيبه نقودا تبدد ذلك الذكاء، وذهبت تلك الحيلة العجيبة على الرزق، وبات أبله العقل ساذج القلب، كثير الركون إلى الناس والأيام، فلا يحذر أحدا، ولا ينظر إلى المستقبل إلا من خلال أقداح الخمر.
وذلك أنه حين كان واقفا منذ ساعة مع ميلون عند باب المنزل ورأى الإنكليزيين يرودان حول المنزل، نظر إليهما بعين الحذر حين سمعهما يتكلمان باللغة الإنكليزية.
ولو كان خرج من المنزل كما كان حين دخل إليه؛ أي خالي الوفاض، بادي الانقباض، لكان نظر إلى ما حواليه عساه يرى الرجلين، غير أن جيبه كان مفعما بما قبضه من ميلون، فسار دون أن يتدانى إلى الالتفات، وتبعه الشرطي إدوارد وهو لا يراه.
وكان شوكنج ذاهبا لشراء ثياب له وللأرلندية وابنها، ومن كانت له أخلاق شوكنج لا يسير ماشيا على الأقدام حين يستطيع الركوب، فلما وصل إلى الشارع رأى مركبة من نوع الأمنبوس فصعد إليها وهو يعلل نفسه بركوب مركبة خاصة حين رجوعه.
وسارت مركبة الأومنيبوس الهويناء، وبعد هنيهة استوقفت بإشارة من الشرطي إدوارد وصعد إليها وجلس بجانب شوكنج، ولم يعرفه شوكنج؛ لأنه ما رآه غير لمحة حين كان مع السير جمس.
وجاء مراقب المركبة لقبض الأجرة فبدرت من شوكنج كلمة إنكليزية، فأظهر إدوارد انذهالا وتكلف السرور وقال: أأنت إنكليزي؟
فأجابه بالإيجاب.
ودار بينهما الحديث فقال له إدوارد: أأنت هنا منذ عهد طويل؟ - منذ شهر.
فنظر الشرطي إلى ملابسه نظرة المشفق وقال: ألعلك أتيت باريس للاشتغال بمهنة سواق المركبات؟
فاستاء شوكنج من ظواهر إشفاقه وقال بجفاء: كلا. - أرجو ألا يسوءك اقتراحي، فإني غني لا أطيق أن أرى مواطني في عسر وضيق.
ثم أعطاه رقعة زيارته فشكره شوكنج وأدخلها في جيبه.
ولما وصلت المركبة إلى شارع فوجيراد وقفت ونزل منها شوكنج وتبعه إدوارد ووضع يده على كتفه وقال: إن كل إنكليزي يلقى مواطنا له في بلاد أجنبية يشرب وإياه كأسا من الخمر، فهل ترفض دعوتي.
فاهتز شوكنج لذكر الخمر، وهو من المولعين بها وقال له: معاذ الله أن أرفض مثل هذا الطلب يا سيدي؟ - إذا هلم بنا إلى هذه الخمارة؛ فإنها حسنة الظواهر.
وكان في تلك الخمارة كثير من الزبائن، فجعلوا ينظرون إلى إدوارد وشوكنج نظر الإعجاب لما رأوه من اختلاف ملابسهما الدالة على ما بينهما من تباين المقام.
غير أنهما ذهبا إلى طاولة معتزلة في آخر الخمارة وطلبا زجاجة من نبيذ برتو، فشرباها وطلب إدوارد زجاجة ثانية، فلم يعترضه شوكنج وشرباها، وطلب زجاجة ثالثة وطعاما مختلفا، فهاجت شهية شوكنج فأكل وشرب قدر ما يأكله أربعة رجال أصحاء.
وكان الشرطي يتوقع أن يصرعه السكر من حين إلى حين، غير أن شوكنج كان مدمنا للشراب فلا يصرعه القليل منه، ومع ذلك فقد أثر فيه تأثيرا أعاد إليه ذكرى أيامه السابقة مع الرجل العبوس حين كان يتنعم بماله ومجده ويغير ألقابه من لورد إلى بارون إلى مركيز.
فلما امتلأ بطنه من الشراب، شرب كأسا وجعل يتبسم ابتساما معنويا ثم قال للشرطي: أرجوك أن تعذرني يا سيدي، فإني مضطر أن أفارقك لقضاء بعض المهام.
وعند ذلك نادى خادم الخمارة، فقال له إدوارد: ماذا تريد منه؟
أجابه ببرود: إني أريد أن أدفع الحساب.
ثم أخذ قطعة نقود ذهبية ووضعها على المائدة، فتظاهر الشرطي بالانذهال، أما شوكنج فإنه عاد إلى الابتسام وقال: إن المرء ليس بثيابه يا مواطني العزيز، فاعلم الآن أني لورد غريب الأخلاق يقال عني من أهل الشذوذ.
وأنا أسافر متجولا في البلاد بغية الوقوف على أخلاق الأمم وعاداتهم، وقد تنكرت اليوم بهذه الثياب الرثة وتجولت في شارع سانت مارتلي ورأيت شبها عجيبا بينه وبين شارع سبيتهلد في لندرا.
فوقف الشرطي إجلالا وقال بلهجة الاحترام: ولكن ألا تتدانى يا حضرة اللورد إلى تشريفي بذكر اسمكم الشريف.
فاهتز شوكنج اهتزازا كبيرا وقد زاده السكر تيها حتى أوشك أن يصدق نفسه: إني أدعى اللورد ويلموت.
ثم نهض بملء العظمة كما ينهض اللورد عن كرسيه في مجلس البرلمان.
24
كان السير جمس قد قال لرفيقه إدوارد: إن ساعة تكفيني لاختطاف الغلام ووضعه في محل أمين ، وقد مضى أكثر من ساعة على اجتماعه بشوكنج، فلما نهض يحاول الذهاب قال في نفسه: ليذهب الآن حيث شاء ولم يعترضه في شيء.
أما شوكنج، فإنه وقف وقوف المنتصر ومد يده إلى إدوارد فقال بلهجة المتواضع: لا بأس من أن تزورني خلال إقامتك في لندرا.
فشكره الشرطي وقال: إن هذا شرف عظيم لي يا سيدي اللورد.
فتشامخ شوكنج وقال: إني مقيم في أوتيل لابيه، وليس لدي رقعة زيارة، ولكني سآمر رجال الفندق أن يدخلوك إلي متى حضرت.
ثم تركه وهو معجب بنفسه لتمكنه من خداعه وافترقا فذهب كل منهما في سبيل.
أما شوكنج، فإن الشرب كان قد أثر فيه تأثيرا يعد قليلا بالقياس إلى المدمنين من الإنكليز، ولو أصاب رجلا غير الإنكليز لصرعه؛ أي إنه وصل إلى محل بائع الثياب دون أن يلتطم بالجدران.
وكان هذا المحل يشتري الثياب القديمة فينظفها ويبيعها للمقتصدين، فدخل شوكنج إلى المحل ودفع لصاحبه 60 فرنكا، فألبسه ثوبا جميلا وزاده قميصا وأعطاه قفازا.
وخرج من عنده وهو يتمايل سكرا وعجبا وهو لا يشك أنه لورد حقيقي بعد هذه الثياب.
وبعد أن نظر نفسه في جميع مرائي المحل مرارا وامتلأت نفسه من الغرور، فطن إلى ثياب الأرلندية وولدها فقال في نفسه: كان يجب أن أحضرهما معي، لكن لا بأس فسأذهب في مركبة وأعود بهما.
وسار حتى وصل إلى لكسمبرج، وكان أول من رآه في تلك الحديقة الشرطي إدوارد، وهو جالس على مقعد يطالع في إحدى الجرائد فدنا منه شوكنج وسعل كي يحول إليه الأنظار، فالتفت الشرطي إليه وتظاهر بالدهشة وخف للسلام عليه وهو ينظر إلى ملابسه نظرة إعجاب.
وقال له شوكنج: إني بعد أن فارقتك ذهبت إلى الفندق وغيرت ملابسي؛ لأني سأحضر جلسة مجلس الشيوخ، ولكنك قد هجت شوقي إلى الشراب بما سقيتني إياه، فهل لك أن تشرب زجاجة؟ - إني لا أجسر على رفض طلب سيدي اللورد، ولكني ألتمس منه على ما بيننا من تباين المقام أن يأذن لي هذه المرة بدفع ثمن الشراب. - لا بأس فقد أذنت لك.
وعند ذلك دخل الاثنان إلى الخمارة في الحديقة، وكان إدوارد يقول في نفسه: لا أعلم ما فعل السير جمس فقد يكون محتاجا إلى أكثر من الوقت الذي عينه، فلنطل الزمن بالضحك على هذا الأبله.
وكان شوكنج قد شرب مقدارا عظيما كما قدمناه وجلس مع إدوارد وجعل يشرب من الزجاجة حتى صرعته الخمر وسقط على الأرض لا يعي لسكره، فنادى إدوارد صاحب الخمارة وقال له: إن هذا الرجل مولع بالشراب وهو من أغنياء الإنكليز، وقد سكر كما تراه فاحمله وضعه على مقعد من مقاعد الحديقة معرضا للهواء الطلق إلى أن يستفيق.
فامتثل الخمار وحمله مع رجلين من خدمه إلى الحديقة.
ومن كان يدمن الشراب كان سكره قصير المدى؛ ولذلك لم يمر بشوكنج ثلاث ساعات حتى صحا من سكرته ففتح عينيه وجمع حواسه فذكر ما كان منه وما صار إليه وقال: ويح لنفسي ما أشقاني فقد تركت الأم وابنها وانصرفت إلى السكر.
ثم ذكر اتفاقه مع ميلون على اللقاء فهب منذعرا وأسرع بالخروج من الحديقة، وكان عزاؤه الوحيد أن الرجل العبوس لا يعلم ما كان من تقصيره.
وهناك لقي مركبة فركبها وقال في نفسه: أظن أن خطئي ممكن إصلاحه، فإني سأبقي المركبة لحسابي فأذهب بها مع حنة ورالف إلى بائع الثياب ونذهب في الأثر إلى منزل ميلون.
وبعد ربع ساعة وقفت المركبة عند باب منزل الأرلندية فخرج شوكنج منها، وصعد إلى الغرفة التي يبيتون فيها، فوجد الباب مفتوحا ولم يجد فيها أحدا.
فانذعر وجعل يجيل نظرا حائرا مضطربا، وكانت فتاة عاملة تقيم في غرفة مجاورة لغرفتهم فرأته وقالت له: إن امرأتك وولدك قد سافرا.
فاضطرب ووقع هذا القول عليه وقع الصواعق فقال لها: كيف سافرا ومتى ولماذا؟ - إن أحد مواطنيكم جاء إلى هنا وذهب بهما. - أهو رجل إنكليزي؟ - نعم.
فوهت قواه حتى حسب أن الأرض تميل به وذكر اللذين رآهما يرودان حول المنزل حين كان يحادث ميلون، وذاك الرجل الإنكليزي الذي أسكره فصاح صيحة رعب وخرج من المنزل راكضا كأنه أصيب بالجنون.
25
أما ميلون فإنه عاد إلى منزله ووجد كتاب مرميس بدلا من أن يجده بنفسه، فقرأ تلك الرسالة وقال في نفسه بعد الإمعان: إن مرميس مصيب فيما فعل، وكانت الخادمة لا تزال واقفة أمام ميلون، فأظهر أمامها شدة استيائه من كتاب الإنكليزي وقحته، وعند ذلك جاء اثنان من وكلائه فأخبرهما بأمر هذا اللورد الغريب وقال لهما وهو يتكلف مظاهر الكدر: إني تأخرت ربع ساعة عن الموعد المضروب، فحسب هذا الرجل الغريب أني احتقرته وكتب لي كتابات شائنة.
فقال له أحد الوكيلين: إذا لم يبق رجاء بعودته؟ - ليذهب حيث شاء، فإن لدي كثيرا من الأعمال فلا أبالي بمثله والآن اصعدا معي إلى غرفتي لأريكما رسم بناء جديد تعهدت ببنائه.
وكان ميلون يمثل دوره تمثيلا متقنا، فتقدم وكيله إلى غرفته ولم يكد يفتح بابها حتى صاح صيحة طبيعية، وأسرع الوكيلان إليه فوجداه واقفا وقفة المنذهل وهو يقول: لقد سرقوني.
وكان يجيد تمثيل الرعب إجادة طبيعية بحيث لم يخطر لأحد أن يشك في قوله، وخرج من الغرفة ونادى الخادمة فقال لها: منذ أي حين خرج هذا اللورد. - منذ ربع ساعة. - في أي جهة مضى؟ - رأيت مركبته ذهبت إلى جهة الشانزليزه. - ألم تقرئي نمرتها؟ - كلا، لم أنظر إلى النمرة، ولكني نظرت إلى السائق. - أتعرفيه إذا رأيتيه؟ - دون شك.
فخرج ميلون من المنزل مسرعا وتبعه الوكيلان، فركب مركبة معهما وهو يقول بلهجة القانط: لا شك أن هذا اللص متنكر بثياب الأعيان وأن البحث عنه محال، ولكن لا بد من إبلاغ الشرطة.
وكان مدير شرطة تلك الناحية يعرف ميلون حق العرفان، فما شك بكلامه فكتب أقواله وأقوال الوكيلين والخادمة وقال: إني سأرسل قضيتك إلى إدارة الشرطة، فإنه يوجد في باريس الآن بوليسان من الإنكليز لهم اتصال ببوليسنا، فإذا ثبت أن السارق إنكليزي، فهما يظفران به دون شك، ولكن البوليس الإنكليزي لا يعمل شيئا مجانا.
فقال ميلون: إني أدفع ربع المال المسروق إذا اقتضى الأمر.
غير أن البوليس لم يكتف بكتابة المحضر ، بل حاول إجراء التحقيق التام فبدأ بالذهاب إلى منزل ميلون وفحص الصندوق، فوجد أن قفل الجدار مكسور وأن قفل الصندوق نفسه سليم وليس فيه أقل أثر من الاغتصاب فاستدل من ذلك أن الصندوق قد فتح بمفتاح مصنوع في إنكلترا حيث صنع الصندوق.
ولما أتم فحصه قال لميلون: إن إدارة الشرطة قد تدعوك غدا لاستعلام منك واستئناف التحقيق. - سأذهب حين تدعوني.
فذهب الشرطي في شأنه، وتظاهر ميلون أنه يريد الإقامة منفردا في غرفته لشدة أسفه على المال.
غير أنه لما خلا بنفسه ذهبت عنه آثار الانقباض وقال في نفسه: إنهم يتهمونني بالبلاهة، وقد أتهم نفسي بالبله أيضا غير أني قد فعلت اليوم ما لا يفعله روكامبول ومثلت دوري تمثيلا خدع به وكلائي ومأمور الشرطة نفسه.
ثم ظهرت عليه مظاهر الإعجاب بنفسه، وجعل ينظر في حساباته بملء الرضى.
وفيما هو على ذلك طرق باب غرفته، ودخلت الخادمة فقالت له: لقد جاء يا سيدي إنكليزي آخر وهو يطلب أن يراك.
فتذكر ميلون موعده مع شوكنج وقال لها: أتدل ملابسه على الفقر؟ - كلا، فإنه لابس خير الثياب. - أيصحبه امرأة وغلام. - كلا، بل هو وحده ولكنه يبكي بكاء شديدا، فاحذر يا سيدي فإني أخشى أن يكون هذا الإنكليزي أيضا من الماكرين.
فخرج ميلون من غرفته ونزل إلى الدور الأسفل، حيث كان ينتظر شوكنج فاستقبله باكيا وقال له: لقد اختطفوا حنة ورالف أيضا.
ثم قص عليه جميع ما كان يعلمه.
ولم يكن شوكنج يعلم غير أمرين، أحدهما أن رجلا إنكليزيا سقاه فأسكره، والآخر أن رجلا إنكليزيا أيضا قدم إلى المنزل وذهب بالأم والغلام.
فأشكل الأمر على ميلون، وقال في نفسه: لا يحل هذا المشكل إلا مرميس.
ثم أوصى شوكنج أن يبقى في المنزل إلى حين عودته، وذهب إلى بيت مرميس فوجده وقص عليه ما جرى.
فلما فرغ من حديثه ابتسم مرميس وقال له: أهذا الذي أشكل عليك فهمه؟ - وأي إشكال أعظم من هذا؟ - إن الذين اختطفوا الغلام هم نفس الذين سجنوا المس ألن. - أتظن؟ - بل أؤكد ، وقد نصبت لهم فخا فمتى وقعوا فيه استرجعنا الغلام وأمه كما نسترجع المس ألن.
فأعجب ميلون به وقال له: أرى لك قريحة الرئيس، فإنك تجد مخرجا من كل أمر. - لا أقول لك: إن لي ذكاء روكامبول، ولكني أذكى منك؛ فإنك تغرق في قدح ماء كما يقولون.
26
ولنذكر الآن ما جرى للأرلندية وابنها، فإن السير جمس أخبر رفيقه إدوارد أنه كان من الأرلنديين، وحكايته أنه بعد أن خان تلك الطائفة، التي أصبحت شغل إنكلترا الشاغل، هرب إلى البلاد الأميركية خوفا من الأرلنديين، ثم عاد بعد أن أقام مدة طويلة في لندرا، فلم يعرفه فيها أحد.
وكان يعتمد في خديعة الأرلندية على تلك الإشارات التي كان يعرفها حق العرفان، فإنه كان من كبار تلك الطائفة قبل أن يبيع نفسه للإنكليز بيع السلع.
وكان قد تداول مرات كثيرة مع اللورد بالمير ومع الأسقف بترس توين قبل أن يحضر إلى فرنسا، فعلم من هذا الأسقف جميع ما جرى أخيرا من الحوادث، ولكنه لم يبح بشيء منها لرفيقه إدوارد.
ويذكر القراء أنه حين كان يقيم مع رفيقه في منزل مس ألن لحراستها كان يعهد في أول الليل بمراقبتها إلى رفيقه ويذهب متجولا في أنحاء باريس للبحث عن الأرلنديين ومراقبتهم.
وأن البوليس الفرنسي لم يأذن له إلا بالقبض على مس ألن، ولكنه سمح له بواسطة السفارة أن يقتفي أثرهم، وعين في خدمته رجلا حاذقا يعرف جميع خفايا باريس.
وقد جعل السير جمس نصب عينيه البحث عن الغلام وأمه، والقبض عليهما، ثم إيجاد محل أمين يسجنهما فيه، إلى أن ترد إليه الأوامر من الأسقف، ويذهب في كل ليلة مع الرجل الفرنسي، فيطوف في الشوارع المقفرة باحثا عن منزل معتزل بعيد حتى فاز ببغيته، فانصرف إلى البحث عن الغلام وأمه.
وبعد ذلك بثلاث أيام عثر بالبيت الذي يبحث عنه، ووقف في المساء على أثر الأرلندية وابنها.
فبينما كان إدوارد يسير مقتفيا أثر شوكنج، كان السير جمس يصعد إلى منزل الأرلندية، وقد وضع خطة لإغوائها، يستحيل عليها أن تعلم المراد منها.
فلما وصل إلى الدور الثالث رأى فتاة خارجة من باب منزلها فقال لها: أين يقيم الإنكليز من هذا البيت؟
فدلته على غرفة الأرلندية فصعد إليها.
وكان باب الغرفة لا يزال مفتوحا، بعد ذهاب شوكنج، وكانت جالسة مع ابنها تلاعبه وتمازحه، وقد اطمأن بالها بعد أن اجتمعت بميلون، فلما رأت السير جمس ذعرت غير أنه بادرها بالإشارة الأرلندية السرية، فمشت إليه مطمئنة وقالت له: ماذا تريد أيها الأخ؟
فأجابها باللغة الأرلندية الاصطلاحية: إني أبحث عنك أيتها الأخت منذ عهد طويل. - عني أنا؟ - نعم، وعن ابنك زعيمنا الأكبر.
وعند ذلك ركع أمام الغلام وقبل يديه بملء الاحترام، ثم قال له بلهجة الكئيب: إن واحدا من إخواننا يحتضر في هذه المدينة المتسعة التي لجأنا إليها فرارا من الذين يضطهدوننا، وقد أراد هذا المحتضر أن يردد نفسه الأخير أمام الزعيم الذي ستلقى إليه مقاليد أرلندا، فهل ترفضون طلب ذاك المنكود في ساعة الموت؟
فأجابته حنة: كلا أيها الأخ، وسنسير معك إليه.
غير أن السير جمس، ذلك الخائن الذي باع سر إخوانه للإنكليز، كان قد ألف حكاية صغيرة يرويها للأرلندية، كي يتم إغوائها بمساعدة إشاراته السرية فقال لها: أصغي إلي أيتها الأخت، فإني قد أتيت خصيصا إلى باريس من أجلك، ولكني لم أقف على أثرك إلا منذ بضع ساعات.
فنظرت إليه حنة وقالت: من الذي أرسلك إلي؟ - رجلان يدعى أحدهما صموئيل.
فأزال اسم هذا الكاهن من نفس الأرلندية كل ريب وأتمت الإشارات السرية تطمينها.
وعاد السير جمس إلى الحديث فقال: إني أبحث عنك منذ ثمانية أيام، وإنما أبحث عنك لسببين الأول هو صدور الأمر إلي بإيجادك، والثاني وجود ذاك الأخ المنكود على فراش الموت، والتماسه بركة رئيسنا الأعظم قبل مفارقته الحياة. - أين يقيم هذا المحتضر؟ - إنه يقيم في منزل بعيد يجب أن نسير إليه في المركبة. - أيمكن أن نعود قبل هجوم الليل؟ - دون شك.
فابتسمت حنة وقالت: إنك تنذهل، أيها الأخ، لمبادرتي إياك بهذا السؤال. - هو ما تقولين. - إنك آت من قبل الكاهن صموئيل كما تقول، ومن رجل آخر أليس كذلك؟ - نعم أيتها الأخت. - ما اسم الرجل الآخر؟ - لا اسم له، ولكنهم يلقبونه بالرجل العبوس.
فمدت حنة يدها إليه وقالت له: ما دام الاثنان قد أرسلاك إلي، فإني أتبعك حيث تشاء.
ثم إني لا أخفي عنك أمرا من أموري فإننا حين جئنا إلى باريس أرسل الرجل العبوس معنا رفيقا. - وهذا الرفيق يدعى شوكنج. - أتعرفه؟ - نعم وكنت أرجو أن أراه معك. - إنه ذهب في بعض الشئون. - وا أسفاه كنت أحب أن ننتظره فيذهب معنا، ولكن الرجل في حالة النزع وأخشى أن يعيقنا الانتظار فيموت قبل أن نصل إليه. - لقد أصبت، وفوق ذلك فإن شوكنج عندما يكون ملآن الجيب لا يهتم بالإسراع في العودة وسأخبرك عن أمرنا في الطريق. - وأنا ذاهب لإحضار مركبة فتأهبي.
ثم ذهب، فأسرعت حنة بارتداء ملابسها، وأخذت غلامها بيدها وحاولت أن تسير به فلم يسر، فذهلت أمه لمقاومته وقالت له: ماذا طرأ عليك؟ - إني أخاف يا أماه. - لماذا الخوف يا بني وممن خفت؟ - إن خوفي من هذا الشخص ولا أحب الذهاب معه. - لا سبيل إلى الخوف؛ فإنه من إخواننا الأرلنديين. - كلا، وإني خائف منه.
وكانت ثقة حنة بالسير جمس راسخة بعدما أخبرها أنه قادم من قبل الرجل العبوس والكاهن صموئيل، فأنبت ولدها وقالت له: إنك رجل والرجل لا يخاف.
فتحمس الغلام ووقف فقال لأمه بعظمة: إذا كنت تريدين الذهاب فلنذهب، ولكن سوف ترين أننا سنصاب بنكبة.
فلم تحفل حنة بقول ولدها وحسبت حذره من قبيل الهواجس.
أما رالف فإنه لم يقاومها بعد أن أنذرها ونزل معها، فوجد السير جمس قد جاء بالمركبة، فصعدا إليها مع السير جمس، وسار السائق إلى حيث أمره الشرطي.
وقد أخبرته حنة وهم سائرون بما جرى لهم في باريس، وكيف أنهم سرقوا منهم مالهم والحوالة إلى أن أخبرته بحضور ميلون إليه وإحسانه إليهم ودعوته لهم إلى منزله.
ثم قالت له: وهذا هو السبب في اضطراري إلى الرجوع قبل الظلام؛ لأننا وعدناه أن نكون عنده في هذا الموعد . - حسنا وأنا أذهب بكما إليه متى فرغنا من هذه المهمة.
وظلت المركبة سائرة من شارع إلى شارع، حتى وصلت إلى شارع ضيق يدعى الشارع الأخضر، فدخلت فيه ووقف عند منعطف لم تدخل فيه المركبة.
فنزل السير جمس وأعان الأرلندية وابنها على النزول وقال لها: إن المنزل قريب جدا من هنا.
ثم حاول أن يأخذ بيد الغلام، فنفر منه والتصق بأمه.
فقال له السير جمس، باللغة الأرلندية الاصطلاحية: ألعلك خفت يا بني؟
فأثرت لهجته الحنونة وهذه اللغة برالف فأعطاه يده، وسار الشرطي بالاثنين في ذلك الشارع.
27
كان هذا الشارع الضيق كثير السكان، ولكن معظمهم من العمال، فكانوا إذا أشرق الصباح هجروا مساكنهم إلى المعامل فلا يعودون إلا حين يقبل الظلام.
ولذلك لم يكن يوجد فيه مدة النهار غير امرأة ترضع ولدها أو صغار يلعبون عند أبواب المنزل.
وكان يوجد في وسط هذا الشارع من جهة مدخل الشارع الأخضر منزل مرتفع ذو ثلاثة أدوار، فكان يقيم في الدور الأول منه رجل فحام، وفي الدورين الآخرين فريق من العمال.
غير أن العمال لا يقيمون في منازلهم إلا في الليل كما قدمناه، فلا يبقى في المنزل نهارا إلا ذلك الفحام.
وقد دخل السير جمس مع حنة ورالف إلى ذلك المنزل، فلم ترعهما قذارته، ولا ضيق ذلك الشارع، فقد ألفت مثل هذه المناظر في شوارع لندرا المقفرة.
ولذلك دخلت إلى رواق المنزل المظلم في أثر السير جمس دون تردد أو خوف.
ولما بلغوا إلى آخر الرواق انتهوا إلى باب قرعه السير جمس فأسرع الفحام إلى فتحه واستقبال الزائرين.
وهذا الفحام يناهز الأربعين من العمر، وهو ضيق الجبهة صغير العينين قوي العضلات شديد البنية، ولكن هيئته تدل على الشر.
وكان أرملا، غير أن الأقوال قد اختلفت عن موت امرأته، فقال بعضهم: إنه سقاها سما، وقال آخرون: إنه قتلها خنقا، فلما اشتهرت الإشاعات سجنه البوليس، وأطلق سراحه بعد التحقيق.
ثم إنه كان له ابنة تبلغ الخامسة عشرة من عمرها كان يعاملها أسوأ معاملة وينهكها ضربا.
فلما ماتت أمها هربت من منزل أبيها، فلم يعلم أحد ما جرى لها، ولم يكترث أبوها لاختفائها.
وكان هذا الرجل يدعى شاباروت، وهو شديد البخل كثير الشغل، فظ الطباع هائل الخلقة.
وكان جميع أهل الشارع يخافونه، وإذا جاء النساء لشراء الفحم والحطب من دكانه لا يجسرن على تخطي العتبة.
على أنه كان كثير الصمت لا يعاقر الخمر ولا يخاصم أحدا، ومع ذلك فقد كانوا يخافونه ويبتعدون عنه ما استطاعوا.
ويذكر القراء أن السير جمس كان قد استخدم رجلا فرنسيا عارفا بجميع خفايا باريس، فقال له الرجل يوما: إنك قد سألتني أن أرشدك إلى رجل شديد العزم ثابت الإرادة يقدم على كل أمر، فإذا كنت لا تزال في حاجة إلى هذا الرجل فهلم معي أرشدك إليه.
فتنكر السير تلك الليلة بثياب العمال وسار معه إلى حانته، فأراه ذلك الرجل الفحام جالسا في زاوية الخمارة يتعشى وقال له: هذا هو الشخص الذي تحتاج إليه، فاتفق معه يفعل ما تشاء، أما أنا فإني ذاهب إذ لا أتداخل بينكما في شيء.
ولا شك أن الفحام كان عالما باحتياج السير جمس إليه، فإنه استقبله على شراسة طباعه بالابتسام.
فجلس السير معه وطلب قنينة خمر فشرباها معا وتحادثا مليا، فأفضت المحادثة إلى أن السير أعطاه قبضة من الذهب فبات الفحام بعد هذه المقابلة طوعا للشرطي في كل ما يريد.
وقد اجتمع به السير مرارا بعد هذا الاجتماع.
وكان التقاؤهما دائما في الحانات، ولم يزره في دكانه غير مرة واحدة، وهي المرة الأخيرة.
فلما وصل السير جمس مع الأرلندية وابنها لم يدخل إلى دكان الفحام، بل دخل في الرواق وطرق الباب، فأسرع الفحام بغية فتحه وتبودلت بينه وبين السير جمس نظرة سرية، كان يقول له فيها: اتبعني، فقد فهمت المراد.
وكان السير ماسكا يد الغلام فتبع الفحام وورائهما الأرلندية، فاجتازوا فسحة كانت مظلمة في رابعة النهار.
وفي جوار هذه الفسحة فسحة أخرى، بل هي سقف كان الفحام يخزن تحته فحمه وأخشابه.
وساروا على هذا السقف في الظلام الحالك.
وكان السير كلما آنس من رالف ترددا يكلمه بلغته الاصطلاحية، فيطمئن ويسير.
وكانت الأرلندية ترجو من حين إلى حين أن ترى سريرا وعليه ذلك الرجل المحتضر، ولكنها لم تر شيئا.
واستمروا سائرين حتى وصلوا إلى باب في آخر الفسحة ففتحه فلم يروا شيئا لشدة الظلام.
ولكن الفحام أضاء شمعة وتقدمهم، فوجدوا أنهم في مكان يشبه القبو.
وكان نور الشمعة ضعيفا حتى إنهم لم يروا ما يوجد داخل هذا القبو، ولكنهم كانوا يشعرون أنه سقف خشبي وأنه تحته فراغ.
فكان الفحام يتقدم الجميع بشمعته، وفي أثره السير والغلام، ووراءهما الأرلندية.
فلم يسيروا ثلاث خطوات حتى وقف الفحام وانحنى إلى الأرض باحثا كأنه يلتقط شيئا، فانذهل الغلام لانحنائه ثم شعر باهتزاز شديد، تلاه صيحة وصوت يشبه صوت سقوط جسم في المياه، فالتفت الغلام منذعرا فلم ير أمه.
أما الأرلندية فإنها قد اختفت، ذلك أن الأرض قد فتحت تحت قدميها فسقطت في هوة تحت السقف الذي كانوا يسيرون عليه.
28
وكان رالف قد ذعر لهذا الصوت الذي سمعه وحسب في البدء أن الحادث بسيط، فالتفت وراءه مناديا أمه، غير أن حركة السقف الذي فتح فجأة كانت سريعة بحيث فتح تحت أقدام حنة وانغلق بأسرع من لمح البصر، فلم ير الغلام شيئا مما حدث.
ولكن الذعر تمكن من قلبه حين التفت ولم ير أمه، وحاول الرجوع والإفلات من يد السير جمس وهو ينادي يا أماه.
أما السير فإنه مسكه بيد شديدة، بينما كان الفحام يضحك لصياحه ضحك المستهزئين، فعض رالف تلك اليد بملء قوته، حتى إن السير صاح متألما وأفلته.
فانقض الفحام عند ذلك عليه، وضغط على عنقه ضغطا منعه عن الصياح.
وكان هذان الشقيان سمعا بعد سقوط حنة صوت جسم يضطرب في المياه، ثم انقطع هذا الصوت، وساد السكون فقال الفحام ضاحكا: أظن أن أمرها قد انقضى.
وعاد إلى الضغط على عنق الغلام حتى اندلع لسانه وانحبس الدم في وجهه فصاح به السير قائلا: ويحك إنك ستخنقه، فاحذر أن تقتله فإن حياته ثمينة عندي.
وكان الغلام لا يزال يناضل ، فقال الفحام للسير جمس: إذا أربط فمه بمنديل.
فتعاون الشقيان على ربط فمه، وحملاه إلى مستودع الفحم، فألقاه ذلك الوحش الكاسر في الأرض ووضعه في كيس فحم فارغ، فكاد غباره يعمي عينيه.
وعند ذلك دار بين الاثنين الحديث الآتي: قال الفحام للسير: ماذا يجب أن نصنع به؟ - أتظن أن أمه قد غرقت؟ - دون شك، فإن المياه التي سقطت فيها يبلغ عمقها عشرة أقدام فليطمئن بالك، وقل لي ماذا نصنع بالغلام؟ - يجب أن تبقيه عندك. - إلى متى؟ - إلى الغد. - أيجب أن أطعمه؟ - دون شك، إلا إذا اشتد صياحه فعاقبه بالجوع. - إني سأضعه في مكان يصرخ به قدر ما يشاء فلا يسمع صياحه أحد، ثم حمل الكيس الذي وضع فيه الغلام وقال له مشيرا إلى قطعة ضخمة من الخشب: أزح هذه الخشبة من موضعها.
فأزاحها السير جمس فانكشفت عن سلم يؤدي إلى قبو فقال له: انتظرني هنا، فإني عائد إليك.
ثم نزل وبعد هنيهة عاد وقال: إني سجنته في قبو لا يجد منه مخرجا ولا يجيب صياحه فيه غير الصدى ثم مد يده إلى السير جمس وقال: لقد فعلت ما علي فافعل أنت ما عليك، فأخذ السير جمس ألف فرنك ذهبا من جيبه ودفعها له وقال: خذ نصف أجرتك الآن.
فحملق الفحام بعينيه وقال: والنصف الآخر؟ - سأدفعه لك متى أخذت منك الغلام وأنا أريد بذلك أن تحرص عليه. - كن مطمئنا فسأحرص عليه كل الحرص. - إذا سأحضر غدا لاستلامه وأدفع لك بقية ما اتفقنا عليه.
فتنهد الفحام وقال: ليكن ما تريد.
ثم افترق الاثنان ودخل الفحام إلى دكانه وخرج السير من الرواق إلى الشارع الآخر، وركب المركبة التي جاء فيها وذهب توا إلى إدارة التلغراف وأرسل الرسالة البرقية الآتية:
لحضرة الأسقف بترس توين
لندرا 92 أوكسفورد ستريت
إن رالف عندي، أيجب أن نسافر؟ أجبني على الفور.
سير جمس
وبعد أن أرسل الرسالة الدموية سار آمنا مطمئنا إلى القهوة الإنكليزية ليتناول فيها طعام العشاء وهي القهوة التي واعد رفيقه إدوارد على مقابلته فيها.
غير أن إدوارد أبطأ في الحضور، ولم يعد إلا بعد أن أتم السير عشاءه، فقال له إدوارد: ماذا صنعت؟ - قضي الأمر. - وأين وضعت الغلام؟
فابتسم السير وقال: في محل أمين لا يصل إليه أحد. - أما أنا فإني مررت بالفندق وأحضرت لك منه كتابا ورسالة برقية وردتا باسمك.
فأخذها السير منه وبدأ بفتح الرسالة البرقية وهي واردة إليه من الأسقف بترس توين فقرأ ما يأتي:
اكتب كتابا مفصلا وانتظر أوامر جديدة. - كما يريد، ثم فتح الكتاب فوجد أنه من البوليس الفرنسي وقد تضمن ما يأتي:
احضر في الساعة التاسعة صباح غد إلى مكتبي، فإن لدي اقتراحا أعرضه عليك ومهمة أعهد بقضائها إليك.
فقال بعد أن قرأ هذه الرسالة: إني لا أعلم ما يريد مني غير أني أظن أنه يستخدمنا في سبيل القبض على بعض اللصوص الإنكليز؛ إذ يوجد عصابة منهم قدمت حديثا إلى باريس وهو أمر يسرني، فإننا لا نخدم البوليس الفرنسي مجانا. - إذا تذهب في الساعة التاسعة من صباح غد؟ - دون شك، إنها فرصة مناسبة للكسب، ثم جعل يدخن مع رفيقه دون أن تخطر في باله تلك المرأة المنكودة أو يمر في خاطره ذلك الغلام الصغير.
29
في صباح اليوم التالي ذهب السير إلى إدارة الشرطة ودخلت مركبته إلى رصيف أورفيفر.
وهناك محطة للمركبات كان فيها نحو عشرين مركبة تنتظر وهي خالية من الناس، ما خلا مركبة كانت ستائرها مرخية، ولكن رجلين كانا ينظران فيها من خلال تلك الستائر إلى كل قادم.
وكان هذان الرجلان مرميس وميلون، فقد صعدا إلى هذه المركبة منذ الساعة الثامنة ونصف وقالا لسائقها: إنهما ينتظران قادما وإنهما استأجرا مركبته بالساعة فأوقفها في خدمتهما وجعل الاثنان يراقبان القادمين إلى دائرة الشرطة من خلال السجف ويتحدثان بصوت منخفض.
وافتتح مرميس الحديث فقال: أتحسب يا ميلون أن الإنكليز يستطيعون التنكر في باريس، فإن من كان مثلي يعرفهم من حركاتهم إذا تعذر عليه معرفتهم من وجوههم.
وقال ميلون: إذا أنت تريد أن تعرفه؟ - دون شك. - ولماذا لا تدعني أقابل مدير الشرطة قبله . - ذلك لأنك تعرف الرجلين اللذين كانا يرودان حول منزل الأرلندية حين كنت مع شوكنج، فإذا جاء أحدهما لإدارة الشرطة عرفته وأرشدتني إليه، ثم إني أحب أن يصل قبلك إلى دائرة الشرطة.
ثم تنقلا من حديثهما إلى حديث آخر، وفيما هما على ذلك مرت بهما مركبة فوقفت عند باب الشرطة وخرج منها رجل وكلم السائق.
فقال مرميس: هذا هو إذا لم تخطئ فراستي.
وقال ميلون: لقد أصبت فإنه أحد الرجلين اللذين رأيتهما البارحة. - إذا أصغ إلي، فإن هذا الشرطي قد صعد إلى دائرة الشرطة لمقابلة المدير، فاصبر هنيهة واصعد في أثره، واجتهد أن تخرج معه سواء عهد إليه المدير بالبحث عن سارق أموالك أو لم يعهد إليه. - لماذا؟ - لتكون واثقا من أن هذا الرجل لم يأت إلى دائرة الشرطة لغير هذه المهمة. - كفى لقد فهمت وبعد ذلك ماذا أصنع؟ - تعود إلى منزلك. - وأنت؟ - أما أنا فلدي كثير من المهمات، وسأبدأ منها باقتفاء أثر هذا الرجل. - إن فكري يحدثني بأنه لا يرضى أن يبحث عن السارق. - لماذا؟ - لأني أدعى ميلون ولأنه أحد الرجلين الذين سرقا حوالة شوكنج علي، فهو يؤثر الابتعاد عني. - إنك مخطئ فاخرج الآن من المركبة واذهب إلى إدارة الشرطة فقد آن الأوان.
فامتثل ميلون دون أن يعترض ونادى مرميس السائق فدله على مركبة السير جمس وقال: أتستطيع مركبتك أن تدرك هذه المركبة حين انطلاقها؟ - دون شك. - إني أريد اقتفاء أثر راكبها وسأكافئك عن ذلك بعشرين فرنكا. - سأفعل ما تريد فلا يغيب عنك لمحة طرف.
أما السير جمس فإنه دخل إلى المدير فأحسن استقباله وقال: إني دعوتك أيها الزميل لمشاركتي في البحث عن سرقة ارتكبها أحد مواطنيكم. - إني أعلم بوجود عصابة من لصوص الإنكليز في باريس، فهل مقدار المال المسروق عظيم؟ - مائة ألف فرنك. - كم تدفع لي إذا وجدت المال؟ - ربعه؛ أي خمسة وعشرين ألف فرنك. - إن القدر يسير لا يحمل على الاهتمام، غير أنك ساعدتني في مهمتي خير مساعدة ولا بد لي من مساعدتك أيضا ، فأرني أوراق التحقيق.
وقبل أن يتم مطالعتها دخل ميلون فنظر إلى السير جمس نظرة تدل على عدم المبالاة بحيث اقتنع السير جمس أن ميلون لم يعلم بعد باختطاف الأرلندية وغلامها، وأنه لم ينهمك إلا في البحث عن ماله المسروق.
وأخبره مدير الشرطة أنه هو صاحب المال المسروق، فسأله أسئلة كثيرة واسترشد منه على كل علائم الرجل الإنكليزي الذي زاره ثم قال: عد يا سيدي إلى منزلك ولا تهتم بهذه السرقة وسنرجع إليك أموالك بعد ثلاثة أيام. - ألا يجب أن أراك في خلال هذه المدة؟ - كلا، فإني عرفت عنوانك فمتى قبضت على السارق كتبت إليك في البريد.
وكان السير جمس بلهجة الواثق من فوزه، فتظاهر ميلون بالسرور وقد فعل ما أمره به مرميس فإنه لم يخرج من غرفة مدير الشرطة إلا مع السير جمس ولم يفترق عنه إلا في الفسحة العمومية وعاد إلى منزله، وركب السير جمس المركبة التي تنتظره وسارت به.
وعند ذلك أمر مرميس سائق مركبته أن يقتفي أثره وجدد له الوعود.
ولم يكن لمركبة السير جمس نافذة من الوراء فلم ير مركبة مرميس ولم يخطر في باله أنهم يتبعونه.
ولبثت مركبة السير جمس تسير ومرميس في أثرها حتى وقفت عند باب فندق اللوفر فأطلق سراح السائق وصعد إلى الفندق.
أما مرميس فإنه أوقف مركبته بعيدا عن الفندق فخرج منها وأطلق سراحها، ثم أخرج من جيبه محفظة أوراق فألقاها على الأرض بحيث تلوثت في الوحل وابتلت بمياه المطر فحملها بيده وذهب إلى الفندق وهو يقول: لنلعب الآن مع هذا الإنكليزي لعبة المحفظة، فإنه لا يفطن لها مهما بلغ من الخبث والدهاء.
30
إن خدعة المحفظة مشهورة في باريس دون سواها وهي خدعة لم يستنبطها اللصوص ولم يألفوها، ولكن الذي اخترعها جماعة النصابين.
وقد استنبطوها خاصة للجاسوسية ومكائد الغرام، فإنه يوجد منهم جماعة في كل شارع يقيمون فيه الأغنياء فيتجسسون النساء والرجال ويستفيدون مما يعلمونه من أسرار غرامهم.
مثال ذلك أنهم يجدون رجلا يسكن في منزل فخيم وهو غني عجوز قبيح الوجه، ثم يعلمون أن له امرأة جميلة صبية فيأخذون من ذلك الحين مراقبة تلك المرأة.
وأن الواحد يكمن لتلك المرأة فيجد أنها تخرج في صباح كل يوم من منزلها فيتبعها ويجد أنها دخلت إلى الكنيسة وهي تحمل كتاب الصلاة فيدخل في أثرها، فيجد أنها خرجت من باب آخر فلا يتأثر لاحتجابها، بل يسر لأنه يرى أن ظنونه قد تحققت فيها.
وفي اليوم الثاني يأتي إلى الكنيسة في الموعد نفسه فيكمن لها قرب الباب الذي خرجت منه بالأمس فيراها قد ركبت مركبة ودلت السائق على المنزل الذي تريد الذهاب إليه فيقفو أثرها ويعرف اسم العاشق الذي تزوره كل يوم.
فلا يمر بذلك عهد طويل حتى يرد إلى العاشق كتاب من ذلك الجاسوس ينذره فيه بإخبار زوج عشيقته بسر غرامه إذا لم يدفع له مبلغا بعينه ويكتب مثل هذا الكتاب للزوجة، فإما أن يكون لديها المال المطلوب فتدفعه أو تبيع ما لديها من الحلي والمجوهرات هربا من الفضيحة أو تخبر الشرطة بأمرها فيقبض على هذا النصاب ويبقى سرها مكتوما لشدة حرص الشرطة على الكتمان.
ومن ذلك أن أحد هؤلاء النصابين يتفق أن يكون في غابات بولونيا أو في الشانزليزه فيرى مركبة وقفت وفيها رجل وامرأة فيخرج الرجل منها ويذهب ماشيا على الأقدام وتعود المركبة بالمرأة إلى منزلها، فيعلم هذا النصاب أنهما كان في موعد غرام، ويقتفي أثر المركبة حتى يرى المنزل الذي وقفت عنده ويرى المرأة خرجت منها وصعدت إلى المنزل.
وعند ذلك يأخذ من جيبه محفظة جميلة من الجلد الروسي فيغمرها بالتراب ويذهب بها إلى بواب ذلك المنزل فيقول له: إن تلك السيدة التي دخلت الآن سقطت منها محفظة وهي تدفع أجرة السائق، فقل لي اسمها وفي أي دور تقيم كي أرجعها إليها.
فيقول له البواب: إنها فلانة، وإنها تقيم في الدور الأخير من المنزل إلى جهة اليسار فيشكره النصاب ويصعد، ولكنه لا يقف عند باب البيت، بل يصعد إلى السطوح فيقيم هنيهة ثم يعود وقد عرف اسم المرأة ومنزلها.
ومن ذلك الحين يأخذ بمراقبتها حتى يعثروا بعاشقها، فيرسلون إليهما رسائل الإنذار كما تقدم.
ولنعد الآن إلى موضوعنا فإن مرميس قد لجأ إلى هذه الخدعة ليعلم اسم هذا البوليس الإنكليزي والاسم الذي يتنكر به في الفندق.
وكان قد لبس ثياب رثة فدنا من البواب وأراه المحفظة ووصف له الرجل الإنكليزي الذي دخل، وسأله أن يرشده إلى غرفته كي يرد إليه المحفظة التي سقطت منه.
فقال له البواب: إنه يدعى السير جمس وود ويقيم في الغرفة التي نمرتها 18، ثم أذن له بالصعود إشفاقا عليه لما رآه من دلائل فقره.
31
كان هذا الفندق الذي دخل إليه السير جيمس من أعظم فنادق باريس وأتقنها إدارة وتنظيما بحيث لا يمكن أن يدخل إليه زائر دون أن يراه البواب ويدقق في أمره.
ولكن حين يدخل الزائر إليه ويصعد إحدى سلالمه الكثيرة تبطل المراقبة ولا يلتفت أحد إليه.
وفي هذا الفندق نحو ألف غرفة وكثير من الأروقة فكان يزدحم فيه الإنكليز والألمان والروس والأتراك، ويمتزج فيه الخادم مع السائق، والحمال مع الترجمان، ومنظف الغرف مع خدام باعة الثياب.
فلما دخل مرميس إليه وأمن المراقبة قال في نفسه: إن العجلة تورث الندامة والوقت فسيح لدي لفحص أحوال هذا الرجل.
وقد رد محفظته إلى جيبه؛ لأنه لم يخطر له في بال أن يقابل السير وجها لوجه بحجة المحفظة، بل اتخذها ذريعة للدخول إلى الفندق بملابسه الرثة.
ولكنه ذهب إلى الرواق الذي كانت فيه غرفة الشرطي وجعل يسير ذهابا وإيابا وهو لا ينفك عن زيارة باب تلك الغرفة.
وقد رأى أن مفتاحها لا يزال في قفله من الخارج فقال في نفسه: إن السير غير عازم على إطالة الإقامة في غرفته، ولولا ذلك لكان أخرج المفتاح من قفله وأقفل غرفته من الداخل وربما كان ينتظر زيارة زائر.
ولم يكن مرميس مخطئا في ظنه، فإنه لم تمر به بضع دقائق حتى أقبل الشرطي إدوارد ففتح الغرفة ودخل إلى السير جمس.
وكان الرواق مقفرا؛ إذ لم تكن تلك الساعة ساعة عودة المقيمين في الفندق فما نظر مرميس أحدا فيه ودنا من باب الغرفة يحاول الإصغاء لما يجري بين الاثنين من الحديث.
وأن العادة في مثل هذه الفنادق الكبرى أن يضعوا مقاعد من الخشب في كل رواق كي يستريح عليها المنتظرون، وكان يوجد مقعد عند باب غرفة السير.
وأخرج مرميس أنبوبة طويلة من الكاوتشوك تبلغ ثخانتها قدر ثخانة الإصبع فوضع طرفها في ثقب قفل الباب برفق ووضع طرفها الآخر في أذنه وجلس على ذلك المقعد فلم تفته كلمة من الاثنين لانحسار الصوت بواسطة هذه الأنبوبة وبلوغه إلى أذنه كما يبلغ إليه بواسطة التليفون.
وقد سمع الاثنان يتكلمان باللغة الإنكليزية فجرى بينهما الحديث كما يأتي:
وقال إدوار: لعلك قادم من هناك؟ - نعم، وقد وصلت الآن.
ماذا قال لك البوليس، وما هي هذه المهمة؟ - إنها سرقة مائة ألف فرنك. - ومن هذا المثري؟
فضحك السير جمس وقال: إنه لا يخطر لك في بال، فهو ذلك المقاول الذي رأيناه البارحة؛ أي وكيل الرجل العبوس. - أهو ميلون؟ - هو بعينه. - أرأيته هناك؟ - نعم رأيته في غرفة المدير. - ولكنك رفضت قضاء هذه المهمة دون شك؟ - بل قبلتها شاكرا. - ولكن.
فقاطعه السير جمس قائلا: إني أعلم ما تريد أن تقوله، وهو أننا نقدم على أمر محفوف بالخطر؛ إذ قد يتفق أن ميلون وشوكنج يبحثان عن الأرلندية وابنها. - هو ذاك. - وتريد أيضا أن ميلون قد رآنا قرب منزل شوكنج سوية، فإذا امتزجنا معه فقد يشك بنا. - نعم، والذي أراه أنه لا يجب أن نتداخل في الأمر. - بل نعمل يدا واحدة، ولكننا نعمل مفترقين فلا يرانا أحد معا، والأجدر بك الآن أن تبرح هذا الفندق وتقيم في الغران أوتيل.
فلم يقتنع إدوارد من كلامه وقال: إن الأجدر بنا أن نعود إلى لندرا بعد موت الأرلندية والاستيلاء على الغلام. - إن ذلك محال، فإن الأسقف بترس توين أمرني في رسالته البرقية أن أكتب له كتابا مفصلا، وأن أنتظر أوامره الجديدة. - أكتبت هذا الكتاب؟ - نعم، وقد أرسلته في هذا الصباح. - إذا سيصل الليلة إلى لندرا، فلنفرض أن الأسقف أرسل إليك رسالة برقية يأمرك فيها بالسفر فماذا تفعل؟ - نسافر. - والسرقة أتدعها؟ - كلا، فإني أرجو أن نظفر بالسارق في هذه الليلة. - كيف ذلك؟ - ذلك لأني واثق بعض الوثوق أن السارق هو ذاك اللص الإنكليزي الذي عهدنا إليه سرقة شوكنج. - ما حملك على اتهامه؟ - إنه حين سرق مال شوكنج وكتاب الرجل العبوس إلى ميلون دفعت له أجرته ووعدني أن يعود إلى لندرا، ولكنه لم يسافر فقد رأيته البارحة في الشارع، وعندي أن كتاب الرجل العبوس أطمعه بميلون وحاول أن يسرقه ويشتغل لحسابه. - أتظن أنك تجده؟ - دون شك. - وإذا كان هو السارق أتسلمه للحكومة الفرنسية؟ - كلا، بل أقتصر على استرجاع المال منه.
وكان مرميس يسمع كل الحديث، فلم تفته كلمة منه بفضل تلك الأنبوبة، وقال في نفسه: إن ذلك يدعوني إلى تعديل خطتي، ولكني قد وثقت أن الغلام في قبضتهم.
وعاد إلى الإصغاء إذ عاد الاثنان إلى الحديث بعد سكوت قليل فقال إدوارد: ومس ألن؟
فأجابه: إنها لا تزال في سجن سانت لازار.
فارتعش مرميس وقال في نفسه: لقد عرفت الآن نصف ما كنت أريد أن أعرفه.
ثم قام عن المقعد فأخرج الأنبوبة من القفل وأعادها إلى جيبه وجعل يسير ذهابا وإيابا في الرواق.
وبعد هنيهة فتح باب الغرفة وخرج منه السير جمس وإدوارد، وكان إدوارد بحقيبة السفر فقال مرميس في نفسه: لا شك أنه ذاهب بها إلى الغران أوتيل.
ثم أسرع إلى الحقيبة فأخذها من يد الشرطي وقال: ألا تحتاج يا سيدي إلى حمال؟
32
أما السير جمس فإنه على توقد ذكائه وطول خبرته بمهنته لم يداخله شيء من الريب بمرميس فأعطاه إدوارد الحقيبة دون احتراس، فأخذها ومشى أمامهما على مسافة قريبة بحيث كان يسمع حديثهما.
وكان السير حاسر الرأس مما يدل على أنه كان عازما على البقاء في الفندق وإيصال رفيقه إلى آخر الرواق.
فقال له: متى أراك؟ - في هذه الليلة. - أين؟ - تدخل إلى القهوة الإنكليزية في الساعة السابعة حيث تجدني على المائدة فلا تكلمني شيئا، لكن انظر إلى مائدتي فإذا رأيت أمامي صحن محار، فاعلم أني وجدت المال المسروق وعند ذلك حدثني؛ إذ لا يبقى لي شأن مع صاحب المال، وأنا أرجو أن يردني نبأ هذه الليلة من الأسقف.
وهنا ودعه وعاد إلى غرفته، وخرج إدوارد من الغرفة يتقدمه مرميس بالحقيبة وقد سمع حديثهما الأخير، فسار إلى الغران أوتيل وأسرع مرميس إلى كاتب الفندق وقال: أعدوا غرفة في الحال لحضرة الميلورد.
فابتسم إدوارد وقال: إني لست ميلورد يا بني.
فقال مرميس بسذاجة: ولكن سيدي من الإنكليز، أليس كل الإنكليز لوردية؟
فضحك إدوارد لبساطته وقال: كلا، فإني لست لوردا ولكن سير. - إن هذه اللفظة لا يدور بها لساني.
وعند ذلك نادى الخادم أحد الخدم وقال له: أعد لحضرة اللورد الغرفة نمرة 21 في الدور الأول في سلم ج.
ورفع مرميس قبعته ووقف ينتظر للبخشيش فأعطاه إدوارد فرنكا وصعد إلى غرفته، أما مرميس فإنه خرج من الفندق وهو يردد نمرة الغرفة كي لا ينساها وذهب إلى منزله.
وكان مرميس يقيم في أجمل شارع في باريس فكان خدامه ينذهلون حين يرونه يتنكر بالثياب الرثة، ويختلفون في تأويل هذا التنكر فيقول بعضهم: إنه وافر الثروة وقد عاشر الإنكليز فاكتسب غرابة أخلاقهم، ويقول آخرون: بل إنه عاشق لفتاة من العمال، فهو يلبس لبسهم كي يروق في عينيها؛ إلى غير ذلك من الأقوال.
وقد ابتسم مرميس حين عاد إلى منزله، ورأى ما كان من دهشة خدمه فغير ملابسه ونادى خادم غرفته وقال له: اذهب في مركبة في الحال إلى شارع ماريبيال وائتني بميلون.
فامتثل الخادم وانصرف مسرعا.
وبعد هنيهة دخل خادم آخر وأخبره أن فاندا تنتظره في قاعة الاستقبال، فذهب إليها وقال لها: إني كنت على وشك الكتابة إليك. - إذا لقد أحسنت بالمجيء؟ - نعم؛ لأني محتاج إليك.
ثم جلس بقربها وقال لها: إني أعلم الآن أين هي مس ألن؛ فإنها في سجن سانت لازار، وإني معتمد عليك. - بماذا أبإخراجها الآن من السجن؟ - لا أدري، فإن ذلك يتوقف عليك وعلى حكمك فيها. - كيف ذلك؟ - إنه يتضح حسب رواية الفتى البناء المنكود الذي سقط من نافذتها أن مس ألن تحب الرئيس. - نعم. - ولكن يتضح من رواية شوكنج ومن روايتك أن هذه الفتاة أعدى عدو لروكامبول؛ ولذلك يجب أن تقابليها وتحدثيها فنضع خطتنا بعد حكمك فيها. - حسنا سأفعل. - ولكني لم أبحث في طريقة تمكنك من الدخول إلى السجن. - أما أنا فإني وجدت الطريقة دون بحث فمتى يجب أن أذهب؟ - في أقرب حين وحبذا لو أمكنك الذهاب اليوم. - إن هذا محال لا أستطيعه قبل الغد. - لماذا؟ - لأن التي سأذهب إلى السجن معها لا تصل إلى باريس إلا في آخر قطار يصل هذه الليلة. - إني لم أفهم ما تقصدين. - إني سأدخل إليه غدا أو متى أردت بفضل راهبة كانت في ليون ولي على هذه الراهبة فضل عظيم، وهي ستبيت عندي في هذه الليلة وفي صباح غد أذهب إلى السجن بصفة راهبة معها. - ولكن أتظنين أنها توافق على هذه الخدمة؟ - إني متى أخبرتك بحكايتها تعلم أنها لا ترفض لي طلبا.
ثم ابتسمت وتابعت: إني أعرفها منذ عهد بعيد؛ أي منذ ذلك العهد الذي أدخلني فيه الرئيس إلى سجن سانت لازار لإنقاذ أنطوانيت ميلر. - إذن حدثيني بأمرها إذ إن الوقت فسيحا لدينا لأن ميلون لا يصل قبل نصف ساعة.
33 - إذن فاسمع، إنني منذ ستة أعوام أدخلني روكامبول إلى سجن سانت لازار لإنقاذ أنطوانيت ميلر منه «راجع رواية سجن طولون» ولقينا فيه راهبة أثرت عليها أنطوانيت بلطفها وأدبها وأثرت عليها بحنوي وإخلاصي.
ولم تكن هذه الراهبة مشككة ببراءتي وبراءة أنطوانيت، بل كانت واثقة أن دخولنا إلى السجن إنما كان بدسائس الأشرار، فأحبتنا حبا عظيما، وأنت تعلم كيف خرجت أنطوانيت من السجن. - نعم، فإنها خرجت ميتة بالظاهر. - إن الجميع كانوا يعتقدون بموتها حين أخرجناها، ما عدا روكامبول الذي وضع هذه الخطة وعصابته التي أعانته على تنفيذها.
ثم مضى على ذلك عام تزوجت بعده أنطوانيت وسافر الرئيس لقضاء بعض المهمات الخطيرة وكدت أنسى لازار ومن كان فيه إلى أن كنت خارجة يوما من الكنيسة ولقيت راهبة حيتني واستوقفتني.
وعلمت للحال أنها الراهبة التي كانت تتودد لنا في سجن سانت لازار.
أما الراهبة فإنها قالت لي: لا إخالك يا سيدتي تأبين أن تخبريني حقيقة أمر مضى عليه عهد طويل.
ثم أخذت يدي بين يديها وقالت لي بلهجة المتوسل: الشائع يا سيدتي في السجن أن مدموازيل أنطوانيت لم تمت. - ولكنك أنت رأيتها قد أرقدت في النعش. - نعم، ولكن الرواية مختلفة.
وقاطعتها وقلت لها بصوت منخفض: تعالي إلى منزلي يوم تخرجين من السجن أخبرك كل شيء.
وكان من عادة الراهبة أن تخرج مرة في كل أسبوع من السجن، فلم يمض ذلك الأسبوع حتى جاءتني فأخبرتها بجميع ما فعلناه، ولم أكتم عنها شيئا مما مضى.
وجعلت تزورني في كل أسبوع حتى باتت خير صديقة لي، وكنت أعطيها كل مرة مبلغا من المال تفرقه على المسجونات.
إلى أن قالت لي يوما: إن ملجأ القديس حنة غير كاف لدفع النكبات ولو كان لي مال لأنشأت مثله، ولكني أنشأته في مكان يبعد جدا من باريس، ولا يخطر للبائسات اللواتي يطرقن أبوابه أن يرجعن إلى تلك العاصمة الجهنمية.
وقلت لها: إن قصدك نبيل وسأجد لك المال المطلوب.
وفي ذلك اليوم استشرت روكامبول فأذن وسألته مالا فأعطى، وقد سألتك أنت أيضا ألا تذكر يا مرميس؟ - نعم، وأذكر أني أعطيتك مائة ألف فرنك إعانة للملجأ. - هو ذلك الملجأ الذي تولته الراهبة ماري ودعته باسم القديسة مريم. - أين هو هذا الملجأ؟ - هو بالقرب من مدينة ليون. - إذا فإن الراهبة اعتزلت خدمة السجون وخرجت من هذه المصلحة. - إنها اعتزلت خدمة السجون، ولا تزال باقية فيها وذلك أن هذا الملجأ الذي أنشأته خصوصيا، ولكنه خاضع لخدمة السجون ومراقبة الحكومة، فإذا كانت سجينة وأحسنت السلوك في سانت لازار، أرسلوها إلى ملجأ القديسة مريم كي تتم فيه بقية المدة المحكوم عليه بها، وقد يتفق أن تبقى فيه.
ولذلك فإن الراهبة ماري تأتي من حين إلى حين إلى سجن سانت لازار، أو ترسل أحد الراهبات من عندها فتتعهد السجينات وتنظر في شفائهن ومبلغ تأثير السجن في نفوسهن، فإذا رأت بينهن سجينة صادقة التوبة جديرة بالرحمة توسطت في سبيل نقلها إلى الملجأ، وقد يتفق أنها تخرج كل مرة أربعا أو خمسا من اللواتي كانت مهنتهن السرقة والفساد.
وقد كتبت لي البارحة أنها قادمة هذه الليلة إلى باريس وسأذهب إلى المحطة لاستقبالها. - حسنا، ولكن كيف رأيت أنه يمكنك الدخول معها إلى سجن سانت لازار. - إني أدخل معها كرفيقة لها. - ولكنك لست من الراهبات. - كلا. - أتظنين أن الراهبة ماري شديدة الإخلاص بك والثقة بحسن قصدك فتسمح لك بالتنكر بملابس الراهبات؟ - إني قد وضعت خطة أضمن نجاحها فاكتف بالوثوق من دخولي غدا إلى سانت لازار وألق علي تعليماتك. - إن تعليماتي منحصرة بكلمتين وهما معرفة الحقيقة. - تريد أن تعلم إذا كانت مس ألن من أعداء روكامبول أو من أصدقائه. - هو ذاك. - وبعد ذلك؟ - إذا ثبت لك أنها من أعدائه تركناها في سانت لازار، فإن هذا السجن ضامن اتقاء شرها، وإذا كانت من الأصدقاء أنقذناها. - لا أظن أن إنقاذها من مثل هذا السجن سهل ميسور؛ فإني لا أزال أذكر ما لقيناه من العناء في إنقاذ أنطوانيت.
وضحك مرميس وقال: إني أعرف كل هذه المتاعب، ولكنها تخرج دون أدنى مشقة. - من يخرجها من السجن؟ - الذي أدخلها إليه. - كيف ذلك؟ - أصغي إلي أيتها العزيزة، فإن الذي أدخلها إلى هذا السجن بوليس إنكليزي جاء من لندرا إلى باريس، وقد عرفت اسمه اليوم فإنه يدعى السير جمس وود.
وقد كان سجنها في البدء في مستشفى صحي غير أنها حاولت الفرار فنقلها إلى سجن سانت لازار كي يكون مطمئنا عليها؛ إذ لديه كثير من الشواغل في باريس. - إذا إن الأمر لا يدعو إلى السرعة. - بل إنه يدعو إلى أتم الإسراع؛ فإن السير وود قد يسافر الليلة أو غدا فلا بد لي من معرفة حقيقة ما نجهله عن مس ألن.
ثم قص عليها ما فعله وقال: إن كل ما صنعته معقول وقد يسفر عن النجاح الأكيد، غير أن الاتفاق قد يفسد كل ما دبرته إذا لم أسرع بالعمل ؛ فإن السير وود قد يرد إليه في هذه الليلة أمر بالسفر فيأخذ مس ألن والغلام ويسافر بهما. - أأنت واثق أنه هو الذي اختطف الغلام؟ - كل الثقة. - أتعلم أين وضعه؟ - كلا، ولكني سأعلم.
وعند ذلك فتح باب الغرفة التي كانا فيها ودخل ميلون يتبعه شوكنج وعليه علائم اليأس.
فقال له مرميس: لا تيأس فسنجد الغلام وأمه.
فأجابه شوكنج بصوت متقطع من الإشفاق: إن الغلام قد تجده، وأما تلك الأم المنكودة، فإني أخشى أن يكونوا قتلوها.
فاضطرب الثلاثة وجعل كل منهم ينظر إلى الآخر.
34
ولنعد الآن إلى السير جمس وود؛ فإن هذا الشرطي كان مصيبا في اتهامه الإنكليزي الذي استخدمه لسرقة شوكنج.
وذلك أن الشرطي الإنكليزي في لندرا يعرف كل اللصوص معرفة تامة، ولا سيما أولئك اللصوص الذين يبرحون لندرا في وقت الضباب ويقدمون إلى العواصم الكبرى التماسا للارتزاق فيها من مهنتهم الشائنة.
ومثل هذا الشرطي الحاذق لم يكن يعرف أولئك اللصوص فقط، بل كان يعرف اختصاص كل لص بسرقاته، فإن بين أولئك اللصوص من يقتصر على سرقة البضائع من المخازن، وبعضهم يختصون بسرقة الجيوب في مركبات الأومنيبوس، وبعضهم يذهبون إلى الكنائس ويغتنمون فرص الزحام وآخرون إلى المراسح.
وكان السير وود يعرفهم كلهم في باريس، وقد عرف أيضا لصا إنكليزيا كانت مهنته صنع الأقفال.
وكان هذا اللص يدعى سميث، وكان عاملا في لندرا في معمل لصنع الصناديق الحديدية، ولما وقف على أسرار المهنة وبرع فيها تخلى عنها واحترف اللصوصية.
وهو الذي استخدمه السير وود لسرقة شوكنج، وكان قد أخبره أنه عائد إلى لندرا، غير أنه رآه منذ يومين فأيقن أنه سارق المال؛ إذ لا يوجد سواه من يستطيع فتح صندوق ميلون المصنوع في المصانع الإنكليزية دون أن يكسر قفله.
وكان السير وود حاذقا لبيبا كما قدمنا غير أنه لم يكن من السحرة، ولا يستطيع غير الساحر أن يعلم أن ميلون قد سرق نفسه؛ أي إنه ادعى السرقة بغية نصب مكيدة للسير وود.
ومما نذكره عن علاقة السير جمس وود بهذا اللص الإنكليزي أنه حين رآه المرة الأولى في باريس قال له: إني لست في خدمة الشرطة الفرنسية، فلا خوف عليك مني، بل إني سأستخدمك وأدفع لك.
وقد استخدمه في سرقة شوكنج ودفع له أجرة جيدة، فكان الرضى متبادلا بين الفريقين وباتا يشبهان الحليفين.
وكان بوسع السير وود أن يرشد إليه الشرطة الفرنسية ويعود إلى لندرا لما صدر إليه الأمر بالعودة، غير أنه لم يكن يريد إساءته، بل أراد الاقتصار على استرجاع المال المسروق طمعا بريعه؛ أي حصته منه.
فأرسل رسالة إلى سميث يدعوه فيها وبعد ساعتين حضر إليه، فاستقبله السير وود بالبشاشة وقال له: كنت أخشى أن لا أجدك، وأن تكون قد سافرت. - لقد رجعت عن السفر فقد لقيت في باريس أشغالا موافقة. - ماذا عملت وما هي هذه الأشغال؟
فأجابه اللص: إني اتفقت مع شريكين والأعمال رائجة كما يظهر فقد ربحنا صفقة رابحة. - أيدخل فيها المائة ألف فرنك التي سرقتها من المقاول؟
فظهرت علائم الدهشة على سميث، وكانت صادقة ظاهرة حقيقتها حتى وثق السير وود أنه مخطئ باتهامه.
غير أنه لم يكتف بهذه الظواهر، وجعل يسأله أسئلة مختلفة فلا يزيد إلا إنكارا.
فلما أيقن من براءته أخبره بكل ما جرى من أمر هذه السرقة على ما علمه من مدير الشرطة ومن ميلون نفسه.
فقال له اللص: إني لا أستطيع أن أبدي رأيا قبل أن أرى الصندوق، لكني أعتقد أنهم يهزءون بك. - من يهزأ بي؟ - لا أستطيع أن أعلم إذا كان الصندوق قد وجد مفتوحا كما قلت فلا يستطيع فتحه على هذه الصورة غير اثنين أحدهما أنا، ولكني قلت لك: إني لست السارق. - والآخر؟ - هو إنكليزي يدعى جوهان، ولكني واثق أنه ليس في باريس. - ولكن الصندوق قد فتح. - لا أنكر ذلك ولكنه لم يفتح كما قلت وفي كل حال لا أبدي حكمي فيه قبل أن أراه. - إن هذا سهل.
ثم أخذ ورقة وكتب فيها ما يأتي:
سيدي
إني آخذ باقتفاء أثر الذي سرق أموالك، وسأظفر به غير أني لا بد لي من أن أرى صندوقك، ولذلك سأحضر إلى منزلك في الساعة الحادية عشرة من هذا المساء مع زميل لي، ويجب أن تكون وحدك في البيت كي لا يرانا أحد عند دخولنا لأسباب سأخبرك بها عند اللقاء.
سير جمس وود
ثم طوى الرسالة وأرسلها مع أحد خدام الفندق إلى ميلون وقال لسميث: اذهب الآن وانتظرني في الساعة السادسة في الشانزليزه عند عطفة شارع مارينيان.
فامتثل اللص وذهب بعد أن واعده على اللقاء.
فلما خلا السير جمس بغرفته ذكر ما قاله له اللص وهو «أنهم يهزءون بك»، فقال في نفسه: من عسى يهزأ بي أشوكنج الأبله أم هو ميلون؟ إن هذا لا يعقل، وفوق هذا، فإن السرقة حدثت حين كنت منهمكا باختطاف الأرلندية وابنها.
غير أن هذا الشرطي على بسالته وحذقه خامر قلبه الخوف، فخطر له أن يأخذ رالف ومس ألن ويعود بهما إلى لندرا دون أن يكترث بهذه السرقة.
وفيما هو يتردد في هذا الخاطر وقد أوشك أن يعول عليه دخل إليه خادم الفندق يحمل رسالة برقية من لندرا ففضها وتلا فيها ما يأتي:
ابق في باريس ثمانية أيام، إننا سنحاكم الرجل العبوس والحكم عليه مضمون، التفاصيل بالبوسطة.
بترس توين
فتمعن السير وود مليا بهذه الرسالة ثم قال في نفسه بعد التفكير: إنه لا بد لي أن أصدع بالأمر وأبقى هنا ثمانية أيام، فلا بد بالتالي من عمل ألهو به، لا سيما وقد وعدت مدير الشرطة بالقبض على السارق، وعندي أن ميلون لو لم يكن ماله قد سرق لما شكا أمره إلى الشرطة، ولا إخال سميث إلا مخطئا؛ فإن السارق لا بد أن يكون في باريس.
وعندها وضع الرسالة في جيبه وخرج من الفندق متجولا إلى المساء، ثم عاد إليه فوجد فيه رسالة من ميلون يخبره بها أنه سينتظره في الموعد المعين، فعول على أن يذهب إليه مع سميث.
35
ولنذكر الآن ما جرى للشرطي إدوار، فإنه غادر فندق اللوفر إلى غران أوتيل، وكان مرميس يحمل أمتعته كما قدمناه فبعد ذلك بساعتين تأهب إدوارد للنزول إلى قاعة الطعام.
وفيما هو يفتح باب غرفته للخروج لقي خادما حياه بملء الاحترام وقال: إني آت إليك من قبل سيدي. - ماذا يدعى سيدك؟ - المسيو بايتافن. - إني لا أعرفه. - إن سيدي يعلم أنك لا تعرفه، ولكنه أمرني أن أخبرك بأنه يقيم في شارع وبر على خطوتين من هذا الفندق، وأنه واسع الثروة يبلغ إيراده في العام مائة ألف جنيه، وأنه يسره أن يحدثك هنيهة.
ثم دفع إليه رقعة زيارة كتب عليها اسم بايتافن وهو الاسم الذي كان يدعو به نفسه مرميس.
فظهرت على إدوارد علائم التردد فقال له الخادم: إن مما قاله لي سيدي: إن السير إدوار يعلم أن لنا صديقا مخلصا في إنكلترا، وإني أدعوه إلى مناولة طعام الغذاء معي لسؤاله عن هذا الصديق.
وكان إدوارد يعلم أن شارع أوبر لا يقيم فيه غير النبلاء والأغنياء وأنه قريب جدا من غران أوتيل، فعلم أن هذه الدعوة سرية، ولكنه لم يجد فيها ما يدعو إلى الخوف، لا سيما والخادم ترك له رقعة سيده فقال للخادم: اذهب أمامي فإني سائر معك.
فمشى الخادم أمامه وسار إدوارد في أثره إلى المنزل الذي يقيم فيه مرميس وهو بيت فخيم حسن الرواء جميل الظاهر متسع الفتحات يصعد إليه بسلالم من المرمر.
فصعد إدوارد تلك السلالم وهو يقول في نفسه: ما عساه يريد مني هذا الرجل وأنا لا أعرفه؟
وكان مرميس يقيم في الدور الأول من المنزل فطرق إدوارد الباب، ففتح له خادم وأدخله إلى غرفة الاستقبال وهي مفروشة بأبدع الرياش.
فمر قبل دخوله إلى تلك القاعة بفسحة واسعة وضعت فيها طاولة الطعام وعليها الأطعمة الأولية، فأيقن إدوارد أن الخادم لم يخدعه وأن الرجل ينتظره للطعام.
وبعد هنيهة فتح أحد أبواب القاعة ودخل مرميس فلم يكد إدوارد ينظر إليه حتى ظهرت عليه علائم الدهشة وابتسم فقال له: ألعلك عرفتني يا سيدي؟
فأجابه إدوارد بصوت يتلجلج: ربما، ولكن كيف أعلل هذا الاتفاق؟ - إني ذلك الحمال الذي نقل أمتعتك اليوم من فندق اللوفر ، ولا يشغل هذا التنكر بالك يا سيدي؛ فإن لندرا إذا كانت مقر أهل الشذوذ والأخلاق الغريبة، فإن باريس لا تخلو منهم أيضا.
والحكاية أنه خطر لي اليوم أن أراهن على أمر فكسبت الرهان بواسطتك وأنت لا تعلم، وسأقص عليك تفصيل هذا الرهان أمام الرجل الذي راهنته وهو صديق لك. - أهو صديق لي؟ - نعم، إنه من الإنكليز.
وعندها فتح الباب وقال الخادم: هذا اللورد ويلموت.
فذعر إدوارد وتذكر شوكنج، لا سيما حين رآه قد دخل وهو لابس الثياب الرسمية السوداء، وأزرار قميصه من الماس الوهاج، وأيقن أن في الأمر خدعة.
فقام عند ذلك مرميس إلى المستوقد، فأخذ منه مسدسا لم يكن إدوارد قد رآه فصوبه إليه وقال له: إن هذا المسدس يا سيدي من المخترعات الأميركية الحديثة فهو يطلق بقوة ضغط الهواء لا بقوة البارود فلا يسمع له دوي ولا حس.
أريد بذلك أنه إذا بدر منك أقل مقاومة أطلقت عليك هذا المسدس فقتلتك دون أن يسمع أحد شيئا، حتى خدم المنزل، ويبقى البواب مشتغلا في تلاوة جريدته دون أن ينتبه إلى شيء.
فاضطرب إدوارد ولكنه تجلد وقال: إذا كنت تمازحني يا سيدي، فهو مزاح مؤلم. - كلا، لا أمازحك، ألا تعرف اللورد ويلموت؟ - نعم عرفته. - إذن، فاعلم أنه هو الذي رجاني أن أجمع بينكما على مائدتي. - إذا كان هذا ما تقول، فما شأن هذا المسدس، ألعله من مقدمات الطعام المهيجة للقابلية؟ - كلا، ولكني أعددته لاستخدامه إذا رفضت دعوتي. - لم يخطر في بالي أن أرفض هذه الدعوة. - إذن هلم بنا إلى المائدة.
ثم أشار إشارة إلى شوكنج فهمها فتأبط ذراع الشرطي وقال له: هلم بنا إلى المائدة يا مواطني العزيز.
وكان شوكنج قوي البنية شديد العضل، وكان مرميس يسير وراءهما بمسدسه، وفوق ذلك فإن خادما قويا كان واقفا بالباب، فأيقن إدوارد أن المقاومة لا تفيد، وأنه قد سقط في الفخ الذي نصب له كما يسقط الأرنب، فسار إلى المائدة مستسلما للقضاء وقعد بجانب شوكنج.
أما مرميس فإنه قعد بإزائه ووضع المسدس قبالته ، ثم أشار إلى الخادم الواقف بالباب أن يذهب فامتثل وأقفل الباب.
وعند ذلك نظر إلى إدوارد وقال له: لنتحدث الآن فلا يسمع حديثنا أحد، وسأذكر لك ما أريده بغاية الإيجاز، فأنت أتيت إلى باريس مع السير جمس وود.
فلم يجبه إدوارد وجعل ينظر إليه نظر المبهوت.
فقال له مرميس: وإنكما أتيتما بمهمتين، إحداهما إرجاع مس ألن إلى إنكلترا. - إنها المهمة الوحيدة ولا سواها لنا.
فهز مرميس كتفيه وقال: وأما مهمتكما الثانية فهي اختطاف الغلام الأرلندي الذي كان يتولى شوكنج مراقبته.
ولذلك أرجوك أن تعلم يا سيدي العزيز أن من كان مثلنا يضبطون الناس في شارع مثل هذا الشارع، وفي قصر يسكنه كثير من الناس يقدمون في أعمالهم إلى النهاية.
وأنا أخيرك الآن بين مائة ألف فرنك تقبضها فتعيش سعيدا وبين رصاصة تقع في صدرك لتذهب بك إلى العالم الأخير.
ثم جعل يلاعب المسدس بيده من غير اكتراث، وهو ينتظر جواب البوليس.
36
ورأى مرميس أن هذا المبلغ من المال قد أثر تأثيرا حسنا بإدوارد، فلم يقتصر على الوعد، بل أخرج من جيبه دفتر حوالات على بنك إنكلترا ووضعه أما إدوارد.
فقال إدوارد في نفسه: إني قد أخطأت بتسرعي في قبول دعوة هذا الرجل، ولكني قد أصبحت في قبضته الآن وهو قادر أن يصنع بي ما يشاء ولا يبعد أن يقتلني ولا يعلم بمقتلي أحد.
أما مرميس فإنه قال له: لقد حسبت ما سيدفعونه لك، مقابل خدمتك في المهمتين، فرأيت أنه لا يتجاوز نصف هذا المبلغ، ومع ذلك فإني أزيدك أيضا خمسين ألف فرنك، فإني واسع الثروة ولا يؤثر بها مثل هذا المبلغ.
فبرقت عينا إدوارد من الفرح، ورأى مرميس بريقها، فقال له بلطف: أرى أنك رجل حكيم مجرب والاتفاق معك ممكن ميسور، فاعلم الآن أني أعرف أين سجنتم مس ألن ولست بحاجة إليكم لإنقاذها، ولكني لا أعلم أين سجنتم الغلام. - ولا أنا أيضا.
فقطب مرميس حاجبيه وقال له: احذر فإنك ستخيب الرجاء فيك وتفقد الأمل بالاتفاق. - إني أقسم لك.
فقاطعه وقال له: لا تقسم بل قل الحقيقة، فإذا بحت بها أعطيتك حوالة على بنك إنكلترا بمائة وخمسين ألف فرنك. - إني لا أكتمك يا سيدي شيئا مما أعلمه، ولكن لا حيلة لي بإيضاح ما لا أعلمه، ولو أنذرتني بالموت، فإن السير جمس اختطف الغلام وأمه حين كنت أنا منهمكا بإبعاد اللورد ويلموت عن المنزل بما سقيته من الخمر. - ولكنك رأيت السير في المساء؟ - نعم. - ألم يقل لك ما فعله بهما؟ - نعم، فقد أخبرني أنه وضعهما في محل أمين؟ - أين؟ - في شارع بعيد عند رجل فحام يدعى شابروت. - ألا تعلم اسم الشارع؟ - كلا.
فقال له مرميس بسكينة: انظر يا سيدي إلى هذه الساعة فإني أمهلك 5 دقائق، إذا لم أعرف في خلالها أين هو الغلام، أطلقت عليك رصاص المسدس.
فاصفر وجه إدوارد وجعل العرق ينصب من جبينه وقال: إني لست مساويا للسير في المنصب فثق يا سيدي أني لا أعلم غير بعض أسراره، ولكني لا أعلمها كلها وأنا أقسم لك أني لا أعلم أين وضع الغلام؟
فجعل مرميس يلعب بمسدسه، وقال له: لم يبق لديك غير ثلاث دقائق. - إني قلت الحقيقة فاصنع بي بعد ذلك ما أنت صانع، ولكني أطلعك على سر من أسرار السير، إذا علمته فعلت به ما تشاء، وإنما أقوله لأبرهن عن صدقي.
فبدأ مرميس يثق بصدق إدوارد وقال له: قل ما هو السر؛ فإني أمهلك أيضا بضع دقائق. - هذا السر هو أن السير لم يختطف الغلام وأمه بالشدة أو بالوعيد، بل إنه دعاهما إلى اتباعه فتبعاه.
فقال شوكنج: إن هذا محال؛ فإن الأرلندية كانت تعلم أن الأعداء محيطون بنا من كل جانب فكانت تحذر كل الناس. - هو ما تقول، ولكنها لا تحذر من أخ، فإن السير جمس كان أرلنديا مثلها. - ماذا تعني؟ - أعني أن السير كان من رؤساء الجمعيات الأرلندية السرية في بدء عهده فخانها وباع نفسه لإنكلترا، وقد وثقت به حنة للإشارات الأرلندية السرية التي أبداها لها.
فقال له مرميس: أهذا هو كل سرك؟ - نعم.
فتمعن هنيهة وقال: إنك قد تكون كاذبا في كل ما قلته لي، فلا تطمع أن يكون لك بعد هذا الإيضاح ودادية مع السير. - إني لم يكن لي معه مثل هذه العلائق في حين من الأحيان، وغاية ما بيني وبينه أننا نشتغل في مهنة واحدة، غير أنه داخل في سلك الشرطة السياسية، وأنا أشتغل في خدمة الشرطة العمومية على أني أؤثر مصلحتي الخاصة على كل شأن، وقد جريت معك الآن شوطا بعيدا في الإقرار، فلم يعد يسعني إلا خدمتكم، وقد قلت لك: إني لا أعرف أين هو الغلام؟ ولكني سأعرف كل شيء بالتفصيل.
فابتسم مرميس وقال: ليس لدي ما يدعوني إلى الريب بصدقك، غير أني تعودت أن أعمل أعمالي بنفسي، ولا بد أن يكون ثبت لك ذلك بالبرهان، فقد رأيتني اليوم قد اقتفيت أثرك وأنا بثياب الحمالين، ولذلك أرجوك أن تأذن باتخاذ بعض الاحتياطات، إلى أن أتأكد من صحة ما رويته لي. - إن ذلك سهل عليك ميسور لك. - نعم، ولكن يشترط في ذلك أن تبقى هنا. - سأبقى بملء الرضى. - إذا إن الاتفاق تام وسأدفع لك المال على الفور.
ثم وضع المسدس في جيبه، وأخذ دفتر الحوالات وكتب له حوالة على بنك إنكلترا بمائة وخمسين ألف فرنك وأعطاه إياها.
وأخذها إدوارد ووضعها في جيبه، وقد أفعم قلبه سرورا بهذه الثروة الجديدة.
فقال له مرميس: قم الآن واتبعني.
فامتثل إدوارد، وتقدمه تلميذ روكامبول، فاجتاز قاعة الطعام إلى غرفة ثانية ومنها إلى غرفة ثالثة لم يكن فيها نوافذ، وإنما النور كان ينفذ إليها من السقف.
فأدخله مرميس إليها وقال له: إنك ستقيم في هذه الغرفة بحراسة اللورد ويلموت ورجل آخر، إلى أن أعثر بالغلام وأنقذ مس ألن، ورجائي أن تعذرني لاتخاذي هذه الاحتياطات، فإن الحكمة تدعوني إليها، على فرط ثقتي بإخلاصك.
فقال له إدوارد بسكينة: افعل بي ما تشاء، فإني أسيرك وقد بعتك نفسي.
فنادى مرميس ذلك الخادم الذي كان قد أرسله إلى إدوارد، وهو رجل شديد، فقال له مشيرا إلى إدوارد: إنك تراقبه أشد المراقبة حتى أعود ، فإذا رأيته يحاول الفرار فقيد يديه ورجليه، وإذا استغاث ضع في فمه كمامة.
فانحنى الخادم إشارة إلى الامتثال وقال له إدوارد وهو يبتسم: إني ما قلت لك غير الحقيقة، وسيثبت لك صدقي بالبرهان. - وأنا ذاهب للبحث عن هذا البرهان.
ثم تركه وانصرف بعد أن عهد بحراسته إلى الخادم وشوكنج.
37
يذكر القراء أن السير جمس كان قد واعد سميث اللص على اللقاء في شارع مارينيان.
فلما حانت ساعة اللقاء كان سميث قد حضر ماشيا، وجعل يتنزه في ذلك الشارع، ثم أقبل السير جمس في مركبته، فوقفت في المكان المعين للاجتماع.
وقد رآه سميث فجاء إليه وقال: ألعلك مستعجل يا سيدي؟ - لماذا تسألني هذا السؤال؟ - لأني كنت أود أن أحدثك هنيهة. - اصعد إلى المركبة نتحدث فيها، فإن السائق لا يسير بها قبل أن آمره.
فجلس سميث بجانبه وقال له: إن هذا الصندوق المسروق لا يستطيع فتحه كما فتح إلا جوهان وأنا، ولكن جوهان في لندرا. - لقد قلت لي هذا القول اليوم. - ولكن الآن جئتك بالبرهان الأكيد فقد قرأت في جريدة التيمس أن الشرطة قبض في لندرا على جوهان وهو الآن في سجن نوايت. - أهذا كل ما تريد أن تقوله؟ - نعم، ولو كنت في مكانك لتخليت عن هذا العمل؛ فإنهم يعبثون بك كما أرى.
فهز السير كتفه وقال: ماذا علي ومما أخاف، فإني مندوب الشرطة الإنكليزية، وفي جيبي كتاب من السفير، ثم إني جريت في هذه المهمة شوطا بعيدا فلا يسعني الرجوع. - إذا افعل ما تشاء.
فأمر عند ذلك السائق أن يذهب إلى منزل ميلون.
وسارت المركبة حتى بلغت إليه ووقفت عند بابه، فخرج الاثنان وطرقا الباب ففتح وظهر لهما ميلون يحمل بيده مصباحا وقد تكلف هيئة البساطة التامة.
فنظر السير حين رآه إلى سميث نظرة معنوية تفيد أن هذا الرجل البسيط لا يهتم بغير ماله المسروق.
أما ميلون فإنه حيا الشرطي وقال له: إني أنتظرك يا سيدي بفارغ الصبر؛ فإن أحد وكلائي أخبرني منذ ساعة أنه رأى الرجل الذي سرقني سائرا في مركبته.
فأشار السير جمس إلى سميث، وقال له: ألا تظن أن هذا هو السارق؟
فابتسم ميلون وقال: إن الفرق بعيد جدا. - ألعلك وحدك؟ - دون شك، ألم تطلب إلي أن أكون وحدي وقد كنت أنتظر قدوم عائلة فقيرة مؤلفة من أب وأم وغلام ولكنهم لم يحضروا. - لماذا؟ - لعلهم تأخروا لبعض الأسباب، فأجلوا قدومهم إلى الغد.
فظهرت على السير علائم الرضى وقال في نفسه: إنه لا يعلم شيئا من اختطاف رالف.
ثم قال لميلون: لا يذهلك يا سيدي أني سألتك أن تكون وحدك؛ فإننا نحن أفراد الشرطة الإنكليزية نحب أن تكون أعمالنا سرية، وقد أسفرت طريقتنا عن نجاح مضمون. - إن على كل رجل يا سيدي أن يتقن مهنته، فأنا أجيد صناعة البناء وأنت تحسن القبض على اللصوص. - ولقد أحضرت لك أحد زملائي فهو إذا رأى الصندوق يعرف على الفور كيف فتح. - إذا اتبعاني.
ثم صعد قبلهما فتبعاه وقال السير لرفيقه بالإنكليزية: أرأيت كيف أنك مخطئ بعدما رأيت ظواهر هذا الرجل؟
أما ميلون فإنه لم يلتفت إليهما وتظاهر أنه لم يسمع حديثهما، ودخل بهما إلى الغرفة التي كان فيها الصندوق فقال لهما: إني تركت الصندوق على ما وجدته كي يسهل على البوليس مراقبته.
فقال له سميث: حسنا فعلت.
ثم أخذ منه المفتاح وجعل يفتح الصندوق به ويقفله مرارا وهو يظهر استغرابه إلى أن قال له: ألعلك بحت بسر فتحه لأحد؟ - لا. - إن ذلك محال؛ إذ لا يستطيع أن يفتحه دون كسره غير العارفين بسره، فهل تذكر أن أحدا نومك تنويما مغنطيسيا؟ - كلا. - هل وضعت المفتاح في مكان تصل إليه الأيدي؟ - إنه لا يفارق عنقي.
فالتفت سميث إلى السير وقال له بالإنكليزية: إني أعيد عليك ما قلته، فإن الرجل يهزأ بنا.
ولم يكد يتم كلامه حتى سمع حركة من ورائه فالتفت الاثنان فوجدا أن الباب قد فتح وأن رجلا دخل منه.
وقد عرف السير لأول وهلة أن هذا الرجل كان الحمال الذي رآه في الفندق يحمل أمتعة إدوارد، غير أنه أبدل ملابسه الرثة بثياب الأعيان، فاصفر وجهه وأيقن أن سميث كان صادقا في حذره، وأن الفخ قد نصب له وسقط فيه.
أما مرميس فإنه نظر إلى السير جمس وقال له وهو يبتسم: إن للبوليس الإنكليزي صيتا حسنا يا سيدي، ولكني أخشى أن يفقد اليوم هذا الصيت.
ثم دخل إلى الغرفة فدخل بأثره ثلاثة رجال وهم: مورت وجواني الجلاد وشوكنج.
فابتسم شوكنج كما ابتسم مرميس وقال للسير: سوف نرى ما يكون بيننا يا سارق الأطفال.
38
إن السير جمس كان من أهل الجرأة والذكاء، وقد علم لأول وهلة أن هذا الصندوق إنما كان مكيدة نصبت بمهارة واعتناء.
وقد علم أيضا أن ميلون وهذا الفتى الحمال وشوكنج وكل من كان في الغرفة هم من أعوان الرجل العبوس، وقد تمكن من قلب سجنه أن يوقفهم على الحالة، ولكن ذلك لم يتيسر إلا بواسطة مس ألن، فكيف تيسر لهم الاجتماع بها؟
هذا الذي أشكل فهمه على السير، ولكنه لم يحاول التفكير بهذا السر ولا وقت له للتفكير بغير ما جاء إليه، فإنه كان يرى أن الصاعقة تنقض على رأسه، وأنه يجب الاهتمام باتقائها.
غير أنه تجلد ولم يظهر عليه شيء من علائم الرعب، بل إنه كان يبتسم إلى تلك العصابة باحثا عن رئيسها.
على أن مرميس لم يدع له وقتا للتمعن، فإنه دنا منه وقال: إنك شديد الذكاء يا سيدي، فلا بد أن تكون علمت بما صرت إليه، وأنك أصبحت في قبضتنا.
فظهر الرعب على وجه سميث، ونظر إليه السير نظرة تفيد أننا سننجو من هذا الشرك فلا تخف.
وعاد مرميس إلى مخاطبته فقال: إننا هنا في شارع مقفر، وهذا المنزل الذي نحن فيه تكتنفه حديقة متسعة، أريد أنك إذا استغثت لا يسمعك أحد ليقدم لنجدتك.
فلبث السير محافظا على السكينة وقال: من يعلم؟ - أنا أعلم والآن فإنك عرفت دون شك ماذا نريد منك. - كيف يمكن أن أعرف. - إذا سأساعدك على المعرفة. - كما تريد. - ألم تكن حارسا لتلك الفتاة التي تدعى مس ألن بالمير؟ - هو ما تقول. - ولكنها قد اختطفت فماذا صنعت بها ؟ - إن هذا من أسراري ولا دخل لأحد فيه. - ولكن الصدفة قد أعانتني فعرفت أين وضعتها. - إذا كنت تعرف مكانها فلماذا تسألني؟ - اسمع أقص عليك تاريخ اختطافها؛ فإنك وضعتها في البدء في مستشفى المجانين وأقمت تنتظر التعليمات من لندرا، فلما وردت إليك سعيت بواسطة السفارة فأدخلتها إلى سجن سانت لازار. - إن كل ما تقوله أكيد. - إني واثق من صدق قولي، ولكن الذي أريده أنك إذا كتبت بخطك بضع كلمات يطلقون سراح مس ألن. - ولكن هذه الكلمات لا أكتبها. - أحق ما تقول؟ - كل الحق، فإنك لم تحملني على القدوم إلى هذا المنزل إلا وأنت عازم على إبقائي فيه حتى إنك قد تقتلني أيضا ولكنهم ينتقمون لي.
فابتسم مرميس وقال: من ينتقم لك؟
فأشار السير إلى ميلون وقال له: إني حين رأيت هذا الرجل عند مدير الشرطة يشكو سرقة أمواله، وكنت أعلم أنه الرجل الذي تبحث عنه مس ألن لم أصدق كلمة من شكواه.
وإني أتيت إلى فرنسا مندوبا من حكومتي، فوجبت على الحكومة الفرنسية حمايتي.
ولذلك أبلغت الخبر رئيس الشرطة قبيل قدومي إلى هذا المنزل، فأرسل ستة من رجال الشرطة وهم ينتظرون في عطفة الشارع، فإذا لم أعد إليهم بعد ربع ساعة جاءوا لنجدتي فأسرع بقتلي قبل أن يحضروا.
فظهرت علائم القلق على ميلون، أما مرميس فإنه ضحك ضحكا عاليا وقال: الحق أنك من أهل الصبر والذكاء يا سير جيمس؛ فإنك قدرت على اختراع هذه الحكاية في موقفك الحرج. - أتظن أني أخترع؟ - بل أؤكد وهو ذا البرهان، أنك خرجت في صباح اليوم برفقة ميلون من دائرة البوليس فلم تخبر المدير بحذرك، بل لم يخطر لك الحذر عند ذلك في بال. - ولكني رأيت المدير في النهار. - كلا، فإني أرسلت من يقتفي أثرك، وإذا شئت أخبرتك كيف أمضيت كل يومك بالتفصيل، غير أن الوقت أضيق من أن أضيعه في مثل هذه الأحاديث، فاعلم الآن أني وجدت طريقة لإخراج المس ألن من سجن سانت لازار.
فلندع مس ألن ولنبحث عن الأرلندية وابنها، فإننا لا نعلم ما صنعت بهما، ونريد أن نعلم يا سير جمس.
فهز كتفيه وقال: إنكم لن تعلموا. - بل نعلم وفوق ذلك فإننا نعلم من أمر ما تحسب أنه خاف علينا؛ أي أننا نعلم بأنك كنت من أعضاء الجمعية الأرلندية السرية، ثم بعت نفسك لإنكلترا.
فخان السير جلده هذه المرة واصفر وجهه فقال له مرميس: وأنت تعلم يا سيدي ذلك العقاب الهائل الذي يعاقب به الأرلنديون من يخونهم، فإن من ضمن شرائعهم السرية هذا البند:
إن العضو الذي يخون الجمعية يقبض عليه ويحاكم، فيحكم عليه بالموت، ويبدءون في إعدامه بقطع لسانه، ثم يقطعون يديه ورجليه ويفقأون عينيه، ثم يقتلونه جوعا إذا لم يجهز هذا التقطيع عليه.
هذا هو ملخص بند الخيانة يا سيدي، وإني أستطيع إرسالك إلى الذين خنتهم ضمن صندوق.
فتشحن كما تشحن الطرود، وتنال هناك ما تعلمه من العقاب، إلا إذا أرجعت الأرلندية وابنها. - إني أرفض كل الرفض فاصنع بي ما تشاء. - ولكنك لا تزال مخطئا أيضا وقد ترجع عن غرورك متى علمت أننا نعرف اسم شاباروت.
فارتعش السير جمس واضطرب اضطرابا لم يخف على مرميس.
وكان رجال العصابة يسمعون الحديث.
فلما ذكر اسم شاباروت تقدم جواني الجلاد وقال: إني أعرف رجلا فحاما يدعى بهذا الاسم.
أما السير فإنه عاد إلى سكينته، فلما رأى مرميس إصراره على العناد قال لرفاقه: إننا سنتحدث هناك.
ثم قال للسير: هلم بنا إلى سجنك يا سيدي.
وعند ذلك فتح بابا وأدخله مع رفيقه إلى غرفة وأقفل الباب.
فلما خلا الاثنان بتلك الغرفة وقال السير جمس لسميث: لقد توهموا أنهم يحملونني على الإقرار بالوعيد وقد ساء فألهم. - ولكننا لا نزال في قبضتهم.
فنظر السير إلى نوافذ الغرفة وقال له: أيصعب عليك وأنت من مشاهير اللصوص كسر هذه النافذة؟
فأجابه اللص بصيحة ذعر اشترك بها الاثنان، وذلك أن أرض الغرفة خسفت بهما، وجعلا ينزلان إلى الأعماق نزولا تدريجيا، وكلما نزلا ابتعدت عنهما النوافذ.
فأيقن السير جمس عند ذلك، باستفحال الخطر، وعلم أن أعداءه رجال أشداء.
39
بينما كان السير جمس وسميث قد وقعا في قبضة مرميس وعصابته، كانت حوادث أخرى تجري في منزل شاباروت الفحام الذي سجن فيه رالف وسقطت أمه في تلك البئر على ما وصفناه.
أما هذه البئر فإنها قبو متسع تجتمع فيه الأمطار، وهذا القبو مشترك بين شاباروت وجيرانه فيشرف عليه شاباروت من فسحة في منزله، ويشرف عليه جيرانه في المنزل من دكان كانت في ذلك العهد مفتوحة الأبواب؛ إذ كانت من غير إيجار.
وكان هذا القبو مغطى من الجهتين بباب من الخشب حذر السقوط فيه فغير السير جمس باب شاباروت ووضع فيه لولبا بحيث إذا أدير اللولب ومر من فوقه جسم فتح الباب وسقط الجسم ثم انغلق الباب على الفور، وعاد إلى ما كان عليه.
وهذا الذي حدث لتلك الأرلندية المنكودة، فإنها عندما مرت فوق الباب انحنى ذلك الفحام إلى الأرض وأدار اللولب فسقطت المرأة في المياه وسمع السير جمس صيحتها الهائلة، ثم سمع صوت تخبطها في المياه ثم انقطع الصوت فأيقن أنها باتت من الأموات.
غير أن الله الذي يحمي الضعفاء من الأقوياء لم يرد لها الموت، وأبى أن تنفذ مكيدة أهل الشر بتلك الأم التعيسة، فإنها حين سقطت في تلك المياه هوت فيها إلى آخر مبلغ عمقها، ثم صعدت إلى سطحها وأعانها انتفاخ ثوبها على العوم فلم تصيح بعد صيحتها الأولى ولم تستغث، بل إنها حبست أنفاسها وأصغت إصغاء تاما، فسمعت ابنها يصيح قائلا: أين هي أمي، ردوا إلي أمي.
ثم انقطع صوت ولدها وسمعت ضحك الفحام والسير جمس، فعلمت للفور أن سقوطها لم يكن اتفاقا بل مكيدة، وأنهم أرادوا إغراقها كي يختطفوا ابنها، فإذا شعروا أنها لا تزال في قيد الحياة نزلوا إليها وأغرقوها.
ولم يكن سكوتها حرصها على حياتها، بل لخوفها على ولدها، فإن الأمل لا يفارق الإنسان إلا حين الموت، وقد ذكرت أنهم فرقوا بينها وبين ولدها مرارا فقدر الله لهما أن يجتمعا بعد الافتراق.
وكانت المياه شديدة البرودة والهواء فاسدا، ولكنها تجلدت ولم تتحرك ثم أخذت ثيابها تثقل بالمياه حتى أوشكت أن تغرقها ورأت أنها تهبط تباعا.
وكانت ابنة حياة؛ أي أنها كانت ماهرة بالسباحة، غير أنها لم تشأ أن تسبح حذرا من أن يسمعوا حركة جسمها فلبثت على ذلك ثلاث دقائق مرت بها كساعات النزع إلى أن سمعت صوت خطوات السير جمس والفحام من فوق رأسها وأيقنت أنهما ابتعدا، فهاجت فيها عواطف الأمومة وحب الحياة وجعلت تسبح بعنف شديد في تلك المياه الآسنة.
وكان الظلام دامسا، فكانت كلما تقدمت ترى الظلام قد خف حتى بلغت البئر الثانية التي تشرف عليها من الدكان.
فتقدمت أيضا حتى صارت تحت الدكان فرأت نور النهار ينبعث ضئيلا من شقوق سقف البئر.
وعند ذلك جعلت تسبح علها تعثر بما ترتاح إليه من متاعب السباحة إلى أن أتاها الله بالفرج، فعثرت بعد الجهد الشديد بعود من الحطب كان عائما على سطح المياه فاستعانت به كما يستعين النوتي ببقايا السفينة التي تحطمها الأنواء.
وعند ذلك سمعت فجأة صوت باب يفتح فوق رأسها: فهلع قلبها وحسبت أن السير جمس والفحام علما أنها لم تغرق، فأتيا ليجهزا عليها، غير أنها سمعت بعد فتح الباب ما اطمئنت له نفسها وهو صوت فتى يغني أغنية كانت شائعة في ذلك العهد، فأدركت على الفور أن رجلا قد دخل إلى الدكان، وأنه غير الرجلين اللذين تخشاهما، فجعلت تصيح مستغيثة بأعلى صوتها.
وبعد هنيهة سمعت أن الغناء قد انقطع فجأة قبل إتمامه، فعلمت أن صوتها قد وصل إلى مسمع المغني وعادت إلى الصياح.
وعند ذلك فتح سقف البئر ودخلت أشعة النهار إلى المياه فأيقنت الأرلندية أن الله قد أرسل إليها منقذا ليقيها ويقي ولدها من ظلم الأشرار.
40
تقدم لنا القول أن بيت الفحام يجاوره بيت آخر، وأن الفحام كان يشرف على البئر وسكان ذلك المنزل المجاور يشرفون عليها من دكان لم تكن مأجورة في ذلك العهد.
وكان الفحام واثق أن المنزل لا يوجد فيه أحد بالنهار؛ لأن كل سكانه من العمال.
غير أن هذا المنزل كان يقيم في قسم منه امرأة غسالة وابن لها يدعى بوليت وهو في مقتبل الشباب.
وكان بوليت هذا من أحذق غلمان باريس تقلب في كثير من الأعمال، كان في التاسعة من عمره مستخدما في مطبعة، واشتغل نجارا في الثانية عشرة وخدم في المراسح في الخامسة عشرة، وبعدها اعتزل هذه المهن وصار مغنيا في القهاوي، ثم ارتقى إلى مهنة ممثل في الضواحي، ثم تعين سكرتيرا لقوميسير الشرطة في بلفيل.
فهو قد تقلب في كثير من المهن كما ترى، ولكنه لم ينجح في واحدة منها، فإن القوميسير الشرطة، قال له: إنك لا تصلح لمهنتنا لميلك إلى التمثيل.
وقال له مدير الجوق: إنك لا تصلح للتمثيل لتعلقك بالغناء.
وقال له صاحب قهوة الغناء: إن السامعين قد صفروا لك استهجانا فلا يسعني قبولك.
وقال له النجار: إنك كثير التصور والغزل.
أما صاحب المطبعة فإنه أرسله بمسودة مقالة إلى كاتبها لإصلاحها فأضاعها في الطريق ولم يعد إلى المطبعة.
على أنه كان ذكي الفؤاد، طيب السريرة كثير الأصدقاء، وكان له أيام عسر وأيام رخاء، فإذا جاءت أيام اليسر أنفق عن سعة وعاش مع أصحابه عيشة الرخاء، وإذا دهمه العسر لجأ إلى بيت أمه وأقام معها يعيش من فضلة كسبها.
وكان هذا اليوم من أيام بؤسه؛ أي إنه كان ملازما بيت أمه.
وقد كان سمع الناس يتحدثون بجرائم جاره الفحام وخطر له أن يغتنم فرصة فراغه ويراقبه، فكان ينزل إلى تلك الدكان وفيها نافذة تشرف على فسحة بيت الفحام، فيراه مرارا يمر بالفسحة فيأخذ قطعة من مرآة مكسورة ويضعها على النافذة محنية بحيث يرى كل ما يصنعه الفحام دون أن يراه جاره فيرى ملامح الشر تنطبع فوق وجهه حين يعتقد أنه وحده فينقطع عن التكلف ويظهر بهيئته التي فطر عليها.
وقد بلغ من مراقبته إياه أنه عرف كل أخلاقه وعاداته، وخرج مرات في أثره وعرف الخمارة التي يتعشى فيها كل ليلة مع أن الفحام لم يره ولم يعرفه على التصاق المنزلين.
ففي الليلة التي خلا بها السير جمس بالفحام كان بوليت في تلك الخمارة فرابه اجتماع هذين الرجلين في مثل هذه الخمارة على ما بينهما من تباين المقام كما كانت تدل ثياب السير جمس، فتنبه بوليت وقال في نفسه: إن القوميسير قد طردني من الخدمة لاعتقاده أني كسول لا أصلح لها ولقد كان مصيبا في اعتقاده، أما إذا ذهبت إليه يوما وقلت له: إني اكتشفت جريمة وأوقفته على تفاصيلها، فإنه يكافئني دون شك ويردني إلى الخدمة.
وقد استدل بوليت من اجتماع الرجلين أنهما لم يجتمعا إلا للاتفاق على جريمة، فجعل من ذلك الحين يراقب جاره مراقبة شديدة.
وبعدها بيومين رأى عربة وقفت في الشارع عند عطفة الزقاق المؤدي إلى بيت الفحام، ورأى فيها ذلك الذي مع الفحام؛ أي السير جمس، ومعه امرأة وغلام لم يعرفهما.
ثم رآهم جميعا قد دخلوا إلى بيت الفحام فأسرع إلى الدكان ووقف في النافذة المشرفة على الفسحة واستعان بالمرآة فلم ير شيئا.
وعند ذلك خطر له أن يغني بصوت مرتفع على رجاء أن يسمع الفحام صوته، فإذا كان عازما على الجريمة لا يجسر على ارتكابها متى سمع صوته، ولكنه لم يعلم أن الأمر قد قضي حين كان عائدا إلى منزله للمراقبة من النافذة.
على أنه حين كان يغني سمع صوت الأرلندية تستغيث، فانقطع فجأة عن الغناء، وعاد إلى الإصغاء، فسمع الصياح وعلم أنه صادر من البئر، فأسرع إلى الخشبة الموضوعة فوقها وأزاحها وجعل ينظر إلى المياه باحثا عن مصدر الصوت.
وكانت الأرلندية قد نهكت قواها وخفت صوتها، ولكنها لما رأت أن سقف البئر قد فتح ورأت رأس إنسان قد ظهر لها عادت لها قوتها وجعلت تستغيث بملء صوتها.
فقال لها بوليت: لا تخافي، تجلدي دقيقة فسأنقذك.
ثم تركها وعاد مسرعا إلى البيت فجاء بسلم طويلة وأنزلها إلى تلك البئر فبات أسفلها راكزا في قاع البئر وأعلاها مستندا إلى حائط الدكان.
وعند ذلك أسرعت الأرلندية وتمسكت بالسلم غير أنها لم تقدر أن تصعد إليها لثقل ثيابها ولفرط ما لقيته من التعب، فنزل بوليت وأعانها على الصعود.
وكان بوليت على ذكائه وسوء معشره طيب السريرة طاهر القلب فلم يخطر في باله الفحام والشرطي في تلك الساعة، بل تمثلت له تلك المرأة على ما كانت فيه من الشقاء، ولم يخطر في باله غير إنقاذها، فلما بلغ بها إلى سطح الدكان ترك السلم في موضعها وذهب بالأرلندية إلى بيت أمه.
ولم تكن أمه قد عادت بعد إلى المنزل فنزع ثياب الأرلندية المبتلة ولفها بأغطية السرير ثم أشعل نارا فوضعها كي تتدفأ بها وقال لها: اطمئني يا سيدتي فسأنقذ ولدك كما أنقذتك.
أما الأرلندية فلم يخامرها شيء من الخوف على ولدها؛ لأنها كانت تعلم شدة انشغال اللورد بالمير بالاستيلاء عليه، ومع ذلك فإن كلام بوليت قد زاد في تسكين اضطرابها.
أما بوليت فإنه تمعن قليلا في الحالة ثم قال في نفسه: إن أمي ستعود قريبا وإذا رأت هذه المرأة عندي أرهقتني بالأسئلة والاعتراض، ثم لا تمر ساعة حتى يعرف هذه الحادثة جميع أهل الحي، إذا لا بد لي أن أفر بها من هنا كي لا تراها.
ولما استقر رأيه على ذلك قال للأرلندية: إذا أردت أن لا يصاب ولدك بمكروه فاتبعيني.
فتبعته الأرلندية طائعة فنزل بها إلى غرفة تحت البيت تعدها أمه للغسل فأدخلها إليها وقال لها: لا أستطيع إنقاذ ولدك إلا إذا بقيت هنا.
فوعدته بالامتثال فخرج بوليت وأقفل الباب من الخارج مبالغة في الحذر.
ثم ذهب إلى الشارع حيث كانت المركبة واقفة فوجد أنها انصرفت، فأيقن أن السير وود قد ذهب فدخل إلى الزقاق المؤدي إلى بيت الفحام فوجده واقفا على عتبة دكانه بملء السكينة وعلائم السرور بادية عليه.
وقد أيقن بوليت أن الغلام قد اختطف، ولكنه لم يعلم إذا كان السير جمس قد ذهب أو إذا كان باقيا في بيت الفحام.
وكان في ذاك الزقاق غسالات يغسلن الثياب على قارعة الطريق، وجعل بوليت يمازحهن ويراقب خلسة الفحام، فرآه قد دخل مرارا ثم عاد إلى موقفه فقال في نفسه: لا شك أن الغلام سجين عنده وأن دخوله مرارا لم يكن إلا لتفقده.
وعند ذلك عاد إلى البيت ووقف في تلك النافذة المشرفة على فسحة بيت الفحام فلم ير أثرا، فخطر له خاطر لا بد في تنفيذه من الجرأة، وهو أن الأرلندية قد سقطت إلى المياه من ثقب في سطح قبو الفحام فهو يدخل إلى القبو كما سقطت منه.
ولم يطل تفكيره بهذا الخاطر، بل إنه نزل لفوره إلى الدكان، وكانت السلم لا تزال في البئر فخلع ثيابه وألقى نفسه في المياه وجذب السلم إليه فجعل يسبح بها متجها إلى جهة قبو الفحام فوضع السلم على الجدار وصعد عليها إلى أن مست يداه السقف الخشبي فرفعه بكتفه وولج منه إلى القبو.
وكان بيت الفحام يشبه بيت أم بوليت بغرفه وأقبيته وطريقة بناءه فلم يصعب على بوليت البحث فيه وجعل يجول من مكان إلى آخر حتى سمع أنينا في القبو الداخلي فأيقن أنه أنين الغلام المسجون فيه.
وعند ذلك دنا من الباب وفحص قفله فوجده شديد المتانة بحيث رأى أن إنقاذ الغلام في تلك الساعة مستحيل، لا سيما وأن الفحام لا يزال في المنزل، ولكنه اطمئن على الغلام؛ إذ علم أنه لا يزال حيا، وأن هذين الآثيمين لم يبطشا به كما أرادا البطش بأمه، فارتأى أن يعود بعد أن يذهب الفحام إلى الخمارة لمناولة العشاء حسب عادته كل ليلة، ثم يحضر معه ما يحتاج إليه من المعدات.
وفيما هو يحاول الرجوع من حيث أتى سمع وقع أقدام الفحام آتيا إلى جهة القبو، فأسقط في يده وخشي افتضاح أمره، وما ينتج عنه من تعذر إنقاذ الفتى أكثر مما خشى على نفسه من ذلك الوحش الكاسر.
ولكنه لم يفقد هداه فنظر إلى ما حواليه فرأى أكداس الحطب مرصوفة بانتظام في زاوية، فأسرع واختبأ وراءها، ثم دخل الفحام يحمل سلة من الطعام فذهب دون أن يرى بوليت إلى رف من الخشب، فأخذ من فوقه مفتاحا فتح به باب القبو ودخل إلى الغلام بسلة الطعام فرآه بوليت وقال في نفسه: لقد غنيت بهذا الاكتشاف عن المعدات، لقد علمت أين يضع مفتاح القبو؟
أما الفحام فإنه خرج من القبو بعد أن أطعم الغلام فأقفله وأعاد المفتاح إلى مكانه ثم انصرف.
وكان بوليت شديد الجرأة كثير الإقدام غير أنه كان حكيما على حداثة سنه وارتأى أن يؤجل إنقاذ الفتى إلى أن يذهب الفحام إلى الخمارة حذرا من عودته المفاجئة.
ولذلك عاد إلى سقف البئر ففتحه ونزل إلى الماء وعاد بالسلم إلى جدار الدكان وصعد إليها فلبس ثيابه، ثم صعد إلى غرفة أمه.
وكانت قد عادت من عملها وأخذت تعد طعامها، فشم بوليت رائحة الطعام وعلم أن والدته في المنزل، فذعر لحضورها حذرا من افتضاح أمره، ثم اطمئن وقال في نفسه: قد يوجد بين النساء من تكتم السر ليلة، وأنا لا أحتاج إلى أكثر من هذا الزمن لإنقاذ الفتى.
وعند ذلك دخل فجأة إلى والدته، فأرادت أن تنتهره، فوضع إصبعه على فمها فقال لها: أرجوك أن لا تصيحي يا أماه، وأن تنتبهي إلى ما أقول ولو مرة في العمر.
فقالت له: ماذا تريد أيها الوقح، وما بالك مبتلا، ألا تشفق علي أم تحسبني خلقت لخدمتك؟ - قلت لك: لا تصيحي يا أماه، فإن لدينا ثروة، وهذه الثروة موقوفة عليك.
فضحكت ضحك الهازئ وقالت له: ويحك ما هذا الهذيان، ألا تزال تحدثني كل يوم بمثل هذه الأماني وأنت على ما عرفت به من الكسل والخمول، ألا تخجل أن أعولك في حين أنه يجب عليك أن تعولني؟ - أصغي إلي بالله، فإني لست من الهازئين. - ولكن من أين أنت قادم؟ - سأخبرك بكل شيء.
ثم ذهب إلى الباب فأقفله ووضع المفتاح في جيبه، فقالت: رباه إن ولدي قد جن.
أما بوليت فإنه قال لها برزانة: إني سأغدو قوميسيرا للبوليس.
وهزت الأم كتفها ثم جعلت تنظر إلى ولدها كأنها باتت خائفة على صوابه.
فقال لها: وسأنال جائزة عظيمة. - ولكن.
فقطع عليها حديثها وقال: لا سبيل إلى الاعتراض يا أماه؛ لأن الثروة مضمونة كما قلت لك إذا أردت. - ماذا تريد أن أصنع؟ - ماذا تطبخين في هذا القدر ؟ - لحما وبصلا. - أنضج الطعام؟ - إنه على وشك النضج، ولكن أية علاقة لثروتنا بهذا الطعام؟ - إن له علاقة شديدة؛ لأنه الواسطة.
وضحكت المرأة وقالت: ألعله واسطة ترقيتك إلى مقام قوميسير؟ - نعم يا أماه.
واستاءت الأم إذ حسبته يهزأ بها وسألته: ألا تقول لي أيها الوقح ماذا كنت تصنع في الدكان؟ - إن هذا لا يعنيك. - أهكذا تجيب أمك أيها الشقي؟ - كفى يا أماه تأنيبا، وأعطني زجاجة خمر وقطعة من الخبز، ثم ذهب إلى القدر فرفعها عن النار.
وحاولت أن تصيح به فقال لها: إنك إن اعترضت علي أو صحت حرمتيني من رتبة القوميسير.
ثم وضع الخبز تحت إبطه وحمل الزجاجة بيد والقدر بيد وخرج من الغرفة بعد أن فتح الباب وهو يقول: إن هذه المنكودة أشد حاجة منا إلى الطعام بعدما لقيته من العناء.
غير أن والدة بوليت لم تكن لتتخلى عن طعامها بسهولة، فاندفعت في أثر ولدها حتى أدركته وقد دخل إلى الأرلندية.
ولما رأت الأم تلك الأرلندية وما لها من الجمال صاحت صيحة منكرة، وحسبت أنها فهمت كل شيء وهي لم تفهم شيئا وقالت لابنها: تبا لك من لص فاجر، أتسرق طعامي وقد كلفني تعب النهار كي تطعمه لخليلتك؟
غير أن بوليت أسرع فوضع الطعام أمام الأرلندية، وبادر إلى الباب فأقفله ثم وضع يده على فم أمه وقال لها: إنك ما دمت قد أتيت إلى هنا ورأيت فلا أجد بدا من إخبارك فاسمعي.
ورأت الأم ملامح الجد بين عينيه، وتبينت خطورة الأمر من نبرات صوته، فانقطعت عن الصياح وأصغت إليه.
أما بوليت فإنه أشار بيده إلى الأرلندية وقال لها: انظري يا أماه إلى هذه المرأة، فإني لو لم أدركها لقضت غرقا. - ماذا تعني؟ - أتعرفين جارنا الفحام؟ - أليس هو شاباروت الذي قتل امرأته؟ - هو بعينه، وقد ألقى منذ ساعة هذه المرأة في البئر فأنقذتها حين سمعت صياحها.
وكانت أم بوليت عجوزا صخابة ثرثارة، ولكنها كانت طيبة السريرة كولدها، ولما أيقنت أن المرأة مظلومة، وأنها ليست من بنات الهوى أصغت إلى ولدها وسمعت قصة الأرلندية.
أما بوليت فإنه أخبر الأرلندية أن ولدها لا يزال في قيد الحياة ثم أكرهها على الأكل مع والدته ووعدها بإنقاذ ابنها فجعلت تبكي سرورا.
وعندها التفت بوليت إلى أمه وقال لها: إني أرى أبواب المستقبل قد فتحت أمامي ونحن الآن في حاجة إلى الرصانة. - ماذا تريد بذلك؟ - أريد أن هذا الفحام لم يلق المرأة في البئر وسجن غلامها في القبو إلا وله شريك في هذه المهمة الشائنة، وقد رأيت هذا الشريك يحادث الفحام، ولذلك فقد وجب الحذر. - دون شك، وعندي أنه يجب أن تسرع في الحال إلى رئيس البوليس فتخبره بجلية الأمر. - ليس هذا بالرأي الصواب، فإن الفحام قد يخنق الغلام متى رأى رجال الشرطة قادمين إليه. - إذا ما العمل؟ - يجب أن تبقى هذه المرأة هنا إلى أن أنقذ ولدها، ويجب أن تحرصي عليها كل الحرص. - كن واثقا من ذلك. - واحذري أن تدعي أحدا يراها. - سأفعل. - نعم، أوصيك بالكتمان؛ لأن كلمة تبدر منك تفسد كل أمر. - إني أعدك بأن أكتم أمرها عن كل الناس. - بل تعديني أيضا أن لا تذهبي إلى منازل الجيران. - سأقيم في غرفتي فلا أبرحها حتى تعود. - إذا كان كما تقولين فاعلمي إذا أن الساعة بلغت السادسة الآن وهذا موعد خروج الفحام إلى الخمارة للعشاء، فيجب اغتنام هذه الفرصة.
ثم ترك الأرلندية تعتني بها أمه، وخرج من المنزل إلى الزقاق، فرأى الفحام لا يزال واقفا في الباب، فجعل يسير ذهابا وإيابا ويراقب الفحام.
وكانت الغاسلات تغسل الملابس في ذلك الزقاق وبينهن فتاة حسناء كانت تنظر إلى بوليت نظرات حب وإدلال.
وقد رآها الفحام فاحمر وجهه من الغضب، ولم يكن غضبه لاعتقاده أنه يراقبه، ولكنه استاء؛ لأنه رآه يرود أمام دكان الغسالات، فإن هذا الوحش الكاسر على غلظة كبده، كان يحب أحد تلك الغاسلات ودبت الغيرة إلى قلبه الوحشي.
أما تلك الفتاة التي كان يهواها فكانت تدعى بولينا، وهي نفس الفتاة التي كانت تنظر إلى بوليت تلك النظرات التي تشف عن الحب الصادق.
وكان قد بلغ من حبه لتلك الفتاة أنه عزم على الاقتران بها دون أن يكاشفها بقصده، لاعتقاده أنه ذو مال وأن الغاسلات لا مال لهن.
وكان كلما مر بالغاسلات، وهو يحمل الفحم إلى زبائنه، ينظر إلى الفتاة نظرة المعجب بجمالها، ويزيد فيه ميل الزواج بها.
ولما رأى بوليت يمر ذهابا وإيابا بدكان الغاسلات تنبهت فيه عواطف الغيرة واتقدت عيناه نارا.
وفيما هو على ذلك خرجت تلك الفتاة بطبق الماء المتسخ، فنظرت إلى بوليت وقالت له وهي تضحك: احذر.
فأسرع بوليت إلى التراجع حذرا من أن تصيبه المياه فقالت له الفتاة باسمة: أراك يا مسيو بوليت تفرط في الحذر من المياه.
فذهل بوليت حين سمعها تناديه باسمه فقال لها: ألعلك تعرفيني أيتها الفتاة؟ - دون شك فقد حضرت تمثيلك مرة فأعجبت بك، ألا تهبني ورقة الدخول، فلا شك أن لديك كثيرا من الأوراق. - أعطيك متى شئت وقدر ما تشائين. - إني أشكرك مقدما، فاذهب الآن فإن صاحب الدكان يراني أحدثك، وإذا شئت فانتظرني في الساعة التاسعة في مدخل الزقاق نتفق على تعيين الساعة التي نذهب فيها لحضور التمثيل، ثم تركته ودخلت إلى الدكان.
وكان الفحام قد رآهما يتحدثان فاصفر وجهه من الغيرة وأقفل باب دكانه، ولكنه لم يذهب بل بقي واقفا قرب الباب.
أما بوليت فإنه خشي أن يعلم بأنه يراقبه فمشى يحاول الخروج من الزقاق.
وكان الظلام قد أقبل فلم يسر هنيهة حتى شعر أن الفحام قد انقض على عنقه وهو يقول: إنك تتداخل فيما لا يعنيك وسترى ما يكون جزاؤك.
ثم ضغط عليه بعنف شديد حتى كاد يخنقه.
41
أما بوليت فإنه حين سمعه يقول له هذا القول لم يخطر له أن الفحام يريد الإشارة إلى تلك الفتاة، بل حسب أنه اطلع على أمره وعلم أنه يحاول إنقاذ الغلام فقال وقد كاد يخنقه لشدة ضغطه على عنقه: اتركني أيها الأثيم، أو أدفع بك إلى الشنق؟
وصاح شاباروت صيحة هائلة وكف عن الضغط على عنقه، فاغتنم بوليت الفرصة وأجاب: إنك قتلت امرأتك ولدي على ذلك برهان.
فأجابه الفحام: لا ريب عندي أنك ستذيع هذه الأقوال في الحي، ولكني أهزأ بك وبأقوالك. - والإنكليزية التي ألقيتها في الماء؟
وقد ذكر له بوليت أمر الإنكليزية راجيا أن يرعبه فيطلق سراحه، ولكن ساء فأله، فإن الفحام حين ذكر له جريمته زادته إقداما على الجرائم فضغط على عنق بوليت وهو يقول: أما وقد عرفت هذا السر، فلا تطمع بعده بالحياة.
وجرى بين الاثنين عراك عنيف، وكان الظلام حالكا، والزقاق مقفرا، والفرق بعيدا بين الاثنين، فإن ذلك الفحام الوحشي كان يشبه الجبابرة، وقد زاده الغضب قوة على قوته، فبات يعبث ببوليت كما يشاء.
أما بوليت فإنه شعر بالغلبة وشعر أنه ليس من أكفاء ذلك الخصم الشديد، فجعل يصيح مستغيثا.
غير أن الفحام لم يمهله، فإنه صرعه وألقاه إلى الأرض وركع فوق صدره ثم أخذ مدية غليظة من جيبه وطعنه بها.
فأن بوليت أنينا مزعجا ولم يتحرك.
وعند ذلك نهض الفحام عنه وقد جحظت عيناه وانصب العرق من جبينه، وقد توهم أنه قتله فضحك ضحكا هائلا وقال: لقد أصبح عدد قتلاي ثلاثة.
ثم تراجع عن فريسته وقد شعر أن ساقيه يضطربان، ثم وقف وجعل ينظر نظرات تائهة دون أن يجسر على النظر إلى بوليت، فإن القتلة يصابون حين الجريمة بمثل هذا الذهول.
ولبث هنيهة حائرا مضطربا، مقيدا بقوة خفية، إلى أن سمع وقع أقدام، فأسرع إلى الفرار إلى الجهة المضادة لمصدر الصوت، وأطلق ساقيه للريح.
فكان يسير راكضا إلى أن بلغ شارع سانت أمبرواز، ومن هناك سار إلى شارع سانت أوجين فالترعة، ولبث نحو ساعة يسير مضطربا خائفا دون أن يهتدي إلى أين يسير، فكان تارة يندفع في سيره، وتارة يمشي الهويناء، ثم يقف مستريحا، فترن في أذنيه كلمات بوليت الأخيرة فيهلع قلبه خوفا من سوء المصير.
وعند ذلك بدأ المطر يتساقط، فلجأ إلى مكان يقيه المطر، وعادت إليه سكينته فقال في نفسه: إني قتلت هذا الفتى دون أن يراني أحد، فمن يتهمني وليس بيني وبينه علاقة أو اتصال، ولا يعلم الناس ما أضمرت له من الأحقاد.
وهنا ارتاح لهذا الخاطر وجعل يفكر في ماذا يفعل.
إن من يطالع تقاويم الجرائم يجد فيها ثلاثة أمور: أولها أن القاتل أول ما يخطر له بعد ارتكاب الجريمة أن يعد سبيلا لدفع التهمة عنه، وثانيها أنه يحدث له شوق شديد إلى الخمر، فيندفع إلى أقرب خمارة يجدها، والثالث أنه بعد أن يترنح سكرا يذهب إلى محلات الدعارة والفساد.
ولذلك كان أول ما خطر لهذا الفحام أن يذهب إلى الخمارة بعد أن أيقن أنه لم يره أحد حين ارتكاب الجريمة.
فذهب إلى الخمارة المجاورة للمكان الذي كان فيه وكانت غاصة بالزبائن، وقد لعبت الخمرة بالرءوس فانطلقت الألسن وتشعبت الأحاديث.
فدخل وهو يتكلف السكينة جهده على أن تقطيب حاجبيه وغلظة جسمه نفر الناس منه، فلم يكلمه أحد من الحاضرين خلافا لعادة السكارى، فإن السكر يؤلف بين قلوبهم ويقربهم من كل بعيد.
أما الفحام فإنه هب إلى منضدة لم يكن عليها أحد وقعد فجاءه الخادم وأحضر له ما طلبه من طعام وشراب.
فجعل يأكل ويشرب وهو يراقب الحضور، فلم يجد بينهم من شغل به أو اهتم له، فاستدل من ذلك أن أمره لم يفتضح؛ إذ لم يسمع خلال أحاديثهم ما يشير إلى ارتكاب جريمته.
وفرغت قنينة الشراب فتلاها بالثانية وأردفها بالثالثة إلى أن حانت الساعة العاشرة وهي إقفال تلك الخمارة، فاضطر إلى الخروج منها مكرها وهو تائه في مهامه الأفكار في الطريق التي جاء منها، فقطع الترعة إلى شارع أوجين ومنه إلى شارع سانت إمبرواز، ومنه إلى الشارع الذي يدخل منه إلى الزقاق.
وهنا تنبه بالرغم من سكره وجعل يخاطب نفسه فيقول: لماذا هذا التخوف ومن يخطر له أن يتهمني؛ إذ لم يكن قد رآني أحد، وفوق ذلك فإني تعشيت في خمارة كان فيها كثير من الناس يشهدون لي.
وعند ذلك عول على الدخول إلى الزقاق، فدخل حتى وصل إلى منزله وأخرج المفتاح من جيبه ووقف منذعرا وقد اضطرب من الرعب حتى أوشك أن يسقط.
ذلك أنه رأى نورا يضيء في منزله، فأيقن أن الشرطة قد اتصل بها أمر الجريمة.
وأن منزله قد غص برجال الشرطة للقبض عليه، فجمد الدم في عروقه من الخوف، ثم أقفل راجعا وجعل يهدر وهو لا يعقل من الخوف ولا يهتدي إلى سبيل.
وها نحن موضحون السبب، في وجود النور والناس، في دكان ذلك الفحام.
42
بينما كان الفحام قد طعن بوليت تلك الطعنة النجلاء، وهام على وجهه بعد الجريمة، كانت الغاسلات يداعبن بولينا ويمازحنها؛ إذ رأينها تحادث بوليت، فجعلن يسألنها عن هذا الفتى وهي تجيبهن معجبة به إعجابا يدل على افتتانها بهواه.
وما زلن يمازحنها حتى انتقلن من المزح إلى الهزء، فكبر عليها هزؤهن وأوشك هذا المزاح أن يفضي إلى المهاترة.
وتدخلت عند ذلك صاحبة الدكان، وهي رئيسة الغسالات فأصلحت بينهن، وعادت إلى بولينا فكلمتها برزانة وقالت لها: أحقيقة أنك تهوين هذا الفتى؟
فاحمر محيا الفتاة ولم تجب.
فاستدلت من سكوتها واصفرار وجهها على صدقها في حبه وقالت لها: إني أعلم أنك لست على شيء من الخفة ونزق الشباب، وأنك إذا كنت تحبين هذا الفتى فعلى سبيل الاقتران به.
ولكنك تعرضين بمستقبلك للخراب، فليس لهذا الفتى مهنة وما هو من أهل الجد والإقدام، ولا مال له على أنك لو اتبعت سبل الرشاد لتيسر لك القران بعد شهر برجل له مهنة معروفة.
فقالت لها الفتاة: ماذا تعنين؟ - أعني أنك تصبحين بعد شهر مدام شاباروت إذا كنت ترغبين.
فضحكت بولينا ضحك الهازئة وقالت لها: أشكرك لهذا النصح، فإن هذا الشخص يشبه ذلك الأمير الذي كان يقتل كل امرأة يتزوجها حين تروق في عينه سواها. - لا حقيقة لما أشيع عنه وفوق ذلك فهو كثير المال.
فهزت الفتاة كتفيها وقالت: أية حاجة لي بالمال وأنا أكسب قوت يومي، ألم يقل الله لا تهتموا بالغد إن الغد يهتم بكم، ثم أية مقارنة بين غاسلة لا تفارق المياه، وبين فحام لا يغسل وجهه إلا يوم الأحد؟
فضحكت الغاسلات لقولها، وقالت لها إحداهن: ولكن هذا الفحام هائم بك، فقد رأيته ينظر إليك نظرات الوجد، وأنت حرة فاختاري ما تشائين من الفتيان، غير أنه لا بد لي من نصيحة أسديها لك، وهي أن تحذري من هذا الشخص. - وماذا يعنيه أمري؟ - لا أقول: إنه يعنيه، ولكن الغيرة قد تدفعه إلى كل مكروه، ولو رأيته كيف كان ينظر إلى ذلك الفتى الذي كنت تحدثينه لحذرت كل الحذر، فإن عينه تدل على الشر وقد تحمله الغيرة على الانتقام.
فاهتزت بولينا إشفاقا وسكتت فلم تفه بكلمة بعد هذا الحديث.
ولبثت الغاسلات يشتغلن إلى الساعة السابعة، ثم انقطعن عن العمل وبسطن مائدة العشاء، حتى إذا فرغن من الطعام قالت بولينا لصاحبة الدكان: إني لا أستطيع العمل في هذه الليلة فقد تركت أمي متوعكة في هذا الصباح، وأخشى أن تكون مريضة وليس من يعولها سواي.
وكانت بولينا صادقة في قولها، فإنها كانت تريد افتقاد أمها، ثم إنها كانت تريد أن توافي بوليت؛ إذ اتفقت معه على اللقاء في الساعة التاسعة.
فلما حان الموعد المعين أخذت سلتها التي أحضرت فيها طعام الصباح فأدخلتها في كوعها ومشت وهي مضطربة لهذا اللقاء.
وفيما هي سائرة تعلل نفسها بالأماني، أو تعد رق الألفاظ لتحادث بها بوليت، عثرت بجسم فالتفتت منذعرة ورأت جسما ممدودا على الأرض لا حراك فيه.
فراعها هذا الاتفاق ولم تعلم أهو جسم سكير أم قتيل، ولو اتفق مثل ذلك لسواها لهربت خوفا.
غير أن بولينا على حداثتها كانت ثابتة الجنان، فانحنت على هذا الجسم كي ترى صاحبه، ولكنها لم تحدق فيه حتى تراجعت منذعرة وصاحت صيحة حنو وتألم؛ فإن هذا الشخص كان بوليت.
وعند ذلك أكبت عليه تنقذه وتنظر في أمره، فرأت الدم سائلا منه، فخافت خوفا شديدا.
ولكنها لم تستغث ولم تترك بوليت لطلب النجدة، بل إنها تولت الأمر بنفسها ووضعت يدها على قلبه وشعرت أنه يخفق خفوقا خفيفا استدلت منه أنه لا يزال في قيد الحياة.
وقد اطمأنت وارتاحت بعض الارتياح، وكان أول ما خطر لها أن حبيبها لم يجرحه هذا الجرح غير شاباروت الفحام.
وخافت ولكن خوفها لم يكن على نفسها، بل على بوليت وحاولت أن تسرع بإحضار المدد لبوليت، ولكن خوفها عليه من الفحام منعها عن الذهاب.
ثم أيقنت أنه مغمى عليه بعد أن سمعت دقات قلبه، فرأت أن تنقذه بما تعلمه من الوسائل ووضغت فمها على فمه وجعلت تنفخ نفخا خفيفا، فتصل أنفاسها إلى رئته.
وكانت تفرك يديه بيديها وتناديه بأعذب الألفاظ فلا يستفيق.
وعند ذلك خطر لها خاطر أملت أن يعينها على إفاقته، وهو أنها كانت قد اشترت في الصباح برتقالا غير تام النضج، فذكرت أنه لا يزال معها برتقالة في سلتها.
فأخذتها وفلقتها فلقتين واستعملتها مقام إسفنجة فكانت تفرك بها صدغيه وشفتيه وأعصابه فتفعل به فعل الخل.
وبعد أن أطالت الفرك على هذه الطريقة تنهد بوليت تنهدا خفيفا، فردت بتنهد الفرح والاستبشار، ثم فتح عينيه وقال بصوت خفيف خافت: أين أنا؟
فشعر عند ذلك بقبلة حارة كادت تحرق شفتيه، وسمع صوتا حنونا لطيفا يقول له: لا تخف يا مسيو بوليت، فهذا أنا صديقتك الصغيرة ... بولينا الغسالة.
إن الفحام حين طعن بوليت بمديته صوبها إلى البطن لوثوقه من أن الطعنة في ذلك الموضع تكون قاتلة.
غير أن مديته أصابت شيئا صلبا، وهو حافظة نقود بوليت التي كانت في جيب بنطلونه، فزلقت عن النقود ولم تصب البطن كما كان يريد، بل أصابت الفخذ فجرحته جرحا طويلا، ولكنه غير بليغ؛ إذ لم يقطع له عرق من عروقه.
غير أن الضربة كانت قوية أصابت بوليت بألم شديد أحدث له هذا الإغماء.
فلما صحا من إغمائه نهض واقفا على قدميه، فارتاحت بولينا لاستفاقته، ولكنها ذكرت الفحام فاضطربت وقالت: رباه! إني أنا السبب في جميع ما أصابك.
فأخذ بوليت يدها بين يديه وقال وهو ينظر إليها نظرات الامتنان: كيف تقولين إنك أنت السبب؟ - نعم، أليس هو الفحام الأثيم الذي جرحك؟ - هو بعينه فكيف تكونين السبب؟ - إنه حاول قتلك لغيرته علي منك، فإن هذا الشقي مغرم بي وقد رآني أحدثك.
فأدرك بوليت جلية الأمر ، وعلم أن الفحام لم يحاول قتله؛ لأنه كان يراقبه، بل لأنه كان يهوى الفتاة.
وهنا نظرت بولينا إلى ثيابه فذعرت وقالت: إن ثيابك مصبوغة بالدماء فهل تشعر بألم شديد؟ - كلا. - إذا كنت لا تستطيع المشي فتوكأ علي، إن منزلي قريب من هنا وأمي ليست فيه، هلم بنا.
فامتثل بوليت واستند على كتفها، فمشى عدة خطوات دون أن يشعر بألم.
ثم إن برد هواء الليل أنعشه وزاد في قوته، فتمكن من الوصول مع الفتاة إلى بيتها القريب دون عناء شديد.
فلما وصلت به إلى خارج بيتها، رأت أن لا نور فيه، فعلمت أن والدتها لم تعد بعد، وأنها ستسهر في المرسح الذي تشتغل فيه، فإنها بوابة أحد المسارح.
ففتحت باب المنزل ودخلت ببوليت إليه وأجلسته على كرسي كي يستريح إلى أن تنير المصباح.
ولما أنارت مصباحها نظرت إلى بوليت ورأته أصفر الوجه، غير أنه لم يكن يظهر عليه أن جرحه بليغ.
وكان هذا المنزل الصغير مؤلفا من غرفتين إحداهما للنوم والثانية للمطبخ فذهب بوليت إلى المطبخ فنزع لباسه وتفقد الجرح فإذا هو بسيط لا يدعو إلى الخوف.
وكانت بولينا قد أحضرت له خرقة وخلا، فضمد الجرح بيده مؤقتا، ثم عاد إليها فقال لها وهو يبتسم: لم ينلني من هذا الجرح غير خوفي السابق من عقباه، وهو بحمد الله لا يدعو إلى الاكتراث غير أنه يجب أن يعتقد الفحام أنه قتلني.
وعندما ذكر الفحام، خطرت له الأرلندية، التي عهد بحراستها إلى والدته، وتذكر الغلام المسجون في القبو، فعادت إليه حميته ونسي ما هو فيه.
أما الفتاة فإنها قالت: يجب إبلاغ البوليس فيقبض عليه ويسجنه فتأمن شره؛ لأنه أخطأك اليوم، ولكنه قد يعود إلى ما فعله في الغد حتى يصادف منك مقتلا، فإنه وحش كاسر.
ثم نظرت إليه نظرات تشف عن غرام صادق طاهر، وقد جال الدمع في عينيها إشفاقا عليه من ذلك الفحام.
غير أن بوليت لم يكن يفتكر بها في ذلك الحين، بل كان كل همه قاصرا على الأرلندية وولدها.
وكان يقول في نفسه: إن شاباروت يعتقد أنه قتلني، فهو سيقضي ليلته في الحانات وأماكن اللهو والخلاعة، شأن القتلة السفاكين، وإذا عاد إلى بيته فلا يعود قبل الصبح، ولذلك فسأجد متسعا من الوقت لإنقاذ الغلام.
وعند ذلك أخذ يد الفتاة بين يديه فقال لها: إنك حويت من طيب السريرة بقدر ما حويت من الجمال وقد رأيت فيك ما دلني على ثبات جأش وقوة جنان، فهل أنت شجاعة القلب كما أرى؟
فاحمر محيا الفتاة وقالت: عند الاقتضاء. - إذا تذهبين معي؟ - إلى أين؟ أإلى دائرة البوليس؟ - كلا. - إذا إلى أين؟ - إلى بيت شاباروت الفحام.
وظهرت علائم الذعر على محياها وقالت: أتذهب إلى بيت هذا الضاري؟ - اطمئني إذ لا يمكن أن يكون في بيته.
ونظرت إليه نظرة ذهول وردت: ولكن ماذا تريد أن تصنع في ذلك البيت؟ - أريد إنقاذ غلام قد يموت جوعا إذا تأخرت عن إنقاذه.
فأشكل هذا القول على بولينا، ونظرت إلى بوليت نظرات خوف، كأنها خشيت أن يكون أصيب عقله بالخبل، لفرط ما نزف منه من الدماء.
43
أما بوليت فإنه أدرك معنى نظراتها، فابتسم لها وقال: اطمئني، أيتها الحبيبة، فإني على أتم الهداية، وسأبرهن لك عن صدقي فيما أقول.
ثم قص عليها جميع ما حدث في النهار، وكيف أنه أنقذ الأرلندية من البئر وعلم مكان الغلام المسجون.
ثم أتم حديثه فقال لها: إذا كنت لا تزالين في ريب مما قلته، فهلمي معي إلى بيتنا، تجدي تلك الأرلندية مع والدتي، فقد عهدت إليها حراستها. - لا حاجة إلى ذلك إني أصدقك.
ثم بدرت منها حركة دلت على الاستياء فقالت: إذا أنت لم تحضر إلى الزقاق إلا لمراقبة الفحام.
فأدرك سر استيائها وقال: بل ولكي أراك أيتها الحبيبة.
فردت بدلال: إنك غير صادق هذه المرة. - بل إني صادق، وإذا شئت أن تكوني امرأتي كنت سعيدا معك، ولا عبرة بما اشتهرت به من الكسل، فإني أغدو بعد اقتراني بك من أهل الجد والإقدام.
فاحمر محياها قليلا وقالت: سوف نرى في ذلك. - إذا فلنهتم الآن بهذا الغلام المنكود المسجون في القبو.
فردت بلهجة تدل على رعبها: ألا تزال مصرا على إنقاذه؟ - دون شك أو يموت جوعا. - ولكن كيف؟ - إننا ندخل إلى بيت الفحام في البدء ثم ندخل إلى القبو.
فضمت يديها قائلة: رباه! لا شك أنه مجنون.
فابتسم قائلا: ماذا رأيت من دلائل جنوني. - دخولك إلى بيت الفحام، ألعلك تريد أن يقتلك؟ - إني لا أخشاه الآن؛ إذ لا يمكن أن يعود إلى بيته هذه الليلة وهو يحسب أنه قتلني.
على أن بولينا لبثت تضطرب من خوفها على بوليت، وتحسب دخوله إلى بيت الفحام خطرا من أشد الأخطار التي لا يقدم عليها عاقل.
فلما رأى منها هذا الخوف قال لها: ما زلت خائفة فلا حاجة لي بذهابك معي، غير أني أحب أن أسالك عن شي وهو هل تظنين أن الجيران قد عادوا إلى البيت؟ - لقد عادوا دون شك وهم نيام الآن؛ لأن جميعهم من العمال. - أليس للمنزل بواب؟ - كلا. - إذا إن كل مستأجر له مفتاح للباب؟ - بل إن لهذا الباب العام زلاجا يفتح الباب مثل باب بيتنا. - إني كنت أعلم ذلك، فإن بيتنا مثله أيضا، ولكني أردت أن أستوثق.
وردت بولينا: ولكن هب أنك دخلت إلى البيت كما تقول فكيف تدخل إلى الدكان؟ - إن ذلك سهل فإني راقبت الفحام ورأيته حين يذهب إلى العشاء يقفل دكانه فيضع مفتاحها تحت عتبة الباب. - هذا أكيد وأنا رأيته يفعل ذلك عدة مرات. - إذا اطمئني علي، فسأبلغ ما أريده من إنقاذ الغلام، والآن أودعك شاكرا لك حسن اعتنائك بي، وسأزورك غدا إذا سمحت لأوفيك حقك من الشكر والامتنان.
ثم هم بالخروج من المنزل، وهو لا يزال منحط القوى، يتمايل في مشيه من ضعفه تمايل السكارى، فأسرعت إليه بولينا وقالت له: إنك لا شك فقدت صوابك، أتحسب أني أدعك تذهب وحدك، وأنت على هذه الحال؟ - ماذا تقصدين، ألعلك تريدين الذهاب معي؟ - وكيف يخطر لك أن أدعك تذهب وحدك، وأنت على ما أنت فيه من الضعف؟ - ولكني أراك خائفة من الفحام؟ - هو ما تقول، ولكن خوفي لم يكن علي بل عليك، وفوق ذلك فإذا أصبت بمكروه لا قدر الله فإني أصاب به مثلك فهلم بنا.
فضمها بوليت إلى صدره شاكرا وخرج بها.
وكان ما نزف من دمائه قد أضعفه، فكان يسير مترنحا ترنح السكارى، غير أن بولينا كانت تعينه على احتمال السير.
وكانت المسافة قريبة بين المنزلين، فلما وصل إلى بيت الفحام، نظر بوليت إلى ما حواليه نظرة الفاحص، فرأى الزقاق مقفرا، والسكينة سائدة، فظهرت عليه علائم التردد وقال للفتاة: إن الذي سأعمله بسيط جدا لا يحتاج إلى اثنين، فدعيني أقضي هذه المهمة وحدي وانتظريني هنا إلى أن أعود.
فاعترضته الفتاة قائلة: كلا بل أدخل معك. - ألا تزالين مصرة؟ - كل الإصرار؛ إذ يجب أن أشاركك في البؤس والنعيم وأقتسم كل خطر، ألم تقل لي أنك تريد أن أكون امرأة لك؟
فعانقها بوليت ثانية عناق شكر وحنان وقال: إذا هلم بنا.
ودنا بوليت من الباب فمد يده من ثقبه وفتحه، فخفق قلب بولينا، ولكنها دخلت بجرأة من ذلك الباب؛ لأنها كانت تحب بوليت وهي معه والحب يولد الشجاعة في قلوب النساء.
وكان بوليت يعلم أين يضع الفحام مفتاح دكانه؟
وبحث عن المفتاح ووجده في مكانه ففتح به الدكان ودخل مع خطيبته وسط الظلام الدامس.
غير أن كل فتيان باريس يحملون كبريتا شمعيا في جيوبهم، فأخذ بوليت علبته وأضاء عودا منها وبحث مستعينا بنوره الضئيل فوجد شمعدانا موضوعا على كيس الفحم فأنار الشمعة.
وفي ذلك الوقت وصل شاباروت عائدا إلى منزله، فرأى النور وأيقن أن رجال البوليس أقبلوا ليبحثوا عنه، فأركن إلى الفرار لا يلوي على شيء لخوفه كما تقدم.
أما بوليت فإنه دخل مع الفتاة من الدكان إلى فناء البيت، فقالت له بولينا: إن نوافذ الجيران تشرف على هذه الدار، ألا تخشى أن يرونا منها؟ - ألم تقولي إنهم نيام؟ - إني كنت أود أن نسير من غير نور، ولكني لا أعرف داخلية المنزل، وأخشى أن نسقط في البئر.
ثم سار الاثنان حتى وصلا إلى البئر فأراها بوليت الباب الذي سقطت فيه الأرلندية.
وعند ذلك نزلا إلى القبو الأرضي المسجون فيه الغلام، وكان بوليت قد رأى الفحام أين خبأ مفتاحه وعلم موضعه، فأخذ المفتاح وفتح به باب القبو.
وكان الغلام يئن في محبسه ويذرف الدمع السخين؛ إذ لا يستطيع الاستغاثة، فلما رأى باب سجنه قد فتح ذعر ذعرا شديدا، وحاول أن يقطع رباطه فلم تستطع يداه الصغيرتان.
غير أن بولينا أسرعت إليه وحملته بين ذراعيها، وهي تتوجع لمصابه إشفاقا عليه.
فارتاح الغلام لصوتها الحنون وظواهر إشفاقها وكف عن الأنين، وعلم أن الله أرسل من ينقذه من قبضة ذلك الأثيم.
وفك بوليت قيوده وبعد ربع ساعة كان رالف بين ذراعي أمه تلاعبه وتقبله وهي توشك أن لا تراه.
أما بوليت فإن التعب وما نزف من دمائه أنهك قواه فأغمض عينيه وسقط ثانية على الأرض مغميا عليه.
44
ولنعد الآن إلى شاباروت، فإنه بعد أن رأى النور في منزله خاف خوفا شديدا وفر هائما على وجهه في أنحاء باريس، وهو لا يعلم أين يستقر من القلق.
وبقي هائما تائها كل ليله إلى أن كاد يشرق الفجر، ووجد نفسه في شارع ليون وهو يمشي بخطوات متوازنة لاضطرابه، وقد زاده الخوف شراسة، فكان اتقاد عينيه وانقلاب سحنته وتقطيب حاجبيه تدل على ما فطر عليه من الغلظة والهمجية.
وكان يعتقد كل الاعتقاد أن البوليس عرف بأمره، وأتى ليبحث عنه في منزله.
ورأى أن مناخ باريس لم يعد يوافقه وعول على الفرار إلى ليون بالقطار الذي يسافر في الساعة الخامسة ونصف.
وقد قال في نفسه: إني أركب هذا القطار المسافر إلى ملهوس فأكون الليلة في سويسرا حيث أكون في مأن من البوليس.
وقد تقدم لنا القول أن السير جمس كان قد أعطاه ألف فرنك وكان المال لا يزال في جيبه فأدخل يده إليه متفقدا ذلك المال وهو يقول في نفسه: إني أسافر بهذا المال إلى آخر الأرض.
فذهب إلى المحطة بغية شراء تذكرة السفر، فلما وصل إليها وجد بعض المسافرين واقفين عند شباك التذاكر.
ولكنه قبل أن يبلغ هذا الشباك رأى رجلين من البوليس واقفين يراقبان كل مسافر وينظرون إلى وجهه ويسألانه بعض الأسئلة.
فلم يعد لديه مجال للريب بأن إدارة البوليس خشيت أن يفر من باريس، فأرسلت من يقبض عليه في المحطة.
وعند ذلك رجع من حيث أتى، وقد زادت هواجسه واشتد اضطرابه فعاد إلى شارع ليون، وهناك سجن يدعونه سجن مازاس، فنظر إليه نظرة ذعر ووضع رأسه بين يديه كأنه يحاول أن يستوثق أنه لا يزال رأسه فوق كتفيه.
وقد تمكن منه اليأس، فلم ير شافيا من هذا الداء الأليم غير الخمر فدخل إلى أول خمارة رآها مفتوحة.
وكان في الخمارة فريق من عمال السكة الحديدية جالسين حول منضدة يتحدثون.
فجلس الفحام حول طاولة قربهم وطلب كأسا من الأبسنت فشربه جرعة واحدة، وطلب سواه وجعل يصغي إلى حديث العمال فذعر ذعرا شديدا لأول كلمة سمعها حتى كاد الكأس يسقط من يده.
ذلك أنه سمع صاحب الخمارة يقول للجماعة: ولكنهم لم يقبضوا عليه.
فأجابه أحدهم: ولكن لا بد من القبض عليه.
وقال آخر: القبض عليه غير مضمون فقد يتمكن من الفرار.
فرد صاحب الخمارة وهو يبتسم: هيهات أن يجد مناصا، فقد تغير العهد القديم وبات البوليس السري منتشرا في جميع الأنحاء، فهم يعثرون بالسارق والقاتل كما يعثر كلب الصيد بالطريدة.
فسأله الجماعة: ألعل الفتى الجريح قد مات؟ - كلا، ولكن حالته تنذر بالخطر.
فتأسف الجماعة عليه وقالوا: مسكين إنه لا يزال في مقتبل الشباب.
وكان شاباروت يصغي إلى الحديث والعرق البارد ينصب من جبينه، ولم يكن لديه شك أنهم يعنونه بحديثهم دون أن يعرفوه، ومع ذلك فإنه لم يسرع بالخروج من تلك الخمارة حذرا من تنبيه الأنظار إليه.
وعاد إلى الشرب والإصغاء، فكان الحاضرون يتحدثون ولا يخرجون في حديثهم عن موضع هذه الجناية، غير أنهم لم يذكروا أمامه اسم القاتل واسم القتيل، وغاية ما علمه أن القتيل فتى في مقتبل الشباب، ومن عسى يكون هذا الفتى غير بوليت؟
وما زال شاباروت في هذا العذاب الأليم إلى أن سمع أحد عمال السكة الحديدية يقول: ولكن هذا القاتل لا يستطيع الفرار بقطارنا دون شك.
فقال أحدهم: ألعلهم يعرفونه بالمحطة؟ - إذا كانوا لا يعرفونه فأنا أعرفه.
فتنهد شاباروت تنهد الراحة والفرج، وقال في نفسه: إن هذا الرجل قد رآني حين دخلت، وأنا الآن جالس بقربه، فلا شك أنهم لا يعنونني بهذا الحديث.
ثم عاد إلى الإصغاء، فسمع صاحب الخمارة يقول: إنه قد أقام عندي مدة طويلة، فلم يخطر لي في بال أنه من أهل الشر، وأنه يطعن مثل هذه الطعنة النجلاء.
فزاد ارتياح الفحام وقال في نفسه: هذه أول مرة دخلت فيها إلى هذه الخمارة وقد أحدث له هذا الارتياح جرأة في نفسه فاشترك معهم ونادى صاحب الخمارة وقال له: بأية جريمة يتحدثون؟ - إن أحد العمال قتل زميلا له في هذه الليلة طمعا بسلب مائة فرنك كان المسكين قد اقتصدها. - ألعله هرب؟ - ربما، ولكنهم يعتقدون أنه لا يزال في الشارع وذلك ممكن، فإنه قد يرجو أن يفر بالسكة الحديدية؛ لأنه من عمالها.
فأيقن عند ذلك شاباروت، أن البوليسين اللذين كانا يفحصان الوجوه في المحطة لم يكونا هناك للقبض عليه، بل للقبض على ذلك القاتل، فلم يعد يخاف السفر.
وعند ذلك خرج من الخمارة وسار توا إلى المحطة، ولكنه لم يكد يبلغ إليها حتى سمع صوت صفير القطار فعلم أنه وصل بعد فوات الأوان.
وكان أحد عمال المحطة قد رآه فقال له: لا بأس عليك؛ إذ يوجد قطار أيضا يسافر بعد ثلاث ساعات.
غير أن شاباروت أبى الانتظار، فخرج من المحطة وهو يقول في نفسه: من يعلم فقد أكون مبالغا في خوفي، وقد لا يكون الأمر على ما توقعته ولا بد لي من البحث والاستقصاء كي أعلم ماذا حدث.
ثم رجع فجعل يجتاز من شارع إلى شارع حتى قرب من الشارع الذي يقيم فيه، فتغلبت الحكمة على الخوف وقال في نفسه: لا بد لي من التجسس فاعلم إذا كانوا عثروا بجثة بوليت، وإن كانوا يتحدثون بي فقد يمكن أن يكون النور الذي رأيته في منزلي نور اللصوص لا نور رجال الشرطة.
ولما خطر له هذا الخاطر لم يجد أقرب إلى تنفيذه من الحانات فجعل يدخل من حانة ويخرج منها إلى حانة فيشرب في كل خمارة كأسا ويسمع من يتحدثون به؛ فكان جميع الناس يتحدثون بأعمالهم الخاصة ولم يسمع حديثا يدل على اكتشاف جريمته.
وما زال على ذلك إلى أن ولج خمارة كان صاحبها يعرفه، فاستقبله خير استقبال ولم يظهر عليه شيء من دلائل الاتهام.
وكانت هذه الخمارة قريبة من منزله، وهي كثيرة الزبائن، وأيقن الفحام أن جريمته لم تعرف؛ لأنها لو اشتهرت لما خفيت على صاحب تلك الخمارة، ثم إن السكر زاده جرأة فأقام مدة طويلة في تلك الخمارة وهو يصغي إلى حديث كل داخل إليها، ولم يسمع أحدا ذكره بلسان، ولذلك خرج منها مطمئنا وذهب سائرا في طريق منزله على نية التجسس في الطريق مبالغة في الاستيثاق.
وقبل أن يبلغ إلى منزله مر بدكان الحلاق الذي كان يحلق عنده وكان فيها كثير من الناس وكلهم يعرفونه، وقد رأوه جميعهم، فلم يظهروا له شيئا فاطمأن خاطره وزادت جرأته ودخل إلى الدكان، فحلق لحيته وهو يحدثه بكثير من الأمور، فإن ثرثرة الحلاقين واحدة في جميع البلاد.
ولكنه على كثرة كلامه لم يذكر له شيئا من جريمة الأمس، فخرج من عنده مرتاح البال وهو يقول في نفسه: إذا كان الحلاق لم يتحدث بهذه الجريمة، فهي لا تزال خفية دون شك، ولا خوف علي من الذهاب إلى منزلي بعد هذا.
45
قد تبدل خوف شاباروت بجرأة عظيمة فدخل إلى الزقاق وجعل ينظر في الأرض عله يقف على أثر من دماء بوليت في الموضع الذي طعنه فيه.
ولكن السماء قد أمطرت مطرا غزيرا في تلك الليلة، فجرف السيل الدماء ومحى أثرها.
وذهب عندئذ مطمئنا إلى منزله، وقبل أن يصل إليه لقيه صاحب خمارة في الزقاق وقال له: هات لي كيسا من الفحم.
ودنا منه الفحام وحياه فقال صاحب الخمارة: يظهر أنك لم تبت في منزلك هذه الليلة.
واضطرب الفحام وسأله: كيف عرفت هذا؟ - إني طرقت بابك في هذا الصباح لحاجتي إلى الفحم فلم أجدك. - نعم، إني لقيت أمس صديقا من مواطني وهو قادم حديثا إلى العاصمة فسرت معه تلك الليلة باللهو، ثم تركه بعد أن اطمأن من حديثه وقال: سأحضر لك ما طلبته من الفحم.
وذهب إلى دكانه فمر بدكان الغاسلات التي تجاورها ونظر إليهن حسب عادته فرآهن يشتغلن، ورأى بينهن بولينا.
فخفق قلبه حين رآها وذهب إلى منزله فوجد الباب مقفلا كما كان، وافتقد مفتاح القبو فوجده في موضعه ففتح الدكان ودخل فبحث فيها ولم يجد أثرا يدل على البحث والتنقيب؛ إذ رأى كل شيء لا يزال في مكانه فقال في نفسه: إذا ليس رجال الشرطة الذين جاءوا إلى منزلي ليلة أمس.
وكان شاباروت لا يبقي في دكانه غير القليل من المال فإذا بلغ ما يجمعه مائة فرنك أرسلها إلى بنك الاقتصاد، وقد ذكر أنه ترك في الليلة الماضية ما يقرب من هذه القيمة في درج كان مفتاحه معه، فافتقد المال فوجد أنه لا يزال في مكانه، وتمتم من عسى أن يكون قد دخل إلى منزلي؛ إذ لم يكن فيه أثر للشرطة أو اللصوص.
ثم أخذ يبحث، وخرج من دكانه إلى الفناء، ومن الفناء إلى الرف الذي كان يضع فوقه مفتاح القبو الذي سجن فيه الغلام فوجده حيث تركه وأسرع إلى ذلك القبو ووقف منذعرا مبهوتا؛ إذ رأى بابه مفتوحا، ولم ير فيه أثرا للغلام.
وعندها أدرك في اعتقاده سر الأمر؛ إذ أيقن أن السير جمس قد جاء في طلب الغلام، وأنه هو الذي كان في منزله في الليل وحسبه من رجال الشرطة وأركن للفرار، ثم وقف يعض على أسنانه من الغيظ ويقول: إن هذا الشقي قد سرق الغلام كي لا يدفع لي بقية ما اتفقنا عليه؛ لأنه لم يدفع لي غير ألف فرنك؛ أي نصف قيمة الاتفاق.
ولم يعد يخطر له في بال أن اللصوص أو الشرطة دخلوا إلى منزله بعد أن استوثق في اعتقاده أن الإنكليزي هو الذي أتى لسرقة الغلام، وأسف أسفا شديدا على ما خسره من المال، ولكن هذا الأسف لم يشغله عن الافتكار ببوليت؛ إذ لم يكن يعلم ما جرى له وهل بات قتيلا أم هو لا يزال في قيد الحياة.
وكان يضرب أخماسا وأسداس ويقول: إذا كان قد قتل فكيف اتفق أنه لم يعلم بأمره أهل الزقاق وهو منهم، لا شك أنه لم يقتل، بل هو جريح وحمل نفسه ولجأ إلى بعض الأماكن، لكن إذا صح هذا الافتراض، فكيف لم يعرض شكواه ولماذا البوليس لا يهتم بالقبض علي.
وقد طاش رأسه وأمعن في التفكير ولم يهتد إلى حل الألغاز.
ثم ذكر ما قاله بوليت حين ضغط على عنقه وكاد يخنقه وهو تهديده بالشنق لقتله امرأته ورمي الأرلندية في البئر، وكيف تسنى له أن يعرف هذا السر؟
وكانت جميع هذه المشاكل تعرض له تباعا، فلا يستطيع حل واحدة منها ويضيع صوابه بينها، فكان تارة تتمثل له رجال الشرطة، وتتجسم في نفسه المخاوف ويحاول الفرار، وتارة يطمئن ويؤثر البقاء في المنزل.
وطال تردده، حتى إنه بقي كل النهار في الدكان، ولم ير أحدا قد اهتم به.
وقد أرسل الفحم في المساء إلى زبائنه كالمعتاد، وكان يمر في ذهابه وإيابه بدكان الغاسلات، فينظر نظرات حنو إلى بولينا، لكن الفتاة كانت منصرفة إلى عملها، فلم تكترث له ولم تنظر إليه.
مضى النهار وذهب في الليل إلى الخمارة التي تعود أن يتعشى فيها، وتعشى ولم يسمع أحدا ذكر أمامه بوليت وعاد إلى المنزل آمنا مطمئنا، ولم يشغله غير الأسف على الألف فرنك التي كان يرجو أن يقبضها من السير جمس.
ثم نام نوما هادئا، ولكن لم يطل نومه حتى سمع قرعا شديدا على باب المنزل فصحا مرعوبا وقال: إنهم الجنود دون شك ولم يبق سبيل للفرار.
ولم يسعه إلا القيام فنهض من الفراش خائفا متثاقلا وقال بصوت مختنق: من الطارق؟
فأجاب صوت من الخارج قائلا: أنا. - من أنت؟ - أنا جواني الجزار.
فتنهد الفحام تنهد الارتياح؛ إذ كان يعرف هذا الجزار، إذ كان يجتمع به في الخمارة التي يتعشى فيها.
أما جواني هذا فهو الذي كان يلقب بالجلاد حين كان في سجن طولون وأنقذه روكامبول وجعله من رجال عصابته.
ولما فتح الفحام بادره جواني بقوله: إني قادم للبحث عن الغلام وأمه.
وحاول الفحام الإنكار وقال: أي أم وأي غلام؟ - الأرلندية وابنها الذين جيء بهما إلى منزلك أيها الصديق العزيز.
46
ولم يكن جواني قد جاء وحده، فقد صحبه مرميس ودخل الاثنان مسرعين حين فتح الفحام الباب.
أما الفحام فقد اصفر وجهه اصفرارا شديدا حين سمع جواني يطالبه بالأرلندية والفتى، ولكنه أصر على الإنكار وقال لسائله: إني لا أعلم ماذا تعني إذ لم أر أرلندية ولا أرلنديا.
وضحك مرميس وقال: لكنك سوف ترى أنك رأيتهما.
ثم أخرج مسدسا من جيبه وقال: إني أستطيع حملك على الإقرار بهذا المسدس، لكن لدي طريقة أفضل منها فانظر.
ثم جلس أمام طاولة يأكل عليها شاباروت طعام الصباح فوضع عليها المسدس وفك أزرار جيبه وأخرج منها محفظة ونثر منها كثيرا من الأوراق المالية على الطاولة.
وكانت مدية الفحام لا تزال في جيبه، لكنه علم أن المدية لا توازي المسدس، ثم إنه كان كثير الحب للمال، فلما رأى تلك الأوراق تتناثر من المحفظة اتقدت عيناه ببارق الطمع، ولم يعد يخطر له غير أمر واحد وهو أن الإنكليزي سرق الفتى ولم يدفع له الألف فرنك، وجال في فكره أن يعوض المال بالمال الموجود.
وكأنما تلميذ روكامبول قد أدرك ما في نفسه فقال: إذا كنت تحب المال وتريده وجب عليك أن تتكلم وهذه ألف فرنك أدفعها لك مقدما.
فمد الفحام يده وأخذ الورقة المالية بلهف فقال مرميس: يظهر أنك تريد الإقرار بدليل أخذك المال فقل لنا: ماذا صنعت بالفتى.
وأجاب الفحام وقد اضطربت يده بالورقة المالية: أما وقد علمت شيئا من هذه الحكاية، فلا بد لي أن أخبرك بحقيقتها بعدما ظهر لي من كرمك، لا سيما وأن هذا الإنكليزي قد خدعني ؛ لأنه وعدني بألفي فرنك . - ألم يدفع لك المال؟ - إنه دفع لي النصف ووعدني أن يدفع النصف الآخر حين يعود لأخذ الغلام.
فقال مرميس: وماذا حدث بعد ذلك؟ - حدث أنه عاد في الليلة الماضية فاغتنم فرصة غيابي من المنزل ودخل دخول السارقين وأخذ الصبي ولم يدفع لي ما وعدني من المال.
وكان الفحام يتكلم ببساطة تشف عن الصدق الأكيد فقال مرميس في نفسه: لا شك أنه صادق في قوله أو هو يعتقد أنه صادق، ثم قال للفحام: في أية ساعة تحسب أن الإنكليزي جاء إلى منزلك؟ - بين الساعة العاشرة والحادية عشرة من مساء أمس.
فأجاب مرميس ببرود: إن هذا مستحيل؛ لأنه كان يعلم ما فعله السير جمس في الليلة الماضية.
فاضطرب شاباروت لهذا التكذيب وقال: إذا من يحضر إلى منزلي ويأخذ الفتى؟ - لا أعلم، لكني واثق أنه غير الإنكليزي فقل لي الآن: ما فعلت بالأم، فارتعش الفحام ولم يجب.
أما مرميس فقد رأى أنه يخاف الإقرار فقال بلهجة السيادة: قل الحقيقة أزدك ألفا أخرى.
ونظر الفحام إليه بعينين تتقدان، وتنازعه في ذلك الحين عاملان عامل الرهبة وعامل الطمع، فقد قال في نفسه عن مرميس: إن هذا الرجل قد يكون بوليسا متنكرا يحاول خديعتي ولكنه قال أيضا: لا شك أن شأن هذا الصبي خطير، فإنهم يتنازعون عليه ويدفعون الألوف من أجله وهي فرصة أغتنمها ولا أظفر بمثلها في كل حين.
وقد تغلب الطمع فيه على الحكمة وأمحى رسم المشنقة الذي كان قد تمثل لعينيه، وحل المال عقدة لسانه فقال: إن الأم قد قتلتها.
فظهرت على جواني علائم الذعر، وأما مرميس فقد كان تعلم من أستاذه روكامبول الصبر والتأني في هذه المواقف فقال: كيف قتلت هذه المرأة؟
ثم أخذ ورقة أخرى بألف فرنك ودفعها إليه فأخذها الفحام وقال: إني أغرقتها. - أين أغرقتها أفي الترعة؟ - كلا بل في البئر. - تعال معي أدلك عليها. - إذا سر أمامي واحذر أن تحاول الفرار فإني أقتلك دون إشفاق.
فوضع الفحام الورقة في جيبه دون أن يعترضه مرميس وقص عليه بإيجاز كل ما حدث بالقبو، وكيف أن سقف البئر خسف تحت قدمي الأرلندية فهوت إلى المياه.
فقال مرميس: إذا هلم بنا نرى المكان الذي سقطت فيه.
فأضاء الفحام شمعة، وفتح باب الدكان المؤدي إلى الفسحة وخرج فتبعه مرميس وهو يقول: لا تنس أني أتبعك والمسدس مشهر بيدي.
وسار الفحام دون أن يجيب حتى وصلوا إلى القبو، وهناك اعتراه اضطراب غريب لدنوه من محل الجريمة وأصابه من الوجل نفس ما أصابه حين طعن بوليت ولم يجسر على النظر إليه، فقد كان هذا الرجل من كبار الأئمة السفاكين، ولكنه إذا قتل لا يطيق النظر إلى فريسته وهذا شأن كثير من المجرمين.
ولما وصل إلى سقف البئر وقف وقد اصفر وجهه واضطربت رجلاه وقال لمرميس: انظر أنت إذا شئت أما أنا فإني لا أطيق النظر.
ثم جعل يرتعش كمن أصاب جسمه برد وأدار وجهه كي لا ينظر.
أما مرميس فإنه أخذ الشمعة وأشار إلى جواني أن يفتح باب البئر ففتحه.
وعندها قال لهما شاباروت: لا بد أن تكون الجثة عائمة طافية على سطح المياه، فإنها غريقة منذ أمس.
وكان يقول هذا القول بصوت مختنق فما شك مرميس بصدقه ونظر في تلك المياه فقال: إني لا أرى جثة طافية كما تقول، بل إني أرى سلما.
فذهل الفحام وقال: أترى سلما كما تقول؟ - نعم. - وجثة المرأة؟ - لا أثر للجثة.
وتشجع الفحام قليلا ودنا من البئر، فانحنى فوقها متباطئا متثاقلا ثم زادت جرأته ونظر إلى المياه على نور الشمعة وحدق في جوانب البئر فلم ير الأرلندية، بل رأى سلما طافية على وجه المياه كما قال مرميس.
وهناك انذهل انذهالا عجيبا وسأل: إن هذا عجيب فكيف وجد السلم في البئر، ومن عساه يكون نزل إليها؟ - أتظن أنهم نزلوا إلى البئر؟ - دون شك.
وكان يوجد في القبو معقل طويل، فألقى الفحام طرفه إلى السلم وجذبه إليه فأخرجه من المياه.
ثم أخذ يفحص خشبه على نور الشمعة فقال: إن الخشب لم يبل وهو ما يدل على أن السلم لم يلق في هذه المياه من عهد بعيد.
وفيما هو يفحصه نظر حرفا مكتوبا عليه فقال: إن هذا السلم سلم الدكان المجاورة التي تشرف أيضا على هذه البئر، وهذا الحرف المكتوب هو الحرف الأول من اسم صاحبها، ولكن هذه الدكان غير مأجورة فمن ذا الذي نزل إلى البئر من تلك الدكان وأنقذ المرأة؛ إذ لا شك عندي الآن أن المرأة قد نجت من الموت.
وأخرج مرميس ورقة مالية أيضا وقال له: إني أزيدك ألف فرنك إذا تكلمت بإيضاح.
وزال عند ذلك اضطراب شاباروت، وقد فرح فرحين أحدهما بالمال، والآخر بنجاة المرأة ونجاته من التبعة فعادت إليه سكينته وأخذ يحدث مرميس بجميع ما اتفق له.
47
كان شاباروت مفطورا على الشر، كأنما خلق له، وقد زاده تعلقا به شغفه الشديد بالمال، وبخله العجيب حتى إنه لم يكن يحجم عن جمعه ولو أنذر بالقتل.
على أنه مع ذلك لم يكن يخلو من الذكاء والحكمة، فلما رأى السلم طافيا على المياه، ورأى مكتوبا عليه الحرف الأول من اسم صاحب الدكان تنبه وجعل يفتكر متمعنا.
وكان مرميس وجواني ينظران إليه، وينظران بصبر نتيجة تفكيره وتمعنه إلى أن انتهى الفحام من تفكيره الطويل فقال لهما: أصغيا إلي.
ثم نظر إليهما نظرة الشريك للشريك بأمر نال جزاؤه مقدما عليه وقال: إننا حين جئنا مع الإنكليزي والأرلندية وابنها كان الإنكليزي يسير بالفتى في طليعتنا وهو يجتنب المرور فوق سطح البئر.
وكنت أسير وراءهما والمرأة تسير في أثري فوق سقف البئر حيث سقطت فيها وصاحت صيحة واحدة.
فقال مرميس: وبعد ذلك؟ - لم يصدر منها بعد ذلك صوت، فحسبت وحسب الإنكليزي أنها قضت نحبها غرقا، وأما الفتى فكان يصيح صياحا شديدا فحملناه إلى القبو وسجناه فيه. - أذهبتم به دون أن تستوثقوا من موت أمه؟ - نعم. - وبعد ذلك عدت وذهب الإنكليزي فأحضر الطعام للفتى، وأردت أن أتفقد المرأة في البئر فما جسرت.
فقال له مرميس: لا فائدة من هذه الأقوال؛ لأني لم أستدل منها على شيء. - لقد عولت على أن لا أكتمك أمرا بعد ما رأيته من كرمك، فإني أحب فتاة غسالة في هذا الزقاق، وقد رأيت فتى يحادثها وتحادثه بدلال، فكبر الأمر علي وصبرت حتى افترقا فتعقبت الفتى وأشبعته ضربا ولكما ثم طعنته بمديتي.
فقال جواني: أية فائدة من هذه الأخبار؟
فلم يجبه الفحام ومضى في حديثه فقال: لقد ذكرت حين كنت رابضا فوق صدره أنه كان يدعوني قاتلا سفاكا فحسبت في البدء أنه يشير بذلك إلى امرأتي، فإن بعض الناس يتهمونني بقتلها غير أني أخطأت؛ لأنه كان يشير إلى الأرلندية؛ إذ قال: إني رميتها في البئر.
فتنبه مرميس وقال: أهو قال هذا القول؟ - نعم، وهو قول أضاع رشادي فأغمدت مديتي في بطنه وأركنت إلى الفرار. - وماذا فعلت بعد ذلك؟ - فعلت ما يفعله المجرمون في هذه الحوادث، فتنقلت من خمارة إلى خمارة، ثم عدت إلى منزلي متجسسا فرأيت فيه نورا وحسبت أن رجال الشرطة يكبسون منزلي وعدت إلى الفرار.
وهناك عدت إلى الحانات وقد خطر لي أن أهرب من باريس، ولكن خطر لي أني مخطئ في مخاوفي، فإن الإنكليزي هو الذي كان في منزلي، فعدت ولما لم أر فيه الفتى أيقنت أن الإنكليزي قد سرقه كي لا يدفع لي بقية ما اتفقنا عليه من المال.
وكان جواني قد فرغ صبره لهذه الحكاية وحاول أن يقاطعه مرارا، فكان مرميس يمنعه إلى أن فرغ الفحام من قص حكايته كما عرفها القراء فقال لهما: أما الآن وقد رأيت هذا السلم فقد وثقت أني كنت مخطئا فليس الإنكليزي الذي سرق الفتى. - إذا من هو؟ - إن هذه البئر مشتركة بيني وبين جيراني يشرف عليها من الدكان كما يشرف عليها من المنزل، والذي أراه أن المرأة حين سقطت في البئر أغمى عليها في البدء ثم استفاقت بعد خروجي من المنزل فاستغاثت وسمعوا صياحها من الدكان فأنقذوها. - ولكنك تقول: إن الدكان غير مأجور. - لا بأس فقد يتفق أن يكون فيها أحد من الجيران في تلك الساعة، فأنقذ الأرلندية بهذا السلم.
فقال مرميس: قد يمكن أن يكون الجيران أنقذوا الأرلندية كما تقول ، لكن من أنقذ ولدها؟ - إن الذي أنقذ الأم دون شك فإنه دخل إلى منزلي من البئر بواسطة السلم وبحث عن الفتى ووجده، ولا أظن منقذه غير الفتى الذي طعنته بمديتي بما أنه كان يعلم أني ألقيت الأرلندية في البئر. - ولكنك تقول: إنك قتلته. - لقد كنت مخطئا في توهمي؛ إذ لو كان قتيلا لظفروا بجثته، ولما خفي أمره على أهل الحي، ولكني أظن أن مديتي لم تصب منه مقتلا، وأنه تظاهر بالموت كي لا أجهز عليه.
وبينما كان شاباروت يقول هذا القول سمعوا ضجيجا من الخارج تلاه طرق الباب وسمعوا صوت الطارق يقول: افتحوا باسم الشرع.
وصاح شاباروت صيحة منكرة وجمد الدم في عروقه من الرعب.
48
يذكر القراء أن بوليت أغمى عليه في منزل أمه بعد أن رد رالف إلى الأرلندية، ولما رأت أمه ما كان من إغمائه خافت خوفا شديدا وجعلت تصيح.
وأسرعت بولينا إليها فقالت لها: لا تخافي يا سيدتي، فإن جرحه بسيط لا خوف عليه. - أهو جريح ومن جرحه، رباه ما هذا المصاب، قولي من جرحه! - جرحه الفحام يا سيدتي.
ولم تكن الأرلندية تفهم اللغة الفرنسية، غير أنها فهمت حكاية بولينا من إشارتها؛ لأنها كانت أفصح من الكلام.
وأسرعت إلى منقذها مع أمه فنزعتا ثيابه وجعلتا تنشقانه الخل، فما طال الأمر حتى فتح عينيه.
وعندها ابتسم لأمه تطمينا لها وقال: يسر المرء أن يصنع ما يجب عليه للإنسانية ولو مرة في العمر.
ثم جعل يجيل نظره بينها وعيناه مغرورقتان بالدمع وبين الأرلندية وهي تضم ولدها إلى صدرها إلى أن استقر نظره على تلك الفتاة، ونظر إليها نظرة تشف عن امتنانه لها.
ثم أخذ يدها فوضعها في يد أمه فقال لها: أحبي هذه الفتاة يا أماه؛ لأنها هي التي أنقذتني من الموت.
فضمتها أمه إلى صدرها فقالت لها: إني لا أعلم يا ابنتي من أنت، لكني أرى أنه يحبك، وإذا كان يريد الزواج بك، فلست أنا التي تعترض على هذا الزواج.
فاحمر وجه الفتاة وظهرت علائم السرور على محيا بوليت، وبعد هنيهة قال لأمه، والآن يا أماه، إن الأمر خطير ويجب أن تعملي بما أوصيتك به من قبل.
اطمئن فقد وعدتك بالكتمان ولا أحنث بوعدي، أتريد أن أقسم لك بتربة أبيك؟
لا حاجة إلى ذلك يا أماه فقد وثقت بوعدك، والآن اصغيا إلي، إن شاباروت قد يكون معتقدا أنه قتلني فلا يعود إلى منزله هذه الليلة، وكذلك لا يجب أن نبلغ البوليس خبر جنايته الآن، بل ننتظر حتى يعود إلى منزله.
ووافقت بولينا على هذا الرأي، واتفقت مع بوليت على أن تذهب صباح غد إلى عملها حسب العادة وأن لا تخبر رفيقاتها بحرف عما جرى.
ثم ودعته وذهبت إلى منزلها.
وفي الساعة السابعة من صباح اليوم التالي نهض بوليت من فراشه معافى نشيطا، فجاءته بولينا وأخبرته أنها ذهبت لإرسال بعض الثياب المغسولة إلى أصحابها، فاغتنمت هذه الفرصة لزيارته وإخباره أن شاباروت قد عاد إلى منزله. - إذا سينام هذه الليلة في السجن.
فلما دنت الساعة السادسة، وهو الموعد الذي يذهب فيه الفحام إلى الخمارة للعشاء، ذهب بوليت إلى القوميسير رفيقه، وأخبره بجميع ما حدث.
فلم يشك القوميسير بكلامه وأبلغ الأوامر اللازمة، فأخذوا يراقبون الفحام وقد تبعوه منذ خرج من منزله إلى الخمارة، وإنما لم يقبضوا عليه في ذلك الحين، بناء على طلب بوليت؛ إذ أراد أن يقبض عليه في الليل؛ لأنه كان عازما على الاقتران تلك الليلة ببولينا، فما أحب افتضاح هذا الأمر في النهار.
فبينما كان شاباروت يحدث مرميس بما جرى سمع قرع الباب كما تقدم وسمع الطارق يقول: افتحوا باسم الشرع!
فهلع قلبه من الخوف ونظر إلى مرميس نظر المتوسل.
أما مرميس فإنه غير خطته فجأة، وقال للفحام بجفاء: إنك تسمعهم يقرعون الباب باسم الشرع، فلماذا لا تفتح؟ أتريد أن يكسروا الباب؟
فرد الفحام بصوت يتلجلج: ولكنهم قادمون للقبض علي. - هذا ممكن. - ألا تستطيع أنت إنقاذي؟
فجعل مرميس يضحك ثم قال له: لسنا نحن الذين أبلغنا البوليس، فقد تعودنا أن لا معتمد في قضاء أغراضنا إلا على أنفسنا ، ولكننا لا نتداخل في شئونه.
ثم قرع الباب ثانية ولم يجسر الفحام على فتحه فذهب جواني وفتحه.
فدخل القومسير يتبعه جنديان ثم دخل في أثرهم بوليت فكان ضربة قاضية على الفحام.
أما القومسير فإنه ذهب توا إلى الفحام وقال له: إني أقبض عليك باسم الشرع.
فأسرع الجنديان بأمر البوليس وفتشا جيوبه وأخرجا منها المدية التي كانت معه وقبضا عليه.
وعند ذلك التفت القومسير إلى مرميس وجواني وسألهما عن اسميهما.
فقال له جواني: إني أدعى جواني، وأنا جزار في باسي في شارع التلغراف.
فنظر إلى مرميس وقال له بأدب: وأنت يا سيدي؟
فقال له مرميس: إني أدعى بايتافن، وأنا من المتمولين ومنزلي في شارع أوبرت نمرة 1.
ثم أخرج رقعة زيارة ودفعها إليه.
فعجب القومسير إذ كان يعلم أن هذا الشارع لا يقيم فيه إلا الأشراف وقال: كيف اتفق وجودك هنا يا سيدي؟ - لم يكن اتفاقا، بل قد أتيت خصيصا لسؤال هذا الرجل عن امرأة حاول أن يقتلها وعن غلام كان يسجنه.
وعندها تقدم بوليت وقال: اطمئن يا سيدي إن المرأة والغلام بخير وأنا أزودك من أخبارهما ما تريد.
فنظر مرميس إلى هذا فرأى الذكاء يتوقد بين عينيه.
49
وحدث سكوت قصير، فإن الفرنسي بطبعه سريع الفهم.
وكان مرميس يشبه بوليت في أنه نشأ منشأ غلمان باريس، فنظر كل منهما إلى الآخر نظرة واحدة، عرف كل منهما منزله الآخر، فعرف مرميس أن بوليت يشبهه، حين كان في الثامنة عشرة من عمره، وعرف بوليت أن مرميس من أولئك الغلمان الذين يرتقون بالذكاء والجد والاتفاق.
فاكتفى مرميس بهذه النظرة وعاد إلى القومسير وقال: إن هذا الفحام يا سيدي سيجيبك عن كل جرائمه الكثيرة التي ارتكبها، وأن ذلك من شأنه وليس من شأني، إنما أرجوك أن تأذن لي بإيضاح الحالة بعض الإيضاح منعا للإشكال.
فاعلم أنه يوجد في باريس شرطي إنكليزي أرسل إلى لندرا بمهمة اقتفاء أثر بعض أولئك الأرلنديين البؤساء المتهمين بالثورة على إنكلترا.
فهز القومسير كتفه وأبدى إشارة تفيد أن فرنسا لا تهتم بتنفيذ مآرب إنكلترا.
فأدرك مرميس معنى إشارته وقال: إن فرنسا تود أرلندا كما تود البولونيين وكل شعب مضطهد مظلوم.
أما هؤلاء الأرلنديون الذين ذكرت لك أمرهم، فقد جاءوا إلى باريس، ومعهم حوالة مالية علي، وهم رجل وامرأة وغلام، فكان يعمل هذا البوليس الذي يقتفيهم على إخفاء الرجل والمرأة والعودة بالغلام إلى لندرا.
فقال له القومسير: إني أعرف هذه الحكاية، فإن هذا الشرطي يدعى السير جمس وود وقد طلب إلينا مساعدته في مهمته، فاعتذرنا بحجة أن ذنوب الأرلنديين سياسية محضة فلا بد لفرنسا بالقبض عليهم، ولكني لم أعرف غير هذا. - إذا، اسمع النتيجة. إن هذا الشرطي أبعد الرجل الذي كان يصحب المرأة والغلام، ثم جاء بهما إلى منزل هذا الرجل الذي قبضت عليه، فألقى المرأة في البئر.
والغلام؟
قال بوليت: إني أنقذته وهو مع الوالدة.
وأوشك الفحام أن يجن من اليأس.
أما القومسير فإنه قال للحضور: إنكم تستطيعون أن تنصرفوا، وإن كنا في حاجة إلى شهادتكم دعوناكم.
ثم أمر الجنديين أن يخرجا بالفحام فدافع دفاع القانطين، ولكنهما غلباه وقيداه وأخرجاه مقيدا مغلولا.
ونظر إلى بوليت نظرة ملؤها الحقد وقال: سوف ترى ما يكون مني إذا قدر لنا أن نلتقي.
فضحك بوليت وقال له: ستفصل المشنقة بيننا، ويموت حقدك في قلبك. •••
بعد ذلك بساعة، كان مرميس وميلون وشوكنج وجواني مجتمعين في منزل بوليت.
وكانت هناك الأرلندية وابنها وبوليت وأمه بولينا، فلما رأت الأرلندية شوكنج ارتاحت كل الارتياح.
فقال لها شوكنج: لم يبق لدينا ما نخشاه أيتها العزيزة فإن أصدقاء الرجل العبوس يتولون حمايتنا.
فقال مرميس: هو ما تقول، ولكن الرجل العبوس؛ أي روكامبول، محتاج إلينا. - إن مس ألن تقول هذا القول ولكنها ألد الأعداء. - لقد كانت من الأعداء. - وهي لا تزال. - من يعلم؟
ثم نظر إلى بوليت وقال له: إن ما رأيت منك يدل على الذكاء وطيب السريرة، فاسمح لي أن أكافئك على جميلك فقل لي: ماذا تريد أن تكون؟
فلم يجب بوليت بشيء، ولكنه جعل ينظر إلى أمه وبولينا.
فتولت أمه الجواب وقالت لمرميس: إن ولدي يكون سعيدا إذا وجد محل يخدم فيه.
وقال بوليت: وأنا أقنع براتب ألف فرنك في العام.
وقالت بولينا: أما أنا فإني أشتغل في عملي عند ذلك وأتزوج بوليت فأغدو معه كبنات الملوك.
فابتسم مرميس وقال لها: في أي شارع تريدين أن تكوني؟ - في شارع تمبل. - سيكون لك ما تريدين.
فقالت أم بوليت: وولدي؟ - سيعمل في خدمتي وأجعله كاتم أسراري.
فصاحت بولينا صيحة فرح وأسرعت إلى بوليت تعانقه.
فابتسم مرميس وقال: وسيكون راتبك ثلاثة آلاف فرنك بدلا من ألف فرنك، ولما كان الزواج يقتضي له نفقات فاسمح لي أن أقدم لخطيبتك هدية العرس.
ثم فتح محفظته وأخرج منها ستة آلاف فرنك أوراقا مالية، ودفعها إلى بولينا.
فاحمر وجه الفتاة وامتنعت عن أخذها.
فقال لها مرميس: خذي يا سيدتي ما أعطيتك إياه، فإني واسع الثروة بفضل فتاة كانت تحبني، وأورثتني هذه الثروة على شرط أن أنفقها في سبيل الخير.
ثم نظر إلى بوليت وقال: اجتهد أن تسرع في زواجك؛ لأني محتاج إليك وسأسافر إلى لندرا في قريب.
وظهر على بولينا علائم الاستياء وخشيت من الفراق.
وأدرك مرميس معنى استيائها وقال لبوليت: وستصحب امرأتك، فتمضيان شهر العسل في بلاد الإنكليز.
فتعانق الخطيبان عندها وذرفت من عينيهما دموع السرور.
50
ولنعد الآن إلى شخص من أشخاص هذه الرواية الذي طال سكوتنا عنه، نريد به مس ألن.
إن مس ألن كانت سجينة في سجن سانت لازار، ولكنها لم تكن مختلطة مع المسجونات؛ لأنهم راعوا مقامها ومقام والدها اللورد.
ويذكر القراء أنها كانت قبل إدخالها إلى السجن في مستشفى مجانين يتولاه طبيب خاص، وقد تعهد هذا الطبيب أن يحتفظ بها ثمانية أيام، مقابل مبلغ من المال.
وكان السير جمس يرى أن هذا الوقت كاف؛ إذ كان ينتظر في خلاله قدوم اللورد بالمير.
ولكن الزمن المعين مضى ولم يحضر اللورد بالمير.
وكان بوسع الطبيب أن يتعهد بالاحتفاظ بالفتاة ثمانية أيام أخرى، غير أنه حدث حادث لم يكن يتوقعه فحال دون قصده، وذلك أن طبيبا شابا كان معينا في ذلك المستشفى وقد تفقد مس ألن مرارا فأدرك أنها على أتم العقل ولا أثر فيها للجنون.
وكانت الفتاة قد ضغطت عليه، وأثرت فيه تأثيرا عظيما، فذهب إلى مدير المستشفى وقال: إنك تسجن في هذا المستشفى فتاة غير مجنونة، فإذا لم تطلق سراحها فإني لا أشكوك إلى البوليس، بل إلى الجرائد؛ أي لسان الرأي العام.
فخاف المدير أن تفضح الجرائد أمره، وكتب لفوره إلى السير جمس، فاضطرب السير وخشي أن تفر الفتاة منه، فاستعان بالسفارة وطلبت السفارة إلى الشرطي حجز الفتاة مؤقتا، في محل لا يتيسر لها الفرار منه؛ لأنها قاصرة.
فأجاب الشرطي طلب السفارة ونقلت الفتاة من المستشفى إلى سجن سانت لازار في عربة مقفلة، وأعدت لها فيه غرفة خاصة في رواق الراهبات وخادمتان لخدمتها ومنعوا عنها كل اتصال بالسجينات.
على أنها كانت سجينة، وقد علمت لأول وهلة أنهم يحرصون عليها كل الحرص، فأيقنت أن لا سبيل لها إلى الفرار وكاد يستولي عليها القنوط.
ولم تكن تفكر إلا بالرجل العبوس، وأنه في السجن بين أيدي قضاته الذين لا يرحمون.
وكانت ترجو أن يساعدها ذلك الفتى البناء المنكود، وهو الرجل الوحيد الذي كانت تعتمد عليه في إنقاذها، غير أنها لم يردها شيء من أخباره.
ولم تكن تعلم إذا كان قد أخبر ميلون المقاول بأمرها، وإذا كان ميلون هو نفس الذي ينتظره الرجل العبوس في لندرا.
وقد كانت تفكر الليل والنهار في هذه المسائل فلا تهتدي إلى حلها؛ لأنها لم تكن ترى غير الخادمتين ولا تجسر على أن تسألهما شيئا.
غير أن إحدى هاتين الخادمتين قالت لها يوما، وهي تعد لها الطعام: إن الراهبة أرسيل ستزورك اليوم.
فتعجبت مس ألن لهذه الزيارة وقالت لها: إني لا أعرف هذه الراهبة، فمن هي؟ - إنها ملاك بصورة إنسان، وحبذا لو كنت في خدمتها. - ولكن لماذا تريد أن تزورني؟ - لا أعلم، ولكن الذي أعلمه هو أنها التمست من الرئيسة أن تأذن لها بمقابلتك.
فشعرت مس ألن بأمل جديد قد تولد في نفسها ، فإنها لم تكن ترجو الهرب من السجن بمساعدة هذه الراهبة، ولكنها كانت ترجو أن تعهد إليها بالبحث عن ميلون وفاندا وإخبارهما عن روكامبول.
وبعدها بساعة فتح باب غرفتها ودخلت منه راهبتان.
وكانت إحدى الراهبتين شقراء والثانية سمراء، فدنت الشقراء من المس ألن وقالت لها باللغة الإنكليزية: أعلمي يا مس ألن أن هذه الراهبة التي تصحبني لا تفهم اللغة التي أكلمك بها، ولم أكلمك بلغة قومك إلا لأني لا أريد أن تفقه الراهبة شيئا مما أقول لك.
واحذري أن يبدو منك أقل أثر من الاضطراب مما سأقول لك، والزمي السكينة التامة؛ لأني قادمة لإنقاذك، وأنا قادمة من قبل الرجل العبوس.
فخفق قلب الفتاة سرورا، ولكنها تجلدت وقالت لها: إذا كنت آتية من قبل الرجل العبوس، فلا بد أن تكوني عارفة أنه عرضة لخطر شديد. - نعم وهو خطر الموت إعداما.
فاصفر وجه الفتاة اصفرارا شديدا لم يخف على الراهبة الشقراء فقالت في نفسها: إنها تهواه.
ثم قالت لها: ولكنك من ألد أعداء الرجل العبوس. - لقد كنت من أعدائه يا سيدتي. - والآن؟
فأطرقت مس ألن بنظرها إلى الأرض وقالت: والآن فإني أحبه، وقد أحببته في تلك الساعة الهائلة التي خنته فيها فنصبت له الشرك وسلمته بيدي إلى الجلاد.
ثم قصت عليها بإيجاز ما جرى لها مع روكامبول، وكيف نصبت له المكيدة؟ وكانت تتكلم بلهجة تشف عن الصدق والإخلاص.
أما الراهبة فقد أصغت إليها إلى أن أتمت حديثها فقالت لها: لقد وثقت يا سيدتي بصدق إخلاصك، وسننقذ الرجل العبوس، ولذلك سنسافر مساء غد إلى لندرا أنا وأنت وآخرون.
فتعجبت مس ألن مما سمعته وقالت لها: ولكن من أنت يا سيدتي؟ - إني أدعى فاندا وقد أحببت قبلك الرجل العبوس.
وقد خفضت فاندا عينيها استحياء حين جهرت بهذا الحب، ثم نظرت إلى مس ألن فرأت أن بارق الغيرة قد اتقد في عيني الفتاة، فابتسمت فاندا وقالت لها: لا تتعبي نفسك بالغيرة فإنه يجب أن يحبك أنت.
فتشاغلت مس ألن عن هذا الموضوع وقالت لها: ولكن كيف تقولين إني مسافرة معك إلى لندرا وأنا سجينة هنا كما ترين؟ - لقد أعددت لك طريقة الخلاص.
51
ولا بد لما لنعلم كيف أعدت فاندا لابنة اللورد طريقة الخلاص أن نعود إلى السير جمس وسميث.
ويذكر القرار أننا تركناهما سجينين في منزل ميلون، وقد نزلت لهما أرض الغرفة التي أدخلا إليها في أعماق مجهولة مظلمة.
وقد استمرت أرض الغرفة تنزل نزولا بطيئا نحو أربع دقائق مرت بالرجلين مرور الأدهار لشدة ما لقياه من الرعب.
ثم استقر ذلك السقف الذي هوى بهما، ولكنهما لم يعلما أين كانا لاربداد الظلام، فقد كان الظلام حالكا ورعبهما شديدا، فلبثا هنيهة لم يجسر أحد منهما على أن يفوه بكلمة.
إلى أن افتتح السير جمس الحديث بشتم الفرنسيين أقبح شتم.
وقال سميث: إني أقسم بحامي إنكلترا أني لم أقرأ في روايات ألف ليلة وليلة ما يشبه الرواية التي يمثلونها بنا.
فقال السير جمس، بعد أن مل من الشتائم ولم يدع في قاموس السباب كلمة: ولكن أين نحن الآن؟ - أظن أننا في قبو ومع ذلك فسنرى.
وأخرج من جيبه علبة الكبريت الشمعي، فأضاء عودا ثم ثانيا فثالثا، وكان هو يضيء الشمع والسير جمس يبحث، حتى علم أنهما في محل يشبه بئرا نضبت مياهها، وأنهما على مسافة عشرين مترا في جوف الأرض.
وقد رأى أن بناء البئر حديث فنقر سميث بيده على الجدار فوجد أنه شديد الصلابة وأيقن أنه لا سبيل إلى الفرار.
والحقيقة أنهما كانا في البئر، وأن ميلون كان قد حفرها خاصة لتجريب آلة تسهل طرق البناء، وهي آلة تصعد وتنزل بلولب يدار كما يريد صاحبه فتغني عن السلالم.
وكان مرميس يعلم سر هذه الآلة وهذه البئر، فاستخدمها لسجن البوليس.
أما السير جمس ورفيقه اللص، فإنهما أنارا جميع عيدان العلبة حتى علما كيف سقطا إلى الهاوية.
وكان السير جمس قد عادت إليه سكينته بعد ذلك الغضب والحمق فقال لرفيقه: ماذا يريد أن يصنع بنا هؤلاء الأشقياء. - لا أعلم ولكنهم يستطيعون قتلنا ودفننا في هذه البئر. - أكيد ولكنهم لم يقتلونا؛ لأنهم يريدون استخدامي كما أراه.
ولم يكد يتم كلامه حتى اهتز بهم اللوح الذي كانا عليه؛ لأن مساحته كانت قدر مساحة البئر.
فقال اللص: أتراهم يريدون إنزالنا أيضا؟
كلا، وأظن أنهم سيصعدون بنا.
وقد أصاب السير جمس في ظنه؛ لأن المصعد ما لبث أن اهتز حتى أخذ بالصعود تباعا فقال في نفسه: إنهم يحاولون تخويفنا.
وعندها نظر السير جمس إلى العلاء، فرأى نورا ورأى مرميس مطلا من حافة البئر.
وبقي المصعد آخذا بالارتفاع إلى أن وصل إلى مسافة ثلاثة أقدام من فم البئر، فأوقفه مرميس ومد يده إلى سميث فقال له: تعال أنت.
وحاول السير جمس أن يقتدي به، ولكن مرميس أسرع إلى إدارة اللولب فبدأ المصعد بالنزول.
وعندها قهقه مرميس ضاحكا وقال له: لا فائدة لنا على الإطلاق من سجن هذا اللص معك، وخير لنا أن تكون وحدك فإن الخلوة تدعو إلى الإمعان والتفكير.
فصاح السير جمس صيحة الرعب، وتوارى في الظلمات وسقط إلى حيث كان. •••
وقد توالت الساعات دون أن يناديه أحد، وخطر له خاطر كاد يجن له من الرعب إذ قال في نفسه: إن هذا الرجل قال لي: إنه يعرف أين هي مس ألن، وإنه غير محتاج إلي في سبيل إنقاذها، وقال أحد رجاله: إنه يعرف شاباروت إذا هم غير محتاجين إلي، ومن يعلم ما يكون من شأني معهم فقد يكون مرادهم أن يقتلوني حيا.
وعندها شعر هذا الرجل الذي خان أرلندا فجأة بعذاب جديد؛ لأن الجوع قد عضه بنابه وبدأ يشعر بآلامه.
وكان قد نام عشرون ساعة لم يذق في خلالها طعاما ولا شرابا، فأيقن أنه دفن حيا في تلك البئر.
ثم برح به الجوع والخوف وتلاهما حمى عقبها اضطراب في الدماغ مثل لعينيه أمورا غريبة وتصورات هائلة؛ إذ تمثل له أن الأرلنديين يحيطون به من كل جانب ويتشاورون في طرق تعذيبه فيصيح صياحا منكرا، ويستغيث منهم بهم إلى أن ينقطع صياحه، ويستفيق من ذهوله، فتنقشع هذه الأحلام وتزول هذه الخيالات ويعود هداه، فيشعر بآلام الجوع ويجد من عذابه فوق ما كان يجد من آلام الأحلام، ثم تتوالى الساعات ويمر الوقت دون أن يتحرك اللوح الذي كان عليه ودون أن يسمع حسا.
وبعد أن أحس أنه يقاسي آلام النزع شعر أن اللوح قد تحرك، ولم تكن الحمى مثلت له هذه الحركة، بل إن اللوح تحرك حقيقة، وشعر السير جمس أنه يصعد إلى العلاء.
وقد كان فرحه لا يوصف حين رأى النور يتلألأ عند فم البئر، وحين رأى مرميس وبيده المصباح.
وقد كان سروره عظيما؛ لأنه رأى وجه إنسان بعد الوحشة، ورأى نورا بعد الظلمة، فرجا أن يبل حلقه ولو بقطرة ماء.
ثم وقف المصعد بغتة، ورأى السير جمس أنه يبعد عن فم البئر نحو أربعة أمتار، وسمع مرميس يقول بلهجة الهازئ: إني يا سيدي خادمك المطيع.
ورد السير بصوت مختنق: إنك أطلت سجني، فإن العادة في إنكلترا أن يطعموا المسجونين مرتين في اليوم. - يسوءني أن أجدك جائعا غير أني اضطررت إلى إهمال أمرك لكثرة ما طرأ علي من المشاغل بعد أن تشرفت بلقائك.
ورد السير بلهجة دلت على فراغ صبره قائلا: ولكن هذه الآلة الجهنمية قد وقفت وامتنعت عن الصعود. - وأية فائدة من بلوغها إلي، فقد أوقفتها عند الحد الذي يمكننا المباحثة فيه.
فاحتدم السير غيظا وقال: ألعلك تريد إلقائي في البئر؟ - معاذ الله أن أكون من الظالمين، ولكني مضطر إلى إبقائك في سجنك إلى أن تردني أوامر جديدة. - من أين تنتظر ورود هذه الأوامر؟ - إنها على أسلاك البرق من وراء المانش؛ أي من عاصمة بلادكم.
فارتعش السير وأتم مرميس حديثه فقال: قد تقدم لي القول: إنه طرأ علي من المشاغل بعد أن تشرفت بلقائك، وكان أول هذه المشاغل التي دعتني إلى نسيانك أني أنقذت رالف وأمه.
فدهش الشرطي وظهر عليه ما دل على عدم التصديق.
فقال له مرميس: إن الأم لم تمت كما توهمتم، وإنكم ألقيتموها في البئر، ولكنها لم تغرق.
ثم قص على السير جميع ما جرى للأم والصبي .
ولو تلقى السير مثل هذا الخبر في الليلة الماضية لجن من اليأس غير أن قواه كان أنهكها الجوع، فتلقى هذا الخبر المؤلم دون اكتراث.
وعاد مرميس إلى الحديث فقال: ثم إني أرسلت رسالة برقية إلى الأب صموئيل في لندرا، وهو الذي أخبرتنا عنه مس ألن.
وأن هذه الفتاة لا تزال في سجن سانت لازار، حيث وضعتها، ولكننا نستطيع مخابرتها.
أما الرسالة التي أرسلتها إلى الكاهن، فقد ذكرت له فيها صفاتك وعلائمك، وأخبرته أنك كنت من الأرلنديين وسألته ما يريد أن نصنع بك فوردني الجواب الآتي فاسمع: ثم أخذ رسالة من جيبه ففتحها وقرأ بصوت مرتفع ما يأتي:
إن جمعيتنا السرية عرفت الرجل الذي وصفتموه فهو يدعى ولهم هولا قبل أن يخوننا، وقد اختفى منذ خمس سنين حتى حسبناه ميتا، افعلوا به ما تشاءون، وإذا أرسلتموه إلى إنكلترا فلا يلقى غير موت هائل فظيع يعاقب به كل من يخوننا.
أما الرجل العبوس فلا يزال سجينا أسرعوا بالحضور.
ثم طوى الرسالة وردها إلى جيبه وقال للسير بلهجة دلت على الثبات: إنك تعلم يا سير جمس ما يكون من عقابك إذا أرسلناك إلى إنكلترا ودفعناك إلى إخوانك الأرلنديين الذين خنتهم.
ورد السير بصوت مختنق: إذا اقتلني هنا فذلك خير لي. - إني كنت عازما على أن أقترح عليك الموت في هذه البئر.
وضاق صدر السير جمس وقد برح به الجوع فصاح يقول: اقتلني كما تشاء، لكن لا تقتلي جوعا وأرسل لي طعاما.
فأجابه تلميذ روكامبول: إنها أمنية بعيدة، فقد قضي عليك أن تموت جوعا. - إذا أغثني بجرعة ماء على الأقل. - إني أعطيك ما تشاء من طعام وشراب إذا كنت تفعل ما أريده منك. - قل ما تريد. - هذا ما كنت أتوقعه منك؛ لأن الجوع لا بد أن يفضي إلى الامتثال والخضوع، فانتظرني قليلا ريثما أعود.
ثم تركه وذهب بالمصباح، فبقي السير جمس في الظلمة الدامسة.
وغاب مرميس دقيقتين لم يمر بالسير جمس دهرا أطول منهما إلى أن عاد مرميس يحمل بإحدى يديه مصباحا وبالأخرى محفظة تحتوي على كل أدوات الكتابة فوضع المصباح عند فم البئر بشكل يظهر له منه وجه السير جمس ولا يفوته شيء من عوامل تأثره وقال: سوف ترى يا سيدي فإني أرجو أن نتمكن من الاتفاق.
ثم أخذ كرسيا وأنزلها إلى السير جمس وقال له: اجلس على هذا الكرسي فلا بد لك من الراحة.
ولما جلس قال مرميس: خذ أيضا هذه الطاولة والمحفظة بحيث إنك لم تعد محتاجا إلا للمصباح.
فأخذهما السير جمس وقال: لكني أريد أن أشرب. - سأعطيك كل ما تريد إذا اتفقنا، فخذ الآن المصباح.
ثم أدنى له مصباحا مقفلا مربوطا بخيط متين.
فأخذهما السير جمس أيضا وقال بصوت أبح، كأنما النار قد أحرقت حلقه: أغثني بشربة ماء. - لقد قلت لك: إني سأعطيك كل ما تحتاج إليه من طعام وشراب إذا اتفقنا. - ولكن ماذا تريد مني؟ - أريد أن تكتب عشرة أسطر. - لمن؟ - إلى مدير البوليس.
فظهرت على السير جمس علائم الأنفة والبسالة بالرغم عما كان يلقاه من الجوع والظمأ. - إني علمت ما تريد مني، وهو أن أكتب إلى مدير البوليس كي يطلق سراح مس ألن، ولكني لا أكتب تلك السطور وأؤثر أن أموت جوعا.
فأجابه ببرود قائلا: كما تريد هذا من شأنك، ثم أدار اللولب فعاد السير جمس إلى النزول، وسمع مرميس يقهقه ضاحكا.
غير أن الظلام لم يكتنف السير جمس حسب العادة، بل إنه كان يرى كل ما يحيط بنور المصباح الذي كان يهوي معه، وكان لديه كرسي يجلس عليها بدلا من الجلوس على الأرض.
وعند ذلك بات هذا الرجل عرضة لعاملين عامل الوفاء والكبرياء، وعامل الجوع وحب الحياة.
غير أن هذين العاملين لم يطل تنازعهما، فإن الجوع قد أنهك قواه وأحرق الظمأ أحشاءه فآثر الحياة على الواجب وتغلب جوعه على الكبرياء، فجعل يصيح مناديا مرميس بأعلى صوت، فلم يجب غير الصدى.
وما زال المصعد يهوي حتى استقر فعاد إلى الصياح، ثم جعل يضرب بالكرسي على الطاولة فلم يجب أحد.
ولكنه رأى فجأة أن المصباح معلق في خيط، فقال في نفسه: لا بد أن يكون هذا الخيط متصلا بجرس في فم البئر، وقد ربطوه خاصة كي أنبههم حين إذعاني.
وعند ذلك أخذ الخيط وشده فأخذ اللوح يصعد به للفور حتى وصل إلى قرب فم البئر وظهر مرميس وقال له: لا شك أنك رضيت بما اقترحته عليك بدليل صعودك. - أغثني بشربة ماء أفعل كل ما تريد. - ابدأ أولا بفعل ما أريد وأنا أرسل لك خير ما تشتهيه من الطعام.
فشعر السير جمس أنه مغلوب وأخذ القلم ليكتب فقال له مرميس: اسمح لي أن أملي عليك ما أريد أن تكتبه.
ثم أملا عليه ما يأتي:
سيدي المدير
لقد وردت لي رسالة برقية من لندرا أمرت بها أن أسافر في الحال ولذلك أرسلت إليك بزميلي البوليس إدوارد راجيا أن تدفع إليه الأسيرة.
فدهش السير جمس وأدرك مرميس سر اندهاشه فقال له: إن رفيقك اللورد لا يتصعب مثلك وهو يخدم من يدفع له ما يرضيه.
فلم يجب السير جمس ولكن كتب ما أملى عليه وأمضى الكتاب، فأدار مرميس اللولب فصعد إلى فم البئر فأخذ الكتاب من الشرطي وظهر عند ذلك ميلون يحمل صينية عليها شراب وطعام فاخر.
فلم يكد السير جمس يرى آنية الماء حتى اختطفها وأفرغها في جوفه ثم أسرع إلى قطعة من الخبز فقال له مرميس: لا تزدرد الطعام كما تفعل فقد تختنق، وإني أدعو لك بحسن الشهية.
ثم أدار اللولب، فعاد اللوح إلى السقوط ولكن السير جمس لم يحزن لسقوطه هذه المرة، فقد هبط معه النور وصينية الطعام والشراب.
52
ولما خلا المكان بمرميس وميلون فحص مرميس كتاب السير جمس وقال لميلون: إننا نستطيع بعد هذا الكتاب أن نسافر غدا إلى لندرا. - ومس ألن؟ - إنها تسافر معنا؛ لأننا سنخرجها من سجنها بفضل هذه الرسالة. - والسير جمس؟ - إنه يصحبنا في هذه الرحلة. - ولكنه يخوننا دون شك.
فابتسم مرميس وقال: إنه متى وصل إلى لندرا لا أخشاه؛ لأن الأرلنديين قد عرفوه الآن، وهم يعدون له أفظع عقاب، فإذا وعدناه بكتمان أمره عنهم يخدمنا كما نريد بملء الإخلاص والوفاء. - إني أتمنى هذه النهاية، ولكنه قد يهرب منا قبل أن نصل به إلى إنكلترا. - ولكنه لا يستطيع الفرار قبل غد في كل حال. - ذلك أكيد، فإنه لا يتمكن أن يخرج من البئر. - وفوق ذلك فإنه لا يخرج منها خروج رجل، بل خروج طرد بضاعة. - الحق لا أفهم ما تقول.
فضحك مرميس وأجاب: أيها الأبله العزيز، إنك لو كنت تفهم كل شيء لما استطعنا أن ندهشك بالغرائب من حين إلى حين.
فامتعض ميلون لكلامه ولكن مرميس علل استياءه بشيء من المزاح وقال: إن الصباح قد طلع فادع لي الشرطي إدوار؛ إذ يجب أن يذهب بهذه الرسالة إلى مدير الشرطة، ويجب أن تخرج مس ألن من سجن سانت لازار قبل الظهر. •••
يوجد على قيد خطوتين من ترعة سانت مرتين مستشفى القديس لويس وهو قائم في وسط أجمل بقعة تكتنفها الأشجار فتلطف هوائها وتدخل الشمس إليه من كل النوافذ.
هناك نقلوا ذلك الفتى البناء المنكود الذي سقط عن اللوح وهو يحاول إنقاذ مس ألن كما ذكرناه في بدء الرواية.
ولقد كان الطبيب قال عنه: إن حالته خطيرة ولكنها لا تحمل على اليأس، ولبث هذا المسكين ثمانية أيام بين الموت والحياة، ثم مضى الأسبوع وتغلبت الحياة بفضل ذلك المساعد القادر، وهو الشباب، ثم إن الراهبات والممرضين كانوا يعتنون به كل الاعتناء لإشفاقهم عليه منذ أول يوم رأوه، لا سيما بعد أن عرفوا حكايته والسبب في سقوطه، وكانت مروءته وبسالته أعظم دافع إلى هذا الحذو والإشفاق عليه.
وكان ميلون قد أرسله إلى ذلك المستشفى وتولى دفع النفقات عنه، وأوصى أن لا يقتصدوا في معدات راحته، فكان يزوره كل يوم ويتفقده، كما كان يزوره كل زملائه البنائين، ولا يتحدثون في ذلك المستشفى إلا بأمره.
وقد اتفق أن سيدتين عظيمتين أقبلتا لعيادة هذا البناء الفقير، فدهش العمال والممرضون لزيارتهما، لا سيما لما رأوه من باهر جمالهما ومظاهر عظمتهما.
وكانت المرأتان في عهد الشباب، ولكن إحداهما كانت أكبر سنا من رفيقتها وكلتاهما مبرقعتان ببرقع كثيف.
فلما علم الفتى بأن سيدتين قادمتان لعيادته خفق قلبه، حتى إذا دنت منه المرأتان، ورفعت الصغرى برقعها صاح البناء صيحة دهش وفرح؛ لأنه عرف أن هذه الفتاة القادمة لعيادته هي مس ألن التي أصيب بما أصيب من أجلها.
أما مس ألن فإنها ابتسمت وقالت له: أرجوك أن لا تكون حاقدا علي، فإني لم أزرك إلى الآن؛ لأني كنت سجينة ولم أخرج من سجني إلا اليوم، فكانت عيادتك أول زيارة لي فعلتها.
ولم يجد الفتى ما يجيب به وجعل ينظر إلى الفتاة نظرات الشغف، فقالت له مس ألن: إني سأبرح فرنسا أيها الصديق، ولكني سأعود إليها فأراك ولا أنساك.
وكانت المرأة الثانية التي تصحبها هي فاندا وقالت: ونحن أيضا لا ننساه.
وعند ذلك جلست مس ألن قرب سرير الفتى فأخذت يده بين يديها وقالت له: أليس لك أهل أيها الصديق؟ - نعم، يا سيدتي لي أم فقيرة أرسل إليها نصف ما أكسبه عندما يتيسر لي العمل، ولكن المسيو ميلون وعدني أن يتولاها بعنايته إذا مت على أثر جرحي.
وأجابته بصوت حنون: إنك لا تموت أيها الصديق فقد زال عنك كل خطر بحمد الله، وفوق ذلك فإني لا أريد أن يتولى سواي العناية بأمك فقل لي: ماذا تشتغل أمك؟ - إنها لم تعد تستطيع العمل لعجزها. - ولكني سأمنحها منزلا، وأعين لها خادمة تخدمها ما دامت في قيد الحياة، وخذ هذا المال فإنها تأمن به شظف العيش.
ثم أخذت محفظة جلد جميلة من جيبها وأخرجت منها أوراقا مالية قيمتها عشرون ألف فرنك ودفعتها للفتى البناء، فجال الدمع من عينه ولم يتمكن من شكرها.
وعلمت مس ألن ما كان يجول في نفس هذا الفتى العامي الذي تجاسر أن ينظر إليها نظرة شغف بملء الاحترام.
فقالت له: إني ضمنت مستقبل أمك، وأما أنت فسأفيك ما علي حين أعود.
ثم مدت إليه يديها الجميلتين فأدناهما من شفتيه ولثمهما وهو يرتجف.
53
بينما كانت مس ألن تودع الفتى البناء كان مرميس وميلون يتأهبان للسفر إلى لندرا.
وقد أدار مرميس لولب المصعد وأصعد السير جمس إليه فقال له: قد أطلعتك على الرسالة التي وردت من الكاهن صموئيل، وقد علمت أن الأرلنديين حكموا عليك بالإعدام، وأنا حر أن أصنع بك ما أشاء، غير أني أقول لك لا تخف فإن أمر حياتك موكول إليك إذ رضيت أن تخدمني فيما أريد، ثم إني أعدك بعفو الأرلنديين عنك إذا رجعت عن خيانتهم وعدت إلى خدمتهم بإخلاص.
وظهرت على السير جمس علائم الرعب لذكر الأرلنديين فقال له مرميس: إنك ستبرح باريس في هذه الليلة وفي صباح غد تصل إلى لندرا.
وكان بالقرب منه صندوق يبلغ طوله مترين، فأشار مرميس إليه وقال للسير جمس: أترى هذا الصندوق؟ - نعم. - إنك ستسافر في هذا الصندوق، فإني لا أحب أن تهرب منا قبل وصولنا إلى إنكلترا.
ثم أشار إلى ميلون فأحضر له زجاجة مختومة وقدحا ففض مرميس ختم الزجاجة وصب ما كان فيها بالقدح وقدمه للسير جمس وقال: اشرب.
ولكن البوليس امتنع عن أخذ القدح وقال: من يضمن لي أنه ليس في القدح سما. - ليس فيه غير مادة مخدرة. - لكن من يضمن لي صدق ما تقول؟ - يضمنه هذا المسدس.
ثم أخرج من جيبه مسدسا وصوبه على السير جمس وقال: اشرب أو أطلق النار.
وعلم السير جمس من اتقاد عينيه صدق عزيمته وقال في نفسه: إذا لم يكن من الموت بد في الحالتين، فإن موت السم أفضل، وقد يكون الرجل صادقا ولا يكون المراد غير تخديري، ثم أخذ القدح وشرب ما فيه جرعة واحدة، فشعر للفور ببرود شديد تولاه، ولم يكد الشراب يستقر في جوفه حتى أطبقت عينيه وسقط على المقعد دون حراك.
فنظر مرميس إلى ميلون وقال له: قل للعصابة تتأهب فقد قضي الأمر ونحن ذاهبون لإنقاذ رئيسنا روكامبول.
روكامبول في السجن
روكامبول في السجن
روكامبول في السجن
روكامبول في السجن
روكامبول (الجزء الخامس عشر)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
روكامبول في السجن
1
مر شهر بعد قبض الجنود على روكامبول في منزل مس ألن حين وافاها إليه من ذلك الدهليز السري.
ويذكر القراء تلك الكلمات الأخيرة التي قالها لمس ألن، وهي توشك أن تجن من فرط حزنها، قال لها: اذهبي إلى باريس، وعودي بميلون ورفاقه.
ثم مشى مع الجنود إلى السجن بأتم السكينة.
ولما وصلوا به إلى سجن نوايت الرهيب وجد فيه كثيرا من الجنود فاستدل من ذلك على مبالغة الأسقف بترس توين بالحذر، وأن القبض عليه كان مدبرا خير تدبير.
وقد كان في طليعة أولئك الجنود حاكم السجن نفسه وهو محاط بحراسه فحياه روكامبول تحية الصديق للصديق، فقال له الحاكم وقد عرفه: إنك قد عبثت بي مرة حين أنقذت ذلك من السجن، ولكنك لا تجد من ينقذك، فسنحرص عليك أشد الحرص.
فابتسم روكامبول، وقال: إنك تحسن صنعا. - وسأتولى حراستك بنفسي فقد علمنا الآن أنك أحد هؤلاء الزعماء الإرلنديين الذي طالما أقلقوا خواطر إنكلترا.
فأجابه بسكينة: إن ذلك من الممكنات. - ولا بد لي من إخبارك أن يوم إعدامك سيكون بعد ثلاثة أسابيع أو شهر. - إني أشكرك يا سيدي لهذا التفاؤل.
وكان الحاكم لا ينفك عن الابتسام لروكامبول، فقد كان هذا الرجل طروبا بالفطرة، وكان يرى ذلك السجن الرهيب المظلم من أجمل قصور الأرض فوضع يده فوق كتف روكامبول، وقال له: لدي نبأ أخبرك به، وأرجو أن يسرك، فإن أمرك منوط بي في هذا السجن، وأنا حر في معاملة المسجونين كما أشاء.
وبوسعي أن أخفف وطأة سجنهم إذا أردت، والذي يبدو لي منك أنك كريم الأخلاق وافر الأدب، ومن كان مثلك وجبت رعايته ولا يجمل بمثلي أن يعامله معاملة أدنياء المجرمين. - إني أشكرك كل الشكر يا سيدي ولا أنسى لك هذا الإحسان. - والحق إني ميال إليك وإني أجاهر بحبي للفرنسيين، ولا أخشى لومة لائم، وفوق ذلك فإنك كما قلت لا رجاء لك بالحياة أكثر من شهر، فلا أحب أن تعذب في خلاله، ولذلك أعددت لك وسائل الراحة، وستجد في غرفتك سجينا آخر يؤاسيك وتؤاسيه، وقد أذنت لك بمطالعة الكتب وقراءة الجرائد.
فقال له روكامبول: أتأذن لي بالكتابة أيضا؟ - دون شك.
ثم أشار إلى الحراس فذهبوا بروكامبول إلى الغرفة المعدة لسجنه وكان لها نافذة تطل على فناء.
ولما دخل إليها رأى رجلا مضطجعا فوق سريره، فهب من مضجعه، ونظر نظرة وحشية إلى الداخلين.
وكان هذا الرجل في الثلاثين من عمره، طويل اللحية نحيل الوجه براق العينين، فناداه أحد الحراس باسم برنيت وقال له: إنك لا تبيت وحدك بعد الآن.
فأجاب: إن ذلك سيان عندي.
ثم عاد إلى مضجعه دون أن ينظر إلى روكامبول، فلما انصرف الحراس وبات روكامبول وحده مع هذا الرجل نظر إليه مبتسما وقال: إني أراك شديد الكآبة أيها الصديق.
فنظر إليه السجين نظرة إنكار وقال: أتريد أن أكون فرحا طلق المحيا في هذا السجن الضيق؟ - أتقيم طويلا فيه؟ - كلا، إني سأشنق في السابع عشر من هذا الشهر. - أي ذنب جنيت؟
فرسم برنيت علامة الصليب على وجهه، حسب اصطلاح الجمعية السرية الإرلندية.
فدهش روكامبول، وأجابه بمثل إشارته، ورأى وجه الإرلندي قد استنار.
فأشار له روكامبول إشارة سرية أخرى لم يفهمها.
وأدرك لفوره حقيقة أمر هذا السجين وقال: لا شك أن هؤلاء الإنكليز أضعف منا في مجال الحيلة، فإنهم وضعوني مع رجل ليس هو من الإرلنديين ولكنه عرف رموزهم، إنهم يستطيعون أن يجعلوه جاسوسا علي، وسوف نرى ما يكون.
ثم رفع عينيه إلى السماء وقال: لا تأسف أيها الصديق إن الموت في سبيل الإرلنديين خير من الحياة.
2
أما حاكم السجن وهو يدعى روبرت فقد وفى بما وعد به روكامبول، وأنه أرسل إليه كثيرا من الكتب.
ولما أزف وقت الطعام أرسل إليه ولرفيقه، الإرلندي الكاذب، طعاما شهيا.
ولكن روكامبول لم يحدث ذلك الرجل كلمة طول ذاك اليوم وقبل أن تطفأ مصابيح الغاز اضطجع في سريره.
وفي اليوم التالي جاء إليه حاكم السجن بنفسه فقال له: كيف أنت؟
فابتسم روكامبول وقال له: بخير. - أراقت لديك تلك الكتب التي أرسلتها إليك؟ - أشكرك كثيرا إنها من خير ما يقرأ يا حضرة الميلورد. - إني لست لوردا، ولكني غير قانط من أن تكافئني جلالة الملكة فكتوريا بلقب بارون جزاء خدماتي. - إني واثق كل الوثوق من نيلك هذه الأمنية؛ لأنها دون ما تستحق.
فشكره الحاكم وقال: أتريد أن أرسل إليك جرائد؟ - حبذا يا سيدي لو تكرمت بإرسال جرائد بلادي؛ لأن المرء يحن إلى لغته كما يحن إلى وطنه. - سأرسلها إليك هذه الليلة وسأزورك كلما سنحت لي الفرصة فقد أنست بعشرتك فقل لي كم عمرك؟ - تسعة وثلاثين عاما. - من يراك يحكم أنك لا تتجاوز الثلاثين.
فابتسم روكامبول وقال له: ومع ذلك فقد لقيت من المتاعب ما لم يلقه سواي. - ولكنني أعجب لنبيل مثلك كيف ينخرط في سبيل أولئك الإرلنديين الحفاة العراة.
وكان رفيق روكامبول في السجن؛ أي ذلك الجاسوس الذي عينوه لمراقبته واستخراج خفايا أسراره، يسمع الحديث ويمثل دوره أتقن تمثيل، فلما سمع الحاكم يحتقر الإرلنديين تظاهر بالغضب الشديد وتمتم كلمات لا تفهم.
أما روكامبول فقد أجاب الحاكم بقوله: إني قد انضممت إلى الإرلنديين؛ لأني خلقت لنصرة الضعيف والميل معه على القوي.
فوقف الحاكم بالمحادثة عند هذا الحد وانصرف، أما روكامبول فإنه عاد إلى القراءة، دون أن يحادث الجاسوس بكلمة، في حين أنه كان يود أن يسأله ألف سؤال. •••
مضى على ذلك أربعة أيام، كان الحاكم يزور روكامبول في خلالها كل صباح ويحمل معه الجرائد الفرنسية، ثم يغتنم فرصة تشاغل روكامبول بأخذ الجرائد، فينظر نظرة خفية إلى الجاسوس، ولكن هذه النظرة لم تكن تخفى على روكامبول.
فإذا انصرف الحاكم عاد روكامبول إلى القراءة والتفكير.
وكان يقرأ الجرائد الفرنسية بإمعان شديد، فلا يفوته خبر من أخبارها، وبعد ثمانية أيام من إقامته في السجن عثر في جريدة الديبا على المقالة الآتية:
يرى الذين تعودوا النزهة في غابات بولونيا مركبة تسير فيها فتاة حسناء كل يوم، وقد استلفتت الأنظار بجمالها وهي إنكليزية كما يقولون.
ويصحب هذه الفتاة في كل نزهة رجلان، يبلغ أحدهما الخمسين من عمره.
وقد حسبوا في البدء أن هذا الرجل والد الحسناء، ولكنهم رأوا من دلائل نفورها منه واحتقارها إياه ما أبعد عنهم هذا الظن ، وفسح لهم مجال الريب .
وقد رأى الكونت م ... وهو من مشاهير الباريسيين أن الفتاة الإنكليزية أسيرة واللذين يصحبانها من عمال البوليس وقد أرسلا من لندرا فعسى أن يتوفق الكونت إلى كشف هذا السر.
فلما قرأ روكامبول هذه المقالة أمعن في التفكير وتاه في مهامه التصور، ثم قال في نفسه: من عسى أن تكون تلك الفتاة الإنكليزية غير مس ألن، وإذا كانت هي فقد يكون الكونت م ... وقف على الحقيقة، ولا بد أن يكون الأسقف بترس توين واللورد بالمير، أرسلا في أثرها هذين البوليسين.
ثم أطرق مفكرا وقال: إن هؤلاء الإرلنديين ضعفاء لا يقدموا على المخاطرة في سبيل إنقاذي؛ لأني لست إرلندي الأصل، فيجب أن أعتمد على عصابتي أكثر من اعتمادي عليهم وقد أرسلت مس ألن إلى باريس، وقلت لها: ابحثي عن ميلون ومرميس وفاندا، فإذا كانت المس ألن أسيرة لا تعلم عصابتي شيئا ولا تحضر، إذن لا بد لي من إيجاد وسيلة أدعو بها العصابة.
وعندما جال في نفسه هذا الخاطر نظر إلى ذلك الجاسوس وعن له خاطر سريع فقال: إنهم قد وضعوا هذا الرجل جاسوسا علي، وإذا أصلحت نفسه الساقطة حميته من وصمة الجاسوسية الشائنة واستخدمته فيما أريده من أغراضي، فكان لي خير معين.
وقد عرف القراء تلك النظرات الجاذبة المؤثرة التي عرف بها روكامبول وخطر له أن يستعين بها على استجلاب الجاسوس، لا سيما بعد أن رأى من عينيه أنه أميل إلى الخير منه إلى الشر، وأن الفقر دعاه إلى امتهان هذه المهنة السافلة، ووضع جريدته على السرير وجعل ينظر تلك النظرات إلى الجاسوس.
وأحس الرجل لفوره بتأثير النظرات فيه، وأن نفسه قد تكهربت بها، فلم يكن يطيق النظر إليه ويغض من بصره كلما حدق به إلى أن أيقن روكامبول من ذلك التأثير، فقال له بلهجة السيادة المطلقة: ماذا تدعى أيها الرجل؟ - برنيت. - أين ولدت؟ - في دبلين. - ومتى قبضوا عليك؟ - يوم فرار الكولونيل ستيفن. - إني كنت في طليعة الإخوان يومئذ فلا أذكر أني رأيتك بينهم.
فاحمر وجهه احمرارا خفيفا استدل منه روكامبول على ضعفه فقال: أتعلم أننا اليوم في الحادي عشر من هذا الشهر؟ - نعم ... - ولقد قلت لي: إنهم سيشنقونك في اليوم السابع عشر فلم يبق لك في هذا الوجود إلا ستة أيام.
فأطرق الجاسوس بنظره اتقاء لنظرات روكامبول وقال: إني مستسلم للقضاء راض بما كتبه لي.
فحدق روكامبول به تحديقا اضطربت له حواسه وقال: ولكنك تعلم يقينا أنك لا تموت في ذاك اليوم. - من ينقذني؟ - لا ينقذك أحد. - إذن لا بد من الموت.
فعاد روكامبول إلى إرهاقه بنظراته، وقال له: إن الإعدام لا يكون إلا بعد صدور الأحكام، ولم يحكموا عليك بشيء أيها المجنون، بل إنهم وضعوك معي في هذا السجن لمراقبتي، ورضيت أن تتولى هذه المهمة الشائنة لفقرك، ولكني سأغنيك من هذا الباب الحقير، وأغنيك عن الندم وترقيع الضمير فاصغ إلي.
ثم أخذ يبسط له بفصاحته النادرة عيوب الجاسوسية، ويقبح ذلك المبدأ المنحط ويشرح ما تجده النفس من الانبساط في خدمة المبادئ الشريفة ويعلله ببسطة العيش.
وقد أفاض في هذه المباحث إلى أن افتتن عقل الرجل وسال لعابه حتى إذا انتهى من مواعظه وإرشاده بسط يده وقال له: أتريد أن تكون في عداد أصدقائي؟
فجثا الرجل على ركبتيه، وقد بلغ روكامبول في نفسه ما أراد وقبل تلك اليد التي مدت إليه.
ثم قال: إني لا أعلم من أنت، ولكني أعلم أنك من أهل السلطان على القلوب وسأكون في خدمتك من أوفى الأمناء.
فابتسم روكامبول وقال: سوف ترى أنك غير مخطئ في وفائك متى خرجنا من هذا السجن.
فذهل برنيت وقال: أتطمع بالخروج منه يا سيدي؟ - إني أخرج متى أشاء.
3
مر على ذلك أربعة أيام انقطع الحاكم بعدها عن زيارة روكامبول لقنوطه من الجاسوس؛ لأنه كان في كل مدة يحضر يشير إلى الجاسوس مستفهما فيغمزه بعينه مشيرا إلى أنه لم يستطع أن يعلم شيئا بعد فانقطع عن زيارته، وجعل يرسل الجرائد الفرنسية مع أحد الحراس.
وكان هذا الحارس الذي يرسله عالما بأمر الجاسوس فكان كلما أتى يسأله بالنظر فيجيبه بالإشارة أنه لم يعلم شيئا إلى أن جاءه يوما فغمزه بعينه مشيرا أن لديه أخبار خطيرة فسر الحارس وانطلق إلى مولاه.
وكان الجاسوس قد استسلم كل الاستسلام إلى روكامبول كما قدمناه، وقد كان لديه حقيقة أخبار هامة يريد أن يبلغها إلى الحاكم.
أما روكامبول، أو الرجل العبوس، فقد كان قرأ في الليلة، هذه المقالة الآتية، في إحدى الجرائد الفرنسية التي يرسلها إليه الحاكم، وهذه هي:
لا يكتفي هؤلاء الإنكليز بما يبدونه من الشذوذ في بلادهم، بل إنهم يقدمون عليها في بلادنا، وهذا خبر ننشره بملء التحفظ، على وثوقنا من صحة ما نرويه.
إن فتاة حسناء من أهل النبل قدمت إلى باريس فاستلفتت الأنظار بحوادثها وهي تدعى مس ألن ابنة اللورد ب ...
وكان قد حضر معها خادمان حين قدومها إلى باريس ولم يعلم أحد سر حضورها إلى العاصمة فأقامت في منزل جميل في أفضل الشوارع، وكان الناس يرونها كل مساء تخرج متنزهة في الغابات.
ولكن يظهر أن هذه الرحلة لم ترق لعائلة الفتاة.
إنه إذا اتفق مثل هذا الحادث في فرنسا، يذهب والد الفتاة الهاربة باحثا عنها ويعود بها، أما في إنكلترا فإن مثل تلك الأمور تجري على عكس ما هي عندنا.
وذلك أن والد الفتاة وهو أحد أعضاء البرلمان الإنكليزي، لم ير من العدل أن يترك جلسات المجلس فلم يحضر للبحث عن فتاته، بل أرسل لها رجلين من كبار الشرطة ولديهما أوامر صريحة صدقت عليها من السفارة الإنكليزية فعثرا بالفتاة وقبضا عليها.
غير أنهما لم يرجعاها إلى إنكلترا كما يتبادر إلى الأذهان؛ لأن والدها اللورد ارتأى إبقاءها في باريس إلى أن تنتهي جلسات البرلمان راجيا أن يمحو تعاقب الأيام تلك الفضيحة.
ولذلك عهد إلى البوليسين بمراقبة ابنته، وأن يذهبا بها إلى المسارح والمتنزهات وإلى حيث تشاء، مشترطا أن لا يأذنا لها بالاجتماع مع أحد.
والذي نراه أن الحادث حادث غرام لم يرق، دون شك، في عيني والدها اللورد.
فلما قرأ روكامبول تلك المقالة لم يبق لديه شك أن مس ألن في باريس ، وأنها لم يتيسر لها الالتقاء بميلون.
وعلى ذلك فإن ميلون لم يعلم شيئا من أمره ولا بد من إرسال الأمر إلى العصابة بالحضور إلى لندرا، وهنا جعل يفكر بطريقة تمكنه من إبلاغ العصابة ما يريد ولا شك أنه ظفر بها بدليل أنه انقطع فجأة عن التفكير إلى محادثة برنيت الجاسوس فقال له: اصغ إلي يا برنيت إنهم وضعوك في غرفتي لمراقبتي والوقوف على أسراري.
فاضطرب برنيت وقال: أيها الرئيس ألم أتب توبة صادقة؟ فما بالك توبخني هذا التوبيخ؟ - إني لا أريد تأنيبك، واصغ إلى تتمة حديثي. إن الحاكم يزورني كل يوم، وينظر إليك مستفهما، وهو يرجو أن تكون قد ظفرت ببعض أسراري. - وأنا أعبث به وأخونه كما ترى. - هو ذاك ولكني أريد أن تخونني اليوم.
فدهش برنيت وقال: أنا أخونك يا سيدي؟! - سوف ترى كيف أريد أن تخونني، إني أريد بذلك أنك تخدمني. - إني مستعد للموت في سبيل إرضائك. - إذن، اعلم أنه لا بد أن يأتي الحاكم غدا، أو يرسل أحد حراسه وإذا جاء بنفسه أو إذا جاء الحارس، فاغمز إشارة على أنك عثرت على خبر خطير. - ولكني إذا أشرت تلك الإشارة يدعوني الحاكم إليه. - وهذا الذي أبغيه. - إذن ما أقول له؟ - سأخبرك غدا بما يجب أن تقول؟
وانقطع روكامبول عن الحديث فصرف ليلته بالتمعن والتفكير.
وفي اليوم التالي لم يحضر الحاكم بل أرسل الحارس، وأشار إليه برنيت تلك الإشارة السرية كما قدمناه.
فلما ذهب الحارس قال روكامبول لبرنيت: إن الحاكم سيدعوك إليه فيما أراه. - دون شك. - إذن اسمع ما يجب أن تقوله له ... قل: إن الرجل العبوس قد ائتمنني على سر من أسرار الإرلنديين، وهو أن لهذه الطائفة مركزا عاما في باريس وزعيما يدعى روكامبول.
فقال برنيت: ما هذا الاسم الثقيل؟
فابتسم روكامبول وقال: ثم تقول إنه يوجد وسيلة سهلة للقبض على هذا الزعيم الذي يدعونه روكامبول، وهو أشد زعماء الإرلنديين خطرا، أما هذه الطريقة فهو أن يعلن في الجرائد السيارة أن روكامبول قد وقع في قبضة البوليس الإنكليزي وزج في سجن نوايت.
فاعترضه برنيت قائلا: ولكن روكامبول في فرنسا كما تقول، فإذا قرأ ذاك الإعلان بقي فيها. - ولكنك تظهر للحاكم غير ما تظن. - كيف ذلك؟ - ذلك أن روكامبول هرب من إنكلترا، لخوفه من مطاردة البوليس، وإذا قرأ هذا الإعلان في الجرائد، أيقن أن البوليس لا يطارده بعد ذلك، لاعتقاده أنه سجين فيعود روكامبول إلى لندرا مطمئن البال. - لقد فهمت.
ولم يتمكن الرجل العبوس من متابعة الحديث؛ لأن باب الغرفة فتح عند ذلك، ودخل منه الحارس، وقال لبرنيت: إنك قد قدمت عريضة إلى الملكة التمست بها تعديل الحكم عليك، وقد قبلت جلالتها العريضة فاتبعني.
فتظاهر برنيت بالسرور العظيم وقال: إلى أين؟ - إلى الحاكم؛ لأنه يريد أن يتلو عليك الأمر بتعديل الحكم، ونجاتك من الإعدام.
فخرج برنيت يتبع الحارس وبقي الرجل العبوس وحده وهو يقول في نفسه: إن النجاح مضمون إلا إذا عرفوا أني أنا هو روكامبول.
4
كان الحاكم ينتظر برنيت بفارغ الصبر فلما دخل إليه أخبره بجميع ما تلقنه من روكامبول فسر الحاكم سرورا عظيما وقال لبرنيت: إنه خبر عظيم سنكافئك عليه خير مكافأة. - وهذا الذي أرجوه يا سيدي؛ لأني ما رضيت أن أسجن نفسي طائعا إلا طمعا بمثل ما تعدني به.
فأعاده الحاكم إلى سجن روكامبول وأمر بإحضار مركبة وذهب بها مسرعا إلى منزل الأسقف بترس توين.
وقد تقدم لنا في الأجزاء السالفة وصف ذاك الأسقف، ولكي نزيد وصفه إيضاحا تعرف به حقيقة منزلته لدى القراء نقول: إنه يشبه بزعامته الإنجليكان زعيم الجزويت، وله من التأثير على أسقف كانتروبوري ما لرئيس الجزويت من التأثير على البابا.
وقد لقيه حاكم السجن في منزله فلما دخل عليه وجده مكبا على الكتابة ولديه كثير من الرسائل الخطيرة.
أما الأسقف فإنه ذعر لمنظر الحاكم وقال: ماذا ألم بك؟ ألعلك أتيت لتنذرني بفرار الرجل العبوس؟
فابتسم الحاكم وقال له: ليطمئن مولاي؛ لأني أتولى حراسة هذا الرجل بنفسي فلا يمكنه الفرار، ولكني أتيت أخبرك أنه باح للجاسوس ببعض أسراره. - ألعله ذكر اسمه الحقيقي؟ - كلا ، ولكنه قال: إن أعظم زعيم للإرلنديين مقيم الآن في باريس وإنه يتأهب لعمل سري عظيم. - وما اسم ذاك الزعيم؟ - روكامبول. - إني ما سمعت بهذا الاسم الغريب قبل الآن فهل علمت شيئا عنه؟ - كلا، غير أن الجاسوس عرض علي أمرا يدل على ذكائه ويسهل القبض على ذاك الزعيم. - ما هو هذا الخاطر؟ - إن روكامبول برح إنكلترا لتوهمه أن الشرطة تبحث عنه فلو نشرنا في المورنن بوست والتيمز أن روكامبول زعيم الإرلنديين الشهير قد قبض عليه وزج في سجن نوايت يقف على الخبر حين مطالعته الجريدتين فلا يبقى له سبيل للخوف ويعود إلى لندرا فنقبض عليه. - إنه فكر جيد على بساطته. - أترى أنه يجب إنفاذه؟ - كلا، فدعه الآن إلى أن أفكر فيه، وبعد فاعلم أيها الصديق أن مسألة الإرلنديين لا أضعها في المنزلة الأولى من الاهتمام، فإني إذا كنت قد بذلت ما بذلته من الجد والاهتمام في القبض على الرجل العبوس، فما ذلك إلا لأنه ساعد الأب صموئيل الأيمن.
وأنت تعلم غيرة ذاك الأب العظيمة على الكنيسة واحترام أهل لندرا لا سيما الفقراء منهم بهذا الأب، فلو تركته وشأنه ولو لم أقطع ساعده لأفسد علينا طائفتنا ورد كثيرا من قومنا إلى طائفته. - والرجل العبوس ماذا نصنع به؟ - نحافظ عليه إلى أن يصدر الأمر بإعدامه فإن رئيس العدلية لا يريد محاكمته قبل أن يعرف اسمه الحقيقي. - ولذا أرى أنه لا بد من القبض على روكامبول؛ لأننا إذا قبضنا عليه نعلم منه حقيقة اسم الرجل العبوس. - لقد أصبت ولكن لا تنشر الآن الإعلان في الجرائد واصبر إلى المساء أخبرك ما يجب أن نصنع.
وبعد هنيهة عاد الحاكم إلى سجنه وأرسل الأسقف إلى إدارة التلغراف، فأرسل الرسالة الآتية:
باريس ... السير جمس وود.
في أوتيل دي لوفر.
أتعرف زعيما للإرلنديين يقيم الآن في باريس ويدعى روكامبول؟
بترس توين
وأقام الأسقف في منزله جميع نهاره ينتظر الرد، فلم يرد ذلك؛ لأن السير جمس كان في تلك البئر التي سجنه فيها مرميس كما يذكر قراء رواية تلميذ روكامبول .
فلما سئم الأسقف من ورود الجواب شغل باله وذهب إلى اللورد بالمير فقال: أوردت إليك رسالة من السير جمس؟ - كلا.
فأخبره الأسقف بما كان بينه وبين حاكم السجن، وبانشغال باله لتأخير جواب السير جمس.
فطمأنه اللورد وقال: لا شك أن السير جمس يبحث الآن عن روكامبول، ولا يستطيع أن يجيبك قبل أن يقف على أثره.
فخرج الأسقف من عنده مطمئنا وأرسل يخبر حاكم السجن كي يرسل الإعلان إلى الجريدة فكتب الحاكم الخبر كما يأتي:
إن هذا الرجل الذي يدعونه روكامبول، وهو أشد زعماء الإرلنديين الذين طالما أقلقوا الحكومة بدسائسهم، قد قبض عليه في دبلين وسيرسل إلى إنكلترا، والمرجح أنه يسجن في نوايت إلى أن تتم محاكمته.
وقد كتب منه ثلاث نسخ فأرسلها إلى التيمز، والمورنن بوست، وإفنن ستار، وهي أشهر الجرائد الإنكليزية، وجعل يفرك يديه فرحا ويعلل نفسه بالقبض على روكامبول، وهو لا يعلم أن روكامبول في سجن نوايت، وأنه قد سقط في فخ روكامبول.
5
يرى القراء أن حيلة روكامبول قد جازت على الحاكم والأسقف.
أما الحاكم فقد كان شديد الإعجاب بنفسه لاعتقاده أنه أقنع ذلك الأسقف وحمله على رضاه عنه، أما الأسقف فإنه صبر إلى اليوم الثاني فلم يرد إليه جواب السير جمس فزاد انشغاله وكثرت هواجسه.
وما زال يضرب أخماسا لأسداس ويرسل الأنباء البرقية تباعا إلى السير جمس حتى ورد إليه الجواب البرقي كما يأتي:
بولونيا في الساعة السابعة صباحا.
روكامبول سافر إلى لندرا عند انتصاف الليل بطريق كابس وهو مصفر الوجه أسود الشعر والشاربين تصحبه امرأة شقراء سوداء العينين.
إني أنتظر أوامركم في أوتيل إسبانيا.
السير جمس
فأجابه الأسقف بما يأتي:
فهمت مرادك أخبرني عن مس ألن.
وبعد ساعة وصل إليه من السير جمس، أو من الذي استعار اسمه، هذا التلغراف:
مس ألن لا تزال في قبضتنا كن مطمئنا عليها.
ولما تزود الأسقف بهذه الأخبار ذهب إلى إدارة البوليس، فأطلع المدير على ما جرى، ووصف له روكامبول والمرأة التي تصحبه، ووعده مدير البوليس خيرا وضمن له القبض عليه حين وصوله، فتركه الأسقف وذهب إلى سجن نوايت.
ولما لقيه الحاكم قال: كيف رأيت أتظن أن الرسائل التي نشرتها في الجرائد تسفر عن نتيجة حسنة؟ - بل أسفرت عن خير النتائج فاقرأ هذا التلغراف؟
ثم عرض عليه تلغراف السير جمس فقرأه الحاكم وقال: إذن أتظن أن روكامبول في لندرا؟ - بل هو في الطريق إليها فإن السير جمس من أحذق رجال البوليس ولو لم يكن واثقا من سفره لما أنبأني. - وهذا الجاسوس الذي وضعته مع الرجل العبوس من أهل الحذق والذكاء أيضا فقد حمل بدهائه الرجل العبوس على الوثوق به كل الثقة. - ألعله استطلع منه سرا جديدا؟ - نعم، فإن الرجل العبوس قال له: إنه لو كان روكامبول في لندرا، وتيسر لي أن أحادثه لاستتب النصر لإرلندا وسلمت أنا من الشنق. - أهو قال هذا القول؟ - نعم يا سيدي، وقد خطر لي خاطر أرجو أن يكون صوابا، وهو أن أنقل الرجل العبوس مع جاسوسه إلى غرفة متسعة بحيث أضع فيها ثلاثة أسرة، حتى إذا تيسر القبض على روكامبول وضعناه مع الاثنين في غرفة واحدة. - كيف ذلك، أتحقق أمنية الرجل العبوس وتجمعه بروكامبول؟ - دون شك فإننا نعلم بواسطة الجاسوس هذا السر العظيم وكيف ينجو من الشنق إذا اجتمع بروكامبول. - إني أرى رأيك، فإننا قد نستطيع سماع حديثهما بغير واسطة الجاسوس أيضا، فافعل ما اقترحته وتأهب لاستقبال روكامبول، فلا بد من القبض عليه.
ثم تركه وانصرف إلى منزله فورد في الساعة الخامسة تلغراف ولكنه كان موقعا عليه بإمضاء البوليس إدوارد بدلا من السير جمس.
وكان الأسقف يعلم أن إدوارد قد سافر مع السير جمس بمهمة واحدة فقرأ التلغراف وهو كما يأتي:
اقتفيت بأمر السير جمس أثر الرجل الذي تريدون الوقوف على أخباره فهو سيقيم في دوفر نهارا وليلة، وسيسافر مع المرأة التي تصحبه في قطار الساعة السابعة من المساء، وسأوضح السبب في اقتفاء أثرهما بدلا من القبض عليهما.
إدوارد
فلما أتم الأسقف تلاوته قال في نفسه: لا شك أن السير جمس من أمهر رجال البوليس ، ولا بد أن أكافئه مكافئة توازي هذه الخدمة الجليلة. •••
ولنعد الآن إلى حاكم السجن فإنه بعد انصراف الأسقف قال في نفسه: إني سأنقل الرجل العبوس وجاسوسه صباح غد إلى الغرفة ذات الثلاثة أسرة، وسأظفر بالوقوف على أسرار روكامبول.
وكان قد تعود بعد أن بدأ الجاسوس يخبره بأسرار الرجل العبوس أن يزوره في محبسه كل يوم ويبالغ في ملاطفته وتخفيف شقائه.
وقد ذهب إليه بعد انصراف الأسقف وقال له: كيف تجد نفسك في هذه الغرفة؟ - إني متمتع فيها من فضلك بأتم الراحة. - كلا بل هي رطبة وقد تؤذيك. - لم أر فيها ما يدل على الرطوبة. - ولكنها ضيقة أيضا وسأنقلك إلى غرفة أعظم اتساعا بحيث قد تكونوا فيها ثلاثة بدلا من اثنين.
فارتعش روكامبول فقال: ألعلك تريد التفريق بيني وبين برنيت؟ - كلا، بل ربما أضع معكما رفيقا ثالثا أظن أنك تعرفه إذا ذكر لك اسمه فإنه يدعى روكامبول.
فتكلف روكامبول هيئة الاضطراب وقال: إنك مخطئ يا حضرة الميلورد فهذه أول مرة سمعت فيها اسم روكامبول.
وأقام الحاكم هنيهة معه ثم انصرف، ولما خلا برنيت بروكامبول قال: الحق إني لا أفهم شيئا من هذه الألغاز.
فابتسم روكامبول وقال: ستعلم كل شيء متى آن الآوان.
ثم انصرف إلى التفكير وجعل يقول في نفسه: لا أدري إذا كان ميلون قد تسمى باسمي ودعا البوليس يقبض عليه، أو هو مرميس، ولكن لا بد أن يكون واحدا من الاثنين وعلى ذلك فلا بد من ورود أنباء جديدة.
وقد أخطأ روكامبول في حسابه خطأ ضعيفا جدا لا بد لنا في إيضاحه من الرجوع إلى الماضي لإيضاح تلك الأنباء البرقية التي خدع بها الأسقف وحاكم السجن.
6
إن مرميس حين قبض على السير جمس وسجنه في البئر كما تقدم في رواية تلميذ روكامبول بالغ في إخفاء أمره، والحذر من وقوف أحد على أمره.
ويذكر القراء أن الشرطي إدوارد؛ أي رفيق السير جمس، بات من رجال مرميس، ولكن رجال الفندق الذي كان يقيم فيه السير جمس كانوا يعلمون أن إدوارد والسير جمس واحد، فكان إدوارد يحضر بأمر مرميس مرتين أو ثلاث في كل يوم إلى ذلك الفندق لاستلام الرسائل التي ترد إلى السير جمس، وقد أوهم عمال الفندق أن رفيقه قد سافر في بعض الشئون، فكانوا يدفعون إليه كل ما يرد باسم السير جمس لوثوقهم من اتفاقهما واشتغالهما في خدمة واحدة.
وعلى ذلك فإن إدوارد استولى على الرسائل التي تبودلت بين الأسقف وبين السير جمس ودفعها لمرميس، فعلم منها لفوره ما أصاب روكامبول.
كان الذي علمه من الرسائل أن الرجل العبوس في سجن نوايت، وأنهم سيحاكمونه دون شك وقد يحكمون عليه بالإعدام.
ولكنه علم أيضا من رسائل الأسقف أنه لا يمكن الحكم على العبوس قبل معرفة اسمه الحقيقي، وأنهم لم يظفروا به إلى الآن فعول على الإسراع إلى لندرا مع رفاقه للاهتمام بإنقاذه.
وقبل أن يسافر أرسل إدوارد إلى الفندق عله يقف على رسالة جديدة.
وكان قد قرر قسمة العصابة إلى ثلاثة أقسام يسير كل قسم منها بطريق، ثم يلتقون جميعهم في محل واحد ويسيرون من منزل مرميس.
ولما اجتمعوا عنده وتأهبوا للسفر أقبل إدوارد قادما من الفندق، ودفع لمرميس رسالة برقية معنونة باسم السير جمس.
وكانت نفس الرسالة التي أرسلها الأسقف إلى السير جمس يقول له فيها: ابحث عن زعيم للإرلنديين يدعى روكامبول فإنه في باريس.
فلما تلا مرميس الرسالة دهش لها وأعطاها لفاندا فتلتها ثم تلتها مس ألن فدهشوا جميعهم وجعل كل منهم ينظر إلى الآخر دون أن يتكلم.
وبعد سكوت قصير قال مرميس: إنه لم يعد بد من الإسراع في السفر فإني أرى أن لروكامبول يدا في هذه الرسالة الغريبة.
فقالت فاندا: كيف رأيت ذلك؟ - إن روكامبول قد اعتمد بعض الاعتماد علينا حين دخوله إلى سجن نوايت، ولكنه قد اعتمد على نفسه أيضا، وأننا إذا بحثنا في رسائل الأسقف إلى السير جمس، نجد أن قضاة الإنكليز يبحثون عن حقيقة اسم الرجل العبوس، ولا يحاكمونه قبل أن يعرفوه فلا بد أن يكون روكامبول قد فتن قاضي التحقيق وأضله. - أوتظن ذلك؟ - بل أؤكد أنه إذا كان الأسقف قد ذكر اسم روكامبول فإن الرجل العبوس قد ذكره قبله. - ولكن لأي قصد؟ - لا أعلم، ولكني واثق أن روكامبول قد وضع خطة فلا ينبغي علينا أن نفسدها.
وعلى ذلك قرروا الإسراع بالسفر فوصلوا في الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم إلى بولينا.
وكان الفصل فصل شتاء والبحر مزبدا، قال مرميس للجماعة: إننا نبيت هنا ونسافر في الصباح.
فقالت فاندا: لماذا لا نسافر الليلة؟ - لأني أريد أن أرسل رسالة إلى الأسقف أسبر فيها غوره، ولا بأس إذا بلغنا لندرا في المساء بدلا أن نصل إليها في الصباح.
فقالت مس ألن: ولكني أرى أن الوقت لا يجب أن نضيعه. - اطمئني يا سيدتي فلا بد لنا من إنقاذه.
ولم ينم مرميس إلا غرارا تلك الليلة فإنه كان يمعن فكره طول الليل ويقول في نفسه: لا شك أن روكامبول يهزأ بقضائه وسجانيه.
وعند الصباح نزل إلى قاعة الفندق فرأى ميلون فيها يقرأ الجرائد الإنكليزية، ثم رآه اصفر وجهه فجأة فأسرع إليه وقال له: ماذا أصابك؟
فأجابه بصوت يتهدج: خذ واقرأ، ثم أعطاه جريدة التيمز التي كان يقرأ فيها ودله بإصبعه على ذلك الخبر الذي نشره حاكم السجن كما تقدم عن القبض على روكامبول.
فلما قرأ مرميس هذا الخبر صاح صيحة فرح دهش لها ميلون وقال: ألعل القبض على روكامبول يسرك يا مرميس؟ - كلا، ولكنك أبله يا ميلون. - كيف حكمت علي بالبلاهة؟ - دون شك، إن هذا الخبر الذي قرأته خير برهان على صدق ما كنت مرتابا فيه، إن روكامبول يهزأ بالبوليس، والبوليس يعتقد أن روكامبول صديق الرجل العبوس، ومما يدلك على أن لروكامبول يدا في هذه الأمور أنه مسجون في سجن نوايت منذ خمسة عشر يوما فكيف يقبض عليه في دبلين منذ يومين، وعندي أنه هو الذي حمله على نشر هذا الخبر. - ولكن أي قصد له بهذا الخبر الغريب؟ - إن قصده أن ينبهنا إذا لم تستطع مس ألن الاهتداء إلينا، وإخبارنا أنه بحاجة إلينا .
ثم خرج من الفندق وقال له: اتبعني. - إلى أين؟ - إلى مركز التلغراف، إني أريد إرسال رسالة برقية إلى الأسقف باسم السير جمس، فإن الشرطي إدوارد مقيم باسمه في فندق إسبانيا. - وأية فائدة من هذه الرسالة؟ - الفائدة منها أن الأسقف يجيب السير جمس عليها إذا كانوا قبضوا حقيقة على رجل دعا نفسه باسم روكامبول.
ولما وصلا إلى التلغراف أرسل الرسالة الآتية:
إن روكامبول سافر إلى لندرا عند منتصف الليل بطريق كاليس وهو مصفر الوجه أسود شعر الشاربين تصحبه امرأة شقراء سوداء العينين.
فقال ميلون وقد اطلع على الرسالة: ولكن هذه الأوصاف كلها تنطبق عليك وعلى فاندا. - هو ما تقول فإن لي بذلك مآرب سوف تعلمها.
وأقام مع ميلون في إدارة التلغراف ينتظر ورود الجواب.
7
ولم يطل انتظار مرميس فقد ورد إليه من الأسقف هذا الجواب الوجيز باسم السير جمس وهو: «فهمت المراد فما فعلت بمس ألن؟»
فرفع مرميس التلغراف إلى ميلون وقال: أرأيت كيف أن روكامبول يهزأ بهم؟ - لقد بدأت أن أرى رأيك، ولكن ... - ولكن ماذا؟ - بقي أمر لم أفهمه؛ وهو لماذا أظهرت ملامحك في التلغراف المرسل إلى الأسقف؟ - كي يسهل القبض علي بصفة روكامبول. - ولماذا تريد أن يقبضوا عليك؟ - كي يرسلوني إلى سجن نوايت فأجتمع فيه بروكامبول وأتلقى أوامره؛ لأنه إذا كان هذا الخبر المنشور في الجرائد من صنعه كما أرى فهو إنما أراد به أن نعلم غايته ونبذل الجهد للوصول إليه في نوايت. - إن الوصول إلى نوايت قد يكون سهلا، ولكن الخروج منه ليس بالأمر السهل. - بل أخرج منه ويعتذرون لي كل الاعتذار عن القبض علي. - كيف ذلك؟ - ذلك أن السفارة الفرنسية تخرجني.
ثم ابتسم وتابع: إن ماضي حياتي قد بعد بعدا شاسعا عن الأذهان، لقد مر بي ستة أعوام أعيش فيها عيش النبلاء، فلا أجلس إلا في أعظم المنتديات ولا أعاشر إلا أكابر القوم، فإن كل الناس يعرفون أني أدعى فيلكس بيتافن وأني واسع الثروة كثير البر والإحسان، وقد كثرت علائقي مع نخبة الناس، ولا سيما المركيز س ... السكرتير الأول في سفارة فرنسا في لندرا، فإنه من أخلص أصدقائي، ولذلك إذا رأيتهم قبضوا علي فلا تعترض ودعهم يفعلوا. - وبعد ذلك؟ - يجب أن أقيم يومين في سجن نوايت ... - وبعد هذين اليومين؟ - بعد ذلك تذهب إلى السفارة الفرنسية وتدفع هذا الكتاب الذي سأكتبه إلى المركيز س ...
ثم ذهبا إلى الفندق فكتب مرميس الكتاب الآتي:
صديقي المركيز
يظهر أن إنكلترا قد أصبحت بلاد العجائب، وأن بوليسها بات من أهل الخيال وهذه حكايتي في تلك البلاد التي يدعونها بلاد الحرية ومع بوليسها الذي اشتهر بالحذق فاسمعها.
لقيني أحد رجال البوليس فحسبني من أولئك الإرلنديين الذين أقلقوا خواطر رجال البرلمان فقبض علي قبض المجرمين وهو يحسبني أحد زعماء هذه العصابات.
وقد أطلعته على أوراقي وبرهنت له عن صحتها وذكرت له اسمي، فأبى إلا أن يدعوني روكامبول، ولكني اسمتهلته ريثما أكتب هذه الرسالة الوجيزة ودفعتها إلى خادم غرفتي، وأنا مضطر أن أبيت هذه الليلة في سجن نوايت.
ثم إن هذا البوليس لم يقتصر على اتهامي، بل يؤكد لي أني سأشنق بعد ثلاثة أيام، ولكنك لحسن حظي في لندرا.
صديقك
فيلكس بيتافن
وبعد أن كتب هذه الرسالة أعطاها لميلون مع كتاب آخر وقال له: إنك تذهب إلى السفارة بهذه الرسالة بعد أن يقبضوا علي بيومين.
فقال ميلون: ولكن المركيز قد لا يكون في لندرا فإذا اتفق ذلك فماذا أصنع؟ - كلا بل هو فيها فقد ودعته في باريس منذ ثلاثة أيام وشيعته إلى المحطة إذ كان عائدا إلى السفارة في لندرا.
وبعد أن فرغ من هذه المهمة مع ميلون كتب رسالتين برقيتين ونادى الشرطي إدوارد فأعطاه إياهما، وكانت إحداها بتوقيع السير جمس، وهي التي تلقاها الأسقف وفيها إشارة إلى أن مس ألن لا تزال تحت الحفظ، والثانية بتوقيع الشرطي إدوارد أرسلت أيضا إلى الأسقف من دوفر.
ولما اطلع عليهما إدوارد قال: لم أفهم المراد من هاتين الرسالتين. - ولكن أمرهما بسيط فإن الأسقف لا بد أن يكون أبلغ الشرطة بعد أن وصل إليه تلغراف الصباح، وعلى ذلك فإن الشرطة متربصة في كل المحطات، وإذا كنت أريد أن أكون حرا يوما وليلة في لندرا يجب أن ينتظروني في دوفر، في حين أنني سأصل في قطار فولكستون الذي سأسير فيه بعد ساعة. - حسنا لقد فهمت. - إذن اصغ إلي، إنك تسافر بطريق كاليس إلى دوفر فترسل منها الرسالة الثانية ثم تسافر في الحال إلى لندرا وتذهب حين وصولك توا إلى منزل الأسقف. - وماذا أقول له؟ - تقول: إنك تركتني، أي تركت روكامبول في دوفر وعينت بوليسين لمراقبتي وأتيت لتتلقى أوامره. - وأين أراك؟ - غدا مساء في كوفان غاردن في خمارة أفنس. - سأوافيك في الموعد المعين.
ثم تركه وسافر إلى كاليس.
أما مرميس وعصابته فإنهم سافروا في باخرة الظهر، وبعد ساعتين كانوا سائرين في طريق لندرا وقد ملأت جرأة مرميس قلب مس ألن أملا ووثقت من الفوز في إنقاذ روكامبول.
8
وقد سافروا ثلاث عصابات كي لا يستلفتوا إليهم الأنظار إلى فولكستن، وركبوا القطار إلى لندرا، فكانت فاندا ومس ألن العصابة الأولى، ومرميس وميلون الثانية، والبقية الثالثة.
وكانت مس ألن متنكرة أتم التنكر بحيث لو رآها أبوها لما عرفها، فلما وصل القطار إلى لندرا نزلت فاندا ومس ألن إلى محطة كانتس سكريت وكذلك رجال العصابة، ما خلا مرميس وميلون فإنهما بقيا في القطار الذاهب إلى محطة شارنغ كروس.
ولما وصل القطار إلى تلك المحطة رأى مرميس فيها نحو عشرة من رجال الشرطة، فقال لميلون: انظر إلى رجال الشرطة فإنهم كلهم قد أتوا للقبض علي.
فذعر ميلون خلافا لمرميس فإنه كان يصدر أوامره إلى ميلون باللغة الإنكليزية وبلهجة أهل البلاد حتى لقد توهم البوليس بالرغم من سواد شعره، أنه إنكليزي من ضواحي لندرا، وفوق ذلك فإن الرجل الذي كانوا ينتظرونه كانوا يتوقعون أن يجدوا معه امرأة كما ورد للأسقف فلم يعترضوه.
وعند ذلك خرج مرميس مع ميلون من المحطة وقال له: هلم بنا الآن إلى فندق التيجان. - وماذا نعمل بذلك الفندق؟ - نتعشى ... - وبعد ذلك؟ - ننام. - وغدا؟ - غدا نتنزه ونقرأ الجرائد ونمتع النظر بمشاهدة الحسان في الحدائق. - ألا نقابل فاندا ؟ - نقابلها بعد أن نقابل إدوارد فإني لا أستطيع أن أعمل شيئا قبل أن أراه. - والسير جمس ماذا تصنع به فإنه منذ يومين في الصندوق ولم نطعمه إلا في بولونيا. - سنوقظه في هذه الليلة. - وماذا نصنع به بعد ذلك؟ - نطلق سراحه مؤقتا. - ألا تخشى أن يخوننا؟ - إني أخاف خيانته في باريس، وأما في لندرا فهو الذي يخافني. - كيف ذلك؟ - ذلك أن الإرلنديين قد عرفوه بعد الكتاب الذي كتبته إلى الأب صموئيل وهم لا يرحمون من يخونهم.
فاقتنع ميلون بما سمعه وذهب مع مرميس إلى الفندق، وفيما هما جالسان على المائدة، أقبل رجل عليه مظاهر النبل فحياهما وجلس بقرب مرميس.
ولم يكن مرميس من جمعية الإرلنديين، ولكنه كان قد كتب إلى الأب صموئيل بصفته صديق الرجل العبوس.
أما الرجل الذي جلس بقرب مرميس فإنه حياه وقال له باللغة الفرنسية: ألست يا سيدي الرجل الذي ينتظره الأب صموئيل؟ - ربما ...
فأخرج الرجل ورقة من جيبه وهي رسالة من الأب صموئيل وقال: إننا ننتظرك يا سيدي بفارغ الصبر، فإننا كنا متفرقون في جميع محطات لندرا، وهم لم يفتحوا صناديقك بالجمرك والمحطات التي نزلت منها الآن؛ لأن أكثر رجالها من جمعيتنا.
فنظر مرميس إلى محدثه نظر المنذهل وقال: لكن كيف عرفتم بقدومي وأنا لم أكتب للأب شيئا عنه؟ - ذلك لأننا أرسلنا جواسيسنا فراقبوك من باريس حتى وصلت هنا، وقد ورد إلينا تلغراف باصطلاحات لا يفهمها سوانا علمنا منه أنك قادم بذلك الخائن الذي دعا نفسه السير جمس بعد أن خاننا حذرا منا وأنك قد خدرته ووضعته في صندوق. - لقد صدق من أخبركم فإنك تقول الحق. - وأنا قادم لأخذ هذا الخائن.
فقطب مرميس حاجبيه وقال: إذن لا يريد الأب صموئيل أن يفي بما وعدني به. - إن الأب صموئيل لا ينكث وعدا يا سيدي. - ولكن ماذا تريدون أن تصنعوا بالسير جمس؟ - إننا نريد أن نطمئن بالقبض عليه وثق أننا لا نؤذيه. - إذن أرجو أن تمهلني إلى أن نتم العشاء فنصعد معا إلى غرفتي وأسلمك الأسير. - ألديك طريقة سريعة لإيقاظه؟ - إني أوقظه بدقيقة ...
فانخرط الرجل في سلكهما وتعشى معهما وجعل الثلاثة يتحدثون ويتنادمون حتى توهم رجال الفندق أن الرجل من أصدقائهما، فلما طلب غرفة في الفندق مجاورة لغرفتيهما أسرعوا إلى تلبيته.
وبعد أن فرغوا من العشاء صعد الثلاثة إلى غرفة مرميس، وكان الصندوق الذي وضعوا فيه السير جمس في الغرفة، قد ثقبوه من جوانبه كي يتصل به الهواء، ففتحوا الصندوق وأخرجه ميلون منه جثة باردة، ووضعه فوق السرير.
وعند ذلك أخذ مرميس زجاجة صغيرة تحتوي على سائل أخضر فصب منه بضع نقط في فم السير جمس فارتعش لفوره ورجفت عيناه، وفتحت شفتاه وصبر مرميس هنيهة، وصب في فمه بضع نقط أيضا فانتفض السير جمس واستوى جالسا في السرير وقد فتح عينيه، ولم يكد ينظر ذلك الرجل الذي كان مع مرميس حتى عرفه واضطرب وظهرت عليه علائم الذعر.
وقال له الرجل ببرود: أرى أنك قد عرفتني.
فجعل السير جمس وود يضطرب ويرتجف وهو لا يعرف ماذا يقول.
9
وعند ذلك قال مرميس للسير وود: لا تخف إذا كنت أسيرنا فإني ما نكثت بوعدي بعد أن علمني رجل يدعى روكامبول أن أحترم العهود، ولكنك تذكر دون شك أني ما وعدتك بالحماية إلا بشرط أن تخدمني بإخلاص ووفاء فإذا وفيت بوعدك لا يصيبك مكروه.
ثم التفت إلى الإرلندي وقال له: أليس كذلك يا سيدي؟
فأجابه قائلا: دون شك فإن عهودنا مقدسة.
فقال مرميس للسير وود: إني أعهد بك الآن إلى هذا الرجل النبيل وهو يقسم لي أنك لا تصاب بأقل أذى إذا لم تحاول إيذاءنا؛ لأنه يعلم أني وعدتك هذا الوعد باسم الرجل العبوس.
فقال الرجل: هذا أكيد وسنفي بالوعد، والآن يا سيدي ماذا تريد أن نصنع؟ - إني أترك الخيار للسير وود بين أن يبقى هنا أسيرا على أن يقسم بشرفه أن لا يفر وبين أن يتبعك.
فقال السير وود وقد نظر نظرة ملؤها الرعب إلى الإرلندي: إني أؤثر البقاء هنا.
ونظر الإرلندي إلى مرميس وقال: أتأذن لي بإبداء رأيي؟ - ما هو؟ - هو أن يبقى وود عندنا إلى أن يخرج الرجل العبوس من السجن.
فقال ميلون: وأنا أرى رأيك أيضا وهو نعم الرأي.
فانطرح السير وود عند ذلك على قدمي مرميس وقال: ارحمني يا سيدي ولا تلقيني في قبضة الإرلنديين.
فقال له مرميس: ومما تخاف إذا كنا لا نؤذيك؟
فأطرق السير وود برأسه إلى الأرض وقال له الإرلندي: إنني وعدتك بأن لا أؤذيك وأنت تعرفني.
غير أن السير وود لم يجبه فذهب الإرلندي إلى النافذة وقال للشرطي: اعلم يا جمس إني إذا نظرت من هذه النافذة وأشرت إشارة أسرع إلي ستة رجال أشداء فيبدءون بعقابك، على أني أعيد عليك ما قلته وهو أنك إذا تبعتني طائعا مختارا وفينا بما وعدك به الذي قبض عليك.
فقال له مرميس: اتبعه ولا تخف فإني أقسم لك باسم الرجل العبوس أن تكون آمنا كل خطر.
ولم يسع السير جمس بعد ذلك إلا الامتثال وسار مع الإرلندي مكرها مضطرا وهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى.
ولما خلا ميلون بمرميس قال له: إني كنت أؤثر أن يبقى السير جمس في البئر بمراقبة أحد وكلائي فلا يشغل بالنا في شيء. - هو ما تقول ولكنه يخدمنا في لندرا خدمات لا يستطيع أن يأتيها وهو في البئر.
فهز ميلون كتفيه وقال: إني لا أضمن صدقه فيما وعد. - لكنه يضمن نفسه فإذا لم يخدمنا كما نريد لا يكون جزاؤه غير الموت. - لكنه قد يضحي حياته في سبيل انتقامه فإن الانتقام عند بعض الناس أفضل من الحياة فإني حين كنت في سجن طولون مع روكامبول لقيت بين أولئك المجرمين من لا يكترث للموت في سبيل أغراضه. - قد تكون مصيبا فيما قلته، ولكن لا خوف علينا الآن منه ما زال في قبضة الإرلنديين فلنقصر اهتمامنا الآن على الافتكار بإنقاذ الرجل العبوس؛ أي رئيسنا روكامبول.
ثم دخل إلى غرفته فنام فيها نوما هادئا إلى الصباح وعند الظهر تلقى مرميس رسالة من فاندا قالت له فيها: إنني مع رفيقتي بخير وعافية، ونحن ننتظر أوامرك بفارغ الصبر؛ لأنك أنت الذي يتولى رئاستنا في هذه المهمة.
ولم يفترق مرميس وميلون كل ذلك النهار، وعند المساء ذهبا إلى خمارة نافرن فوجدا الشرطي إدوارد ينتظرهما فيها فجلسوا كلهم حول مائدة وجعلوا يتحدثون بصوت منخفض، فسأله مرميس: قل لنا ماذا حدث. - حدث أنك أصبت في ظنك، فإن الرجل العبوس يهزأ بالحاكم والبوليس والأسقف.
فابتسم مرميس وقال: أحقا ما تقول؟ - نعم، فقد وضعوا معه في سجنه جاسوسا ولا شك أنه فتن الجاسوس فانقلب جاسوسا على الذي عينه.
فقال ميلون: إن ذلك لا يدهشني؛ فإن لعينيه سلطانا نافذا على القلوب.
وقال مرميس: ماذا فعل هذا الجاسوس؟ - أخبر الحاكم أن الرجل العبوس يعتمد في إنقاذه من سجنه على زعيم إرلندي في باريس.
فابتسم مرميس أيضا وقال: إن هذا الزعيم يدعى روكامبول أليس كذلك؟
فدهش الشرطي وقال: هو ما تقول، وأن الجاسوس نفسه أشار عليهم بأن ينشروا ذاك الخبر الذي قرأته في الصحف؟ - وماذا علمت من الأسقف؟ - علمت أنه يذوب شوقا إلى القبض على روكامبول، وأنهم معتمدون على وضعه مع الرجل العبوس.
فضحك مرميس ضحكا عاليا وقال لميلون: يجب أن تذهب إلى فاندا وتخبرها أنهم سيقبضون علي غدا صباحا. - إني ذاهب الآن فأين أراك؟ - في الفندق الذي أقيم فيه.
ثم قال لإدوارد: لا فائدة من القبض علي الآن فيجب أن ندبر طريقة للقبض علي في الصباح. - أين؟ - في فندق التيجان في سريري.
فقال له إدوارد: إن الدخول إلى سجن نوايت سهل، ولكن كيف تخرج منه؟ - لقد أعددت السبيل لخروجي وأعطيت ميلون التعليمات اللازمة فاطمئن، والآن فانصرف واكتب إلى الأسقف وأخبره أنك عالم أين يوجد روكامبول.
فانصرف الشرطي وذهب مرميس إلى الفندق لينام.
10
ولنعد الآن إلى روكامبول، أو الرجل العبوس كما يدعونه في السجن، فإن الحاكم نقله إلى غرفة متسعة وذهب لزيارته بعد نقله فقال له: لدي خبر يسرك؛ وهو أنه سيكون لك رفيق ثالث.
فابتسم الرجل العبوس وقال: إذن ألتمس منك أن ترسل لنا ورقا للعب فإننا نلعب لعبة الويست ما دمنا ثلاثة إلا إذا كان هذا الضيف يجعل هذا النوع من اللعب.
وضحك الحاكم قائلا: ولكنك تعرف هذا الرجل أكثر مما أعرفه أنا فهو صديقك روكامبول. - لقد قلت لك يا حضر الميلورد: إني ما سمعت هذا الاسم الغريب قبل الآن.
ونظر إليه الحاكم نظرة الهازئ ثم قال له بلهجة المتهكم: إذن قد أخطأوا بالقبض عليه. - من هم؟ - البوليسان اللذان أرسلناهما إلى فرنسا.
فوقف الرجل العبوس عند هذا الحد من الحديث، غير أن الحاكم عاد إلى الكلام فقال له: ربما أكون قد أخطأت فيما قلته لك من أن روكامبول سيجتمع بك اليوم؛ لأن ذلك قد يكون غدا ... - أين سجنته الآن؟ - لم أسجنه بعد ولا أزال في انتظاره. - إذن قد قبضوا عليه؟ - يجب أن يكون قضي الأمر. - ألم تره؟ - كلا.
فتأوه الرجل العبوس وقال: كنت أرجو أن أعرفه من أوصافه لو ذكرتها لي فإنه قد يكون غير اسمه كما غيرته أنا. - إني لم أر هذا الرجل كما قلت لك، ولكنهم ذكروا لي أوصافه فهو معتدل القامة لا يزال في مقتبل الشباب وهو أسود شعر الشاربين وقد جاء إلى لندرا تصحبه امرأة. - أهذه هي كل أوصافه؟ - نعم ... - كأنك لم تقل لي شيئا؛ لأن هذه الصفات يكثر تشابهها بين الناس. - ذلك أكيد ولكنك ستراه؛ لأنه سيسجن معك.
ثم ودعه وانصرف فنظر الرجل العبوس إلى برنيت وقهقه ضاحكا فقال له الجاسوس: أرى أنك قد عرفت هذا الرجل. - دون شك ... - يظهر أنهم خدعوا به وأنه ليس روكامبول. - كيف يكونه أيها الصديق وأنا هو روكامبول.
فأجفل الجاسوس لهذا الدهاء وتمثلت له عظمة هذا الرجل مما زاده احتراما وخضوعا له. فقال له روكامبول وهو يبتسم: إنهم لو قالوا لك منذ ثمانية أيام أني أستطيع وأنا في سجن أن أخابر رجالي بواسطة الجرائد أكنت تصدق هذا الزعم؟ - كلا؛ لأن ذلك محال. - ولكنك ترى أنه بات من الممكنات. وهنا لا بد لي من الثناء على البوليس الإنكليزي فإنه خدمني بملء الغيرة والإخلاص.
فقال له برنيت: ولكني إلى الآن لم أفهم حق الفهم مشروعك. - إذن اسمع، إنهم قبضوا علي وأودعوني هذا السجن المنيع بحيث امتنعت عني سبل الخلاص بواسطة أصحابي في الخارج.
وإن لي في فرنسا عصابة يسفك رجالها دماءهم في سبيلي، ولكنهم لا يعلمون أني سجين فاحتلت هذه الحيلة كي يعلموا أين أنا ويحضروا إلي. - ولكنهم إذا حضروا وجعلوا البوليس يقبض عليهم لا يستطيعون إفادتك بشيء. - إنك مخطئ أيضا؛ لأن هذا الفتى الذي سيقبضون عليه باسم روكامبول هو ولد تبنيته لذكائه وانطباعه على الخير، فهو قد عرف دون شك أن هذا الخبر المنشور في الجرائد إنما كان من صنعي، فهو قد حضر إلى لندرا كي يراني ويتلقى أوامري. - وكيف يخرج لتنفيذ الأوامر؟ - سوف ترى فاطمئن، ولم يكد العبوس يتم كلامه حتى سمع في الرواق خطوات الحراس، ثم فتح باب غرفته وظهر حاكم السجن في طليعة الحراس وهم يقودون رجلا بملابس السجن.
ونظر روكامبول إلى هذا السجين دون اكتراث وكان الحاكم يراقبه كل المراقبة فلم يبد له ما يدل على التعارف بين الاثنين.
أما برنيت فإنه نظر إلى الحاكم نظرة تشير أن هذين الشقيين يعبثان بك، فأدرك معنى الإشارة وقال للرجل العبوس: هو ذا الذي أخبرتك عنه وهو فرنسي يدعى روكامبول.
فابتسم الرجل العبوس وقال لهذا السجين الجديد: إن اسمك غريب يا سيدي.
وانحنى مرميس وقال: وما اسمك أنت يا سيدي؟ - الرجل العبوس. - أرى أن اسمينا متفقان بالغرابة.
وعند ذاك اغتنم الحاكم فرصة محادثتهما وأشار إلى برنيت إشارة تدل على وجوب المبالغة في الانتباه وأجابه على إشارته بما طمأنه، ولما خرج الحاكم جعل روكامبول ومرميس ينظر كلا منهما إلى الآخر نظرات عدم الاكتراث حتى خدع برنيت وقال في نفسه: يظهر أنهما غير متعارفين.
11
يوجد في لندرا طريقة يستعملها البوليس لمراقبة اللصوص وهي المرائي المنعكسة الأشعة فإنهم يضعونها في الشوارع التي يكثر انتيابها أمام المخازن بشكل يرى فيها البوليس وهو يسير ما يجري داخل تلك المخازن فتمتنع السرقات.
وهذه المرائي يستعملها البوليس في السجون عند الاقتضاء عندما يريد المراقبة، وهناك آلة غريبة أميركية يستعملها البوليس في السجون أيضا لسماع ما يتحدث به المسجونون؛ وهي أنابيب يضعونها في غرفة المسجون الذي يريدون مراقبته فتنقل الأصوات كما ينقلها التليفون.
وكان روكامبول ومرميس عارفين دون شك بأسرار هاتين الطريقتين، لذلك لم يظهرا حين التفاتهما ما يدل على التعارف ولم يتحدثا بكلمة تحمل على الريبة، لكن مرميس علم من حذر روكامبول أنهما محاطان بالجواسيس فحذر مثله، حتى إن برنيت على اعتقاده بأن مرميس من أتباع روكامبول خدعته ظواهر الرجلين وظن أنهما غير متعارفين.
فقال للرجل العبوس: يظهر أنهم قد خدعوا يا سيدي.
وأجابه: هو ما تقول. - إذن ليس هو روكامبول. - إن الفرق بعيد بينهما ... - إذن لا تعرفه ... - هذه هي أول مرة رأيته فيها.
وكان مرميس يتظاهر أنه لم يفهم شيئا من معنى حديثهما، إلى أن تعرض له برنيت بالحديث فقال: يظهر، يا سيدي، إنك متضجر من عشرتنا. - ليس ضجري من عشرتكما أيها الرفيق، بل من السجن لا سيما وأنهم قد خدعوا بي وسجنوني دون ذنب. - إذن لست روكامبول الذي طالما تحدثوا عنه في هذه الأيام؟
فابتسم مرميس وقال: هذه أول مرة سمعت فيها هذا الاسم. - إذن كيف قبضوا عليك وأدخلوك إلى هذا السجن الذي لا يوضع فيه غير كبار المجرمين. - إني لم أجد في ما مر بي من أدوار الحياة، بل لم أقرأ في القصص أغرب من ذاك الخطأ، فإني فرنسي كما يبدو لك، ولكني لا أدعى روكامبول كما يتوهمون، بل أنا رجل غني مشترك في أعظم النوادي الباريسية ولي صحبة مع معظم النبلاء الباريسيين. - يبدو يا سيدي من لهجتك في حديثك أنك من النبلاء. - وقد أتيت إلى لندرا بغية النزهة، فأقمت في فندق التيجان، وبينما أنا نائم مطمئن، فتح باب غرفتي ودخل رجال الشرطة، وأكرهوني على ارتداء ملابسي وهم يدعونني باسم روكامبول، ثم جاءوا بي إلى هذا السجن. - ألم يكن معك أوراق تثبت من أنت؟ - كان لدي نحو عشر رسائل تثبت اسمي الحقيقي، ولكنهم أبوا أن ينظروا أوراقي. - ألا تعرف أحدا في لندرا؟ - أعرف بعض أعيانها ولي صداقة تامة مع سكرتير سفارة فرنسا الأول وهو سيخرجني من هنا. - بل هو يخرجك اليوم دون شك، وإن كلمة واحدة منه تكفي لتبرئتك وإطلاق سراحك. - هو ما تقول، غير أن السفارة لا تعلم بأمري قبل الغد؛ لأني أرسلت أمس خادم غرفتي إلى ليفربول فهو يصل إليها في هذا الصباح، ثم يبرحها عائدا إلى لندرا في المساء، فلا يصل قبل صباح غد، وهو خادم قديم عندي يعلم كل علائقي، وسيبحث عني دون شك، فإذا عرف ما حل بي ذهب توا إلى السفارة وأبلغها الأمر، ولذلك تراني مطمئنا ولكني أكره المبيت في السجن.
وكان روكامبول في خلال ذاك الحديث مضطجعا على سريره يقرأ الجرائد، دون أن تفوته كلمة من حديث مرميس، فعلم ما أراد مرميس من محادثة برنيت، وأنه أراد أن يظهر لروكامبول أنه سيلبث في السجن أربعا وعشرين ساعة؛ أي إن الوقت متسع لإيجاد وسيلة للمباحثة، دون أن يخشيا مراقبة أحد.
وعند الظهر جاءوا بالطعام، وكان الرجل العبوس لا يزال مضطجعا في سريره، فنهض من مضجعه وجعل يأكل مع رفيقه دون أن يتكلم، وقد أرسلوا الطعام إلى حارسين يصحبهما الحارس للمراقبة، فجعل يراقبهم وهم يأكلون دون أن يباغتهم بنظرة أو كلمة.
حتى إذا فرغوا من طعامهم وأراد الانصراف، قال له الرجل العبوس: إنك نهجت معي أيها الرفيق، منذ سجنت، نهجا يدل على حسن أدبك وسلامة نيتك، فهل تأذن لي أن ألتمس منك أمرا أرجو أن يكون مقضيا؟ - سل ما تشاء إني لا أبخل بما تجيزه أنظمة السجن. - إني أطلب ورقا للعب وقد التمست هذا الالتماس من حاكم السجن، فلم ينكره علي.
ثم التفت إلى مرميس وقال له: أتريد أن تلاعبني، يا سيدي، بالويست؟ - مع الشكر يا سيدي؛ لأني مولع بهذه الألعاب. - وأنت يا برنيت؟ - وأنا أيضا لا يخفف عني وطأة السجن مثل اللعب.
فانصرف الحارس وهو يقول: سأعرض طلبك على الحاكم ورجائي أن أعود إليك قريبا بما تريد.
12
وقد أراد روكامبول بلعبة الويست أن يتخذها ذريعة للمباحثة مع مرميس كما يريد .
وبعد نصف ساعة عاد الحارس بالورق ودفعه لروكامبول قائلا: هذا هو ورق الويست، فإن الحاكم لا يحب أن يبخل عليك بشيء، ولكن كيف تلعبون تلك اللعبة؟ - نلعبها نحن الثلاثة. - ولكنك ستغدون اثنين.
فأجفل روكامبول وقال: كيف ذلك؟ - ذلك أن الحاكم أذن لأخي برنيت أن يراه.
ثم التفت إلى برنيت وقال له: إن أخاك ينتظرك فهلم معي.
فتظاهر برنيت بالسرور وقد علم أن الحاكم يريد أن يراه؛ إذ لم يكن له أخ وسار في أثر الحارس إلى غرفة الحاكم فوجد رجلا لم يكن يعرفه من قبل وهو الأسقف بترس توين.
فسأله الحاكم قائلا: ألديك ما تخبرنا عنه؟ - كلا، إني لم أعلم شيئا بعد. - ومع ذلك إن الرجل العبوس قد خلا بروكامبول. - ولكني أخشى أن البوليس منخدع يا سيدي؛ لأن الذي حسبه روكامبول ليس روكامبول. - كيف عرفت ذلك؟
فروى برنيت جميع ما سمعه من مرميس، فهز الأسقف كتفيه وقال: إنهما يمثلان رواية. - ولكن يوجد طريقة سهلة لمعرفة الحقيقة. - وما هي؟ - هو أن تسألوا في السفارة عن هذا الرجل؛ لأنه يدعي أنه صديق السكرتير.
فقال الأسقف: هل عرفتم اسمه؟
فرد الحاكم: كلا. - يجب أن تعرفه.
فقال برنيت: أعيدوني إلى السجن أعرف اسمه بعد ساعة.
فقال الأسقف للحاكم: إن السير جمس وإدوارد من أمهر رجال الشرطة عندنا، وهما اللذان أثبتا أن هذا الرجل روكامبول، فلم يبق سبيل للريب فيما يقولان. وإذا أخبرنا السفارة بأمر هذا الشخص ونحن لا نعرف اسمه أزعجناها دون فائدة.
ثم التفت إلى برنيت وقال: إن هذا الرجل يقول إنه أرسل خادمه إلى ليفربول وإنه يعود غدا؟ - نعم يا سيدي. - إذن لنصبر إلى الغد فإذا كان حقيقة زعيم الإرلنديين، فلا بد أن تبدو منه بادرة خلال هذه المدة غير أني أخشى أن يكونا لا يثقان بك فلا يبوحان أمامك بشيء. - إني لا أرى ما تراه، يا سيدي؛ لأن ثقة الرجل العبوس بي شديدة.
فوافق الحاكم على هذا القول.
فقال له الأسقف: ألم تضع آلة هيدسون، السماعة الأميركية، في الغرفة؟
فأجابه الحاكم قد سهوت عنها وسأضعها ، فإنها تفيدنا خير فائدة لا سيما وأن برنيت غير متمكن من اللغة الفرنسية، فقد يفوته الكثير من معاني حديثهما.
ثم عاد برنيت إلى السجن، فلما لقيه الرجل العبوس قال له: ماذا فعلت ألقيت أخاك؟ - نعم أيها الرفيق وقد سررت كثيرا بلقائه.
ثم جعل يحدثه بتلك اللغة الإرلندية الاصطلاحية التي يشكل فهمها على الإنكليز كما يشكل فهم لغة البرابرة على المصريين، فقال: إنه أخبر الحاكم بما سمعه من مرميس وعن رأيه بخطئه.
فقال روكامبول: وبماذا أجاب الحاكم؟ - كان معه شخص آخر، وخط الشيب رأسه، ظهر لي أنه من رجال الدين. - لقد عرفته فهو الأسقف بترس توين. - وقد أسف الاثنان لعدم وضع آلة سماعة في هذه الغرفة، لا أعلم ما هي؟ - هي آلة هيدسون الأميركية. - هو ذاك فقد سمعتهما ذكرا هذا الاسم.
فتنهد روكامبول تنهد المرتاح؛ لأنه كان يخشى أن يجول في الحديث مع مرميس، حذرا من هذه الآلة ثم قال له: ألم يتكلما عن آلة الأشعة؟ - كلا.
فقال مرميس: وهما يريدان أن يعرفا اسمي؟
فدهش برنيت؛ إذ سمعه يتكلم باللغة الإرلندية، أما مرميس فإنه ضحك وقال: إنك أبله. - كيف تقول: إني أبله. - دون شك فإني أنا هو روكامبول. - إذن كل ما قال لي الرجل العبوس كان تمويها وأي سبيل بقي لسوء ظنه بي بعدما رآه من إخلاصي؟
فقال له روكامبول: إني لم أسئ بك الظن، أيها الصديق، ولكني، كنت أحسب أنهم وضعوا الآلة السماعة في الغرفة، فخشيت شرها. - ولكني لم أعلم بعد ما هي هذه الآلة؟ - هي أنبوبة من الكاوتشوك توضع في السقف، أو تمد على الجدار، ويتصل طرفها بالخارج، فتنقل حديث المقيمين في الغرفة، كرجع الصدى.
وقال مرميس: أتظن أنه يوجد في هذا السجن من يعرف اللغة الإرلندية الاصطلاحية. - ليس فيه من يعرفها. - وأنت أتعرف الفرنسية؟ - لي بها إلمام. - إذن سوف نرى إذا كنت تفهم ما نقول.
وعندها قال روكامبول لمرميس ما يأتي: «فجم جأجت تجاجر جيجنج أجلجفجيجصجر.»
فصاح برنيت قائلا: ما هذه اللغة؟ أيوجد بين الناس من يتحدث بها ؟ - هي اللغة التي يتحدث بها أهل جافا في الهند، وأن الإنكليز على طول عهدهم بالهند لا يفهمون حرفا منها. - ولكن أيتكلمون هذه اللغة في بلادكم؟ - يتكلمون بها في البيت الذهبي في باريس كل يوم، وفي سجن نوايت اليوم.
ثم قال لمرميس: والآن يا بني يمكننا أن نتكلم كما نشاء. - «هجذجا جرجاجيجي»؛ أي هذا رأيي.
13
إن تلك اللغة التي تحدث بها روكامبول لم تكن لغة جافانية، كما قال بل هي لغة فرنسية محضة، يدخلون بين كل حرف من حروف الكلمة حرفا مصطلحا عليه فلا يفهم السامع شيئا مما يقال إلا إذا كان متمرنا على ذاك الاصطلاح.
وقد جعلنا المثال باللغة العربية تسهيلا لفهم ذاك الاصطلاح أدخلنا حروف الجيم بين كل حرفين من جملة وهذا رأيي، بحيث صارت الجملة كما يلي: «هجذجا جرجاجيجي.»
وهو اصطلاح قديم لا يزال شائعا عندنا بين أولاد المدارس بحيث يتكلم المتمرن على هذا الاصطلاح بسرعة غريبة فيشكل فهم مراده إلا على المتمرن على هذا الاصطلاح.
أما في باريس فإن هذه اللغة غير قاصرة على أولاد المدارس، كما هي عندنا الآن، بل إنها شائعة بين كثيرين من الناس يتحدث بها كثيرون من أهل الطبقة العليا، حتى إنهم أنشأوا بها جريدة يطبع منها نحو سبعين ألف نسخة في الأسبوع.
ومما لا ريب فيه أن حاكم السجن، لو سمع بسماعته الأميركية هذه اللغة لما فهم حرفا، ولو فطن أنها لغة اصطلاحية يتحدث بها الباريسيون لجاء بواحد منهم واستعان به على فهم أمورها، ولكن أنى له أن يخطر في باله هذا الخاطر.
ولذلك كان روكامبول ومرميس يتحدثان بها مطمئنين غير مكترثين بالآلة السماعة.
وقد بدأ روكامبول بالحديث فقال لتلميذه: قل لي الآن كيف عرفت أني سجين؟ - أخبرتني المس ألن. - ألعلك رأيتها؟ - هي معنا. - ولكنهم كانوا يراقبونها في باريس وقد سجنوها أيضا. - هو ذاك. - وبعد ذلك؟ - أنقذناها. - إذن، حدثني بكل ما حدث بالتفصيل، ما زال الوقت متسعا لنا الآن.
فقص عليه مرميس بالتفصيل جميع ما حدث مما تقدم ذكره في رواية تلميذ روكامبول.
ولم يمض ساعتان، حتى وقف روكامبول على كل ما حدث في باريس، منذ سقوط الفتى البناء، إلى إنقاذ الإرلندية وولدها، وخروج مس ألن من السجن.
ولما أتم حديثه قال روكامبول: ماذا فعلت برالف وأمه؟ - إني لم أجسر على إحضارهما إلى لندرا. - لقد أحسنت. - وفوق ذلك فإني لا أستطيع أن أقدم على أمر بشأنهما إلا إذا كان لدي أوامر منك، ولم يكن بيني وبينك اتصال فوضعتهما في منزل ميلون وجعلت شوكنج حارسا لهما. - ومس ألن؟ - إنها مع فاندا الآن، والآن أيها الرئيس فإنك تعلم أني لا أطيل البقاء في هذا السجن.
فابتسم روكامبول ابتسامة معنوية وقال: ولا أنا. - إن رجائنا وطيد بإنقاذك.
فابتسم روكامبول أيضا وقال: هذا ما أرجوه، ولكنكم إذا لم تفوزوا بإنقاذي خلصت نفسي، فأتم حديثك الآن إن خادم غرفتك الذي قلت إنك أرسلته إلى ليفربول هو ميلون أليس كذلك؟ - دون شك. - ولكنه لم يذهب إلى ليفربول كما قلت. - كلا، ولكنه سينتظر أربعا وعشرين ساعة، ثم يذهب بكتابي إلى السفارة.
فظهرت علائم الرضى على روكامبول وقال: الحق أني غير نادم على تربيتك وتبنيك لأنك ذكي الفؤاد، والآن اصغ إلي: إني خدمت هؤلاء الإرلنديين خدما جليلة وأنقذت زعيمهم الأكبر ودخلت إلى السجن طائعا مختارا في سبيل خدمتهم.
ولكن الإرلنديين لم يعرفوا سر غايتي من دخولي إلى السجن، وفوق ذلك أن لهذه الطائفة إقداما غريبا وجرأة نادرة حين تحاول إنقاذ أحد أبنائها، ولهذه الطائفة زعيم يجلونه كل الإجلال، إذا قنطوا عادا إليهم الرجاء بكلمة تصدر من فمه.
وقد لبثت مدة ثلاثة أشهر مرشدا لهذا الزعيم بل زعيم عليه فأقمت إنكلترا وأقعدتها إلى أن خطر لي يوما أن ألقي نفسي في فخ نصبته لي مس ألن، وهي في ذلك العهد من ألد أعدائي بغية تحويلها عن أعدائي واستخدامها في أغراض الإرلنديين.
فلما قبض علي أصبحت خاملا في عيون أولئك الذين ضحيت نفسي في سبيلهم، ولم يخطر لأحد منهم إنقاذي، فما حقدت عليهم؛ لأن المرء قد فطر على نكران الجميل ولم أحاول النجاة بنفسي لرضاي بما قسم لي ولم يبق غير الكاهن صموئيل من الذين يريدون لي السلامة، ولكن بقية الإرلنديين أنكروني وتخلوا عني؛ لأنهم رأوا أني لا أستطيع إفادتهم وأنا في السجن.
فاهتز مرميس وقال: ولكننا نحن لا نتخلى عنك أيها الرئيس الحبيب. - إني عارف بما طويت عليه سرائركم ولذلك أرسلت إليكم مس ألن على أني أريد أن أجرب الإرلنديين تجربة أخيرة، فإما أن أعود إلى نصرتهم أو أتخلى عنهم لإنصار سواهم من المظلومين الذين يعرفون قيمة المروءة فيكافئون أصحابها بإخلاص. - وما هي هذه التجربة؟ - إنك ستخرج غدا من هذا السجن فيعتذر إليك الحاكم والأسقف ورئيس الحقانية، إن في إنكلترا عادة مخالفة لعادات القضاء في فرنسا، وهي أن الحكومة إذا قبضت على رجل تشتبه به خطأ، أنها مضطرة أن تدفع له تعويضا. - إني أعرف ذلك. - وهذا التعويض يجب أن يكون مناسبا لمقام المقبوض عليه ومركزه في الهيئة الاجتماعية وأنت مشترك في أعظم نوادي باريس، وأصحابك من أهل المقامات وشهرتك ذائعة بالثروة فسيحكمون على كل الذين قبضوا عليك بغرامة مالية، فلو طلبت خمسين ألف جنيه لحكمت بها المحكمة ووزعتها على الذين أساءوا إليك، أفهمت الآن؟ - كلا، لم أفهم بعد. - عندما يحكمون لك ينال حاكم السجن أعظم نصيب من الغرامة فتقترح عليه أنك تتنازل عن الغرامة مقابل الإذن لامرأتك بمشاهدة الغرفة التي سجنت فيها والرجل الذي سجنت معه، أما امرأتك فهي فاندا. - سأفعل. - ولكنك قبل ذلك تذهب إلى الكاهن صموئيل وتسأله أن يجمع الإرلنديين ويطلب إليهم إنقاذي ... - وإذا أبوا؟
ابتسم روكامبول وقال: عندما تعود إلى هنا أضع في جيبك رسالة أكتب لك فيها ما يجب أن تصنع.
وعند ذلك فتح باب الغرفة ودخل حاكم السجن فقال روكامبول: لنتم حديثنا معه بهذه اللغة الاصطلاحية فنضحك عليه قليلا.
14
أما حاكم السجن فإنه جعل يجيل طرفه بين روكامبول ومرميس ويسمع هذه اللغة الغريبة التي كانا يتحدثا بها دون أن يفهم حرفا.
فلما رآه روكامبول ومرميس وقفا احتراما له ورفعا قبعتيهما فقال الحاكم مخاطبا روكامبول: لقد انتهى الأمر بفوزي عليك وهذا الذي كنت أتوقعه.
فأجابه روكامبول مبتسما: ماذا تعني يا سيدي فيما تقول فإني لم أفهم مرادك؟ - أريد أنك لا تستطيع بعد الآن أن تقول بأنك لا تعرف الأسير، وأشار إلى مرميس. - ولكني لا أعرفه يا سيدي إلا منذ ساعتين فبتنا كأننا صديقان منذ أعوام. - لو كنت لا تعرفه إلا اليوم كما تقول لما كنت تكلمه بلغة لا تفهم. - ولكني أفهم ما أقول ويفهم ما يقول. - إذن إنكما تتكلمان بلغة اصطلاحية. - بل نحن نتكلم بلغة شائعة بين الملايين من الناس وهي لغة أهل جافا. - إذا كان ذلك أكيد فسوف نرى.
فسأله مرميس: ألعله يوجد عندكم سجين من أهل تلك البلاد؟
ولم يجبه الحاكم بل نادى الحارس الذي كان يصحبه وقال: اذهب وائتني بالسجين ديكس.
فقال الرجل العبوس: من هو ديكس هذا؟ - هو بحار إنكليزي أقام في بلاد الهند عشرة أعوام، وهو مسجون بجريمة السرقة.
فابتسم روكامبول وقال: أتأذن لي يا سيدي أن أتم حديثي مع هذا الرفيق الجديد. - أباللغة الجافانية؟ - دون شك فإني أباحثه في أمور سرية.
ثم قال لمرميس باللغة الاصطلاحية سوف ترى كيف أعبث بهذا الرجل، فإني سأكلم البحار بلغة جافا الحقيقية فإني أقمت عامين في الهند في بلاط الرجاه وعرفت لغات الهنود. - إنك تعرفها دون شك وأما أنا فلا أعرف حرفا منها. - لا ينبغي أن تتكلم فسأتولى الحديث عنك وأنت تلزم الصمت.
فضحك روكامبول ومرميس وبقي الحاكم وبرنيت ينظران إليهما حائرين.
وبعد هنيهة جاء الحارس بالبحار وقال له الحاكم بعظمة: أتعرف يا ديكسون لغة الهنود؟ - إني أعرفها حق العرفان. - إني أريد أن تحادث هذا السجين بتلك اللغة، وأشار إلى روكامبول.
والتفت روكامبول إلى ديكسون وقال له بالهندية: يقول الحاكم إنك أقمت عشرة أعوام في الهند فهل طاب لك المقام في هذه البلاد؟ - كلا. - لماذا؟ - لأني خلقت لصا لا بحارا، وبحارة الهنود أبرع منا.
فقال له الحاكم: ماذا تقول. - إن هذا الرجل سألني إذا كانت راقت لي الهند. - إذن فهمت ما يقول؟ - نعم ... - إذن عد إلى سجنك.
ثم أشار إلى الحارس فعاد به إلى السجن.
والتفت الحاكم عند ذلك إلى روكامبول وقال له: الأجدر بك أن تقول لنا حقيقة اسمك كي يتمكن القضاة من محاكمتك. - ليتمكنوا من الحكم علي بالإعدام؟ - من يعلم فإن مراحم الملكة كثيرة. - تريد أن الملكة تعفو عن المحكوم عليهم بالإعدام. - إن ذلك منها كثير الاتفاق. - ولكن وزير الحقانية قد لا يصادق على هذه الرأفة فينفذ بي حكم الإعدام مع صدور العفو، وهي نصيحة أسديك عليها جميل الشكر.
فيئس الحاكم منه وقال: إنك حر بالدفاع عن حياتك كما تشاء.
ثم ودعه وحاول الانصراف فناداه مرميس وقال له: ألا تأذن لي يا سيدي أن أحادثك هنيهة؟ - تكلم. - ألا تزال واثقا أني أدعى روكامبول؟ - إني كنت مشككا في هذا الصباح، وأما الآن فإني على أتم اليقين. - ألا تأذن لي يا سيدي أن أفترض افتراضا؟ - ما هو؟ - لنفرض أني لست روكامبول. - لنفرض. - لنفرض أني رجل غني من نبلاء الفرنسيين لم يرتكب جريمة يعاقب عليها، وأنه يسافر إلى إنكلترا متنزها، وأن سفير دولته يطالب به ويخرجه من السجن. - إني لا أخاف شيئا من هذا. - ولكني قلت لك إننا نفترض افتراضا. - إذن لنفترض ما تشاء وأنك خرجت من السجن فماذا تصنع؟ - لا أصنع شيئا سوى أني أقاضيك وأطلب تعويضا عن إهانتي وهو غرامة شديدة يا حضرة الحاكم يدفع نصفها أنت ونصفها مدير الشرطة. - لقد أخطأت فإني لا أدفع شيئا؛ لأنهم أمروني بسجنك ليس إلا. - بل أنت المخطئ يا سيدي الحاكم؛ إذ يجب أن تعرف حقيقة اسم السجين قبل سجنه. - إني واثق من صحة ما فعلت.
فضحك مرميس ضحك الساخر وقال: من يعش ير.
أما الحاكم فإنه خرج مغضبا وجعل الرئيس وتلميذه يضحكان.
15
وبعد ذلك نظر روكامبول إلى برنيت وقال: إني أراك حائرا منذهلا! - ألا ترى ما يدعو إلى الحيرة يا سيدي؟ - دون شك ولكنك ستزيد انذهالا بين ساعتين؛ لأنهم سيفرقون بيننا.
ونظر إليه برنيت نظرة المكتئب الحزين كما ينظر الكلب الأمين لصاحبه حين يفترق عنه فقال له روكامبول: لا تجزع أيها الصديق فإننا سنلتقي.
فرفع برنيت عينيه إلى السماء قائلا: إننا نلتقي إذا أذن كالكراف الجلاد. - ألعلهم حكموا عليك حقيقة بالإعدام؟ - كلا، لقد علمت حقيقة أمري، ولكنهم سيحكون عليك به. - لا تخف علي يا برنيت أترى بين ملامحي ما يدعو إلى الخوف؟ - كلا بل يظهر لي أنك تهزأ بالجلاد كما تعبث بالحاكم. - هو ما تقول، والآن قل لي إلى متى تقيم هنا؟ - إني أستطيع الانصراف غدا؛ لأنهم وضعوني معك لمراقبتك وأظن مهنتي قد انقضت. - كم يدفعون لك مقابل هذه المهمة؟ - إنهم وعدوني بخمسين جنيها إذا أحسنت خدمتهم. - ولكننا سندفع لك مائتين حين خروجك فقد أحسنت خدمتنا.
فأجاب برنيت بلهجة المشكك: ولكن من يدفع لي هذه القيمة؟
فقال له مرميس: أنا ... - ألعلك تخرج أنت من السجن أيضا؟ - لا أخرج اليوم بل غدا ...
ونظر برنيت إلى روكامبول نظرة إخلاص قائلا: ولكني أبقى في السجن معك ولا أريد الخروج منه. - إن هذا محال الآن أيها الصديق؛ إذ لم يبق لهم بك حاجة فإنك لا تعرف اللغة الهندية وسيستعيضون عن تقاريرك بالآلة السماعة.
ثم عاد إلى الضحك مع مرميس، فعجب برنيت لأمرهما وقال: إني لم أر قبلكما مسجونين يضحكان ملء أفواههم كما تضحكان.
وقال له مرميس: أما وقد تقرر الآن افتراقنا؛ لأنهم لا بد أن يطلقوا سراحك فقد وجب أن نتواعد على اللقاء. - دون شك. - وذلك أولا لأدفع لك ما وعدك به الرئيس. - بل لأنضم إليكم وأكون خير مساعد في إنقاذه. - لهذا ولذاك فقل لي أين أراك؟ - في أولد فرنك نمرة 7.
فقال له روكامبول: ألا تذهب في الليل إلى خمارة ونستون؟ - نعم ...
فأجابه مرميس: إذن انتظرني فيها بعد ثلاثة أيام في الساعة الثامنة من المساء. - سأنتظرك دون شك.
وقبل أن يتم حديثه فتح الباب ودخل الحارس فأمر برنيت أن يتبعه، ونظر برنيت إلى روكامبول نظرة وداع مؤثرة وخرج في أثر الحارس والدمع يجول في عينه.
ولما وصلا إلى الرواق قال له الحارس: سأذهب بك إلى حارس الباب الأكبر. - لماذا؟ - للتوقيع على عهد الإفراج عنك فتأخذ ملابسك وتنصرف. - إذن أصبحت مطلق السراح؟ - نعم، فلم تبق حاجة إليك. - ولكنهم وعدوني بخمسين جنيها أفلا أقبضها؟ - كلا فإنك لم تنفعهم بشيء.
فتأثر برنيت تأثيرا شديدا، لكنه لم يفه بحرف وعول على أن ينتقم منهم بمبالغة الإخلاص للرجل العبوس.
وبعد أن خرج برنيت من السجن خرج الحاكم في أثره وركب مركبة وذهب بها مسرعا إلى الأسقف فوجده في منزله، ولما رآه الأسقف بادره بالسؤال عن الرجل العبوس وروكامبول فسأله: أتعارفا؟ - لم يكن في ذاك ريب ولكنهما يتكلمان بلغة غريبة. - ما هي؟ - لغة أهل جافا، وإني لا أعلم كيف يعرفان هذه اللغة. - إن الأمر بسيط فإن للإرلنديين علائق عظيمة في الهند، ويوجد كثير منهم في الجيش، فأنا صايب عدونا الأكبر، فإنهم ألد أعداء إنكلترا ولذلك يكثر اختلاطهم بأعدائهم. - هو ما تقول، ولكننا الآن قبضنا على هذين الزعيمين وسنعرف حقيقة اسم الرجل العبوس. - ألعلك تعرف لغة جافا؟ - كلا، ولكن لدي سجين بحار يعرفها فإذا عينا له جائزة أوقفنا على أسرارهما. - ولكنهما لا يتكلمان أمامه. - ولكنهما يتكلمان حين يكونا مختليين، ألعلك نسيت آلة هيدسون السماعة؟ - ولكن كيف تضع هذه الآلة دون أن يعلما؟ - لقد أمرتهم أن يضعوها في غرفة أخرى، فمتى تم وضعها أنقل الأسيرين إليها فتنقل الآلة حديثهما إلى البحار السجين وسأنقلهما إليها في هذا المساء. - أتظن أنهما لا يفطنان لها؟ - دون شك فإنها لا تخطر لهما في بال، لا سيما وأنهما سيعلمان بأني أنقلهما من غرفتهما المتسعة لذهاب برنيت منها. - لقد أحسنت فاذهب الآن وأتم ما شرعت به.
وبعد أن انصرف الحاكم تجهم وجه الأسقف وقال في نفسه: ما هذا الأمر الغريب؛ أني أرسلت إلى السير جمس رسالتين أمرته بهما أن يعود مع مس ألن فلم يجبني الآن، وما عسى أن يكون أصابه؟
16
وعاد الحاكم إلى السجن فوجد العمال قد أتموا وضع الآلة السماعة في غرفة مجاورة للغرفة التي كان فيها روكامبول ومرميس، وقد اشتغل في وضعها اثنا عشر عاملا.
وقد تقدم لنا وصف هذه الآلة وهي أنابيب من الكاوتشوك متصلة وقد وضعوها في السقف وأدخلوها في أنابيب الغاز بحيث بات يستحيل على الأسيرين أن يرياها، ولكنهما قد علما من الجاسوس، أنهم سيضعوا هذه الآلة ولم تكن أسرارها خافية على الرجل العبوس.
أما الحاكم فإنه امتحن الآلة فأدخل اثنين إلى الحجرة وأمرهما أن يتكلما ثم وضع السماعة على أذنه خارج الحجرة وأصغى إليهما فسمع كل الحديث ولم يفته حرف منه، فسر سرورا عظيما وقال في نفسه: لقد وقع الشقيان في الفخ، وسأقف على كل أسرارهما.
على أن سروره لم يتكامل فقد خطر له خاطر نغصه عليه؛ إذ خطر في باله ما قاله له مرميس وهو: «لنفرض أني لست روكامبول.»
ذلك أنه كان يعرف الشرائع الإنكليزية فيعلم أنها صارمة شديدة في مسائل الشخصيات.
ثم إن مرميس قد قال قولا معقولا وهو أنه يجب عليك أن تكون على اليقين من اسم الذي تسجنه؛ فإذا ثبت أني لست روكامبول فقد وجب عليك دفع الغرامة.
وهنا اضطرب اضطرابا شديدا وقال في نفسه: إني اعتمدت على الأسقف والأسقف اعتمد على السير جمس وهذا الشرطي مشهور بالحذق، لكن لكل فرس كبوة، فإذا كان مخطئا فإن التبعة تقع علي.
ولم يكن هذا المنكود غنيا فإنه كان يعيش من راتبه ويقتصد شيئا منه لمستقبل بنيه.
على أنه خطر له خاطر تعزى به بعض العزاء وهو أنه لو لم يكن هذا الرجل روكامبول نفسه لما تكلم مع العبوس بلغة يعتقد أنه لا يوجد من يفهمها، ولو لم يكن بينهما أسرار خفية لكان حديثهما بإحدى اللغات المعروفة.
ثم تسلح بهذا البرهان الذي أعاد إليه زهوه وارتياحه، وذهب لزيارة الأسيرين فاستقبله روكامبول خير استقبال وقال بلهجة المتهكم: إني ممتن لما تبديه من كرم الأخلاق يا سيدي؛ لأنك تتفضل بزيارتنا مرتين وثلاثا كل يوم.
وقال مرميس: وأنا أشعر حين أراك بارتياح يخفف عني عناء سجني.
وقال روكامبول: إنه الحق ما يقوله يا سيدي الميلورد فإنك طلق المحيا بشوش الوجه إذا رآك السجين تهلل قلبه وتعزى عما هو فيه.
فقال الحاكم: ولكني وا أسفاه أتيتكم بخبر قد يسوءكم. - قل يا سيدي، فقد ألفنا الشقاء حتى تعودناه. - ألست مرتاحا في هذه الغرفة؟ - كل الراحة. - وهذا الذي يسوءني فإني مضطر إلى نقلكما منها. - لماذا؟ - لأن هذه الغرفة كبيرة وأنتما الآن اثنان. - كيف ذلك؟ ألا يعود الإرلندي الذي كان معنا؟ - كلا، وقد تعدل الحكم عليه ونقل إلى سجن آخر.
فلم يظهر روكامبول شيئا من ملامح الشك على اعتقاده بكذب الحاكم قائلا له: إذ كان ذلك فأذن لنا على الأقل أن نلعب الشطرنج بدلا من الويست. - سأفعل ما تريد فهل يحسن رفيقك لعب الشطرنج؟
فأجابه مرميس قائلا: إن لي ولعا عظيما بالشطرنج، ولكن لعبي معه لا يطول.
فدهش الحاكم وقال: لماذا؟ - لأني سأخرج من السجن في صباح غد.
وحاول الحاكم أن يبتسم، ولكن اضطرابه لهذا النبأ حال دون ابتسامه، فقال له: لقد تقدم لك معي مثل هذا المزاح. - إني لا أمازحك يا سيدي وسوف يتبين لك صدق ما أقول. - حسنا، سوف نرى.
ثم خرج وهو يبتسم، ولكنه كان شديد الاضطراب لما لقيه من اطمئنان مرميس.
وبعد ذلك بنصف ساعة نقل روكامبول ومرميس إلى الغرفة التي وضعوا فيها السماعة، أما الحاكم فإنه دعا إليه البحار ديكسون قائلا: متى تنقضي مدة سجنك؟ - بعد ثلاثة أشهر. - إني إذا كنت راضيا عنك أنقصت هذه المدة إلى ثلاثة أسابيع، وعند انصرافك أكافئك بخمسة وعشرين جنيها. - إذن قل لي يا سيدي ماذا يجب أن أصنع. - تجلس أولا على هذا الكرسي. - وبعد ذلك؟ - تضع هذه السماعة على أذنك. - ها قد وضعتها. - اصغ، أتسمع صوتا؟ - إني أسمع أصوات رجلين يتحدثان. - اصغ جيدا. - إني مصغ كل الإصغاء. - ما يقول المتحدثان؟ - إني لا أفهم حرفا منهما مما يقولاه. - كيف لا تفهم؟ - إني أسمع الحديث ولا أفهم المعنى، ولكني عرفت الذي يتحدث من صوته فهو ذلك السجين الذي أمرتني أن أحادثه أمس، ولكنه لا يتكلم الآن بتلك اللغة الهندية التي كان يتكلم بها.
وصاح الحاكم صيحة غضب قائلا: ولكن اصغ جيدا فقد يكون الحديث مشكلا عليك لبعد المسافة. - كلا يا سيدي فإني أسمع حديثهما كما أسمع حديثك، ولكني لا أفهم حرفا من هذا الحديث.
فتأوه الحاكم قائلا: ما هذا الرجل؟ وبأية لغة جهنمية يتكلم؟ - لا أعلم، لكن يظهر من لهجة حديثهما ما يدل على الرضى والارتياح. - ولكن أتظن أن اللغة التي يتحدثان بها شرقية؟ - ربما، لكن تعال يا سيدي واسمع.
فأخذ الحاكم السماعة من يده ووضعها على أذنه وأصغى.
وكان روكامبول في ذلك الحين يحدث مرميس ويضحك ضحك الساخر فيجيبه مرميس بمثل ضحكه بحيث لم يسمع الحاكم غير الضحك.
ثم انقطعا عن الضحك وعادا إلى الحديث بتلك اللغة الاصطلاحية التي بسطنا مثالها، فقال الحاكم: لا شك أن هذه اللغة التي يتحدثان بها من اللغات الشرقية، وأن هذا الرجل شيطان بصورة إنسان.
ثم ضرب بيده جبينه كمن خطر له خاطر جليل وقال: سوف نرى من يفوز.
17
يوجد في جنوب وينهال قرب سكوتلاند يارد بناية عظيمة كتب على بابها بأحرف كبيرة «مدرسة الخطوط واللغات القديمة» فإنهم يعلمون في هذه المدرسة جميع اللغات القديمة كالسفسفيكوية والهيروغليفية وسواها على اللغات الغربية التي لا تهتم بها غير الإنكليز لكثرة علائقهم مع سكان المعمور.
أما الخاطر الذي خطر لحاكم السجن فهو أن يذهب إلى هذه المدرسة ويدعو جميع أساتذتها فيسمعون حديث روكامبول ومرميس ويقفون على أسرار هذه اللغة التي يتحدثان بها.
ولذلك أعاد البحار ديكسون إلى سجنه وركب مركبة فسار بها مسرعا إلى تلك المدرسة، فلقي مديرها وأخبره بمصابه مع الرجلين فابتسم المدير وقال: لا شك أنهما يتكلمان بتلك اللغة المصرية القديمة التي كان يتكلم بها المصريون في عهد الفراعنة فتعال معي ننتخب من الأساتذة من يصلح لفهم حديثهما.
وبعد ذلك بنصف ساعة خرج الحاكم من المدرسة يصحب معه أستاذين أنفقا شبابهما على درس اللغات القديمة وذهب بهما الحاكم إلى السجن.
وعند الساعة الثامنة من المساء أخذ أحد الأستاذين السماعة ووضعها على أذنه، فجعل الحاكم ينظر إليه فيرى علائم الذهول بادية عليه، فاستمر على الإصغاء خمس دقائق أخرى، ثم وضع الآلة موضعها وقال: إني لا أفهم شيئا من حديثهما.
فأخذ الأستاذ الثاني الآلة وفعل مثل زميله ثم أعاد الآلة وقال مثل رفيقه فكاد الحاكم يجن من قنوطه.
وكان من رأي أحد الأستاذين أن اللغة التي يتفاهم بها الأسيرين هي إحدى لغات جزر الأوقيانوس، وأنها تشبه لغة جزيرة صندوبج وارتأى الأستاذ الثاني أنها لغة العبيد في أواسط إفريقيا.
ثم اتفق الاثنان أنهما لا يعرفان هذه اللغات، وأشارا على الحاكم أن يدعو رجلا يعرفانه، كان قد أسر مرة في بلاد الكونغو، وطاف جميع جزر الأوقيانوس.
وقد ذكرا للحاكم اسم هذا الرجل وأرشداه إلى عنوانه فأرسل أحد حراس السجن يدعوه.
ولم يكن هذا الرجل يقيم في مدرسة اللغات، بل كان يقيم في ضواحي لندرا فلم يستطع الحارس أن يعود به إلا بعد ثلاثة ساعات.
وكان قد دنا انتصاف الليل، غير أن الأسيرين لم يكن في نيتهما أن يناما كما يبدو، فإنهما كانا لا يزالان يتحدثان ويضحكان فيقع ضحكهما على هذا الحاكم المنكود وقوع الصواعق.
ولما جاء الرجل أصغى إلى حديثهما بالآلة ثم أعادها وقال: ليست هذه اللغة من لغات بني الإنسان.
فاضطرب الحاكم وقال: كيف ذلك؟ أليست من لغات جزر المحيط؟ - كلا. - ألعلها إحدى لغات العبيد في إفريقيا؟ - ولا هذه أيضا.
فتجهم الحاكم وانقبضت نفسه حتى إنه أوشك أن يعول على الانتحار ليأسه من الرجلين، غير أن أحد الأستاذين اللذين جاء بهما من المدرسة خطر له خاطر فدنا من الحاكم وقال له: أليس هذان الأسيران فرنسيان؟ - أظن. - ألم تسمع بتلك اللغة الفرنسية الاصطلاحية، التي يتكلم بها اللصوص في فرنسا؟ - نعم. - إنهما يتكلمان بهذه اللغة. - أيوجد في لندرا من يفهم بها؟ - لا بد أن يكون في سجن من سجونها أسير فرنسي.
فنادى الحاكم عند ذلك رئيس الحراس وسأله عن ذلك، فقال: يوجد عندنا في نوايت سجين فرنسي متهم بسرقات كثيرة. - جئني به في الحال.
فأسرع الرئيس وجاءه به، فسأله إذا كان يعرف تلك اللغة فأجابه أنه يعرفها كما يعرف الإنكليزية.
فقال له: ضع إذن هذه الآلة على أذنك واسمع.
فامتثل اللص وأصغى قليلا ثم التفت إلى الحاكم وقال: ليست هذه لغة اللصوص الفرنسيين، ولكنها اللغة الجافانية.
فهز أحد الأستاذين كتفه وقال: لو كانت لغة أهل جافا لفهمنا الحديث. - لم أقل إنها لأهل جافا، بل هي خاصة يتكلمها بعض أهالي باريس ويدعونها جافانية.
فقال الحاكم: ولكنك تفهمها دون شك. - كلا يا سيدي، إنها لغة النساء والنبلاء في باريس.
قال الحاكم وقد بلغ منه القنوط مبلغا عظيما: ولكن ماذا نفعل؟ - يجب أن تحضر من باريس من يعلمها. - ولكن ذلك يقتضي ثلاثة أيام بين ذهاب الرسول وإيابه وبحثه عمن يعرف هذه اللغة. - إذن فاطلب بالتلغراف إحدى محرري جريدة جافا فإن مركز هذه الجريدة في شارع مونتمارتر.
فانذهل الأساتذة الثلاثة وقالوا: كيف ذلك، أتطبع جريدة بهذه اللغة في فرنسا؟ - وهي جريدة كثيرة الانتشار لديها نحو سبعين ألف مشترك.
فقال الحاكم: لكن ذلك يقتضي له زمن طويل، وإذا لم يكن غير هذه الطريقة فلا بد من إجرائها.
وقبل أن يتم كلامه دخل رئيس الحراس والذعر ملء قلبه فقال: رباه ماذا صنعنا وما هذا الخطأ الذي أخطأناه؟
فذعر الحاكم وقال له: ويحك أي خطأ؟ - إننا سجناه باسم روكامبول وهو صديق مخلص للسكرتير الأول في سفارة فرنسا، وقد جاء هذا السكرتير الآن إلى السجن وهو يرغي ويزبد، ويطلب تعويضا هائلا.
فصاح الحاكم صيحة منكرة وسقط على كرسيه وقد وهنت قواه.
18
وكانت الساعة الرابعة بعد منتصف الليل وقد ذهب ميلون إلى منزل هذا السكرتير بالكتاب الذي أعطاه إياه مرميس، فقيل له: إنه في حفلة راقصة فالتمس أن يأذنوا له بانتظاره؛ لأن الأمر خطير، فأذنوا له وأقام ينتظر إلى الساعة الثانية بعد انتصاف الليل، فلم يعد فقال له الخادم: إذ كان الأمر خطيرا كما تقول، ولا بد من مقابلته الليلة فاذهب إلى نادي ويست أنديا لأنه هناك.
وأسرع ميلون إلى ذاك النادي فقال له البواب: إن السكرتير أحد أعضاء النادي، ولكنه لا يأتي إليه قبل الساعة الثالثة.
فاضطر ميلون أن ينتظر ويتذرع بالصبر إلى أن قدم هذا السكرتير واطلع على كتاب مرميس فتأثر تأثرا كبيرا وأسرع إلى مركبته يصحبه ميلون، فذهب وإياه إلى سجن نوايت.
ولا يجيز قانون السجون لأحد أن يدخل إليها في هذه الساعة المتأخرة غير أن السكرتير كان يتكلم بلهجة السيادة فينذر ويتوعد بمداخلة سفير فرنسا حتى اضطر بواب السجن إلى مناداة رئيس الحراس.
ولما جاء قال له السكرتير: يوجد عندكم سجين فرنسي. - بل لدينا كثير من الفرنسيين. - لكني أعني رجلا فرنسيا قبضتم عليه في فندق التيجان. - نعم، وهو من أشد أهل الجرائم.
فضحك السكرتير وقال: إنكم تدعونه روكامبول أليس كذلك؟ - نعم يا سيدي. - إن هذا الرجل الذي أودعتموه السجن من أعيان الباريسيين، ومن أصدق إخواني، وأنا أطلب باسم الحكومة الفرنسية الإفراج عنه على الفور.
فاضطرب الرئيس وقال: إن هذا الأمر يا سيدي منوط بالحاكم وما أنا غير قائد الحرس. - إذن اذهب وناد الحاكم. - أفي هذه الساعة يا سيدي؟ - دون شك، وإذا كان قد نام أيقظه من رقاده وقل له: إني السكرتير الأول في سفارة فرنسا.
وخاف قائد الحراس وأيقن من خطورة الأمر وأسرع إلى الحاكم وأخبره بما كان كما قدمناه.
غير أن السكرتير كان قد تبع الحارس إلى غرفة الحاكم لاستقباله وهو يضطرب، فقال له السكرتير دون أن يكترث للأساتذة الثلاثة: إني أتيت إليك لأسألك الإفراج عن صديق لي قد قبضتم عليه خطأ.
فسأله الحاكم بصوت يتلجج: ألا يمكن يا سيدي أن تكون أنت المخطئ فإن الرجل الذي جاءوني به هو روكامبول نفسه؟
فأجابه السكرتير ببرود: إذا كنت تعتقد أني أنا المخطئ فإن التحقيق سهل ميسور. - كيف ذلك يا سيدي؟ - ذلك أن تجمعني بهذا الرجل الذي تدعونه روكامبول.
فتولد الرجاء عند ذلك في قلب الحاكم؛ إذ قال في نفسه: إن مثل هذا السكرتير على علو مقامه لا يمكن أن يكون له صحبة مع المجرمين والأشرار.
وكان في اعتقاده أن رجلا نبيلا لا يحدث رجلا كالرجل العبوس بلغة سرية كل الليل فلا بد إذن أن يكون من أمثاله، لذلك رضي باقتراح السكرتير وقال: هلم معي يا سيدي إلى غرفة الأسير.
ثم مشى أمامه يتقدمه قائد الحراس وتبعهم الأساتذة الثلاثة، أما ميلون فإنه بقي عند الباب الخارجي؛ إذ خشي أن يرى روكامبول فيخونه الجلد ويفضح أمره لا سيما وأن مرميس أوصاه ألا يدخل إلى السجن.
ولما فتح الحاكم غرفة روكامبول ودخل الجميع إليها صاح مرميس صيحة فرح ووثب من سريره إلى السكرتير.
فصاح السكرتير قائلا: لقد ساءني جدا أيها الصديق ما أصابك.
فضحك مرميس وأجاب: ولكني لم أضجر في السجن، لقد تسليت كثيرا بعشرة هذا الرجل والاتفاق معه على الهزء بالحاكم.
فدهش الحاكم وقال: تقول إنكما هزأتما بي. - دون شك فإن هذا الرجل الذي وضعتموني معه في السجن فرنسي وأنا لا أعلم السبب في سجنه، لكنكم أردتم أن أكون شريكه في جرائمه، وأن أكون صديقه الحميم فاقترحت عليه عند ذلك أن نتلهى بالعبث بكم إلى أن تفرجوا عني، فأجابني إلى اقتراحي وهو رجل صالح التربية فإنه قد يكون ارتكب جريمة غير أنه يتقن اللغة الجافانية.
فقال الحاكم: إنها لغة جهنمية. - بل هي لغة لطيفة يا سيدي الحاكم وسأقفك على أسرارها.
غير أن السكرتير لم يمهله فإنه أشار إشارة توديع إلى روكامبول قائلا لمرميس: هلم معي أيها الصديق فإنهم مدينون لك بتعويض، وأقسم لك أن الغرامة ستكون عظيمة بقدر الإساءة إليك.
وبعد نصف ساعة خرج مرميس مع السكرتير من السجن وغادر ذلك الحاكم المنكود عرضة الهواجس لوثوقه من حكم القضاء عليه بالغرامة وهو لم يكن من الأغنياء.
أما روكامبول فإنه عاد إلى سريره ونام مطمئنا هادئا واثقا من فوز تلميذه بما أوصاه.
19
يوجد في لندرا جمعية أسستها نبيلات الإنكليز يشترك فيها العواقل والأوانس وغرضها تعزية من يحكم عليه بالإعدام قبيل تنفيذ الحكم عليهم.
ولنساء هذه الجمعية لباس خاص يلبسنه حين يحاولن قضاء هذه المهمة الشريفة، فإذا لبسته المرأة أصبحت فوق القانون ولو ارتكبت جريمة؛ إذ لا يجسر أحد على القبض عليها وهي لابسة تلك الثياب.
وكانت مس ألن عضوا عاملا في تلك الجمعية ، ولها غرفة في شارع سرمنت.
كانت تلبس فيها تلك الثياب حين تزور السجون لتعزية المحكوم عليهم بالإعدام.
ويذكر القراء أن فاندا ومس ألن نزلتا في فندق حين وصولهما إلى لندرا ففي اليوم التالي لوصولهما قالت لفاندا: إني لا أستطيع البقاء معك في هذا الفندق. - لماذا؟ - لأني أخاف جواسيس الأسقف وأحب أن أدافع بسلاحي. - أي سلاح تعنين؟ - إنك تعرفين شيئا عن إنكلترا، لكن قد غابت عنك أشياء، فإن في هذه البلاد امتيازات كثيرة تحول دون قوة الشرطة وسلطانهم.
مثال ذلك، تلامذة مدرسة أبناء المسيح، وأعضاء جمعية إعانة المحكوم عليهم بالإعدام، فإن الشرطي إذا تجاسر على اعتراض سيدة من أعضاء هذه الجمعية وهي بالثياب الخاصة هجم عليه الناس ومزقوه تمزيقا، وأنا من أعضاء هذه الجمعية، لذلك فقد وجب أن ألبس لباسها الخاص كي أنجو من غدر الأسقف. - ولكن أين مركز هذه الجمعية؟ - إني لا أذهب الآن إلى مركز الجمعية، بل إلى الغرفة التي أضع فيها ملابسي الخاصة وهي قريبة من هذا الفندق فهل تذهبين معي؟
ورضيت فاندا بالذهاب معها.
وذهبتا حتى إذا وصلتا إليها وارتدت مس ألن تلك الثياب الخاصة قالت: إني لا أخشى الآن حقد الأسقف. - وغضب أبيك؟
فابتسمت وقالت: إن كلمتي الأخيرة لم أقلها بعد لأبي فإنه يحبني حب عبادة ولا يزال يحبني هذا الحب. - إذن فهو شديد التعاسة لبعدك عنه. - دون شك، ولكني سأقنعه وأجعله من حزبي. - أتجسرين على مقابلته والذهاب إليه؟ - كيف لا وإني سأذهب إليه في رابعة النهار. - ألا تخافين أن يبقيك في المنزل؟ - ولكني أذهب إليه بهذه الثياب وهي تحميني.
ثم قالت بعد سكوت قصير: إني أحب الرجل العبوس الآن وكنت السبب في دخوله إلى السجن وأنا أتولى إنقاذه.
وكانت تتكلم بلهجة الواثق المطمئن، ثم قالت: إني وافقت على مشروعكم ومشروع أصحابكم، ولكن هذا المشروع قد يخفق فإذا لم تنجح مساعيكم فلا بد من نجاحي.
وبعد حين عادت فاندا إلى الفندق، وبقيت مس ألن في تلك الغرفة، وكانت قد استخدمت فتاة إرلندية تصلح لها غرفتها وتحضر لها الطعام في الفندق. إرلندية تصلح لها غرفتها وتحضر لها الطعام في الفندق. •••
مضى على ذلك يومان ففي اليوم الثالث ذهب مرميس إلى الفندق الذي تقيم فيه فاندا، فسرت سرورا عظيما لمرآه وقالت له: أرأيت الرئيس؟ - وأقمت معه يوما وليلتين. - أتلقيت أوامره؟ - تلقيتها تامة، فأين هي مس ألن وكيف لا أراها معك؟
فأخبرته فاندا بجميع ما اتفق فقال لها: إذن هلم بنا إلى غرفتها؛ إذ يجب أن أراها.
فذهبت فاندا به إلى غرفة مس ألن، واجتمع بها، ثم بدأت تسأله عن روكامبول أدق السؤالات ودلائل الغرام ظاهرة بين عينيها، وهي تضطرب كلما ذكرت اسمه كأنها تراه.
فقال مرميس وهو يبتسم: اطمئني يا سيدتي ... سوف ننقذه، ولا بد من إنقاذه.
ثم أخبرها أن روكامبول أمره أن يقابل الأب صموئيل، وسألها كيف يستطيع أن يجده، فأخبرته أن هذا الكاهن مختبئ منذ قبض على الرجل العبوس؛ لأنه متهم مثله بتحريض الإرلنديين على الإنكليز، ولكني أعلم أين هو. - أين؟ - تذهب إلى سنوارك وتدخل إلى كنيسة سانت جورج فتقول لبوابها: إني قادم لخدمة الإرلندية وكلمه باللغة الفرنسية فإن ذلك يزيد ثقته بك. - أيرشدني إلى مقام الأب صموئيل؟ - ربما ولا سيما إذا كلمته عن الرجل العبوس. - إذن سأذهب الآن فإن الوقت غير متسع لدينا، لا سيما وأن الرجل العبوس يطلب من زعماء الإرلنديين جلسة خاصة للبحث في شأنه.
فقالت له مس ألن: اذهب وأسرع بما أمرك به فإذا لم ينقذه الإرلنديون فأنا أعلم كيف أنقذه.
فانصرف مرميس وخرجت فاندا وهي تفتكر بمس ألن وتقول: رباه ما هذا الحب فهي توشك أن تجن لهواه، فيالله من نضارة الشباب!
20
وبعد حين كان مرميس وميلون سائرين إلى كنيسة سانت جورج وهما لا يكادان يهتديان لكثافة الضباب، حتى إذا بلغا إليها طرق مرميس الباب ففتح له البواب الشيخ، فلما رأى هذين الرجلين ظهرت عليه علائم الخوف فقال لهما: ما تريدان؟
فقال مرميس تلك الجملة التي علمته إياها مس ألن؛ وهي أننا قادمان لخدمة إرلندا.
فأجابه البواب قائلا: إني لم أعلم ما تريد. - إني أريد أن أرى الأب صموئيل. - إنه غير موجود هنا وربما كان في سانت جيل.
غير أن مرميس أيقن أن البواب كان كاذبا فيما ادعاه فقال له: احذر أيها الشيخ فإنك قد تضر إرلندا ضررا بليغا إذا لم ترشدنا إلى الأب صموئيل. - ألعلكما إرلنديان؟ - كلا بل نحن أصدقاء الإرلنديين. - وقد تكونان أيضا من أصدقاء الإنكليز، فاذهبا في شأنكما فإنهم حين قبضوا على الكاهن خدعوه بمثل هذه الأقوال. - ولكننا قادمان من فرنسا وقد رأينا رالف وأمه حنة.
فتراجع الشيخ خطوة إلى الوراء، فأيقن مرميس أن اسم الغلام وأمه قد أثرا عليه فقال له: أتريد أن أصفهما لك، فإن حنة طويلة القوام سوداء الشعر زرقاء العينين وافرة الجمال، وأن رالف عمره عشرة أعوام وهو كثير التيه كأبيه السير إدوارد بالمير. - وقد رأيتهما كما تقول؟
فقال ميلون: وهما الآن عندي. - أين؟ - في منزلي في باريس.
غير أن الشيخ لم يثق كل الوثوق بكلامهما فقال لهما: إني أصدقكما، ولكني لا أعلم مكان الكاهن.
فقال له مرميس: كلا بل أنت تعلم، ولكنك لم تصدق حديثنا بعد، فهل تعرف الرجل العبوس؟
فارتعش الشيخ لذكر اسمه وقال له: أتعرف الرجل العبوس أيضا؟ - أتعرف أيضا شوكنج؟
فكاد الريب يزول من قلب الشيخ، وقال له: أتثبت لي أنك تعرف شوكنج؟ - إن الأمر سهل فهو ليس في لندرا. - هذا أكيد. - وهو في فرنسا مع رالف وأمه.
فلم يقتنع بهذا البرهان وقال: إن هذا أكيد أيضا، ولكن الشرطة الإنكليزية لا تخفاه خافية وقد تكونان من الشرطة.
فيئس مرميس وقال: إذا كنت لا ترشدنا إلى الأب صموئيل، أفلا تسمح لنا على الأقل أن نعهد إليك بإيصال هذه الرسالة إليه. - إذا رأيته. - لنفرض أنك تراه فإذا رأيته فأعطه هذه الرسالة وقل له: إنها من الرجل العبوس.
فأخذ الشيخ الرسالة من مرميس وقال له: عد في الغد أو في المساء فقد يتفق لي أن أرى الكاهن. - حسنا.
ثم أضاف قائلا: هلم بنا نذهب.
فقال ميلون: كيف نذهب وقد قيل لنا إن الكاهن هنا. - تعال معي وسوف ترى.
فلما ساروا خارج الكنيسة قال ميلون: لقد أخطأنا، فقد كان يجب أن نلح على هذا الشيخ، فإذا أبى أن يجمعنا بالأب صموئيل قبضت أنا على عنقه فمنعته عن الصياح، ودخلت أنت إلى الكنيسة وبحثت عن الأب صموئيل.
وكانا لا يزالان داخل السور فقال له: اجلس هنا على هذا الصخر ثم انظر إلى العلا ألا ترى قبة الجرس؟ - إن الضباب كثيف فلا أرى شيئا. - ولكن حدق النظر، فماذا ترى؟ - إني أرى نورا يتصاعد إلى القبة. - إذن، فاعلم أن الأب صموئيل مختبئ في تلك القبة وهذا النور الذي تراه مصباح الشيخ؛ لأنه صعد إليه بالرسالة فلننتظر هنيهة. - لماذا؟ - سوف ترى.
وبعد حين وجيز جعل ذلك النور ينزل بعد صعوده، ولكنه كان يهبط بسرعة.
فتابع مرميس: إن هذا الشيخ المسكين يجري الآن بهمة الفتيان. - وكيف ذلك؟ - إنه ينزل من السلم راكضا. - لماذا؟ - لرجائه أن يدركنا قبل أن نحتجب عن الأنظار وسوف ترى.
وكان مرميس مصيبا في ظنه، فإن الشيخ لم يلبث أن فتح باب الكنيسة وخرج راكضا إلى فنائها حيث كان ميلون ومرميس.
21
لم يكن مرميس مخطئا حين أخبر ميلون أن هذا الشيخ قد صعد بمصباحه إلى قبة الجرس لمقابلة الأب صموئيل، فإن هذا الكاهن كان مختبئا حقيقة في غرفة سرية كائنة في القبة لم يكن يعلم سرها غير بواب الكنيسة وكاهنها والأب صموئيل.
وقد أنشأ الإرلنديون هذه الغرفة الخفية منذ خمسين عاما، وذلك أن أحد كهنتهم أهان أسقف كانتربوري، في ذلك العهد، وطعن بمذهب البروتستانت، فطاردته الحكومة.
وبقي مختبئا في أحد بيوت الإرلنديين حتى بنوا له هذه الغرفة فاختبأ فيها حتى انقضت مشكلته.
ومنذ خمسين عاما إلى عهد هذه الرواية، لم يدخل تلك الغرفة إلا الأب صموئيل.
وذلك أنه جاء ليلة إلى بواب كنيسة سانت جورج وقال له: يجب أن أختبئ.
فرد الشيخ: لماذا، ألعلهم يطاردونك؟ - نعم فقد بحثوا في أوراقي مدة غيابي فوجدوا بينها رسائل من الرجل العبوس الذي قبضوا عليه فأمروا بالقبض علي.
وكان ذلك بمساعي الأسقف بترس توين، فإنه استصدر أمرا من نظارة العدلية بالقبض على الأب صموئيل، ولكنه تمكن من الاختباء قبل أن يعثروا عليه.
ولقد طال اختباء الأب صموئيل، حتى إنه تعذر على زعماء الإرلنديين الاجتماع.
ولكن رسائل الكاهن كانت تصل إليه، وقد وصل إليه التلغراف الذي أرسله مرميس من العاصمة الفرنسية، بواسطة أحد عمال التلغراف الإرلنديين.
أما مبالغة البواب في الحذر من مرميس وميلون، فذلك لأن أفراد الشرطة السرية الإنكليزية كانوا يأتون كل يوم إلى الكنيسة بأزياء مختلفة ومطالب متنوعة فلم يفوزوا بحيلة من حيلهم.
غير أن الأب صموئيل تبين الصدق من لهجة الرجل العبوس فقال للشيخ: من جاء بهذه الرسالة؟ - رجلان. - أين هما؟ - أطلقت سبيلهما. - أمن عهد بعيد؟ - كلا، بل الآن وقد يكونان باقيين في الفناء. - إذن أسرع إليهما وجئني بهما فإنهما من الأصدقاء.
فهرول الشيخ مسرعا وهو ينزل درجات السلم ثلاثا ثلاثا حتى أدركهما فوضع يده على كتف مرميس واستوقفه.
فسأله مرميس: ما لي أراك تلهث من التعب؟ - لأني عدوت عدوا بغية إدراكك. - وأنا أبطأت في الخروج ليقيني أنك ستعود إلي. - إذن اتبعاني إلى الكاهن؛ لأنه ينتظركما.
وبعد هنيهة كان مرميس وميلون في خلوة مع ذلك الكاهن الشاب، فقال له مرميس: إنك قد علمت دون شك، من الرسالة أني خارج من سجن نوايت. - نعم، فهل لقيت الرجل العبوس؟ - بت معه ليلتين.
فوضع الأب صموئيل يده على جبينه وقال: إن من أعظم الشقاء أن يكون العبوس في سجن نوايت. - ولكنه سوف يخرج منه.
فرفع الأب صموئيل عينيه إلى السماء قائلا: وا أسفاه إنك لا تعرف الإرلنديين كما يظهر. - ماذا تعني؟ - إن الرجل العبوس كان زعيمنا الأكبر بضعة شهور، فما تولى أمرا من أمورنا إلا كان الفوز رائده.
على أن أولئك الإرلنديين على شدة تمسكهم بالدين المسيحي لا يزالون من أهل التفاؤل والتشاؤم، فقد كانوا يعتقدون أن للرجل العبوس قوة فوق قوة البشر، ولكنه سقط في الفخ الذي نصب له فتغير اعتقاد الإرلنديين به ولم يعد بينهم من يعتقد به ذلك الاعتقاد السابق. - ولكن ألم يحاول أحد إنقاذه؟ - كلا وا أسفاه.
فابتسم مرميس قائلا: إن الرجل العبوس لم يؤخذ اغتيالا وإذا كان قد خدعه الإنكليزي فهو الذي أراد أن ينخدع. - ماذا تقول؟ - أقول الحقيقة.
فتراجع الأب صموئيل لفرط ما أدهشه هذا النبأ.
وتابع مرميس قائلا: إنه رضي أن يؤسر للبلوغ إلى غاية لا ينالها إلا من هذا الباب. - إني لا أفهم ما تقول يا سيدي. - إنكم يا سيدي الكاهن تعرفون أعداءكم الألداء في لندرا، فهل لك أن تذكرهم لي؟ - إنا لنا ثلاثة أعداء أشداء لا نرهب سواهم. - من هم؟ - إن أولهم الأسقف بترس توين زعيم المذهب الإنجليكاني. - والثاني؟ - هو اللورد بالمير. - والثالث؟ - المس ألن ابنة اللورد بالمير وهي ألد أعدائنا. - إنك مخطئ يا سيدي الكاهن. - كيف ذلك؟ - ذلك أن المس ألن لم تعد من أعدائكم. - ماذا تقول؟ - لا أقول غير الحق يا سيدي، فإن المس ألن أصبحت إرلندية مثلكم بفضل الرجل العبوس.
22
وقد كان هذا الخبر شديد الوقع على الأب صموئيل، حتى إنه أوشك أن لا يصدقه لغرابته فقال لمرميس: ألعلك واثق يا سيدي أن الرجل العبوس لم ينخدع؟ - بماذا؟ - بالمس ألن؛ لأنها شديدة الخداع والرياء وقد يكون ما بدا منها مظاهرة ترمي بها إلى غرض من الأغراض. - لقد كانت مرائية خداعة، كما تقول، إلى أن غلبها الرجل العبوس. - ألعلها تهواه؟ - إنها أحبته، بل فتنت به وتدلهت بهواه، منذ قبض عليه رجال الشرطة.
وكان مرميس قد علم من روكامبول، خلال إقامته معه في السجن جميع الحوادث التي جرت في لندرا منذ ستة أشهر.
فقص على الأب صموئيل كيف أن المس ألن كادت للرجل العبوس تلك المكيدة، وكيف أنه سقط في ذلك الفخ طائعا مختارا، فحمل الفتاة على التدله بحبه.
ثم ذكر له تفاصيل سفرها إلى العاصمة الفرنسية، وكيف أنه أنقذها من قبضة السير جمس إلى آخر ما عرفه القراء.
فلما أتم حديثه قال له الأب صموئيل: لقد وثقت الآن من أنها تهوى الرجل العبوس وأنها باتت إرلندية المشرب، ولكني أخشى أن لا يثق بانقلابها بقية الزعماء. - وإذا جاءت بنفسها إليهم؟ - قد يكون في ذلك فائدة وسأدعو الزعماء للاجتماع الليلة. - في أي مكان؟ - أتعرف لندرا؟ - حق العرفان. - يوجد شارع يدعى وينغ، وفيه زقاق يدعى ولكوس. - أعرفه. - إذن لتحضر المس ألن قبل نصف الليل بقليل. - أتحضر وحدها؟ - كلا فإن أهل الزقاق من الرعاع، وقد تعرض نفسها للإهانة إذا أتت وحدها فاصحبها وانتظر هناك. - سأحضر وإياها في الموعد المعين.
ثم حدق الأب صموئيل هنيهة، وأضاف: أتعلم ما ساعد الإرلنديين على تغيير اعتقادهم بالرجل العبوس؟ - كلا. - لأنه غير إرلندي وقد علموا أنه فرنسي.
فاستاء مرميس وقال له: إني أعلم كل ما فعله الرجل العبوس في سبيل خدمتكم بما كنتم تعدونه من الخوارق والمعجزات، ولكننا نحن أعوانه، رأيناه فعل ما يصح أن يسمى بالعجائب، وهو لو شاء الخروج من سجن نوايت، لخرج من تلقاء نفسه، دون أن يحتاج إلى مساعد.
وبدرت حركة من الأب صموئيل تفيد أنه إذا كان كذلك، فلماذا يرجو مساعدتنا؟
فأدرك مرميس قصده ورد قائلا: إن لكل نابغة يا سيدي هوس ولكل قوي شيء من الضعف.
أما الرجل العبوس فقد كان في بدء عهده من كبار المجرمين وهو من أصدق التائبين، وقد آلى على نفسه أن يكفر عن ذنوبه السابقة بنصرة كل مظلوم، وخدمة كل غرض نبيل.
وقد رآك في خمارة بين السكارى تشبه الملاك بين الأبالسة، فحن لقصدك، وبات إرلنديا مثلك، فإذا أنقذتموه أنتم أفادكم فوائد جمة لا تخطر لكم في بال. - أتطلب لي أنا إنقاذه ...؟ إني أحب هذا الرجل، كما أحب نفسي ...! - وإذا تخليتم عنه تخلى لنفسه السراح.
وكان ميلون يسمع الحديث فهاجه ما رآه من برود الأب صموئيل وقال: ونحن ماذا أتينا نعمل في لندرا؟
فتأوه الأب صموئيل وأجاب: إنه لو كان إرلنديا لأنقذوه ولو اضطروا إلى إحراق لندرا بجملتها، ولكن ما حيلتي بهؤلاء القوم وهم لا يخاطرون بأنفسهم إلا من أجل الإرلنديين.
فابتسم مرميس وقال: لقد صدق الرجل العبوس يا سيدي، حين شبهك بالملائكة، وهو لا يشك بإخلاصك، وإذا تخلى عنه الإرلنديون فلا تخف عليه فإننا نحن أعوانه نستطيع أن نفتح له أبواب السجن؛ لأننا لم نأت إلى لندرا إلا لهذا الغرض.
فأطرق الأب صموئيل مفكرا ثم أجاب: سوف نجتمع في هذه الليلة وسنرى ما يكون.
وعند ذلك هم مرميس وميلون بالانصراف، فقال له الأب صموئيل: لقد نسيت أمرا، وهو أنك لست من الإرلنديين، فلا تستطيع حضور اجتماعنا! - إذن المس ألن تذهب وحدها؟ - كلا إنك توصلها إلى ولكوس وأنا أحضر وأذهب بها.
ثم خرج مرميس وميلون، فكان ميلون يتمتم كلمات لا تفهم، ولكنها تدل على استيائه.
فسأله مرميس: ما أصابك؟ وما تقول؟ - إن الرئيس يضحي نفسه للأغراض النبيلة، ولكن هؤلاء الناس لا يدركون معنى هذه المقاصد ولا يقدرونها قدرها. - لا تتسرع بأحكامك يا ميلون، فقد يفعلون ما يريد الرئيس. - إن نيتهم ظاهرة من فتور هذا الأب. - إذا كان ذلك تولينا نحن تخليصه. - وكيف ذلك؟ أوضعت خطة لتخليصه؟ - دون شك وسنبدأ بتنفيذها الليلة. - كيف يكون ذلك وأنت ستصحب المس ألن؟ - إني سأصحبها عند نصف الليل وسأبدأ العمل قبل هذا الميعاد، فهلم معي إننا سنتحدث على الطريق.
ثم خرج وإياه من فناء الكنيسة وسارا إلى جسر وستمنستر.
23
وفيما هما على الطريق قال لميلون: لنتحدث الآن ولنراجع حسابنا فكم يبلغ عدد عصابتنا؟ - أين ذلك؟ - في لندرا. - تريد نحن والذين أتينا بهم؟ - نعم ... - أربعة أنا وأنت وفاندا ومس ألن. - لا تعد النساء فإنهن لا يدخلن في حسابنا. - نحن الاثنان ومورت وجواني وبوليت والسير جمس. - لا تحسب هذا. - وإدوارد؟ - عده، فإننا سنكون ستة، ثم إن روكامبول أهداني إلى أربعة نستطيع الاعتماد عليهم حين الاقتضاء، وإذا اضطررنا أيضا دعونا شوكنج من فرنسا.
فذهل ميلون وسأله: ولم هذا الحساب؟
فابتسم وأجابه: إنك كثير التسرع في الميل إلى معرفة الأمور قبل أوانها. - ولكني لم أفهم شيئا. - اقتصر الآن على العلم أنك ستغير مهنتك فقد كنت مقاولا في فرنسا، أهذا صحيح؟
فحملق ميلون ورد: دون شك. - لكنك ستغدو بائع حبوب.
فظهرت علائم الاستياء على ميلون وقال: أرى أنك تهزأ بي يا مرميس ولم أكن لأسمح به لغير روكامبول. - اطمئن واعلم أني لا أهزأ بك. - ولكني لم أعلم الآن أي اتصال بين بيع الحبوب والمهمة التي أتينا من أجلها. - سوف تعلم. - متى؟ - بعد ساعة.
وكان الاثنان قد وصلا إلى خمارة، فدخلا إليها وطلب ميلون كأسي شراب.
وأخذ مرميس جريدة التايمز من جيبه، وقلب صفحاتها حتى بلغ إلى الصفحة الرابعة، فوضع إصبعه فوق إعلان ودفع الجريدة إلى ميلون قائلا له: اقرأ.
وكان الإعلان يتضمن أنه يوجد محل تجاه سجن نوايت، لبيع الحبوب وسواها، وأن هذا المحل كثير الزبائن بعيد الشهرة، وأن صاحبه يريد أن يبيعه ويتنحى عن الأعمال.
فلما قرأه ميلون سأله: ما تعني باطلاعي على الإعلان؟ - لقت قلت لك إنك كثير التسرع، تريد معرفة كل شيء قبل أوانه، فاكتف الآن بأن تعلم أن لنا فوائد جمة من محل تجاه سجن روكامبول. - هذا أكيد. - وإننا إذا لم نستفد من ذلك، سوى التعارف مع عمال السجن لكفى.
فكف ميلون عن الأسئلة وشربا كأسيهما، ثم برحا الخمارة ذاهبين إلى جهة ترافلغار.
ثم سارا منها إلى سجن نوايت إلى ذلك المخزن الذي قرأ ميلون الإعلان عنه في جريدة التايمز.
فوقفا بعيدين عنه ودله مرميس عليه قائلا: يجب أن نشتري المخزن والبيت الذي فوقه.
ونظر ميلون إلى البيت، نظرة احتقار قائلا: إن هذا بيت قديم، لا يصلح لشيء. - سوف ترى ما يكون من فائدته وأنه لا يبدل بثمن، ولا بد لنا من شرائه لا سيما وأن ذلك أمر روكامبول. - إذن ليكن ما يريد فلندخل إليه.
ثم دخل الاثنان إلى المخزن، ووجدا صاحبه جالسا حول مائدة مكبا على دفاتره.
وحياه مرميس قائلا له: ألست يا سيدي، صاحب الإعلان في جريدة التايمز؟
فلما رأى أنهما قادمان لشراء مخزنه، أحسن استقبالهما، وقال لهما: نعم أنا هو.
ثم أخذ يصف لهما ما بلغه محله من الشهرة إلى أن فرغ من أوصافه، فسأله مرميس: كم ثمن مخزنك هذا؟ - ثلاثة آلاف جنيه يا سيدي، وهو ثمن زهيد بالقياس إلى شهرته ، لكني مضطر إلى اعتزال الأعمال فلا أجد بدا من هذا التساهل.
وبعد المساومة اتفقا على شرائه بألفي جنيه، فأخرج مرميس من جيبه أوراقا مالية وبسطها على الطاولة قائلا: إني أدفع لك هذا السعر، ولكني أقيدك بشرط.
فبرقت أسرة البائع حين رأى تلك الأوراق وقال: قل يا سيدي ما هو شرطك؟
فأجاب مرميس: إني سأبرح إنكلترا غدا يا سيدي، وإن رفيقي الذي تراه معي من أهلي، وأحب أن أراه متوليا أعماله قبل سفري، وإنما دفعت لك ألفي جنيه بشرط أن تبرح هذا البيت مع زوجتك في الحال. - إني غير متزوج. - إذن تتركه مع عمالك. - ليس لي أيضا عمال.
فابتسم مرميس قائلا: إن هذا خير دليل على رواج أعمالك، وكثرة زبائنك. - ما ربح هذا المحل يا سيدي من رواج بضائعه، بل من نوافذه المشرفة على السجن، فإنهم كلما شنقوا مجرما فيه اؤجرت النافذة الواحدة بعشرة جنيهات. - رضيت شرط أن تبرح محلك على أثر عقد البيع. - رضيت.
فذهبوا عند ذلك عند أحد المحامين، فكتب لهم عقدا ودفع مرميس الثمن، فانصرف البائع لفوره، وذهب مرميس وميلون إلى المحل فكتبا على بابه هذه الجملة: «تغير صاحب هذا المحل وهو مقفل مؤقتا إلى أن يتم إصلاحه.»
وبعد أن ألصق هذا الإعلان على باب المحل قال لميلون: هلم بنا الآن إلى مس ألن. - وبعدها؟ - نذهب إلى الشارع الذي يقيم فيه باعة الكتب.
فضحك ميلون وقال: إني لا أفهم شيئا مما تقول، إلا إذا كنت من الأنبياء.
وبعد هنيهة دخل مرميس إلى غرفة المس ألن فقال لها: سيجتمع زعماء الإرلنديين الليلة في ولكوس وهم ينتظرونك. - سأذهب ولا بد أن يتعهدوا لي بتخليص الرجل العبوس.
ثم قص عليها حديثه مع الأب صموئيل فقالت: لا شك أنهم حمقى؛ لأنهم يريدون أن يكون النصر حليف الرجل في كل أعماله أو يعدونه من الخاملين. - إننا نمتثل لما أمرنا به الرجل العبوس؛ لأنه يريد أن نمتحن هؤلاء الإرلنديين على أنهم إذا أبوا تخليصه خلصناه نحن غير مكترثين بهم. - دون شك فإني إذا رأيت أبي ...
فقاطعها قائلا: أترين أباك؟ - نعم إني أصنع بأبي ما أريد حين أريد. - إذن إلى اللقاء، فسأحضر في الساعة الحادية عشرة لإيصالك إلى مكان الاجتماع. •••
ثم تركها وذهب مع ميلون إلى باعة الكتب، فذهب إلى بائع بينهم يدعى سيمونز، وهو كتبي شهير لديه كثير من الخرائط والكتب التاريخية القديمة، وقال له: إني محتاج يا سيدي، إلى خريطة لندرا في القرن السادس عشر.
فأجابه الكتبي: إن هذه الخريطة التي تطلبها يا سيدي، لا يوجد منها سوى نسختين إحداهما في مكتبة المتحف والثانية في مكتبتي. - ألا تريد أن تبيعني إياها؟ - لقد دفعوا لي مائة جنيه فأبيت.
وأخذ محفظة الأوراق المالية من جيبه قائلا: وإذا دفعت لك مائة وخمسين؟ - أبيعها. - إذن هاتها.
ففتح الكتبي خزانة وأخرج منها تلك الخريطة، وهي مقسمة إلى أقسام كثيرة، وملصقة على قماش بشكل كتاب فدفعها إليه قائلا: إن هذه الخريطة يا سيدي من أغلى الآثار التاريخية، فإنها قد وضعت بأمر شارل الثاني. - إني أعرف ذلك. - وقد أمر بوضعها على أثر تلك المؤامرة الهائلة التي كان المراد منها نسف لندرا بجملتها بواسطة ألوف من براميل البارود. - إني أعرف سر تلك المؤامرة أيضا، وإني آخذ بإنشاء كتاب ولذلك أحببت شراء الخريطة للاستعانة بها على وضع الكتاب. - إذن افتحها يا سيدي لأطلعك على بعض مصطلحاتها.
فامتثل وتابع الكتبي: انظر يا سيدي إلى الخطوط الحمراء إنها تشير إلى الدهاليز التي في ذلك العهد. - ولكنهم قد هدموها بعدها كما أظن. - هو ذاك غير أني واثق أنه لا يزال كثير منها باقيا إلى الآن كما كان في عهد المؤامرة. - أين هي؟ - في ضواحي سجن نوايت على الأخص.
ثم وضع إصبعه على إحدى الشوارع المرسومة في الخريطة وأضاف: انظر يا سيدي إلى هذا الشارع فإنه فيه منزلا تجاه سجن نوايت، يمتد تاريخ بنائه من القرن الرابع عشر. - لقد بات أثرا تاريخيا ولا بد لي أن أراه. - إني على اليقين أنك ستجد في أقبية البيت أثر الدهاليز المرسومة في هذه الخريطة.
فأجابه بلهجة تدل على عدم الاكتراث: إن ذلك قد يكون، وسوف نرى.
ثم دفع ثمن الخريطة كما اتفقا وخرج من عنده مع ميلون، فنظر ميلون إلى مرميس نظرة إعجاب قائلا: بدأت أفهم الآن.
فابتسم قائلا: الحمد لله.
24
وعند ذلك عاد مرميس وميلون إلى المحل الذي اشترياه فدخلا إليه وجعل مرميس ينظر إلى بضائعه ويقول: لا شك أن ذلك البائع كان جل اعتماده على تأجير النوافذ كما تدل بضائعه. - هو ما تقول، إن كل بضائعه لا تباع بدينار. - ولكننا سنشتري له خير البضائع فتعين فيه امرأة حسناء للصندوق. - ماذا تقول؟ - وتعين أيضا عاملين للبيع وكاتبا للدفاتر والمراسلات. - إذن تريد حقيقة أن أكون من التجار؟ - إني لم أقل غير ذلك. - ولكن لماذا؟ - لأننا في حاجة إلى جمع العصابة كلها في محل واحد دون أن نستلفت إلينا الأنظار فإن مورت وجواني يكونان العاملين للبيع وبوليت لمسك الدفاتر وامرأته بولينا للصندوق. - لقد حسبت أني فهمت في البدء. - وأنت ألم تفهم؟ - وكيف تريد أن أحل هذه الألغاز؟ - إذن فاسمع أن الكتبي قال لنا: إن هذا المنزل لا بد أن توجد في أقبيته الدهاليز التي حفرت أيام المؤامرة. - نعم. - أما هذه الدهاليز قد تكون متصلة بسجن نوايت، ولكنهم قد يكونون هدموا مداخلها فلا بد لنا إذن من الاستعانة بهذه الخريطة لإيجاد مداخل تلك الدهاليز، فإذا وجدناها فلا بد من استعمال الرجال والآلات لتطهيرها وفتح منافذها، فهل يجمل بنا استئجار العمال من لندرا لهذا الغرض السري الخطير فإنهم لا يخرجون في المساء حتى يذيعوا أمرنا فيعلمه جميع الناس؛ ولذلك وجب أن يكون عمالنا منا. - أصبت، وأرجو أن تعذرني فقد كان يجب أن أدرك القصد قبل أن تصرح به، ولكني بطيء الفهم كما تعلم. - أما عمالنا أي رجال عصابتنا وهم أنت وبوليت ومورت وجواني فسيكونون عمالا في المحل نهارا وعمال حفر وتنقيب في الليل. - اسمح لي أن أسألك سؤالا آخر وهو أنه لو عثرنا بهذه الدهاليز أتظن أنه يوجد بينها دهليز يتصل بسجن نوايت؟
فتح مرميس الخريطة وأرى ميلون الخطوط الحمراء فيها التي تعين مواضع الدهاليز فدله على خط أحمر على الجهة اليمنى من المنزل إلى ناحية السجن. - حسنا، ولكن لا يظهر في هذا الرسم إلى أين ينتهي الدهليز، ولا مقدار عمقه. - ولكننا سنعلم. - متى؟ - بعد يومين. - كيف ذلك؟
فضاق صدر مرميس لكثرة أسئلته وقال له: صبرا أيها الصديق فستعلم كل شيء في وقته ليس لنا الآن متسع من الوقت لهذه الأبحاث.
فأطرق ميلون برأسه ولم يجب، أما مرميس فإنه نظر في ساعته وقال: إن الساعة الثامنة الآن ويجب أن أذهب إلى مس ألن بعد ثلاث ساعات، فهلم بنا الآن نتعشى ثم نذهب للبحث عن رجال العصابة فأين تركتهم؟ - تركت مورت وجواني في يوكدنج حيث يقيم تجار الخيل الفرنسيين. - وبوليت؟ - إنه يقيم مع امرأته في فندق سابونيير. - إذن هلم بنا إلى هذا الفندق، فإني محتاج إلى بوليت وزوجته قبل الآخرين. •••
بينما كان ميلون ومرميس يتعشيان كانت فاندا عند مس ألن.
وكانت مس ألن تتأهب لحضور اجتماع زعماء الإرلنديين فنظرت إلى فاندا وقالت لها وهي تبتسم: رباه ما أشد الإنسان تعرضا للتغيير فإن اسم الإرلنديين كان يثير العواصف في قلبي منذ شهرين، وكنت أرى أنه يتحتم على إنكلترا إبادتهم من الوجود؛ لأنهم كانوا يشبهون عندي الحشرات السامة.
فابتسمت فاندا وقالت لها: والآن؟ - أما الآن فإن الإرلنديين إخواني. - إن ذلك لا يستغرب فقد قيل لي إنك إرلندية الأصل. - هو ذلك، ولكن أبي بات إنكليزيا وجعلته الحكومة لوردا استرضاء له فصارت إنكلترا موطنا لنا. - وكل هذا الانقلاب أحدثه الرجل العبوس؟
فأجابتها بإعجاب: إنك تعرفينه حق العرفان فلا تجهلين نظراته التي تخترق القلوب.
فتنهدت فاندا وقالت: نعم أعلم. - إننا حين ننقذه ويغدو حرا أكون عبدة له وأمشي وإياه جنبا إلى جنب في السبيل الذي ننهجه وهو حرية إرلندا.
وقالت فاندا لنفسها: رباه قد بلغ حبه من قلبها، ثم انحدرت دمعة من عينيها فمسحتها وعندها طرق الباب ودخل مرميس وقال لمس ألن: ألعلك يا سيدتي متأهبة للرحيل؟ - نعم.
وكانت قد لبست الثوب الخاص بنساء تلك الجمعية التي تقدم لنا وصفها.
25
انتصف الليل وظهر شارع وينغ بمظهره الحقيقي الذي طالما وصفناه فيما تقدم من أجزاء هذه الرواية؛ لأن هذا الشارع لا يمر به إلى الساعة الثامنة غير أولئك العمال النشطاء الذين يعودون من أعمالهم إلى منازلهم ليناموا، ثم يستفيقون في الساعة الرابعة من الصباح للعودة إلى العمل.
وفي ذاك الحين تقفل أبواب المخازن وينقطع لعب الأولاد في الطرقات والمستنقعات وتسود السكينة في الشارع الرهيب وأزقته الكثيرة.
حتى إذا أوشك الليل أن ينتصف بدأت المخازن الليلة بفتح أبوابها وكثر تردد الناس وازدحامهم، وغصت بهم الحانات، وامتلأت الشوارع باللصوص والبحارة والسكارى فإذا بلغت الخمرة مبلغها من الرءوس لا تجد غير المعربد أو اللص المحتال، ثم تضيق بأصحابها فيتركون المناضد إلى الأزقة بحيث يغدو الشارع بجملته حانة واحدة.
كل هذا والشرطي واقف ينظر إليهم غير مكترث لهم؛ لأن الشريعة الإنكليزية تقضي باحترام حرية الأفراد على أن لا يمسوا حرية سواهم ولذلك يتعذر على المرأة الشريفة أن لا تمر بمثل هذه الشوارع.
غير أن مس ألن كانت مرتدية بثوب السجون وهو ثوب يحترمه كل إنسان في لندرا، حتى اللصوص، بل إن اللصوص وأهل الجرائم يبالغون باحترام هذا الثوب؛ لأن كلا منهم يعلم أنه قد يحتاج يوما إلى تعزية هؤلاء النساء النبيلات في آخر ساعات حياتهم؛ إذ لا بد أن تبلغ بهم الجرائم إلى مواقف الإعدام.
ولما انتصف الليل ومرت مس ألن بثوبها بين أولئك الرعاع فعل ثوبها بهم فعل السحر فإنهم انقطعوا حين بدت لهم عن الغناء والعربدة ووقفوا جميعهم بملء الاحترام.
وكان مرميس يسير معها بين أولئك الجماهير وقد اتشح برداء كبير ستر معظم وجهه فما زال سائرا بها حتى وصل إلى المكان المعين، فجلس معها على مقعد لينتظر قدوم الأب صموئيل.
ولم يطل انتظاره فإنه رأى الأب قادما فأسرع لاستقباله وقال: هذه هي مس ألن يا سيدي بانتظارك؟ - إن الوقت متسع لدينا فلننتظر. - ولكن الليل قد انتصف. - هو ذاك غير أن النور لم يتقد بعد. - ما هو هذا النور؟
وأشار بيده إلى منزل في زاوية الشارع وقال: سيبدو لكم قريبا نور فوق سطح هذا المنزل. - ألعل هذا النور إشارة؟ - نعم ... - ولكننا لا ننتظر طويلا فهذا النور قد ظهر.
والتفت الأب صموئيل ورأى النور قد سطع هنيهة ثم انطفأ فقال لمس ألن: إذن هلمي بنا فقد آن الآوان.
ثم التفت إلى مرميس وقال: وأنت أين نجدك؟ - هنا. - ولكن غيابنا قد يطول. - لا بأس فإن لدي من التبغ ما يخفف علي عناء الانتظار، وفوق ذلك فإن الرجل العبوس قد عهد إلي بمهمة؛ وهي أن أقابل رجلا بحارا يدعى وليم وفتاة تدعى بيتزي. - أما أنا فإني أعود مع مس ألن بعد ساعة.
ثم تركه وسار معها قائلا لها: إن ملابسك هذه خير واق فإني قد أفرغت الجهد في الحيلة حتى بلغت إلى هذا المكان دون أن يقبضوا علي، أما الآن فإني لا أخشى خطرا ما زلت معي، وأي شرطي يجسر أن يقبض على رجل يصحب فتاة من أخوات السجون.
فتأبطت الفتاة ذراعه وسارت وإياه.
26
بينما كانت مس ألن تسير متكئة على ذراع الأب صموئيل كان مرميس يبحث عن وليم كما أمره الرجل العبوس.
وكان روكامبول أخبره عن الحانات التي يتردد إليها هذا الرجل، وهو ذاك البحار القوي الذي اختصم مرة مع روكامبول حين كان يطارد الإرلندية والدة رالف وصرعه روكامبول مرات كما يذكر قراء ابن إرلندا، وبات هذا الرجل الذي لم يغلبه أحد قبل روكامبول عبدا له، وجعله من أعوانه، وكان يعتمد عليه في بعض المهام لما رآه من إخلاصه.
ولم يكن مرميس يعرفه، ولكنه دخل إلى إحدى الحانات التي يكثر تردده إليها وهو يرجو أن يعرفه من أوصافه أو يسأل عنه؛ لأنه كان مشهورا في تلك الناحية.
ولما دخل إلى الحانة أسرعت إليه فتاة إرلندية وسألته أن يسقيها كأسا من الشراب، فأجابها مرميس إلى ما سألته، وجلس معها حول مائدة وجعل يحادثها أحاديث مختلفة إلى أن ورد ذكر البحارة فقال لها: أتعرفين بحارا يدعى وليم ويقيم في وينغ؟ - أجارك الله يا سيدي أتريد أن تخاصمه؟ - كلا، ولكني أحب أن أراه. - ومن لا يعرف هذا الرجل، فهو عشيق بيتزي، وما هو بحار إلا بالاسم فإنه لا يشتغل منذ ثلاثة أعوام وعشيقته تنفق عليه. - ولكن كيف خطر لك أني أريد مخاصمته؟ - هو أنكم معشر الفرنسيين لا تهابون أحدا؛ لأن وليم لا يجسر أحد على معارضته فيما يريد لما بلغ إليه من قوة الساعد، فهو السيد المطلق في هذه الأحياء، غير أنه اتفق مرة أن وليم كان يحاول الاستبداد بامرأة إرلندية، وقد أكرهها على الدخول إلى هذه الحانة وهي تستغيث، ولا يجسر أحد على أن يغيثها، وكان في الخمارة رجل فرنسي يشبهك بقوامه وبعض ملامحه، غير أن له نظرات تنفذ إلى القلوب، وعينين براقتين لم أر مثلهما في وجه إنسان، ولما رأى هذا الرجل استبداد وليم بالمرأة وتبين في وجه تلك المرأة ملامح الصلاح؛ حمل على وليم حملة منكرة وقذفه قذف النواة، فأكبر الناس هذه الجرأة وعجبوا لهذه القوة النادرة.
أما وليم فإنه نهض عن الأرض وهي يرغي كالجمال وهجم على الرجل الفرنسي هجوم الكواسر، فحمله الفرنسي مرة ثانية وقذف به كما فعل في المرة الأولى، ثم أعاد الكرة مرة ثالثة فلم يكن نصيب وليم غير الخذلان، وعند ذلك أقر لخصمه بالقوة وتخلى عن تلك المرأة ولم يحقد على خصمه، بل أصبح من أخلص أصدقائه. - إن ذلك يدل على أدب نفسه وعرفانه قدر الرجال، ولكن هذا الرجل الفرنسي ألم تعرفي اسمه؟ - إن اسمه لم يعرفه أحد، ولكنه يلقب بالرجل العبوس.
فتظاهر مرميس أنه لا يعرفه، وعند ذلك دخل إلى الحانة رجل هائل الخلقة طويل القامة، ضخم الجثة عريض المنكبين، له رقبة كرقبة الثور وشفة أدلاها الإدمان على السكر فباتت كشفة البعير، فقالت الإرلندية لمرميس: هو ذا وليم الذي تسأل عنه فإذا كنت تريد محادثته فهذه أفضل فرصة؛ لأنه لم يسكر بعد.
فشكرها مرميس ودفع لها شلنين ثم قام إلى حيث وقف وليم فدنا منه وقال له: ألست الذي يدعونه وليم البحار؟
فنظر إليه وليم نظرة احتقار وقال: نعم وأنت ماذا تدعى؟ - إنك لا تعرفني ولكني أتيت لأكلمك من قبل رجل تعرفه. - ومن هو هذا الرجل؟
فاقترب منه وهمس في أذنه قائلا: إنه يدعى الرجل العبوس.
وظهرت على وليم علائم الدهشة فقال مرميس: هلم نتحدث خارج الخمارة.
ثم خرج به إلى الشارع فسأله وليم: إذن أنت قادم من قبل الرجل العبوس! - نعم كما قلت لك. - إني لم أر أشد من هذا الرجل فإني لم يصرعني أحد سواه في حياتي. - ألم تحقد عليه بعد هذا الفوز؟ - بل قدرته قدره وبت له خير صديق، فإني أبذل حياتي في سبيله إذا احتاج إلي. - إنه محتاج إليك الآن يا وليم ولذا أرسلني إليك. - إذن قل ما يريد، ألعله استاء من عدو فأنتقم له منه بالموت؟ - كلا. - إذن ماذا يريد؟ - إن الرجل العبوس في سجن نوايت. - بالله، ماذا تقول؟ - هو ما قلت لك، وأنا أرجوك أن تفعل كل ما جاز لك فعله فإني لا أكلمك. - ولكن قل ماذا تريد أن أصنع؟ - أريد أن تشرب معي غدا كأسا فأخبرك بما يجب أن تفعل. - وأين أوافيك؟ - في أولد باي تجاه نوايت عند بائع الحبوب. - لقد عرفت المكان. - أتوافينني؟! - سأوافيك.
فنظر مرميس في ساعته ورأى أن الوقت قد أزف لرجوع مس ألن فاعتذر من وليم وانصرف عائدا إلى المكان الذي ذهبت منه مع الأب صموئيل.
27
أما مس ألن والكاهن فإنهما تركا مرميس وذهبا إلى ذلك المنزل الذي ظهرت منه إشارة النور الأخضر؛ وهو منزل مرتفع يتألف من أربعة أدوار تدل ظواهره على فقر سكانه.
ودخل الكاهن من بابه إلى رواق مظلم وتبعته مس ألن غير هيابة يدفعها الأمل بإنقاذ الرجل العبوس، فلا تبالي بخطر، فالتفت إليها الكاهن وقال لها: اتبعيني يا ابنتي دون خوف.
وهي تقول: إني لا أخاف شيئا.
وقد انتهيا من فوق الرواق إلى باب فطرقه الأب صموئيل بشكل اصطلاحي، ففتح وظهر منه نور ضعيف، رأت به ألن أنها في قصر فيه سلم يتألف من بضع درجات، وكان المصباح معلقا في السقف.
فنزل صموئيل وتبعته مس ألن، فعدت سبع عشرة درجة وانتهيا بعد ذاك إلى رواق آخر، كان فيه نور وفي آخره باب، وسمعا أصواتا بشرية من وراء الباب.
ولما سمع الأب الأصوات قال للفتاة: إن الزعماء مجتمعون وهم لا يتوقعون قدومك، يجب أن تبقي في الرواق إلى أن أدعوك.
ثم تركها في الرواق وطرق الباب فقال له صوت من الداخل: من أنت، وماذا تريد في هذه الساعة؟ - إني أخوكم.
ففتح الباب عن قاعة تحت الأرض في وسطها منضدة طويلة جلس حولها عشرة رجال هم زعماء الإرلنديين.
ولما رأوا الأب صموئيل وقفوا إجلالا له، وقال أحدهم: إنك دعوتنا إلى الحضور وقد لبينا الدعوة.
فقال لهم: إني دعوتكم لأكلمكم عن إرلندا العزيزة وعن الذين خدموها بإخلاص.
ثم أشار إليهم فجلسوا في مواضعهم وبقي وحده واقفا. - إني أريد أن أكلمكم أيها الإخوان عن رجل خاطر بحياته في سبيل إرلندا ...
فأجابه معظمهم: ومن منا لم يخاطر بحياته في هذا السبيل؟ - هو ذاك، ولكنكم إرلنديون. - والذي تعنيه؟ - إنه من الفرنسيين.
فقطب الجميع حواجبهم وقال أحدهم: ألعلك تريد أن تحدثنا أيضا بشأن الرجل العبوس. - نعم أيها الإخوان. - وماذا تريد أن نصنع له وهو ليس إرلنديا؟ - ولكنه خدم إرلندا خدمات جليلة لم يقدم على بعضها سواه من الإرلنديين. - ولكنه ماذا فعل؟ - إنه أنقذ جوهان كولدن. - وبعد ذاك؟ - أنقذ أيضا ذاك الذي نعده زعيمنا العام في مستقبل الأيام. - ولكنه خدع بمكيدة لا يخدع بها العقلاء من أهل الحذر. - إنكم مخطئون. - كيف ذلك؟ أما هو الآن في سجن نوايت بسبب هذه المكيدة؟ - هو ذاك، ولكنه لم يقع في الفخ إلا طائعا مختارا، وإنما رضي أن يسجن ويعرض نفسه للإعدام خدمة لإرلندا واستجلابا لأشد أعدائها.
وقد خاض الأب صموئيل في وصف إخلاص الرجل العبوس بلهجة كان لها تأثير شديد على الحاضرين إلى أن قال: وإنكم جميعا تعلمون نسب هذا الغلام الذي سيتولى قيادتنا حين يبلغ سن الرشد.
فقال أحد الزعماء: نعم فهو ابن أخي اللورد بالمير عدونا اللدود .
فأجابه ببرود: إني كنت أنتظر منكم هذا الإقرار فإن مس ألن لم تعد عدوة لإرلندا كما تتوهمون.
فدهش الجميع وقالوا: كيف ذلك؟ - لأن الفتاة أصبحت أشد إخلاصا لإرلندا منا لها. - هذا محال. - بل هي الحقيقة، فإنكم تعرفونني منذ عهد بعيد، وليس بينكم من يجسر على القول أني من أهل الكذب.
فصاحوا جميعهم بصوت واحد: معاذ الله أن نتهمك. - إذن أقسم لكم بإرلندا وهي أمنا العزيزة أن مس ألن من أنصارنا.
ثم مشى إلى الباب ففتحه ونادى مس ألن فقال لها: أرجوك يا سيدتي أن تثبتي لإخواني ما قلت لهم عنك.
فدخلت مس ألن ورفعت البرقع الكثيف عن وجهها فدهش الجميع لمرآها، وقال لها الأب صموئيل: أرجوك أيضا يا سيدتي أن تقولي لهؤلاء الإخوان إني لم أقل غير الحق.
وكانت مس ألن قد اصفر وجهها قليلا لهذا الموقف، ولكن نور العزيمة الثابتة كان يتقد في عينيها.
فقالت: إني كنت أيها الرفاق ألد عدوة لكم، وكنت أشد أعدائكم أيضا، غير أن رجلا نزع هذا العداء من قلبي وأحل محله الإخلاص لكم، ولم يتيسر له نيل هذه البغية إلا بعد أن خاطر بحياته، وإليكم حكايتي معه.
ثم قصت عليهم جميع ما حدث لها مع الرجل العبوس بلهجة دلت على إخلاصها وصدق وفائها.
وختمت حديثها بقولها: إني ألتمس منكم إنقاذ هذا الرجل فهو أصدق وفي لإرلندا، وإذا كان معنا بلغنا منه ما نريد.
وكان لكلام الفتاة تأثير شديد على الزعماء، لا سيما وقد وثقوا كل الوثوق أنها منهم وأنها لا تخلص لهم، إلا إذا أنقذوا من تحب، فقدم أحدهم وقال: إني بالأصالة عن نفسي والنيابة عن إخواني أقسم لك يا مس ألن بأمنا إرلندا سننقذ الرجل العبوس.
فأعاد جميع الحاضرين قسمه، فشكرتهم مس ألن وقالت لهم: إني واثقة بكم.
ثم ذهبت إلى الكاهن فركعت أمامه وقالت: أرجوك يا أبتاه باسم إرلندا أن تغفر لي.
فأنهضها وقال لها: إني أغفر لك يا ابنتي عن إساءتك إلينا باسم الوطن، وباسم أبنائه.
28
في صباح اليوم التالي فتح ميلون ذلك المخزن الذي اشتراه مرميس وقد رتبه أجمل ترتيب واجتمع فيه أهل العصابة، فكان كل منهم يشتغل بالمهمة التي انتدب لها.
أما ميلون فقد كان واقفا عند باب المخزن ينظر إلى جهة كنت ستريت كأنه ينتظر قدوم زائر.
ولم يطل انتظاره فإن مركبة وقفت عند باب المخزن فتهلل وجه ميلون؛ لأن هذا القادم كان مرميس.
وكان مرميس قد تردى بثياب الإنكليز، وتخلق بأخلاقهم وقلد جميع حركاتهم، بحيث لم يعد يختلف بشيء عنهم، فدفع أجرة المركبة وأطلق سراحها، ثم دخل إلى المخزن فتبعه ميلون وقال له: لقد طال غيابك حتى كاد يفرغ صبري. - ألعلك انتظرتني كل الليل؟ - دون شك. - ولكن ذلك لم يمنعك عن العمل كما أرى. - نعم، ولكني قلقت عليك. - لماذا القلق؟ - لأني لم أعلم ما جرى لك هناك. - سأقول لك ما جرى بجملة واحدة وهي أنهم وعدوا أن ينقذوه وقد واعدت أحد زعمائهم على اللقاء هنا. - متى؟ - في هذا الصباح.
ولم يكد مرميس يتم حديثه حتى دخل إلى المخزن رجل عليه علائم الفقر فتظاهر أنه يريد شراء حاجة له.
وأجال نظره في الحاضرين، فلما رأى مرميس ارتعش وخطا خطوة إليه وقال: مس ألن.
فأجابه مرميس: الرجل العبوس. - إذن أنا هو الرجل الذي تنتظره.
ثم مشى إلى آخر المخزن فتبعه مرميس وجلسا في زاوية، فقال له الإرلندي: لقد أرسلني إليك زعماء الإرلنديين، فإنه بعد أن فارقتنا مس ألن عقدنا جلسة خاصة قررنا فيها إنقاذ الرجل العبوس.
قال مرميس: كيف عولتم على إنقاذه؟ - ذلك ما لا نستطيع قوله الآن. - لماذا؟ - لسببين، أما الأول فهو أننا لم نضع خطة إنقاذه بعد، والثاني هو أنك وعصابتك لستم من الإرلنديين. - وما يضركم إذا لم نكن منكم؟ - قد لا يكون في هذا ضرر غير أن نظام جمعيتنا علينا بأن لا نشرك بأعمالنا من لم يكن من أعضائها.
قال مرميس: لكن الرجل العبوس قد شارككم بأعمالكم، وهو فرنسي مثلنا. - ولكنه عضو عامل في جمعيتنا واقف على معظم أسرارها. - ونحن أصحابه ورجاله.
فأجابه الإرلندي ببرود: إننا سنرده إليكم، وماذا تريدون أكثر من هذا؟
وعندها قام من مكانه فودع مرميس وانصرف دون أن يخبره عن طريقة إنقاذ روكامبول.
فلما انصرف قال ميلون لمرميس: ما قال لك هذا الرجل؟ - إنهم يريدون تخليص الرئيس دون مساعدتنا.
فاستاء ميلون وقال: كلا إن هذا لا يكون، فإننا ما جئنا إلى هذه الديار للنزهة. - دون شك فسنشتغل حسب خطتنا وليعملوا حسب خطتهم، ولكن يجب الإسراع.
فضم ميلون قبضتيه وقال: قبح الله هؤلاء الإرلنديون فإني بت من أشد الناس كرها لهم، ولولاهم لما كان روكامبول في السجن. - وأنا أيضا أكرههم كرهك؛ فإنهم لا يريدون إنقاذه اعترافا بجميله عليهم، بل طمعا بمساعدة مس ألن لهم فيما يريدون. - وإني لو ملكت عمري لبذلت نصفه على أن ننقذ الرئيس قبلهم. - إذن هلموا إلى العمل ولا تبذل شيئا من عمرك. - كيف هذا، أنشتغل نحن في رابعة النهار؟ - نعم، وسنبدأ بتفقد أقبية المنزل والبحث عن مداخل الدهليز. - إذن هلم بنا.
فأخذ مرميس تلك الخريطة التي اشتراها من بائع الكتب وبعض أدوات النور، ثم فتح الباب المؤدي إلى الأقبية ودخل منه فتبعه ميلون.
29
كان مرميس قد أخبر ميلون بما يجب أن يفعله طيلة غيابه، فاشترى جميع آلات الحفر والتنقيب والكسر، وكل ما يستعمله البناءون في الردم.
وقد وجد جميع هذه الآلات عند باب القبو.
أما هذا القبو فقد كان كسائر أقبية المنازل، وأن صاحب ذلك البيت القديم أقام فيه خمسة عشر عاما، دون أن يخطر له أن هذا القبو يؤدي إلى دهليز، حفرت فيه إبان المؤامرة، في القرن السادس عشر.
فوضع مرميس مصباحه فوق أحد البراميل الفارغة التي كانت في القبو، وفتح الخريطة التي بحوزته وبدأ بالبحث عن رسم البيت المذكور في الخريطة.
فوجده ووجد معه تلك الخطوط الحمراء المشيرة إلى مكان الدهليز، ثم أخذ مصباحه وجعل يتفقد المكان.
ولم يكن لهذا القبو غير باب واحد، وهو الباب الذي دخل منه ميلون ومرميس.
وكان ميلون يطوف وإياه فقال: إني لم أر أثر الدهليز.
فأجابه: ذلك لأنهم قد سدوا بابه بالبناء، فأمسك هذا المصباح ودعني أبحث.
فحمل ميلون المصباح وأخذ مرميس المطرقة وجعل يطرق بها في كل موضع من الجدران ويصغي إلى الصوت، كما يطرق الطبيب صدر المريض حين يفحصه.
وما زال يفحص هذا الفحص حتى سمع صوتا يشبه صوت الطرق على معدن فاختلج وأمر ميلون أن يدني المصباح.
ورأى عند مصدر ذلك الصوت مسمارا مغروسا في الجدار، فأخذ المطرقة وطرق المسمار فغار في الجدار وسقطت على أثرها قطعة من حجر انكشفت عن ثقب في الجدار تمد منه اليد.
فمد ساعده من الثقب فلم يصادف إلا الخلاء.
وعندها أخذ المطرقة وأمر ميلون أن يقتدي به، وجعل الاثنان يطرقان ذلك الجدار بعنف شديد، وبقيا على ذلك حتى فتحا فيه ثقبا يتسع لمرور إنسان.
فأخذ مرميس المصباح بيده، ودخل من ذلك الثقب، ولكنه لم يتقدم قليلا حتى اعترضه قبو آخر أضيق من الأول، وظهر له أنه دون منفذ.
فقال له ميلون، وقد رأى ما رآه: كأننا لم نتقدم شيئا. - سوف نرى.
ثم عاد إلى طرق الجدران بمطرقته كما فعل في المرة الأولى، وبقي يطرق في مواضع مختلفة حتى سمع صوتا يشبه صوت الطبل الرجوج فنظر إلى ميلون نظرة انتصار وقال: هو ذا المنفذ.
فأخذ ميلون يهدم الجدار بمطرقته فما أزال غير قشرته الخارجية وظهر من صوت المطرقة أنها توقع على حديد.
فمنعه مرميس عن العمل قائلا: هذا ما كنت أتوقعه.
ثم جعل يزيل القشرة عن ذلك الحديد، فانكشفت عن باب حديدي يبلغ علوه المتر ولم يكن له قفل ظاهر.
فتفقده مرميس، ورأى أنه شديد الكثافة، بحيث لا تفيد به المطارق، فقال لميلون: إن هذا الباب هو باب السرداب، ويكفي أننا وجدناه. - أتظن؟ - بل أؤكد. - إذن ما العمل الآن؟ - لا شيء بل ننتظر إلى المساء فاتبعني.
ثم رجع مرميس من حيث أتى وهو يقول: لقد بت واثقا الآن من أن الدهاليز لم تدمر، وسننقذ روكامبول قبل أن يشرع الإرلنديون بإنقاذه.
ثم خرج الاثنان من تلك الأقبية.
30
ولنعد الآن إلى ذلك الحاكم، حاكم سجن نوايت، فإن الخطأ الذي أخطأه في القبض على مرميس وما يتوقعه من دفع غرامة فادحة قد هد حيله وأنهك قواه.
فنام تلك الليلة نوم الملسوع، ولما استفاق تجسمت تلك الحادثة في خاطره، فكان شديد التأثير كثير الانفعال، حتى إن زوجته وابنتيه كن يخشين على صوابه.
وذلك أن الشرائع الإنكليزية لا ترحم من يخطئ من عمال الحكومة لمبالغتها في احترام حرية الأشخاص.
فإذا قبض شرطي خطأ على رجل آمن، قضي على ذلك الشرطي بدفع ما يطلبه الرجل من تعويض، وكذلك حاكم السجن فإن التبعة عليه تكون أشد وأنكى.
وقد خطر لهذا الحاكم المنكود أن هذا الشخص الذي سجنه باسم روكامبول قد يطلب غرامة مليون فرنك، بالقياس إلى علو مقامه وجاهه وثروته، وقد لا تحكم له المحكمة بكل هذا المبلغ، ولكنها تحكم له ببعضه دون شك، وأي مبلغ يحكم عليه بدفعه يؤدي به إلى الخراب؛ لأنه لم يكن من الأغنياء.
وفي المساء حسب ثروته، وقدر ما يمكن أن يحكم به القضاة عليه مع المراعاة والتساهل، فوجد أنه يزيد أضعاف ثروته فكبر عليه الأمر وجعل يبكي بكاء الأطفال.
واستفاق في صباح اليوم التالي وهو على حاله من القلق والهم فأقام في بيته وهو ينتظر في كل لحظة أن يقرع الجرس، ويرد إليه الإنذار بالذهاب إلى المحكمة لمقاضاته.
ثم خطر له خاطر غريب وهو أن يستشير الرجل العبوس في مشكلته دون أن يعلم المسكين أن نكبته من هذا الرجل.
فذهب إليه وقال له: إني عاملتك في سجنك خير معاملة، فجازيتني بنكران الجميل.
فلم يجبه الرجل العبوس ولكنه جعل يضحك، فقال له الحاكم: إنك دفعتني إلى ارتكاب هذا الخطأ بتلك اللغة الجهنمية التي كنت تحدث بها ذلك الرجل، فزاد اعتقادي أنه روكامبول.
فأجابه روكامبول: ولكني أخبرتك يا حضرة الميلورد، أني لا أعرف هذا الشخص.
فتنهد الحاكم وقال: لا أنكر أنك أخبرتني، ولكني لم أستطع التصديق. - وأي ذنب بقي علي فيما صرت إليه، إن موقفك حرج ولو خيرت بين موقفي وموقفك لاخترت الأول. - أتظن أن هذا الرجل الشريف يطالبني بتعويض كما أنذرني؟ - بل إني واثق كل الوثوق وسيفضي ذلك إلى خرابك.
فاضطرب الحاكم وقال: رباه ما العمل؟ - لدي رأي أرجو أن يكون سديدا. - أسرع بإبدائه. - إن هذا الشخص يا حضرة الميلورد واسع الثروة. - ولأجل ذلك، أرجو أن لا يطمع بتعويض لا يفيده، ويكون فيه خرابي. - ولكنه شخص غريب الأخلاق يشبه اللوردية عندكم بشذوذهم، ولذلك ثق أنه سيراك قبل أن يرفع أمره إلى المحاكم، وربما سألك أمرا غريبا مقابل ذلك التعويض. - ولكنه ماذا يطلب؟ - لا أعلم إنما هذا اعتقادي. - وعندها؟ - أشير عليك أن تجيبه إلى ما يطلب فإن من كان في موقفك الحاضر يجب عليه أن يضحي بعض التضحيات.
فتنهد الحاكم تنهدا عميقا وقال: إني أشكرك وأرجوك معذرتي عما بدر مني في بدء الحديث.
ثم هم بالخروج ولكنه عاد فقال لروكامبول: ألست محتاجا إلى شيء؟
فابتسم قائلا: وأنا أسألك العفو يا سيدي الميلورد فقد نسيت أن ترسل إلي الجرائد اليوم. - لقد أصبت. - وحبذا يا سيدي لو أرسلت لي التايمز أو الإفنن ستار. - سأرسل لك الجريدتين. - أشكرك وأرجوك أن تأذن لي بسؤال. - سل ما تشاء إني مصغ إليك. - متى يحكمون علي؟ - لا أعلم. - ولكنهم سيحاكمونني؟ - دون شك، ولكن ذلك لا يكون قبل أن يعرفوا حقيقة اسمك.
فضحك روكامبول وقال: إذن سأتشرف يا حضرة الميلورد، دهرا طويلا بضيافتك.
فانصرف الحاكم وقد تعزى بعض العزاء بما أخبره به روكامبول، ودخل إلى البيت وسأل إذا كان قد قدم أحد لزيارته: فعلم أنه لم يزره أحد.
أما بيت هذا الحاكم في نوايت فقد كان مشرفا على شارع أولد بالي، وهو بيت ضمن بيت؛ أي إنه يوجد بين القسم الكائن فيه بيته وبين السجن جدار فيه باب غليظ من الحديد.
وكان بوسع الحاكم أن يستقبل الناس في بيته دون أن يمروا إليه من السجن.
فجلس الحاكم حول مائدة الطعام وجعل يأكل وهو يفتكر بماذا عسى أن يطلب إليه ذلك الرجل الفرنسي.
وفيما هو يأكل دخل إليه الخادم يحمل على صينية رقعة زيارة، فأخذها الحاكم وقرأ فيها هذا الاسم:
فيليكس بيتافن
شريف فرنسي - فندق التيجان
وقد أعطاه الخادم الرقعة وقال له: إن صاحبها يا سيدي، يلح بأن يراك.
فتنهد الحاكم وقال لبنتيه: لقد أتى الرجل، فإما أن يكون رسول الخراب، أو رسول الخير.
31
ودخل مرميس وهو يبتسم ابتساما أشكل فهم معناه على الحاكم، ولكنه كان يظهر له أنه أقرب إلى الشر منه إلى الخير، فاصفر وجهه من الخوف، وسقط العرق البارد من جبينه، فأسرع وقدم له كرسيا وعرفه لفوره بزوجته وابنتيه، كأنه يريد أن يظهر له أنه رب عائلة استعطافا له.
أما مرميس فإنه قال بعد التعارف: إنك عرفت يا سيدي دون شك السبب في زيارتي. - كلا يا سيدي لم أعلم ... ولكني أظن ... وفي كل حال فأكرم بك من قادم مهما يكون سبب زيارتك. - أشكرك يا سيدي وأخبرك أني قادم من عند المحامي ستلج، وأنت تعلم أنه أشهر المحامين في لندرا.
فاضطرب الحاكم وقال: نعم يا سيدي أني سمعت به. - إن المحامي أبرع رجال الشرع، وأزلقهم لسانا وأقواهم حجة وأشدهم حرصا على حقوق موكليه، وقد عرضت قضيتي معك عليه فوجد أن الفوز فيها مضمون.
فمسح الحاكم العرق من جبينه، وجعلت زوجته وابنتاه يذرفن الدموع.
وعاد مرميس إلى الحديث فقال: إن المحامي ستلج قد أكبر هذا الأمر وعول على أن يقاضيك أمام المجلس الخاص الأعلى، وأنت تعلم أن لا رحمة في قلوب قضاة هذا المجلس.
فرفع الحاكم عينيه إلى السماء دون أن يجيب، فقال مرميس: والذي يراه هذا المحامي أن المجلس لا يقتصر على الحكم عليك بغرامة عشرين أو ثلاثين ألف جنيه، بل إنه يعزلك من منصبك.
وهنا وهنت قوى ذلك الحاكم المنكود، ونسي مركزه، فركع أمام مرميس وقال له: أعترف يا سيدي أني أهنتك إهانة عظيمة، وأسأت إليك إساءة لا تغتفر، ولكني ألتمس منك أن يسع حلمك ذنبي، وأن تشفق على زوجتي وأسرتي المنكودة. - إني لست يا سيدي الحاكم مجردا من الرأفة كهذا المحامي، ولكنك أنت نفسك تعترف أنك أسأت إلي إساءة لا تغتفر وأي إساءة أشد من أن يجيء الرجل النبيل متنزها في عاصمة الإنكليز فيستقبله رجال الشرطة، ويزج في السجن بين المجرمين. - إنك مصيب يا سيدي في كل ما قلته. - إذن أنت تعترف بوجوب التكفير عن هذا الذنب؟ - دون شك يا سيدي. - إذا كان ذلك فإني أرجو أن أتفق معك وأؤثر الاتفاق الودي.
فتنهد الحاكم وقال: مر يا سيدي بما تشاء. - بل أنت اعرض علي ما تستطيعه من أنواع التعويض والتكفير عن ذنبك.
فعاد الحاكم إلى التنهد قائلا: إني لست غنيا يا سيدي، ومع ذلك فإنه ليست لدي غير خمسة آلاف جنيه وهي مهر ابنتي.
فضحك وأجابه: أي مائة وخمسة وعشرون ألف فرنك. - نعم يا سيدي. - اكتب إلى العاصمة الفرنسية سائلا عني، تعلم أن دخلي السنوي يبلغ مليون فرنك.
فقالت زوجة الحاكم: أتكون يا سيدي غنيا إلى هذا الحد وترضى الخراب لعائلة منكودة؟ - ولكني عرضت الاتفاق الودي على حضر زوجك ورضي به، ولو عهد الأمر إلى القضاء لكان الخراب لا شك فيه.
فقال الحاكم: إني أدفع لك يا سيدي كل ما أملكه.
فابتسم مرميس وقال: وإن سألتك تعويضا أدبيا؟
فصاح الحاكم صيحة فرح وقال: لقد خطر لي يا سيدي أنك من أشرف الأغنياء لا تكترث للمال. - إن هذا منوط بك ومتعلق بالتعويض. - قل يا سيدي ما تريد، أتحب أن أكتب إليك كتاب اعتذاري في جريدة التايمز؟ - كلا. - أتريد أن أجمع كل رجال السجن فأعتذر إليك أمامهم؟ - كلا.
فذعر الحاكم وخشي أن يكون قد أصيب بشر جديد، فقال: كيف تكون الترضية الأدبية إذن وماذا تريد؟ - إني لست يا سيدي من الإنكليز، ولكني من أهل الشذوذ. - قل لي ما تريد. - إني لم أعد آمنا على نفسي في لندرا، بعد أن قبض علي في أشهر فنادقها، ثم إن زوجتي قد خافت خوفا شديدا، ولم يعد يهدأ لها بال من الخوف. - أتريد أن أطلب لك حرسا من الشرطة؟ - كلا بل أريد أمرا أبسط من هذا، وهو أن أقيم في منزلك مع زوجتي إلى أن أعود إلى فرنسا، وإن زوجتي يا سيدي الحاكم من أهل الظرف والكياسة، وهي بارعة في الموسيقى ولا تمل زوجتك وابنتاك عشرتها خلال هذه الضيافة.
فدهش الحاكم لهذا الطلب وقال: ولكن زوجتك تضجر ضجرا شديدا في هذا البيت فإننا في سجن كما لا يخفاك. - ولكنها تستطيع الخروج في النهار كما أظن؟ - دون ريب. - وهذا الذي أرجوه فإنها لا تخاف إلا في الليل.
فنظر الحاكم إلى زوجته نظرة تدل على أن الخطر الشديد الذي كان يتوقع حدوثه لم يصبه غير الخوف.
ثم نظر إلى مرميس وقال له: إن منزلي معد لخدمتك يا سيدي، فأهلا بك وبزوجتك.
فبرقت عينا مرميس بأشعة السرور وأصغى إلى تتمة الحديث.
32
وجعل الحاكم يصف منزله وما فيه من أسباب الراحة ترغيبا لمرميس، فإنه وجد أن حل المشكلة بهذا الشكل فوق ما كان يتمناه، ثم قال: إن لدينا قاعة كبرى وثلاث غرف لا أستخدمها في شيء لاتساع البيت بنا فإن شئت خصصتها لك ولزوجتك. - إنها فوق الكفاية؛ لأننا لا نقيم في لندرا أكثر من أسبوع.
فسر الحاكم من هذه النهاية وقال: سنجعل يا سيدي طعامنا ومواعيده على الطريقة الفرنسية. - لا حاجة إلى ذلك يا سيدي، فإننا ألفنا العادات الإنكليزية، غير أن مطالبي لا تقتصر على هذا الحد.
فوجف قلبه وعاد إليه الاضطراب، فقال له مرميس: لقد تقدم لي القول إني من أهل الشذوذ، ومن غرائب أخلاقي أن لي بالشطرنج ولعا غريبا بحيث لا أطيق الصبر عن اللعب به كل ليلة. - إذا كان ذلك فإني من البارعين به وسألاعبك به حين تشاء. - كلا، ليس هذا الذي أريده. - إذن ما تريد؟ - إني قضيت أيام شبابي في الهند وهناك نوع من لعب الشطرنج اخترعه البراهمة لا يعرفه أهل أوروبا فلا تعرفه أنت. - دون ريب فإني لا أعرف غير الطريقة المألوفة. - ولكن يوجد بين المسجونين عندك رجل أقام زمنا طويلا في الهند وهو بارع في هذا اللعب. - من هو هذا السجين؟ - هو الرجل الذي سجنتني معه. - الرجل العبوس؟ - هو بعينه.
فاضطرب الحاكم وقال: ولكن يا سيدي ... - إن الرجل شريف الأخلاق حسن التربية. - هو ما تقول بل هو فوق ما وصفته. - ولذلك فإنه سيظهر أمام السيدات في منزلك، بما يجب عليه من الاحترام.
فدهش الحاكم وقال: كيف ذلك يا سيدي؟ أتريد أن أحضر الرجل العبوس إلى منزلي؟ - كل ليلة؛ إذ لا يعرف هذه الطريقة من اللعب سواه. - ولكني مقيد بنظام السجن يا سيدي. - إن أردت أن تحدثني بالنظامات عدت إلى محادثتك بالمرافعات وبما يعتقده المحامي ستلج، وفوق ذلك فإن كنت تخاف أن يهرب فإنك تستطيع أن توقف على الباب قدر ما تشاء من الحراس. - إني لست أخاف فراره سواء كان في محبسه أو في منزلي.
فوقف مرميس عندها قائلا: لقد عرفت الآن الشرط الذي أتنازل به عن حقي من الغرامة ولم يبق عليك غير الرفض أو القبول.
فنظر الحاكم إلى زوجته وتبودلت بينهما نظرتان مفادهما: «إنه خير لنا أن نخالف نظام السجن مخالفة قد لا نؤاخذ عليها، من أن نعرض ثروتنا للضياع.»
وعندها التفت إلى مرميس قائلا: لقد رضيت بشرطك يا سيدي وسيلاعبك الرجل العبوس كل ليلة. - وأنا أتعهد لك بأن لا أرى المحامي ستلج طيلة إقامتي عندك، بل سأكتب إليه أني مسافر وأرجوه أن يوقف القضية إلى أن أعود. - كيف ذلك يا سيدي، ألا ترجع بتاتا عن القضية. - سأرجع عنها يوم سفري، ولكني أقسم لك بشرفي أنك إن وفيت بعهدك وفيت بعهدي فما أنا من الخائنين.
فوثق الحاكم أنه يريد أن يحتاط، وقال له: ليكن يا سيدي، ما تريد.
فنهض مرميس ودنا من زوجة الحاكم فقال لها وهي تمسح دموعها سأتشرف غدا يا سيدتي بتقديم زوجتي لك.
فقال الحاكم: كيف، ألا تحضر في هذا المساء؟ - كلا فإننا ذاهبان الليلة إلى كرنويش وسنبيت فيها.
ثم خرج مرميس فشيعه الحاكم إلى الباب الخارجي، حتى إذا ركب مركبته وانصرف، عاد إلى زوجته وقال لها: لقد نجونا بحمد الله من أشد الأخطار.
ثم عانقها وعانق ابنتيه فكانت تمتزج دموع الفرح بدموع الحنان. •••
أما مرميس فإنه توجه توا إلى الفندق الذي تقيم فيه فاندا فقال لها: اعلمي أيتها العزيزة أنك أصبحت زوجتي مدة أسبوع.
فابتسمت فاندا وقالت: كيف ذلك؟ - ذلك أنك تدعين منذ الآن السيدة بيتافن، وتبرحين هذا الفندق، وتذهبين معي للإقامة في بيت أسرة إنكليزية؛ أي في بيت السير روبرت. - ولكنه حاكم سجن نوايت. - هو بعينه. - ولكن كيف رضي بذلك؟ - بل رضي أن يجمعنا بشخص تعرفينه، ويسرك أن تجتمعي به، وهو روكامبول.
فاصفر وجه فاندا وجعل يقص عليها جميع ما اتفق حتى إذا أتم حديثه قالت: ولكن أية غاية لك من هذا الاجتماع. - تخليص روكامبول. - كيف؟ - سوف ترين، فقد علمني هذا الرئيس الحبيب أن لا أقول الكلمة الأخيرة من قصدي.
ثم تركها وانصرف فذهب إلى رجل صانع أقفال، شهير بصنع الأقفال الغريبة وهو يقول في نفسه: لا بد أن يرشدني هذا الرجل إلى طريقة لفتح الباب الحديدي الذي وجدته في قبو المنزل فإنه لا ريب باب الدهليز الموصل إلى سجن نوايت.
33
ولما دخل مرميس إلى مخزن صانع الأقفال، طلب إليه أن يريه جميع ما لديه من الأقفال على اختلاف أنواعها.
فأراه كل ما كان عنده، فلما أنهى فحصها قال له: لقد قرأت في كتاب قديم عن لندرا، أنهم كانوا يستعملون فيها في القرن السابع عشر أقفالا غريبة الصنع. - لقد استعملوا أقفالا مختلفة في ذلك القرن فأيها تعني؟ - قرأت في الكتاب أنهم كانوا يستعملون أبوابا من الحديد لا تظهر أقفالها. - إني عرفت هذه الطريقة ولدي مثال منها إن شئت أظهرته لك. - هذا جل ما أتمناه. - هلم معي إلى متحفي، فإن لدي مجموعة نفيسة من تلك الآثار القديمة، لا توجد عند سواي، حتى إن إدارة المتحف نفسها تحتاج إلي في مثل تلك الشئون.
ثم تقدم مرميس إلى غرفة متسعة ضمن مخزنه وبدأ بالحديث عن القفل السري فقال: أترى هذا الباب الحديدي أمامك؟ - نعم ... - افحصه، أترى فيه قفلا؟ - لا! - افحص جيدا.
فتمعن به مرميس مليا ثم قال: إني لا أجد فيه أثرا لقفل. - إذن انظر.
ثم أخذ مطرقة وجعل يطرق بها الباب الحديدي طرقات يعدها، حتى إذا عد عشرا سمع صوت زلاج حديدي من الداخل قد سقط، ثم فتح الباب.
فسر مرميس سرورا عظيما، وقد أيقن أن باب القبو يشبه هذا الباب، وقال لصانع الأقفال: إنها طريقة عجيبة، لا تخطر في بال أحد. - إني سأوضح لك أسرارها، ولكن لا بد لي قبلها أن أوضح لك تاريخ ابتكارها والسبب في اختراعها.
لقد ذكروا أنه منذ مائة وخمسين عاما انقسم أهل لندرا إلى قسمين؛ قسم انتصر لأسرة ستيوارت، وقسم تحزب لأسرة هانوفر، فتآمر أشياع أسرة ستيورات وحاولوا نسف قسم من مدينة لندرا تذرعا لبلوغ مأربهم من إنزال أسرة هانوفر عن العرش.
ولم تفز هذه المؤامرة، ولكن الحكومة وجدت كثيرا من الدهاليز محفورة في أقبية المنازل، وكانت أبوابها حديدية تشبه هذا الباب الذي تراه أمامك.
وأن هذا الباب لا قفل فيه كما رأيت وقد بقي سره خفيا حتى رشت الحكومة أحد رجال المؤامرة فباح بسر قفله.
فكان مرميس يقول في نفسه وهو يصغي إلى الحديث: لقد أصاب روكامبول بإهدائي إلى هذا الرجل فإني سأقف منه على جميع ما أريد.
وعاد صانع الأقفال إلى الحديث فقال: إن هذه الطريقة الخفية كان المتآمرون يرمون بها إلى غاية؛ وهي أنهم كانوا كثيرين وكانت الأبواب التي صنعوها كثيرة بحيث تعذر صنع مفتاح خاص لكل متآمر منهم فاخترعوا هذه الأبواب وجعلوا طريقة فتحها واحدة فهي تقفل كلها بالطريقة التي رأيتها؛ أي بالقرع عليها بالمطرقة طرقات معدودة. - إنها طريقة مدهشة، ولكن كيف يفتحون تلك الأبواب؟ - بالطريقة نفسها، ولكن الفرق بين الفتح والإقفال أنك إن أردت الفتح أطرقت على الباب فيسقط الزلاج، وإن أردت إقفاله طرقت أسفله فيرتفع الزلاج إلى حيث كان، وهذا مثاله، ثم أخذ المطرقة وضرب بها على الباب من أعلاه ففتح، ثم ضرب على أسفله فأقفل. - لقد أدهشتني هذه الطريقة وأنا ممتن لك كل الامتنان من إيضاح سرها، ولا أكتمك يا سيدي أني مندوب من قبل مكتبة الحكومة الفرنسية لإنشاء كتاب عن هذه المؤامرة الهائلة التي دعت إلى صنع مثل هذه الأبواب والبحث في أسرارها، وقد قيل لي: إن أمثال تلك الأبواب السرية موجود عندك فثق يا سيدي أني سأذكرك في كتابي.
أما مرميس فإنه قد عرف ما أراد أن يعرفه، فشكر الرجل وودعه، ثم انصرف بمركبته فبلغ بها بعد نصف ساعة مخزن الحبوب.
وهناك رأى أن عمال المخزن قد زادوا عاملا وهو وليم البحار الذين لم يغلبه إلا روكامبول.
فناداه مرميس وقال له: إننا سنعمل على إنقاذ الرجل العبوس، فهل تريد أن تكون منا؟ - كيف لا أكون منكم فإني أسفك دمي في هذا السبيل. - حسنا، ابق معنا ولما يحين وقت العمل نخبرك، فأقام وليم في المخزن ولبس ثياب عماله.
أما ميلون فأنه رأى علائم السرور بادية بين ثنايا وجه مرميس، فاستبشر بما رآه وقال له: ماذا حدث؟ - هات مصباحك واتبعني. - إلى أين، أإلى القبو؟ - نعم. - ألعلك وجدت وسيلة لفتح الباب؟ - نعم، هلم بنا.
وذهب الاثنان إلى القبو الأول، ثم دخلا إلى القبو الثاني من الثقب الذي ثقباه حتى وصلا إلى الباب الحديدي ففحصه مرميس فحصا مدققا فوجده يشبه الباب الذي رآه عند بائع الأقفال.
فقال ميلون: ولكن لا أجد فيه قفلا، فكيف تقول إنك اهتديت إلى طريقة فتحه؟ - سوف ترى أني أفتحه دون أن يكون له قفل فهات المطرقة التي بيدك وخذ المصباح الذي بيدي وانظر، ثم أخذ المطرقة منه وجعل يطرق بها أسفل الباب على الطريقة التي تعلمها فسمع ميلون بعد ذلك صوت زلاج حديدي سقط دون أن يراه.
أما مرميس فإنه ألقى المطرقة إلى الأرض ودفع الباب بيديه دفعة شديدة ففتح لفوره وانكشف عن دهليز مظلم.
وعندئذ أخذ مرميس المصباح من يد ميلون ودخل إلى الدهليز ومعه ميلون وهو يقول: أظن أننا سننقذ روكامبول قبل أن يهتدي الإرلنديون إلى طريقة إنقاذه.
34
وسار مرميس وميلون في ذلك الدهليز الحديدي ومرميس يحسب أنه سيبلغ منه نفق يؤدي إلى السجن، ولكنهما لم يسيرا هنيهة حتى اعترضهما جدار آخر فقال: لقد تسرعنا لاعتقادنا بالفوز، ولا بد لنا من العودة أدراجنا وإحضار الآلات اللازمة لفتح منفذ في هذا الجدار.
فعادا إلى القبو الأول وهناك أخذا ما يحتاجان إليه من الآلات ورجعا إلى الجدار ليعملا على هدمه، ولكنهما لم يزيلا قشرته حتى ظهر لهما باب حديدي كالباب الأول ففتحه مرميس بنفس الطريقة السابقة؛ أي بالمطرقة ودخل مع ميلون فوجدا فناء يشبه القاعات.
فأخذ مرميس المصباح وطاف مع ميلون تلك القاعة، فوجدا بها ثلاثة منافذ تؤدي إلى ثلاثة دهاليز فوقف ميلون وقفة الحائر وقال: هذه مشكلة تفوق جميع ما تقدم من المشاكل في هذه الأقبية؛ إذ لا نعلم في أي الطرق نسير.
فقال له مرميس: لننظر في الخريطة عسانا نهتدي بها إلى سواء السبيل.
ثم جلس على الأرض وفتح تلك الخريطة وميلون ينير له، فلم يجد في الخريطة ما يشير إلى الدهليز.
وبعد أن أطرق هنيهة متمعنا التفت إلى ميلون وقال له: إننا مشينا إلى هذا المكان دون تعريج أليس كذلك؟ - هذا ما أظنه. - لنسر في الدهليز الوسط بين الدهليزين. - لماذا؟ - لأن الطريق إلى سجن نوايت لا تعاريج بها، فلو أردنا المسير إليه من المخزن سرنا إلى الأمام ... - لقد أصبت.
وسار مرميس أمامه بالدهليز المتوسط فلم يسر بضع خطوات حتى اعترضته أكداس من التراب متخلفة عن تهدم جدران.
وعاد مرميس إلى ميلون وقال: إننا أصبحنا في حاجة إلى الرفاق فإن إزالة الموانع يقتضي له عدة ساعات. - أتريد أن أعود فأدعوهم؟ - كلا.
ثم نظر في ساعته فقال: إن الساعة الآن الرابعة فلنصبر إلى الساعة السادسة حيث يقبل الظلام. - لماذا؟ - لأن المخازن تقفل أبوابها في هذه الساعة فتقفل أنت مخزنك وتأتي بعمالك فلا ينتبه إلينا أحد. - والآن ماذا نصنع؟ - نسير في دهليز آخر من قبيل الامتحان؛ لأن الوقت فسيح لدينا. - كما تريد.
وعاد مرميس يتبعه ميلون إلى الدهليز الأيمن، وسارا بضع خطوات وعند ذاك وقف مرميس وقال: ما هذا ألا تسمع دويا بعيدا متواصلا؟ - نعم وأظنه صوت المركبات التي تمر فوقنا فإننا تحت الأرض. - لا أظن.
ثم اضطجع ووضع أذنه على الأرض فأصغى هنيهة، وعاد فقال: لا أظنه صوت مركبات. - لنسر أيضا قليلا عسى أن تتبين لنا هذه الأصوات.
فاستصوب مرميس رأي ميلون وسار أمامه نحو ثلاثين خطوة، وهو يراقب ما حوله ثم وقف فجأة وقال: ألا ترى أن الأرض تنخفض تباعا أمامنا كلما تقدمنا؟ - نعم، فما عسى أن يكون هذا؟ - إن انخفاض الأرض المتتابع يدل على أنه يوجد فوقنا مجاري مياه المدينة إلى النهر، ولا شك أن هذه الأصوات التي نسمعها هي أصوات تحدر المياه إلى النهر؛ بدليل اتصال الصوت وارتفاعه كلما تقدمنا. - فلنتقدم أيضا وسوف نرى.
وجعلا يتقدمان في الدهليز، وكلما تقدما زاد ارتفاع الأصوات حتى باتت كهزيم الرعود.
وفيما هما يسيران هب هواء شديد فجأة كاد يطفئ المصباح، فقال مرميس أشعرت بمجرى الهواء؟ - نعم، ولكن الهواء يجري في كل مكان. - هو ذاك، غير أن هذا الهواء بليل وهو يسري من الخارج. - إذا كان كذلك لنعد فقد عرفنا ما يجب أن نعرفه ... - كلا، بل يجب أن نواصل السير. - لماذا؟ - لأني أريد أن أعلم أين ينتهي الدهليز. - ولكنه ينتهي إلى النهر كما ترى ونحن نسير في جهة معاكسة للجهة التي نريدها؛ أي جهة نوايت.
فضحك مرميس وقال: إنك لا تزال على بلاهتك ... - لماذا؟ - لنفرض أننا أنقذنا روكامبول. - لنفرض هذا فأية حاجة لنا بهذا الدهليز! - حاجتنا به أننا نخرج روكامبول من دهليز السجن إلى هذا الدهليز فنجد هناك سفينة بانتظارنا. - لقد أصبت. - بماذا، أبحاجتنا إلى الدهليز أم بحكمي عليك بالبلاهة؟
وضحك ميلون وقال: بالاثنين، فلا تجر علي بأحكامك يا مرميس فإني بطيء الفهم كما تعلم. - إذا ... اتبعني.
وسارا أيضا بضع خطوات وعندها هبت ريح شديدة فجأة فأطفأت المصباح وباتا في ظلام دامس.
35
فاضطرب ميلون وقال: رباه ما نصنع؟
فضحك مرميس قائلا: أرأيت كيف أنك تغرق في نقطة ماء؟ - ليس لدي كبريت فأنير به المصباح. - ولكن أنا لدي ...
ثم أخرج علبة الكبريت الشمعي من جيبه، وأخرج أيضا مصباحا، له غلاف من الزجاج يقي النور من الهواء، فأضاءه وهو يقول: لقد أحضرت معي المصباح لتوقعي مثل هذه الحادثة فهلم بنا الآن إلى استطراد السير.
فمشيا، وكانا كلما تقدما يرتفع الصوت ويزيد هبوب الهواء، ثم سمعا أن المياه تنحدر مسرعة من فوقهما، وإذا الهواء بات رطبا وعلما أنهما اقتربا من النهر.
وبعد خمس دقائق رأيا نورا يتألق من محل بعيد وقال مرميس: ما عسى أن يكون هذا النور فإنه لا يمكن أن يكون مضاء في الدهليز منذ القرن السابع عشر؟
فقال ميلون: إني أخشى وجود سوانا فيه وعندي أنه يجدر بنا أن نعود أدراجنا.
فقال له مرميس بلهجة المؤنب: ألعلك خفت يا ميلون؟ - معاذ الله أن أخاف نفسي. - يظهر أنك خائف علي؟ - كلا، ولكني أخشى أن يرانا هؤلاء الناس فيفتضح أمرنا. - لا بأس فلنتقدم، وأن تبين لنا الخطر عدنا من حيث أتينا.
فامتثل ميلون وكانا كلما تقدما يكبر النور ويزيد تألقا وتمتد أشعته كأنما كانت تنعكس على مرآة.
فقال مرميس: لقد علمت الآن ما هذا. - ما هو؟ - إن الذي تراه هو نهر التيمز لأن هذا الدهليز ينتهي إليه. - ولكن المياه لا نور لها. - هو ذاك، غير أن الذي يبدو لك هو نور الغاز المتماوج فوق المياه. - أتظن؟ - بل أؤكد الآن.
ثم سارا بضع خطوات أيضا فثبت ما قاله مرميس واتضح أن الدهليز ينتهي عند نهر التيمز، وأن النور كان مصباحا غازيا تتدفق أشعته على مياه النهر.
وكان الضباب قد انجلى، ففحص مرميس المكان الذي كان فيه فوجد أنه على ضفة النهر وعلى يمينه جسر بلاك فريارد وكل يساره جسر لندرا.
ولما عرف المكان وضواحيه بالتدقيق عاد ميلون إلى الدهليز وهو يقول: لقد علمت ما كنت أريد أن أعلمه.
وكانا قد قضيا في هذا الاكتشاف نحو ساعة فعادا وهما يفحصان كل مكان يمران به، حتى وصلا إلى تلك القاعة ذات الدهاليز الثلاثة ونظر مرميس في ساعته وقال: إن الساعة تبلغ الخامسة والنصف الآن، ولا يزال لدينا نصف ساعة. - ما تعني بذلك؟ - أعني أننا عرفنا الدهليز الأيمن والمتوسط وبقي علينا الأيسر كي يتم اكتشافنا ولا نكون أضعنا الوقت سدى. - إذن هلم بنا.
ودخلا في الدهليز الأيسر وكانا يسيران صعدا خلافا للدهليز الأول.
وبعد حين عرض لهما باب حديدي مثل الأبواب التي رآها ففتحه مرميس بالمطرقة، كالطريقة التي تقدم وصفها وتقدما، فقال ميلون: إننا لا نسير الآن إلى جهة التيمز. - هو ذاك، بل إننا نسير في الجهة المعارضة له. - ولكني مع ذلك أسمع دويا يشبه دوي المركبات.
فأصغى مرميس هنيهة وقال: إنك مخطئ أيضا فليس هذا الدوي دوي مركبات، وقد عرفت ما أردت أن أعرفه. - ولكن ما هذا الدوي؟ - لقد تركنا أولدبالاي على يميننا ونحن الآن تحت الخط الحديدي، فهذا الصوت الذي سمعناه صوت قطار قد مر من فوقنا ألا ترى كيف انقطع الصوت؟ - لقد أصبت. - لنرجع إلى رفاقنا فقد طال غيابنا عنهم.
وبعد ربع ساعة وصلا إلى المخزن فقال مرميس لرجال العصابة: إننا سنقفل المخزن ونشتغل بغير ذلك من المهام.
وقال ميلون: وإن لدينا من الأعمال ما يقتضي له الليل بطوله. - بل قد يستغرق عملنا عدة ليال.
36
في صباح اليوم التالي وقفت مركبة عند باب سجن نوايت في الجهة التي يدخل منها إلى منزل الحاكم، وكان في المركبة مرميس وفاندا.
وأطلت ابنة الحاكم من النافذة ورأتهما بينما كان مرميس يقرع الباب.
وكانت فاندا قد تأنقت بملابسها وتزينت خير تزيين وباتت فتنة للناظرين، بحيث لم تتمالك ابنة الحاكم عن إظهار اندهاشها وإعجابها بذلك الجمال.
أما الحاكم فقد لبس خير ملابسه استعدادا لاستقبال الضيفين الكريمين.
وكان قد أمعن الفكرة طول ليله فيما اتفق عليه مع مرميس، وقد خطر له في البدء أنهم يكيدون له، ولكنه قال في نفسه: إذا كان هناك مكيدة فلا يكيدها غير الإرلنديين، ويستحيل أن يكون هذا الرجل النبيل حليفا لهؤلاء الزعانف، وهو صديق السكرتير الأول في سفارة فرنسا.
فاطمأن خاطره لا سيما بعد أن تذكر ما رواه مرميس عن المحامي، وما كان يتوقعه من الإفلاس والعزل لو وقف في مواقف القضاء.
ثم خطر له الخاطر الآتي فقال: لننظر إلى الأمور من أقبح وجوهها، ولأفترض أن لهذا الشريف الفرنسي علاقة سرية مع الرجل العبوس، فغاية ما يكون من عقابي أن ناظر الحقانية يوبخني، ثم لأفرض أمرا آخر يستحيل أن يكون، وهو فرار الرجل العبوس، فإن عقابي عندها لا يكون غير الطرد من الخدمة وتبقى لي أموالي، في حين أنه لو حاكمني الرجل الفرنسي لحكم علي بالغرامة والعزل معا، فأكون قد خاطرت بالمنصب، ومع هذا فسأبالغ في الحذر.
وفي الصباح ذهب لزيارة الرجل العبوس فعلم روكامبول من هيئته أنه قابل مرميس.
أما الحاكم فإنه قال: إنك لا تنكر يا سيدي إني عاملتك خير معاملة في سجنك وخففت شقائك جهد الاستطاعة. - كيف أنكر يا حضرة الميلورد فقد طالما أعربت لك عن امتناني.
وقد أعطيتك جرائد، وأذنت لك بالكتابة وأنت تعلم إن كنت في هذا السجن فليس الذنب ذنبي. - هذا لا ريب فيه. - ولذلك لا أجد سببا يدعوك إلى الحقد علي. - معاذ الله أن أحقد عليك يا سيدي الميلورد فإني شاكر لإحسانك ممتن لجميلك، وإن قدرت لي النجاة.
فقاطعه الحاكم وقد كره أن يسمع كلمات النجاة وقال: لا حاجة لإطلاق سراحك كي تبرهن لي عن اعترافك بالجميل فإني واثق من كرم أخلاقك؛ ولذا أتيت أستشيرك في شأني. - قل يا سيدي الميلورد، فإني أصدق المخلصين لك.
فقص عليه الحاكم عندها جميع ما جرى بينه وبين مرميس وذكر له الشرط الذي اقترحه للتنازل عن القضية.
فابتسم روكامبول وقال: إني كنت عارفا بما جرى.
فذهل الحاكم وقال: كيف ذلك؟
اصغ إلي يا سيدي الميلورد فإني سأكلمك بحرية وجلاء، إن هذا الفرنسي الذي سجنته معي قد استاء استياء شديدا حين نقلتنا إلى الغرفة الضيقة وعول على الانتقام منك وأخبرني عن طريقة انتقامه. - لم يكن انتقامه هائلا كما كنت أتوقعه. - إنه كان عازما على انتقام شديد لو لم ير من إحسانك إلي ... - ما تعني بذلك؟ - إن هذا الرجل ليس صديقا لي كما أخبرتك من قبل، ولكني فرنسي مثله فلما رأى عطفك علي عول أن ينتقم منك بإثارة ظنونك فقط. - لم أفهم ما تقول؟ - إنه يريد أن يجتمع بي في منزلك كل ليلة مدة أسبوع، فيلاعبني بالشطرنج ويكلمني بهذه اللغة التي أثارت مخاوفك وهواجسك؛ كي يوهمك أن له علاقة بي.
ثم ضحك ضحكا عاليا وقال: ولكني أطمئنك يا سيدي فإنه لا يعلم شيئا من أسراري، ولا تكترث بهذه اللغة فإنه لا يريد بمحادثتي بها غير إثارة مخاوفك، واعتبر نفسك سعيدا لنجاتك من قبضتي المحامي ستلج.
فذعر الحاكم لاسم المحامي، ثم سأل العبوس: ولكني إذا أجبت المسيو بيتافان إلى مطلبه أخالف نظام السجون؛ ولذلك أردت أن أستوثق منك معتمدا على شرفك. - ماذا تريد ...؟ - هو أنه لا بد أن يحاكموك فإذا استنطقوك فأرجو أن لا تذكر أمامهم أنك دخلت منزلي. - أقسم لك بشرفي يا سيدي الميلورد أني لا أبوح بشيء، ولكن ... - ولكن ماذا؟ - ألعلك واثق من عمالك في هذا السجن؟! - إن بينهم اثنين عينتهما لمراقبتك في ذهابك وإيابك، وأنا واثق منهما كل الوثوق. - إذن اعتمد علي يا سيدي بالكتمان فقد أقسمت لك.
وعند هذا فارقه الحاكم وهو مطمئن وعاد إلى منزله وتهيأ لاستقبال مرميس، وأمر أن يعد له ولامرأته خير مكان في منزله.
وقد جاء مرميس وفاندا كما قدمناه في الساعة العاشرة فأسرع الحاكم لاستقبالهما.
وقال مرميس وهو يضحك: كيف كانت ليلتك أمس ألم تأرق لذكر المحامي ستلج؟
فارتعش الحاكم لذكر اسم هذا المحامي، ولكنه لبث يبتسم وقدم ذراعه لفاندا.
37
أما مرميس فإنه لم يكن قد نام تلك الليلة.
فإنه في الساعة السادسة أمر بإقفال المخزن وجميع رجال العصابة فيه وكانوا خمسة رجال وامرأة.
أما المرأة فهي بولينا زوجة بوليت، وقد عهد إليها مرميس أن تبقى في المخزن، وأن تطفئ الأنوار وتصغي إلى ما يجري في الخارج حتى إذا سمعت ما يدعو إلى الشبهة تدخل إلى القبو وتنبههم.
وبعد أن أبقاها في المخزن تقدم إلى القبو يتبعه رجال العصابة فظلوا سائرين حتى وصلوا إلى القاعات ذات الدهاليز الثلاثة.
وكان مرميس قد أخذ لفيفة من الخيطان فربط طرف الخيط عند مدخل القبو الأول فجعل يسير واللفيفة بيده والخيط متصل.
أما ميلون فإنه اعتقد أنه فهم قصد مرميس من ذلك الخيط الطويل فقال: لقد علمت ما تريد بهذا الخيط. - أتظن أنك علمت؟ - نعم، إنك تفعل كما يفعلون في سراديب روما فإن الساري فيها إن لم يستعمل هذه الطريقة لا يعرف أن يعود. - لقد أخطأت فليس هذا قصدي ... - إذن ما هو قصدك. - سأبسطه لك فيما بعد.
وكان ميلون قد تعود أن يحترم إرادة تلميذ روكامبول وتكتمه فلم يلح عليه بالسؤال، وتقدمت العصابة في الدهليز المتوسط حتى وصلوا إلى تلك الأتربة المتهدمة التي اعترضت مرميس وميلون وحالت دون تقدمهما حين اكتشاف هذا الدهليز.
فقال لهم مرميس: هلموا إلى العمل أيها الرفاق؛ إذ يجب أن نفتح ممرا بين هذه الأتربة المتراكمة.
فانكبوا جميعهم على العمل بهمة قوية.
وما زالوا يشتغلون أربع ساعات متوالية حتى رفعوا تلك الأتربة وأزالوا حواجز السرداب فصاحوا جميعهم صيحة الفرح والفوز.
وأما مرميس فإنه دفع لفيفة الخيطان لميلون وقال له: امسكها.
ثم أمر بوليت أن يأخذ مصباحا وأخذ من جيبه مقياسا متريا من تلك المقاييس التي يستعملها التجار، ففتحه وجعل يقيس به الخيط المتصل، وكلما قاس مترا ابتعد عن ميلون إلى جهة المخزن، وميلون ينظر حائرا مبهوتا دون أن يجسر على سؤاله.
حتى إذا ابتعد عنه تنهد وقال: ليس لي بهذا الغلام حيلة فإنه يأبى إلا أن يعاملني كما يعاملني الرئيس.
ولم يفهم أحد من رجال العصابة ما كان يريد مرميس بهذه المقايسة غير بوليت، فإنه أدرك شيئا من قصده؛ إذ قال له، حين بلغ إلى القبو الأول: إنك قست الخيط لتعلم المسافة التي اجتزناها. - هو ذاك، ولكن لي بهذا القياس قصد آخر. - ما هو؟ - سوف تعلم.
ثم جلس على حجر وقال: إني عددت ثمانية وسبعين مترا فاصعد إلى المخزن فلا بد أن يوجد فيه لفيفة خيطان مثل هذه اللفيفة وأتني بها.
فأسرع بوليت وجاء باللفيفة فقاس مرميس منها ثمانية وسبعين مترا وقطع الخيط، فوضع الخيط الذي قاسه بجيبه، وصعد مع بوليت إلى المخزن فأطفأ المصباح وقال: سوف نرى الآن إذا كان يصح قياسي.
وكانت السكينة سائدة في الشارع، فوضع مرميس أذنه على الباب وأصغى فسمع وقع خطوات بطيئة فقال: إنها خطوات الحارس الليلي فلننتظر إلى أن يمر.
وأقام ينتظر حتى مر الحارس بالمخزن وتعداه فقال: إنه لا يعود إلى هذا الموقف قبل خمس دقائق، وهو وقت كاف لإتمام ما أريد.
فوقف بوليت حائرا وهو لا يفهم شيئا من هذه الألغاز.
38
وعند ذلك أمسك مرميس بوليت طرف الخيط وفتح باب المخزن وبيده الطرف الآخر فخرج منه وسار توا إلى سجن نوايت المقابل للمخزن فلم يقف إلا حين انتهى الخيط.
فترك الخيط ومشى إلى حائط السجن وهو يعد خطواته فبلغت إحدى عشر خطوة حين وصل إلى الجدار.
وهنا رجع مسرعا إلى المخزن فأقفل بابه وقال لبوليت: أفهمت الآن؟ - قد فهمت كل قصدك. - إذن اسحب الخيط كي لا يبقى في الشارع أثر يدل على ما نفعل.
فامتثل بوليت، وعاد الاثنان إلى القبو الأول فأنارا مصباحا وذهبا إلى حيث كانت بقية أفراد العصابة فوقف في طليعتها وقال لرجالها: اتبعوني الآن، فتقدموا عشر خطوات، وهناك وجدوا قاعة جديدة يبلغ اتساعها نحو عشرة أمتار.
غير أنهم لم يجدوا فيها منفذا ولا أثرا يدل على وجود باب فقال ميلون: هو ذا عقبة جديدة قد عرضت لنا.
فهز مرميس رأسه وقال: ما أكثر العقبات عندك!
ثم تناول مطرقة وجعل يطرق بها جدران القاعة وبوليت ينير له حتى سمع صوتا معدنيا في الجهة المقابلة للسجن وقال: هو ذا الباب، لكن يجب أن نزيل ما يحجبه برفق وعناية كي لا يخرج صوت مرتفع ينبه الأسماع.
ثم ترك المطرقة وأخذ آلة حادة فأمر رفاقه أن يقتدوا به وجعل يزيل طلاء الجدار برفق وسكينة، فما مضت ساعة حتى ظهر من تحت ذلك الجدار باب حديدي يشبه الأبواب التي في تلك الدهاليز.
ولم يكن لذلك الباب قفل، فضحك ميلون وقال: إننا نعرف طريقة فتحه، أليس كذلك يا مرميس؟
فأجابه: نعم، ولكننا لا نفتحه الآن. - لماذا! - إذ لا فائدة من فتحه الآن، فقد اشتغلنا فوق الكفاية في هذه الليلة.
ونظر ميلون في ساعته وقال: كيف ذلك، فإن الليل لم ينتصف بعد؟! - لا بأس فاتبعوني.
ثم رجع أدراجه وهو يعد خطواته، حتى وصل في ذلك الدهليز إلى المكان الذي وجدوا فيه بقايا الردم فقال: إن المسافة من الباب الحديدي إلى هذا المكان أربع عشرة خطوة، ومن هنا إلى القبو الكائن تحت المخزن ثمانية وسبعون مترا، فتكون المسافة كلها ثمانية وثمانين مترا بالتقريب.
وقد عددت من باب المخزن إلى جدار سجن نوايت ثمانية وسبعين مترا، وعلى هذا فلا بد أن يكون الباب الحديدي الأخير الذي اكتشفناه، كائنا تحت منزل حاكم السجن، ولذلك فلا فائدة الآن من فتح ذلك الباب.
فقال ميلون: إني لم أفهم شيئا بعد.
فابتسم مرميس وقال: ولكن الأمر بسيط. - كيف ذلك؟ - ألم أقل لك إني سأزور مع فاندا سجن نوايت؟ - نعم ... - فإن كان الحاكم عارفا بهذه الدهاليز فهو يريني إياها. - إذن يضطر إلى فتح الباب الحديدي. - كلا فإن الباب لا بد أن يكون محجوبا بجدار من داخل السجن كما كان محجوبا من داخل الدهليز. - إذن فهو لا يستطيع أن يريك شيئا.
فضحك مرميس وقال: سوف ترى، وأما الآن فهلموا بنا، فيجب أن ننام.
ثم سار أمامهم فتبعوه. •••
وفي صباح اليوم التالي، نادى مرميس بوليت وقال له: يجب أن تكون شجاعا. - إن الشجاعة عندي. - ألا تخاف من المبيت في الدهليز؟ - إني أبيت بين المقابر عند الاقتضاء. - اصغ إلي، إني أريد منك أن تذهب إلى آخر باب اكتشفناه في الدهليز، فتجتهد أن لا تنام وتصغي كل الإصغاء. - ماذا تتوقع أن أسمع؟ - لا أعلم، ولكنك تحفظ كل ما تسمعه وتنتبه إليه كل الانتباه. - سأفعل ما تريد.
وبعد حين توجه بوليت إلى الدهليز ومضى مرميس إلى فاندا فسار بها إلى بيت حاكم السجن كما قدمناه.
39
ولنعد الآن إلى بيت الحاكم، فإن زوجته وابنتيه وجدن من فاندا فوق ما كن يتوقعنه من اللطف والظرف والكياسة، فأعجبن بها غاية الإعجاب.
وقد استحال هذا الإعجاب إلى حب، حين ألبست فاندا إحدى البنتين عقدا ثمينا من اللؤلؤ، وألبست الأخرى خاتما بديعا من أغلى الجواهر.
فأقام الجميع يتحدثون ويتنادمون، حتى دنا وقت الطعام، فأكلوا ولاعب مرميس الحاكم بالشطرنج، فتساهل باللعب كي يغلبه مبالغة بإرضائه.
ولما فرغا من اللعب قال مرميس للحاكم: إننا اتفقنا فيما اتفقنا عليه أن ترى زوجتي سجن نوايت؛ فإنها تحب أن ترى كل ما فيه. - حبا وكرامة وإنني أطلب إليك أمرا يا سيدي. - قل ما تشاء. - إننا اتفقنا أن يلاعبك هذا الرجل السري الذي يدعونه بالرجل العبوس الليلة بالشطرنج. - بل كل ليلة. - هو ذاك وقد اتخذت كل وسائل الحرص، ولا يعلم بأنه يحضر إلى منزلي غير اثنين أثق بهما كل الثقة من حراسي. - ما تريد بذلك؟ - أعني أن ناظر العدلية أصدر إلي أوامر شديدة بشأن الرجل العبوس، وهي أن لا أدع أحدا يراه ولذلك لا أستطيع أن أري زوجتك غرفة هذا الرجل، وستراه في منزلي. - لا بأس ولكنها تستطيع أن ترى بقية المسجونين. - دون شك وسأريكم أيضا جميع السجون على اختلافها من الغرف البسيطة إلى السجون العميقة المظلمة. - أيوجد سجون عميقة في نوايت؟ - نعم يوجد سجنان. - إن هذا يدهشني يا حضرة الميلورد. - لماذا؟ - لأن طريقة السجون العميقة قديمة جدا وقد قرأت في تاريخ إنكلترا أن سجن نوايت أنشئ سنة 1780. - هو ذاك، ولكنه بني على أنقاض السجن القديم الذي احترق في تلك الأيام فبقي هذان السجنان، على أنهما لم يستعملا غير مرة فقد كانا ملجأ للمتآمرين أيام مؤامرة البارود المشهورة. - نعم لقد قرأت شيئا عن هذه المؤامرة، ولكن من عهد طويل فلم يعلق بفكري شيء منها. - إنه حديث طويل سأخبرك عنه في غير هذا المقام وإن شئت بدأنا الآن بزيارة السجون العميقة. - لماذا تؤثر أن نبدأ بها؟ - لأنها ليست كائنة في داخل السجن، بل هي تحت أقدامنا حيث نقف؛ أي تحت منزلي. - كيف ذلك؟ - إنه يوجد تحت منزلي قبو أضع فيه الخمر وفي هذا القبو مدخل السجنين، غير أني حصنتهما ووضعت فوقهما ما يشبه خرزة البئر خوفا من أن يسقط فيها أحد الخدم. - لقد أحسنت، وفوق ذلك فإن السجن العميق لا يختلف في شيء عن البئر. - هو ما تقول، فإن هذين السجنين يبلغ عمق الواحد منهما سبعين قدما، ويمكن النزول إليهما بالحبال وقد نزلت إليهما مرة. - وما رأيت فيهما؟ - رأيت فيهما مدخلا للدهاليز التي حفرت أيام مؤامرة البارود.
فضحك مرميس وقال: إذن يمكن الفرار من سجن نوايت.
فارتعد الحاكم، وقد خطر له الرجل العبوس، ولكنه أخفى اضطرابه وقال: إن هذا محال، فإن هذين السجنين كائنان تحت منزلي، وليس في السجن كما قلت لك وفوق ذلك فإن مدخل الدهاليز قد سد بالجدران. - إن كان كما تقول فلم يبق وسيلة للفرار. - وزيادة في الاستيثاق، نزلت مرة إلى السجنين ومعي بناء، فأمرته أن ينقض الجدار الذي سد فيه مدخل الدهليز ففعل، ولكنه لم يجد جدار، بل وجده قشرة رقيقة من الطين أزالها، فانكشفت عن باب من الحديد.
فاضطرب مرميس وقال: وهذا الباب؟ - إننا ألفيناه متينا لم تعمل فيه المطارق. - ألم تحضر صانع أقفال؟ - أحضرت ستة لا واحدا. - ألم يستطيعوا كسر القفل؟ - إنهم لم يجدوا فيه قفلا فيفتحوه أو يكسروه. - وبعدها ماذا صنعت؟ - وثقت من صلابته فتركته على حاله وطليته بالطين كما كان وجعلت فيه ثقبا صغيرا كي أعرف مكان الباب. - لقد شوقتني إلى مشاهدة هذين السجنين فلنبدأ بهما. - كما تشاء.
وبعد ربع ساعة كان الحاكم يتقدم مرميس وفاندا إلى السجن، ويتقدمهم حارسان يحملان المصابيح.
فقال مرميس لفاندا بصوت منخفض: كنت أفضل أن لا تري الرجل العبوس. - لماذا؟ - لأني أخشى أن تظهر عليك علائم التأثر لمنظره فيفتضح أمرنا. - لا تخف فإني أملك نفسي عند الاقتضاء وسوف ترى هذه الليلة. - وإن ظهرت عليه نفس علائم التأثر؟
فهزت فاندا رأسها وقالت: إنه لا يحبني أنا الآن.
ثم ابتسمت ابتساما أعرب عما داخل فؤادها من القنوط وقالت: إنه يحب الآن مس ألن.
وبعد هنيهة وصلوا إلى مدخل السجنين فتفقدهما مرميس وكان يسأل الحاكم عن كل ما يشكل عليه؛ فيجيبه دون احتراس، إلى أن قال: أتريدان أن تنزلا إليه؟
فقالت فاندا: أما أنا فلا.
وقال مرميس: وأما أنا فإني أحب أن أنزل إليهما فإني طالما سمعت بهذه السجون ولم أرها في حياتي.
وأمر الحاكم أحد الحارسين أن يحضر سلما من الحبال، فغاب هنيهة وعاد به.
40
فلما ربط الحارس السلم بأعلى البئر قال مرميس للحاكم: إني لا أكلفك يا سيدي مشقة النزول إلى السجن، فقد نزلت إليه مرارا، فأعطني مصباحا وسأنزل وحدي.
فأعطاه المصباح وحمله بإحدى يديه ونزل على السلم برشاقة الغلمان، فلم ينزل عليه درجة بل إنه أمسك الحبل بيده ولف رجليه عليه وترك نفسه يهوي حتى بلغ إلى أسفل السجن.
وأطل الحاكم من فوق قائلا: افحص الباب جيدا. - ولكنك بنيت أمامه حائط كما تقول. - نعم ولكني ثقبت فيه ثقبا فانظر منه بنور مصباحك.
فابتسم مرميس وقال في نفسه: مسكين هذا الحاكم، فإني لم أر أشد بساطة منه.
ثم وضع المصباح قرب الثقب وجعل ينظر فرأى الباب الحديدي.
وقال له الحاكم: أرأيت الباب؟ - نعم وهو غريب الصنع. - إنه رنان صلب فانقر عليه تعرف صلابته.
وقال مرميس في نفسه: ويح لهذا الرجل إنه بات شريكنا وخير عون لنا في تخليص روكامبول.
ثم مد يده من خلال الثقب ونقر على الباب، فخرج له دوي رنان.
وعند ذلك صعد مرميس على السلم درجة درجة، وهو يقول في نفسه: لقد بلغت ما أريد، ولا شك أن بوليت كان يسمع كلامي من وراء هذا الباب.
فلما التقى بالحاكم قال له: أليس للسجن الثاني باب مثل هذا الباب؟ - كلا، وهو يشبه هذا السجن أتم الشبه. - إذن لا حاجة إلى النزول إليه فلنتفقد بقية السجن.
وسار الحاكم يتبعه مرميس وفاندا، وجعل يريهما غرف سجنه، وهو معجب بترتيبه، فكان يصف لهما كل ما يريانه ويوضح لهما كل ما يشكل عليهما، وقد بلغ من شغفه بهذا السجن أنه بات يحب من يسجن فيه، حتى إنه قال لمرميس: إني أكاد أبكي حين يخرج سجين من سجني. - ولكنه سجن نوايت لا يخرج منه أحد إلا إلى المشنقة. - ليس ذلك مضطردا فإن جلالة الملكة كثيرة المراحم.
وكانت فاندا تظهر اهتماما عظيما بما تراه وهي تنتقل من غرفة إلى غرفة، حتى وصلوا إلى الغرفة المسجون فيها روكامبول، فلمس مرميس كتفها وقال لها: هذه هي غرفته.
فاضطربت فاندا، ولكنها أسرعت إلى إخفاء اضطرابها، وكان باب غرفة روكامبول مقفلا فلم يأمر بفتحه.
وغادرت تلك الغرفة إلى سواها فما مضت ساعة حتى تفرجوا على جميع غرف السجن الرهيب.
وبعدها عادوا إلى منزل الحاكم فأقامت فاندا مع زوجته وابنتيه وادعى مرميس أنه مضطر إلى الخروج لمقابلة أصحابه. •••
وقد ذهب مرميس توا إلى المخزن ووقف بعيدا عنه ورأى ميلون واقفا عند بابه، فأشار إليه أن يتبعه.
فامتثل ميلون وتقدمه مرميس حتى ابتعد عن السجن فاجتمع به، وقال له ميلون: ما وراءك من الأخبار؟ - إني أحب أن أسألكم عن أخباركم. - لم يحدث عندنا شيء فإن الحالة كما تركتها.
فقطب حاجبيه وسأله: وبوليت؟ - إنه لا يزال في المكان الذي وضعته فيه. - ألم تره منذ الصباح؟ - إني ذهبت إليه عند الظهر بالطعام. - وبعدها ألم تره؟ - كلا.
فزال التقطيب من جبينه وقال له: حسنا، عد إلى المخزن وانتظرني فإني لا أحب أن أعود معك كي لا يروني من السجن.
فذهب ميلون وركب مرميس عربة وعاد بها إلى المخزن دون أن يراه أحد من الحراس.
وكان رجال العصابة في المخزن وكل منهم يشتغل في مهمته هذا يبيع الزبائن وهذا يقبض الثمن وآخر يقيد في الدفاتر.
فذهب مرميس توا إلى القبو مع ميلون، فقال له ميلون: إني لا أعلم لماذا وضعت بوليت عند ذلك الباب الحديدي فما عساك تنتظر منه؟
فلم يجبه مرميس وسار وإياه إلى حيث كان بوليت.
وأسرع بوليت إلى مرميس وقال له بصوت يضطرب: يظهر يا سيدي أننا لسنا وحدنا في هذا الدهليز. - كيف ذلك؟ - يوجد سوانا وراء هذا الباب الحديدي. - كيف عرفت ذلك؟ - سمعت نقرا على الباب. - اطمئن فأنا هو الذي قرع الباب.
فدهش ميلون وقال: ولكن أي طريق سلكت إلى هذا المكان؟
فأجابه: من الطريق الذي سيسلكها روكامبول غدا إلينا؛ لأن ساعة خلاصه قد دنت.
41
ولنعد الآن إلى بيت حاكم السجن. ففي الساعة العاشرة كان الحاكم وعائلته وضيفاه جالسين على المائدة يشربون الشاي.
وكان الحاكم طلق المحيا باش الوجه طول النهار، فلما أظلم الليل انقبضت نفسه وتجهم وجهه.
أما سبب انقباضه فقد كان الرجل العبوس؛ إذ تذكر أنه يجب عليه الوفاء بعهده وإدخاله إلى منزله، فلما فرغوا من العشاء، ادعى أنه يريد تفقد السجن وذهب إلى الرجل العبوس.
فحياه روكامبول باحترام وقال له: ماذا أصابك؟ فإني أرى هيئتك تدل على الكآبة. - إني لست كئيبا، ولكني كثير القلق. - لماذا يا حضرة الميلورد؟ - لا أنكر عليك أني خائف منك غير واثق بك، فإنك ستذهب الليلة إلى بيتي وأخشى أن يبدر منك ما يسيء. - إنك تهينني يا سيدي بهذا الظن، وإذا كان بعض الظن إثم، يا سيدي كما يقولون، فإن ظنك كله إثم، وكيف يخطر لي أني أكيد لك بعد إحسانك إلي؟ - أتقسم لي بأنك لا تسيء إلي؟ - لا حاجة إلى الأقسام، يا حضرة الميلورد، فما أنا من أهل الشر كما يحسبون.
فانصرف الحاكم من عنده وقد سكن اضطرابه بعض السكون، ولكنه لم يعد إلى البيت حتى عاوده الاضطراب، وبات يحسب لاجتماع الرجلين ألف حساب.
ولما انتهوا من شرب الشاي، قال مرميس للحاكم: متى ستحضر السجين؟
فتنهد الحاكم وقال: سأحضره في الحال متى فرغ الحراس من أعمالهم، وأظنهم فرغوا.
ثم نادى أحد الخدم وقال له: قل للحارس ويتسون أن ينفذ الأمر الذي أصدرته إليه.
فانصرف الخادم، وبعد ربع ساعة فتح باب القاعة التي كانوا فيها ودخل الرجل العبوس.
فنظر مرميس إلى فاندا فرآها هادئة صامتة ساكتة تمثل دور عدم الاكتراث باضطراب قليل لا يظهر إلا لمثل عين مرميس.
أما روكامبول، فإنه حيا السيدات بلطف وإيناس، دلالة على وفرة أدبه.
فقال مرميس لفاندا: هذا هو الفرنسي المنكود يا سيدتي، الذي سجنت معه.
ثم التفت إلى الرجل العبوس وقال له: إني التمست من حضرة الحاكم إحضارك كي تلاعبني بالشطرنج حسب الطريقة الهندية . - إني مستعد فإني أعرف هذه الطريقة، وقد أخبرني حضرة الحاكم اليوم بنيتك.
فقال مرميس للحاكم: إني أشكرك يا سيدي، وأسألك المعذرة عن كثرة مطالبي.
وكان الحاكم شديد الاضطراب حتى إنه حاول الابتسام فلم يستطع.
وتابع قائلا: إني سأكلم مواطني بتلك اللغة الجافانية وأرجو أن لا يسوءك سماعها كما ساءك من قبل.
فنظر روكامبول إلى الحاكم نظرة خفية معنوية مفادها: ألم أقل لك اليوم إنه يريد أن ينتقم منك بالتحدث معي بهذه اللغة فلا تخف.
وعند ذلك قامت إحدى بنتي الحاكم وقالت له: إن هذه السيدة يا أبي ستشنف أسماعنا بألحانها الشجية على البيانو، بينما يلعب هذان السيدان بالشطرنج.
فقامت فاندا تعزف على البيانو، وبدأ مرميس وروكامبول يلعبان بالشطرنج، وكانت فاندا تعزف عزفا مرتفعا، يحول دون سماع الحديث.
أما مرميس فإنه بدأ الحديث مع روكامبول وهو يلاعبه وقال له باللغة الجافانية: أيها الرئيس إن كل شيء قد تهيأ. - كيف ذلك؟ - إن نجاتك في الليلة القادمة يتعلق بك. - من الذي ينقذني أنتم أو الإرلنديون؟ - نحن. - أوضح قولك. - إني فعلت ما أمرتني به فاشتريت المخزن الكائن تجاه السجن واشتريت الخريطة التي أخبرتني عنها. - أوجدت مدخل الدهليز؟ - وجدت كل شيء.
ثم أخبره تفصيلا بجميع ما فعله، وأنه نزل إلى السجن العميق ونقر على الباب الحديدي فسمع بوليت الصوت من الجهة الثانية ثم قال له: إني استأجرت باخرة وهي راسية في انتظارنا في التيمز، عند نهاية الدهليز الأيمن المشرف على ذلك النهر. - أحسنت ولكن الإرلنديين ماذا صنعوا؟ - إني لم أعلم شيئا من أخبارهم. - ولكنهم يشتغلون ويعملون على إنقاذي. - ربما، ولكننا سنبلغ قبلهم هذا المراد. - هذه هي النتيجة التي لا أريدها.
فاضطرب مرميس وقال: لماذا؟ - لأني أريد أن يفعلوا شيئا من أجلي. - وأي فائدة لك من ذلك؟ - لأني أريد أن أعلم بعد إطلاق سراحي إذا كان يجب أن أخدمهم أو أتخلى عنهم. - ولكنه لدينا في فرنسا أعظم من هذه المهمة. - ربما، ولكني أظنك لا تجسر على عصياني. - معاذ الله يا حضرة الرئيس. - إذن اصنع ما أقوله لك.
ثم جعل روكامبول يحادثه ويلاعبه بالشطرنج، والحاكم يسمع حديثهما بقلق شديد دون أن يفهم شيئا، فيضطرب ويقول في نفسه: والله إن هذين الشقيين إذا طال اجتماعهما عندي ابيضت شعوري وذهب عقلي.
42
كانت مس ألن لا تزال في الغرفة التي وصفناها، وهي بثياب أخوات السجون حذرا من الأسقف، وكان مرميس قد لقيها قبل أن يذهب إلى بيت الحاكم فقال لها: إني لا أعلم ما يصنعه الإرلنديون، ولكني أؤكد لك بأننا سننقذه. - كيف ذلك؟
فأخبرها مرميس بجميع ما فعله، ووافقت على خطته، وانصرف إلى بيت الحاكم، وقد وعدها أن يعود إليها ويخبرها بما يكون بينه وبين روكامبول.
وفي اليوم التالي جاءها وهي تنتظره بفارغ الصبر، فتبينت الكآبة من ملامح وجهه، وقالت له: لا شك أن المصيبة قد داهمتنا، فقل لي ماذا حدث؟ - إن المصيبة لم تفاجئنا بعد، ولكني أخشى أن تفاجئنا. - ماذا تعني؟
فقال لها بلهجة القنوط: إني أعددت كل وسائل إنقاذه، فطهرت الدهليز واستأجرت باخرة تنتظرنا في النهر، ولكنه لا يريد. - من هو؟ - روكامبول. - كيف ذلك؟ ألا يريد أن ينجو من السجن؟ - كلا.
فحارت الفتاة في أمرها، وقالت: ولكن كيف لا يريد؟ ولماذا؟ - لأنه يريد أن يرى ما يكون من الإرلنديين. - إنهم سيبرون بوعدهم وينقذونه دون شك. - ولكن متى؟ - إن الأب صموئيل أبى أن يخبرني. - بل يجب أن نعلم فإني أنقذه بالقوة وبالرغم عنه إذا اضطررت. - إذن تعال معي إلى كنيسة سانت جورج، فإننا نجد فيها الأب صموئيل.
فامتثل مرميس وسار معها وهو مكتئب حزين حتى وصلا إلى الكنيسة.
وكان البواب قد عرفها فقالت له المس ألن: قل للأب صموئيل إني أحب أن أراه إذا كان في القبة. - إنه مجتمع فيها مع الزعماء ولا أعلم إذا كان يستطيع مقابلتكما. - لا بأس اذهب وأخبره.
فذهب البواب ثم عاد فقال: إنه ينتظركما فاتبعاني.
فصعدا إلى تلك القبة ووجدا الكاهن مختليا مع أربعة من الزعماء، فقال لهما الكاهن: ألعل لديكما أنباء خطيرة؟
فأجابته المس ألن: كلا، ولكننا أتينا لنعلم كيف ومتى ستنقذون الرجل العبوس.
فأجابها أحد الزعماء قائلا: إننا وعدناك أن ننقذه، ونحن من الذين يحترمون الوعود. - لا شك عندي فيما تقول، ولكني أحب أن أعلم كيف ستنقذونه. - ذلك سر من أسرارنا لا نستطيع أن نبوح به لأحد. - ولكن متى يكون إنقاذه؟ - قد يكون غدا وقد يكون بعد أسبوع إلى أن تتم معداتنا.
فنظرت الفتاة إلى مرميس نظرة تشف عن اليأس، فقال لها على مسمع منهم: إذن لنصبر إذا كان لا بد من الصبر.
ثم انصرفا فلما باتا خارج الكنيسة قال مرميس للفتاة: لقد عزمت عزما أكيدا لا يثنيني شيء عنه. - ما هو؟ - هو أني سأنقذ روكامبول بالرغم عنه. - ألم تثق بوعود الإرلنديين؟ - إني أثق بها، ولكن يظهر لي أن هؤلاء الإرلنديين من أهل المطل والأمر يدعو إلى الإسراع.
وفيما هما يسيران سمع مرميس صوت رجل يناديه، فالتفت فرأى الشرطي إدوارد فقال له: من أين أنت قادم؟ - إني سائر في أثركما. - لماذا؟ - لأخبركما بنبأ محزن لا أجد بدا من إطلاعكما عليه؛ وهو أن ناظر الحقانية قرر محاكمة الرجل العبوس غدا بناء على إلحاح الأسقف، وربما قضي عليه بعد ليلة من صدور الحكم.
فاصفر وجه مس ألن وأوشكت أن تسقط، أما مرميس فقال: لا يزال لدينا ليلتان وهذا فوق الكفاية. - ولكن إذا أصر على عناده فما تصنع؟ - أنقذه بالقوة وأختطفه اختطافا.
ثم نادى مركبة فأصعد إليها مس ألن وقد وهت قواها، فجلس بجانبها وجعل يشجعها، فسارت المركبة بهما إلى غرفتها.
43
وأوصل مرميس مس ألن إلى غرفتها وعاد إلى المخزن فوجد ميلون شديد القلق؛ لأنه لم يره بعد أن اجتمع بروكامبول فقال له: لم يعد لدينا وقت ويجب أن نسرع ما أمكنت السرعة.
فرد ميلون أظن أن الإرلنديين سيحدثون حدثا، فإني رأيت كثيرين منهم يرودون في الليلة الماضية حول سجن نوايت. - إذا كان الإرلنديون يريدون إنقاذه فلينقذوه الليلة. - لماذا؟ - لأننا سننقذه الليلة القادمة ولو اضطررت إلى الإكراه، فإنه يريد أن ينقذه الإرلنديون اعترافا بجميله عليهم.
فضم ميلون يديه وقال: ماذا أصاب الرئيس ألعله جن؟ وماذا أتينا لنعمل إذن؟ - أتعلم يا ميلون أنهم سيحكمون عليه غدا، ولكني أرجو أن نكون في طريق فرنسا قبل أن ينفذ الحكم فيه، فهل رأيت ربان الباخرة؟ - نعم، وهو مستعد للسفر. - إذن عد إليه بين الساعة الرابعة والخامسة وقل له إن سيدة ستزوره في الباخرة ... - من هي، ألعلها مس ألن؟ - دون شك. - في أية ساعة تزور الباخرة؟ - عند منتصف الليل وقل له أن يتأهب منذ ذلك الحين بحيث نستطيع السفر حين وصولنا إلى الباخرة. - أأنت واثق أننا نستطيع إنقاذه هذه الليلة؟ - دون شك فهلم بنا إلى الدهليز ولنصحب وليم فإنه أشدنا قوة.
فأنار ميلون مصباحا، وأخذ مرميس مطرقة وساروا جميعهم إلى الباب الحديدي الفاصل بين الدهليز والسجن ففتح الباب بالمطرقة على الطريقة التي عرفناها فظهر من ورائه الجدار الرقيق الذي بناه حاكم السجن.
فقال مرميس لميلون: إنك بناء فما رأيك بهذا الجدار ... - إنه رقيق جدا. - ترى أنه يمكن تدميره بالمطارق بسهولة. - لا حاجة إلى المطارق وسوف ترى، ثم صدم الجدار بكتفه صدمة قوية زعزعته فأسرع وليم إليه وقال له: اصبر فسأعينك، واندفع معه على الجدار، فما مضت دقيقة حتى تهدم وانقض وظهر السجن العميق الذي نزل إليه مرميس من بيت الحاكم، فدخل مرميس وتبعه وليم وميلون، وقال مرميس: انظر أتعلم أين نحن الآن. - إننا في بئر كما يظهر. - ولكن في هذا البئر منفذا ويبلغ عمقها ستة أمتار فيجب أن نحضر سلما يبلغ طوله ستة أمتار. - إن إحضار السلم سهل ميسور، ولكن كيف يمكن إدخاله من هذا الباب الضيق فإن اتساع البئر لا يزيد عن متر. - لقد توقعت ذلك وأعددت لهذه المشكلة حلا فأوصيت نجارا في شارع أوسبورن بصنع سلم يطوى وينشر، فإن طوي لا يزيد حجمه عن نصف المتر وإن نشر بلغ ستة أمتار، والآن اصغ إلي فإنك تذهب إلى النجار وتحضر السلم في هذه الليلة. - وبعد ذلك؟ - تحضروا كلكم في الساعة الحادية عشرة إلى البئر ويتسلح كل واحد بمسدس وخنجر. - وزوجة بوليت؟ - تحضرونها معكم، فإذا وضعنا السلم صعدت أنت في البدء وتبعك الآخرون ما عدا بولينا فلتنتظر عند أسفل السلم. - وبعد ذلك؟ - عندما تبلغون إلى أعلى البئر تجدون قبوا مقفل بمفتاح فتكسرون القفل وتفتحون الباب فتجدون السلم وتصعدون عليها وتبلغون منها إلى المطبخ وهناك لا تجدوا غير خادمة، وقد تجدونها نائمة، وإذا لم أتمكن من تخديرها وحاولت الصياح فاربطوا يديها ورجليها وكمموها وبعدها تدخلون إلى غرفة مجاورة للمطبخ وهي قاعة الطاعم فتنتظرون هناك. - ماذا ننتظر؟ - كلمة مني تعمل بموجبها. - وإن رأينا في المطبخ غير الخادمة؟ - إن اضطررتم إلى القتل فاقتلوا، ولكن بالخناجر لا بالمسدسات أفهمت الآن؟
فقال ميلون: كما ينبغي. - إذن فاذهب الآن واحضر السلم وعد إلى الرفاق وأخبرهم بما يجب أن يفعلوا ...
44
أما مس ألن فإنها لم تكن رأت مرميس منذ الصباح، ولكنه قال لها حين رآها: إني أعيد عليك ما قلته وهو أني سأنقذه بالكره إن اضطرني إلى الإكراه. - وأنا ماذا يجب أن أصنع؟ - يجب أن تنتظري وسيطول انتظارك إلى الساعة الثامنة حيث يأتي إليك ميلون ويذهب بك. - إلى أين؟ - إلى باخرة راسية في النهر وهي الباخرة التي تذهب بنا إلى فرنسا.
ثم انصرف عنها فصبرت الفتاة إلى الساعة الثامنة فجاءها ميلون وعلائم السرور بادية على وجهه فقال لها: إننا لم نعد في حاجة إلى الإرلنديين يا سيدتي فسنتولى نحن إنقاذ روكامبول، وقد كنت أخشى أن يتولى إنقاذه سوانا. - ومع هذا فقد ينقذونه؛ إذ لا شك عندي بصدق نيتهم بل قد ينقذونه قبلكم! - إن ذلك محال. - سيان عندي إن أنقذناه نحن أو الإرلنديين فإن الغرض أن يتم إنقاذه ... - ولكني أبذل حياتي طائعا راضيا على أن يكون تخليصه على يدنا لا على يد سوانا، فلقد طالما ضحى الرئيس الحبيب حياته في سبيلنا.
فابتسمت مس ألن وقالت: أتظنني غير مخلصة لروكامبول؟ - لا شك عندنا بإخلاصك يا سيدتي ... - يجب أن تعلم أني ضحيت هذا الإخلاص من أجلكم! - كيف! - إن الإرلنديين قد وضعوا خطة لإنقاذه لا أزال أجهلها، وأنتم قد اخترتم الدهاليز لإعداد وسائل فراره، أما أنا فما فعلت؟ إني لم أفعل شيئا إلى الآن، ولكن لتحبط مساعي الإرلنديين، ولتحبط مساعيكم تجد أني أنا الذي أنقذه.
فأجابها ميلون بلهجة خامرها الشك: أنت يا سيدتي؟ - نعم ... فإني أدعى مس ألن بالمير؛ أي ابنة لورد نبيل يعد من أعظم رجال المجلس الأعلى نفوذا، وإن اضطررت تراميت على أقدام الملكة وسألتها العفو عن رجل بلغ حبه من قلبي حد العبادة. - ولكننا لسنا في حاجة إلى هذا يا سيدتي؛ لأنه لا يمضي بضع ساعات حتى يكون روكامبول بيننا. - حقق الله هذا الرجاء فهو أمنية الجميع ... والآن هيا بنا.
وعندها سار بها ميلون إلى الباخرة وقال لها: سنجتمع عند نصف الليل إن شاء الله.
ثم تركها وذهب إلى النجار الذي أوصاه مرميس على السلم، فأخذه وعاد به إلى المخزن.
ولما دخل ميلون وجد جميع رجال العصابة في اضطراب شديد وكانوا قد أقفلوا المخزن عند الساعة السادسة وأطفأوا الأنوار فباتوا في ظلام دامس.
فاستقبله جواني وقال: إننا ننتظرك بفارغ الصبر ... - لما، وما حدث؟ - لقد حدثت أمور كثيرة خلال غيابك.
فقاطعه بوليت وقال: إني سأتولى عن جواني شرح ما حدث، فإنك بعد أن خرجت كثر مرور الإرلنديين بالشارع، وكانوا يمرون اثنين اثنين، ثم رأينا فجأة واحدا منهم يجر عربة من عربات براميل البيرا، فوقف هنيهة عند سجن نوايت بين البابين، فدنا منه عندها رجلان وأعاناه على إنزال البرميل ووضعاه عند الحائط. - وما فعلوا بعدها؟ - لم يفعلوا شيئا سوى أنهم ركبوا تلك المركبة وانصرفوا بها. - والبرميل؟ - لا يزال في موضعه فتعال كي نراه.
فخرج بوليت وميلون فتفقدا البرميل، فقال ميلون: ما رأيك في هذا البرميل أتعرف ما فيه؟ - كلا.
فهزه ميلون وقال: إنه شديد الثقل.
فقال بوليت: أظنه محشو بارود.
فارتعش ميلون وقال: ما يعملون بالبارود؟ وأي قصد من وضعه عند الجدار؟ - لأنهم يريدون نسف السجن كما يظهر.
فهز كتفيه وقال: من الذي يبغي نسفه؟ - الإرلنديون بغية تخليص روكامبول. - ويحك! ما هذا الخطأ؟ ألا تعلم أنهم إذا نسفوا السجن بغية تخليصه قتلوا الذي يريدون أن يخلصوه؟ - لقد أصبت، ولكن هلم بنا ندور حول السجن .
فوافقه ميلون وسارا نحو مائة خطوة فوجدا برميلا آخر يشبه الأول، فقال له: أتعلم يا بوليت ماذا هذا؟ - كلا. - إنه خمر سرقه اللصوص، فوضعوه هنا على أن يأخذوه في الصباح. - ربما كنت على حق، ولكني لا أزال أعتقد أنه بارود. - ذلك سيان عندي، فإنهم حين ينسفون السجن نكون قد أخرجنا روكامبول منه. - ربما، ولكني في كل حال أؤثر أن أخبر مرميس بما رأيناه. - إن هذا محال، فكيف يمكننا الدخول إلى سجن نوايت.
فتنهد بوليت وقال: لقد أصبت. - إذن يجب أن نسرع ما أمكننا السرعة وأن نخرج روكامبول من سجنه قبل أن ينسف، فهلم بنا نعود إلى المخزن فقد آن أوان رجوعنا إلى الدهليز.
وعندها رجعا إلى المخزن، ونزلا مع بقية العصابة إلى القبو، فأناروا المصابيح وحملوا السلم، وساروا في الدهليز الطويل حتى بلغوا إلى السجن العميق، فوضعوا السلم وصعدوا جميعهم ما خلا بولينا، فكسروا الباب كما أمرهم مرميس ودخلوا إلى المطبخ وهم يحملون المسدسات بأيديهم والخناجر بأفواههم.
45
وكان مرميس قد عاد إلى سجن نوايت قبل هجوم الليل فوجد فاندا تعزف على البيانو مع بنتي الحاكم، ووجد زوجته تشتغل بالتطريز.
أما الحاكم فلم يكن في المنزل في ذلك الحين؛ لأنه لم يكن يعود إلى المنزل إلا ساعة العشاء.
ولما عاد رآه مرميس مصفر الوجه ووجد بين ثنايا وجهه علائم القلق، فقال له: يظهر يا سيدي الحاكم أنك متعب الليلة. - هو ذاك أيها الضيف العزيز. - ما أصابك؟ - لدي أنباء سوء.
فأدرك ما يعنيه الحاكم بأنباء السوء ولم يلح عليه بالسؤال، وبعد العشاء دخل هو والحاكم إلى قاعة التدخين، فلما اختليا سأله: قل لي يا سيدي الآن ما هو النبأ السيئ الذي أشرت إليه. - هو أني أخشى ألا يتيسر لك ملاعبة الرجل العبوس بالشطرنج الليلة. - لماذا؟ - لأنه ورد إلي بلاغ من ناظر الحقانية يتضمن على أن هذا المنكود ستكون محاكمته في صباح غد.
فتكلف الانذهال العظيم، وقال له: ألعلهم عزموا على الحكم عليه قبل أن يعرفوا اسمه؟ - نعم، والذي أراه أنهم سيحكمون عليه بالإعدام ويشنق بعد غد دون شك.
فتأسف عليه ثم قال: ولكني سألاعبه ليلتين أيضا.
فتراجع الحاكم منذعرا وقال: كيف ذلك؟ أتجسر على ملاعبته بعدما علمت من أخباره؟ - دون شك. - ولكني سأضطر إلى زيارة هذا المنكود الليلة وإخباره بما جرى. - ستخبره في الليلة القادمة. - ذلك محال يا سيدي فإن النظام يقضي علي بإبلاغه الخبر في هذه الليلة قبل انتصاف الليل. - إذن ستخبره الليلة، ولكن بعد فراغنا من اللعب.
وقد قال هذا القول بسكينة وارتياح، فكان الحاكم ينظر إليه نظرات إنكار ويقول في نفسه: ما هذا الرجل فقد تجرد قلبه من عاطفة الرفق والإشفاق.
وكأنما مرميس قد أدرك معنى نظرته فقال له: لقد آن الأوان يا سيدي الحاكم لإطلاعك على كل شيء من مكنونات أمري.
فوجف قلب الحاكم وقال: ماذا تعني يا سيدي؟ - أنك تحسبني إلى الآن غنيا من أهل الشذوذ والأخلاق الغريبة. - هو ذاك يا سيدي فأنت الذي حكمت على نفسك هذا الحكم. - نعم، فقد أكون من أهل الشذوذ غير أني من كبار اللاعبين بالشطرنج فإني غلبت في باريس جميع مشاهير هذه اللعبة، ولم يبق في لندرا من يجسر على ملاعبتي، ولكني لقيت رجلا في بطرسبرج، وأعترف لك أنه هو وحده الذي غلبني إلى الآن. - أحق ما تقول يا سيدي ومن هو هذا الرجل؟ - هو الجنرال إيجيتوف فقد قال لي آخر مرة غلبني فيها: «إنك لم تتعلم لعب الشطرنج على طريقة البراهمة فلا يمكن أن تكون من أكفائي» وقد علمت يا سيدي الحاكم أن الرجل العبوس يعرف هذا النوع من اللعب. - نعم عرفت. - وقد علمني اللعب ليلة أمس غير أني لا أزال محتاجا إلى التمرين. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك أصبح خير كفوء للجنرال فقد ربح مني مليون ريال في العام الماضي.
فاستعظم الحاكم المبلغ وقال له: مليون ريال؟ - نعم؛ أي نحو أربعة ملايين فرنك أفهمت الآن؟ - لم أفهم شيئا بعد. - إني في مدة سجني في نوايت تنقلت مع هذا المكنود الذي تدعونه الرجل العبوس من حديث إلى حديث، حتى انتهت بنا المباحثة إلى حديث الشطرنج، فأكد لي أنه يعرف الطريقة الهندية، وكنت لا أزال آسفا على الملايين الأربعة التي فقدتها فقلت في نفسي: إن سمح لي حاكم السجن بملاعبة الرجل وتعلمت منه الطريقة الهندية فغلبت الجنرال واسترجعت ما خسرت من الملايين.
فأشرق وجه الحاكم بنور الرجاء وزالت من نفسه وساوس المؤامرة، فإن الهواجس كانت قد تمكنت منه فهدت حيله منذ دخول مرميس إلى السجن.
وعاد مرميس إلى الحديث وقد رأى ما بدا عليه من علائم الاطمئنان، فقال: إنك ترى يا سيدي الحاكم أن دخولي إلى بيتك لم يكن كما كان باديا علي من ظواهر الشذوذ، بل لاسترجاع تلك الملايين، وهي كثيرة تستحق هذا الاهتمام، فإن شنق الرجل العبوس، قبل أن أتمكن من إدراك دقائق أسرار هذا اللعب فقدت الملايين واضطررت أن أعود إلى المحامي ستلج ليطالبك بالغرامة.
فأن الحاكم أنين الموجع وقال: لا أخالك تعود إلى هذا البحث. - إذن دع الرجل العبوس يمرنني التمرين الأخير.
ففرك الحاكم أذنه دون أن يجيب وقد اصفر وجهه من الخوف، فقال له مرميس: إن الوقت غير متسع لدينا فاختر بين حلين، إما الرجل العبوس، أو المحامي ستلج.
46
وقد وقف الحاكم التعس شر موقف فهو إما أن يخالف واجباته فيعرض نفسه للعزل والإهانة، أو يخالف مرميس فيعرض ثروته للضياع، وحاله للخراب.
وقد أراد أن يقنع مرميس بأنه من المخلصين له فأراه بلاغ الحاكم ثم قال: أترى في أي موقف أوقفتني فإني إن لم أطعك كنت السبب في خرابي، وإن أطعتك خالفت الشرع وعصيت أمر الوزير. - بماذا تخالفه. - بعدم إبلاغ الرجل العبوس هذه الأنباء قبل نصف الليل. - ولكننا نفرغ من اللعب في الساعة الحادية عشرة. - ولكن هذا المنكود يجب أن يقضي مع المحامي عنه هذا الوقت الذي يقضيه بملاعبتك. - ولكنك تقول: إن الحكم عليه لا بد منه، فأية فائدة له من لقاء المحامي؟ - هو ما تقول، ولكن إن علم ناظر الحقانية بما جرى عاقبني بالعزل دون شك. - كلا، بل إني أضمن لك أنه يكافئك خير مكافأة.
فدهش الحاكم وقال: كيف ذلك؟ - ألم تقل لي: إنهم سيحكمون على الرجل العبوس دون أن يعرفوا اسمه؟ - نعم ... - إذن افترض أنه غدا في ساعة المحاكمة تذهب إلى المجلس وتخبر القضاء بحقيقة اسم الرجل العبوس.
فانذهل الحاكم انذهالا شديدا وقال: أنا أقول لهم حقيقة اسمه وكيف يكون ذلك وأنا لا أعرفه؟ - ولكني أقوله لك ... - أنت! إذن أنت تعرف اسمه؟
فنظر مرميس في ساعته وقال: إن الساعة التاسعة الآن وستحضر الرجل العبوس لملاعبتي في الساعة العاشرة تقريبا. - نعم ... - وفي الساعة الحادية عشرة تنصرف زوجتك وبنتاك إلى مخادعهن. - هو ذاك كما يفعلن في كل ليلة. - وعند ذلك، يبقى في هذه القاعة، أنا وزوجتي وأنت والرجل العبوس. - وبعد ذاك؟ - وبعد ذاك أنادي الرجل العبوس باسمه الحقيقي. - وإن أنكره؟ - أقسم لك أنه لا ينكره. - كيف تثبت أنه لا ينكر؟ - لأني حين كنت معه في السجن قال لي: إني لا غرض لي في إخفاء اسمي إلا لإطالة مدة المحاكمة، ولكنهم إن حكموا علي ذكرت اسمي أمام القضاء. - أحق ما تقوله لي أيها الرجل النبيل؟ - هي الحقيقة بعينها. - أيمكن أن تكون هازئا بي؟ - من يسعى وراء أربعة ملايين فرنك، لا يهزأ بأحد، وعلى ذلك فاحضر السجين، وإن علم ناظر الحقانية أنك أحضرته إلى منزلك وأراد تأنيبك ومعاقبتك، أفحمته بكلمة وهي اسم الرجل العبوس الحقيقي، ثم تقول له: إنك ما خالفت نظام السجن إلا لهذه الغاية الحميدة فيكافئك بدلا من أن يعاقبك.
فسر الحاكم سرورا عظيما بهذه النتيجة بعد أن وثق من مرميس وعاد إلى الاشتراك بالحديث العام مع الحضور.
وبعد نصف ساعة برح الحاكم القاعة وهو يقول لمرميس: إني ذاهب لإحضار الرجل العبوس.
فلما انصرف الحاكم خلا مرميس بفاندا وأخبرها بجميع حوادث النهار، فاصفر وجهها حين علمت أن محاكمته غدا، ولكن مرميس قال لها: إن كل شيء قد أعد لفراره الليلة. - وإن أبى الرئيس أن يهرب؟ - لا بد له من أن يقبل. - من يعلم. - أنا، فإنه إن أبى أن يتبعنا عرض نفسه للقتل وعرضنا لأشد الأخطار.
فأطرقت فاندا برأسها وقالت: لا أعلم ما يكون، فإني شعرت اليوم بكآبة لم أشعر بمثلها في ما مر بي من أدوار الحياة، وإن قلبي ينذرني بمصاب كبير.
فهز مرميس كتفه وقال: إن مناخ لندرا دفعك إلى هذه الكآبة والكآبة ولدت في قلبك هذه الهواجس. - ربما صح ما تقول، غير أنه إذا حبط مشروعنا فما نصنع؟ - يتولى إنقاذه الإرلنديون، والآن فهل لدينا خنجر؟ - هو تحت ملابسي ... - إذن فلنصبر، والله من وراء القصد.
وعندها فتح الباب ودخل الحاكم مع روكامبول.
47
وكان روكامبول رابط الجأش باسم الثغر تبدو عليه السكينة والارتياح كأنه غير مهدد بالشنق في سجنه الرهيب، بل كأنه ينادم أصحابه في نوادي باريس وهو يدعى الماجور أفاتار.
وكان مرميس يقلد سكينته ويرتاح ارتياحه ما خلا فاندا فإنها كانت حزينة النفس منقبضة الصدر، فشغل روكامبول بما رآه من ظواهر كآبتها.
أما الحاكم فإنه جلس قرب مرميس كي يرى دائما وجه الرجل العبوس ويراقبه، فجعلا يلعبان نحو ربع ساعة دون أن يفوها بكلمة؛ مما استدل منه الحاكم على شدة انهماكهما في اللعب، إلى أن بدأ مرميس يحدثه باللغة الجافانية فقال: لدي أنباء جديدة أيها الرئيس. - لقد توقعت ذلك مما رأيته من كآبة فاندا.
فاعترض الحاكم وقال: كيف ذلك أعدتما إلى الحديث بهذه اللغة الجهنمية؟
فقال له مرميس: إنك مخطئ يا سيدي الحاكم إننا لا نتكلم بتلك اللغة الاصطلاحية التي تخافها. - ولكنكما تتحدثان باللغة الجافانية. - هو ذاك، ولكن حديثنا هذه المرة بلغة جافا الحقيقية. - وأية فائدة من الحديث بها بعد أن رجعت عن الهزء بي. - لأننا نلعب بالشطرنج على الطريقة الهندية ولا بد للتعبير عن المصطلحات بلغة الهنود.
فتنهد الحاكم وقال في نفسه: إن كل شقاء يعرف موعد انتهاءه لا يعد شقاء، وهذه آخر ليلة تعذباني فيها هذا التعذيب.
عند ذلك سأل روكامبول مرميس باللغة الجافانية فقال له: ماذا حدث؟ - رأيت زعماء الإرلنديين الأربعة والأب صموئيل. - ألعلهم يعملون على إنقاذي؟ - نعم ... ولكنهم أبوا أن يخبروني عن خطتهم في إنقاذك وعن الموعد الذي عينوه. - وما يهمنا ذلك ؟ - يهمنا جدا. - لماذا؟ - لأننا نضطر إلى لزوم السكينة بينما الأغراب يشتغلون.
فابتسم روكامبول وقال: أتعلم ما خطر لي يا مرميس؟ - ماذا. - لقد خطر لي أن الإرلنديين يخفقون في مشروعهم وأنكم تخيبون أيضا فلم يبق إلا أن أهتم بنفسي وأحك جلدي بظفري. - ما تعني بذلك؟ - أعني أني سأنقذ نفسي بنفسي. - متى! - بعد ثلاثة أيام.
وعند ذلك بلغت الساعة الحادية عشرة فانصرفت زوجة الحاكم وبنتاه، فقال مرميس لروكامبول: إنه بعد ثلاثة أيام يكون قد فات الأوان. - لماذا؟ - لأنهم سيحكمون عليك غدا ويشنقونك بعد غد.
فارتعش روكامبول ارتعاشا لم يظهر، فقال له مرميس: يجب يا سيدي أن تعذرنا وترضخ لمطالبنا فهذه أول مرة جسرنا فيها على عصيانك، وإن رجال العصابة سيكونون هنا بعد ربع ساعة.
فاتقدت عينا روكامبول وقال: أحق ما تقول؟ - نعم، وقد عزمنا على اختطفاك إن أبيت أن تتبعنا.
فتنهد روكامبول وقال: إن إخلاصكم قد شفع لدي بعصيانكم، وقد صفحت عنكم.
وكان الحاكم يسمع الحديث ولا يفهم كلمة منه.
وجعل ينظر إلى الساعة قلقا وينتظر بفارغ الصبر أن يحين الوقت لمعرفة حقيقة اسم الرجل العبوس.
ولما حان الوقت وبات مرميس واثقا من قدوم رجال العصابة خاطب روكامبول باللغة الإنكليزية فقال له: أليس ما قلته لي أكيدا يا سيدي، وهو أنهم إذا حكموا عليك تعترف لهم باسمك الحقيقي؟ - دون شك.
فصاح الحاكم صيحة فرح وقال: إذن تستطيع أن تتكلم الآن.
فقال له روكامبول: لما يا سيدي الميلورد؟ - لأنهم قرروا محاكمتك دون أن يعرفوا اسمك. - لا أظنك تريد فيما قلته إلا حملي على الاعتراف. - كلا وهذا بلاغ ناظر الحقانية يثبت لك ما أقول.
فنظر روكامبول إلى ذاك البلاغ الوزاري دون اكتراث وقال له: متى قرروا محاكمتي؟ - غدا ... - وأنت متى ترى أنهم يشنقونني؟ - بعد غد ... - إذن تريد أن تعرف حقيقة اسمي؟ - إني ألتمس ذلك منك التماسا ورجائي أن تجيبني إليه فإني ما أردت لك إلا الخير.
إذن فاعلم أني أدعى روكامبول.
فوقف الحاكم لانذهاله وقال: أنت روكامبول! - أنا هو بعينه .
وقد قال روكامبول هذا القول وهو يضحك، ولكنه قبل أن يتم ضحكه سمعوا صوت استغاثة ضعيفة ثم سمعوا صوت وقوع جسم على الأرض ثم انقطع الصوت.
فهب الحاكم منذعرا وحاول أن يخرج إلى مصدر الصوت غير أن مرميس حال دونه فقبض على عنقه واستل خنجره فقال: إن مشيت خطوة أو صحت صيحة فأنت من الهالكين.
ثم صاح قائلا: إلي أيها الرفاق.
48
وهذه أول مرة وقف فيها الحاكم مثل هذا الموقف، فإنه حين سمع ما قاله له مرميس احمر وجهه في البدء ثم تواترت أوداج عنقه، وجعل يجيل نظرا تائها بين روكامبول ومرميس وفاندا، فيرى علائم اليأس والشدة بادية بين وجوههم.
ثم سمع أن الأصوات قد زادت في مطبخه، ثم رأى الباب قد فتح ودخل فريق من الرجال، فانجلت الحقيقة لهذا الحاكم الساذج، وأدرك سر المكيدة.
فقال في نفسه: إن الرجل الذي دعا نفسه روكامبول له شريك في المؤامرة وهو الرجل الفرنسي الذي هزأ بي وبالسفارة، وهؤلاء الرجال الذين دخلوا هم أعوان هذين الرجلين.
وكان الذين دخلوا إلى القاعة هم ميلون وبوليت وجواني ومورت ووليم، فصافحهم روكامبول، وسأل مرميس عن شوكنج، فقال: إني كتبت إليه أن يحضر، ولا بد أن يكون قد وصل الآن، ولكني لم أره بعد.
أما الحاكم فقد كان في بدء عهده جنديا، ولكنه اعتزل الخدمة العسكرية منذ عشرين سنة، وتعود عيش الترف فذهبت حميته، ولما رأى جميع أولئك الناس قد انقضوا على منزله انقضاض الصاعقة، هلع قلبه ووهت رجلاه من الخوف، فسقط جاثيا على ركبتيه وهو يقول: بالله رحماكم وأشفقوا علي.
فضحك مرميس وقال: اطمئن فإننا لا نقتلك إذا لزمت السكينة.
أما روكامبول فإنه التفت إلى ميلون وقال له: أوصلتم إلى هنا دون صعوبة؟ - كلا فإننا لقينا خادمة حاولت أن تستغيث فأوثقنا يديها ورجليها ووضعنا كمامة في فمها. - وغير ذلك؟ - لقينا أيضا حارسا، في الغرفة المجاورة لهذه القاعة، فاضطر وليم إلى قتله.
وكان مرميس لا يزال محتفظا بالرئاسة مع وجود روكامبول، فالتفت إلى الحاكم وقال له: يسوءني يا سيدي أن أجازيك عن حسن ضيافتك لي هذا الجزاء.
ولكني مكره على ما فعلت، فيجب عليك الآن أن تذعن لأحكامنا إذا كنت تؤثر الحياة، فافتح فمك في البدء لنضع فيه الكمامة، ثم اسمح لنا أن نوثق يديك ورجليك.
فبكى الحاكم بكاء الأطفال وقال: أتعاملني هذه المعاملة بعد أن عاملتك معاملة الأشراف؟ - إني شريف في عيني وفي عيون من يعرفني.
ثم أخذ كمامة من جيبه ودنا بها من الحاكم.
فأشار الحاكم إشارة مفادها أنه يريد أن يقول كلمة أيضا.
فقال له مرميس: قل يا سيدي ما تشاء وأوجز ما استطعت فإن الوقت غير فسيح للجدال.
فقال بصوت مختنق: أتعدني أنك لا تسيء إلى امرأتي وبناتي؟ - إني لا أسيء إليهن ولا إليك، فما نحن من أهل الشر.
أتعدني أيضا أنكم لا تسرقوا شيئا من المنزل؟
فامتعض مرميس وقال: إنك تتهمنا بما نحن براء منه يا سيدي الحاكم، وحقك أن تتهمنا بما تشاء بعد الذي رأيت منا، غير أننا لسنا لصوصا بل نحن متآمرون.
فلم يجد هذا الحاكم المنكود بدا من الإذعان، ففتح فمه ووضع مرميس فيه الكمامة وأوثق يديه ورجليه ووضعه برفق فوق مقعد، ثم قال للجماعة: هلموا بنا الآن.
فقال له روكامبول: ألعل الباخرة متأهبة؟ - إنها تنتظرنا عند مدخل الدهليز. - والمس ألن؟ - إنها فيها.
فمشى روكامبول خطوة إلى الباب ثم التفت وراءه إلى فاندا فوجدها صفراء الوجه كئيبة فقال لها: ماذا أصابك؟ - لا أعلم ولكني خائفة.
فقال لها مرميس: أتخافين والرئيس معنا؟
وقال لها روكامبول: هلمي واتبعيني.
فمشت بالكره عنها وكان ساقاها يضطربان، فشغل بال روكامبول عليها وقال: أخاف أن تكون أصابتها نوبة عصبية.
ثم تأبط ذراعها وسار بها تتبعهما الجماعة حتى وصلوا إلى المطبخ حيث كانت الخادمة ملقية مكممة، فوقفت فاندا وقالت: لا تتوغلوا بالمسير.
فقال مرميس: رباه ماذا أصابها ألعلها جنت؟
وكان روكامبول قد خاف خوفا شديدا عليها فقال لها: لقد فات الأوان ولم يعد سبيلا للرجوع.
فاصطكت أسنان فاندا وجعلت تقول: لا تتقدموا ... إني خائفة.
49
فجعل روكامبول ومرميس وميلون ينظر كل منهم إلى الآخر نظرات الانذهال.
ثم قال روكامبول لمرميس: ألا تعلم لماذا هي خائفة؟ - كلا.
وقالت فاندا: إني أتوقع مصابا.
فقال لها مرميس: ولكننا لا نستطيع البقاء هنا، وأنت عارفة بموقفنا.
فتنهد روكامبول وقال: إن فاندا روسية تعتقد بأحاديث القلوب.
ثم التفت إليها وقال: هلمي بنا أيتها الحبيبة فإن الله يحمينا.
فامتثلت له وسارت معه حتى وصلوا إلى فم البئر، فقال روكامبول مخاطبا رجال العصابة: إني رئيسكم وفي مثل هذا المقام يجب أن أكون آخر من ينزل بعدكم.
فقال له مرميس: ولكنك تنزل قبلي. - لماذا؟ - لأنك قد تؤثر أن ينقذك الإرلنديين فتفضل البقاء. - إنك لا تزال أبله، فقد أردت امتحان تلك الطائفة، وعلمت أنها لم تقدم على إنقاذي غير مكرهة طمعا باسترضاء المس ألن وأبيها، وكفى ذلك برهانا، فانزل.
فنزل الجميع واحدا بعد واحد، فلما اجتمعوا كلهم في أسفل البئر تنهد ميلون تنهد الراحة وقال: لينسف الإرلنديون السجن الآن كما يشاءون ببارودهم.
فارتعش روكامبول وقال: أي بارود تعني؟ - إن الإرلنديين يحاولون نسف سجن نوايت، هذه الليلة، بغية إنقاذك. - كيف عرفت ذلك؟ - قد رأيت مع بوليت براميل البارود عند جدران السجن، ولكنهم قبل أن ينسفوه نكون قد بعدنا عن موقف الخطر.
وعادت فاندا إلى إظهار مخاوفها وهواجسها، عندما سمعت هذا الحديث.
وكانت بولينا واقفة تنتظر بمصباحها، وقد أهاج الخوف أعصابها، فلما رأت زوجها أسرعت إلى معانقته وقالت له: لقد خفت وحدي خوفا شديدا فلنسرع الآن بالخروج من هذا الدهليز بل هذا القبر.
فساروا جميعهم حتى بلغوا القاعة ذات الثلاثة دهاليز، فوقفوا وسألوا مرميس في أي دهليز يجب أن يسيروا، فسار يتقدمهم في الدهليز المؤدي إلى النهر.
ولكنهم لم يسيروا بضع خطوات حتى ارتجت الأرض تحت أقدامهم، وسمعوا دويا هائلا يفوق دوي الصواعق، فسقطوا جميعهم على الأرض لقوة الارتجاج.
وصاحت فاندا قائلة: رباه هذا الذي كنت أخشاه.
وقال ميلون: هو ذا دوي بارود الإرلنديين.
ثم سمعوا دويا آخر من ورائهم فالتفتوا وإذا بسقف الدهليز الذي كانوا يسيرون فيه قد تهدم وسقط صخور كبيرة.
فصاح مرميس بالرفاق قائلا: أسرعوا راكضين فإننا قد ننجو.
فنهض الجميع وأسرعوا ركضا إلى جهة النهر، ولكن الأرض كانت لا تزال ترتج تحت أقدامهم والصخور تتساقط.
فنظر روكامبول إلى ما حواليه بعينين تتقدان وقال: ماذا جرى ألعل ساعتي الأخيرة قد دنت؟
فقال مرميس: كلا فإن الطريق لا تزال مفتوحة.
أما فاندا فإنها اضطربت اضطرابا شديدا وقالت: بالله كفى لا تسيروا خطوة إلى الأمام.
فقال مرميس: كلا فلنمش.
فسار روكامبول في طليعة رجاله، وهو يقول: لنمش، ويفعل الله ما يشاء.
وتبعه الرفاق يتقدمهم ميلون وهو يشتم الإرلنديين أقبح شتم.
ولكنهم لم يسيروا بضع خطوات حتى سمعوا دويا آخر أشد من الأول، فصاحت فاندا صيحة منكرة وسقطت على ركبتيها.
أما بقية الرفاق فقد جعل كل منهم ينظر إلى الآخر نظرة ملؤها الرعب، ما خلا روكامبول فإنه لبث ساكنا هادئا شامخ الأنف غير مكترث لهذه الأخطار الهائلة.
50
وقد طالت مدة تساقط الدهليز فإن القبة كانت تسقط قطعا ضخمة، والأرض تهتز كل حين كما تهزها الزلازل.
وكانت فاندا راكعة تصلي، وبولينا تعانق زوجها بوليت وتقول: إننا نموت معا على الأقل.
وكان ميلون يهدد السماء بقبضته ويشتم الإرلنديين، ومرميس ينظر إلى روكامبول، وروكامبول ساكن رابط الجأش ينظر إلى هذه النكبة ويتوقع نهايتها بسكينة تدل على أنه فوق الموت.
ثم خف الارتجاج وسكن الدوي وانقطع تساقط الصخور فقال روكامبول: هيا بنا ... إلى الأمام.
فاتقدت عينا فاندا ببارق من الأمل وقالت: لقد نجونا.
فأجابها روكامبول: كلا إننا ما نجوننا بعد، ولكن تقدموا واتبعوا.
وكانت الصخور تراكمت في ذلك الدهليز، غير أن روكامبول كان يحمل مصباحا فكان يسير أمامهم مستضيئا به وهم يتبعونه آمنين لما رأوا من ظواهر سكينته.
فساروا كذلك نحو مائة خطوة وهناك وقف روكامبول؛ إذ رأى برميلا كبيرا ملقى أمامه في الدهليز.
وقد أيقن أنه برميل بارود؛ لأنه رأى فتيلا في طرفه، فجعل يقول في نفسه: ما هذا البرميل ومن وضعه؟ ألعل الإرلنديين يعرفون طريق هذا الدهليز؟
وكان الرفاق قد وقفوا لتوقفه فدنا مرميس من البرميل وجعل ينظر إليه منذهلا من وجوده ويظن فيه الذي ظنه الرئيس.
أما روكامبول فإنه بعد أن أتم فحصه قال: يستحيل أن يكون الإرلنديون وضعوه في هذا الدهليز. - ومن عسى يضعه إذا لم يكن الإرلنديون؟
ودار روكامبول حول البرميل يفحصه أيضا وابتسم قائلا: إنه كائن في هذا الدهليز قبل أن نخلق.
فدهش مرميس وقال: كيف ذلك؟ - وهذا البارود فيه من نحو 200 سنة. - كيف يمكن ذلك أن يكون؟ - انظر إلى خشبه قد نخره السوس ويكاد يفت إذا لمسته الأيدي. - لقد أصبت. - لا تمس الفتيلة فإنها شديدة الجفاف لما تقادم عليها من الأعوام، وهي تستحيل إلى غبار إلى لمستها. - وعلى ذلك فإن البارود قد فسد أيضا لطول عهده. - إنك مخطئ يا مرميس، فإن قوة هذا البارود القديم تبلغ عشرة أضعاف البارود الجديد، فاحذروا أن تدنوا منه بمشاعلكم، وسيروا إلى الأمام.
ثم تقدمهم وتبعوه، وكانوا كلما ساروا يشعرون بأن الأرض تنخفض مما يشير إلى اقترابهم من النهر.
ولكن روكامبول توقف فجأة وقال: هذا الذي كنت أخشاه.
ذلك أنه رأى حجرا ضخما قد سقط من قبة الدهليز وسد مخرجه كما سدت الصخور مدخله من ورائهم.
وزاد رعب فاندا وقالت: هو ذا قد بتنا أسرى.
فلم يجب روكامبول بشيء، وقد ذهب كل رجائه فإنه لا يستطيع أن يرجع إلى الوراء خوفا من الوقوع في قبضة الشرطة؛ لأنهم لا بد أن يعلموا ما جرى للحاكم ويسرعوا إلى مطاردتهم في الدهليز، ولا يستطيع أن يتقدم إلى الأمام؛ لأن الطريق قد انسدت.
فتمعن هنيهة والرفاق وقوف حوله ينظرون إليه، ثم قال: يجب أن تغلب أو تموت.
فقال ميلون: كيف يتسنى لنا ذلك الفوز، ومن يستطيع دفع هذا الصخر إلى النهر؟
وقال مرميس: ألا نستطيع تكسيره؟
فأجابه ميلون: كيف نستطيع ذلك وليس لدينا شيء من الآلات، ثم ألا ترى أن الصخر أصم صلد؟
فقالت فاندا: أرى أننا سندفن أحياء في الدهليز.
فقال روكامبول: ربما.
أما بولينا فإنها عانقت زوجها تبكي.
فقال له بوليت: لا تبكي أيتها الحبيبة فإننا لم نقنط بعد كل القنوط، ألا ترين الرئيس انظري إلى وجهه فإنه يدل على أتم السكينة.
أما روكامبول فإنه لم يحفل بهذه الأخطار وقال لمرميس وميلون: اصغيا ألا تسمعان دويا بعيدا؟ - نعم. - إن هذا الصوت صوت دوي أمواج التيمس، فإنه بات على مسافة قريبة منا، وانظر يا مرميس إلى قبة هذا المكان الذي نحن فيه فإنها منحوتة من الصخر الأصم. - هو ذاك ولا خوف علينا من سقوطه. - ليس هذا الذي أريده، ولكنك تعودت إطلاق البنادق، أليس كذلك؟ - دون شك. - إذن لنفرض فرضين، أولهما أن هذا الرواق الذي نحن فيه قريب جدا من النهر. - إن ذلك أكيد لا سبيل فيه إلى الافتراض. - ولنفرض أن هذا الرواق يشبه حديد البندقية. - نعم. - وأن هذا الصخر الذي تحشى بها فإنه يسد سبيلنا. - وبعد ذلك؟ - إذن لا يعوزنا لإطلاق تلك الرصاصة غير البارود والبارود عندنا.
فقال ميلون: ألعلك تريد نسف الصخر؟
فقال روكامبول: كلا، بل أريد دفعه إلى النهر بقوة البارود، كما تدفع الرصاصة البندقية.
وقال مرميس: إن الفكر دقيق، ولكني أرى تحقيقه صعبا. - لماذا؟ - إن البارود لا يلقى وراءه ما يصده في الدهليز كما يلقى في البندقية، فينفجر ولا يكون لنا بعد انفجاره غير الموت.
فقالت فاندا: لقد أصاب مرميس.
أما روكامبول فإنه ابتسم وقال: بل أخطأ.
فنظر الجميع إلى روكامبول نظرات تدل على القلق، أما روكامبول فإنه كان ساكنا مطمئنا، ونظر إلى مرميس وقال له: إن الذي ينقصك هو القوة للمقاومة أليس كذلك؟ - دون شك كي تنحصر قوة البارود في الجهة المواجهة فتستطيع دفع الصخر وإلا فلا يكون إلا الانفجار. - ولكن ذلك سهل ويسير، فإني أنا وأنت وميلون نحمل ذلك البرميل الذي لقيناه في الدهليز ونضعه تجاه الصخر ونجعل الفتيل من الوراء؛ أي من جهتنا دون شك. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك نحمل جميع الذي نعثر به من الصخور التي تساقطت في هذا الدهليز، فيبنى بها جدارا وراء البرميل تكون سماكته ستة أضعاف سماكة الصخر، وأنت بناء يا ميلون فكم تحسب أن هذا العمل يقتضي له من الزمن؟ - ست ساعات على الأقل. - ولكن الشرطة تفاجئنا قبل ساعة.
فهز روكامبول كتفيه وقال: أما الشرطة فلا نخشاها لسببين؛ أحدهما أن الانفجار قد حدث مرتين وراءنا ولا بد أن يكون قد سد الطريق، والثاني أن هذا البوليس قد يعتقد أننا قتلنا جميعا بهذا الانفجار، فلا يشغل نفسه بمطاردتنا.
فقال ميلون: ولكن العمل يقتضي له ست ساعات من الوقت.
فابتسم روكامبول وقال: أتظن أن الوقت طويل؟ - دون شك. - إذن لنفرض أننا بنينا الجدار بلحظة، وأنه مبني الآن، بحيث لا يبقى علينا إلا أن نلهب الفتيل، فيجب علينا بعدها أن ننتظر سبع ساعات على الأقل.
فنظر الجميع إليه ولم يفهموا شيئا مما قال. - إن هذا الدوي الذي نسمعه هو صوت المياه، وهو يدل على شدة قربنا من النهر. - نعم ... - ذلك لأن النهر الآن في زمن المد، ويجب علينا أن ننتظر لحين تنخفض المياه. - لماذا؟ - لأننا إذا دفعنا الصخر الآن بالبارود يلقى مقاومة عنيفة حين بلوغه إلى فم الدهليز، ولكنه لا يلقى شيئا من ذلك حين تنحصر المياه وتبعد من فم الدهليز فيخف مجرى الهواء. - إن كل الذي تقوله صواب، وإنما بقي لي اعتراض، وهو أننا إذا وضعنا برميل البارود بين الصخر الذي يعترضنا والجدار الذي نبنيه فكيف توصل إليه النار؟ - بواسطة فتيل ندخله من منفذ نجعله في الجدار. - وكيف نصنع هذا الفتيل؟ - من قمصاننا. - مهما كان طويلا فإنه لا يقي من يضع فيه النار من الأخطار فإن قمصاننا لا تكفي لإطالته إلى حد اتقاء الخطر. - إن ذلك لا يعنيك؛ لأن الذي يضع النار هو أنا.
فصاح ميلون وفاندا ومرميس بصوت واحد: أنت؟
فابتسم وقال لهم بسكينة: نعم أنا فإنكم تدعونني الرئيس، ومن كان رئيسا يجب أن يطاع فهلموا إلى العمل.
51
وقد تكلم روكامبول فلم يعد بد من الطاعة، وفوق ذلك فإن ساعة الخطر كانت لا تزال بعيدة.
على أن مرميس رأى في عيني ميلون أنه عازم على العصيان، فهمس في أذنه قائلا: لنسرع الآن في بناء الجدار، وسنرى بعد ذلك ماذا يكون. - ليكن ما تريد.
وانصرف جميعهم إلى العمل يدا واحدة.
وقد بدءوا بنقل البرميل، وكان شديد الثقل بحيث اضطر الجميع أن يتعاونوا على نقله وإسناده إلى الصخر.
ثم نزعوا قمصانهم ومزقوها قطعا طويلة، وصنعوا منها فتيلا وأدخلوه في البرميل.
وعند ذلك قال روكامبول للجماعة: هلموا بنا الآن إلى بناء الجدار.
ثم نظر في ساعته، وكانوا جميعهم يحملون المشاعل في أيديهم، فقال لهم: لا حاجة إلى إنارة جميع هذه المشاعل، فقد نحتاج إليها، وفي واحد منها الكفاية.
فأطفأ الجميع مشاعلهم ما خلا روكامبول.
وقال ميلون لمرميس: أرى أن الرئيس شديد الحذر. - وهو مصيب في حذره، فإننا سنقيم هنا عدة ساعات، فإذا أنرنا جميع مشاعلنا احترقت قبل فراغنا من العمل وبتنا في ظلام حالك.
وكان ميلون قد تولى إدارة البناء، فكان كل واحد من الجماعة يذهب ثم يعود بقطعة من الصخور، فيرص ميلون هذه الصخور بعضها فوق بعض.
فلما بلغ ارتفاعه قدمين أدخلوا الفتيل، بحيث بات طرفه الآخر في الخارج وعادوا إلى البناء.
وما زالوا على ذلك أربع ساعات متوالية، وهم يشتغلون بنقل الحجارة ويغنون ويضحكون، كأنهم قد نسوا ما هم فيه، حتى بلغ هذا الجدار إلى سقف الدهليز، فبات برميل البارود محصورا بين الجدار وبين الصخور.
غير أن سماكة الجدار كانت ستة أضعاف سماكة الصخور، بحيث إن البارود حين ينفجر يصده، فيدفع الصخور إلى الأمام، كما تدفع قنبلة المدفع.
وقد حسب روكامبول أن قوة المقاومة في الجدار تبلغ ثلاثة أضعاف قوتها في الصخور؛ لأنه قطعة واحدة وذلك كاف لدفعه؟
وعند ذلك نظر في ساعته.
فقال له ميلون: أحان الوقت؟ - كلا. - ولكننا نشتغل منذ زمن طويل.
فأجابه: إن هذا الزمن الطويل لم يزد على أربع ساعات، ولم يحن بعد وقت الجزر.
فتنهد ميلون ثم قال: كم يجب أن ننتظر بعد؟ - ثلاث ساعات.
فتنهد ميلون أيضا وقال: إنه وقت كاف لقدوم رجال الشرطة.
فلم يعبأ روكامبول بهذا الخطر، وقال له بسكينة: إني أرجو أن لا يحضروا.
ثم جلس فوق صخر وكان رفاقه مجتمعين حوله فقال لهم: اصغوا إلي الآن أيها الرفاق.
فسكتوا جميعهم كأن على رءوسهم الطير، ليسمعوا حديثه في هذا الموقف الرهيب.
فقال روكامبول: إني واثق من النجاة بهذه الطريقة التي ابتكرتها غير أني قد أكون مخطئا في حسابي هذا.
فأجابه مرميس: لا أظن أنك أخطأت. - وأنا أرى ما تراه غير أن العاقل يجب أن يتوقع الخيبة والحرمان قبل أن يتوقع النصر والفوز فإذا كان مخطئا في حسابه فلا يكون قد أخطأ مرتين بركونه إلى الفوز وعدم توقع الخيبة. - هو ذاك يا سيدي، وما زلت مرشدنا الحكيم. - إذن فاعلموا أننا إذا لم نستطع دفع الصخر إلى المياه من منفذ الدهليز فلا بد أن يحدث انفجار البارود تهدما جديدا في الدهليز. - وأنت أيها الرئيس؟ - إني لا أتكلم عن نفسي الآن، فاصغوا إلي.
وقد قال هذا القول بلهجة السيادة المطلقة وبرقت عيناه، فأطرق جميعهم الرءوس ولم يجسر أحد على الاعتراض.
وعاد روكامبول إلى الحديث وقال: إنه حين تبلغ النار إلى البرميل وينفجر باروده، لا بد أن يحدث أحد الأمرين، وهو إما أن يدفع الصخر اندفاع قنبلة المدفع إلى النهر، فيتيسر لنا الخروج من هذا الدهليز ...
فقاطعه مرميس قائلا: وإما ان تتهدم القبة فتسحقنا جميعا. - كلا إنها لا تسحقكم أنتم بل تسحقني أنا.
فقالت فاندا: وهذا الذي لا نريده أيها الرئيس فإما أن نعيش معا أو ندفن في قبر واحد. - ولكن هذا الذي أريده أنا.
فقال ميلون: إني أجد طريقة جديدة بسيطة لحل هذه المشكلة أبديها إذا أذنت لي. - ما هي؟ - هي أن نقترع فمن أصابته القرعة تولى إشعال الفتيل. - إنك مصيب في رأيك في الظاهر لكنك مخطئ في الحقيقة. - لماذا يا سيدي؟ - لأنه إذا تهدمت القبة بالانفجار، يستحيل على من يكون في القاعة ذات الدهاليز الثلاثة أن يهربوا، ولا بد لهم من السقوط في قبضة البوليس.
فإذا كنت بينكم وقبض علي البوليس أخذني توا إلى المشنقة، وإذا كان لا بد لي من الموت فإني أؤثر الموت في هذا المكان.
أما أنتم فإنكم لم ترتكبوا جرائم ولم يحكم عليكم بالإعدام، فإن الحكومة قد تسجنكم أياما معدودة ثم تطلق سراحكم.
فقال ميلون: من يعلم، فقد يحسبون احتيالنا في إنقاذك من الجرائم التي تعاقب عليها بالإعدام. - ولكني أنا أعلم، فإني أدرى منكم بالشرائع الإنكليزية، وليس من العدل أن يعرض أحد منكم نفسه للموت من أجلي لا سيما حين لا يكون لي رجاء بالحياة إذا نجوت من الانفجار.
فقالت فاندا: وأية فائدة لنا من الحياة بعدك؟ - إنكم تتمون أعمالي.
فاستاء ميلون لهذا الكلام وقال: أتريد أن نخدم أولئك الإرلنديين الزعانف وهم السبب في ما صرت إليه؟
فأشار إليه روكامبول بيده وقال له: اسكت.
ثم التفت إلى فاندا وقال لها: اصغي إلي يا فاندا.
فأطرقت فاندا برأسها خشية أن يلتقي نظرها بنظره وقالت: تكلم يا سيدي ... - إذا صح حذري وحدث ما أخشاه؛ أي إذا سحقتني هذه الصخور فاذهبي أنت بعد أن يطلق سراحكم إلى مس ألن. - إنها تنتظرنا في الباخرة. - لا بأس فإنك تبحثين عنها حتى تجديها. - سأمتثل لأمرك. - ثم تذهبين معها إلى روتشريت في الضفة الثانية من التيمس قرب النفق. - إني أعرف هذا المكان. - هناك زقاق في أدم ستريت فتدخلان فيه وتبحثان عن منزل نمرته 17، وهو منزل ذو ثلاثة أدوار تقيم فيه امرأة تدعى بيتزي فتريها هذا.
ثم أخرج نوطا صغيرا من الفضة كان معلقا في عنقه بخيط من حرير ودفعه لفاندا، فأخذته وقالت: وبعد ذلك؟ - وعند ذلك تعطيك بيتزي أوراقا. - سأفعل.
فنظر روكامبول في ساعته وقال: في أي يوم نحن من الشهر؟
فقال مرميس: في الرابع عشر.
فتمعن روكامبول هنيهة ثم قال: إني أخطأت في حسابي فإن زمن الجذر يبتدئ اليوم قبل ساعة من الموعد الذي حسبته، وعلى ذلك فلا بد أن تكون المياه قد انحسرت الآن عند مدخل الدهليز.
فارتجفت فاندا وقالت: إذن آن الأوان. - بل لا يزال لدينا عشر دقائق.
وعند ذلك ركع ميلون أمام روكامبول وقال له: أستحلفك بالله يا سيدي أن تجيبني إلى رجاء ألتمسه منك. - تكلم . - دعني أبقى معك. - ليكن ما تريد.
فصاح ميلون صيحة فرح وجعل الجميع يبكون.
فدنا روكامبول عند ذلك من فاندا فضمها إلى صدره بلهف شديد، ثم عانق كل واحد من الآخرين عناقا أسال الدموع من عيونهم وعادوا جميعهم إلى رجائه أن يأذن لهم بالبقاء معه.
فنظر إليهم روكامبول تلك النظرات الساحرة وقال لهم: إن الوقت قد أزف فابتعدوا.
فابتعد جميعهم سائرين إلى القاعة.
وكانت فاندا تسير في آخرهم وهي تلتفت كل خطوة لترى روكامبول.
أما روكامبول فكان يصيح بهم قائلا: أسرعوا بالابتعاد حتى أيقن أنهم بعدوا عن موقف الخطر، نظر إلى ميلون وقال له: أأنت مستعد؟ - كل الاستعداد. - ألا تشعر بشيء من الندم؟ ألم تخف من الموت؟ - إن الموت معك يحلو. - إذن لنشرع بالعمل.
وعند ذلك أدنى مشعله من الفتيل فالتهب ووقف ينتظر الانفجار الهائل وقفة من لا يكترث للموت.
فكان الفتيل يشتعل ببطء وتتقدم النار فيها تباعا حتى وصلت إلى الجدار الفاصل بينه وبين البرميل.
وكانت فاندا لا تزال تسير وراء الجميع وهي تلتفت كل حين ويكاد فؤادها ينفطر إشفاقا على روكامبول، بينما كان رفاقها يتقدمون حتى كادوا يبلغون القاعة.
فصاح بها روكامبول: أسرعي ... أسرعي.
وكان مرميس يتقدم الجماعة، فأسرع الخطى واقتدى به الرفاق.
ولما وصلوا إلى قرب مدخل القاعة وقف مرميس وقال لفاندا: إنا نبعد ثلاثمائة متر عن البرميل، ولكن الدهليز مستقيم بحيث نستطيع مشاهدة الانفجار.
ثم وضع المشعل الذي يحمله وراء ظهره فرأى روكامبول وميلون بنور المشعل الذي كان معهما.
وكانوا واقفين الواحد بإزاء الآخر ينتظران بلوغ النار إلى البارود بملء السكينة.
فوجف قلب فاندا وارتعدت فرائصها.
ولم يكن خوفها على نفسها؛ فقد برهنت على بسالتها في كثير من المواقف المحفوفة بالأخطار، وإنما كانت واجلة على ذلك الرجل الذي تدلهت بحبه حتى باتت تعبده عبادة.
ومضى على ذلك عشر دقائق مرت بتلك العصابة مرور الأدهار لما تولاهم من الجزع على روكامبول وميلون.
ثم رأى مرميس أن الوقت قد حان فقال لرفاقه: ناموا كلكم على الأرض.
فقال جواني: لماذا ؟ - لأن قوة الانفجار تلقيكم على الأرض إذا كنتم وقوفا فتنكسر أضلاعكم.
فامتثل الجميع له وانبطحوا على الأرض ما خلا فاندا.
فسألها مرميس أن تقتدي بالجماعة فقالت: كلا إني أحب أن أرى.
وظلت واقفة تنظر إلى روكامبول وميلون.
فقال لها مرميس: وأنا أبقى أيضا كي أرى ما ترين.
ثم وقف جنبها بينما كان الجميع نياما فما مرت بها دقيقة حتى اتصلت نار الفتيل بالبرميل فسمعا دويا شديدا لا يذكر معه قصف الرعود.
وكان الاهتزاز شديدا حتى إن مرميس وفاندا على تماسكهما سقطا على الأرض، غير أنهما لم يغمضا عيونهما فتجلى لهما ما كان يحسبانه من العجائب.
ذلك أنهما رأيا أن المشعل الذي كان يحمله روكامبول قد انطفأ وظهر لهما بدلا منه نور أبيض مستدير كالقمر تألق من آخر الدهليز.
وقد دفع البرميل الصخر إلى الأمام والجدار إلى الوراء في حين واحد.
وعلى ذلك فإن الرئيس لم يخطئ في حسابه حين جعل الدهليز مدفعا والصخر قنبلة.
وكان هذا النور المستدير الذي ظهر لهما ضوء النهار بدأ من فم الدهليز المستدير الذي ينتهي عند نهر التيمز.
وبعد لحظة رأيا روكامبول وميلون قد نهضا فإن قوة الارتجاج قد ألقتهما على الأرض، ثم سمعا صوت الرئيس يناديهم ويقول تقدموا ... إلى الأمام وهو يتقدم مع ميلون إلى النهر.
فصاح مرميس برفاقه وقد أخذ الفرح منه كل مأخذ لقد فاز الرئيس ... هلموا بنا ... إلى الأمام، فنهضوا جميعهم وساروا وراء مرميس يتبعون أثر روكامبول وميلون.
وكأنما الله قد أراد أن لا يسيروا بضع خطوات حتى رأوا أن ذلك النور الأبيض المستدير توارى.
ثم شعروا باهتزاز الأرض، فوقف مرميس في مقدمة رفاقه والعرق البارد ينصب من جبينه.
ذلك أن قبة الدهليز الذي كان فيه روكامبول قد سقطت وتراكمت الصخور فسدت المنفذ أيضا وحجبت ذلك النور الذي كان دليل النجاة.
فلما أيقن رجال العصابة من سد المنفذ ساد فيهم الرعب.
وكانت المشاعل قد أطفأت والظلام محدقا بهم والأرض لا تزال ترتج ودوي سقوط الصخور يصل إلى مسامعهم على مسافة 50 مترا .
فقالت فاندا: لقد هلكنا وهذه الساعة الأخيرة قد دنت.
فقال مرميس: من يعلم فقد يفتح الله لنا بابا للنجاة.
ثم أضاء المشعل وقال: يجب أن نرى أين نحن وكيف نسير.
وهنا انقطع دوي التهدم وبطل اهتزاز الأرض فتقدم مرميس من الرفاق وقال: اتبعوني.
فتبعوه وهو يسير أمامهم وينير طريقهم، وكانت زوجة بوليت قد أغمي عليها من الرعب فحملها وسار في أثر الجماعة.
ولبثوا سائرين حتى وصلوا إلى موضع البرميل فمشوا فوق الصخور إلى الجدار الذي هدمه الانفجار فرأوا هناك تشقق الجدار في الجهة التي اندفع فيها الصخر.
ثم واصلوا السير حتى وصلوا إلى المكان الذي رأوا فيها احتجاب النور الأبيض المستدير فوجدوا صخرا هائلا أعظم من ذلك الصخر الذي دفعه البرميل قد انتزع من القبة وسد الدهليز.
فجعل مرميس وفاندا ينظر كل منهما إلا الآخر نظرات تشف عن الرعب وكلاهما يقول بعينيه دون أن يجسر على الكلام، ترى ماذا أصاب الرئيس ألعله سحق تحت هذا الصخر، أو أن الصخر سقط وراءه ففصل بينه وبين رفاقه وسار هو إلى النهر.
وكأنما كل منهما قد فهم قصد الآخر وقد تغلب الرجاء على فاندا فقالت: أرجو أن يكون قد نجا. - وأنا أرجو رجاءك.
ثم نظر إلى رفاقه وقد أخذ الرعب منهم كل مأخذ فقال: لا يجب أن يخطر لنا التقدم في بال فإنكم ترون الطريق مسدودا.
فقال جواني: إذن لنعد إلى القاعة التي كنا فيها وسنرى ما يكون بيننا وبين البوليس إذا قبض علينا.
فلم تجب فاندا بكلمة، فإن هذه النكبة الجديدة انهكتها وقد عاودها الشك بعد ذلك الرجاء فكادت تجن من جزعها على روكامبول.
وكأنما أولئك الرفاق المخلصين قد نسوا ما هم فيه من الأخطار.
وانصرف اهتمامهم إلى روكامبول فقال أحدهم: ترى ماذا أصاب الرئيس؟
فأجابه جواني: لا شك عندي أنه نجا مع ميلون.
ولم يشترك مرميس بهذه المباحثة، ولكنه سار أمام الجماعة ساكنا فتبعوه إلى القاعة التي كانوا فيها.
وهناك جمعهم وقال لهم: يجب أن نتباحث في أمورنا كي نقر على رأي نرجو أن يكون صوابا، ثم أشار لهم إلى ذلك الدهليز الذي جاءوا منه كأنه يشير عليهم الرجوع منه.
فقال جواني: ألعلك تريد أن نرجع إلى نوايت؟
وقال وليم: إنه بئس الرأي، فإننا إذا عدنا إليه نكون قد سلمنا أنفسنا للبوليس.
فقال جواني: وأي خطر علينا من ذلك؟ - هو أنهم يرسلوننا في البدء إلى سجن الطاحون. - ولكنهم يطلقون سراحنا بعد ذلك. - أما أنتم فقد يطلقون سراحكم، وأما أنا فإني إنكليزي.
أما بوليت فإنه أضاء مشعله وقال: إني سأتفقد هنيهة هذا الطريق الذي تشيرون أن أسلكه.
ثم تركهم وسار نحو خمسين خطوة وعاد فقال: لم يبق سبيل إلى الجدال فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب. - كيف ذلك؟ - ذاك أن القبة قد تهدمت أيضا في الدهليز المؤدي إلى السجن فسدت الطريق.
فقال جواني: إذن لقد أصبحنا أسرى بين الحاجزين.
وقال مورت: بل حكم علينا بالموت جوعا.
فهز مرميس كتفيه وقال: أرى أنكم تسرعتم باليأس.
فتطاولت إليه الأعناق وحومت عليه الأبصار وقالوا جميعهم: كيف ذلك؟ - ذاك أن هذه القاعة تحتوي على ثلاثة دهاليز أحدها يؤدي إلى النهر والآخر إلى السجن وكلاهما مسدود، غير أنه بقي دهليز ثالث لا نعلم إلى أين يؤدي ولكننا لم نطرقه بعد.
فقالت فاندا: لقد أصبت. - وقد يفتح لنا باب النجاة، فهلموا بنا ندخل إليه.
ثم سار أمام الجماعة فتبعوه ودخلوا في ذلك الدهليز، فكانوا يسيرون فيه صعدا خلافا للدهليزين السابقين.
وكان مرميس يسير أمامهم وهو يعللهم برجاء وجود منفذ، فيسيرون وراءه يحثهم الأمل وقد أناروا كل المشاعل للاهتداء.
وفيما هم سائرون وقف مرميس فجأة وقال لهم بصوت منخفض: اسكتوا.
ثم أصغى هنيهة وقال: أحبسوا أنفاسكم ولا يتحرك أحدكم.
ذلك أنه سمع صوتا ولكن هذا الصوت لم يكن صوت انفجار أو دوي تهدم، بل كان صوتا بشريا.
فسكت الجماعة وجعل مرميس يصغي ويقول في نفسه: ألعل ذلك صوت رجال الشرطة أم هي أصوات الإرلنديين القادمين لإنقاذ روكامبول؟
وبينما هو حائر في أمر هذه الأصوات يشير إلى رفاقه بالصمت ظهر له نور من بعيد ، ثم جعل هذا النور يقترب شيئا فشيئا حتى تبين حامله لمرميس فصاح بصوت الفرح المستبشر قائلا: لقد نجونا.
ورددت الجماعة صوته دون أن يعلموا كيف قدرت لهم النجاة.
ذلك أن هذا الرجل الذي كان يدنو منهم يحمل مصباحا كان شوكنج يصحبه أحد زعماء الإرلنديين.
مذكرة مجنون
مذكرة مجنون
مذكرة مجنون
مذكرة مجنون
روكامبول (الجزء السادس عشر)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
مذكرة مجنون
1
لقد تركنا مرميس في ختام الرواية السابقة «روكامبول في السجن» يصيح برفاقه قائلا: «لقد نجونا؛ فهذا شوكنج قادم إلينا من الدهليز.»
وتركنا روكامبول وميلون في ذلك الدهليز؛ فقد تساقطت الصخور، وسدت منفذه، وحجبت روكامبول وميلون عن رفقائهما؛ فلا يعلمون أهما من الأحياء فيرجيا أم هما من الأموات فيبكيا.
ولم يكن مرميس قد خدعته عيناه؛ فإنه رأى شوكنج حقيقة يسير جنبا إلى جنب مع رجل آخر، عرفه - أيضا؛ إنه أحد زعماء الإرلنديين الأربعة الذين رآهم مجتمعين عند الأب صموئيل.
وعند ذلك التفت إلى رفاقه، وقال لهم: «لنتقدم الآن إليهما؛ فإنهما من الأصدقاء.»
وكان شوكنج قد رآهم أيضا، وعرف منهم مرميس، فأسرع إليهم مع رفيقه، وصل إلى مرميس فعانقه بفرح عظيم، وقال له: «إننا نبحث عنكم منذ عهد بعيد، وكنا نخشى أن تكون القباب قد سقطت عليكم.»
ثم أجال نظره بين العصابة باحثا عن روكامبول، فلم يره فقال: «أين الرجل العبوس؟»
فأطرق مرميس برأسه دون أن يجيب.
فذعر شوكنج، وقال: «ويلاه! ألعله مات؟» - إننا لا نزال نرجو أن يكون حيا. - كيف ذلك؟! وما تعني؟ - تركناه يتقدمنا مع ميلون في الدهليز المؤدي إلى النهر، وقد فتح سده بالبارود، وفيما هو يتقدمنا وبيننا وبينه نحو مائة متر، تهدمت القبة، فسدت الطريق، وحالت بيننا وبينه، فلا ندري أسحقه الردم أم سلم منه فنجا.
فابتسم شوكنج، وقال: أما أنا فإني مطمئن عليه؛ فإني أعرف الرئيس حق العرفان، فإذا كنتم لم تروه صريعا فهو قد نجا دون شك.
فاطمأن الجميع ما خلا فاندا، وسأله مرميس: «كيف وصلت إلى هنا؟» - إني جئت من باريس - كما أمرتني - إلى المخزن الذي أشرت إليه، فوجدته مقفلا، فذهبت إلى الأب صموئيل، فجمعني بالإرلنديين العازمين على إنقاذ الرئيس.
والتفت الزعيم الإرلندي عند ذلك إلى مرميس، وقال له: «إننا نبحث عنكم، وإذا كنتم قد أصابتكم كوارث فإن الذنب ذنبكم.»
فأجابه مرميس بلهجة تدل على الأنفة: «أتظن أننا أذنبنا؟!» - دون شك؛ فإنكم لو وثقتم من صدق نيتنا على إنقاذ الرجل العبوس لما حاولتم إنقاذه.
فاعترض شوكنج حديثهما، وقال: «ليس هذا الوقت وقت العتاب والخصام؛ إذ يجب أن نخرج الآن من هذا الدهليز، فإن الصخور لا تزال تتساقط والخطر فيه شديد.»
فقال مرميس: «ولكن، من أين دخلتم إلى هذا الدهليز؟»
فأجابه شوكنج: «من المنفذ الثالث.»
فذهل مرميس، وأيقن أن شوكنج يعرف المنفذين الآخرين، فقال له شوكنج: «إن الإرلنديين يعرفون هذا الدهليز كما تعرفونه، وكان في نيتهم أن ينسفوا جانبا من سجن نوايت لو لم تتسرعوا.» - ولكننا لم نعرف خطتهم.
فقال له الزعيم: «أنا أبسطها لك: فإننا وضعنا ثلاثة براميل من البارود في الدهليز، وثلاثة عند جدران السجن، فوضعنا النار في البدء في براميل الدهليز، وأبقينا الآخرين لإسقاط جدران بيت الحاكم.» - ولكن ما كانت غايتكم من ذلك؟ - إنه حين ينهد بيت حاكم السجن يضطرب رجاله، ويختل النظام، فنهجم على السجن، وننقذ الرجل العبوس. - وماذا فعلتم ببراميل السجن؟ - إننا حين علمنا أنكم مع الرجل العبوس في الدهليز نزعنا الفتيل من برميلين فلم ينفجر غير برميل واحد. - ولكن، بيت الحاكم قد تهدم؟ - كلا، بل سقط بيت يجاوره، ولم يعلموا إلى الآن كيف كان سقوطه. - والسجن؟ - لم يصب بشيء، وقد أنقذوا الحاكم، فأخبر كيف أنكم قيدتموه وهربتم من البئر إلى الدهليز، فنزلوا من الدهليز بغية مطاردتكم، ولكنهم اضطروا للرجوع. - لماذا؟ - لأن تساقط الصخور كان لا يزال متصلا، ثم لأنهم وجدوا الدهليز مسدودا. - ولكنكم أتيتم من طريق آخر؟ - دون شك. - إذا، نستطيع الخروج من هذا الدهليز؟ - عندما تريدون فاتبعوني إن شئتم.
ثم سار أمامهم والعصابة في أثره، وبعد ربع ساعة وصلوا إلى سلم، فقال مرميس: «إلى أين يؤدي هذا السلم؟» - إلى قبو في خمارة. - وهذه الخمارة ... - هي خمارة يتولاها أحد زعماء الإرلنديين. - أين هي كائنة؟ - في شارع فارنجدون. - إذا، نحن في شرق سجن نوايت؟ - هو ذاك.
فبدءوا النزول من السلم، وكان شوكنج في الطليعة وفاندا في المؤخرة، وهي كأنها قد أودعت روحها في ذلك الدهليز؛ فإنها كانت تتلفت من حين إلى حين، وتقول في نفسها: «رباه، ما عسى أن يكون قد أصابه؟! إنه قد يكون الآن تحت صخر ضخم يردد النفس الأخير!»
وكان هذا السلم مؤلفا من ثلاثين درجة، وهناك باب فتحه شوكنج، فدخل يتبعه الجميع إلى قبو دخلوا منه إلى خمارة لم يكن فيها غير صاحبها، فجعل هذا الرجل ينظر إليهم باحثا عن الرجل العبوس.
وقال مرميس لشوكنج: «أنحن الآن في شارع فارنجدون؟» - هو ذاك. - أنحن فوق فليت ستريت أم تحته؟ - تحته. - إذا، نحن قريبون جدا من النهر. - إننا على بعد خطوات منه. - إذا، هلم بنا نبحث عن الرئيس. - إن ذلك سهل ميسور فإن لدي قاربا في النهر.
فقالت فاندا: «إني أذهب معكما.»
وقال جواني قولها، واقتدى به رجال العصابة، فقال لهم مرميس: «كلا، لا يذهب أحد غير فاندا، أما أنتم فانتظروا عودتنا في هذه الخمارة.»
فلم يجدوا بدا من الإذعان؛ لأنه كان يتولى رئاستهم في غياب روكامبول.
وعند ذلك خرج شوكنج ومرميس وفاندا من تلك الخمارة إلى ضفة النهر، فوجدوا قارب شوكنج، فنزلوا إليه وتولى شوكنج إدارة المجاديف، فسأل مرميس إلى أين يريد الذهاب؟ - إلى المدخل الأيمن للدهليز. - إني أعرف موضعه، فهو لا يبعد أكثر من عشر دقائق.
وما زال القارب يسير بهم حتى عثر بأدغال، فقال شوكنج: «هو ذا مدخل الدهليز.»
فنظر مرميس إلى تلك الأدغال، وقال له: «لم يخرجا من الدهليز.»
فشهقت فاندا بالبكاء، وقالت: «إنهما قتلا.»
أما مرميس فإنه لم يجبها، ولكنه أزاح الأدغال، وفتح ممرا فيها، ثم وثب من القارب إلى الأرض، وقال لشوكنج: «ألا يزال المصباح معك؟» - نعم، ولكننا لا ننير إلا في داخل الدهليز .
ثم نزل شوكنج وفاندا ، فدخلوا الدهليز، وأنار شوكنج المصباح، فلم يكد نوره يضيء حتى رجعت فاندا إلى الوراء، وصاحت صيحة ذعر.
2
ولقد يتبادر إلى الأذهان أن فاندا ومرميس وشوكنج قد رأوا جثتي روكامبول وميلون فذعروا هذا الذعر.
على أنهم لم يروا شيئا من ذلك، بل الذي دعاهم إلى هذا الرعب أنهم رأوا صخرا هائلا قد سد مدخل الدهليز فحسبوا أن التهدم الذي رأوه وراء روكامبول وميلون قد اتصل أيضا أمامهما فسحقهما.
وقد كان البرهان جليا؛ فإن مرميس قد وثق بعد أن فحص الأدغال أنهما لم يخرجا من الدهليز، ولكن خطر له أن يمتحن امتحانا آخر، وهو أن مياه التيمس تدخل حين المد إلى هذا الدهليز، فتبل أرضه بحيث تنطبع عليها آثار الأقدام.
فأخذ مرميس المصباح من يد شوكنج، وجعل يفحص التراب، فلم يجد أثرا للأقدام، وقد رأى فوق ذلك أن الصخر غير مبتل فاستدل من هذا أن سقوطه كان بعد زمن المد، أي بعد انحسار المياه، فجعل كل من الثلاثة ينظر إلى الآخر نظرات تشف عما داخل قلوبهم من اليأس؛ إذ لم يبق مجال للشك لديهم بأن الصخور قد سحقت روكامبول ورفيقه حين فرارهم، ولكن بقي لهم رجاء واحد، وهو أن صخور القبة قد تكون سقطت من خلفهما ومن ورائهما، فباتا سجينين بين صخرين.
وجعلت فاندا تنظر إلى مرميس، ثم تعض كفها من اليأس، وتقول: «رباه! ماذا نفعل؟»
أما مرميس، فكان تائها في تفكيره، ثم خطر له خاطر، فأعاد المصباح إلى شوكنج، ودنا من تلك الصخور المتراكمة التي سدت مدخل الدهليز، فاضطجع قريبا، وأصغى.
فكانت فاندا تنظر إليه دون أن تعلم ما يريد، أما مرميس فإنه جعل يصغي وعلائم اليأس مرتسمة فوق وجهه، ولكنه لم يطل الإصغاء حتى أشرق وجهه بنور الأمل، وقال: «إني أسمع صوتا.»
فأسرعت فاندا، وقالت له بصوت خنقته العبرات: «ماذا تسمع؟» - إني أسمع صوتا بعيدا منقطعا يشبه صوت البشر، ويصل إلى أذني كصوت نقط المياه المتساقطة.
فأصغت فاندا مثله، وقالت: «وأنا أسمع - أيضا - ما تسمع، ولكن الذي أسمعه صوت إنساني ... أصغ ... أصغ، إنه صوت اثنين لا واحد، وهما يقتربان.»
وبعد هنيهة صاحت فاندا صيحة فرح، فقال لها: «ماذا سمعت؟» - صوتهما، يا مرميس، صوت روكامبول وميلون.
ثم جعلت تصيح منادية روكامبول، فقال لها مرميس: «اسكتي، وأصغي؛ فإن النداء لا يفيد.»
وقد أوشكت فاندا أن تجن من فرحها، فانقطعت عن الصياح كي يتسنى له أن يسمع ما سمعته.
وبعد هنيهة قال لها: «لقد أصبت؛ فهذا صوت الرئيس.» - لماذا لا تريد أن أناديه؟ - لأنه لا يسمعك. - كيف نحن نسمعه وهو لا يسمعنا؟! - ذلك لأنه في دهليز بين صخرين، فيخرج لصوته رنين فيصل إلينا، أما نحن فإننا في الهواء الطلق، فيضيع صوتنا في الهواء قبل أن يصل إليه.
فاقتنعت فاندا بهذا البرهان الجلي، وتابع قائلا: «يظهر من لهجة حديثهما أنهما لم يصابا بجراح.» - هو ذاك فإني لا أسمع توجعا، ولكنهما أسيران بين السدين فإذا لم يتيسر لهما الخروج ماتا من الجوع. - ولكننا ننقذهما. - كيف؟ - إننا لا نستعمل البارود دون شك، ولا حيلة لنا باستعمال الآلات وفتح منفذ في هذا السد، ولكن هلمي بنا نعود إلى القارب، فمتى صرنا في عرض النهر أخبرك.
أما شوكنج فإنه لم يفهم كل الحديث؛ لأنهما كانا يتكلمان باللغة الفرنسية، ولكنه علم أن الصوت كان صوت روكامبول وميلون.
ثم ذهب الثلاثة إلى الباب، ودفع شوكنج القارب، بأمر مرميس، إلى عرض المياه.
وجعل مرميس يراقب البيوت الكائنة فوق الصخور التي سمعوا من ورائها صوت روكامبول.
حتى إذا عرف ما أراد أن يعرفه عاد إلى البر، فنزلوا جميعهم من القارب، وذهبوا إلى الخمارة حيث كان ينتظرهم الرفاق.
فأمر مرميس أن ينتظروهم - أيضا - فيها، وخرج من تلك الخمارة مع فاندا وشوكنج إلى تلك المنازل التي كان يفحصها من عرض النهر، وجعل يبحث فيها عن منزل حتى عثر عليه، فقال لفاندا: «إني إذا لم أكن مخطئا في حسابي فلا بد أن يكون هذا البيت فوق الصخر الذي سمعنا من ورائه صوت روكامبول.»
ثم دنا من البيت، ففحص بابه، وعاد، فقال : «لقد بت الآن واثقا ؛ فإن هذا البيت لزعيم إرلندي يدعى فرلان، وسيكون خير معين لنا على إنقاذ الرئيس.»
3
ولنعد الآن إلى روكامبول، فقد كان آخر عهد القراء به أنه وضع النار في الفتيل (راجع روكامبول في السجن)، وابتعد عنه أصحابه إلى القاعة ذات الثلاثة دهاليز، فبقي مع ميلون ينتظر بلوغ النار إلى برميل البارود.
فلما اتصلت به النار، وحدث ذلك الانفجار الهائل، اهتزت الأرض اهتزازا عنيفا ألقى روكامبول وميلون على الأرض!
ولكنهما نهضا على الأثر، ولم يكد روكامبول ينظر إلى نتيجة الانفجار حتى صاح صيحة المنتصر الفائز، ونادى أصحابه يقول: «اتبعوني؛ فقد فتح السد.»
ذلك أن البارود دفع الصخر إلى النهر، وظهر ضوء النهار من السرداب، فجعل يعدو مع ميلون.
ولكنهما لم يعدوا عشرين خطوة، حتى تهدمت قبة الدهليز من ورائهما وتراكمت الصخور، فحالت بينهما وبين رجال العصابة الذين كانوا يركضون في أثرهما.
فذعر روكامبول، وهم بالرجوع إلى أصحابه، فوجد السد محكما بينه وبينهم، فتمعن هنيهة، ثم قال لميلون: «هلم بنا نخرج الآن من هذا الدهليز، ولا نعدم وسيلة بعد ذلك لإنقاذ رفاقنا.»
ثم ركض روكامبول إلى جهة النهر، وركض ميلون في أثره، وهما يريان النور ينبعث من فم الدهليز.
وعند ذلك رأى روكامبول فجأة أن هذا النور قد احتجب، ثم سمع دويا هائلا أشد من الأول.
ثم اهتزت الأرض اهتزازا شديدا، فسقط روكامبول وميلون أيضا، وجعلت الصخور تتساقط حولهما، وكاد أحد هذه الصخور يصيب رأس روكامبول فيسحقه.
وكانت الظلمات تكتنفهما من كل جانب؛ فلم ير روكامبول ما حوله ولكنه سمع ميلون بصوت متهدج: «أين أنت أيها الرئيس؟» - هنا بقربك. - ألعلك جريح؟ - كلا، وأنت؟ - وأنا - أيضا - لم أصب بشيء.
فقال له روكامبول: «إذا لا تبرح مكانك، ولنصبر إلى أن ينتهي تساقط الصخور.»
وبعد حين سكت الدوي، وانقطع تساقط الصخور، وبطل الاهتزاز؛ فنهض روكامبول، وكان مشعله لا يزال معه، ولكنه انطفأ، فأناره.
وعند ذلك قال له ميلون: «أأنهض أنا؟» - نعم، ولكن لا تبرح مكانك.
فقال له ميلون، وقد سر أنه هو والرئيس لم يصابا بأذى : «لقد بلغنا خير مبلغ من التوفيق.» - هو ذاك، فإن هذه الصخور لم تسحقنا، ولكن توفيقنا ليس على قدر ما ظننت.
ثم جعل يفحص على نور مشعله ذلك الدهليز، وما صار إليه بعد تساقط القبة، فرأى منفذ الدهليز قد سد أيضا بصخر عظيم.
فقال لميلون: «أرأيت هذا السد الجديد؟ فقد بات موقفنا كما كان منذ ساعة.» - إذا، لنعد إلى الرفاق. - كيف تعود إليهم وقد حيل بيننا وبينهم بمثل هذا السد؟!
فارتعد ميلون، وقال: «أنحن أسرى الآن؟» - بل، قضي علينا أن ندفن في قيد الحياة.
فأوشك ميلون أن يجن من يأسه، وكان روكامبول أصفر الوجه، ولكنه لم يفقد شيئا من سكينته العادية، فقال لميلون ببرود: «لا يجب، أيها الصديق، أن يضيع اليأس من رشدنا، بل يجب أن نفتكر ونتمعن؛ فإن مركزنا شديد الحرج، ولكنه لا يحمل على اليأس التام.»
فنظر إليه ميلون نظرة ملؤها الأمل، وقال له: «أي رجاء لك بخروجنا؟» - هو أني أرجح سلامة مرميس ورفاقه من الصخور. - ولكنهم إذا سلموا فهم أسرى مثلنا. - ولكن رجاءهم بالخلاص وطيد. - من ينقذهم؟ - البوليس الذي يطاردهم؟! - إنهم يذهبون بهم إلى السجن. - ولكن، إقامتهم فيه لا تطول؛ فإني أعرف الشرائع الإنكليزية. - وبعد ذلك؟ - إنك تعرف مرميس، فهو شديد الذكاء، وتعرف فاندا، فإنها تسفك دمها من أجلي، ولا بد لمرميس وفاندا، بعد إطلاق سراحهما، أن يجدا طريقة لإنقاذنا. - لقد يصح جميع ما اقترحته، ولكن، لا بد أن يمر عهد طويل لبلوغهم إلينا. - لا أنكر ذلك فقد يطول يومين أو ثلاثة. - ألا تجد هذا الوقت كافيا لأن نموت جوعا؟! - إن الرجل يستطيع الصبر على الجوع أربعة أيام.
ثم جلس وهو بأتم السكينة على صخر.
أما ميلون فإنه كان هائجا مضطربا، فجعل يجول في سجنه الضيق كما يجول الأسد في قفصه.
فقال له روكامبول: «قلت لك لا تقنط من رحمة الله، يا ميلون؛ فإنك لم تجع كما أظن.» - كلا، ولكني شديد العطش. - إنك ستروي ظمأك بعد أربع أو خمس ساعات. - كيف ذلك؟ - حين يجيء زمن المد فتنساب مياه النهر في هذا الدهليز حتى تبلغ قدميك، فتعال، واجلس بجانبي.
فجلس ميلون بجانبه، وقد خف بعض ما عنده من اليأس؛ لالتصاقه بالرئيس، فقال له روكامبول: «إن الكلام لا لون له، فلا حاجة لنا بنور هذا المشعل؛ فقد نحتاج إليه.»
ثم أطفأ مشعله، وقال له: «أتعلم، يا ميلون، لماذا لم يتمكن مني القنوط؟» - لأنك خلقت غير هياب من الموت؛ فلم أرك اضطربت مرة في حياتي! - ليس هذا هو السبب الذي يدعوني إلى الرجاء. - ما هو؟ - هو اعتقادي أن الله يقيني الموت إلى أن أقضي ما علي من المهام. - إن مهامك لا تنقضي؛ فإنك لا تقضي مهمة حتى تعرض لك أخرى، ألا تريد أن ترتاح؟! - كلا، إن الراحة لا تكفر عن الذنوب. - ولكنك قد جاهدت فوق الكفاية، وكل عمل من أعمالك يكفر عن أعظم ذنوبك التي ارتكبتها، وعندي أنه قد آن لك أن تعود إلى باريس وترتاح. - كلا، لم يحن الوقت بعد؛ فلا يزال لدي مهمة في لندرا. - أية مهمة تعني؟ ألعلها مهمة الإرلنديين؟ - كلا. - ولكن الإقامة في لندرا لم تعد محمودة. - ألم أقل لك إن لدي مهمة فيها يجب قضاؤها؟ - بشرط أن لا تكون خاصة بأولئك الإرلنديين. - لا علاقة لها بهم في شيء.
فلم يجب ميلون، وجعل ينتظر أن يوضح له هذه المهمة.
أما روكامبول فإنه صمت هنيهة، ثم قال: «أتعتقد، يا ميلون، أن حبل المشنوق يجلب التوفيق؟» - هذا ما يقوله الناس، أما أنا فإني لا أشاركهم بهذا الاعتقاد. - سوف ترى إذا كانوا مصيبين أو مخطئين. - كيف ذلك؟ ألديك حبل مشنوق؟ - نعم. - أهو في جيبك؟ - بل معقود على وسطي. - إذا، سوف نرى. - إن الوقت فسيح لدينا، وسأقص عليك حكاية تشغلك عما أنت فيه من اليأس، وتقصر علينا هذا الوقت الطويل. - أهي حكاية الحبل؟ - نعم، حبل مشنوق جعلني منفذ وصيته. - تكلم، يا سيدي، فإني مصغ إليك كل الإصغاء.
4
وبدأ روكامبول حديثه، فقال: «إنك تذكر، يا ميلون، كيف كانت بداية صداقتنا.» - إنها بدأت، يا سيدي، في سجن طولون، حين كنا مقيدين بقيد واحد . - هو ذاك، وقد حدثتني يوما بحديث تينك الأختين اليتيمتين اللتين سجنت في سبيل إخلاصك لهما. - نعم يا سيدي، فإنك بعد أن أنقذتهما أصبحت لك من أوفى المخلصين وبت لك أوفى من الكلب الأمين. - ولقد حدث لي حادثة تشبه تلك الحادثة، ولم تكن في سجن طولون بل في سجن نوايت، ولم يبق الرجل الذي رواها في قيد الحياة؛ بل هو من الأموات. - ألعله مات شنقا؟
فتأوه روكامبول، وقال: نعم، واأسفاه! فأصغ إلى الحكاية، فسأقصها عليك؛ فكما توقعت أني لم أقاوم رجال الشرطة حين قبضوا علي في منزل مس ألن، فإني كنت أستطيع النجاة قبل أن يدخلوا بي سجن نوايت؛ لأنهم لم يذهبوا بي إلى هذا السجن توا، بل أوقفوني في البدء في سجن البوليس، فتولى قاضي التحقيق استنطاقي، وسجنني مؤقتا في سجن القسم، فأقمت في ذلك السجن ست ساعات.
وقد لقيت في ذلك السجن امرأة رثة الثياب تجاوزت عهد الشباب، ولكن آثار الجمال لم تزل تدل عليها، فلما رأتني دخلت نظرت إلي في البدء بحذر، ثم جعلت تطيل النظر إلي حتى التقى نظرها بنظري، فأحدقت بي.
وكأنما نظري قد أثر فيها، فقالت لي: «أظن أنك الرجل الذي أبحث عنه.»
فنظرت إليها منذهلا، وقالت: «ألعلك جنيت جناية كبرى؟» - كلا، ولكني من الإرلنديين، وهي عندهم جناية لا تغتفر.
فاختلجت قليلا، وبرقت عيناها بأشعة الفرح، ثم قالت: «إذا، سيذهبون بك إلى سجن نوايت؟» - دون شك. - لقد أصبت حين قلت لك إنك الرجل الذي أبحث عنه منذ عهد طويل، فاعلم يا سيدي أني أدعى بيتزي، وأني إيكوسية، وحكايتي أني في كل ليلة أتظاهر بالسكر والعربدة كي يقبضوا علي وما أنا بسكرى كما ترى.
فدهشت لأمرها، وقلت: «وبعد ذلك؟» - إني أتكلف السكر تكلفا، فيقبضون علي، ويودعونني السجن إلى صباح اليوم التالي، وفي الصباح يحكمون علي بغرامة شلنين ويطلقون سراحي. - وأي غرض لك من المظاهرة بالسكر؟ - كي يقبضوا علي - كما قلت - وأنا ناهجة هذا المنهج منذ شهر، وفي كل ليلة يقبضون علي في الشارع. - ولكن لماذا؟! - لأني أبحث عن رجل محكوم عليه بالسجن في نوايت ويكون لي ثقة به. - وماذا تتوقعين من هذا الرجل؟
فنظرت إلي أيضا نظر الفاحص، وقالت: «إني متوسمة فيك مخائل النبل والشرف، فقل لي ماذا تدعى!» - الرجل العبوس.
فدهشت لقولي، وقالت: أنت هو الرجل العبوس، وقد أذنت أن يقبض عليك؟! - نعم. - ولكنك تخرج من السجن متى شئت؟ - ربما. - بل، ذلك أكيد؛ فقد سمعت الناس يتحدثون بك، ويقولون عنك إنك تصنع ما تشاء، وما دمت الرجل العبوس، فأنا أخبرك بكل شيء. - تكلمي يا سيدتي. - إن زوجي في السجن. - في سجن نوايت؟ - نعم، وقد صدر الحكم عليه بالإعدام؛ فهو سيشنق في اليوم السابع عشر من الشهر القادم. - أي ذنب جناه؟ - قتل لوردا. - لماذا؟ - إن الحكاية طويلة لا أستطيع أن أقصها عليك الآن لضيق المقام، ولكنك ذاهب إلى نوايت وسيقصها عليك زوجي. - ليكن ما تشائين، فهل تريدين أن تبلغيه أمرا؟ - نعم. - هاتي (وأنا أحسب أنها تريد أن ترسل إليه رسالة)، فقالت: «إني لا أريد أن أرسل إليه كتابا بل أكلفك أن تحمل إليه كلامي.» - ماذا تريدين أن أقول له؟ - قل له إني رأيت امرأتك بيتزي والأوراق عندها، فمت مطمئن البال. - هذا كل ما تريدين؟!
فمسحت دمعها، وقالت: «نعم، هذا كل ما أريد.»
وقد بذلت جهدي أن أقف منها على سر هذه الأوراق، فأبت أن تجيبني بشيء.
وفي صباح اليوم التالي أدخلوني إلى سجن نوايت، فبت ثلاث ليال في غرفة ضيقة مغلقة بحيث تعذر علي مقابلة زوج المرأة المحكوم عليه بالإعدام.
ثم قرروا في السجن أن يحسنوا معاملتي لطمعهم بحملي على الاعتراف بأسرار الإرلنديين؛ لأني بالغت في الحيلة حتى أوهمتهم أن حسن معاملتي تدعوني إلى الإقرار.
فأخذوا يجاملونني منذ ذلك الحين فأفرجوا عني بعض الإفراج، وأذنوا لي بالخروج إلى ساحة السجن مع بقية المسجونين مرتين في اليوم.
ولم أحدث الرجل بشيء في اليوم الأول، لكني كنت أراقبه فأجده منقبض الصدر مستسلما إلى القضاء وهو قصير القامة، عريض المنكبين، قوي البنية يناهز الستين من العمر وقد وخط الشيب من رأسه.
فمررت به، وهو جالس في إحدى الزوايا، ونظرت إليه ونظر إلي، فاستدللت من نظراته الإخلاص وحسن الوفاء.
فقلت في نفسي إن هذا الرجل قد قتل، ولكنه لم يرتكب هذه الجريمة إلا لغرض نبيل. •••
وفي اليوم الثاني خرجت إلى تلك الساحة في الساعة نفسها، ووجدت الرجل في موضعه، فذهبت إليه توا، وقلت له: أأنت هو الذي قتل اللورد؟ - نعم ...
وقد لفظ هذه اللفظة بسكينة وارتياح دلالة على أنه غير نادم على ما فعل، وأنه لم يرتكب هذه الجريمة إلا قياما بواجب شريف.
فقلت له: «ألست زوج المرأة التي تدعى بيتزي؟»
فاختلج، وقال: «ألعلك رأيتها.» - يظهر أنك لم تعرفني ... - كلا، فمن أنت؟ - الرجل العبوس.
فرجع خطوة إلى الوراء، وحملق بعينه، وقال: أنت هو الرجل العبوس! - نعم، أنا هو وقد لقيت زوجتك، فعهدت إلي أن أخبرك بأنها عثرت بالأوراق وهي عندها.
فصاح الرجل صيحة فرح كأنما قد أخبرته بصدور العفو عنه، ثم قال: «واطرباه! إني أموت الآن مطمئن النفس ناعم البال.»
وعاد فنظر إلي، وقال: «إنك دخلت السجن بملء إرادتك.» - ربما ... - ستخرج منه دون شك عندما تريد. - إني أرجح ذلك ...
فتردد هنيهة، ثم قال: «يجب أن أقول لك كل شيء يا سيدي، وأنا واثق من فوزك في المهمة التي أعهد بها إليك؛ فإن من كان مثلك لا يعجزه أمر، وسأمنحك مقابل ذلك الحبل الذي سأشنق به فإنه يجلب لك السعادة.»
ولما وصل روكامبول بحكايته إلى هنا توقف، فقال له ميلون: بالله أتم حكايتك؛ فقد أنسيتني أننا سجينان بين صخرين، وأنه مقضي علينا بالموت جوعا.
5
وعاد روكامبول إلى تتمة حديثه، فقال: إن زوج بيتزي لم يزد في ذلك اليوم شيئا على ما قاله؛ إذ قال: «إن الحديث طويل وقد حان موعد الرجوع إلى السجن، ولكني سأخبرك غدا بكل أمري.»
وفي اليوم التالي اجتمعت به، فقلت له: «لقد وجدت طريقة للاجتماع بك عدة ساعات.»
فنظر إلي منذهلا، وقال: «إن ذلك مستحيل في هذا السجن إلا عليك ما دمت الرجل العبوس!»
أما الطريقة التي وجدتها فهي أني حين عدت إلى غرفتي قلت للحارس: «إني أحب أن أكلم حاكم السجن.»
فذهب الحارس، وبعد ربع ساعة جاء الحاكم وهو يبتسم لاعتقاده أني دعوته لأبوح له بأسرار الإرلنديين.
فلما دخل علي قلت له: «إني أحب أن أحدثك في بعض الشئون، يا سيدي الميلورد.»
فبدت عليه علائم السرور، وقال: «لقد كنت أتوقع منك هذا الرشاد وهذه النهاية.» - لم أكن إلا من الراشدين.
فجلس بجانبي، وقال لي: «يا بني ماذا تريد؟» - إن حكم علي بالإعدام أيكون إعدامي شنقا؟ - نعم؛ فإننا لا نعدم إلا بالشنق. - أتظن أنهم يحكمون علي بالإعدام؟ - هذا ما أراه إلا إذا اعترفت بما تعلمه؛ فإنهم يرحمونك دون شك. - هذا الذي أفتكر به الآن. - وهذا ما كنت أتوقعه منك. - ولكني أقول لك، قبل كل شيء، إني لا أخشى الموت، ولا سيما الشنق. - ولكنك مخطئ في توهمك؛ فلو رأيت المشنوق حين يعدمونه لرأيت ما تقشعر له الأبدان فاعمل بنصائحي، يا بني، واعترف بكل شيء، فذلك خير لك وأبقى. - إني أعمل ذلك، ولكني كما قلت لا أخاف الموت شنقا. - وأنا أعيد عليك ما قلته؛ فإن ميتة الشنق أفظع ميتة. - كلا؛ فإن الإعدام في فرنسا يجري بالمقصلة ورؤية هذه الآلة الهائلة تحمل على الرعب، فلو كنتم تعدمونني لما توقفت عن الإقرار. - إننا لا نستطيع تغيير طريقة الإعدام من أجلك، ولكني أعيد عليك ما قلته، ودليلي على ذلك أنه يوجد لدينا محكوم عليه بالإعدام، وإني أخاف أن يقضي الرعب عليه قبل قضاء الإعدام. - ولكني لقيته أمس بين المسجونين؛ فما وجدت عليه غير علائم السكينة والارتياح. - ذلك لأنه يتكلف الجلد تكلفا بين رفاقه، ولكنك لو أقمت معه يومين لأدركت حقيقة رعبه. - أتظن أن رعبه يؤثر بي؟ - دون شك، وقد خطر لي أن تبيت هذه الليلة معه في غرفة واحدة، وإني أفعل ذلك لخيرك؛ فإنك إذا أقمت معه خشيت الموت، ومتى خشيته نجوت منه لاضطرارك إلى الإقرار؛ فإني واثق من رحمة القضاة. - أشكرك، يا سيدي، فدعني أبيت الليلة معه وادعني في الغد إليك . - لماذا؟ - لأعترف بكل ما أعلمه إذا وجد الخوف سبيلا إلى قلبي. - سأصدر أوامري بهذا الشأن.
ثم تركني، وانصرف فرحا مسرورا.
وبعد حين جاءني أحد الحراس، وذهب بي إلى غرفة زوج بيتزي، فأقامني معه، وأقفل الباب وانصرف.
ولما خلوت معه قلت: «أرأيت أني وفيت بوعدي وتمكنت من زيارتك؟»
فقال لي بلهجة الإعجاب: «إنك، يا سيدي، تفعل ما تريد!» - حدثني الآن بقصتك.
فامتثل الرجل، ولم ينم تلك الليلة طرفة عين.
وفي صباح اليوم التالي أقبل الحارس وذهب بي إلى الحاكم.
فاعترض ميلون عند ذلك روكامبول، وقال له: «ألا تحكي لي هذه القصة؟!»
فأجابه روكامبول: سأقصها عليك، فاسمع الآن ما جرى مع الحاكم، فقد ذهبوا بي إليه وكنت مصفر الوجه دون شك؛ لأني لم أنم.
فحمل الحاكم اصفراري على محمل الخوف، وقال: «كيف رأيت؟ ألا تزال تحتقر الموت شنقا؟!» - الحق، يا سيدي الميلورد، أني لم أخف بعد. - إذا، لا تريد أن تقر. - لا أقر إلا حين أخاف.
فعض الحاكم شفته، ولكنه كظم غيظه، وقال: «لا بد لي أن أقنعك وسوف ترى.» - ألعلك تريد إقامتي مع هذا الرجل؟ - بل سأفعل خيرا من ذلك. - ماذا عزمت أن تفعل؟ - عزمت على أن أدعك تحضر الشنق؛ فقد كان ذلك متعذرا منذ شهر، أما الآن فقد أذنت الحكومة بأن يحضر المسجونون وقت الإعدام؛ لأن الإعدام بات في داخل السجون.
وبينما كان روكامبول يحادث ميلون، قال ميلون بلهجة الرعب: «انظر، يا سيدي، انظر.»
فقال له روكامبول: «ماذا؟» - انظر إلى يسارك.
فنظر روكامبول فرأى نقطتين تتقدان في تلك الظلمات المحيطة بهما.
6
كان ميلون شجاعا كما عرفه القراء في كثير من مواقف هذه الرواية، غير أنه لم يكن بشجاع إلا في الأخطار التي يعلمها؛ فإذا عرض له خطر مجهول ضعف وجبن شأن ضعفاء العقول.
أما روكامبول فإنه نهض عن الصخر الذي كان جالسا عليه، ومشى خطوتين إلى جهة ذلك النور، فرأى أن النقطتين قد تغير موضعهما.
فصفق روكامبول بيديه فتوارى النور.
والتفت عند ذلك إلى ميلون، وقال له: أما عرفت، أيها الأبله، ما هذا النور؟ - كلا. - هو نور منبعث من عيني هرة، وما دامت الهرة قد وصلت إلينا فلا بد من وجود منفذ خرجت منه. - أتظن؟ - دون شك، ولكني أخشى أن يكون منفذا ضيقا لا نستطيع نحن الخروج منه. - وقد تكون هذه الهرة سجينة معنا. - ذلك محال؟ - لماذا؟ - إنها لو كانت سجينة مثلنا كما توهمت لكنا رأيناها من قبل، ولما كانت توارت حين صفقت، وبعد فكيف يتفق لهذه الهرة أن تكون سجينة في هذا الدهليز؟! - كما اتفق لنا. - أما نحن فإننا دخلنا في هذا الدهليز من بئر السجن، بعد أن هدمنا الجدار الذي كان يسده، والحقيقة أن هذه الهرة كانت في قبو لا بد أن يكون فوقنا ولا بد أن يكون الانفجار قد فتح منافذ في ذلك القبو للهرة. - ذلك ممكن. - إذا، فلنبحث علنا نستطيع الخروج من المنفذ الذي خرجت منه.
ثم أنار المشعل، وقال: «هلم نبحث الآن.»
وجعل يتفقد مع ميلون سجنه الضيق باحثا عن ذلك المنفذ.
وقد عرف القراء أن الصخور قد تهدمت في الدهليز أمام روكامبول وميلون بحيث سدت الطريقين.
فرجع روكامبول إلى الصخور التي سقطت خلفه في الجهة التي برقت فيها عينا الهرة.
وكانت هذه الصخور طبقات بعضها فوق بعضه فتسلقها روكامبول ونظر إلى القبة فرأى فيها منفذا وأمر ميلون أن يصعد على تلك الصخور.
فلما وصل ميلون إليه أعطاه المشعل، ووثب على ظهره، ووقف بين كتفي ميلون، فأدخل نصف جسمه في ذلك الثقب الذي رآه في القبة.
ثم قال له: «هات المشعل الآن.»
وأخذه من يده، وجعل ينظر بنوره من ذلك الثقب، فرأى رواقا طويلا يشبه الدهليز الذي هو فيه.
فوضع المشعل على الأرض، وصعد في ذاك الرواق، فقال لميلون: «انتظرني هنا إلى أن أتفقد هذا الرواق.»
ولم يطل بحثه حتى علم أنه في أحد تلك الأقبية الطويلة التي يستعملها تجار المشروبات عند ضفاف النهر.
وقد تهدم بعض أرض ذلك القبو حين الانفجار، ففتح فيها ذلك المنفذ الذي لم يكن من قبل حتى إن صاحب هذا القبو نفسه قد يكون جاهلا أن قبوه فوق دهليز.
وعند ذلك رجع روكامبول إلى المنفذ، فجلس على حافته، ومد ساقيه قائلا لميلون: «تعلق بساقي، واصعد إلى حيث أنا.»
فصعد، وبات الاثنان في القبو.
عند ذلك حمل روكامبول المشعل وقال لميلون: «اتبعني؛ فلا بد أن ننتهي في هذا القبو إلى باب.»
وسارا بضع خطوات، فرأيا براميل مرصوفة في جانبي ذلك القبو الطويل الضيق، وهنا سمعا دويا فقال ميلون: «ما عسى أن يكون هذا الدوي؟»
فأصغى روكامبول هنيهة، وقال: «إنه صوت أمواج النهر.»
ثم واصلا سيرهما، فرأى روكامبول بعد حين نورا بعيدا.
وأطفأ روكامبول المصباح، فسأله ميلون: «لماذا أطفأت المصباح؟» - لأن هذا النور الذي رأيناه هو نور السماء لا بد أن يكون نافذا من طاقة مفتوحة، أو باب مفتوح، فإن أبقيت المشعل مضاء فقد يراه أحد من الخارج.
وبعد هنيهة وصلا إلى مصدر ذلك النور، ورأيا نافذة مفتوحة، وسمعا من تحتها هدير أمواج التيمس.
وكانت النافذة عالية فقال له ميلون: «ماذا تصنع؟» - إذا أردت أن تدق عنقك فألق بنفسك من هذه النافذة إلى النهر! - ولكننا إن بحثنا في هذا القبو فقد نجد حبلا. - لا فائدة لنا بالحبل؛ فقل لي كم الساعة الآن؟ - نحن في الساعة الرابعة. - إذا، فستعلو المياه بعد نصف ساعة، أي حين يجيء زمن المد فنلقي أنفسنا من تلك النافذة فنسقط في المياه وننجو سباحة، أما إن سقطنا الآن فلا تسقط إلا على الأرض لانحسار المياه.
فتنهد ميلون، وقد رأى هذا الزمن الوجيز الذي يحول بينه وبين الحرية أطول من دهر!
أما روكامبول فإنه ابتسم، وقال له: إننا منذ هنيهة كنا سجينين بين صخرين نتوقع الموت جوعا، ففتح الله لك بابا للنجاة فكيف تتنهد وتتضجر؟! - لقد أصبت، يا سيدي؛ فإني لجوج ضجور. - ولكني سأخفف عنك وطأة الضجر بالعود إلى تلك الحكاية التي كنت أقصها عليك. - أتطلعني على سر زوج بيتزي؟ - كلا لم يحن الوقت بعد، ولكني أخبرك بأمر إعدامه. - ألعلك حضرت شنقه؟ - دون شك.
ثم جلس على تلك النافذة، وأدلى رجليه منها إلى الخلاء، وأخذ يحدث ميلون بينما كانت مياه النهر آخذة بالتصاعد تباعا لقرب زمن المد.
7
قال روكامبول: وكان الحاكم لا يزال يرجو أن يحملني على الإقرار فكان يحسن معاملتي، وقد أذن لي بالاجتماع مع زوج بيتزي حين أريد، فكنت أعزيه خير تعزية.
أما الحاكم فكان يسألني كل مرة أجتمع فيها مع هذا الرجل إذا كنت ما أزال غير وجل من الموت فأجيبه سلبا.
وتوالت الأيام على ذلك إلى أن جاءني الحاكم ليلة قائلا: «إن غدا موعد إعدام قاتل اللورد ألا تزال راغبا بمشاهدة هذا المشهد الهائل؟» - نعم ... - إذا، يجب أن أنقلك من غرفتك هذه إلا إن أحببت أن تبيت الليلة مع الرجل المحكوم عليه. - إني أوثر أن أبيت مع هذا المنكود، وعسى أن أعزيه. - وأنا أرجو أن يؤثر فيك شقاؤه وبأسه؛ فإن هذا التعس لم يبق له غير ساعات معدودة. - وأنا أرجو رجاءك؛ فإني إذ كنت لا أخشى الموت فلا أحب الحياة. - وهنا مسألة أحب أن أطلعك عليها؛ لأنك تجهلها دون شك. - ما هي؟ - إن جسم المقتول شنقا يعطى للجلاد فيبيعه للأطباء كي يعلموا فيه التلامذة التشريح، ولكن الحبل الذي به يكون ملك المشنوق، وله أن يورثه من يشاء وهذا الحبل يجلب السعادة. - إنه زعم سائد على الأكثرين، وإن وهبني هذا الحبل فإني أرجو النجاة من الشنق. - ولا سيما إذا أقررت؛ فإن إقرارك يفيدك أكثر مما يفيدك الحبل.
ثم تنهد، وتركني، وبعد ذلك بساعة ذهبوا بي إلى غرفة زوج بيتزي، وكان لديه فتاتان من أخوات السجون، فابتسم الرجل حين رآني وقال: «إن غدا يومي الأخير.» - ألم تخش الموت؟ - كلا ...
ثم رفع يديه إلى السماء، وقال: «إنه حين يموت المرء في سبيل الواجب يموت مستريح البال.» - ألم يبق لديك ما تقول؟ - كلا، فقد عرفت كل شيء، ولكني أهبك الحبل الذي سأشنق به؛ إذ يحق لي أن أهبك هذا الحبل. - لقد رجا الحاكم أن تهبني هذه الهبة.
فابتسم الرجل، وقال: «مسكين أنه ليس من أكفائك.»
وقد أمضى الليل والفتاتان تصليان وأنا أتحدث معه بصوت منخفض.
فلما بلغت الساعة الخامسة صباحا، فتح باب الغرفة، ودخل الجنود، فانصرفت الفتاتان، وعانقت الرجل مودعا، فكان آخر ما قاله لي: «تذكر ما وعدتني به.»
فقلت له: «مت بسلام.» وذهب الجنود به إلى ساحة الإعدام.
أما أنا فقد قال لي الحارس: «إني مأمور أن أذهب بك إلى غرفة فيها نافذة تشرف على الإعدام.» ثم ذهب بي إلى تلك الغرفة، وكانت نافذتها مرتفعة فوقفت على كرسي، وأطللت من النافذة، فرأيت الحاكم بملابسه الرسمية واقفا في طليعة الجنود، ورآني، فابتسم لي، وحياني بيده.
ثم ترك الجنود، وجاء إلي فوقف تحت النافذة، وقال لي: أترى كل شيء من المكان الذي أنت فيه؟ - نعم، ولكن من هؤلاء الرجال المرتدون بالملابس السوداء؟ - هم القضاة الذين حكموا على الرجل، والشرع يقضي عليهم بحضور تنفيذ الإعدام.
فقلت في نفسي: «إنها حكمة بالغة؛ فإن القاضي متى وقف هذا الموقف الهائل، ورأى ذلك المنظر المفجع لا يتسرع في أحكامه.»
ثم تركني الحاكم وذهب إلى الجلاد، فوقفت في مكاني أنتظر بقلق شديد نفوذ القضاء في هذا الرجل الذي ما عرفته إلا بعد أن وقفت على سره، فأحللته محلا عظيما من قلبي، وكدت أذوب لهفا عليه.
وفي الساعة السادسة جاءوا به إلى هذا الموقف الرهيف، فصعدوا به إلى المشنقة، وهو أصفر الوجه غير أنه كان ثابت الجأش؛ فأجال بين الحاضرين نظرا تائها حتى رآني، فقال لي بعينيه ما يفيد معنى «تذكر».
ثم وضع الحبل في عنقه، وفتحت الهاوية فزج إلى الأبدية.
ولما تفرق الحضور أسرع الحاكم إلي وقال: «ماذا رأيت؟» - رأيت كل شيء. - وماذا كان تأثير هذه الفاجعة عليك؟
فضحكت، وقلت: «لم تؤثر في أدنى تأثير.»
فقال لي بلهجة دلت على اضطرابه: «إذا، لا تريد أن تبوح بأسرارك؟» - سأرى فيما بعد.
وعندما وصل روكامبول بحكايته إلى هذا الحد نظر إلى مياه النهر فقال لميلون: «إن الماء قد بلغ حده، فهل تريد أن تنزل إليها؟» - ولكنك لم تقل لي سر الرجل المشنوق؟! - سأرويه لك في غير هذا المقام ؛ إذ يجب علينا أن نفر قبل المباغتة، فاتبعني.
ثم وثب إلى المياه وتبعه ميلون فتواريا في الأمواج، ثم ظهرا وجعلا يسبحان إلى جسر لندرا.
8
ولنعد الآن إلى مرميس؛ فقد تركناه مع شوكنج وفاندا عند منزل زعيم الإرلنديين، وقد ذكر لهما اسمه، فلما رأى أنهما لم يدركا قصده قال لهما: «إن هذا المنزل ينبغي أن يكون فوق المكان الذي تهدمت فيه قبة الدهليز وسجن روكامبول وميلون، وهو لأحد زعماء الإرلنديين كما تقدم لي القول.
ولهذا المنزل قبو لو نزلنا إليه نجد به منفذا إلى مكان السجن، وإن لم نجد منفذا ثقبنا الأرض.»
فقالت فاندا: «إن كل ما ترويه معقول، ولكن هل أنت واثق أن هذا المنزل كائن فوق المكان الذي سمعنا فيه صوت روكامبول؟» - كل الوثوق. - ولكن كيف عرفت ذلك؟ - أتعلمين؟! إن من بعض أفضال الرئيس علي أنه أمرني بدرس الهندسة، درست هذا الفن درسا دقيقا وقد قست بفضل قواعدها المسافة بينه وبين الدهليز قياسا نظريا، وأرجو أن لا أكون مخطئا في حسابي، والذي أراه أنه يجب أن نثقب ثقبا لا يقل عمقه عن عشرة أقدام.
فقال شوكنج: «إذا، بقي علينا أن ندخل إلى هذا المنزل، ونخبر صاحبه بمرادنا.» - لا حاجة إلى ذلك.
فقالت فاندا: «لماذا؟» - لأن هذا الزعيم الإرلندي لا يعرفنا، وما نحن من الإرلنديين ولا نعرف رموزهم السرية فنتعارف بها. - إذا، ما العمل؟ - نرسل شوكنج إلى الخمارة، فيأتينا بالإرلندي الذي كان يصحبه، وهو يكون واسطة التعارف بيننا وبين صاحب المنزل.
ثم أمر شوكنج أن يذهب فانطلق مسرعا، وبقي مرميس وفاندا ينتظران في الشارع.
ولم يطل انتظارهما؛ حيث عاد شوكنج بالإرلندي بعد ربع ساعة.
وكان شوكنج قد أخبره بالأمر، وأتيا يحملان الآلات اللازمة لثقب أرض القبو.
فلما وصل الإرلندي ذهب توا إلى المنزل، ونقر عليه بأصابعه نقرات اصطلاحية، فلم يفتح الباب، وكان مظلما لا نور فيه.
فقال مرميس: «إن سكانه نيام دون شك.»
قال له الإرلندي: «صبرا، ثم جعل ينقر على الباب بطريقة مخالفة للطريقة الأولى ، فلم يفتح ولم يظهر أثر للنور.»
قالت فاندا: «ألعل البيت مهجور؟» - كلا، يا سيدتي، ثم عاد إلى طرق الباب بطريقة ثانية فظهر النور فجأة، وفتح الباب، وبرز منه رجل كهل يحمل بيده مصباحا وهو بملابس النوم.
فأشار إليه الإرلندي إشارة سرية بسرعة، فأجابه بمثلها، ونظر إلى مرميس وفاندا نظرة تدل على الاطمئنان، ثم دخلوا جميعهم إلى المنزل.
وكان الإرلنديون من الزعماء، فقال صاحب المنزل لوصيفه باللغة الإرلندية: «ألم يحدث الانفجار النتيجة المطلوبة؟» - كلا. - ولكني سمعت دويا خلت بعده أن نصف لندرا قد تهدم. - أشعرت باهتزاز في المنزل؟ - إنه اهتز كما يهز الأرض الزلزال، ولا بد أن يكون قبو منزلي قد تصدع ...
فقال الإرلندي لمرميس ورفاقه: «إننا سنوضح لكم ما لم تفهموه من حديثنا، والآن فلننزل إلى القبو.»
فقال صاحب المنزل: «ماذا تريد أن تفعل بهذه الآلات؟» - سوف ترى.
وسار بهم صاحب المنزل إلى باب، ففتحه، ونزلوا جميعهم سلما انتهوا منه إلى رواق ضيق طويل كانت البراميل مرصوفة فيه على الجانبين.
وعند ذلك دنا الإرلندي من مرميس، وقال له: «افحص الآن هذا المكان، وانظر إن كنت غير مخطئ في حسابك.»
فأخذ مرميس المصباح، وسار في ذلك الرواق حتى انتهى إلى أن رأى منها نور الفجر، وأطل فوجد أنها مشرفة على نهر التيمس، فقال في نفسه: «هذا الذي كنت أتوقعه.»
ثم عاد إلى رفاقه، وقال لهم: «إني لم أخطئ بحسابي، فهلموا بنا أدلكم على المكان الذي تهدم في الدهليز تحت هذا القبو.»
فأذعنوا له، وسار أمامهم في الرواق حتى انتهوا إلى المكان الذي خسفت أرضه، فقال الإرلندي: «لم يكن لدي ريب أن أرض القبو قد انشقت من الانفجار.»
أما مرميس فإنه نزل من ذلك الثقب، فصادفت رجلاه صخورا فأخذ المصباح من شوكنج وتوارى عن الأنظار.
وبعد خمس دقائق عاد إلى رفاقه، فقال: «إن الرئيس قد نجا دون شك.»
وصاحت فاندا صيحة فرح، قائلة: «أأنت واثق، يا مرميس؟» - دون شك فاتبعوني، وسوف ترون.
ثم سار بهم إلى جهة النافذة.
وكانت أرض القبو رطبة ، فجعل مرميس يدلهم على آثار الأقدام فيها حتى وصلوا إلى النافذة فاختفت تلك الآثار.
فقال لهم مرميس: «أعلمتم الآن كيف نجا الرئيس وميلون؟!»
ثم أشار بيده إلى النهر، وقال لهم: «إنهما من أمهر الناس في السباحة، وقد وثبا من هذه النافذة إلى النهر على أمواجه إلى جسر لندرا.»
فركعت فاندا عند تلك النافذة، وجعلت تشكر الله.
9
بعد ثمانية أيام من هذه الحوادث كان مرميس وفاندا في الدور الأول من منزل في زقاق سانت جورج في شارع وينغ، وقد أوشك الليل أن يقبل وأنيرت مصابيح الغاز.
وكان الاثنان جالسين عند نافذة يتحدثان بصوت منخفض، وينظران إلى الطريق من حين إلى حين كأنهما ينتظران قدوم زائر.
أما فاندا، فقد كانت مقطبة الجبين تقول لمرميس: «قد ذهبت مساعينا أدراج الرياح؛ فإننا نبحث منذ ثمانية أيام عن روكامبول ولا نجده، رباه! ألعله مات؟»
وأجابها مرميس: إن ذلك محال؛ لأنه لو كان قضي عليه وعلى ميلون غرقا لوجدوا جثتيهما. - من يعلم؟ واأسفاه! - إني رأيت جميع الغرقى الذين أخرجوهم من النهر، ثم إنك تعلمين مهارتهما في السباحة ... - إذا، ما جرى لهما؟ - إنه سر لا بد أن نهتدي إليه. - ولكن الإرلنديين قد بحثوا عنه في كل مكان، وأخبرتنا اليوم مس ألن أن البوليس الإنكليزي لم يقبض عليه، فهل هي واثقة من ذلك؟ - دون شك. - كيف تجزم بهذه الثقة؟ - ذلك لأن اللورد بالير بات يحب الإرلنديين الآن بقدر ما كان يكرههم؛ فإن ابنته قد حملته إليهم وهو لورد وعضو في المجلس الأعلى؛ أي إنه يحق له تفقد السجون ومعرفة ما لا يعرفه سواه. - إن ما تقوله، يا مرميس، يدعو إلى الاطمئنان غير أني لا أزال مضطربة البال على الرئيس. - ممن تخافين عليه؟ - من ألد أعدائه، وهو الأسقف بترس توين.
فهز مرميس كتفيه، وقال: «أما أنا فلا أخاف هذا الأسقف؛ فليس هو من أكفائه.» - ولكننا إن كنا لم نهتد إلى روكامبول، فكيف هو لم يهتد إلينا؟ ألعله لم يبحث عنا لاعتقاده أن الصخور سحقتنا في الدهليز؟
فلم يجبها في البدء، بل أطرق مفكرا ، ثم قال: «إن الرئيس قد يكون برح لندرا، ولكننا أسأنا إليه إساءة لا تغتفر.»
فدهشت فاندا، وقالت: نحن أسأنا إليه؟! - دون شك، ألا تذكرين حين كان يهم بوضع النار في الفتيل ما قاله لنا، وهو أنه قد يموت بالانفجار، وأنه يجب علينا أن نتم أعماله. - نعم، أذكر ذلك، وقد أمرنا أن نذهب إلى امرأة تدعى بيتزي، وأعطاني نوطا إذا أريتها إياه أعطتني ما لديها من الأوراق. - هو ذاك، فهل فعلنا شيئا من هذا؟ - كلا، ولكننا كنا نرجو لقاءه بعد وثوقنا من نجاته. - وهنا أصل الخطأ؛ لقد كان يجب أن نبدأ أبحاثنا عن بيت هذه المرأة، لأن الرئيس لا بد أن يكون ذهب إليها. - لقد أصبت يا مرميس، وقد كان يجب أن يخطر لنا هذا الخاطر من قبل، فهلم بنا إليها. - كلا؛ إذ يجب أن ننتظر الآن. - ننتظر من؟ - الزعيم الإرلندي، سيزورنا ليخبرنا بنتائج أبحاث الإرلنديين عن رئيسنا.
ولم يكد يتم حديثه، حتى رأى من النافذة ذاك الزعيم قادما مع شوكنج.
وبعد حين دخل الزعيم وشوكنج وعليهما علائم الكآبة.
فقال مرميس مخاطبا الزعيم: «ماذا فعلتم؟» - بحثنا بحثا مستفيضا فلم نظفر بشيء.
وتابع مخاطبا شوكنج: «إننا قد انتهينا حيث يجب أن نبدأ.» - ماذا تعني؟ - أتعرف شارع أدم ستريت؟ - دون شك ... - اذهب، وائتنا بمركبة.
فخرج شوكنج، وقال مرميس للزعيم الإرلندي: «أرجو أن تصبر إلى الغد فتجمع رجالك.» - لماذا؟ - لأني أتوقع شيئا جديدا. - كما تريد.
وبعد هنيهة عاد شوكنج، وقال: «إن المركبة عند الباب.»
وودع الزعيم مرميس على أن يجتمعا في الغد وانصرف.
أما مرميس فإنه قال لفاندا: «هلم بنا ولنسرع جهد الإمكان.»
وسأله شوكنج: «ألا تأذن لي بالذهاب معكما؟» - تعال معنا إن أحببت.
ثم ذهب الثلاثة بالمركبة إلى شارع وينغ، ووقفت المركبة عند مدخل زقاق أدم ستريت لتعذر دخولها في الزقاق.
ونزلوا من المركبة، وساروا في ذاك الزقاق حتى وصلوا إلى بيت بيتزي؛ لأن الرئيس أخبرهم بنمرته، فاهتدوا إليه.
وكان المنزل حقيرا تدل ظواهره على فقر ساكنيه، وهو مؤلف من ثلاثة أدوار يدخل إليه من رواق ضيق مظلم.
وكان يوجد عند الباب خمارة فسأل مرميس صاحبها عن بيت بيتزي، فقال له: إنها تقيم في الدور الأعلى ... - أتعلم إن كانت في البيت؟ - نعم؛ فإنها لم تخرج منه منذ عدة أيام، لأنها مريضة. •••
وصعد الثلاثة إلى ذلك البيت وقرع مرميس الباب، فسمع صوتا ضعيفا يقول له: «ادخل.»
فدخل مرميس مع رفيقيه، ووجد تلك المرأة نائمة على مقعد، وهي شديدة الهزال.
ولما رأتهم بيتزي، قالت لهم: «ألعلكم آتون للذهاب بي إلى السجن كما فعلتم بزوجي المنكود، ثم تشنقونني كما شنقتموه؟»
وأجابها مرميس: «كلا، أيتها العزيزة، فما نحن من رجال الشرطة، بل من الأصدقاء.»
وتأوهت قائلة: «أحق ما تقولون أم أنتم تخدعونني؟» - بل إنا نقول الحق، يا سيدتي، فنحن أصدقاء الرجل العبوس.
وارتعدت بيتزي، وقالت بلهجة السرور: «الرجل العبوس، ألعله خرج من السجن؟» - نعم، يا سيدتي.
ثم نظر إلى فاندا نظرة يأس؛ لأنه أيقن من سؤال بيتزي عن روكامبول أنه لم يأت إليها، فانقطع آخر رجاء كان باقيا لديه من البحث عنه.
أما فاندا فقد تمكن اليأس منها، وقالت بصوت خنقته العبرات: «ويلاه! إنه مات، يا مرميس.»
وجلست بيتزي في سريرها، وقد اضطربت اضطرابا شديدا، وقالت: «من الذي مات؟»
ثم جعلت تنظر إلى الثلاثة نظرات القلق والجزع.
10
وساد السكوت هنيهة إلى أن بدأت بيتزي الحديث، وقالت: «إنكم مخدوعون ... إن ذلك لا يمكن أن يكون، إن الرجل العبوس لم يمت.»
وقال مرميس: «عسى الله أن يحقق رجاءنا.» - إن الرجل العبوس وعد زوجي توما أنه سيعاقب المجرمين، وينتصر للمظلومين، فلا يأذن الله بموته قبل أن يقضي هذه المهمة الشريفة، وهذا الواجب المقدس.
فقال شوكنج: «وأنا أرى رأيك، يا سيدتي؛ فإن الله أرأف من أن يقضي عليه هذا القضاء.»
ونظرت بيتزي إلى مرميس، وقالت له: «ماذا أتيتم تعملون عندي؟» - أتينا لنبحث عن الرجل العبوس. - وأنتم أصحابه كما تقولون؟! - بل نحن تلاميذه، بل أبناؤه.
ورأى مرميس أنها مرتابة بهم، فقال لها: «إننا حين فارقنا الرجل العبوس قال لنا قد يتفق أن لا يكون لقاء بعد هذا، ثم أمرنا أن نحضر إليك.» - عندي أنا؟ - نعم، وأن نسألك باسمه إعطاءنا الأوراق.
وازداد ارتيابها عندما سمعت ذكر الأوراق، وأجابت: «كلا، لا يمكن أن تكونوا قادمين من قبله.»
فقال لها شوكنج: «أقسم لك، يا سيدتي، إن ما قاله لك أكيد لا ريب فيه.» - ولكني لا أستطيع التصديق.
وأخذ مرميس يدها بين يديه، وقال لها: «انظري إلي، يا سيدتي، أتجدين بين ملامحي ما يدل على أني من الكاذبين؟»
فتلجلج لسانها، وقالت: «لا أعلم.» - ثقي، يا سيدتي، واعلمي أنه إذا كان الرجل العبوس قد مات، فإنك تخطئين خطأ شديدا لعدم ثقتك بنا. - إني لا أستطيع التفكير إلا بأمر واحد. - ما هو، يا سيدتي؟ - هو أنه حين ذهبوا بزوجي المنكود إلى السجن قال لي: «احذري أن تسلمي الأوراق لأحد.» - أحتى للرجل العبوس؟! - كلا، فإني أسلمه كل شيء. - ولكن، الرجل العبوس هو الذي أرسلنا إليك. - هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
فسألها شوكنج: «ألا تعرفينني يا سيدتي؟» - كلا، لكن يخال أني رأيتك مرة ولا أذكر أين. - إني أدعى شوكنج.
وكأنما هذا الاسم قد نبه حواس بيتزي، فقالت: ألعلك شوكنج المتسول؟ - هو بعينه. - قد عرفتك، ولكن ذلك لا يبرهن لي على أنكم قادمون من قبل الرجل العبوس. - ولكني صديقه. - كيف تثبت ذلك؟ - أتعرفين، يا سيدتي، الأب صموئيل؟ - أعرفه وأجله غاية الإجلال. - إن جئت به، وقال لك إننا قادمون من قبل الرجل العبوس، أتعطينا الأوراق؟ - دون شك.
ونظر شوكنج إلى مرميس كأنه يستشيره.
فأجابه: إن الرئيس قد أصدر إلينا أوامره، ولا بد من إنفاذها، غير أني أعتقد أنه لا يزال في قيد الحياة. - وأنا أعتقد اعتقادك. - ولكن يجب علينا تنفيذ أوامره كأنه قد مات. - وأنا أرى رأيك أيضا. - لكن أين نجد الأب صموئيل الآن؟ - أنا أتعهد بإحضاره إن كنتم تنتظرونني في هذا المنزل. - ننتظرك، فاركب مركبة، وسر بها على عجل.
فقالت بيتزي: «ليقل لي الكاهن إن الرجل العبوس أرسلكم، أسلمكم الأوراق.»
وجعل مرميس ينظر إلى الغرفة متفقدا باحثا فقالت له: «لو بحثت طول العمر عن هذه الأوراق لما وجدتها.»
أما شوكنج، فإنه انصرف، وجلس مرميس وفاندا عند سرير بيتزي. •••
كان شوكنج يعلم أن الكاهن يقيم في قبة الكنيسة، فركب عربة بغية الإسراع، وذهب توا إليها، وطرق الباب، ففتح له حارس الكنيسة، وهو ذلك الشيخ الذي تقدم لنا وصفه في الأجزاء السابقة.
وكان الشيخ يعرف شوكنج حق العرفان لكثرة ما كان من تردده مع روكامبول إلى زيارة الكاهن، فقال له: لقد مضى عهد طويل لم أرك فيه، فأين كنت؟! - كنت في فرنسا، وأنا قادم الآن لمقابلة الكاهن في شأن خطير، فهل هو في القبة؟ - نعم فاصعد إليه.
فصعد شوكنج، وكان الكاهن يصلي، فانتظر إلى أن فرغ من صلاته، فقال له: «إنك تعلم، يا سيدي، أني صديق الرجل العبوس، بل خادمه المطيع.» - دون شك. - أتؤيد ذلك بشهادتك إن دعيت إليها؟ - دون ريب. - إذا، أتوسل إليك، يا سيدي، أن تذهب معي. - إلى أين؟ - إلى بيت في أدم ستريت؟ - إني أعلم إلى أين تريد الذهاب بي، أليست صاحبة هذا البيت تدعى بيتزي؟ - نعم. - وهي لم تصدق أنكم جئتم إليها من قبل الرجل العبوس؟ - هو ذاك، يا سيدي، إلا إن شهدت أمامها على صدق كلامنا. - هلم بنا؛ فإني ذاهب معك.
ونظر شوكنج إليه نظر الفاحص، وقال له: «ألعلك تعلم، يا سيدي حديث الأوراق؟» - نعم. - من الذي حدثك به؟ - الرجل العبوس نفسه.
فصاح شوكنج صيحة الفرح قائلا: «إذا كان ذلك فلا شك أن الرجل العبوس حي يرزق.»
أما الكاهن فإنه لم يجب.
11
ولما خرجا من القبة إلى ساحة الكنيسة أخذ شوكنج يد الكاهن، وقال له بلهجة تدل على القلق: ألم تقل، يا سيدي، إنك رأيته؟ - من؟ - الرجل العبوس. - رأيته دون شك. - متى اليوم أو البارحة؟ - لا اليوم ولا البارحة، بل رأيته منذ أسبوعين في سجن نوايت.
فصاح شوكنج صيحة يأس، وقال: «إن كان ذلك فإنك لا تعلم شيئا عنه؟»
فنظر إليه الكاهن نظرة المنذهل، وقال: «كيف ذلك؟» - يظهر ياسيدي أنك لا تعلم بما حدث ، وأن الرجل العبوس قد أفلت من سجن نوايت. - بل أعلم. - إذا، أنت تعلم أين هو الآن؟ - كلا. - أما نحن فنحسبه من الأموات.
فلم يجبه الكاهن بشيء، ولم يظهر عليه شيء من دلائل الأسف كأنما هذا الخبر لم يؤثر عليه.
فقال له شوكنج: إنك تعلم، يا سيدي، دون شك، من أموره أكثر مما نعلم. - ربما ...
فانقطع شوكنج عن السؤال، ولكنه رسخ في ذهنه أن روكامبول لم يمت، وأنه يؤثر الاحتجاب لأغراض خفية إلا عن الكاهن.
ثم خرجا من ساحة الكنيسة إلى الشارع حيث كانت تنتظرهما المركبة، فسارت بهما إلى بيت ييتزي، وكان مرميس واقفا ينتظر عند الباب فلما رأى الكاهن قال له: «أسرع، أسرع.»
فقال شوكنج: «ماذا حدث؟» - إن المرأة مشرفة على الموت، وقد أريتها النوط الذي أعطانا إياه الرجل العبوس، فأصرت على عدم الثقة بنا. - ولكن ما أصابها؟ - إنها أصيبت بعد انصرافك بنوبة عصبية عقبها ضعف شديد، وهي تكاد لا تستطيع التنفس الآن.
ثم دخلوا جميعهم إلى غرفة بيتزي، فرأوها ممدودة على سريرها، وهي تشبه الموتى.
غير أنها حين رأت الكاهن مقبلا تجددت قواها فجأة، واتقدت عيناها ببارق من السرور فقالت: «لقد كنت أخشى أن أموت قبل وصولك.»
فأخذ الكاهن يدها، وقال: «تشجعي، يا ابنتي.» - إنك تعرف مبلغ صبري، يا سيدي، حق العرفان، لكني خشيت أن يذهب دم زوجي هدرا ...
ثم أشارت بيدها إلى شوكنج، وقالت: «أتعرف هذا الرجل؟» - نعم. - أهو من أصدقاء الرجل العبوس؟ - نعم ... - أهو آت من قبله؟ - نعم. - إذا، لا بأس من أن أرشده إلى مكان الأوراق. - دون شك ...
فجلست عند ذلك بيتزي في سريرها، وقالت بصوت خافت: «إذا، أصغوا إلي، أتعرفون كنيسة روتهتيت؟!»
فأجابها الكاهن: نعم. - إنها محاطة بمقبرة كسائر كنائس لندرا، فاعلموا أنه يوجد في هذه المقبرة ضريح مكتوب عليه اسم (روبرت)، وعلى هذا القبر صليب من الحديد، لا يوجد سواه على شكله في تلك المقبرة الصغيرة بحيث لا يصعب عليكم إيجاده.
فقال لها مرميس: «ألعلك خبأت الأوراق في ذلك القبر؟» - نعم ... - حسنا فسننبشه ونخرج منه الأوراق. - ولكنكم لا تستطيعون ذلك؛ لأن الأبواب مقفلة في الليل. - اطمئني، يا سيدتي، فإننا نكسر الأبواب ...
فقال شوكنج: «لا حاجة إلى ذلك؛ فإني أعرف طريقة تمكننا من الدخول إلى المقبرة دون أن نكسر أبوابها.»
وقال الكاهن: «وأنا أعرف أيضا الطريقة السرية.»
فقال مرميس: «إذا، لنذهب.»
وقالت فاندا: «أما أنا، فيجب أن أبقى لدى هذه المرأة، إلى أن تنفرج أزمتها.»
فأجابتها بيتزي بصوت ضعيف: «إنك لا تقيمين كثيرا، يا سيدتي؛ فإني أشعر بدنو الأجل، ولكني لا أموت مطمئنة إلا إذا أيقنت أنكم استوليتم على الأوراق.»
فأجابها الكاهن قائلا: «إننا نعود حين نخرجها.»
ثم تقدم مرميس وشوكنج فتبعاه، حتى إذا وصلا إلى الشارع قال لهما الكاهن: «إن هذه المقبرة أحد الأماكن التي يجتمع بها الإرلنديون، وسندخل إليها من الطريق الذي يسلكه الإرلنديون، وهو طريق لا تعلمونه، ولكن الرجل العبوس يعلمه.»
فقال له مرميس: «أراك تحدثنا عن الرجل العبوس، أتعلم ما جرى له؟!» - إنه نجا من السجن. - وبعد ذلك؟
فاضطرب الكاهن، ولم يجب.
فقال له مرميس: «إننا نخشى أن يكون قد مات.» - كلا. - أأنت واثق أنه لا يزال في قيد الحياة؟ - ربما ... - ألعلك رأيته؟ - كلا، ولكني أؤكد لك أنه لم يمت.
فخفق قلب مرميس خفوقا شديدا، وقال: أسألك، يا سيدي، بالله أن تخبرنا بما تعلمه عن الرجل الذي تدعونه أنتم الرجل العبوس، وندعوه نحن الرئيس ... - إني لا أستطيع أن أقول شيئا، ولكني أقتصر على القول إنه حي معافى وإنكم سترونه يوما.
فانقطع مرميس عن الإلحاح، وذكر أن روكامبول قد غاب عنهم مدة طويلة منذ أربعة أعوام، ثم عاد إليهم فجأة دون انتظار.
وما زال الثلاثة سائرين إلى المقبرة حتى وصلوا إلى خمارة مجاورة لها، فطرق شوكنج بابها، فلم يفتح، فعاد إلى الكاهن، وقال: «إني لا أعرف كلمة المرور، يا سيدي.» - أنا أعرفها. ثم دنا من الباب فوضع فمه عند ثقب القفل، وقال بضع كلمات باللغة الإرلندية الاصطلاحية، ففتح الباب.
وقد ذهب صاحب تلك الخمارة حين رأى الأب صموئيل، وقال: «ليس اليوم موعد اجتماع.» - هو ذاك، ولكننا قادمون إلى المقبرة.
وكان صاحب الخمارة يعرف شوكنج، ولكنه لا يعرف مرميس، فلما رآه الأب صموئيل ينظر إليه نظرة إنكار، قال له: «إنه صديق الرجل العبوس.»
فحياه الرجل باحترام، ثم أوقد مصباحه، وقال لهم: «اتبعوني.»
12
وقد تقدمهم بعد أن أقفل باب الخمارة إلى باب سري فيها، فانجلى عن قبو، فلما دخلوا إلى ذلك القبو قال الكاهن لصاحب الخمارة: «لم يعد لنا بك حاجة فعد إلى خمارتك.» - ألا تنتظر قدوم أحد بعد؟ - كلا.
فعاد الرجل إلى الخمارة، ومشى الكاهن أمام مرميس وشوكنج حتى وصل بهما إلى دهليز، فساروا منه إلى المقبرة.
وكان الظلام حالكا، غير أن الكاهن كان يعرف موضع القبر فسار بهما إليه.
فقال له مرميس: «ألعلك كنت عارفا بوجود الأوراق في الضريح؟!» - كلا، ولكني أعرف شيئا مما تحويه؛ فقد جاءني رجل منذ ثلاثة أشهر، وقال لي إنه يريد أن يحدثني بأمره، وكان هذا الرجل توما زوج بيتزي. - ألم يكن قبض عليه في ذلك العهد؟ - كلا، وأخبرني بأمره، وتوسل إلي أن أساعده لاعتقاده أني قادر على إنجاح مسعاه،
غير أنه كان لنكد طالعه إيكوسيا (أي بروتستانتيا) ولا يقدم الإرلنديون على مساعدة أعدائهم.
فلما أخبرته بذلك، ودعني وداع القانط وانصرف، فكان هذا آخر عهدي به.
وبعد ذلك بيومين قتل توما اللورد أفندال. - ألم تقل له شيئا عن الرجل العبوس؟ - كلا. - كيف عرف الرجل العبوس حكايته؟! - إنه اجتمع به في سجن نوايت. - إذا، لا شك أن الرجل مظلوم؛ فإن الرئيس لا يعمل إلا لنصرة المظلومين.
وعند ذلك وصلوا إلى القبر، وكان الظلام حالكا، فحاول شوكنج أن ينير المكان كي يقرأ الاسم، فمنعه الأب صموئيل، وقال له: «لا حاجة إلى النور؛ فإني أعرف هذا الضريح.»
فقال مرميس: «ولكننا لم نحضر الآلات لنبش القبر!» - لا حاجة إلى ذلك؛ فإن الضريح مسدود بحجر يزاح دون عناء فينكشف عن حفرة وضع فيها التابوت.
فظهرت علائم الرعب على شوكنج، فقال له مرميس: ألعلك خفت؟ - بعض الخوف. - لماذا؟ - لأنه ينبغي أن تكون الأوراق في التابوت، ولا أطيق النظر إلى الجثث البالية. - إذا، ابق مكانك؛ فأنا أتولى الأمر عنك.
ثم أزال الحجر، ونزل إلى الحفرة، وجعل يبحث بيديه عن التابوت لاشتداد الظلام، فعثر بأربعة توابيت؛ لأن هذا القبر كان من القبور العمومية، ففتحها وجعل يبحث فيها حتى عثر بلفافة ضخمة من الورق ملفوفة بقطعة من القماش المشمع الأسود.
فأخذها، وصعد من الحفرة، ووجد شوكنج واقفا بعيدا لفرط ما ألم به من الرعب.
فناداه مرميس قائلا: «لا تخف؛ فقد قضي الأمر.»
ثم رد الحجر إلى موضعه، وخرجوا جميعهم من المقبرة إلى الخمارة، ثم انصرفوا منها إلى بيتزي، فوجدوا تلك المنكودة في حالة الاحتضار.
فأخذ الكاهن الأوراق وأراها إياها، فلما رأتها قالت: «هي، هي بعينها فلأمت الآن مطمئنة البال.»
وكان ذلك آخر ما قالته، وما زالت الروح تحشرج في صدرها، وجميعهم راكعون يصلون حتى أخرجت النفس الأخير.
فأقام الثلاثة مع فاندا كل تلك الليلة عند سريرها، وقد فتح مرميس تلك الأوراق فوجدها دفترا ضخما مكتوبا عليه هذا العنوان الغريب:
مذكرة مجنون
ففتحه، وجعل يقرأ بصوت مرتفع ما يأتي:
13
إن جبال شفيوت تفصل بين إيكوسيا وإنكلترا، وهي جبال شامخة تناطح السحاب وقد لبست عمامة من الثلوج لم تخلعها منذ الأزل.
ويحيط بهذه الجبال غابات كثيفة ووديان فرشت ببسط الخضرة، فكانت خير مرعى للماشية.
وكان على بعد ثلاثة مراحل من هذه الجبال قصر شاهق، يدعى قصر باميلتون، بني قبل أن تأخذ إنكلترا الممالك الثلاث، في ذلك العهد الذي كان لكل نبيل فيه جيش يحارب فيه أعداءه النبلاء، فكان أشبه بالحصن المنيع.
فلما توحدت تلك الممالك تحت ظل العلم الإنكليزي، وبطلت سيادة الأفراد، بنى أصحاب هذا الحصن قصرا جميلا بجانبه، وكانوا يصطافون فيه.
وكان صاحب هذا القصر يدعى اللورد باميلتون، وهو من أعضاء المجلس الأعلى في لندرا.
وقد احتفظ بلقب البارون الأيكوسي على كونه من اللوردية لفرط إعجابه بهذا اللقب القديم الذي ورثه من آبائه.
وقد قضى هذا اللورد نحبه في معركة نافارين، وهي المعركة التي اتحدت فيها فرنسا وإنكلترا على تركيا فأخرجتا أسطولها من المياه اليونانية.
وقد مات عن زوجته وولدين، يدعى أكبرهما اللورد أفاندال باميلتون، وكان عمره حين موت أبيه ثلاثة أعوام، وعمر أخيه الأصغر ثمانية عشر شهرا.
فلما علمت اللادي باميلتون خبر قتل زوجها في تلك المعركة برحت لندرا فجأة، وجاءت بولديها، ولكنها لم تقم في ذلك القصر الذي كانت تقيم فيه كل صيف؛ بل أقامت في ذلك الحصن القديم.
وقد حدثت أمور غريبة اتسع بعدها للناس مجال الظنون؛ فإنها أمرت بزيادة تحصين الحصن، ودعت إليها جميع الفلاحين الذين في أراضيها، وهم يشبهون الجيش.
فاختارت أشدهم، وأقامتهم في القصر، ثم عرضت عليهم ولديها واستحلفتهم بخالق السموات والأرض أن يحرصوا على الولدين، فأقسموا، وأردفوا القسم بالهتاف العظيم لها وللولدين.
غير أن نفوسهم شغلت بهذا التحفظ الشديد، وبسكنى ذلك الحصن الذي لم تكن تقيم فيه تلك الأسرة إلا في القرون الوسطى!
وقد أشكل فهم هذا الأمر إلا على رجل أيكوسي يدعى توما كان شقيق امرأة اللورد بالرضاع.
فإنها حين تقدمت إلى ذلك الحصن جعل ينام على كرسي عند باب غرفة الولدين كل ليلة، وبيده المسدس، بينما كان الحراس يرودون عند أبواب القصر في الليل والنهار.
وكانت هي تسير بينهم متفقدة أعمالهم، ولا تغفل عنهم طرفة عين.
وقد استمرت على ذلك ثلاثة أشهر؛ فكثرت فيها الأقاويل، وأجمع الناس على أنها فقدت صوابها إثر نكبتها بموت زوجها، ما خلا ذلك الأيكوسي توما؛ أي شقيقها بالرضاع.
فإنه كان ينفي هذه الظنون، ويثبت أنها على أتم حالة من العقل، وأنها مضطرة إلى ما تبديه من الحذر.
غير أنه لم يكن يزيد على هذه الأقوال شيئا، فاختلف الناس بين مصدق ومكذب لأقواله.
وبعد أن تمت الأشهر الثلاثة أرجعت الفلاحين إلى حقولهم، وغادرت ذلك الحصن مع ولديها إلى القصر، فعاد الناس إلى التحدث، وجعلوا يقولون إنها شفيت من الجنون.
أما السبب في رجوعها عن ذلك الحذر وعودتها إلى سكنى القصر فهو أنه وردت إليها رسالة برقية من لندرا كما يأتي:
سافر السيد أرثر صباح اليوم إلى الهند.
والسير أرثر هذا شقيق زوجها الأصغر، فكأنها كانت متحذرة منه حتى إذا أيقنت من سفره اطمأن بالها، ولم تعد في حاجة إلى الحذر.
وفي اليوم التالي لوصول هذه الرسالة زارها في قصرها رجلان أحدهما يدعى اللورد أسكولت والثاني البارون جمس.
أما الأول فهو أبوها، والثاني فهو أخوها، وكان كلاهما في لندرا، وإنما قدما لزيارة اللادي، لما اتصل بهما من أنباء مناهجها، ولخوفهما أن تكون أصيبت بالجنون.
فلما رأتهما استقبلتهما بالبكاء، ولم يريا من حديثها وتصرفها ما يدل على الجنون.
ولكنهما لم يجدا بدا من سؤالها عما اتخذته من أسباب الاحتياط، خلال الشهور الثلاثة.
فأبت اللادي أن توضح لهما الأسباب، فاستعان اللورد بسلطته الأبوية، فلم تجب، فألح عليها فلم يفلح حتى غضب وأنذرها بتجريدها من حق الوصية على ولديها.
فاسترسلت عند ذلك إلى البكاء، وركعت أمام أبيها، وقالت له: «إني أعلم، يا أبي، أنه لا يحق لي عصيانك، ولكني أعلم - أيضا - أني إذا بحت لك بالأسباب التي دعتني إلى الاحتياط فطر الحزن قلبك! فأتوسل إليك أن تأذن لي بالكتمان.»
ولكن اللورد أبى أن يجيبها إلى التماسها، فدخلت به عند ذلك إلى غرفتها ففتحت خزانة وأخرجت منها دفترا مكتوبا بخط كادت تمحو سطوره الدموع! فدفعته إليه، وقالت: «إني كتبت حكاية نكبتي، يا أبي، في هذا الدفتر فاقرأ.»
ثم غادرت أباها في الغرفة وانصرفت.
أما اللورد أسكولت فإنه أقام في الغرفة يقرأ نحو ساعة، ثم عاد إلى ابنته وقد امتقع لونه، واصفر وجهه، حتى بات كالأموات، فضم ابنته إلى صدره، ومزج دمعه بدمعها، ثم قال لها: «إني بلغت من الكبر عتيا؛ فلا أستطيع الانتقام لك، ولكن أخاك لا يزال في عنفوان الشباب وهو سيكون ساعدي في الانتقام.»
أما هذا السر الهائل الذي وقف عليه اللورد، فلا بد لنا لإيضاحه من نقل جميع ما حواه ذلك الدفتر، الذي أعطته إياه اللادي، وهذا بيان ما قرأ.
14
إن أسرة دندري، التي كان اللورد أسكولت رئيسها، كانت من أهل نورمانديا.
وهي قديمة تتصل بعهد الدوق غليوم اللقيط الذي سئمت به نفسه الكبيرة وبات يدعى الملك غليوم الفاتح، فاتصلت هذه الأسرة بالأسرات النبيلة الإنكليزية منذ ذلك العهد.
وقد أخذ اللورد أسكولت يهتم بتزويج ابنته مس أفلين حين بلغت السادسة عشرة من عمرها.
ومثل هذه الغنية النبيلة الحسناء لم يكن يعوزها الخطاب؛ فقد رغب بها معظم النبلاء، غير أنها كانت مخطوبة منذ عهد بعيد حسب الطريقة الإنكليزية إلى اللورد باميلتون.
وكان للفتاتين قصران متجاوران، فكان الخطيبان متصلين منذ عهد الحداثة.
ولما بلغت الفتاة العاشرة من عمرها والفتى ثمانية عشر عاما، عقدت بينهما الخطبة، وسافر اللورد أفندال إلى الهند في إحدى الدوارع لانتظامه في الخدمة البحرية.
وكان لهذا اللورد شقيق أصغر منه يدعى جورج، كان يزور خطيبة أخيه كل يوم مدة خمسة أعوام، حتى ارتفع حجاب الكلفة بينهما، ثم حل في قلبيهما الحب.
وكانت الفتاة لا يطيب لها عيش بغير لقائه، وكان السير جورج يتمنى أن تهب عاصفة فتغرق الدارعة التي يخدم أخوه فيها.
وبقيا على ذلك إلى أن تغلب الحب فباح به السير جورج لخطيبة أخيه، فأجفلت أفلين، وقالت: «أيها التعس، ألا تعلم أني خطيبة أخيك؟» - نعم، أعلم واأسفاه! ولذلك عزمت عزما أكيدا لا يثنيني عنه شيء؛ فإني إذا فرضت أن أخي يتخلى لي عن حقه بخطبتك فإن عائلتنا لا توافق على زواجي بك؛ لأني الأخ الأصغر؛ أي إن كل ثروتنا وألقابنا لأخي الأكبر بفضل شرائعنا الجائرة.
ثم تنهد تنهدا طويلا، وقال: «إني عولت على الرحيل وسأسافر اليوم.»
وسالت دمعة من عين الفتاة، وقالت: «إلى أين تسافر؟» - إلى لندرا في البدء. - وبعد ذلك؟ - أرحل إلى الهند حيث يقيم أخي وأخدم في الجيش.
وتنازع قلب الفتاة عاملان: عامل الحب وعامل الشرف والواجب، إلى أن تغلب الواجب.
ثم مدت يدها إلى السير جورج، وقالت له: «الوداع.» - إنه وداع الأبد.
وفي اليوم نفسه سافر إلى لندرا، ثم برحها إلى الهند.
وكان أبوه لا يزال في قيد الحياة حين سفره، ثم مات بعد ستة أشهر، فورث أخوه الأكبر خطيب حبيبته جميع ثروته ولقب باللوردية والمنصب في البرلمان، فاضطر إلى الرجوع إلى لندرا.
وبعد ذلك بعام تزوج مس أفلين، فخفف توالي الزمن تأثير وجدها، وكانت تفتكر من حين إلى حين بذلك الفتى المنكود، الذي هرب من أجلها إلى الهند.
ولكن زوجها كان يحبها حبا صادقا، وباتت أما، فأنساها الواجب ومرور الأيام والأمومة وحب زوجها ذلك الحب القديم.
غير أن القدر أبى إلا أن يتداخل؛ لأن زوجها على كونه بات من أعضاء البرلمان أحب أن يحتفظ بمنصبه في البحرية.
وكانت الحرب قد نشبت في ذلك العهد بين تركيا وفرنسا وإنكلترا، وكثرت غزوات قرصان البحار وسافر زوجها مع الأسطول، وعادت هي إلى لندرا مع ولديها.
وكان قد صدر الأمر إلى الأسطول بالسفر بأوامر مختومة لا تفتح إلا في جزيرة مادير.
ولم تكن اللادي أفلين تعلم الجهة التي سافر إليها زوجها، ولا تدري من أموره سوى أنه سافر في دارعة تدعى مينوتور.
وطال غياب زوجها، وأقامت وحدها تنتظر قدوم الغائب وتتنهد.
وإن العزلة مستشار سيئ - كما يقولون - فإن تذكار السير جورج عاد إليها بعد أن محته الأيام من صفحات قلبها.
فبينما كانت جالسة ذات ليلة عند نافذة مشرفة على الحديقة رأت رجلا فتح باب الحديقة بمفتاح ودخل إليها، فصاحت صيحة رعب دون أن تتبين وجه هذا الرجل.
وأخذت الحبل المعلق به جرس الخدم، وجذبته استدعاء لهم، فلم يحضر لنجدتها أحد من الخدم.
فأوشكت أن تجن من رعبها، وأسرعت إلى الباب قبل أن ترى وجه الرجل.
ولكن هذا الرجل أسرع إليها، فقبض عليها، وقال لها بصوت يتهدج: «ما هذا الرعب، يا أفلين، ألم تعرفيني؟!»
فذهلت ذهولا قويا، وقالت: ماذا أرى؟ السير جورج! ...
فركع جورج عند قدميها، وقال لها: «نعم، أنا هو ذلك المنكود شقيق اللورد أفندال.»
15
فأنكرت اللادي أفلين دخوله عليها دخول اللصوص، وقالت له: «كيف أتيت إلى هنا؟»
فأجابها بلهجة حنو خففت من رعبها، وقال لها: «لا تحكمي علي، يا أفلين، حكما جائرا قبل أن تسمعي كلامي.» - ولكن من أين أنت قادم؟ - من الهند. - ألعلك اعتزلت الخدمة؟ - كلا، بل جئت بالإجازة، وربما أتيت من أجلك.
فعادوها الرعب، وقالت: «كيف تجسر أن تجيء من أجلي؟!» - ما أوحى إلي هذه الجرأة غير الحب، يا أفلين. - أيها التعس، أنسيت أني امرأة أخيك؟ - ولكن أخي بعيد.
فذعرت ذعرا هائلا، وقالت: «أعرفت أنه مسافر؟» - نعم، ومن أجل هذا أتيت.
وقد تبينت صدق العزيمة من عينيه، وأدركت مقاصده السافلة، فقالت له: «إنك، يا جورج، شقيق أفندال، وهو زوجي!» - إني أكرهه. - ولكن ألا تزال تحبني؟ - إن نيران الجحيم تتقد بين ضلوعي. - إذا كنت تحبني كما تدعي، فقد وجب عليك أن تحترمني، فاخرج الآن، وعد إلي غدا في رابعة النهار، وادخل من باب هذا القصر الكبير الذي يقيم فيه أخوك.
فقهقه ضاحكا، وقال: «إني لا أحب أن يطردني الخدم.»
ثم أخذ يدها بين يديه، وهم أن يعانقها.
وأفلتت منه إلى آخر الغرفة، وقالت له: «اذهب من حيث أتيت ... إني لا أريد أن تبقى هنا.»
فضحك ضحكا عاليا دون أن يجيب.
وهاج غضبها، وقالت له: «اذهب.» - كلا، إني أهواك. - قلت لك اذهب، أو أدعو الخدم.
وعاد إلى الضحك، ودنا منها.
وعند ذلك مدت يدها إلى حبل الجرس، وقرعته قرعا عنيفا دون أن تسمع له صوتا.
فقال لها: «اقرعي قدر ما تشائين، فلا يجيبك أحد؛ لأن الجرس مقطوع.»
فذعرت ذعرا شديدا، وجعلت تستغيث بملء صوتها. - لا فائدة من الصياح؛ فإن جميع الخدم غائبون.
فركضت إلى الباب، وحاولت أن تفتحه وتفر منه، فوجدته محكم الإقفال، فخطر لها عند ذلك أن تثب من النافذة إلى الحديقة.
غير أن السير جورج تعدى عليها، وقال: «كلا، إنك لا تخرجين.»
ثم هجم عليها، وضمها إلى صدره ضما عنيفا، فأغمى عليها، وهي بين يدي ذلك الفاجر الأثيم.
16
كانت دارعة اللورد أفندال تمخر في عباب الأوقيانوس ذاهبة في طريق ملبورن إحدى عواصم أوستراليا.
وكان كلما وقفت الدارعة في ميناء يكتب إلى امرأته كتابا ملؤه الحنو والشوق، حتى إنه أوشك أن يستقيل ويعود إلى امرأته وولده، ولكنه رأى أن بلاده في حرب، فإذا استقال عدت استقالته جبنا ونذالة.
وقد أقامت دارعته عامين في أوستراليا تطارد القرصان، ثم استدعته نظارة البحرية إلى لندرا.
فلما قدم ذهبت امرأته لاستقباله، ومعها ولدان؛ لأن الولد الثاني خلق بعد سفر زوجها.
وكانت صفراء الوجه منقبضة الصدر تبدو الكآبة عليها، فراعت هذه الكآبة زوجها، ولم يعلم سبب هذا الانقلاب.
فإنها بعد تلك الليلة الهائلة، التي قضتها مع السير جورج، كرهت معاشرة الناس، وبرحت لندرا إلى قصر باميلتون واعتزلت فيه، وهناك ولدت ابنها الثاني.
أما زوجها فقد راعه هذا التحول، ودعا لها أشهر أطباء لندرا، فأجمع أولئك الأطباء على أنها محتاجة إلى تبديل الهواء، وسافرت مع زوجها إلى إيطاليا، وأقامت شهرين في نابولي ورومة، ولكنها لم تزد في خلالهما إلا نحولا وقنوطا من الحياة.
ولم تكن تبتسم إلا لاثنين، وهما توما شقيقها بالرضاع، وولدها الأكبر، أما ولدها الثاني فإنها لم تكن تنظر إليه حتى تسيل من عينيها دموع الخجل.
ثم عادت مع زوجها إلى لندرا، وكانت فرنسا قد اتفقت مع إنكلترا على الانتصار لليونان.
واضطر زوجها أن يسافر بدارعته إلى ساحة الحرب لمقاتلة الأتراك، وعادت امرأته إلى الإقامة وحدها.
فبينما كانت يوما تتنزه في هايد بارك ومعها ولدها الأكبر وقد قرب الظلام سارت في منعطف، ولم يكن فيه أحد من المتنزهين ووراءها خادمان.
وقد توغلت في هذا المنعطف وهي تائهة في مهامه التفكير، وبينما هي على ذلك رأت أن رجلين من عامة الشعب يقتربان منها فخافت، والتفتت وراءها كي تنادي خادميها فلم تجدهما.
وعند ذلك أطبق أحد الرجلين وسد فمها كي لا تستطيع الاستغاثة، واختطف الرجل الآخر الغلام وأركن إلى الفرار.
وبعد ذلك بساعة عثروا باللادي مغمى عليها وذهبوا بها إلى قصرها، أما الغلام فلم يقف له أحد على أثر.
غير أنه لحسن حظ تلك اللادي كان توما أخوها بالرضاع مقيما معها، وقد علم لفوره الغاية من سرقة الغلام.
فإن اختطاف الغلمان كثير الشيوع في لندرا، وهم يسرقونهم كما يسرقون الأمتعة.
ومنهم من يسرق الصغار للارتزاق بهم. مثال ذلك، أن امرأة متسولة لا تكسب رزقها بسعة، إذ لا تجد وسيلة لاستدرار الرحمة والإشفاق، ولكنها إذ كانت تحمل بين ذراعيها طفلا أشفق عليها الناس، ودرت عليها الرزق.
ثم إنه يوجد كثير من المربيات يعهد إليهن بتربية الأطفال فيقتلنهم طمعا بمالهم، ثم إذا جاء وقت تسليم الطفل إلى ذويه سرقت تلك المربية طفلا في عمره، وسلمته لذويه فظفرت بالمال.
غير أن توما لم يخطر له المربيات والمتسولات؛ بل قال في نفسه لأول وهلة إن السارق هو السير جورج دون سواه.
أما اللادي أفلين فإنها لم تكن رأته منذ تلك الليلة الهائلة، ولكن توما رأى ليلة رجلا يرود في الحدائق العمومية، فعرفه بالرغم عن تنكره أنه السير جورج.
ولم يعد لديه شك أنه هو سارق الغلام، وجعل يبحث عنه في تلك العاصمة المتسعة.
وكان توما إيكوسيا، ولكنه ربي في لندرا وعرف كل خفاياها، ولم يطل بحثه عن السير جورج، وعلم أنه يقيم في زقاق مظلم في شارع وينغ، فذهب إليه وانقض على عنقه انقضاض الصاعقة، وهو لا يزال في سريره، فأشهر عليه المسدس، وقال له: «إذا لم ترجع الغلام فأنت من الهالكين.»
أما السير جورج فإنه تظاهر بالانذهال العظيم، وقال له: أي غلام تعني، أيها الشقي؟ ومتى كنت من خطفة الغلمان؟! - أعني به ابن اللادي أفلين البكر؛ أي ابن أخيك اللورد باميلتون.
فأنكر السير جورج كل الإنكار وجعل يحتج على هذه التهمة الشائنة.
غير أن توما لم يكترث لأقواله، وقال له ببرود: «إني أمهلك خمس دقائق فإذا لم ترجع إلي الغلام قتلتك دون إشفاق.»
ورأى السير جورج دلائل العزم الأكيد بادية بين عيني توما، فخشي فوات الأوان، وأقر بجميع ما فعل.
وهو أن السير جورج قد دفع ابن أخيه إلى عصابة من اللصوص، وطلب إليهم أن يربوه ويدربوه على مهنتهم، وقد دل توما إلى مكان تلك اللصوص.
فقال توما: «إني أصدق أقوالك، ولكني أود أن تذهب معي إلى اللصوص، وإذا حاولت الفرار أقتلك في قارعة الطريق.»
فارتدى السير جورج ملابسه مكرها مضطرا مع توما إلى اللصوص، واسترد منهم الغلام، ودفعه لتوما وعاد به إلى أمه.
وفي ذلك اليوم اختفى السير جورج، ومرت شهور طويلة دون أن يراه أحد.
أما غرض السير جورج من هذا الاختطاف فإنه كان يكره أخاه اللورد باميلتون ويكره امرأته التي طالما أحبها وتدله بهواها، ولكنه كان يحب ولده منها، وهو ابن اللادي الثاني، أي ابن الجريمة.
ولذلك رأى أنه إذا اختطف ابن أخيه، عادت ثروة أخيه كلها إلى ابنه، أي ابن السير جورج، لأنه معروف لدى الشرع والناس أنه ابن اللورد باميلتون.
ومن ذلك الحين تولى توما مراقبة الغلام، وكان لا يفارقه في الليل والنهار.
وكذلك اللادي أفلين؛ فإنها كانت لا تسير خطوة خارج المنزل إلا إذا كان يصحبها توما، فلما ورد إليها ذلك النبأ الهائل، نبأ مقتل زوجها في الحرب، برحت لندرا مع توما وولديها وسارت بهم إلى ذلك الحصن كما تقدم، فلبثت فيه حتى علمت أن السير جورج سافر إلى الهند، برحت الحصن إلى القصر الذي يجاوره.
17
هذا هو سر اللادي أفلين الذي كتبته في الدفتر وعرضته على أبيها اللورد أسكولت فضمها إلى صدره، وقال لها: «إني شيخ عجوز، ولكن أخاك ينوب عني في الانتقام.»
وبعد ثلاثة أشهر كان السير جمس أي أخو اللادي في الهند.
وكان السير جورج في كلكوتا حين قدم السير جمس، فلقيه في حفلة راقصة أعدها الحاكم في منزله، فدنا منه وحياه، ثم قال له: «إني قادم من لندرا بمهمة من أجلك، فأرجوك حين ينتهي الرقص أن توافيني إلى الفناء المشرف على البحر.» - سأوافيك. ثم تركه، وعاد إلى الرقص مع ابنة رجاه وافرة المال والجمال.
وبعد ربع ساعة وافاه إلى المكان المعين، فنظر إليه السير جمس نظرة منكرة، وقال له: «إني أعرف كل شيء.»
فاضطرب السير جورج، وقال له: «ماذا تعرف؟» - أعرف أنك خنت أخاك. - وماذا يعنيك أمري؟ - يعنيني منه أنك دنست شرف أختي، وأن جميع دمائك لا تكفيني لغسل هذا العار. - إني طوع لك فيما تريد. - ولكنك تعلم أننا متصلان بصلة قربى . - تريد أنك لا تود استلفات الأنظار إلى أختك. - هو ذاك. - إذا، نتبارز دون شهود. - أين؟ - في غابة على أبواب المدينة. - ليكن. - ولكن هذه الغابة لا يأوي إليها غير النمور، وغيرها من الوحوش الكاسرة. - إنها كسائر غابات الهند، فمتى تريد أن نذهب إليها؟ - غدا عند غروب الشمس؛ فتأكل الوحوش جثة من يقتل منا، ولا يدري بسرنا أحد. - قد رضيت بهذا الاقتراح، وسأوافيك غدا إلى الغابة.
وفي مساء اليوم التالي التقى الاثنان في الغابة، فلم يدر أحد ما جرى بينهما، ولكن السير جمس عاد وحده إلى كلكوتا، وقد بدأت النجوم تشرق في السماء، فكتب إلى أبيه أسكولت هذا التلغراف:
إن شرفنا سليم، وقد انتقمت لها.
وفي اليوم التالي رأى الصيادون في الغابة قطعا من ملابس الجنود الرسمية، وكان قد شاع خبر احتجاب السير جورج، فحسب الناس أن الوحوش قد افترسته في الغابة لاشتهاره بحب الصيد.
أما توما واللادي أفلين، فقد حسبا نفسيهما مطمئنين بعد ورود ذلك التلغراف.
18
بعد هذا العهد بخمسة أعوام، وذلك في شهر إبريل سنة 1834 كان اثنان يتحدثان بصوت منخفض في إحدى قاعات قصر باميلتون.
وكان المتحدثان توما وزوجته بيتزي، وهذا بيان الحديث الذي كانا يتحدثان به.
قالت بيتزي: «أعيد عليك ما قلته إن اللادي أفلين مخطئة بعودتها إلى هذا القصر.» - إني لا أوافق ولا أعترض على ما تقولين. - ولم هذا التردد في الحكم؟ - لأن اعتقادي قد يكون مخالفا للحقيقة. - أما أنا فإني على غير رأيك. - على أي شيء تعتمدين في تخطئتها؟ - على ما أجده من الضعف المتوالي بجسمها، فإنها آخذة بالانحطاط في كل يوم، وهي مصدورة، دون شك، ومناخ هذه الأرض لا يوافق المصدورين. - ربما كنت مصيبة من هذا القبيل، غير أني أصبحت الآن أرى غير رأيك؛ فإن اللادي أفلين دعتني إليها يوما منذ ثلاثة أعوام، وقالت لي: «إني أحب أن أستشيرك في أمر؛ لأنك من أصحاب الآراء الصائبة.» - تكلمي يا سيدتي. - إني منذ أشهر وأنا أحلم أحلاما هائلة، بل هي حلم واحد، ولكنه حلم يلقي الرعب في القلوب . - اشرحي لي هذا الحلم علي أستطيع تفسيره. - إن حلمي مقسم ثلاثة أقسام، أما القسم الأول فإني أرى نفسي فيه مقيمة في قصر باميلتون الجديد، أتنزه في الحديقة، يصحبني ولدي البكر وليم.
فقاطعته بيتزي، وقالت له: «أعجب لتسمية ولدها البكر وليم، ألم يكن زوجها يدعى أفندال؟!» - نعم ... - أليس العادة في بلاد الإنكليز عند اللوردية، أن يرث الابن البكر اسم أبيه أيضا فيما يرث؟ - هو ذاك. - إذا، كيف دعوه وليم لا أفندال؟ - ذلك أن أباه اللورد أفندال كان له صديق صدوق، ولما ولد غلامه البكر، أحب ذلك الصديق أن يكون عرابه فسمي الغلام باسمه وهو وليم، وسمي الولد الثاني باسم أفندال ... - لقد فهمت الآن، فعد إلى حديث الحلم. - إن اللادي قالت لي إن القسم الأول من حلمي أجد نفسي أتنزه في حديقة القصر الجديد، ويد ولدي وليم بيدي، ثم أرى فجأة أن وجه ولدي قد امتقع واصفر واستحال إلى خيال، ثم احتجب بغتة بضباب كثيف، ثم أخذ الضباب يتبدد تباعا، فأرى ولدي - إذ لا تزال يده بيدي - ولكني أرى وجهه تغير فيصير أفندال، وليس وليم.
فقلت لها: إنه حادث هائل، ولكنه حلم لحسن الحظ. - اصبر وأصغ إلى النهاية؛ فإني حين أحلم هذا الحلم أستيقظ مرعوبة كمن يصاب بالكابوس، ثم أنهض منذعرة واجفة القلب إلى غرفة ابني أتفقده وأعود إلى غرفتي فأنام. - أتحلمين أيضا؟ - نعم ... إني أحلم القسم الثاني من هذا الحلم الهائل، وهو أني أرى نفسي قد فارقت الحياة، ولم يبق من أثري غير رسم لي معلق في قاعة المنزل، وقد لبست ملابس الحداد، ولكنني وأنا أرسم كنت أشعر وأفتكر كالأحياء.
وقد وضعوني في القاعة الموجودة فيها رسوم أجداد أسرة باميلتون، وبإزائي رسم زوجي الفقيد، وكان رسمه مثلي يشعر ويتكلم فكنا نتحدث بصوت منخفض.
وكانت نوافذ القاعة مفتوحة، وأشعة القمر تنبعث إلينا، فكنا نرى منها أشجار الحديقة.
وقد رأينا رجلا يتنزه لم نكن نعرفه تصحبه امرأة متأبطة ذراعه، ومعهما كثيرون من الأشراف، فكانوا يدعونه ميلورد ويدعون المرأة اللادي. - إن هذا اللورد كان وليم دون شك. - بل كان أفندال. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك جعلت أنظر إلى زوجي وهو ينظر إلي وكلانا رسمان فنذرف الدمع السخين.
فقلت: كيف صار أفندال لوردا، وهو حق أخيه؟! ألعله ... ولم أجسر أتمم حديثي ... - إنه لم يمت، يا توما؛ فإن وليم كان لا يزال حيا.
وعند ذلك احتجب ضوء القمر، واكتنفتنا الظلمات، وسمعت زوجي الفقيد يشهق بالبكاء، ثم تلا ذلك دوي عظيم كدوي الصاعقة تلاه برق يخطف الأبصار ...
إلى هنا ينتهي القسم الثاني من حلمي، ويبدأ القسم الثالث، وهو تتمة هذا الحلم، وجعلت تبكي، فأخذت أنظر إليها نظر المنذهل، وأتمت حديثها، وقالت:
19 «بصرت فرأيت أن قمم جبال شفيوت قد توارت، وتلك الثلوج قد احتجبت، وهذه المروج الخضراء القائم في وسطها قصرنا قد توارت عن الأنظار.
ومع ذلك فإني أنا وزوجي كنا لا نزال رسمين معلقين في الجدار، ولكننا نستطيع أن نرى إلى مسافات بعيدة.
وكنا في رابعة النهار، وأشعة الشمس تملأ الفضاء، وكنا نرى عن بعد عمالا يشتغلون فيها نبتا، فلا ينالونه؛ لأن أولئك العمال كانوا من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة.
وقد نفتهم الحكومة الإنكليزية إلى البلاد الأوسترالية إلى أن تنقضي المدة المحكوم بها عليهم، وكان بصرنا يمتد حتى يصل إلى تلك القارة.
وأن بين هؤلاء المجرمين رجلا بريئا كان يشتغل مكرها، حتى إذا أضنكه التعب رفع عينيه إلى السماء كأنه يستشهد الله على ما يعانيه».
وهنا توقفت اللادي عن الحديث، ومسحت دموعها، ثم قالت: «أتعلم، يا توما، من هو هذا الرجل البريء المنكود؟ إنه ولدي: اللورد وليم!»
فدهشت لحلمها وراعني تأثرها منه، فقلت لها: «إنها أضغاث أحلام، أيتها العزيزة، فكيف يمكن أن يتفق مثل هذا، وليس لنا غير عدو واحد، وهو السير جورج، ولكن أخاك قتله كما تعلمين؟!» - كلا ... إن الأمر لم يجر كما ظننت؛ فإن أخي وذلك الشقي قد تبارزا في غابة في ضواحي كلكوتا، لكن أخي لم يقتله، بل أصابه بجرح بالغ في فخذه. - هو ذاك ولكن السير جورج سقط، ولم يستطع النهوض، فافترسته الوحوش الكاسرة ، ألا تذكرين أن جميع الجرائد نشرت هذا الخبر؟ - نعم، فإنهم وجدوا بقية من ملابس جندي، ولكن من يعلم إن كان هذا الجندي هو السير جورج؟ - إنك قد جريت شوطا بعيدا في هواجسك، وإن موت السير جورج حقيقة راهنة لا ريب فيها.
فهزت رأسها، وقالت: «ولكني أريد أن أبرح هذا القصر في الحال.» - إلى أين تريدين الذهاب؟ - إلى الحصن ... - كما تشائين. إذ لم أستطع أن أعترضها.
وهذا هو السبب، يا امرأتي العزيزة، في قدومنا إلى هنا.
وقالت بيتزي: «ولكن صحة اللادي آخذة بالانحطاط كل يوم، ويقول الأطباء إنه لا رجاء لهم بنجاتها.» - من يعلم؟ فقد يخطئ الأطباء. - ولكن الطبيب جوهان ممبروك لا يخطئ؛ فهو يرى أن حياتها لا تطول، وهو حاضر قريبا لعيادتها فسله إن شئت. - ولكنه طبيب غريب الأخلاق والصفات. - هو ذاك فإنه غني لا يعالج للارتزاق، ولكن ندر أنه عالج مريضا دون أن يشفيه.
وفيما هما يتحدثان سمع قرع الجرس، من الباب الخارجي الكبير، فنهض توما وأسرع إلى الباب ليرى من الطارق، فقد كانت معهودة إليه حراسة الحصن العامة.
ولقي كبير الحراس وقال له: «من يطرق الباب؟» - اثنان أحدهما فارس والآخر راجل. - ماذا يريدان؟ - يريدان الدخول. - ماذا يدعيان؟ - إن الفارس يقول إنه قادم من بيرت. - والراجل؟ - إنه لا يقول شيئا.
فذهب توما إلى الباب الكبير وكان البرد قارصا والهواء زمهريرا والمطر يهطل كأفواه القرب، ففتح نافذة صغيرة من الباب ونظر إلى الفارس فعرف أنه الطبيب ممبروك.
ثم نظر إلى الثاني، وسأل الطبيب: «من هو هذا الرجل القادم معك؟» - إنه فقير هندي لقيني في الطريق، وسألني صدقة فوعدته بالضيافة.
فقطب توما حاجبيه، وقال: إنه يوجد كثير من الهنود في لندرا، ولكني لم أر أحدا منهم في جبالنا، وما تعودت اللادي أن تأذن لمن لا تعرفهم بالدخول إلى حصنها، فسأعطيه صدقة، وليذهب إلى القرية فيبيت فيها. - كلا، هذا لن يكون ... - لم، يا سيدي الطبيب؟
فأجاب: «لأن هذا الرجل قد أضنكه التعب، ووهت رجلاه، فلا يستطيع المسير.» - إنه يجدد قواه في القرية ، وسأمنحه ما يكفيه. - إني أرجوك أن ترفق به؛ فإن الإنسانية تقضي عليك بإيوائه. - ولكن الواجب يقضي علي بعدم قبوله، لقد أقسمت يمينا للادي أن لا أدخل إلى قصرها من لا أعرفه. - إذا، أنت مصمم على عدم قبوله؟ - كل التصميم؛ لأني لا أستطيع أن أنهج هذا النهج.
ثم أخرج من جيبه جنيهين، ورمى بهما إلى ذلك المتسول الهندي.
ولكن الطبيب منعه أن يأخذهما، ثم جذب الفقير إلى جواده فأردفه وراءه وذهب وهو ينظر إلى توما النظر الشذر.
ففتح توما الباب، وجعل ينادي الطبيب، فلم يجبه الطبيب، وسار ينهب الأرض بجواده إلى القرية.
وعاد توما إلى الحصن، فركب جوادا وذهب إلى تلك القرية، فرأى الهندي مقيما في فندقها قرب النار، ولم يجد الطبيب.
وقد كان هذا الطبيب، قال لصاحب الفندق: «إذا جاء توما، وسأل عني فقل له إني لا أحب من خلت قلوبهم من الرفق الإنساني، فلا يدعونني لزيارتهم بعد الآن.»
وعاد توما إلى الحصن منقبض الصدر كثير الهواجس، وصعد إلى غرفة اللادي، فوجدها ملقاة على سريرها كأنها نائمة.
وناداها بصوت لطيف فلم تجب، فرفع صوته بالنداء، فلم تستيقظ، فدنا منها ولمسها، ثم صاح صيحة رعب؛ لأن اللادي لم تكن نائمة بل كانت قد فارقت الحياة.
20
بعد ذلك بعشرة أيام كان فارسان في نضارة الصبى يسيران فوق جواديهما جنبا إلى جنب في ضواحي قصر باميلتون، وكان هذان الفارسان ولدي اللادي باميلتون.
وكان اللورد وليم باميلتون، الذي حرصت عليه أمه وتوما كل هذا الحرص قد بلغ مبلغ الشباب، وبات جميلا قوي البنية خلافا لأخيه الأصغر فقد كان نحيف الجسم.
وكان اللورد وليم طلق المحيا كثير الابتسام متوقد العينين، تدل مخائله على النجابة والسلام، وأما أخوه السير أفندال، فقد كان مقطب الجبين رقيق الشفتين.
وكانت علائم الإخلاص بادية في وجه الأول خلافا للثاني؛ فقد كانت دلائل الحسد بادية فيه.
وكانا يمتطيان جوادين من خير الخيول الإيكوسية، وهما لابسان ملابس الصيد، وذاهبان إلى الغابة للانضمام إلى رفاقهم الصيادين.
ولما أوشكا أن يصلا إلى الغابة اعترضهما ذلك المتسول الهندي، وهو شيخ ابيضت شعوره وطالت لحيته حتى بلغت إلى صدره، فقال لهما: «أرجو، يا سيدي، أن لا تنسيا الفقير الهندي المسكين.»
فألقى اللورد وليم جنيها إليه، وقال له: «امض في سبيلك.»
فالتقط الهندي الجنيه، واختفى وراء الأدغال.
وعندها قال السير أفندال لأخيه: إنك نغصت عليه لذته بإحسانك إليه، فلماذا طردته يا أخي بعد إحسانك إليه؟! - لأنه كان السبب في موت أمنا، فلا أطيق النظر إليه. - كيف ذلك؟ - ألم يخبرك توما شيئا عن هذا؟ - كلا.
فتنهد اللورد وليم، وقال: إن أمنا كانت يوما في أشد حالات المرض، فدعا لها توما الطبيب ممبروك، فأقبل إلى الحصن، ولكنه لم يجئ وحده؛ بل جاء معه هذا الفقير الهندي، فأبى توما إدخال الهندي لأنه لا يعرفه فأفضى الأمر إلى استياء الطبيب، وانصرف دون أن يعودها فماتت في تلك الليلة.
وأجابه أفندال: «إن كان كذلك كان الذنب ذنب الطبيب لا ذنب هذا الفقير المنكود.» - هو ما تقول، ولكنه كان السبب في استياء الطبيب وانصرافه، ومهما يكن من أمره فإني أشعر بانقباض حين أراه. - أتراه دائما؟ - إني ما مررت بطريق إلا تعرض لي. - ولكن، كيف أن هذا الرجل ولد في بلاد الهند وطابت له الإقامة في جبالنا؟! - هذا ما أجهله. - ولكن توما قد يعلم شيئا من أمره. - لا ... فلم يقف أحد من أهل القرية على شيء من سره، وغاية ما عرفوا عنه هو أنه يدعى نظام، وأنه يقضي كل ليله في الغابات ونهاره عند أبواب القرية أو القصور، ولم يعرفوا له مهنة غير التسول.
فقال له أفندال: «إنه شيخ عجوز.» - إن هذا لا يمنعه عن العمل؛ فإنه قوي نشيط. - ولكني رأيت منه ما راعني حين أحسنت عليه بالدينار؛ فإنه نظر إليك نظرة تشف عن البغض الشديد، في حين أنه كان ينظر إلي نظرات الحنو والانعطاف.
فضحك اللورد وليم وقال: «هذا يدل على أنه راض عنك، وأني لم أتشرف بإرضائه.» - ولكن عزاءك أن هذا الفقير إن رضي عني دونك فإنه يوجد كثيرون يسفكون دماءهم عند قدميك ويفضلونك علي كل التفضيل.
فهز اللورد كتفيه، وقال: «أظنك تعني توما.» - توما وامرأته بيتزي. - أتظن أنهما لا يحبانك؟ - دون شك، ولو كنت مثلك لوردا لطردت هذا الرجل وامرأته.
فأجابه اللورد وليم بجفاء: «إذا، تكون ارتكبت خطأ عظيما؛ فإن توما أخو أمنا بالرضاع، وأرجو أن لا تنسى هذا يا أخي.»
فسكت أفندال، وسار الاثنان دون أن يتكلما حتى دخلا إلى الغابة. •••
ولم يسيرا بضع خطوات حتى رأيا على مسافة بعيدة جمهورا كبيرا من الفرسان، جميعهم بملابس الصيد الحمراء، وأمامهم فتاة ممتطية جوادا أسود، وهي مرتدية بملابس بيضاء.
فخفق قلب اللورد وليم حين رآها، أما السير أفندال فإنه نظر إلى أخيه نظرة ملؤها البغض والحسد.
غير أن وليم لم يره، ولكز جواده، وهو يقول: «إن هذه هي مس إينا.»
21
كانت مس إينا في الثامنة عشرة من عمرها، وهي فتنة للناظرين، لما وهبها الله من الجمال.
وهي ابنة السير أرشيبالد كيرتون، كان أبوها قد سافر إلى بلاد الهند، واشتغل بالتجارة على كونه كان من النبلاء الأغنياء، فجمع ثروة طائلة، وتزوج ابنة رجاه هندي فازدادت ثروته أضعافا ولم يرزق منها غير هذه الفتاة.
وكان قصره يبعد عن قصر اللورد وليم مسافة ثلاثة أميال، فكانا يتزاوران، وكانت مس إينا يحمر وجهها حين ترى اللورد وليم.
ولما تمكن الحب منها ذهب اللورد وليم إلى السير أرشيبالد، وقال له: «إني أحب ابنتك، وأسألك أن تنعم علي بزواجها.»
فأجابه: «وأنا رأيت أن ابنتي تحبك - أيضا - ويسرني عقد هذا الزواج بينكما، ولكن امرأتي قد توفيت، وهي ابنة رجاه هندي واسع الثروة، ولا وارث له غير ابنتي، فلذلك لا أستطيع تزويجها دون مصادقته.»
ورأى السير أرشيبالد أن اللورد وليم قطب جبينه، فقال: «ولكني أخبرك مقدما أن الرجاه يصادق لفوره؛ فإنه يريد ما تريده ابنتي.»
وكانت هذه المفاوضة سرية بينهما، وكتب السير أرشيبالد إلى الرجاه، غير أن الطامعين بزواج الفتاة كانوا لا يزالون يختلفون إلى منزلها، فكانت تلاطفهم، وتحضر معهم حفلات الصيد، لشدة ولوعها بتلك الحفلات.
ولذلك كانت في طليعة أولئك الصيادين الذين توافدوا في ذلك اليوم إلى الغابة، ووافاهم إليها اللورد وليم وأخوه.
ولقد تقدم لنا القول إن اللورد وليم، حين رأى مس إينا دفع جواده في تلك الغابة، ولبث أخوه السير أفندال يسير وراءه الهويناء، وهو ينظر إليه بعينين تتقدان ببارق الحسد والحقد.
أما اللورد وليم فإنه التقى بمس إينا، فمدت إليه يدها وصافحته قائلة له وهي تبتسم: «إن لدى أبي نبأ سار سيوحيه إليك.»
فاحمر وجهه وقد أدرك القصد، وعند ذلك دنا منه السير أرشيبالد، وقال له: «إن الكتاب الذي ننتظره من الهند قد وصل، يا بني، وإن الرجاه يوافق على الزواج.»
ثم التفت إلى أولئك النبلاء المحيطين بهم، وقال لهم: أتشرف، أيها السادة، بإخباركم أن ابنتي مس إينا ستزف قريبا إلى اللورد باميلتون.
فوقع هذا النبأ وقوع الصواعق على كثيرين من الذين كانوا طامعين بزواج الفتاة، ولكنهم كظموا الغيظ وأقبلوا يهنئون الخطيبين.
وعند ذلك رأى السيد أرشيبالد السير أفندال، فقال له: «وأنت، أيها العزيز، لدي نبأ سار أيضا أخبرك به، ألم تطلب الخدمة في جيش الهند؟» - نعم ... - إذا، أبشرك الآن أنك قد عينت قائد فرقة، وقد صدر الأمر بتعيينك في هذا الصباح.
فاضطرب السير أفندال اضطرابا شديدا خاله أخاه اللورد وليم اضطراب فرح، وقال له: «يجب عليك أن تشكر، يا أخي، السير أرشيبالد؛ فقد ساعدك بملء الإخلاص، ولكني أرجو أن لا تسافر على الأثر أليس كذلك؟» - إنك رئيس أسرتنا فعليك أن تأمر وعلينا أن نطيع. - إذا، أرجو أن تبقى إلى أن تحضر زواجي. - سأمتثل.
والتفت السير أرشيبالد إلى رفاقه، وقال لهم: «هلموا إلى الصيد، أيها السادة.»
ونفخ في بوق الصيد، وانطلق الصيادون يطاردون الأرانب بجيادهم الصافنة، ما خلا واحدا منها، وهو السير أفندال، فإنه تخلف عنهم، وترجل عن جواده فربطه إلى شجرة، وجلس على العشب وقد عض قلبه الحسد، وخرج الحقد لهبا من عينيه، وجعل يحدث نفسه بصوت مرتفع ويقول: ما هذا القدر الجائر؟ وما هذا الظلم الشائن؟ ألم أكن أخاه؟ ألم أولد مثله من أب واحد وأم واحدة؟ ألا يجول في عروقنا دم واحد؟ فما باله اختص بالثروة والشرف، واللقب، ومس إينا في حين أني لم أنل غير رتبة قائد في الجيش الهندي؟! إنها قسمة جائرة فيا ويل هذا الأخ، إني أكرهه أشد كره.
وكان يتكلم بصوت مرتفع وهو يحسب أنه وحده في تلك الغابة. ولكنه لم يكد يتم حديثه حتى فتحت الأدغال، وخرج منه شيخ أبيض الشعور.
ولما رآه أفندال قال: «أنت الفقير الهندي؟!»
فأجابه بلهجة التهكم: أنا هو صديقك الهندي الذي لا يريد إلا خيرك من هذا الوجود، وهو يكره اللورد وليم كما تكرهه.
22
وجعل أفندال ينظر إلى هذا الرجل منذهلا؛ فإنه كان عجوزا كما تدل شعوره البيضاء، غير أن من تمعن في ملامحه يجد بينها دلائل القوة والنشاط.
والغريب في أمره أن لون وجهه كان يدل على أنه من الإرلنديين إذ لم يكن له من علائم الهنود غير اللون الأصفر.
وكان هذا الرجل حين يسير في الأزقة متسولا يرفع أكمام ثوبه، ويكشف صدره، فينذعر من يراه؛ لأن جسمه كان مصابا بجراح مغطاة بقشرة رقيقة شفافة كورق البصل.
وكان منظرها مما تقشعر له الأبدان، وهو يدعى نظاما كما قدمناه، فكان إذا أراد حمل الناس على الإشفاق عليه يقص عليهم قصته الغريبة، وهو أنه سقط بين براثن النمور في إحدى غابات الهند. فبينما النمور تمزقه بأنيابها وهو مستسلم للقضاء كسائر الهنود، سمع دوي قاصف كدوي الرعود، فتوقفت النمور عن نهشه وجعلت تتشاور بالأنظار، وقد قلقت لهذا الدوي.
وكان الدوي يدنو منها فتهتز له الأرض، وبات منتظما يشبه صوت أقدام جيش كثيف يسير بخطوات موزونة.
فلما اقترب الصوت هربت النمور، وتركت نظاما لا يزال في قيد الحياة، أما هذا الجش الكثيف فقد كان من الأفيال.
فقال نظام في نفسه: «إن النمور قد تخلت عني، فهل تصفح عني الأفيال؟»
وكان عدد الأفيال يبلغ نحو مائتين وفي طليعتها فيل، وهو ذلك الفيل المقدس عند الهنود.
فلما وصلت تلك الأفيال إلى نظام وقف الفيل الأبيض، فوقفت الأفيال كلها ! ثم لف الفيل الأبيض خرطومه على نظام، ورفعه برفق إلى فوق ظهره، ومشى فتبعته الأفيال.
وما زال سائرا به والأفيال تتبعه حتى وصل إلى حقل أرز فألقاه فيه، وانصرف برفاقه بعد أن جعله في مأمن من النمور.
وهكذا كانت نجاة نظام فإن جراحه شفيت، ولكن الجلد لم ينم فوقها بل نمت بشرة رقيقة كانت تشف عن تلك الجراج الهائلة فتبدو للأنظار بما يحمل على الذعر.
وقد بقي من مشكلات أسراره سفره من الهند وإقامته في تلك الجبال؛ فإنه لم يبح بسرها لأحد.
أما هذا الفقير فإنه حين لقي السير أفندال جلس بجانبه دون كلفة، وقال له: «لا تخف مني شيئا؛ فإني متصل بك أكثر من اتصال الشجر بقشرها، فإني أحبك حبا لا أصفه؛ إذ لا أفيه، وقد أوقفت دمائي لك.» - أحق ما تقول؟ - كل الحق؛ لأني أحبك وأحب أن أجعلك لوردا.
فتنهد السير أفندال، وقال: «إن هذا مستحيل لسوء الحظ.» - لا شيء مستحيل في هذا الوجود، أصغ الآن ألا تستطيع التخلي عن هذا الصيد؟ - نعم ... - أيروق لك أن تسمعني؟ - قل ما تشاء. - إنك، يا سير أفندال، تحب مس إينا.
فارتعد الفتى، وقال: «كيف عرفت ذلك؟!» - إنك حين ترفع عينيك إلى هذه الجبال، ترى فوقها أبراج حصن باميلتون. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك ترى تلك الحقول المتسعة التي تكتنف القصرين على مسافة عشر مراحل.
فتنهد أفندال، وقال: «هو ما تقول!» - وإنهم ينادونك بلقب الأشرف البسيط في حين أنهم ينادون أخاك بلقب ميلورد. - هو ذاك، ولكن ما تريد أن أفعل؟ - يجب أن تصير لوردا، وإذا أردت أنا أبلغك هذا المقام.
فنظر إليه وقال: «أنت؟!»
فاتقدت عينا نظام، وقال: «لا تهزأ بي، فإن الناس يستخفون بي هنا حين يرونني، ولكني إذا أردت جعلتك لورد باميلتون.» - كيف ذلك؟ - أصغ إلي.
23
ثم أخذ يده بين يديه، وقال له: «كم كان عمرك، يا بني، حين ماتت والدتك؟» - سبعة أعوام. - أي كنت صغيرا لا يمكن الإباحة لك بالأسرار.
فارتعش أفندال، وقال: «أي سر تعني؟» - سر يتعلق بمولدك.
فشمخ السير أفندال بأنفة، وقال له بلهجة ملؤها العظمة والكبرياء: «إن مولدي لا أسرار فيه.» - سوف تعلم؛ لأني سأخبرك بكل شيء، والآن قل لي ألم تسمعهم يتحدثون بعمك السير جورج باميلتون؟ - بالقليل النادر. - ولكنهم ذكروا اسمه أمامك بعض الأحيان. - نعم ... - من كان يحدثك عنه؟ - خدم المنزل. - وأمك؟ - لم أسمعها ذكرته مرة أمامي.
فابتسم الهندي ابتسامة الأبالسة، وقال: «ألم تذكر اسمه على الإطلاق؟!» - بل أذكر أن أحد الخدم ذكر اسمه مرة أمامها، فأوشكت أن يغمى عليها.
فقال الهندي بلهجة المتهكم: «ولكنها لم يكن يغمى عليها من قبل.»
فاستاء أفندال من تهكمه، وقال: «ماذا تعني أيها المتسول؟»
أما الهندي فإنه لبث يبتسم، وقال له: «لا تحتقرني، يا سير أفندال؛ فإني أنا المتسول أستطيع أن أفعل ما لا تستطيعه وأنت من النبلاء، وقد قلت لك إني قادر أن أجعلك لوردا، وأزوجك مس إينا، تلك الغنية الحسناء.»
فاهتز السير أفندال اهتزاز الأجسام الكهربائية، وقال له: «امض في حديثك.» - إنه يوجد رجل أيضا في باميلتون لا يذكر السير جورج بلسان، وهو توما شقيق أمك بالرضاع. - نعم، وإني أكره هذا الرجل أشد الكره. - لقد أصبت في كرهك إياه، ولكن لماذا تكرهه؟ - لأنه يحب أخي، ويؤثره علي بكل أمر. - بل يوجد سبب آخر لو عرفته لتضاعف حقدك. - ما هو؟ - سأكشفه لك. ولكني لا أريد البحث الآن في توما، بل في السير جورج. - تكلم. - إن السير جورج كان منذ عشرين عاما مثلك، ثاني أبناء اللورد باميلتون، بل كان مثلك في كل أمره؛ فإن أخاه تزوج ابنة اللورد أسكولت وتمتع بتلك الثروة الواسعة، في حين أن أخاه كان قائدا بسيطا في الجيش الهندي.
فتنهد أفندال، وقال: «وأنا - أيضا - سأخدم في جيش الهند.» - غير أن السير جورج كان يهوى مس أفلين.
فاضطرب السير أفندال، وقال: «وهل كانت مس أفلين تهواه؟» - نعم ... - إنك كاذب نمام.
فأجابه الهندي ببرود: «إني لم أكذب في حياتي.»
ثم نظر إليه نظرة تسلط بها على حواسه، وقص عليه بالتفصيل جميع ما مر من الحوادث بين السير جورج وأمه تلك الليلة الهائلة التي اضطرت فيها اللادي باميلتون إلى خيانة زوجها مكرهة.
فكان السير أفندال يسمع حديثه، والعرق ينصب من جبينه، إلى أن أتم حديثه.
ثم قال له: «إذا، إن السير جورج كان ...»
فقاطعه الهندي ببرود: «نعم، إنه أبوك ... وقد خطر له - أيضا - أن يجعلك لوردا.» - ولكن السير جورج قد مات. - لقد مات في عرف جميع الناس. - وفي عرفك؟ - إنه لا يزال حيا يرزق، وسأبرهن لك على صدقي فيما أقول.
ثم نهض، وقال لأفندال: «انتظرني هنا فسأعود إليك قريبا.»
وتركه وانصرف، فدخل بين أشجار الغابة.
وهنا ذهب إلى ساقية وغسل وجهه بمياهها عدة مرات، وعاد إلى السير أفندال.
فلما رأه دهش دهشة عظيمة؛ لأن ذلك النور الأصفر قد امحى، وحل محله لون الأوروبيين الأبيض.
وبينما كان السير أفندال ينظر إليه منذهلا قال له الفقير: «إني لست من الهنود، وإن السير جورج هو أنا، يا بني.»
وكاد السير أفندال يجن لدهشته، وجعل يكرر قوله: «أنت، أنت ... أنت أبي! ...» - نعم، أنا هو أبوك ...
ثم ضمه إلى صدره، وجعل يعانقه بلهف شديد؛ فإن هذا الرجل الذي كانوا يدعونه في تلك الجبال باسم نظام، ويحسبونه من الهنود، كان السير جورج بعينه.
وكانت الحكاية التي يرويها عادة للناس عن أسباب جراحه صادقة، فقصها على ولده أفندال، وأخبره في الختام أن الجيش الإنكليزي يعتقد أنه قد مات، وأن الجرائد نشرت خبر وفاته، فتنكر بلباس الهنود وجاء إلى هذه الجبال.
فقال له السير أفندال: «وأي غرض لك من أن يحسبك الناس ميتا؟» - سأقول لك كل شيء، يا بني، فأصغ إلي.
24
إن شفاء جراحي طال شهرين، كنت مختبئا في خلالهما في منزل أحد البراهمة.
وكانت النمور قد شوهتني تشويها عظيما، حتى إني لو ذهبت إلى الجيش الإنكليزي واختلطت برفاقي الجنود لما عرفني منهم أحد.
ولكن، لم يكن نصب عيني غير غرض واحد وهو الرجوع إلى إنكلترا ليس لأرى اللادي أفلين، بل لأرى ابن غرامنا، وهو أنت.
وكان الهندي يتكلم وعلائم التأثر بادية من حديثه، بحيث لم يشكك السير أفندال أن نظام والسير جورج واحد، وأن السير جورج هو أبوه دون شك.
قال السير جورج: وقد أقمت عند الرجل الهندي ثلاثة أشهر بحت له في خلالها بسري، وأطلعته على بعض مقاصدي، فأعطاني صباغا جعل لون وجهي كلون الهنود.
وسرت إلى كلكوتا وامتزجت مع الناس فلم يعرفني أحد.
وقد أقمت في المدينة السوداء، وهي مدينة الوطنيين. ولم يكن لدي شيء من المال، وأنا في حاجة إليه لنفقات السفر، فلفقت حكاية عن سبب تشويهي.
وكان تشويهي يستلفت الانتباه، فجعلت أقصها على الوطنيين والإنكليز وأتخذها وسيلة للكسب، فما مر بي ستة أشهر حتى جمعت النفقات اللازمة لسفري إلى أوروبا.
فجئت إلى لندرا وقد أقمت فيها عدة أشهر، فكنت أرود بين قصر باميلتون، وأتردد إلى الحدائق العمومية، فكنت أراك في بعض الأحيان.
فقاطعه السير أفندال قائلا: «لقد ذكرت ذكرى بعيدة، وهي أني عندما كنت في الرابعة من عمري أذكر أنهم ذهبوا بي إلى الحدائق، وبينما أنا ألعب مع الغلمان رأيت رجلا هنديا ينظر إلي ويبتسم، فلم يغب رسمه عن ذهني.» - هذا الرجل هو أنا، يا بني، فقل ألا تذكر شيئا - أيضا؟ - نعم، فإننا كنا نلعب فوق الجليد، ثم فتح الجليد فجأة وسقط أحد الغلمان في النهر، فأسرع الرجل إليه وانتشله ورده إلى أهله دون أن يصاب بأذى. - ألا تذكر أنك رأيتني بعد ذلك؟ - نعم ... - إذا، أصغ إلى تتمة حديثي.
إن اللادي باميلتون برحت لندرا، وجاءت بك وبأخيك وبتوما إلى هذا الحصن فأقامت فيه.
ولم أجد بدا من القدوم - أيضا - لأراك، ولكن لم يكن لدي نفقات السفر، فقطعت تلك المسافة الشاسعة مشيا على الأقدام، وكنت أستدل على الطريق حتى وصلت.
غير أني لم أكن أراك إلا في النادر؛ لأن أمك وذلك الشرير توما قد جعلا القصر حصنا منيعا ولم يأذنا لأحد بالدخول إليه.
وقد بالغت في الحيل توصلا إلى الدخول إلى القصر فما استطعت.
وبينما كنت أرود ليلة حول الحصن، وكانت ليلة باردة ممطرة، رأيت فارسا قادما إليه فاستوقفته وسألته الإحسان، فنظر إلي مشفقا، وقال: «إن البرد يؤثر فيك كما أرى.» - إن البرد ينخر عظامي، والجوع يعض قلبي، ولا أجد سبيلا للقوت وللمبيت. - تعال معي فتأكل وتدفأ. - إلى أين؟ - إلى هذا الحصن. - لقد أخطأت، يا سيدي؛ فإن أبوابه لا تفتح للبائسين أمثالي. - اتبعني؛ فإني طبيب العائلة المقيمة فيه، ولا يقفلون دوني الأبواب.
فامتثلت له، ولكن توما أبى أن يأذن لي بالدخول، بالرغم من إلحاح الطبيب ورجائه.
وعاد الطبيب مغضبا دون أن يدخل إلى المنزل، وهو يقول: «إن الرفق قد انتزع من قلوب هؤلاء الناس فلتقع التبعة عليهم.»
ولقد أصاب فيما كان يتوقعه؛ لأن أمك ماتت في اليوم التالي، ولو أدركها الطبيب لأنقذها، فكان توما الجاني عليها بإغضابه الطبيب.
فقال له أفندال: «ألا تزال منذ ذلك العهد في هذه الجبال؟» - نعم. - ماذا تصنع؟ - أستعطي وأحاول أن أراك، فأنسى الكدية وما أنا فيه حين أمتع عيني بوجهك. - إذا، أنت السير جورج، أنت أبي؟
فأدمعت عيناه، وقال: «نعم، يا بني.» - إذا، إني مسافر إلى الهند وستسافر معي، فلا يعلم أحد بأمرنا وتعيش معي سعيدا.
فضمه السير جورج إلى صدره، وقال له: «كلا، يا ولدي، إنك لا تسافر إلى الهند.» - إلى أين إذا تريد أن أذهب؟ - تبقى هنا. - لماذا ألكي يقتلني حقدي على أخي؟ - كلا، بل لكي تحل محله وتصير لوردا. - أنا أصير لوردا؟! - وتتزوج - أيضا - مس إينا خطيبة أخيك.
فاضطرب السير أفندال، وقال: إذا، يجب أن يموت أخي وليم. - ربما. - ولكن كيف يموت، وهو في ريعان الشباب؟! - إن الموت لا يروعه الصبا. - ألعلك تريد قتله؟ - ماذا يهمك؟ - كلا، كلا، إني لا أريد سفك دمه.
فأطرق السير جورج هنيهة، ثم قال: «إذا، لنفترض أن جميع الناس باتوا يعتقدون أن اللورد وليم ميت، وهو مع ذلك لا يزال في قيد الحياة.» - ولكن ذلك مستحيل. - ليس من مستحيل علي، وكل شيء ممكن في هذا الوجود. - إذا، يبقى أخي حيا، ويعتقد الناس أنه مات؟ - نعم. - وأتزوج مس إينا؟ - تتزوجها. - ولكنك تقسم لي أن أخي لا يموت. - أقسم لك بك أني لا أقتل أخاك.
ثم ضمه إلى صدره فقبله، واحتجب في الغابة بين الأشجار.
25
لم ير أفندال أباه في ذلك اليوم، وفي المساء عاد إلى القصر، وهو مفكر مهموم.
وكان اللورد وليم قد وصل إلى القصر عائدا من الصيد فرأى أخاه، وقال له: «ماذا أصابك وأين كنت؟» - إني تهت عنكم في الغابة، فقضيت يومي متنزها بين الحقول. - لقد شغل بالي عليك حين طلبتك فلم أجدك لا سيما أن لدي أمورا خطيرة أحب أن أطلعك عليها.
فارتعش السير أفندال، وسأله: «ما هي؟» - هي أولا أني أحسب نفسي من أسعد الناس؛ لأنه لا يمضي ثلاثة أسابيع حتى تصبح مس إينا اللادي باميلتون. - إني أهنئك، يا أخي، وأرجو لك التوفيق. - ثم إنني تحدثت مليا بشأنك مع والد مس إلينا. - على أي محور دار الحديث؟ - اعلم، يا أخي العزيز، أني أنكر الشريعة الإنكليزية كل الإنكار فيما يتعلق بحقوق البكورية.
وابتسم السير أفندال ابتسام المتهكم، وقال: «كيف ذلك؟» - ذلك أني أخوك البكر، فلي اللقب والأراضي ولي السعادة وعضوية المجلس الأعلى.
فأجابه أخوه بلهجة الراضخ لأحكام القدر: «أما أنا فلا شيء لي.» - هو ذاك، ولكني أعد هذه القسمة جائرة، ولا أرتاح لهذه الشريعة، وإني أحب أن أشركك في كل ما لدي، ولكن الشرع لا يجيز هذا الاشتراك لنكد الطالع.
فأجابه أفندال بجفاء: «أتراني سألتك شيئا من ذلك؟»
فابتسم اللورد وليم، وقال: أصغ إلي، يا أخي العزيز، فقد خطر لنا خاطر أرجو أن يكون صالحا. - ما هو؟ - إنك تعلم أن خطيبتي حفيدة أحد أمراء الهند. - نعم. - وإن لعميدها الأمير خالا لا تقل ثروته عن ثروة أخيه وله بنت واحدة، فخطر لوالد خطيبتي أن يزودك برسائل توصية إلى والد هذه الفتاة، فلا يبقى عليك إلا أن تريد الزواج بدابي تاتا. - أتدعى هذه الفتاة دابي تاتا؟ - نعم، يا أخي، وهي بارعة في الجمال. - إني أشكرك خير شكر لحسن عنايتك بي.
وكانت نبرات صوته تدل على شيء من التهكم، غير أن اللورد وليم لم ينتبه لتهكمه؛ فقد كان سليم النية شديد الرفق بأخيه، فلم يخطر له الشر في بال.
ولما أصبح السير أفندال وحده ضم يديه منذرا متوعدا، وقال: «ليست تلك الفتاة الهندية التي أبتغيها أيها الأبله، بل مس إينا، ولا أريد العيش بين حقول الأرز، وتحت سماء الهند المحرقة، بل أريد العيش في هذه الحقول البديعة التي تكتنف قصر باميلتون.»
ومضى على ذلك يومان، كان السير أفندال يخرج كل يوم فيهما متنزها، ويذهب إلى ذلك المكان الذي روى له فيه الفقير الهندي حكايته، فلا يجده.
وفي مساء اليوم الثالث، بينما كان عائدا من الغابة، وقد كاد يقنط من عدم لقاء أبيه، لقي توما بملابس السفر، وهو يحادث أخاه اللورد بصوت منخفض.
فدنا منهما، وقال لأخيه: «إلى أين يسافر توما؟» - إلى لندرا. - لماذا؟ - ليحضر لي أموالا وضعتها في المصارف.
وعند ذلك ودعهما توما وذهب، فتأبط وليم ذراع أخيه، وقال له: إن الشرائع الإنكليزية تقضي علي أن أحتفظ بثروة العائلة العقارية أما المال النقدي فإني أتصرف فيه كما أشاء.
وإن لدي في المصارف عشرين ألف جنيه، فاسمح لي، يا أخي العزيز، أن أقدمها لك.
فاضطرب السير أفندال، وتلعثم لسانه ولم يدر ماذا يجيب.
وافترق الأخوان، واحد يضمر الشر والكيد لأخيه المحسن إليه، وآخر لا يريد له إلا الخير. فلما حان وقت الرقاد دخل السير أفندال إلى مضجعه. •••
وكانت تلك الليلة من ليالي الصيف الحارة، ففتح السير أفندال النوافذ وصعد إلى سريره، ولكنه لم يستطع النوم لكثرة همه وتفكيره.
وفيما هو يفتكر بأبيه سمع حفيف أوراق تحت النافذة، ثم رأى رجلا قد وثب فجأة من تلك النافذة إلى الغرفة بخفة القرود.
فذعر أفندال، ولكنه ما لبث أن رأى الرجل حتى صاح صيحة فرح، وقال: أهذا أنت، يا أبي؟ وأين كنت؛ فإني لم أرك منذ ثلاثة أيام؟ - إني كنت في لندرا وقد عدت منها الآن. - وأي شأن لك في لندرا؟ - ذهبت إليها للبحث عن أصحاب، أحتاج إليهم ليساعدوني على جعلك لوردا.
فارتعش السير أفندال، وقال: إذا، سأصبح لوردا حقيقة؟ - دون شك. - متى؟ - قبل أن يمر شهر. - ولكنك تبر بقسمك، ولا تقتل أخي اللورد وليم. - لقد أقسمت لك، وهو قسم أجله.
فتنهد السير أفندال، وقال: إذا، يبقى حيا ويحسبه الناس من الأموات؟ - هو ذاك. - ماذا عزمت على أن تصنع به؟ - لا تتسرع، يا بني، فسأخبرك حين يحين الأوان، غير أني محتاج إلى شيء من المال. - لا أعلم مقدار حاجتك، وهذا مالي بين يديك، فخذ منه ما تحتاج إليه.
ثم قام إلى خزانة ملؤها الأوراق المالية ودفعها إلى أبيه، فأخذ منها مائتي جنيه ورد الباقي فقال: «إن هذا القدر يكفيني الآن، وإذا احتجت إلى المزيد عدت إليك.»
عند ذلك ذهب إلى النافذة كي يعود منها كما أتى، ثم عاد فقال لابنه: «أسافر توما؟» - نعم. - متى؟ - في هذا المساء.
فاتقدت عيناه ببارق السرور، وقال: «إذا، لقد آن لنا أن نبدأ بالعمل، فاطمئن يا بني؛ فستغدو لوردا.»
ثم تركه وانصرف.
26
عقب تلك الليلة يوم حر شديد انقطعت فيه الطيور عن التغريد، واحتجبت بين الأوراق فرارا من أشعة الشمس المحرقة.
وقد كف الناس عن السير في الطرقات، وأصبحت تلك البلاد الباردة كأنها في خط الاستواء.
ومع ذلك فقد كان فريق من الرجال يسيرون في طريق كثر الغبار فيها، وقد أنهك التعب والحر أجسامهم، وهم مقيدون بسلاسل، كل اثنين منهم بسلسلة.
وكانوا جميعا حفاة الأقدام حاسري الرءوس حليقي الشعور، وهم من المجرمين الإيكوسيين المحكوم عليهم بالنفي إلى أوستراليا، فكان الجنود سائرين بهم إلى ميناء ليفربول.
وكانوا يسيرون ببطء، والعرق يسيل من أجسادهم، وكان بعضهم يشكون ويتوجعون، وآخرون يتضجرون ويشتمون، وإذا أضنى التعب أحدهم وتوقف عن المسير أدركه كرباج الجندي، فصاح صيحة ألم وتبع الرفاق حذر السوط.
غير أن أولئك الجنود كانوا يعانون نفس ما يعانيه أولئك المجرمون، فقال أحدهم لرئيسه: «لقد أنهكنا السير، وصهر الحر أجسادنا، ألا ترى أن نستريح؟» - أراك قد تعبت. - إن قدمي قد تورمتا. - وأنا أكاد أموت ظمأ. - بئست هذه الطريق؛ فإننا لا نجد فيها قطرة ماء.
فأجابه الرئيس: «ذلك لأن هذه الثلوج التي تراكمت فوق هذه القمم، لم تذب بعد .» - إني أخشى أن لا تذوب. - وهذا ما أراه، غير أنه لا بد لنا أن نجد قرية أو فندقا. - إني أعرف هذه البلاد، فإنه يوجد على مسافة مرحلتين - أيضا - قرية باميلتون. - ولكني لا أستطيع الصبر على العطش إلى أن نبلغ القرية. - ولكننا نتوقف عن السير قبل البلوغ إليها. - أين؟ - ألا ترى هذه النقطة السوداء الشاسعة؟ - نعم ... - إنها غابة كثيفة تبدو في آخر ما يمتد إليه البصر كالنقطة في الكتاب، غير أنه يوجد فيها نهر صغير نقيم على ضفته إلى المساء بدلا من أن نواصل السير إلى قرية باميلتون. - بل أرى أن نروي عطشنا من هذا الجدول، ثم نواصل السير إلى القرية.
فأجابه الضابط وكان يدعى برسي: «كلا، بل نقيم عند النهر، فإننا نكسب بذلك مائة جنيه.»
فنظر إليه الجندي نظرة المنذهل، وقال له: «كيف ذلك؟! ألعل الشمس قد أثرت فيك أم أنت تهزأ بي؟!» - لا هذا ولا ذاك؛ فإني أقول الحق. - ولكن، كيف نكسب المائة جنيه؟ - هذا سر من أسراري، ويكفيك أن تعلم أنك ستنال منها نصفها. - أنا أنال النصف؟ - نعم، إنما يجب من أجل ذلك أن تفعل ما أقوله لك. - إني أفعل كل ما تريد؛ فإن هذه القيمة لا أنالها في عام، فقل لي ما يجب أن أصنع. - إنك تتسرع يا جوهن، والتسرع غير محمود، ثم سكت ولم يوضح له شيئا.
وكان المجرمون قد كثر تذمرهم فرق الضابط لهم، وقال: «صبرا، ألا ترون هذه الغابة؟ فإننا سنستريح فيها ونحن في هذا الشقاء سواء.»
فارتاح المجرمون لهذا الوعد، وكان عددهم ثمانية.
وكان يسير وراء المجرمين بغل يقوده جندي ثالث، وفوق هذا البغل رجل نائم.
وكان هذا الرجل فتى لا يتجاوز العشرين من العمر، وقد أخذوه من مستشفى على الطريق وهو كأنه مصاب بداء البرص، وهيئته تحمل على الرعب.
وكانوا يخافونه خوفا شديدا حذر العدوى، فإذا توقفوا للاستراحة عزلوه عنهم، ولبس الحارس الذي يقدم له الطعام والشراب قفازا اتقاء لهذا الداء الوبيل.
على أن هذا الفتى المنكود لم يكن مصابا بالداء وحده ؛ بل زاد في نكبته أنه كان معتوها، ولم يكن ينطق بحرف.
ولم يكن بينهم من يعلم أي ذنب جناه هذا الرجل غير أن الذي كانوا يعلمونه من أمره أنه كان محكوما عليه بالنفي.
وبعد أن أذاب الحر أجسادهم وصلوا إلى تلك الغابة، فصدر أمر القائد بالتوقف عن السير، ولكن المجرمين بدلا من أن يتوقفوا اندفعوا إلى النهر وقد كاد الظمأ يقتلهم وألقوا أنفسهم في المياه، فكانوا يشربون ويغتسلون في وقت واحد، فيروون عطشهم ويتداوون من الحر بشرب المياه.
وبعد أن فرغوا من الشرب والاغتسال فرق القائد عليهم قطعا من الخبز، وقال لهم: «إنكم تستطيعون أن تناموا إذا أحببتم؛ فإننا سنقيم هنا إلى المساء.» فنام أولئك المنكودون فوق العشب، وبقي القائد برسي والجندي جوهن قربهم يتحدثان بصوت منخفض.
قال القائد للجندي: «إننا سنربح مائة وخمسين جنيها لا مائة كما قلت لك، ولكنك تقبض خمسين وأقبض مائة.» - لتكن القسمة كما تشاء، ولكن أود أن أعلم كيف نكسب هذا المال. - ألا تذكر حين وصلنا إلى برت وأخذنا من مستشفاها ذلك العليل أن حارس السجن أعطاني علبة من الصفيح. - نعم، ولكني لا أعلم ما يوجد في هذه العلبة. - يوجد فيها حية زرقاء. - كيف تكون الحية زرقاء؟! - إنها من أفاعي الهند، وهي صغيرة حتى لا يزيد طولها عن أصبع ولكن لسمها تأثيرا هائلا؛ فإنه يورم الجسم والوجه ورما عظيما ويشوه الملسوع تشويها غريبا بحيث لا يمكن لأهله أن يعرفوه، وهذا السجين العليل قد لسعته هذه الحية. - كيف اتفق ذلك؟ - إن حارس السجن وضعها في فراشه قبل الليلة التي كنا عازمين على أخذه فيها، وقد كان صحيح الجسم والعقل، قبل أن تلسعه وأنت ترى الآن كيف استحال. - ولكني لا أعلم لماذا أساء إليه حارس السجن هذه الإساءة الهائلة. - ذلك ليربح أيضا مائة جنيه. - إني لا أفهم ما تقول.
فابتسم القائد وقال: «يوجد رجل غني في إنكلترا يستطيع أن يشتري بماله جميع أمثالنا فيها.»
وبينما هو يحدثه حانت منه التفاتة، فاضطرب، وقال: «كفى الآن، وسأتم الحديث في فرصة أخرى.»
ثم نهض؛ ذلك أنه رأى رجلا مضطجعا على العشب على مسافة قريبة، وقد أشار إليه الرجل إشارة سرية اضطرب منها وأسرع إليه.
أما ذلك الرجل فقد كان نظام الفقير الهندي، أي السير جورج والد السير أفندال.
27
ولما وصل إليه وقف السير جورج، وقال له بلهجة الحذر: «أأنت هو القائد برسي؟» - نعم ... - إذا، أنا هو الذي تنتظره فهل أحضرت الأفعى؟ - هي معي في هذه العلبة.
ثم دفع العلبة إليه، فأخذها السير جورج، وأخرج من جيبه خمسين جنيها، فأعطاه إياها، وقال: «خذ هذه الدفعة من أصل الحساب.»
فأخذها القائد فرحا، وقال: «إني أنتظر أوامرك، يا سيدي.» - يجب أن تبيت الليلة في هذا المكان، وغدا تكون في قرية باميلتون فتتظاهر أنك مريض لا تستطيع مواصلة السير. - كم ينبغي أن أقيم في القرية؟ - لا أعلم الآن؛ فإن ذلك موكول إلى الحوادث، وفوق ذلك فإن أولئك المجرمين لا تسوءهم الإقامة في هذه القرية. - دون شك؛ فإنهم لا يسيرون إلا بعد أن نجلدهم بالسياط لشدة الحر. - إذا، فاعلم أنه يوجد في هذه القرية فندق قرب قصر باميلتون يجب أن تقيموا فيه؛ فإن صاحبه من رجالي، فهو يسجن المجرمين في قبو ويعين بقية غرف الفندق لك ولرجالك وللرجل الملسوع. - وبعد ذلك؟ - تنتظر إلى أن ترد لك تعليماتي فتعمل بموجبها.
ثم وضع العلبة في جيبه وانصرف.
ولم يكن المجرمون قد تنبهوا من رقادهم، أما الرجل الملسوع، فقد كان ملقيا على العشب، قرب البغل وهو يتوجع ويئن أنينا يقطع القلوب من الإشفاق. •••
وأما السير جورج فإنه ذهب توا إلى ابنه فلقيه قرب القصر ودار بينهما الحديث الآتي: فقال السير جورج: «أظن أننا وحدنا الآن.» - نعم، فماذا تريد أن تقول لي؟ - إن كل شيء قد تهيأ.
فارتعش السير أفندال، وقال: كيف ذلك؟ - ذلك أن الحية باتت عندي.
ثم أخرج العلبة وأراه إياها.
فاضطرب السير أفندال، وقال: «أريد أن أعود إلى الاستيثاق منك؛ فأقسم لي أن من تلسعه هذه الأفعى لا يموت.» - إني أقسم لك ، وإن كان القسم لا يكفيك فاذهب غدا إلى فندق باميلتون. - ما أفعل في هذا الفندق؟ - سل القائد برسي أن يريك ذلك الرجل الذي لسعته الحية الزرقاء تجد أنه لا يزال في قيد الحياة. - لقد صدقتك. - إذا، يجب أن تعمل الآن بما يقوله المثل السائر، وهو ساعد نفسك يساعدك الله. - بل إن الأبالسة تساعدني في هذه المهمة. - كما تشاء. - ماذا تريد يا أبي؟ - أين هو أخوك الآن؟ - في منزل خطيبته ... - متى يعود؟ - قرب انتصاف الليل. - أتجد وسيلة للدخول إلى غرفة رقاده دون أن يراك أحد؟ - نعم، فإني أدخل إليها من غرفة المكتبة. - إذا، انتظرني هذه الليلة في غرفتك. - في أية ساعة؟ - في الساعة الثامنة من المساء. - أتدخل من النافذة كما دخلت أمس؟ - إني سأسلك نفس الطريق.
ثم تركه وانصرف. •••
في الليلة نفسها أقام السير أفندال في غرفته وترك النافذة مفتوحة، فأتاه أبوه في الساعة الثامنة حسب الاتفاق وسأله عن اللورد وليم فقال له: «لم يعد بعد.» - إذا، هلم بنا.
وكان السير أفندال أصفر الوجه يتكلم بصوت يتهدج.
ولما رأى أن الوقت حان أجفل من الخيانة، وقال لأبيه: «كلا ... إني لا أريد ...»
فقال له أبوه: «ألا تريد أن تكون غنيا أيها الأبله؟» - كلا. - إذا كان ذلك فكيف ترجو الحصول على مس إينا؟!
فأثر ذلك في أفندال تأثيرا عظيما، وهاج عامل غرامه فأقدم على الجريمة وزال من نفسه ما كان يشعر به من الخوف فقال لأبيه: «هلم بنا.»
ثم فتح بابا يؤدي إلى غرفة المكتبة، ودخل إليها مع أبيه.
وكان في هذه الغرفة باب يؤدي إلى غرفة اللورد وليم، وولج الشقيان منه إلى غرفة ذلك المنكود.
وعندئذ، أخذ السير جورج علبة من جيبه ودنا من سرير اللورد وليم، فكشف الغطاء، ثم فتح العلبة فوثبت الحية منها إلى السرير، وأسرع السير جورج ورد الغطاء إلى ما كان عليه بحيث باتت الحية تحته.
وعند ذلك عاد الاثنان إلى غرفة أفندال، فوثب السير جورج من النافذة، وهو يقول إلى الغد.
أما السير أفندال فإنه بقي واقفا قرب النافذة ينتظر قدوم أخيه، ويقول إني سأصبح لوردا وستكون مس إينا لي.
28
بعد أن ذهب السير جورج بساعتين، عاد اللورد وليم من بيت خطيبته إلى القصر، وكان السير أفندال لا يزال ينتظره.
ودخل اللورد وليم وهو لا يزال مشرق الجبين طلق المحيا وعلائم السرور والارتياح بادية بين ثنايا وجهه، ولما رأى أخاه لا يزال ساهرا أسرع إليه، وعانقه قائلا: «إني بت، يا أخي، من أسعد الناس.»
فأجابه بلهجة المتهكم: «إني أهنئك، يا أخي العزيز.» - إن مس إينا تحبني حبا أكيدا.
ولم يجبه السير أفندال، ولو كان لدى أخيه أقل أثر من الريب به لرأى الغضب يتقد في عيني ذلك الشقي.
غير أن اللورد وليم كان يحب أخاه، ولا يخطر له غدره في باله، فأتم حديثه قائلا: إنها تحبني كما قلت لك، لقد اعترفت لي اليوم بما لم أكن أتوقعه. - بم اعترفت لك؟ - إننا كنا في الحديقة، وكان أبوها معنا فتركنا هنيهة منفردين، ولما خلا بنا المكان وضعت يدها بيدي وقالت لي: «إني أحب أن أحدثك بأمر طالما أخفيته عنك.»
فارتعشت، وقلت: «ماذا عسى أن يكون، أيتها الحبيبة؟» - «إني لا أريد، أيها الميلورد أن أكون امرأتك إلا متى قرأت سور الغرام في قلبي، كما تقرأ في كتاب مفتوح، فاعلم أني أحبك حبا نقيا، ولكني ما أحبك لشرف آبائك، ولا لأنك من أعضاء المجلس الأعلى، بل أحب منك أنت.»
فأخذت يدها، وقبلتها قبلات، وعادت إلى الحديث، فقالت: «إني أحبك وأردت الزواج بك لغاية هي غير غاية أبي.»
فذهلت لقولها، وقلت لها: «ما كانت غاية أبيك؟» - إن أبي واسع الثروة، ولكنه غير عريق في النسب مثلك، وليس له شيء من الألقاب، فهو إنما رغب في هذا الزواج طمعا بشرف مصاهرتك، أما أنا ...
وهنا توقفت عن الحديث وقد احمر وجهها.
فقلت لها: «أتمي حديثك، أيتها الحبيبة.» - أما أنا فكنت أود لو كنت دعيا في نسبك فقيرا معدما لا تملك شروى نقير؛ لأني لا أحب مجدك ونسبك بل أحب أنت. - هذا ما قالته لي ، يا أخي العزيز، ولم يبق لزواجنا غير أسبوعين غير أنهما سيمران بي سيمران بي كدهرين.
وسكت السير أفندال، وقد كاد الحقد ينفجر في قلبه انفجار البراكين.
وعاد اللورد وليم إلى الحديث بعد سكوت قصير، فقال: «أسألك العفو، يا أخي؛ لأن السرور قد غلب علي فلم أتكلم إلا عن نفسي، ولكنك ستغدو سعيدا مثلي؛ فإن والد خطيبتي يعد لك خير زواج.»
وأجابه فندال بجفاء: «لا تقارن، أيها الأخ، بيننا ولا تشابه بين حالتينا.» - كيف ذلك؟ - ذلك أنك تحب مس إينا. - حب عبادة. - ولكنك تقول إن الفتاة الهندية حسناء، ولكن قد يمكن أن لا يجد جمالها سبيلا إلى قلبي.
ثم تنهد تنهد القانطين، فشعر اللورد وليم أنه أخطأ بمحادثته أخاه عن سعادته وغير الحديث، وقال لأخيه: إني عازم على النوم فإن حديث خطيبتي قد أثر في، فبت محتاجا إلى الراحة، وفي كل حال فإني أرجوك أن تصفح عني. - إنك لم تخطئ إلي فأصفح عنك، وسأوصلك إلى غرفتك إذا أذنت. - حبا وكرامة.
ثم سار الاثنان إلى غرفة اللورد وليم.
وكانت النوافذ مفتوحة فقال السير أفندال: «أتريد أن أقفل هذه النوافذ، يا أخي؟» - كلا؛ لأن الحر شديد. - ولكن ألا تخشى رطوبة الليل؟ - كلا، فدعها مفتوحة، لقد تعودت في الصيف أن أفتح النوافذ. - وأنا أفعل مثلك؛ لأن حر هذا الصيف لا يطاق.
وقد سر أفندال من ترك النوافذ مفتوحة؛ إذ قد يتبادر من الفور إلى الأذهان أن الحية قد تسلقت الشجرة وانسابت إلى أخيه من النافذة، وفي هذا ما يبعد الظن ويضيق مجال الاتهام.
ثم ودع أخاه وخرج من غرفته بعد أن نظر نظرة خفية إلى السرير، ووجد أن الغطاء لا يزال على حاله، وأن الحية لا تزال نائمة تحته، دون شك. •••
بعد ذلك بساعة سمع خادم غرفة اللورد وليم صرخة مزعجة في غرفة اللورد المجاورة لغرفته.
وكانت صرخة ألم شديد فهب الخادم منذعرا وأسرع إلى غرفة سيده، فوجد ذلك اللورد الشاب واقفا في وسط الغرفة بملابس النوم، وهو قابض بيده على تلك الحية.
ولكن الحية كانت قد لسعته في وجهه قبل أن يقبض عليها، وأسالت بعض نقط من الدماء على خده.
وكانت عينا اللورد قد جحظتا واصفر وجهه فبات كالمجانين.
ثم ألقى تلك الحية مغضبا على الأرض، وأسرع الخادم وسحقها بقدمه، ثم خرج من الغرفة وجعل ينادي الخدم مستغيثا لما رآه من خطورة الحالة.
أما اللورد فإنه كان يصيح متألما، وقد بات في حالة من اليأس لا سبيل فيها إلى العزاء.
وبعد هنيهة أقبل الخدم وأسرع واحد منهم إلى إحضار طبيب، ففحص المكان الملسوع، والحية القتيلة، فقرر أن الحالة شديدة الخطورة، ولكنها لا تحمل على اليأس.
ثم غسل الجرح وطهره وأعاد اللورد وليم إلى سريره.
أما السير أفندال فقد كان يتظاهر بالحزن الشديد، وينسب هذا الحادث إلى إهمال أخيه وتركه النوافذ مفتوحة، ويقول إنه لولا هذا الإهمال لما فوجئنا بهذه النكبة الهائلة.
وكان يمثل الحزن واليأس خير تمثيل حتى كان الخدم يشفقون عليه.
ولكنه إذا خلا بنفسه أشرق وجهه بنور البشر وعلل النفس بإدراك ما يبتغيه من ثروة أخيه ولقبه وخطيبته.
أما ذلك اللورد المنكود الذي قضي عليه أن يكون ضحية الحسد واللؤم والمطامع السافلة، فقد أصيب بحمى شديدة لزمته فأضاعت رشاده.
ثم اختلط عقله فصار يهذي ويتكلم كلاما غير مفهوم.
وكان وجهه قد تورم واسود فبات لونه كلون الفحم.
على أنه في هذيانه كان يردد كلمة واحدة تخرج واضحة من فمه دون سواها وهي اسم خطيبته مس إينا.
ورأى السير أفندال أنه يجب في هذا المقام إبلاغ مس إينا وأبيها فأمر أحد الخدم أن يدعوهما.
وركب الخادم جوادا، وانطلق به يسابق الرياح، إلى منزل السير أرشيبالد.
وعند الفجر أقبل السير أرشيبالد وابنته فلم تكد تراه الفتاة حتى صاحت صيحة رعب ...
فإن وجهه انتفخ انتفاخا شديدا حتى لم يعد يعرفه أحد.
وكان لحم وجنتيه قد تناثر واندلع لسانه وازرقت شفتاه، وغارت عيناه فلم يعد له شيء من الشبه بالإنسان.
ولما رأى الطبيب تلك الاستحالة هز رأسه إشارة إلى القنوط: «لم يبق للطب حيلة في هذا المنكود.»
أما السير أفندال فقد كان خرج من غرفة أخيه وغادر القصر، فسار دون أن يعرف إلى أين يسير.
وكان حاسر الرأس، ولعله ندم على فعلته الشنعاء. ولم يعد يطيق النظر إلى وجه أخيه، أو أنه خجل من تكلفه الكآبة وهو يضمر السرور والارتياح.
وفيما هو سائر إلى حيث تدفعه قدماه رأى أباه خرج من الأدغال وتعرض له وهو يبتسم ابتسامة الأبالسة فسأله: ما وراءك من الأخبار، يا بني؟ - أخشى أن تكون خدعتني، يا أبي. - كيف ذلك؟ - ذلك أن اللورد وليم على فراش الموت ولقد أقسمت لي أنه لا يموت.
فابتسم وأجابه: «ولا أزال أقسم لك أنه لا يموت.» - ولكن الطبيب أكد أنه مشرف على الموت.
وأجابه ببرود: «إنه طبيب جاهل ... والآن فاحذر من أن يبدو منك ما يفتضح به أمرك، فإني أراك شديد الاضطراب، وقد تمكن منك الرعب شأن من لا إرادة عنده ولا صبر له على المهام الجسام فهلا تريد أن تغدو لوردا، وتتزوج مس إينا؟»
فاضطرب فؤاده عند ذكر خطيبة أخيه، وعادت إليه السكينة، فقال لأبيه: «قل ماذا تريد مني الآن؟»
وأخرج السير جورج شمعة من جيبه، فدفعها إليه قائلا: خذ هذه الشمعة ... - ماذا تريد أن أصنع بها؟ - أريد أن تضعها في شمعدان بدلا من الشمعة التي تكون فيه. - وبعد ذلك؟ - تضعها في غرفة أخيك، وتسهر مع السير أرشيبالد وابنته في الغرفة، فإنهما سيقضيان الليل في غرفته دون شك، فتضع هذه الشمعة فوق المستوقد وتضيئها. - إني لم أفهم شيئا. - لا حاجة الآن إلى أن تفهم. ثم ضحك، وقال: «سوف تعلم، فأودعك الآن على أمل اللقاء القريب.»
29
كان ذلك اليوم هائلا في قصر اللورد باميلتون، فإن الحمى اشتدت على اللورد حتى أوشكت أن تفتك به.
ثم تلاها انحطاط شديد فوهنت قواه وأطبقت عيناه.
وكانوا قد أرسلوا الرسائل البرقية إلى لندرا يستقدمون فيها أعظم أطبائها وأبعدهم شهرة، وأوسعهم علما، ولكنهم كانوا يخشون أن لا يدرك الأطباء هذا العليل المنكود، لما رأوه من انحطاطه وخطورة حاله.
وكان السير أرشيبالد وابنته قد أقاما في غرفة اللورد.
أما السير أرشيبالد فقد كان حزين النفس منقبض الصدر، ينظر إلى صهره نظر القانط من حياته، فيتجهم جبينه، وتنطبع على وجهه علائم الكآبة والحزن الشديد.
وأما مس إينا فإنها كانت لا تنظر إلى وجه خطيبها حتى تصيح صيحة ذعر فتحمل رأسها بين يديها وتذرف الدمع السخين، ثم تنقطع إلى الصلاة وتنذر النذور.
وأما السير أفندال، فقد كان يمثل دوره أتقن تمثيل فيتنهد ويشهق بالبكاء ويمتنع عن مناولة الطعام، كأنما هذه النكبة قد أصابته حقيقة، وكأنما ليست يده الأثيمة التي دست لأخيه اللورد وليم هذا السم!
ولقد أشفق عليه السير أرشيبالد لما رآه من دلائل يأسه، فأقبل يعزيه، وتعزت مس إينا بما رأته من دلائل صدق إخائه، فعانقته وهي تناديه: «يا أخي العزيز.»
وفي المساء تغيرت حالة اللورد بعض التغيير، وزال عنه ذلك الذهول ففتح عينيه وتكلم بضع كلمات، فعاد الرجاء إلى قلب مس إينا وحسبت أنه سيستفيق ويعود إلى الرشاد.
أما السير أفندال فقد قطب جبينه حين بدت هذه الدلائل من أخيه، فقال في نفسه: «إنه إذا عاد إليه صوابه فلا أدري كيف يستطيع أبي أن يفي بما وعد.»
وكأنما هذا التغيير الفجائي قد أحدث ارتياحا في نفس السير أفندال ورضي أن يأكل، وخرج مع الفتاة وأبيها إلى قاعة الطعام.
ولكنه لم تمر به ساعة حتى بدأ يفهم قصد أبيه؛ ذلك أنه شم رائحة غريبة عبقت في تلك الغرفة.
وقد شم السير أرشيبالد وابنته نفس تلك الرائحة ولكنهما حسبا أنها صادرة من جسم اللورد، فإن لحم وجنتيه كان قد تناثر ولم يخرجا من تلك الغرفة التماسا للراحة، لتوهمهما أن ذلك دليل على دنو ساعة اللورد، وأنه لا يجمل بهما تركه في مثل هذه الساعة.
أما السير أفندال فقد علم أنها رائحة الشمعة. •••
ولم تطل مدة انبعاث هذه الرائحة فإن السير أفندال شعر بدوار في رأسه وبحاجة قوية إلى النوم لا تقاوم.
على أنه قاوم ما استطاع حين رأى السير أرشيبالد والفتاة قد أغمضا عيونهما وكذلك خادم الغرفة التي كان واقفا بجانب سرير العليل يعالجه بدواء الطبيب وأطبق هو عينيه بالرغم عنه.
وبعد ذلك بزمن وجيز شعر باهتزاز عنيف، ثم أحس ببرود في جسمه، ففتح عينيه واستفاق من ذلك الإغفاء.
ولكنه لم يجد نفسه في غرفة أخيه اللورد وليم، بل كان في غرفته الخاصة وفي سريره الخاص.
وقد وجد رجلا بالقرب منه، أما هذا الرجل فكان أباه.
وكان بيد السير جورج إسفنجة غمسها بالخل وجعل يدعك بها صدغي ولده حتى استفاق تمام الاستفاقة.
ونظر إلى أبيه، وقال له: «أين أنا وما حدث؟» - انهض من سريرك.
ونهض السير أفندال، ووثب من سريره إلى الأرض، وقد عاد إلى حالته الطبيعية، ولم يبق مصابا إلا بدوار خفيف.
وعند ذلك قال له أبوه: «اتبعني.»
ثم فتح باب الغرفة المؤدي إلى المكتبة، التي تؤدي إلى غرفة اللورد وليم.
وكان السير جورج قد دخل إلى تلك الغرفة قبل ولده، وهو يبتسم ابتسام الهازئ، وتبعه ولده وهو يمشي مشية المضطرب الخائف، وهو لا يعلم أيشفق على أخيه فيندم، أم يسترسل إلى الطمع بنتيجة فوزه على أخيه.
ولما دخل إلى غرفة أخيه قال له أبوه: «انظر.»
حتى نظر إلى أخيه، فرآه مسجى فوق سريره، وليس عليه شيء من دلائل الحياة.
فقال له أبوه: «هلم بنا نتحدث الآن، ولا خوف علينا فإن دوي المدافع لا يوقظ النائمين، وإن طالت إقامتنا في هذه الغرفة تؤثر فينا رائحة الشمعة، وتفعل بنا فعلها بهم.» - أرى أنك خدعتني، يا أبي؛ فإن أخي لا حراك به. - كلا، بل هو نائم. - ألا تخدعني؟ - كلا، فادن منه وضع يدك فوق قلبه تشعر بدقاته.
فامتثل السير أفندال ودنا من أخيه غير هياب فاستوثق مما قاله له أبوه، وأيقن أن أخاه لا يزال في قيد الحياة، ولكن يده كانت تضطرب اضطرابا قويا، فإن الجريمة تمثلت له حين لمس أخاه فأثرت به أسوأ تأثير.
ثم نظر إلى أبيه بعد أن أدار ظهره كي لا يرى أخاه، وسأله: وبعد ذلك؟ - انظر.
وأشار إلى زاوية في الغرفة ودله على جسم إنساني كان ممددا في تلك الزاوية ومغطى بقطعة كبيرة من القماش.
فذعر السير أفندال، وسأل: «ما هذا؟»
فمشى السير جورج إلى هذا الجسم، وأزاح عنه الغطاء.
غير أن السير أفندال لم يلبث أن رأى ذاك الجسم حتى صاح صيحة رعب منكرة؛ فإنه رأى جثة باردة.
وكانت جثة متورمة وقد كثر تشويه الوجه بحيث لم يعد يعرف كوجه اللورد وليم.
أما السير جورج فإنه قابل ذعر ولده بابتسام، وقال له: «إذا وضعت الآن هذه الجثة مكان أخيك أيمكن التمييز بينهما؟» - كلا، فإن التشويه واحد والتورم متشابه. - إذا أنت ترى التشابه بين الاثنين؟ - هذا أكيد، غير أن أحدهما ميت والآخر حي. - إن هذا الرجل الذي تراه في الزاوية هو ذاك الملسوع الذي كانوا يحملونه على البغل. - ولكنه مات؟ - نعم ... - أرأيت إذا أن سم تلك الحية قاتل؟ - إنك منخدع، يا بني. - كيف أكون منخدعا وأنت تقول إنه مات؟ - لم يمت حتف أنفه، ولكنا قتلناه. - كيف ذلك؟ - إننا سقيناه سما فمات، والطبيب يحسب أنه مات بسم الأفعى.
وجعل السير أفندال ينظر نظرا مضطربا إلى الجثة وإلى أخيه.
فقال له أبوه: كفاك تضطرب اضطراب الأطفال، وهلم إلى مساعدتي.
ثم دنا من سرير اللورد وليم فحمله من سريره ووضعه فوق مقعد، وعاد مع ولده إلى الجثة فحملاها ووضعاها فوق سرير اللورد وليم.
وبعد أن وضع فوقها الغطاء، قال لولده: «يحب الآن أن تساعدني على إخراج أخيك من القصر.» - كيف ذلك؟ - إننا سنحمله في البدء إلى غرفتك. - إلى غرفتي؟ - نعم ... فإن رجلين ينتظرانني تحت نافذة غرفتك، وقد وضعا سلما تصل إليها. - من هما هذان الرجلان؟ - القائد برسي والجندي جوهن. - ولكن أخي نائم نوم تخدير، فإذا نقل إلى حيث تريد نقله فلا بد له أن يستفيق بعد ذلك. - إنه يستفيق دون شك. - إذا ماذا تصنع؟ - ألم أقل لك إنه سيغدو مجنونا عدة أسابيع من تأثير سم الأفعى. - نعم ...
وضحك السير جورج، وقال: إنه في مدة هذه الأسابيع يصبح بعيدا بعدا شاسعا عن إنكلترا فمتى عاد إلى صوابه يجد نفسه في أوستراليا. - وأنا ما يكون من أمري؟ - إنك تصبح لوردا؛ إذ لا وارث لأخيك إلاك، وهو ميت في عرف الناس.
ثم حمل ذلك اللورد المنكود على كتفه إلى غرفة السير أفندال وتبعه ولده إليها. •••
أما الشمعة المخدرة في غرفة اللورد وليم فقد ذاب ثلاثة أرباعها، ولكنها كانت لا تزال مضاءة.
30
ولما وصلا باللورد وليم إلى غرفة أفندال أطل السير جورج من النافذة ورأى الخائنين لا يزالان في موقفهما.
فأشار إلى أحدهما أن يصعد على السلم، فصعد وألقى إليه اللورد وليم، وأعانه حتى بلغ به إلى الحديقة.
وعند ذلك التفت إلى ولده، وقال له: «ينبغي الآن أن تعود إلى غرفة أخيك، وتجلس في المكان الذي كنت جالسا فيه مع السير أرشيبالد وابنته فيؤثر فيك المخدر وتنام نومهما.»
ثم تركه ونزل من النافذة، فخرج باللورد وليم من الحديقة، وتوارى عن الأنظار.
أما السير أفندال فإنه بقي واقفا عند النافذة حتى احتجبوا عنه وأيقن أنهم ساروا بأخيه فعاد إلى أخيه.
وقد رأى أن الشمعة لا تزال منيرة فجلس على الكرسي الذي كان جالسا عليه قبل أن يتخدر منذ بضع ساعات، وهو يقول في نفسه: «لست أبالي الآن بالتخدير، بل أود أن يطول زمن تخديري، فيستفيق السير أرشيبالد وابنته قبلي.»
ولبث في موضعه وهو يعلل النفس بالأماني ويبسط فرش المستقبل ورائحة الشمعة تدخل من خياشيمه إلى رئتيه وتفعل فعلها فيه.
وما زال يفتكر بأخيه وما عسى أن يكون من أمرهم حين يستفيقون ويجدونه ميتا.
وبلغ المخدر مبلغه منه فأطبق أجفانه ونام.
وبعد حين انطفأت الشمعة وأخذ هواء الغرفة ينقى تباعا.
فما مضى على ذلك ساعة حتى استفاق السير أرشيبالد، ولكنه كان لا يزال مشتت الحواس لا يستطيع الوقوف.
وبعد جهد قوي تمكن من الوقوف، وجعل يمشي مشية السكارى، فلا يخطو خطوة حتى يقف.
ولم يكن يعلم ما أصابه، غير أنه شعر أنه يكاد يختنق وأنه محتاج إلى الهواء النقي.
فجر نفسه إلى النافذة ولم يتمكن من فتحها، فضرب زجاجها بيده فتحطم، ودخل الهواء النقي إلى الغرفة. ووقف يتنشقه هنيهة حتى خف ما به، فالتفت ورأى ابنته والخادم قد استيقظا، ولم يبق نائما غير السير أفندال.
وكان الفجر قد انبثق وملأ شعاعه الغرفة فنظرت مس إينا إلى ما حولها منذهلة حتى استقر نظرها على يد باردة من تحت غطاء السرير.
فدنت منه وهي تحسب أن اليد يد خطيبها اللورد وليم وأخذتها بين يديها وهي تضطرب لاصفرارها.
ولم تكد تلمسها حتى صاحت صيحة رعب منكرة لما شعرت به من برودتها، وقالت: «ويلاه! إنه مات.»
فأسرع السير أرشيبالد ووضع يديه على قلبه، وقال: «إنه ميت، واأسفاه!»
أما السير أفندال فإنه صحا لصوت مس إينا، فأجال نظرا قلقا مضطربا وقال: «ماذا جرى؟»
فأخذه السير أرشيبالد ووضع يده بين يديه، وقال: «صبرا، يا بني، إن أخاك مات ونحن نيام.» •••
وبعد ذلك وصل الطبيب، وأثبت وفاة اللورد مسموما، وعلل نوم أخيه والسير أرشيبالد وابنته، بسبب تسمم هواء الغرفة، وعدم تجديده.
أما السير أفندال فإنه أظهر من الحزن ما لا تظهره أم فجعت بولدها فكان يضرب الجدار برأسه ويحاول الانتحار، حتى انصرف جميع الخدم إلى مراقبته لإشفاقهم عليه من الانتحار.
وفي مساء اليوم التالي خرج السير أفندال من القصر ماشيا إلى الخلاء، وهو مطرق الرأس كئيب النفس، حتى وصل إلى قمة مشرفة على الطريق العام.
وهنا وقد استلفت نظره منظر غريب، وهو جماعة من الرجال مقيدون بسلاسل، وهم يسيرون مكرهين، ودلائل اليأس بادية في وجوههم.
وكان يمشي في طليعتهم القائد برسي والجندي جوهن، ووراء الجماعة بغل عليه رجل مشوه الخلقة مورم الجسم.
فرآه السير أفندال وارتعش ارتعاشا عظيما، حتى أوشك أن يسقط على الأرض؛ إذ عرف أن هذا المنكود أخوه.
وعند ذلك دنا منه رجل فقير وكان قرب أولئك المجرمين، فقال له: «إن هؤلاء المجرمين تعساء، يا سيدي الميلورد، ولكن أشدهم بؤسا ذلك الرجل المحمول على البغل.»
فألقى السير أفندال دينارا إلى ذلك الفقير ومشى هائما على وجهه لا يعلم أين يسير لما أصابه من الاضطراب .
وفيما هو ينزل عن تلك القمة، سمع صوت رجل يناديه بلقب اللورد.
والتفت فرأى أن هذا الرجل أبوه وقد كان واقفا عند أسفل القمة يراقب سير المجرمين.
ووقف السير أفندال وهو مصفر الوجه منعقد اللسان فقد أثر به منظر أخيه تأثيرا عظيما حتى أوشك أن يبوح بما جرى.
أما السير جورج فإنه وثب إليه، وقال: «لقد وفيت بوعدي، يا بني، فأنت اليوم لورد وستتزوج مس إينا بعد ستة أشهر.»
ثم تركه وتوارى عن الأنظار مختفيا بين الأدغال.
ولقد صدق هذا الرجل الجهنمي الأثيم بما تنبأ به؛ فإن السير أفندال الذي بات الآن لوردا بعد احتجاب أخيه، تمكن من الفوز بمراده من زواج مس إينا.
وذلك أن والد هذه الفتاة كان كثير الطمع بالجاه شديد التزلف من النبلاء، وقد رأى أن آماله خابت بمصاهرة اللوردية بعد موت اللورد وليم فطمع بأخيه أفندال لا سيما وقد علم من ابنته أنه يهواها.
غير أنه رأى أن ابنته لا تهواه، فما زال بها وهو يسهل لهما أسباب الاجتماع والاختلاء، ويبالغ في مدح أفندال وإظهار حسناته، حتى رضيت به بعلا فخلعا ثياب الحداد وعقد زواجهما فأدرك هذا الأثيم ما كان يبتغيه.
وفي اليوم الذي دفن فيه ذلك الرجل المجرم الذي كان يعتقد الناس أنه اللورد وليم، عاد توما من لندرا ولكنه عاد متأخرا ولو عاد قبل يوم لما تمكن السير جورج من فوزه بالدسيسة.
فبكى سيده بكاء شديدا واعتزل الخدمة من قصر باميلتون فإنه أنف من أن يخدم ابن الجريمة.
أما السير أفندال فإنه بعد أن جاء بعروسه إلى قصره نزل إلى حديقة القصر لمقابلة أبيه؛ فقد كان السير جورج سأله أن يوافيه إليها.
وكان نور القمر يتألق في السماء ويرسل أشعته إلى تلك الحديقة من خلال أوراق الشجر فيلقيها على العشب كالدنانير.
فلما وصل اللورد أفندال إلى تلك الشجرة التي اتفق مع أبيه على الالتقاء عندها رأى أباه ولكنه رآه مضطجعا على العشب.
وناداه باسمه.
ولكن السير جورج لم يجب النداء.
ودنا منه ولم يكد يصل إليه حتى صاح صيحة رعب.
ذلك أنه رأى أباه صريعا ورأى خنجرا مشكوكا في قلبه والدم يسيل من جرحه.
فأسرع إليه، وانتزع الخنجر من قلبه ونظر فيه فرأى خنجر الصيد الذي كان يتقلده توما زوج بيتزي.
31
ولنعد الآن إلى توما فإنه في اليوم الذي تزوج فيه اللورد أفندال مس إينا خطيبة أخيه، أنف الإقامة في ذلك القصر قصر الإثم والجريمة فاستقال من خدمته.
وقد عرف القراء أن اللورد وليم كان قد أرسله إلى لندرا لقبض ما كان لديه من المال النقدي في مصارفها.
فلما عاد وعرف ما أصاب مولاه بكاه وهو يعتقد أنه مات حقيقة؛ إذ لم تخطر له هذه الجريمة الهائلة في بال.
وكان السير أفندال يمثل الكآبة خير تمثيل، فلم يجد توما أقل سبيل للشك به.
غير أنه اتفق له مرة قبل سفره إلى لندرا ببضعة أيام أنه رأى رجلا يسير بين أشجار الحديقة.
وكان توما واقفا عند النافذة والقمر يسطع في السماء، فرأى توما الرجل وعرف أنه نظام، أي الفقير الهندي الذي كان قد طرده من القصر حين جاء إليه مع الطبيب يوم وفاة أم اللورد.
وقد كان يكره هذا الرجل كرها قويا لاعتقاده أنه كان السبب في وفاة أخته بالرضاع، ولأنه كان يتبين دلائل الخبث والشر من عينيه.
فلما رآه ينسل بين أشجار الحديقة أنكر وجوده فيها كل الإنكار، وهم بالنزول إليه وطرده أقبح طرد.
ولكنه رأى على نور ضوء القمر رجلا خرج من باب القصر وعرف أن هذا الرجل هو السير أفندال.
فراقبه ورآه قد لحق الهندي وانضم إليه.
وقد ذعر واشمأز حين رأى السير أفندال قد تأبط ذراع الفقير الهندي ومشى وإياه دون كلفة على ما بينهما من التباين في المقام.
واتسع مجال الشك لدى توما، وأيقن أن الاثنين شريكان في الجريمة.
ثم خطر في ذهنه أن هذا الرجل هندي، وأنه هو الذي أحضر الحية الهندية الزرقاء.
واستنتج من ذلك أن السير أفندال قد قتل أخاه طمعا بثروته ولقبه كما حاول أبوه من قبل أن يفعل بأخيه؛ لأن الحية لا تلد إلا الحية.
ومن ذلك الحين، جعل يراقب الهندي مراقبة الجواسيس، ولازمه لزوم الظل.
وقد كان توما واثقا من أن اللورد وليم قد مات قتيلا، وأن الاثنين شريكان بالجريمة.
غير أنه كان يعوزه البرهان كي ينتقم للورد وليم انتقاما هائلا، ترتعد له الفرائص.
ولم يكن يخطر له في بال أن هذا الفقير الهندي والسير جورج واحد، بل كان يعتقد أنه رجل أثيم سافل، وأن السير أفندال قد استخدمه لأغراضه الدنيئة.
وما زال يراقب الاثنين مراقبة اليقظ، حتى رأى السير أفندال يسير ليلة لموافاة الهندي فتبعه حتى رآه دخل إلى الغابة واختلى فيها بالفقير الهندي الذي كان ينتظر بين الأشجار.
وكان الظلام كثيفا فاختبأ توما بين الأدغال وراء الشجرة التي كانا جالسين عندها وسمع حديث هذين الأثيمين.
وبعد انصرافهما، خرج توما من الأدغال، والعرق البارد ينصب من جبينه.
إذ علم الآن أن هذا الرجل المتنكر بأزياء الهنود لم يكن إلا والد السير أفندال؛ أي السير جورج باميلتون.
وقد علم توما أن السير جورج الذي أذاعت الجرائد خبر وفاته، منذ خمسة عشر عاما، لا يزال في قيد الحياة.
وعلم أن السير أفندال وأباه قد اشتركا بالجريمة.
غير أن الذي بقي مشكلا عليه من هذه الخفايا مما سمعه من حديثهما أن اللورد وليم لا يزال حيا.
وكان يقول في نفسه: «كيف أنه لم يمت؟ وإذا كان لم يمت، فكيف دفنوه؟ وإذا كانوا دفنوا سواه بدلا منه، فمن هذا الشخص المدفون؟ وأين هو اللورد؟»
كل هذه الألغاز كانت تجول في ضميره فلا يهتدي من حلها إلى مراد، ولا يزيده إشكالها إلا حقدا على هذين الأثيمين.
ففي اليوم الذي تزوج فيه السير أفندال مس إينا، اعتزل توما وامرأته بيتزي خدمة القصر، وسافرا في رائعة النهار، إلى المحطة التي تسير منها القطارات إلى لندرا.
ورآهما الخدم وصلا إلى المحطة بأمتعتهما، ووثق السير أفندال كل الوثوق من سفرهما.
غير أن توما سافر بالقطار إلى أول محطة فنزل فيها وترك امرأته تواصل السير إلى لندرا.
واختبأ في تلك المحطة إلى الليل، ثم عاد إلى قرية باميلتون دون أن يعلم بعودته أحد.
وما زال يراقب السير جورج حتى رآه ليلة دخل إلى حديقة القصر.
فاقتفى أثره على مسافة بعيدة فرآه جلس عند جزع الشجرة التي كان يتسلقها إلى غرفة ولده واضطجع فوق العشب.
وكانت الأنوار لا تزال تتألق في القصر، وكان السير جورج ينظر إليها ويتوقع انطفاءها بفارغ الصبر.
وفيما هو على ذلك رأى رجلا وثب إليه وثبة النمر.
وكان هذا الرجل توما.
فإنه انقض عليه وقبض على عنقه وكان مشهرا خنجرا، في حين أن السير جورج لم يكن لديه سلاح.
فذعر السير جورج ذعرا قويا وحاول أن يصيح مستنجدا. غير أن توما ضغط على عنقه حتى كاد يخنقه، وقال له: إذا فهت بكلمة أغمدت هذا الخنجر في قلبك.
فخاف السير جورج إنفاذ وعيده، وقال له بصوت منخفض: «ماذا تريد مني؟» - أن أقول لك إني أعرف كل شيء؛ فما أنت نظام وما أنت من فقراء الهنود، بل أنت السير جورج باميلتون.
فأن السير جورج أنين الموجع، وقال: «أعرفتني؟» - نعم، وعرفت أنك قتلت اللورد وليم. - كلا. - أيها الشقي أتجسر على إنكار الجريمة؟! - إني لا أنكر فقد قلت الحقيقة، ولم أقتل اللورد وليم. - ولكنك أنت الذي جئت بالحية الزرقاء؟ - نعم. - وأنت الذي وضعتها في فراش اللورد؟ - هو ذاك. - إذا كنت تقر هذا الإقرار، فكيف تجسر بعد ذلك على إنكار الجريمة؟ - قلت لك إني لم أقتل اللورد وليم. - وأنا أقول لك إنك نذل خائن سفاك أثيم. - إن اللورد وليم لم يمت، ولكنك متى عرفت ما صار إليه تتمنى لو كان في مصاف الأموات.
فوضع توما ركبته فوق صدر السير جورج ووضع رأس خنجره فوق عنقه، وقال له: أتبوح أيها الأثيم بكل شيء أم تؤثر الموت؟ - أتريد أن تعلم كل شيء؟ - دون شك. - وإذا قلت لك ما جرى للورد وليم أتعفو عني؟ - كلا؛ إنك لا تستحق الحياة. - إذا، أخبرك بما صار إليه، ويكون هذا آخر انتقامي.
ثم ظهرت عليه علائم الانتقام الوحشي وخرج الزبد من شدقيه، فأخبر توما كيف أنه قتل أحد المجرمين المحكوم عليه بالنفي إلى أوستراليا ووضعه في فراش اللورد وليم.
ثم أتم حكايته وضحك ضحك الأبالسة، وقال له: «لم يبق لك فائدة من علمك أن اللورد وليم في قيد الحياة؛ لأنك لن تلقاه.»
إن اللورد وليم سافر مع المجرمين باسم ذلك المجرم الذي قتلته ووضعته في فراشه، فحسب الناس أنه مات. - ما اسم هذا المجرم؟ - لن تعرفه. - قل ماذا يدعى أو قتلتك؟ - كلا.
وكان السير جورج يحاول الإطالة في الحديث راجيا أن يوافيه ولده السير أفندال وينقذه مما هو فيه.
غير أن توما أدرك قصده، فقال له: «قل أو أنت من الهالكين.» - كلا، كلا، لا أريد. - إذا، مت أيها الفاجر الأثيم.
ثم طعنه بخنجره طعنة نجلاء فأغمده في قلبه، فمات هذا الشقي دون أن يسمع له صوت.
وعند ذلك نهض توما عنه وهو يقول في نفسه: «إني لا أدري أي اسم دعي به هذا اللورد المنكود.
ولكني لا أبالي، وإن الأرض واسعة، ولكن الله يعينني على إيجاده.»
ثم ترك الخنجر مغمدا في قلب السير جورج، وأركن إلى الفرار.
32
وسار توما منذ ذلك اليوم مستطلعا باحثا عن مولاه اللورد وليم بل ربيبه بل ابن أخته بالرضاع.
وإن الأرض متسعة فلا أصعب من البحث فيها عن رجل لا يعرف اسمه بل إن إيجاده يعد ضربا من المحال.
غير أن توما كان يحب اللورد وليم حب عبادة، فجعل يبحث عنه غير مكترث لهذه الصعاب.
وكان أول ما بدأ به أنه سافر إلى امرأته في لندرا، فأخبرها بما علمه من السير جورج.
وكانت امرأته بيتزي ذكية الفؤاد بالغة الإخلاص، فأصغت إلى كلامه بملء الاهتمام، حتى إذا أتم حكايته، قالت له: «إنه يجب قبل كل شيء أن تعرف أمرين.» - ما هما؟ - أولا معرفة اسم القائد الذي يقود المجرمين. - والثاني؟ - من أي مدينة إيكوسية جاءوا بذلك المجرم الذي دفن الآن في تربة أسرة باميلتون بدلا من اللورد وليم ؟ - لقد أصبت وسأسلك هذا السبيل.
وكان توما يعرف كثيرين من لندرا، وله صحبة مع بوليس سري شهير كان رئيس بوليس لندرا يعهد إليه بأعظم المهمات الخطيرة.
فذهب إليه وباح له بسر اللورد وليم.
وكان توما يعلم أن البوليس الإنكليزي لا يخدم مثل هذه الخدمات مجانا، فنفحه ثلاثمائة جنيه.
أما البوليس فإنه قبض المال شاكرا وسأله أن يمهله ثمانية أيام.
وبعد ثمانية أيام، أرسل هذا البوليس الحاذق إلى توما، هذه المذكرة، وهي:
إن ضابطا يقود المجرمين إلى منفاهم مر بهم، منذ سبعة أشهر، بقرية باميلتون.
وهو يدعى برسي، وقد ذهب بهم إلى ليفربول. والمرجح أنه سافر معهم.
فسار توما لفوره بالسكة الحديدية إلى ليفربول.
وهناك بحث في سجلات البحرية فوجد حقيقة اسم برسي على ما وصفه له البوليس السري.
ثم علم من ذلك السجل، أن برسي قد سافر مع المجرمين المنفيين إلى زيلندا الجديدة.
فتردد توما في أمره بين أن يسافر في الحال إلى زيلندا وبين أن يبحث قبلا عن اسم المجرم الذي دعي به اللورد وليم.
إلى أن استقر رأيه على ضرورة معرفة ذلك الاسم فسار إلى إيكوسيا.
وكان أول مسيره إلى ومبورج ثم إلى غلاسكو فكان يستقصي في طريقه ويبحث أدق الأبحاث.
إلى أن وصل إلى تلك المدينة الصغيرة التي تسمى بيرت واختلط مع أهلها وباحثهم عن الجرائم، فقصوا عليه هذه الحكاية الغريبة وهي:
إن رجلا يدعى ولتر بريس حكم عليه بالنفي خمسة أعوام لكثرة سرقاته.
وقد كان مسجونا في سجن بيرت وهو على أتم ما يكون من العافية.
وبينما هو نائم في سجنه استيقظ مرعوبا، وجعل يصيح صياحا هائلا.
فأسرع السجان إليه فلقيه قد جن، وأن وجهه قد تورم واسود.
فلما سمع توما هذه الحكاية رأى أن تورم هذا المجرم واسوداد بشرته ينطبق كل الانطباق على ما كان عليه اللورد بعد أن لدغته الأفعى.
وخطر له أنه نفس المجرم الذي دفن باسم اللورد وليم، ولكنه أراد أن يستوثق فسأل من كان يحدثه عن مصير هذا الرجل.
فقال له : «إنه نقل إلى المستشفى ، وبقي فيه حتى مرت قافلة المجرمين، فأخذوه بالرغم من علته واستفحال دائه.»
فسأل عن تاريخ هذه الحادثة فعلم أن القافلة سافرت من بيرت إلى قرية باميلتون قبل أن يذاع موت اللورد وليم بخمسة أيام.
وهنا أيقن توما أن اللورد وليم يدعى ولتر بريس.
ولكنه بقي عليه أن يجد ولتر بريس؛ فلم ير بدا من العودة إلى لندرا.
ولم يكن توما غنيا؛ إذ لم يكن لديه غير بضع مئات من الجنيهات كان اقتصدها طيلة خدمته في قصر باميلتون من رواتبه.
فلما أخبر امرأته بعزمه على السفر إلى زيلندا الجديدة، للبحث عن مولاه اللورد المنكود قالت له: «خذ كل ما لدينا من المال، فإني أشتغل وأكفي نفسي، ولا تبق لي شيئا؛ فإني أشتغل وأعيش، وأنت أحوج مني إلى المال في اغترابك.»
وبعد ذلك بثمانية أيام سافر توما إلى زيلندا الجديدة.
وكان جميع ما أخذ معه من المال ألفا ومائتي جنيه، جعلها أوراقا مالية ووضعها في منطقة من جلد، فتمنطق بها حذرا عليها من السرقة أو الضياع.
وكان قد سافر في سفينة شراعية، فوافق الهواء سير السفينة في الشهر الأول من سفرها، واجتازت الجهة الغربية من أميركا، ودخلت في الأوقيانوس الباسيفيكي.
ولكنها صدمت صخرا بعد ذلك بأسبوع في ليلة مظلمة فغرقت.
وكان الربان والبحارة بذلوا مجهودهم في سبيل إنقاذها فلم يفلحوا، فلما قنط الربان من إنقاذها صرف همه إلى إنقاذ المسافرين فأنزل القوارب إلى البحر وازدحم فيها الركاب والنوتية بعضهم فوق بعض.
وقد لقي توما في هذه الرحلة أخطارا هائلة.
وإنه أقام في ذلك القارب ثمانية عشر يوما تائها في البحر مع رفاقه لا يدرون أين يسيرون.
ثم نفد الزاد من عندهم وقاسوا آلاما هائلة من الجوع.
على أنهم رأوا البر بعد اليوم العشرين وبعد أن كاد يفتك بهم الجوع فصاحوا جميعهم صياح الفرح والاستبشار.
وقد حسب أولئك المنكودون أنهم نجوا، غير أنهم وقعوا في بلاء لا يذكر معه بلاء الغرق والجوع.
ذلك أن هذا البر الذي رأوه، وحسبوا أن النجاة فيه، إنما كان جزيرة يسكنها المتوحشون من أكلة البشر، ووجدوا أولئك المنكودين طعاما مريا!
غير أن توما كان أسعدهم حظا فإنه كان هزيل الجسم فرأى أولئك المتوحشون أن يصبروا عليه إلى أن يسمن فيأكلوه خلافا لرفاقه؛ فإنهم لم يبقوا على أحد منهم وأكلوهم أكل الخرفان.
وقد أقام في تلك الجزيرة المتوحشة الهائلة خمسة أعوام، ينتظر أهلها أن يسمن فيأكلوه، وهو لا يزيد إلا نحولا كل يوم أملا أن تمر سفينة بهذه الجزيرة فيفر عليها.
إلى أن اتفق يوما مرور سفينة إنكليزية بمياه تلك الجزيرة فأسرع إليها أولئك المتوحشون لبيع أثمارهم حسب عادتهم.
وهناك أخبروا بحارتها أن لديهم رجلا من البيض أمثالهم.
فأشفق الربان عليه، لما كان يعلم من عادات أولئك الهمج بأكل لحوم البشر. فأرسل بعض رجاله لإنقاذه فأنقذوه، وجاءوا به إلى تلك السفينة.
وكانت السفينة مسافرة إلى زيلندا الجديدة. فكان حظ توما مزدوجا بنجاته من أنياب المتوحشين وباتفاق سفر السفينة إلى زيلندا حيث كان يرجو أن يلاقي اللورد وليم.
وكان المتوحشون قد تركوا له أمواله لعدم اهتدائهم إليها في منطقته فتشجع لهذا الاتفاق وشكر الله لسلامته وسلامة أمواله وعد ذلك فألا حسنا فاستبشر بلقاء مولاه.
وبعد ذلك بشهر وصلت السفينة إلى زيلندا، وكان توما قد أصبح لضعفه مثل الخيال.
وكان أول ما فعله أنه كتب لامرأته يطمئنها عنه، ثم أخذ يبحث عن اللورد وليم بل عن ولتر بريس الذي سموه باسمه.
وطال بحثه عدة أيام وهو لا يظفر بشيء من مراده إلى أن علم بعد البحث الطويل أن نحو مائة من المجرمين المنفيين سافروا إلى أوستراليا ولكنه لم يعلم إذا كان ولتر بريس بينهم.
غير أنه لا بد له من السفر، فسافر في اليوم التالي إلى ملبورن عاصمة أوستراليا بل إحدى عاصمتيها.
وهناك بدأ أبحاثه، فكان يتردد على الحانات، ويسأل كل من يجده فيها من البحارة، فلم يجد بينهم من يخبره عن ولتر بريس.
غير أنه لم يقنط بعد هذا الفشل، بل برح العاصمة الأولى إلى العاصمة الثانية، وهي سدني.
فنزل في فندق حقير من فنادقها التماسا للاقتصاد في النفقة، وهناك عرف رجلا ألمانيا يدعى فونتر هوسر.
وقد كان هذا الرجل فقيرا معدما، فسأل توما أن يساعده بشيء من المال، ثم قص عليه حكايته، وهي أنه قضي عليه ظلما بالنفي إلى زيلندا الجديدة منذ ثمانية أعوام، وأنه يقاسي أشد العناء لما يلقاه من العسر، وضيق سبل الرزق.
فأعطاه توما شيئا من النفقة، وقال له: «أكان لك اختلاط بالمنفيين من الإنكليز؟» - نعم، ولي صحبة مع أكثرهم. - أعرفت رجلا بينهم يدعى ولتر بريس؟ - نعم، ويا طالما ضحكنا منه! فقد كنا نلقبه بالميلورد.
فصاح توما صيحة سرور وأخذ يد فونتر بين يديه، وقال بلهف: «بالله امض في حديثك، وقل لي كل ما تعلمه عن هذا الرجل.»
33
فنظر إليه فونتر نظرة المنذهل، وقال: نعم، عرفت رجلا يدعى بهذا الاسم، بل إنهم دعوه به. - إنه كان ينكره كل الإنكار، أليس كذلك؟ - نعم، ولكن الغريب في أمره أنه كان يدعي بالنسب الرفيع والثروة الطائلة، بل كان يقول إنه لورد من أعضاء المجلس الأعلى، ولهذا كنا نلقبه بميلورد مجازاة له على ما علمناه بأنه من المجرمين. - إنكم لا تعلمون شيئا، وحاشاه أن يكون من أهل الإثم.
ونظر فونتر نظرة السائل المستغرب.
أما توما فإنه مضى في حديثه، فقال: «إن هذا الذي كنتم تدعونه ولتر بريس هو لورد حقيقة، فقل لي الآن أين اجتمعت به وكيف عرفته.» - إنهم استعبدونا سوية مدة أربعة أعوام. - أين كان ذلك؟ - في زيلندا الجديدة كما قلت لك. - وبعد ذلك؟ - افترقنا فلم أعد أراه. - كيف افترقتم؟ ولماذا؟ - أما أنا فلأن مدة عقابي قد انتهت، فأطلقوا سراحي وخيروني بين أن أعود إلى أوروبا وبين أن أحضر إلى هنا. - وولتر بريس؟ - إن مدى عقابه ينبغي أن تكون قد انتهت أيضا. - إذا، إنه عاد إلى أوروبا؟ - لا أظن.
فاضطرب توما، وقال: «كيف ذلك؟» - إني لا أضمن حقائق التعليمات التي سألقيها إليك، ومع ذلك فأصغ إلى ما سأرويه ...
فجعل قلب توما يخفق خفوق أجنحة الطائر ، وقال: «تكلم ...» - إن المجرمين الذين يحكم عليهم بالنفي إلى هذه البلاد لا يعود منهم عادة إلى أوروبا غير نفر قليل، وأما معظمهم فإنهم يؤثرون البقاء في أستراليا.
وهم يشتغلون أشغالا مختلفة فيها بعضم يرعى المواشي، وبعضم يشتغل في المناجم، وقد اتفق لكثير منهم أنهم نالوا ثروة عظيمة من هذه البلاد.
أما أنا فقد كنت منذ ستة أشهر في ملبورن وكان اليوم خاصا ببيع البهائم في سوقها الخاص.
فكانت الثيران والخرفان والماعز ترد ألوفا إلى السوق، ومعها أصحابها وكثير من الرعاة.
وأذكر أني رأيت في ذلك اليوم رجلا يشبه ولتر بريس في الغابة مع الرعاة، فأسرعت إليه كي أحدثه، ولكن الازدحام كان شديدا فلم أعثر به، ولم أتمكن بعد ذلك من لقياه.
فقال له توما: هب أن هذا الرجل الذي رأيته كان ولتر بريس بعينه، فماذا تستنتج من ذلك؟ - أستنتج أنه استخدم راعيا عند أحد أصحاب المواشي. - في أوستراليا؟ - دون شك. - ولكن، أوستراليا عظيمة تشبه القارة باتساعها، ففي أي قسم منها تحسب أن يكون؟ - هو ذاك، غير أن ملبورن لا ترد إليه الماشية إلا من الأقاليم الغربية. - حسنا فسأبحث عنه في هذه الأقاليم، فإن قلبي يحدثني أني سأجده. - ألعله كان صديقك؟ - كلا، بل كان سيدي ومولاي. - كيف ذلك؟ أكان هذا الرجل حقيقة من الأسياد؟! - لقد قلت إنه لورد نبيل. - أيمكن أن يحكم على اللوردية هذه الأحكام، وأن تبدل أسماؤهم هذا التبديل؟ - إن لذلك حديثا طويلا لا يمكن أن أرويه لك اليوم. - متى تقصه علي؟ - بعد أن أقترح عليك اقتراحا وأرى رأيك فيه. - قل ما تريد؟ - إنك فقير معدم، أليس كذلك؟ - بل إني أكاد أموت من الجوع. - ولذلك أظن أنك لا تأنف من كسب عشرة جنيهات في الشهر.
فاتقدت عينا فونتر ببارق من السرور، وقال: عشرة جنيهات؟! - نعم. - وماذا يجب أن أصنع لأكسبها؟ - تصحبني أين سرت وتشترك معي بالتفتيش عن ولتر بريس، أي لورد وليم. - إني أرضى بذلك كل الرضى؛ فإني أحببت هذا الرجل لصفاء قلبه، وفوق ذلك فإني محتاج إلى هذا الكسب. - إني لا أقتصر على منحك هذا الراتب؛ فإن وجدنا اللورد كان لك خير مكافأة تعيش بها سعيدا بقية أيامك. - إن كان ذلك فإني أسير معك حيث تشاء.
وفي اليوم التالي سار توما وفونتر إلى سيدني ليذهب منها إلى ملبورن.
وكان موعد سوق الماشية قريبا، فقررا أن ينتظراه على رجاء أن يظفرا باللورد بين الرعاة. غير أن توما لم يكتف بالانتظار، بل جعل يتفقد جميع الفنادق والحانات ويسير في جميع الشوارع والأزقة باحثا عن ولتر بريس فلا يعثر به ولا بمن وقف على أثره.
وكان الاثنان يبحثان عنه وكل منهما قد سار في قسم من المدينة، وكان فونتر أسعد حظا من توما في أبحاثه؛ وذلك أنه رأى راعيا كان يعرف ولتر بريس.
فأسرع إليه وسأله عنه؛ فقال له: إن السعادة قد تفاجئ المرء من حيث لا يدري. - ماذا تعني؟ - أعني أن ولتر بريس أحد هؤلاء السعداء.
وكان توما واقفا مع فونتر يسمع الحديث، فكان قلبه يخفق خفوقا عظيما، ولكنه لم يفه بحرف، أما فونتر فإنه قال للراعي: إذا قد أصبح ولتر بريس من السعداء. - بل من أسعدهم. - وأين هو الآن؟ - على بعد مرحلة من هذا المكان في الشمال الغربي. - أرأيته؟ - منذ ستة أشهر ... - ماذا يعمل؟ - إنه عندما عاد من زيلندا الجديدة، كان راعيا مثلي، وأما الآن فهو من أعظم تجار المواشي. - كيف حصلت له هذه الثروة؟ - إن ابنة تاجر المواشي الذي كان راعيا عنده أحبته فتزوجها وهي وحيدة، فلم يمض بضعة أشهر على هذا الزواج حتى توفي أبوها فورث ولتر بريس ثروته ومواشيه. - أتستطيع أن ترشدنا إلى المكان الذي يقيم فيه ولتر بريس بالتدقيق؟ - بل أفعل خيرا من ذلك؛ فإنه قريب منا وسأرافقك إليه. - متى؟ - متى شئت، فإني الآن قد بعت جميع المواشي التي أتيت بها من قريتي في السوق، ولم يبق لي ما أعمله في هذه المدينة. - إذا نسافر غدا؟ - كما تريد.
أما توما فقد كان سروره لا يوصف؛ فشكر الراعي شكرا عظيما، وافترق عنه على أمل اللقاء غدا .
وفي اليوم التالي التقى فرنتر وتوما بالراعي وسافروا.
وقد كان سفرهما شديد البطء لوعورة المسالك في تلك البلاد، ولأن المركبات تجرها الثيران.
وكانت المسافة بين المدينة وبين مركز اللورد وليم مائة مرحلة ينبغي لاجتيازها ثمانية أيام؛ فوصلوا في اليوم السابع - بعد ذاك السير الشاق - إلى مركز الراعي، وبات عنده تلك الليلة واستراحا من عناء السفر.
وفي صباح اليوم التالي سافروا جميعهم عند الفجر.
وبعد أن ساروا أربع ساعات قال لهم الراعي: إن المسافة لا تزال شاسعة بيننا وبين منزل ولتر بريس، ولكننا نمشي الآن في مراعي مواشيه، فإن جميع هذه الأراضي المتسعة له.
فأجفل توما لهذا الخبر، وعجب؛ كيف أنه لم يعد إلى إنكلترا ويعاقب الأثمة، لقد كان يحسب في البدء أن الفقر يمنعه من السفر أو الحكم عليه بالنفي.
أما وقد انتهت مدة عقابه ولم يعد يعوزه المال؛ فلا بد أن يكون هناك مانع عظيم يحول دون سفره إلى مسقط رأسه.
ومن ذلك الحين زاد اضطرابه وهواجسه وطلب إلى رفيقيه أن يسرعا في المسير، فقد نفدت جعبة صبره وأكبر هذه المعميات.
وما زالوا سائرين حتى توسطت الشمس في قبة الفلك، فرأى توما منزلا أبيض جميلا قائما بين غابة كثيفة من الأشجار الباسقة.
فقال له الراعي: إن هذا المنزل منزل ولتر بريس.
فسالت دموع توما من الحنو، وقال في نفسه: ترى أيعود معي إلى أوروبا؟
ثم واصل السير إلى ذلك المنزل ورجلاه تضطربان من فرط تأثيره وهو يبكي بكاء الأطفال، فإنه قد ربى اللورد وليم حتى بات لديه كأبنائه.
وزاده ولعا به وإشفاقا عليه نفوذ هذه الجريمة فيه، وإرساله إلى أقاصي الأرض في عداد المجرمين وهو أطهر الناس قلبا وأسلمهم نية، واشتغاله في حرث الأرض ورعي المواشي، وهو ربيب النعمة وابن الرخاء، وسليل النبلاء، بل هو الذي كان إن لمس الحرير يدمي بنانه.
فبات يحمل المعول في تلك اليد بعد أن كان يحمل بها عصا اللوردية وهي أولى بحمل الصولجان.
34
كان هذا المنزل الأبيض جميل الرونق لطيف المنظر، يشبه وهو بين الغابات حمامة بيضاء مستترة بين الأوراق.
وقد وجدوا عند مدخله إسطبلات وزرائب محاطة جميعها بسور ناصع البياض.
أما هذا المنزل؛ فقد كان في وسط حديقة غناء باسقة الأشجار وهي محيطة به كالنطاق.
ودخل توما ورفيقاه إلى الفناء الخارجي، واستقبلهم خادم زنجي يدعى بافان.
وكان الراعي يعرفه معرفة جيدة فقال له بعد التحية والسلام: إن هذين الرجلين من أصدقائي، وقد أتينا لزيارة المستر بريس.
فرحب الزنجي بهم وقال لهم: إن المستر بريس ليس في منزله الآن.
فاصفر وجه توما وخشي أن يكون مسافرا.
وقال له الراعي: أين هو ألعله مسافر؟ - كلا، ولكنه ذهب لتفقد بعض قطعانه في مسافة لا تبعد أكثر من ميل. - ألعله يعود قريبا؟ - دون شك.
وسأله توما: أيؤذن لنا بانتظاره في هذا الفناء؟ - بل في المنزل؛ فإن امرأته فيه فهلموا واتبعوني.
وتردد توما في البدء، ولكنه تبعه بعد إلحاحه.
وكان باب المنزل الكبير مفتوحا، فرأى توما حوالي هذا الباب حديقة خاصة بالزهر تتصل الأزهار منها إلى سلم المنزل وتتصاعد عليه حتى تبلغ غرفه.
ولما صعدوا السلم فتح الباب وظهرت منه امرأة صبية تحمل على صدرها طفلا صغيرا كانت ترضعه، ووراءها فتاة في الرابعة من عمرها، نظرت إلى الزائرين نظرة المنذهل إذ لم تكن رأتهم قبل هذه المرة.
أما المرأة فكانت زوجة ولتر بريس أو اللورد وليم.
وانحنى الراعي أمامها وحياها بكل احترام.
وقالت له: ما جاء بك يا طوبيا؟ ألعلك تريد مقابلة المستر ولتر؟
وكانت تكلمه وتنظر إلى توما وفونتر، كأنها تسأله بعينيها عن هذين الرجلين.
وأشار الراعي إلى توما وقال لها: هو ذا يا سيدتي رجل نبيل عاشر زوجك منذ عهد بعيد وهو من خير أصدقائه.
فارتعشت المرأة وقالت له: أين عرفه؟
فأجابها توما: إني عرفته في إنكلترا يا سيدتي.
وزاد اضطرب المرأة وقالت: ماذا؟ أفي إنكلترا؟ - نعم يا سيدتي. - أفي قرية برت؟ - كلا، بل في باميلتون.
وكان توما يكلمها بصوت يتهدج.
وسألته: من أنت يا سيدي؟ - إني أدعى توما.
وانذهلت المرأة انذهالا شديدا وقالت: أنت تدعى توما؟! - نعم يا سيدتي، ولم هذا الانذهال؟ إني أدعى توما، وقد رأيت أن اسمي قد أثر عليك، فهل زوجك يحدثك عني؟! - بل يحدثني كل يوم.
وفيما هي تكلمه سمعوا وقع حوافر جواد في الفناء الخارجي، فقالت: هو ذا زوجي قد حضر.
وأسرع توما وقد زاد به الاضطراب حتى وهت رجلاه وأوشك أن يقع؛ فجعل الراعي يعينه على المشي.
أما ولتر بريس فقد كان شابا يبلغ السابعة والعشرين من العمر، وهو أبيض الوجه غير أن الشمس لوحته فبات أميل إلى السمرة.
ولم يكن باقيا في وجهه شيء من التشويه وتلك الندوب التي أصيب بها بعد أن لسعته الحية الزرقاء.
ولما رأى توما مقبلا لاستقباله، والحنو يسيل من عينيه، نظر إليه نظرة إنكار، ولم يعرفه في البدء، فإن شعوره قد ابيضت، واخترم الهم جسمه، وغير هيأته.
ثم ترجل عن جواده وقال لامرأته: من هذا الرجل؟
وبكى توما قائلا له: ألم تعرفني إلى الآن يا سيدي؟
وعرفه من صوته وقال له بلهجة المضطرب: أنت توما؟ - نعم يا سيدي اللورد، وقد صدق حديث قلبي لأني كنت أعتقد أني لا بد لي أن أجدك.
وعانقه اللورد وليم عناقا طويلا وكلاهما يذرف الدموع.
ثم نظر اللورد إلى فرنتر والراعي وابتسم ابتسامة حزن وقال لهما: ألم أقل لكما إني من اللوردية فهل صدقتم ورأيتم بأعينكم؟
ثم قال لامرأته: اذهبي أيتها العزيزة بهذين الضيفين إلى قاعة الطعام، أما أنا فإني أحب الاختلاء بتوما وسأوافيكم إليها.
وذهبوا إلى قاعة الطعام وتأبط اللورد ذراع خادمه الشيخ الأمين توما، وسار به إلى غرفته وكلاهما يتعانقان ويضطربان ويبكيان.
ولما اختليا عانقه اللورد أيضا وقال له: إذا أنت تبحث عني؟ - إني برحت إنكلترا باحثا عنك منذ ستة أعوام، ولولا تلك القبائل المتوحشة التي أوقعني نكد الطالع بأيديها للقيتك منذ عهد طويل. - أية قبائل تعني؟ - أواه يا سيدي اللورد إن مصائبي وما لقيته من العذاب لا يذكر في جنب مصائبك وعذابك. - ولكني قبل أن أخبرك بأمري أحب أن أعرف أمرك.
وكان يكلمه بلهجة السيادة؛ فلم يسع توما إلا الامتثال.
ثم قص عليه جميع ما اتفق له، منذ مبارحته إنكلترا باحثا عنه إلى أن لقيه.
وقال له اللورد بعد أن أتم حكايته: لا يزال يشكل علي يا توما أمر لم أجد سبيلا لفهمه. - ما هو يا سيدي اللورد؟ - إني فقدت الذاكرة عاما كاملا وقد قالوا لي إني كنت من المجانين.
وكان آخر ما أذكره من أمري أني صعدت إلى سريري بغية الرقاد في قصر باميلتون الجديد، ولم أكد أستقر فيه حتى صحت صيحة ألم شديد وشعرت بجسم بارد يدب على وجهي. - وبعد ذلك؟ - لم أتذكر شيئا من حياتي الماضية.
على أني نهضت في صباح يوم من رقادي فشعرت أني صحوت بعد حلم طويل وقد وجدت سلسلة حديدية في وسطي شأن المجرمين، ورأيت نفسي أشتغل في منجم من مناجم الفضة.
وكان يحيط بي رفاق مقيدون مثلي ويشتغلون شغلي فدهشت لأمري، وجعلت أناديك باسمك وأنا أحسب نفسي حالما وأني لا أزال في قصري.
أما رفاقي فإنهم جعلوا يضحكون ويهزءون بي.
فأكبرت هزأهم بي وقلت لهم: ويحكم ألا تعلمون من أنا؟
فأجابني أحدهم: كيف لا نعلم فإنك ولتر بريس. - إنكم منخدعون فإني أدعى اللورد باميلتون.
فأضحكهم قولي ضحكا شديدا.
وكان مراقب الأعمال يسمع هذا الحديث، فدنا مني، وقال: ما هذه الأقوال يا ولتر؟ ألعلك عدت إلى الجنون؟ - ومتى كنت مجنونا أيها الأبله؟
فاستعظم شتمي إياه بعد توقفي عن العمل وجلدني بسوطه ست جلدات.
وبقيت ثمانية أيام في أسوأ حال؛ أستغيث فلا أرحم، وأسأل عدالة؛ فلا أجاب، وأحدث من حولي بحقيقة أمري فلا ألقى غير الهزء والسخرية، فإذا قلت لهم: إني لورد، قالوا: ما أنت إلا ولتر الإيكوسي، وإنه محكوم عليك في قرية بيرت بالنفي خمسة أعوام.
وهنا توقف اللورد هنيهة عن الحديث وقد راعه هذا التذكار.
أما توما فإنه كان يبكي بكاء الأطفال.
35
ثم عاد اللورد إلى الحديث؛ فقال: على أني كنت واثقا من نفسي أني في تمام العقل وأني أنا هو وليم باميلتون نفسه وأني في يقظة ولست من الحالمين .
وهنا عادت إلي تذكارات حياتي السابقة؛ فذكرت أيام حداثتي وأيام صباي ولم يفتني حادثة.
وكنت أستدرجها في ذاكرتي حادثة حادثة حتى إذا انتهيت بها إلى حادثة شعرت أن قلبي قد أخفق خفوقا شديدا حتى أخشى أن ينفجر صدري وتنطق شفتاي هذا الاسم (مس إينا).
وبعد أن أفرغت وسعي في إقناع رفاقي - على أني كما وصفت لهم دون أن أفلح - تمكنت بعد الجهد الشديد من الوصول إلى الحاكم العسكري، الذي كان يحكم البلد والمنفيين إليها وقد توسلت إليه أن يأذن لي بشرح حالي.
وأذن لي الحاكم بعد إشفاقه علي لفرط توسلي، وأخبرته أني لا أدعى ولتر بريس، بل إني اللورد وليم باميلتون.
أما الحاكم فإنه أصغى ببرود ثم طلب سجل المنفيين؛ فقرأ ما كتب فيه، وقال لي: إنك تدعى ولتر بريس، وإنك كنت تبلغ العشرين من العمر حين حكم عليك مجلس بيرت بالنفي.
وقد أصبت حين كنت في سجن تلك المدينة بمرض غريب شوه وجهك تشويها كثيرا حتى لم تعد تعرف.
وبعد ذلك أصبت بالجنون، واضطروا أن يحملوك على بغل إلى لفربول؛ لأنك لم تكن تستطيع المشي مع المجرمين.
ولما نقلوك من لفربول إلى السفينة كنت لا تزال مشوها معتوها.
ولم تذهب عنك آثار التشويه إلا بعد وصولك إلى هنا، وقد أصبحت هادئا ساكنا، ورجونا أن يكون ذلك مقدمة لشفائك من الجنون.
فلما سمعت هذه الأقوال من الحاكم كدت أجن حقيقة لغرابتها، ولكني كظمت اضطرابي ورويت للحاكم جميع أمري بلهجة يتبين منها الصدق الأكيد، فقصصت عليه جميع علائقي السابقة مع أصحابي في لندرا، ومعظمهم من مشاهيرها.
فوقع موقعا حسنا من فؤاد الحاكم، وقد داخله الريب في حكايتي الغريبة؛ فقال لي: إني سأكتب إلى إنكلترا وأسأل عنك، وسنرى في أمرك بعد ورود التفاصيل.
فخرجت من حضرته شاكرا ممتنا وقد تمكن الرجاء من قلبي، فإن قلبي كان يحدثني أنك تبحث عني، وكنت أقول في نفسي: إن أخي لا بد أن يكون تأثيره عظيما لاحتجابي.
فصبرت عاما كاملا وأنا أتقلب فيه بين عوامل اليأس والرجاء، إذ كنت أعلل النفس بورود التعليمات عني من لندرا فأطمئن، ثم تتوالى الأيام والشهور دون ورودها فأعود إلى القنوط.
وبعد انقضاء العام دعاني الحاكم العسكري إليه.
ولما مثلت بين يديه بادرني بقوله: أشفيت أم لا تزال على ما كنت فيه من الهوس؟
ولم يكن وقع الصواعق أشد علي من وقع هذه الكلمات؛ فقلت له: ماذا حدث يا سيدي؟ - حدث أني كتبت إلى لندرا سائلا عنك. - وهل ورد جواب؟ - نعم ... وهذا هو!
ثم دفع إلي كتابا موقعا عليه باسم اللورد أفندال باميلتون.
ففحصت التوقيع وأيقنت أنه خط أخي، وقرأت ما يأتي:
لحضرة حاكم زيلندا الجديدة ...
لقد كان لي حقيقة أخ يدعى اللورد وليم وهو أخي البكر.
غير أنه توفي منذ عامين في قصره في قرية باميلتون ...
وقد توفي مسموما؛ فإن حية لسعته في فراشه.
وإنك تجد - في طي هذا الكتاب - سجل وفاته مصدقا عليه من محافظ المدينة، التابعة لها القرية التي توفي فيها، وهو واضح كل الإيضاح ولا سبيل بعده للريب ...
وقد أشار علي، عمي السير أرشيبالد، أن أرفع قضية إلى نظارة الحقانية، سائلا فيها معاقبة ذلك المزور الخائن الذي تجاسر على انتحال اسم أخي التعيس.
اللورد أفندال باميلتون
ولما فرغت من تلاوة هذا الكتاب، بل هذه المعميات، نظر إلي الحاكم وقال لي بلهجة المتهكم: أي حضرة اللورد كيف رأيت؟
فأطرقت برأسي إلى الأرض ولم أجب بحرف؛ لأني فهمت عند ذلك كل شيء ...
وقال له توما: ماذا فهمت يا سيدي؟ - فهمت أن أخي قد سلبني لقبي وثروتي وخطيبتي ...
غير أني لا أزال أفكر إلى الآن كيف تمكن من البلوغ إلى هذه الغاية دون أن أهتدي إلي حل هذه المشكلة العويصة.
ثم تنهد وقال: وإني أخشى أن لا أهتدي إلى حلها مدى العمر.
فقال له توما: بل أنا أكشفها لك. - أنت تعرف هذا السر؟ - نعم ...
ثم مسح توما دموعه وقال له: أتذكر ذلك الفقير الهندي الذي كان يدعى باسم نظام؟ - نعم ... - إذن فاعلم أنه كان شريك أخيك بالجريمة، بل إن فكره الجهنمي هو الذي دبر هذه المكيدة الهائلة. - أية إساءة أسأت بها إلى هذا الشقي؟
فضحك توما ضحك المتألم وقال: أتعرف من هو هذا الرجل؟ - كلا. - إنه عمك السير جورج باميلتون الذي خان أخاه النبيل ودنس أمك الطاهرة.
فاصفر وجه اللورد وليم، وأطرق برأسه مستحيا من هذه الجريمة كأنه هو الذي ارتكبها.
فقال له توما: وإن أخاك قد حذا حذو أبيه، والحية لا تلد إلا الحية كما يقال.
ثم قص عليه توما كل ما جرى مما عرفه القراء.
فقال له اللورد: لماذا لم تقل شيئا لأخي عندما قتلت هذا الأثيم؟ - لأني كنت أحب أن أراك قبلا. - إذا تزوج مس إينا؟ - إني غادرت القرية يوم زواجه.
وهنا قص عليه توما، جميع ما لقيه من الشقاء والأخطار، بين القبائل المتوحشة.
ولما أتم حديثه قال له اللورد: لقد تبين لي الآن أنه عندما كتب الحاكم إلى أخي يسأله عني كنت قد برحت إنكلترا. - هو ذاك.
فصمت اللورد هنيهة ثم قال: إني منذ أبلغني الحاكم كتاب السير أفندال استسلمت إلى القضاء ولم أعد أكترث بشيء.
وقد استمر رفاقي المجرمون على اعتباري منهم، ورجعت عن اعتبار نفسي من اللوردية وقلت: ليفعل الله ما يشاء.
ثم توالت الأيام والسنون، إلى أن جاء يوم أبلغوني فيه أن مدة عقابي قد انتهت.
وقد دعاني الحاكم إليه، فدفع إلي شيئا من المال جزاء أتعابي الشاقة في حفر المناجم خمسة أعوام، وقال لي: إنك أصبحت الآن حرا مطلق السراح، ولك الخيار بين أن تعود إلى إنكلترا، أو بين أن تبقى في زيلندا، وبين أن تذهب إلى أوستراليا فتشتغل فيها.
وكانت نفسي قد سئمت الوجود، وكرهت العودة إلى بلاد يفتك فيها الأخ بأخيه، وعولت على الذهاب إلى أوستراليا والارتزاق فيها.
فأرسلني الحاكم إلى ملبورن، فوصلت إليها في يوم كانوا يعرضون فيه الماشية للبيع.
ولقيني في تلك السوق رجل من تجار المواشي، وعرض علي أن أكون راعيا عنده، فرضيت الاقتراح وذهبت معه إلى منزله.
أما هذا الرجل فقد كان والد لوسي زوجتي.
على أن ما لقيته من الشقاء في شغل المناجم بعشرة أولئك المجرمين الأدنياء أعواما لم يؤثر على أدب نفسي أقل تأثير، ولم تغير تلك العشرة السيئة شيئا من فطرتي الغريزية.
وهنا حدث لي حادث غرام جدير أن يكون حكاية تكتب، فيتفكه بها الناس، غير أني لا أقصها عليك لطولها، وأكتفي بالقول أن تعاقب الأيام محا أثر مس إينا من قلبي، لا سيما بعد عرفاني أنها أصبحت زوجة أخي وحلت محلها لوسي. - أكانت هي تحبك؟ - كما كنت أحبها، وقد مضى على ذلك عامان، كسبت فيها ثقة هذا التاجر، فخلا بي يوما وقال لي: أرى أنك تحب ابنتي، وابنتي تحبك، ولا أنكر تباين الحالة بيني وبينك غير أني ميال إلى التساهل، لا سيما وقد حكيت لي حكايتك فصدقتك، فإذا شئت جعلتك زوجا لابنتي.
وبعد شهرين عقد زواجنا، ثم توفي أبوها، فورثت امرأتي جميع أمواله، وأنا أعد نفسي الآن من السعداء.
فقال له توما: ولكنك لا تطيل إقامتك في هذه الديار بعد الآن؟ - بل أبقى. - كيف ذلك؟ أرجعت عن المطالبة بحقوقك؟ - أية فائدة بقيت من ذلك؟ فإن الذي كان يدعى اللورد وليم بات يدعى ولتر بريس؟ - إن هذا محال، بل تعود إلى بلادك وتعود إليك ثروتك وألقابك. - كلا، فإني هنا سعيد.
وعند ذلك دخلت امرأته ومعها ولداها، فأشار اللورد وليم إليهما، وقال لتوما: انظر إلى هذين الملاكين، فما يعوزني بعد من أسباب السعادة؟!
36
وقد أقام توما عدة أشهر في منزل مولاه اللورد وليم، وهو يرجوه ويتوسل إليه كل يوم أن يذكر أنه يدعى اللورد وليم، وأن يطالب بحقه المسلوب، ويدخل دخول الرئيس إلى قصر أجداده.
غير أن اللورد وليم كان يأبى أن يعود إلى موطنه، وقد تنازل عن ثروته وألقابه، وعول على الإقامة في أوستراليا؛ لما كان يجد فيها بين امرأته وولديه من أسباب السعادة، وتوفر دواعي الهناء.
ثم إنه كان أكبر جريمة أخيه كل الإكبار، حتى إنه بات يحتقر تلك الثروة، وذلك الجاه اللذين أفسدا قلب أخيه، وحملاه على ارتكاب هذه الجريمة السافلة .
وكان إذا ألح عليه توما يقول له: إني لا أسافر إلى إنكلترا، ولا أدعك تذهب إليها، فاكتب إلى امرأتك كي تحضر إلينا فنعيش في هذه البلاد عيش الهناء والسلام.
غير أن توما لم يقنط ولم يكف عن محاولة إقناع مولاه، إلى أن ألح عليه توما وقال له: لا بد من عودتك إلى إنكلترا. - أصغ إلي أيها الصديق. - تكلم يا سيدي. - لنفرض أني امتثلت لرأيك. - أتعود إلى إنكلترا؟ - لنفرض أننا عدنا إلى إنكلترا وذهبنا إلى أخي. - يجب أن يعرفك ويعترف بحقوقك. - لقد أخطأت يا توما، فإنه لا يقتصر على عدم الاعتراف بحقوقي؛ بل إنه يشكوني ويتهمني بالتزوير. - ولكننا نبرهن للقضاء عن الحقيقة فلا تخفى عليهم. - كيف أستطيع إبداء هذا البرهان بعد أن ثبت في السجلات الرسمية أني أدعى ولتر بريس وأني مجرم محكوم عليه بالنفي.
فلم يحفل توما باعتراضه، وقال له: إنه إذا أبى السير أفندال إلا أن ينكرك فإن لدينا من لا يستطيع إنكارك. - من هو؟ - مس إينا.
فمرت غمامة كثيفة في ذهن اللورد وليم، وقال: كلا، إن حب هذه المرأة قد انتزع من قلبي وأنا أحب امرأتي.
فتظاهر توما بالاقتناع، وكف عن البحث في هذا الشأن.
وفي اليوم التالي عاد إلى ما كان عليه فلم يفز بمراده.
وما زال على ذلك إلى أن حدثت حادثة أعانت توما على الفوز بما يسعى إليه.
وذلك أن الثروة في البلاد الأوسترالية تتكدس بسرعة ولكنها قد تذهب أيضا كما أتت وتتبدد بنفس السرعة.
فإن معظم المهاجرين إلى تلك البلاد من الأفاقين والمجرمين الذين انتهت مدة عقوباتهم، فيشتغلون بملء الجد ويقدمون على طلب الثروة بهمة لا تعرف الملل.
وأكثرهم يبدءون برعي المواشي، ثم يصبحون باقتصادهم من تجارها وتأخذ ثروتهم بالازدياد.
على أن هذه الثروة تكون غالبا معرضة لأشد الأخطار.
ذلك أن صاحب الماشية ينام ليلته غنيا، وهو يملك مائة ألف من الخرفان ترعى في مسافة عشرين مرحلة مربعة، في أية أرض اختارها، فامتلكها بحق وضع اليد.
ثم ينهض في اليوم التالي فقيرا معدما لا يملك شروى نقير؛ كأنما تلك الثروة كانت أضغاث أحلام.
أما سبب هذا الانقلاب السريع فإنه يوجد في أوستراليا كثير من العبيد الذين يهربون من المستعمرات التي كانوا مستعبدين فيها؛ فيعيشون في أوستراليا من السرقة والنهب والحرائق.
وقد عظم شأن أولئك السود حتى إن الحكومة ألفت منهم جندا سمته الجيش الأسود.
أما هؤلاء السود فإنهم كانوا يقصرون على سرقة ما يحتاجون إليه من المواشي للقيام بأودهم.
ولكنهم إذا وجدوا سبيلا للشكوى من أحد التجار، عقدوا مجالسهم واتفقوا على نهب هذا الرجل والانتقام منه بتجريده من ثروته قوة واغتصابا.
فيصبح هذا المسكين ويجد منزله مطوقا محصورا بجيش من أولئك المنتقمين، يعظم ويقل بنسبة عدد حراس هذا التاجر، فيهاجمونه من كل صوب ويسلبون مواشيه، فلا يسلم من شرهم إلا إذا أدركته النجدة قبل فوات الأوان.
ومن عاداتهم أنهم قد لا يفتكون بأصحاب المنزل، ولكنهم يحرقونه ويقتلعون الأشجار، ويسدون الينابيع، ويقتلون ما لا يستطيعون حمله من المواشي.
فيصبح المنكود لا يمتلك شروى نقير ويضطر أن يعود إلى جمع الثروة كما بدأ بها؛ أي إنه يعود إلى مصاف الرعاة.
وكان اللورد وليم مسالما لهذه الطوائف محبوبا منهم، فإذا رأى بعضهم يرودون حول منزله أرسل إليهم جميع ما يحتاجون إليه من المأكل والمشرب بسخاء يحملهم على الشكر والإخلاص والامتنان.
فما زال آمنا شرهم، وما زالوا راضين عنه، حتى حدث حادث غرام أفسد إخلاصهم ومحا أثر الامتنان من قلوبهم.
ذلك أن زعيما من زعماء هذه الطائفة يدعى كبليرين أحب جارية سوداء كانت تخدم في منزل اللورد.
وقد بلغ حبها من قلبه مبلغا عظيما حتى إنه تجاسر على أن يسأل اللورد وليم الزواج بها.
فقال له ولتر بريس: اخطبها من نفسها فإذا رضيت بالزواج بك فلا أكون من المعارضين.
فذهب الأسود إليها وطلب أن تقترن به، فأبت وردته ردا قبيحا كبر وقعه عليه.
فأقسم أن ينتقم منها ومن مولاها على السواء.
وبعد ذلك ببضعة أيام تسلق سور المنزل في ليلة حالكة الأديم، وولج إلى غرفة الفتاة التي يحبها .
غير أن الفتاة لم تحسن استقباله، بل استقبلته بالصياح وطردته أقبح طرد ففر هاربا لا يلوي على شيء.
وقد اتفق أن أحد حراس منزل اللورد وليم رأى هذا العبد يفر فأطلق عليه بندقيته فقتله.
وكان هذا القتيل أحد زعماء السود كما قدمناه، فأيقن المستر بريس في اليوم التالي أن العبيد لا بد أن ينتقموا منه وأخذ يتأهب، ولكنه تأهبه لم يفده في شيء.
وذلك أنه في الليلة التالية حاصر منزله نحو ألف رجل من أولئك السود كما تحاصر الجنود القلاع.
وقد جمع أعوانه ودافع دفاعا جميلا، ولكن سهام السود المسمومة كانت تفتك بأعوانه وتنكل بهم غاية التنكيل.
ولم يكتفوا بقتل الحراس؛ بل إنهم أشعلوا النار في المنزل.
ولما رأى اللورد وليم ما حل به من هذه النكبة الفادحة، جمع من بقي حيا من خدمه، ودافع بهم عن امرأته وولديه دفاع المستبسل المستميت.
وما زال على دفاعه وهو يتوقع القتل في كل لحظة حتى جاءته النجدة، وأقبل الجنود السود، فأركن السود إلى الفرار، وسلم اللورد وامرأته وولداه وتوما من القتل، ولكنه بات فقيرا معدما؛ لأن أولئك السود قد نهبوه.
غير أن توما كان لا يزال لديه نحو سبعمائة جنيه، وهو مبلغ يكفيه للعودة مع عائلة اللورد إلى إنكلترا.
ولما فرق الجند شمل المعتدين، خلا توما بسيده اللورد، وقال له بلهجة الفائز: لا بد لك بعد هذه النكبة الآن أن توافقني على ما اقترحته عليك وأن تعود إلى اسمك الكريم.
فتنهد اللورد وليم وقال: إني لو كنت وحدي لفضلت البقاء، وعدت إلى تجديد ثروتي الضائعة، ولكن لي امرأة وولدين، لا أطيق أن أراهم يقاسمونني الشقاء، ولهذا السبب وحده رضيت أن أعود معك إلى لندرا.
فسالت دموع السرور من عيني توما، وشكر الله.
وبعد شهر سافر توما واللورد وليم وعائلته إلى ملبورن، ومنها إلى إنكلترا.
أما توما فإنه كتب إلى امرأته قبل السفر بأسبوع يبشرها بقدومه مع اللورد.
وسافر ونفسه تفيض بشرا ورجاء.
وأما اللورد وليم فإنه كان منقبض الصدر يذكر منزله في أوستراليا بين تلك الحقول الناضرة، فتسيل دموعه، ويحسب أنه خسر كل ما كان يطمع به من أسباب السعادة والهناء.
37
ولنعد الآن إلى لندرا، فندخل إليها بأذهان القراء في فصل الصيف، وقد تبدد ضباب شتائها الكثيف وملئت شوارعها أشعة وهواء نقيا.
وكانت البساتين والحدائق في ذلك اليوم غاصة بالمتنزهين، ولا سيما حديقة هايد بارك.
فقد كانت تدهش الأبصار بازدحام المتنزهين، بين حسان يشرقن من مركباتهم إشراق الأقمار، وفرسان يتنزهون على صهوات جيادهم، وخطيب يروي لخطيبته حديث غرامه ويقنعها أنه أبدي دائم لا يزول، وأطفال يلعبون عند السواقي، والسلامة تخرج من أفواههم ضحكا عاليا يرتاح إليه المقطبون.
وكان هذا الخليط يذهب ويجيء في تلك الحدائق الغناء، مستنشقا نسمات الغروب البليلة بعد أن كان حر النهار يصهر الأجساد.
وكانت الساعة الثامنة، ولا يزال شفق الشمس المتوارية يرسل أشعته الأخيرة لترقد بين أوراق الأشجار الباسقة.
وكان بين هؤلاء المتنزهين امرأة ماسكة بيد غلام يتبعها خادمان وهي تتنزه عند ضفة النهر.
إن هذه المرأة كانت تدعى من قبل مس إينا، وهي تدعى الآن اللادي أفندال باميلتون، وكان الغلام الذي يصحبها ولدها.
وكانت تسير الهويناء متنزهة وظواهر القلق بادية عليها، ذلك لأنها رأت رجلا يقتفي أثرها منذ مدة على مسافة قريبة.
ولم تكن قد تبينت وجه هذا الرجل فتعرفه، ولكنها استدلت من لباسه وملامحه أنه ليس من الذين يخشون، لا سيما وأنه كان مبيض الشعور وفي ذلك ما يدعو إلى الاطمئنان.
إن الذي رابها أنه كان يقتفي أثرها من مدة طويلة ويتبعها إلى حيث سارت، فأفضى بها الأمر إلى الخوف منه.
ثم ظهر من هذا الرجل فجأة أنه أقر على أمر كان يتردد فيه، فتقدم الخادمين اللذين كانا يسيران وراء اللادي، ودنا منها وقبعته في يده.
فذعرت اللادي في البدء حين رأته.
غير أن الرجل ابتسم لها وقال: ألم تعرفني سيدتي؟
فعرفته، وقالت له: أأنت توما؟ - نعم يا سيدتي. - أنت هو خادم وليم الأمين؟ - هو بعينه. - كنت أحسبك فارقت هذه الحياة. - وأنت ترين يا سيدتي أني لا أزال حيا أرزق؟
فجعلت اللادي باميلتون تنظر إليه نظرات الانذهال، ثم قالت له: أين كنت؟ - إني قادم من أوستراليا يا سيدتي وقد أتيت خصيصا لأراك.
فزاد انذهالها، وقالت: لتراني أنا؟! - نعم يا سيدتي. - إذا ليست هي الصدفة التي جعلتك تلقاني؟ - كلا يا سيدتي، فإني أرود حول قصرك منذ ثمانية أيام. - ولماذا لم تدخل إليه؟ - لأني أحب أن أراك دون أن يرانا أهل القصر.
فعاود القلق اللادي وقالت له: كيف هذا؟ - ولا يجب أن يسمع حديثنا أحد. - إن هذه اللهجة السرية تريعني منك يا توما. - ولكني لا أجد بدا من مباحثتك، دقائق معدودة، إذا كنت تأذنين. - لا بأس؛ امش إلى جانبي، وحدثني بما تريد؛ فإن الخادمين بعيدان، ولا يسمع حديثك أحد. - لدي يا سيدتي سر أحب أن أستودعك إياه. - سر؟ - نعم سر، لو ألقي إليك منذ بضعة أعوام لكان لك خير بشرى، وتلقيته بالسرور العظيم. أما اليوم فإنه سيقع منك أسوأ موقع، ويملأ قلبك الرقيق حزنا وغما. - إنك ترعبني بما تقول يا توما.
فمضى توما في حديثه دون أن يحفل بكلامها، وقال: لقد قلت لك يا سيدتي: إني عائد من أوستراليا. - ماذا تعني بذلك؟ - أعني أني لقيت فيها رجلا كان يذكرك، ويحدث نفسه بك كثيرا. - من هو هذا الرجل الذي يفكر بي في أوستراليا؟ - إنه يدعى ولتر بريس يا سيدتي. - إني لم أسمع هذا الاسم قبل الآن. - قد يكون ذلك يا سيدتي، ولكن هذا الرجل قبل أن يدعى بهذا الاسم كان له اسم آخر. - ماذا كان يدعى؟ - اللورد وليم باميلتون.
فصاحت صيحة ذعر، وقالت: ماذا أصابك يا توما ألعلك جننت؟ - كلا يا سيدتي، فإني بتمام العقل بحمد الله. - ولكنك تعلم أن اللورد وليم قد مات من عهد بعيد، وأنت بكيته كما بكيناه. - هو ذاك، يا سيدتي، فإني كنت أعتقد أنه مات، كما كنت تعتقدين. - أما أنا فإني رأيته ميتا. - لم يكن اللورد الذي رأيته على فراش الموت أيتها اللادي. - إذا من هو؟ - هو ولتر بريس.
فنظرت إليه عند ذلك نظرة المشفق، وقالت: إني أرى يا توما أن حزنك على وليم قد برح بك وأضاع رشدك. - لقد قلت لك يا سيدتي: إني لست بمجنون. - إذا كنت سليم العقل فما هذه الأقوال؟ - أتوسل إليك يا سيدتي أن تصغي إلى تتمة حديثي.
فظهرت على محياها علائم الجزع، ونظرت إلى ما حواليها فرأت أنها بخلوة تامة معه؛ لأن الخادمين حين رأيا هذا الرجل يحدث مولاتهما دون كلفة ابتعدا عنهما.
وخافت أن يكون حقيقة من المجانين، ولكنها رأت الخادمين على مسافة بعيدة وأنهما يريانها، فاطمأنت بعض الاطمئنان وقالت له: ماذا تريد أن تقول بعد؟ - أعيد عليك، يا سيدتي اللادي، ما قلته، وهو أن اللورد وليم باميلتون لا يزال في قيد الحياة، وستصدقين كلامي حين تعلمين حقيقة ما جرى.
ثم قص عليها تفصيلا كل ما عرفه القراء من قصة هذين الأخوين.
على أن اللادي باميلتون بقيت مرتابة في صحة عقل توما، ولم تصدق حكايته.
فقال لها توما عند ذلك: إنك لا تزالين مشككة بأقوالي، ولكنك حين ترينه يزول منك كل ريب. - كيف أراه ألم تقل: إنه في أوستراليا؟ - لقد كان فيها أما الآن فهو في لندرا.
فاصفر وجهها، وقالت: أفي لندرا يقيم هذا الرجل؟ - ولكن هذا الرجل كنت تحبينه وقد بكيته. - تقول: إني أراه. - نعم يا سيدتي سوف ترينه.
وكان يمشيان حتى وصلا إلى عطفة.
وهناك مقعد من الخشب، كان رجل جالسا عليه، وهو لا يزال في مقتبل الشباب، غير أن غضون وجهه كانت تدل على أنه لاقى كثيرا من المصائب.
فلما رأى هذا الرجل توما واللادي قد اقتربا منه نهض عن مقعده، وقال: مس إينا؟
فارتعشت اللادي باميلتون.
أما توما فإنه قال لها: هذا هو اللورد وليم يا سيدتي.
فنظرت اللادي إلى اللورد وليم نظرة جامدة، ثم التفتت إلى توما، وقالت له: إني أرى يا توما شبها كبيرا بين هذا الرجل وبين اللورد رحمه الله، ولكنه ليس هو كما تعتقد؛ لأن اللورد قد مات.
أما اللورد فإنه صاح صيحة منكرة، وأركن إلى الفرار وهو يقول : رباه! لماذا أبقيتني حيا فإني كنت واثقا أنها لا تعرفني؟!
38
يوجد في لندرا شارع يدعى شارع المكاتب، ولكن هذا الشارع لم يكن مقتصرا على أصحاب المكاتب وحدهم، بل كان يقيم فيه أيضا عمال وتجار وموظفون.
وكان في هذا الشارع محام مشهور، والمحامون في لندرا يكسبون مكاسب عظيمة ويتقاضون أجرة فاحشة، ثم يطيلون القضايا حتى لا يبقى متسع للتسويف.
فإذا وقع الغني بين براثنهم قضي عليه بالفقر قضاء مبرما، إلا إذا كان من العقلاء، وتنازل عن دعواه أو تراضى مع خصمه.
على أن هذا المحامي كان يتسابق إليه أصحاب القضايا لاشتهاره بالفوز في كل قضاياه.
وكان هذا المحامي يدعى سيمونس، وهو - على شدة طمعه وحبه للمال - محبوب من الناس لبعد صيته، ولكثرة تضلعه في القوانين حتى إنهم كانوا يعدلون كل كلمة من أقواله بجنيه.
وكان على هذه الشهرة لا يزال في مقتبل الشباب، وقد رشحه مريدوه مرارا لعضوية مجلس العموم، ولكنه كان يرفض القبول ويقول: إني لا أزال في حاجة إلى المال، ولم أرو منه غلي، فلا يسعني الانصراف للخدمة العامة.
وكان شديد الفصاحة قوي الحجة، ولكلامه تأثير عظيم على القضاة، فإنه دافع مرة عن إرلندي كان يتوقع الجميع أن يحكم عليه بالإعدام فبرأ ساحته وأطلق سراحه، وكان إعجاب الناس به عظيما.
غير أن إعجاب الناس به لم يكن قاصرا على فوزه، بل لأن هذا الإرلندي المنكود كان معدما فقيرا، فكان دفاعه عنه دفاعا محضا عن الإنسانية.
ولا ينكر أن بعض حساده أذاعوا أنه إنما أراد بذلك إشهار أمره، ولكن العقلاء لم يعبئوا بهذه الإشاعات ولم تؤثر هذه الأقوال بحسن صيته، فإن الإحسان محمود كيفما كانت مقاصد المحسنين.
ففي ذات يوم؛ كان هذا المحامي راكبا في مركبته وخارجا من منزله، فاستوقفه رجل على الطريق يريد أن يكلمه.
وكان هذا الرجل متأنقا بلباسه، فلم ترع هيئته ذلك المحامي وأمر بإيقاف مركبته كي يرى ما يريد.
وقد نظر إليه وقال في نفسه: أذكر أني أعرف هذا الرجل، ولكني لا أذكر أين كنت أراه .
فقال له الرجل باسما: ألم تعرفني يا سيدي سيمونس؟ - كلا! ولكن يخال لي أني رأيتك. - بل كنت تراني مرارا وذلك منذ عشرة أعوام. - أنا؟ - في مكتب أعمالك فإني كنت من زبائنك. - كيف ذلك ومتى؟ - ذلك حينما كنت عند اللورد باميلتون، فإني أدعى توما يا سيدي، وأنا الذي كنت آتيك بأشغال سيدي اللورد النبيل. - لقد ذكرتك الآن وعرفتك حق العرفان. - إذا، فاسمح لي يا سيدي أن أخلو بك، فإني قادم إليك بمهمة خطيرة. - إذا ادخل معي إلى مكتبي.
وكان مكتبه ومنزله في بيت واحد، فنزل المحامي من المركبة وعاد إلى المكتب يتبعه توما.
ولم يفه توما بكلمة حتى دخل إلى غرفة المحامي الخاصة.
وهناك قال له المحامي: ألعلك لا تزال في خدمة أسرة باميلتون؟
فأجابه توما: نعم ولا.
فذهل المحامي لجوابه وقال: كيف ذلك؟ - ذلك أني اعتزلت خدمة السير أفندال، ولكني لا أزل في خدمة اللورد وليم.
فزاد انذهال المحامي، فإنه كان يعلم - كما يعلم معظم أهل لندرا - أن اللورد وليم قد مات، وأن السير أفندال قد ورثه وخلفه باسمه ومذهبه وخطيبته.
وقد حسب في البدء أن توما قد أصابه مس من الجنون، ولكنه أمعن النظر فيه، فلم يجد في لهجته وملامحه وعينيه شيئا من دلائل الجنون، فقال له: أرجوك، أيها الصديق، أن توضح بجلاء، فإن حديثك قد أشكل علي. - إني موضح لك كل شيء إذا أحببت الإصغاء إلي. - إني كلي آذان للسمع فتكلم.
وكان هذا المحامي صبورا من طبعه، وقد تدرب دهرا طويلا في هذه المهنة، فعلمته التجارب أنه مهما كانت رواية الزبون مضطربة مشوشة، فلا بد أن يجد بها بابا يصلح للدفاع.
ولذلك عول على أن يصغي لتوما كل الإصغاء، بالرغم عما ظهر له في مقدمة حديثه من الغرائب المدهشة.
أما توما فإنه استوى في محله، وقال: إني واثق، يا سيدي، من مروءتك وشرف طباعك. ولهذا أتيت إليك في مهمة خطيرة لا تخطر لأحد في بال.
وإن رجال الشرع يا سيدي يشبهون رجال الدين من حيث الوثوق بهم فيما يؤتمنون عليه من الأسرار، فعلي أن أوحي إليك بأسراري وعليك أن تسمع كل ما أقول.
هو ذاك أيها الصديق، وأرجو أن لا يكون من وراء ذلك إلا الخير.
وعند ذلك قص عليه توما جميع ما عرفه القراء من حكاية اللورد وليم، وكيف أسفرت هذه الجريمة الهائلة، عن تلقيب السير أفندال بلقب اللوردية.
وقد فصل له أدق تفصيل حياة اللورد وليم من عهد حداثته إلى تعلقه بمس إينا، إلى تلك الجريمة التي حدثت في قصر باميلتون وأسفرت عن استبدال اللورد وليم باسم ولتر بريس.
فلما أتم حديثه الغريب قال له المحامي: إن جميع ما رويته لي أكيد، دون ريب، ولكنه بعيد الإمكان، غير أني لو حملته على محمل الحقيقة؛ فماذا تريد مني؟ - أريد أن تؤيد مطالب اللورد وليم.
فابتسم المحامي ابتساما وجف له قلب توما، وسأله: وما هي هذه المطالب؟ - إن الأمر بسيط يا سيدي، فإن اللورد وليم لم يمت وحقه صريح باسترجاع ثروته ولقبه. - ولكن هذا مستحيل. - لماذا؟ - لأن اللورد وليم قد مات في عيون الناس، وأثبت اسمه رسميا في سجل الأموات. - ولكننا نبرهن على أنه لا يزال في قيد الحياة. - ما هو برهانك؟ - هو أن أروي الحكاية كما اتفقت. - إن حكاياتك قد أصدقها أنا، وأما القضاة فهيهات أن يصدقوك. - إذا كيف نعمل؟ - إن رجلا واحدا تفيد شهادته وأقواله في هذا المقام. - من هو؟ - هو الضابط برسي الذي كان يقود المجرمين، وكان شريك السير جورج باميلتون بالجريمة. - إني أجد هذا الرجل أين كان. - إنك قد تجده ولكنه لا يشهد هذه الشهادة. - ولكن لا بد له أن يشهد ويعترف بالحقيقة.
فهز المحامي سيمونس كتفيه ثم قال بعد أن تمعن هنيهة: يجب قبل كل شيء أن نتصرف تصرف المتدربين. - قل يا سيدي؛ فإن ثقتي بك لا حد لها.
39
فأطرق المحامي هنيهة ثم قال: إن هذا الرجل الذي تدعوه مولاك، قد يكون حقيقة اللورد وليم، وقد كان محكوما عليه بالنفي كما تقول. - نعم يا سيدي. - وهو برح إنكلترا منذ عشرة أعوام أليس كذلك ؟ - بالتقريب. - إذا لا بد أن تكون تغيرت ملامح وجهه في هذه الفترة الطويلة، فإذا أراد أخوه إنكاره كان المجال متسعا. - هو ذاك واأسفاه. - وعلى ذلك فإن مولاك إذا ذهب إلى اللورد أفندال أنكره كما تنكره امرأته أيضا، دون شك، إذ لا يطيب له التخلي عن تلك الثروة والمجد وهو يتمتع بهما منذ عشرة أعوام. - سأخبرك بكل شيء يا سيدي، فإن اللورد وليم قابل امرأة أخيه. - وماذا كان من هذه المقابلة؟ - إنها أنكرته أو لم تعرفه. - إن هذا سبب آخر يدعوك إلى قبول ما سأقترحه عليك. - ماذا تقول يا سيدي؟ - لا شك أنك رجعت مع مولاك من أوستراليا دون مال.
فلم يجبه توما ولكنه أطرق برأسه.
فقال له المحامي: إن اللورد أفندال واسع الثروة ولي ملء الثقة من إمكان الوصول إلى تسوية بين اللورد وأخيه.
فأجابه توما بعنف: أية تسوية تعني؟ - إن التسويات تختلف، ولكن التسوية التي أعنيها هي أن يبقى للورد اسم ولتر بريس، فيعطيه اللورد أفندال مقابل ذلك أربعين أو خمسين ألف جنيه.
فأجابه توما ببرود: إنك مجنون. - أتظن ذلك؟ - دون شك لأن اللورد وليم لا يتنازل عن شيء من حقه. - أيريد أن يكون لوردا؟ - نعم. - أيريد أن يستولي على الثروة بجملتها؟ - دون شك. - إذا أنت مجنون يا توما ومولاك أشد جنونا منك.
فبهت توما لكلامه وقال: كيف ذلك؟ - سأبرهن لك، فإنه لا ينفع في هذه القضية غير شهادة الضابط برسي كما قلت لك. - إني سأبحث عن هذا الرجل وسأجده دون شك. - ولكني أعيد عليك ما قلته أيضا: وهو أن هذا الرجل لا يبوح بشيء. - لا بد له أن يبوح. - وعلى افتراض أنه باح بما يعلمه؛ فإن شهادة مثل هذا الرجل الذي يقضي العمر في معاشرة المجرمين لا يكون لها تأثير عظيم على القضاة، ولكنها قد تفيد بعض الفائدة. - قلت لك: إني سأجده. - على افتراض أنك وجدته ورضي أن يبوح؛ أتحسب أن الأمر ينتهي عند هذا الحد بالفوز؟ - هذا ما أراه. - إنك مخطئ، فإن وزير الحقانية لا يتداخل في هذه القضية؛ لأن اللورد أفندال من أعضاء مجلس البرلمان، ويقتضي للمحاكمة إذن خاص من المجلس الأعلى.
ولا أرجح أن المجلس الأعلى يأذن بمحاكمته في مثل هذه القضية. - بل يأذن، فإن القلوب لم تتجرد من الشفقة. - لنفرض أنه أذن أيضا، فقد بقيت مشكلة أخرى، وهي أن مثل هذه القضايا الخطيرة تكلف نفقات باهظة، وأنا لا أتولاها إلا إذا ضمن لي أجرة قدرها عشرة آلاف جنيه.
فأجفل توما لجسامة الطلب، وقال: عشرة آلاف جنيه؟ - على الأقل. - إن العشرة آلاف جنيه تساوي مائتين وخمسين ألف فرنك. - ومع ذلك فإنها تنفق قبل الشروع في القضية. - أيحتاج المرء إلى مثل هذه النفقات الهائلة للحصول على حقه؟ فما هذه المحاكم؟ وما هذا العدل؟ - لا أنكر عليك انتقادك فهو حق، ولكن الحقيقة هي ما قلته لك. - إذا ماذا نصنع؟ - تقنع سيدك على التسليم. - بماذا؟ - بالتسوية. - إن هذا محال، لا أرضاه، ولا يرضاه. - أنت وشأنك فيما تريد، إنما أوصيك بالحذر.
فنظر إليه توما نظرة إنكار وقال: مم تريد أن أحذر؟ - من اللورد أفندال، فإنه في حالة تدعو إلى الحذر منه. - ما عساه يصنع؟ - إذا كان ما تقوله أكيدا، فإن هذا الرجل لا يقف عند حد ولا سيما إذا حاولت فضيحته. - ولكننا في بلاد إنكلترا بلاد الحرية والعدل والأمان.
فهز المحامي كتفه دون أن يجيب.
أما توما، فإنه نهض مغضبا، وقال: يسوءني يا سيدي أن أكون مخطئا باعتمادي عليك.
وأجابه المحامي ببرود قائلا: إني لا أزال مستعدا لخدمة اللورد وليم بأتم إخلاص، ولكني لا أتجاوز الحد الذي أقترحه عليك، وهي مسألة التسوية.
فقال له توما: إننا لا نريد تسوية، بل نريد حقا.
ثم خرج من مكتب المحامي مغضبا، فشيعه إلى الباب، وقال له: إننا سنلتقي. - لا أظن أن يكون بيننا لقاء بعد هذا الفراق. - أما أنا فإني واثق من اللقاء القريب.
وخرج توما وقد تولاه اليأس، فإن اعتماده على هذا المحامي كان عظيما، حتى إنه كان واثقا من الفوز كل الثقة.
ولكنه لم يلق منه غير الخيبة والخذلان، فسار هائما على وجهه، من مكان إلى مكان حتى وصل إلى زقاق أدم ستريت، حيث تقيم امرأته بيتزي.
وكان اللورد وليم وامرأته وولداه يقيمون في المنزل نفسه الذي يقيم فيه توما.
أما توما؛ فإنه دخل إلى امرأته واليأس باد بين عينيه، فأجفلت لمرآه، وقالت له: ماذا أصابك؟ وما وراءك من الأخبار؟
فهز توما رأسه وقال: إن هؤلاء المحامين قد خلت قلوبهم من الرحمة.
ثم قص عليها جميع ما جرى بينه وبين المحامي سيمون.
وكانت بيتزي عاقلة ذكية الفؤاد، فأطرقت هنيهة، بعد أن سمعت حكاية زوجها وقالت: أرى أن هذا الرجل مصيب فيما ارتآه، ولكن لي رأي آخر. - ما هو؟ - إني خرجت منذ هنيهة إلى السوق لشراء أغراضنا، فلقيت امرأة مقنعة بقناع كثيف، وهي كأنها تبحث عن شيء. - ومن هي هذه المرأة؟ - لقد لاح لي أنها مس إينا.
فارتعش توما وقال: اللادي باميلتون؟ - نعم، وأظن أنها تحاول أن ترى اللورد وليم، ثم أردفت: انظر! أنها لا تزال في موقفها.
40
فقام توما إلى النافذة ونظر منها فرأى امرأة مبرقعة وهي تنظر نظرات تائهة كأنها تبحث عن شيء.
فعرفها للحال وقال: هي، هي بعينها.
أما المرأة فإنها دخلت فجأة إلى رواق المنزل كأنها اهتدت إليه بعد طول بحثها وتوارت عن الأنظار.
فقال توما لامرأته: انتظريني فإني ذاهب للقائها.
ثم خرج من الغرفة ونزل السلم.
وكانت المرأة تصعد عليه، والتقيا عند وسطه، وسألها توما بصوت منخفض: بماذا تأمر اللادي؟
فأزاحت المرأة برقعها، وقالت: إني أبحث عنك.
وكانت تضطرب، وملامح الخجل بادية بين عينيها، كأنها قد خجلت من الدخول إلى هذا المنزل الحقير.
وتأبط توما ذراعها وصعد بها.
أما إينا، أو «اللادي باميلتون»، فإنها صعدت معه وقالت له: إني أتيت إليك دون أن يعرف اللورد أفندال، فإني أحب أن أرى مرة ثانية هذا الرجل الذي قلت إنه اللورد وليم. - إنه هنا يا سيدتي. - هنا في هذا المنزل؟ - نعم، وهذا باب المنزل الذي يقيم فيه فقد وصلنا إليه. - أهو وحده؟ - كلا، فإنه يقيم مع امرأته وولده.
فدهشت دهشا عظيما وقالت: امرأته وولده!
ثم سكن اضطرابها وقالت: ولكني أريد أن أراه وحده. - إذا، اصعدي إلى منزلي، فأخرج أنا وامرأتي منه، وأدعو اللورد إلى موافاتك.
وظهرت على اللادي علائم التردد، وكأنها قد ندمت لاندفاعها، غير أنها رأت أن الأوان قد فات، وأنه لم يعد سبيل إلى الرجوع.
وصعد بها توما وهي تسير نادمة متثاقلة إلى منزله، فأقامها فيه وذهب للإتيان باللورد وليم.
ولما علم اللورد وليم بمجيء اللادي إليه تأثر تأثرا عظيما، وقال في نفسه: إنها لم تعرفني حين رأتني المرة الأولى، ولكن لا بد لها أن تعرفني هذه المرة.
ثم خرج من منزله إلى غرفة توما ورجلاه تضطربان.
أما توما فإنه أشار إلى امرأته أن تتبعه كي يخلو لهما المكان، فامتثلت وخرج الاثنان.
وكانت اللادي باميلتون قد أرخت نقابها، حتى إذا خرج توما وامرأته أسفرت عن وجهها، وجعل كل منهما ينظر إلى الآخر نظرة الخائف الواجم، دون أن يجسر على الكلام.
إلى أن بدأت اللادي بالحديث وقالت: أردت يا سيدي أن أراك مرة ثانية للتحقق من أمرك. - وأنا أرى من عينيك يا سيدتي أنك قد عرفتني حق العرفان.
ولم تجبه على كلامه وقالت له: ألعلنا وحدنا يا سيدي؟ - دون شك. - أنت واثق أنه لا يسمع حديثنا أحد؟! - إني واثق كل الثقة. - إني أردت الآن أن أراك يا سيدي لكي أخدمك خدمة خالصة في كل ما تريد.
وارتعش اللورد وليم، وقال: كيف ذلك يا سيدتي؟!
أجابت: إني رأيت اللورد وليم ميتا، ومع ذلك فإنك تقول لي: إنه لا يزال في قيد الحياة. - هو أنا يا سيدتي ... - ليكن ما تقول، ولنعتبر أنك أنت هو اللورد وليم. - ماذا تريدين بذلك؟! - أتوسل إليك أن تصغي إلى تتمة حديثي. - إني مصغ يا سيدتي كل الإصغاء فقولي ما تشائين. - إني كنت أعتقد كل الاعتقاد أنك مت والله يعلم كم بكيتك.
وكانت تقول هذا القول بلهجة المضطرب، ثم عادت إلى الحديث فقالت: نعم إني بكيت عدة شهور، وأبيت كل الإباء أن أتزوج بعدك، ولكن أبي كان يلح علي والسير أفندال يظهر لي حبا أكيدا، فلم أجد بدا من الامتثال لأبي واضطررت مكرهة إلى الزواج بالسير أفندال.
وقال لها اللورد وليم: وبعد ذلك؟! - وبعد ذلك أفضت بي الألفة إلى حب السير أفندال الذي لم أتزوجه إلا من قبل الامتثال لأوامر أبي، وأصبحت أما بعد حين، وكنت من أسعد النساء، إلى أن ظهرت لي، وأنا أعتقد أنك ميت، فوقعت وقوع الصاعقة على رأسي، ولذلك أتوسل إليك أن لا تفضحنا، وأن لا تنازع أخاك نزاعا لا فائدة منه.
فقال لها: ولكن كيف ترجين مني ذلك وأنت تعلمين أن زوجك قد نهبني؟ - إنا مستعدان لأن نعوض عليك بما تريد.
وأجابها بعظمة: إني لا أريد تعويضا عن حقي، بل أريد كل هذا الحق. - ولكن ... يستحيل عليك يا سيدي أن تبرهن أن اللورد وليم لا يزال في قيد الحياة. - بل أنت واهمة يا سيدتي، فإني سأثبت ذلك كل الإثبات. - إذا ... ستنهب أخاك كما نهبك، ولا يكون من ذلك غير فضيحة بيتكم النبيل. - إذا كنت تقولين مثل هذه الأقوال يا سيدتي، فلماذا أتيت إلي؟ - إني أتيت لأقترح عليك تسوية أرجو أن لا يكون بعدها غير الاتفاق. - اعرضي اقتراحك علي لأرى رأيي فيه. - إني أقترح أن تبرح هذه البلد وترجع إلى لندرا، أو أستراليا فيبقى لك اسم ولتر بريس ...
فأجابها بلهجة المتهكم: وما تعطونني مقابل هذا التنازل؟ - قدر ما تشاء من المال؟
فابتسم اللورد وليم وقال: إنك تسألين المحال يا سيدتي، فما أنا بطالب مال. - إذا ما تريد؟ - أصغي إلي كما أصغيت إليك يا سيدتي، فإني أشفق على شرف أسرة باميلتون أكثر من إشفاقك عليه.
وقد اقترحت علي اقتراحا، وأنا سأقترح عليك اقتراحا آخر أرجو أن تسمعيه. - ما هو هذا الاقتراح الذي تقترحه علي؟ - إن عمي السير جورج الذي كان متنكرا باسم نظام كان السبب في جميع ما لقيته من المصائب، فلماذا لا يكون هو المجرم الوحيد؟ - إني لم أفهم شيئا مما تقول فأوضح لي. - لماذا لا يعترف أخي أن هذا الرجل قد خدعه، وليس من يعلم أنه كان عمنا؟ - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك يعترف أني أخوه فتقسم الثروة بيننا، ويبقى له لقب اللوردية، فإني أحب أن أبقى من أسرة باميلتون. - إن ما تطلبه محال يا سيدي. - لماذا؟ - لأن حق البكورية لا يزال معمولا به في بلاد الإنكليز.
فبدرت من اللورد وليم بادرة غضب وقال لها: احذري أيتها اللادي.
فأجابته ببرود قائلة: تقول إنك اللورد وليم أليس كذلك؟ - إنك تعرفين ذلك حق العرفان. - ولكن يجب أن تبرهن على صدق ما تقول. - إني سأبرهن على ذلك عند الاقتضاء. - وفي ذلك اليوم الذي تبرهن فيه أنك اللورد وليم يرجع لك اللورد أفندال ثروتك وتخرج من هذه المعركة خروج الظافرين.
ثم نهضت تحاول الذهاب، وحاول اللورد وليم أن يوقفها، ولكنها أبت أن تقف؛ ففتحت الباب وهي تقول: إنك لو كنت حقيقة وليم الذي كان يحبني لما كلمتني بهذه اللهجة العنيفة، فأودعك الآن يا سيدي، فإننا لا نلتقي بعد ذلك إلا في مواقف القضاء.
ثم خرجت بملء العظمة والكبرياء.
أما اللورد وليم فإنه أن أنين الموجع، ثم وضع رأسه بين يديه، وقال: إن اللادي قد عرفتني حق العرفان.
41
في مساء ذلك اليوم كان ثلاثة مجتمعين في قصر باميلتون يتداولون.
وكان هؤلاء الثلاثة اللورد أفندال وامرأته ووالدها السير أرشيبالد.
وقد عرف القراء شيئا من حال السير أرشيبالد؛ فإنه لم يكن من طبقة النبلاء، ولكنه كان واسع الثروة، وقد جمع مالا عظيما من الهند، ولما عاد من تلك البلاد النائية إلى إنكلترا لم يكن يخطر في باله غير تزويج بنته بفضل ثروته من أحد كبار النبلاء.
وكان أول من وقع في شركه اللورد وليم.
ولما توارى هذا اللورد طمحت نفسه إلى أخيه اللورد أفندال، كانت الرواية التي روتها اللادي باميلتون للورد وليم صادقة في جميع معانيها.
فإنها قاومت أباها مقاومة عنيفة في البدء، ولكنها اضطرت في النهاية إلى الإذعان، وبات اسمها منذ ذاك الحين اللادي باميلتون.
ثم عقدت الألفة الزوجية الحب بينهما، ورزقت منه بنين ، فدعاها جميع ذلك إلى نسيان اللورد وليم؛ لأنها كانت تعتقد أنه من الأموات.
ويذكر القراء أنه بعد ذلك بثلاثة أعوام اهتم حاكم زيلندا بما عرضه عليه ولتر بريس «اللورد وليم» فكتب إلى إنكلترا يسأل عما أشكل عليه من أمره.
وكان اللورد أفندال في ذلك العهد غائبا عن لندرا، ففتحت امرأته كتاب الحاكم، وقرأته فوقع عليها وقوع الصاعقة وأخبرت أباها بما قرأته.
وقال لها السير أرشيبالد: إن اللورد وليم قد مات، وإن هذا الذي ينتحل الآن اسمه من أهل الزور والنفاق، ولكن لنفرض أنه صادق فيما يدعيه، وأن اللورد وليم لا يزال في قيد الحياة، فيجب أن تعتبريه من أهل القبور.
إنك تدعين الآن اللادي أفندال باميلتون، وليس لزوجك أخ بعد أن كتب اسمه في سجل المائتين.
وبعد حين رجع اللورد أفندال إلى لندرا، فاطلع على هذا الكتاب، وأنكر الجريمة أتم الإنكار وأظهر النفور والاشمئزاز من هذه العيوب، لكن امرأته انتهت بالفوز عليه، فباح لها بسر الجريمة الهائلة مدعيا أنه لم يقدم عليها لطمعه بمال أخيه وألقابه، بل لحبه إياها ولطمعه بالزواج بها.
فغفرت له ذلك الذنب مقابل هذا الحب فكانت كما قال هملت في جنسها:
كذا خلق النساء فكل أنثى
تصدق ما يدعى غراما
وقد صدقت حديث هذا الحب، وأنستها كلمات غرامه الحلوة تلك الجريمة التي تقشعر لها الأبدان، وذاك اللورد خطيبها الأول المنكود، فوافقت زوجها على كل ما فعل.
وقد زاد حرصها على تلك الثروة الشائنة، التي لم ينلها زوجها إلا منغمسة بدم الجريمة والإثم، وأشفقت عليها إشفاقا شديدا، حتى باتت تكره اللورد وليم بعد ذلك الحب القديم حين علمت أنه في قيد الحياة، وأنه قد يعود ويطالبهم بالثروة المسروقة.
وقد كانت اللادي تحدث أباها وزوجها في ذاك الاجتماع بما جرى بينها وبين اللورد وليم وهما يسمعان حديثها بملء الجزع.
حتى إذا أتمت حديثها قال لها أبوها: أحق ما تقولين أنه قد تغير حتى لم يعد يعرف؟
أجابت: إنك لو أقمت بقربه طول العمر لما عرفته.
فقال لها زوجها : ومع ذلك لم يقبل اقتراحنا. - بل هو يأباه كل الإباء.
فابتسم السير أرشيبالد وقال: إنها ستكون قضية شائنة، ولكننا سنخرج فائزين منصورين.
فقال اللورد أفندال: وفوق ذلك فإن مثل هذه القضايا الكبرى يقتضي لها المال الكثير، ومن أين له هذا المال كي ينفق هذا الإنفاق؟
فأجابته زوجته: إني رأيته في أشد درجات الفقر، فقد رأيته مقيما في أحقر المنازل.
فقال السير أرشيبالد: ولكن يجب أن يبرح هذا الرجل لندرا.
قالت: لا أعلم، لكن لا بد لنا أن نجد طريقة.
وبينما كان السير أرشيبالد يقول هذا القول دخل الخادم وهو يحمل على صينية من الفضة رقعة زيارة وقدمها إلى اللورد أفندال.
فتناولها اللورد ونظر إلى توقيعها فرأى اسم الأسقف بترس توين فقال له: ما عسى يريد مني هذا الأسقف الآن؟ - إنه يا سيدي يطلب مقابلتكم بإلحاح. - إذن أدخله.
وبعد هنيهة دخل الأسقف الذي عرف القراء فيما تقدم من الأجزاء السابقة أنه أعدى عدو للرجل العبوس «روكامبول» وكهنة الكاثوليك.
وكان السير أرشيبالد قد خرج مع ابنته.
فلما دخل الأسقف وجد اللورد أفندال وحده في انتظاره، غير أنهما كانا لا يزالان عند الباب فناداهما الأسقف وقال لهما: لا حاجة إلى انصرافكما، بل إن بقاءكما لا بد منه.
فقال اللورد بعد أن عادت زوجته وأبوها إلى مجلسيهما: تفضل يا سيدي الأسقف وقل لنا السبب الذي دعاك إلى تشريفنا بهذه الزيارة. - إني يا سيدي اللورد زعيم الرسالة الإنجليكانية في جميع إنكلترا، وإن أعمالنا الخيرية يقتضي لها كثير من النفقات، ولذلك تعجز رسالتنا، على كثرة إيرادها عن القيام بهذه النفقات وتحتاج إلى مساعدة أهل الخير من أمثالكم الأغنياء. - إذا كنت آتيا لهذا الغرض فإني أكتتب بخمسمائة جنيه.
فابتسم الأسقف وقال: إن هذا المبلغ كثير على غيرك أما عليك فهو قليل. - إذا أزيدك خمسمائة أيضا فأكتتب بألف. - إنك لو تعلم، يا سيدي الخدمة التي سأخدمك إياها لما ساومتني هذه المساومة ...
فارتعش اللورد أفندال وقال: أية خدمة تعني؟ - إن جمعيتنا - يا سيدي اللورد - كثيرة الفروع، ولها مرسلون في كل مكان، حتى في زيلندا الجديدة، وقد رجع حديثا أحد هؤلاء المرسلين إلى إنكلترا. - وأية علاقة لي برجوعه؟ - إن علاقتك به يا سيدي أن هذا المرسل عرف في تلك البلاد حين كان فيها رجلا منفيا يدعى ولتر بريس.
فاصفر وجه اللورد أفندال، وجعل السير أرشيبالد وابنته ينظر كل منهما إلى الآخر نظرات تشف عن القلق.
فقال له أفندال: أحق ما تقول؟
فأجابه الأسقف: بل أزيدك يا سيدي أن هذا الرجل - ولتر بريس - يقيم الآن في لندرا وهو يدعي أن اسمه الحقيقي اللورد وليم باميلتون؛ أي اسم أخيك. - إن هذا الرجل مزور محتال.
فأجابه الأسقف ببرود: وهذا رأيي فيه.
ثم نظر إليه محدقا وابتسم ابتسامة تشف عن معرفته الحقيقة، وأن المباحثة بجلاء خير من التمويه.
فأدرك أفندال معنى هذه الابتسامة، ولكنه لبث في موقف المتردد.
فقال له الأسقف: إن هذا الرجل سواء كان صادقا أو كاذبا فيما يدعيه فإنه قد يولد لك مشاكل ومصاعب على أني أستطيع أنا وقايتك منها. - أحق ما تقول؟ - ذلك لا ريب فيه بشرط أن نتفق. - إذا قل ما تريد.
42
ولم يدر أحد ما جرى بين هذا الأسقف وبين الثلاثة المتآمرين، غير أنه في التالي وردت إلى توما هذه الرسالة دون توقيع، وهي: «إن رجلا لا يستطيع التصريح باسمه، ولكنه يخلص إخلاصا شديدا للورد يخبر توما أن الضابط برسي رجع إلى مسقط رأسه في مدينة بيرب من أعمال إيكوسيا.
وهو الآن في حالة عسر شديد يعيش من دريهمات تنفقها عليه الحكومة وقد ذهب بصره وهو يقيم مع ابنته في تلك المدينة.
إنه شديد الفقر إذا أعطيته القليل من المال باح لك بما يعلمه من ذاك السر الرهيب.»
فأخذ توما الرسالة إلى اللورد وليم، فلما اطلع عليها قطب حاجبيه ثم قال: إني أخشى أيها الصديق أن تكون هذه الرسالة شركا نصب لك وأشير عليك أن تذهب إلى بيرت. - أتظنها مكيدة؟ - نعم، فإن مس إينا قد عرفتني، وأيقنت أنها ليست فقط لم تعد تحبني، بل إنها باتت شريكة زوجها الأثيم، وقد طلبت إلي أن أبرح إنكلترا، فأبيت وأخذت تكيد المكائد إذ لم تستطع إقناعي. - وأية غاية لها من هذه الرسالة؟ - التفريق بيني وبينك بغية إضعافنا. - إنك قد تكون مصيبا، وسأكتب إليه بدلا من أن أسافر.
وكان توما يعرف كثيرين في مدينة بيرت، بينهم رجل من تجار الخيول كان من أصدقائه المخلصين، فذهب إلى إدارة التلغراف وأرسل إليه الرسالة البرقية الآتية:
صديقي العزيز ...
إن بيرت مدينة صغيرة، يعرف كل الناس بعضهم بعضا فيها، فأرجو أن تخبرني إذا كان فيها رجل يدعى برسي كان من الضباط الذين يقودون المجرمين إلى منفاهم.
أرسل الجواب بهذا العنوان:
توما
وكيل اللورد باميلتون سابقا
نمرة 17 شارع أدم سيتملس لندرا
وأقام ينتظر الرد فجاءه في المساء الجواب الآتي:
صديقي العزيز
إن الضابط برسي يقيم في بيرت، ولكنه مريض وحالته شديدة الخطورة.
فأخذ توما الجواب إلى اللورد وليم، وأطلعه عليه فقال له: مهما كان المبلغ الذي يحمله على الإقرار زهيدا، لا أستطيع دفعه إليك، إذ لا مال لي. - ولكن بقي لي مائة جنيه. - إن هذا المبلغ لا يكفي. - ولكني أسافر في كل حال، فإذا كان المبلغ غير كاف، فلا أعدم وسيلة للحصول على الكفاية من المال في تلك المدينة، إذ لي فيها كثير من الأصدقاء. - إذا سر على بركات الله.
فخرج توما من عنده كي يعد معدات السفر، فلما خرج تصدى له رجل تشير ملابسه على أنه من رجال الشرع، فحياه وقال له: إني أدعى يا سيدي إدوارد كوليرس. - لقد تشرفت بمعرفتك يا سيدي، فهل أنت قادم إلي؟ - نعم إني أشتغل في مكتب المحامي سيمون.
فبرقت عينا توما ببارق السرور، وقال في نفسه: لا شك أن هذا المحامي قد تمعن في الأمر، ووجد وسيلة صالحة لفوز اللود وليم وإرجاع ثروته وألقابه إليه.
وأتم إدوارد كلامه فقال: إن غرفتي يا سيدي مجاورة لغرفة المحامي سيمون لا يفصل بين الغرفتين غير جدار رقيق من الخشب، بحيث إذا أصغيت سمعت كل ما يدور من الحديث بينه وبين زبائنه، وقد كنت أنت أمس عنده، أليس كذلك؟ - هو ذاك. - إني سمعت حديثكما بالتفصيل، فلم تفتني كلمة منه.
فنظر إليه توما نظرة ريب، وقال: إذا أليس هو المحامي سيمون الذي أرسلك إلي؟ - أرجو أن تصغي إلى حديثي حتى أتمه، يا سيدي، ثم سلني ما تشاء. - تكلم. - إني أشتغل منذ عشرين عاما، وقد جمعت بعض المال مما كنت أقتصده، وأنا الآن طامع بشراء مكتب المحامي سيمون، فإنه يريد أن يتخلى عن الأعمال بعد أن نال ما ناله من الثروة، ولكني لا أزال في حاجة إلى ثلاثة آلاف جنيه لتتمة الثمن.
فابتسم توما ابتسامة حزن، وقال له: إذا كنت معتمدا علي، فقد أخطأت. - إني لست مخطئا بقدر ما تتوهم، فقد قلت لك إني جمعت بعض المال باقتصادي، وأزيدك أن ما جمعته يربو على اثني عشر ألف جنيه، أما هذا المال فإني مستعد لوضعه بين يدي اللورد وليم، يتصرف به كيف يشاء.
فدهش توما لما سمع وقال: أحق ما تقول؟ - دون شك وفوق ذلك فإني من رجال الشرع المتضلعين، وإني واثق من كسب القضية. - ألعل ذلك من الممكنات؟ - إني بالأمس كنت مترددا بالحكم، أما اليوم فإني على أتم ثقة من الفوز، وأنا هو الذي أرسل إليك الرسالة. - أنت هو مرسل الرسالة التي لا توقيع فيها؟ - نعم. - إذا؛ إن الضابط برسي هو في بيرت حقيقة؟ - لا بد أن تكون عرفت ذلك بالبرهان. - هو ذاك فقد سألت عنه تلغرافيا في بيرت فأجابوني بالإيجاب. - وهل عزمت على السفر؟ - إني مسافر الآن. - ولكن كم لديك من المال. - مائة جنيه. - إن هذا المبلغ لا يكفي. - ربما، ولكن هذا كل ما أملكه. - إذا خذ هذه الحوالة بألف جنيه، واسمح لي أن أعرض عليك شروطي ... - ما هي؟ - هي أنه حين نكسب القضية يكون لي منها خمسون ألف جنيه.
فأخذ توما الحوالة منه، وقال: سيكون لك هذا المبلغ.
فقال له إدوارد: اذهب إلى بيرت وأحضر برسي، وأنا الضمين بإقناعه على الإقرار. - أأستطيع أن أكتب لك من بيرت؟ - لا فائدة من الكتابة فإن كل الفائدة بحضور برسي.
ثم تركه وانصرف.
أما توما فإنه عاد إلى اللورد وليم وأخبره بجميع ما جرى، وقال: إن ساعة الانتصار قد دنت يا سيدي.
فأجابه اللورد بلهجة المرتاب: من يعلم؟
وبعد هنيهة ركب توما القطار المسافر إلى أدمبرج، وكانت الساعة الثامنة من المساء.
وكان وحده بالمركبة، ولم يلق فيها أحدا من الركاب، وفي المحطة الثانية دخل مسافر وجلس بالقرب من توما في تلك المركبة.
فتعارفا وبعد حين أخذ المسافر سيكارا من علبته وقدمه لتوما فأخذه منه وجعل يدخن بها.
ولم يكد يأتي على آخره حتى نام نوما عميقا.
43
كان هذا السيكار الذي قدمه الرجل لتوما يحتوي على مادة مخدرة، بدليل أن توما نام على أثر تدخينه عدة ساعات.
فلما استفاق وجد نفسه في ظلام دامس، وحاول أن يتحرك فلم يستطع؛ لأنه كان مقيد اليدين والرجلين، فحسب أن القطار واقف.
غير أن عينيه تعودتا تباعا على الظلام فرأى أنه لم يكن نائما في قطار فجعل يصيح مستغيثا دون أن يجيبه أحد.
وعند ذلك حاول أن ينهض فسقط على الأرض وشعر أن الأرض رطبة، فعلم أنه في قبو.
فتمثلت له الحقيقة وأيقن أنهم نصبوا له شركا بغية التفريق بينه وبين اللورد وليم.
فانقطع عن الصياح وجعل يفكر فيما صار إليه.
ثم أجال في ذلك المكان المظلم نظرا فاحصا، فرأى نورا ضعيفا قد ظهر له ثم توارى.
وفحص الأرض التي كان ملقيا عليها، فلم يجد ترابا بل خضبا رطبا، ثم شم رائحة زفت، وشعر بعد ذلك باهتزاز عظيم، فعلم لفوره أنه في عنبر سفينة.
وبعد هنيهة سمع وقع أقدام فوق رأسه وعاد النور إلى الظهور، ثم تلا ذلك أصوات بشرية عقبها زيادة الاهتزاز.
وعند ذلك سمع صوت صفير شديد، فلم يبق لديه شك أنه في سفينة بعد أن كان في قطار.
وقد كان المنكود يسأل نفسه إلى أين تسير به السفينة وبيد من وقع، فلا يهتدي إلى حل هذا اللغز.
وعند ذلك مر بخاطره اسم اللورد أفندال فوجف قلبه وعاد إلى الاستغاثة والصياح دون أن يجيبه أحد .
وكانت السفينة قد رفعت مرساها وأخذ النوتية يهتمون بها في بدء السفر فلم ينتبه إليه أحد.
ولكنه لم ينقطع عن الصياح وما زال يستغيث حتى رأى الباب قد فتح ودخل منه النور.
فرأى توما رجلا دخل إليه فدنا منه وقال له: أأنت هو الذي كان يصيح هذا الصياح؟ - نعم أنا هو، فمن الذي قيدني قيد المجرمين؟ ومن جاء بي إلى هذه السفينة؟
فجعل النوتي يضحك وقال له: اذهب واسأل الربان هذا السؤال، أما أنا فلا أعلم شيئا من أمرك، على أني أنذرك أنك إذا رجعت إلى مثل هذا الصياح المزعج، جلدتك خمسين جلدة، وقد أعذر من أنذر. - إني لا أطيق الجلد وسأنقطع عن الصياح كما أردت إنما أرجوك أن تخبرني أيها الصديق أين أنا؟ - إنك في عنبر سفينة. - وإلى أين مسافرة هذه السفينة؟ - إلى أميركا. - ولكن كيف وصلت إلى هنا ومن جاء بي؟ - لا علم لي بشيء من هذا.
ثم تركه وانصرف.
وبعد ذلك ببضع ساعات رجع إليه بشيء من الطعام والشراب فوضع المائدة أمامه وفك قيود يديه كي يستطيع أن يأكل.
وكان اليأس قد تمكن من قلبه، والسفينة مجدة في السير، فمضى النهار وعقبه الليل.
ثم تعاقب الليل والنهار وفي كل يوم يأتيه النوتي مرة بالطعام، ثم يقيد يديه بعد أن يفرغ من الأكل.
وبعد ثلاثة أيام جاءه النوتي وقال له: لدي أوامر جديدة من الربان، فقد رأى أنه لم يبق فائدة من بقائك في العنبر. - أحق ما تقول؟ - بلا ريب والبرهان أني سأفك قيودك وأصعد بك إلى ظهر السفينة إذ لم نعد نخاف شيئا الآن. - ماذا تعني بما تقول؟ - إننا أصبحنا على بعد مائة مرحلة من الشواطئ الإنكليزية، فلم نعد نخشى أن تفر سباحة.
ثم فك قيده وصعد به إلى ظهر السفينة.
وبعد أن فحص توما هذه السفينة قال في نفسه: إن هذه الباخرة هي من بواخر الحكومة، فإن ربانها من الضباط، ولا شك أنه من أهل الظرف والأدب فإني سأكلمه بأمري فيعلم أن سجني في باخرته إنما كان خطأ ومكيدة فيطلق سراحي.
وعند ذلك جعل ينتظر مناسبة تمكنه من محادثة الربان.
وكان البحارة ينظرون إليه منذهلين، ولم يكلمه أحد.
ولبث صابرا إلى أن أقبل الظلام، فرأى الربان قد صعد إلى حيث كان واقفا ينتظره.
فأسرع إليه وحياه بملء الاحترام، ولكنه لم يلبث أن بدأ بشكواه حتى قاطعه الربان بعنف وقال له بجفاء: إني لا أستطيع أن أخبرك بشيء وغاية ما أستطيع قوله أني تلقيت أوامر بشأنك فأنفذتها كما تلقيتها.
ثم تركه وانصرف.
فذهب توما واليأس ملء قلبه إلى الربان الثاني، فلقي من قسوته أشد ما لقي من الأول، وقال له: إنك إذا عدت إلى التثقيل علينا بمثل هذه الأسئلة وضعتك في أصفاد الحديد.
فتركه توما آسفا حزينا، وقد علم أنه لا يستطيع الاعتماد إلا على نفسه، فأقام في تلك السفينة ينتظر فرصة تمكنه من الفرار، وقد طال انتظاره.
ولكن هذه الفرصة قد وافته فاغتنمها، كما سنبينه للقراء.
44
إن هذه السفينة التي كان مسافرا عليها توما، كانت ذاهبة إلى بونس أيرس.
وقد وصلت بعد اجتيازها البحار خمسة عشر يوما إلى قرب تناناريف، فكانت السماء صافية والبحر ساكنا هادئا.
فواصلت سيرها، ولكنها لم تسر بضعة أميال حتى برد الهواء فجأة، وظهر بعض الغيوم في تلك السماء الصافية.
وكان الربان من المدربين في هذه المهنة الشاقة، فلما شعر ببرد الهواء فجأة أخذ منظاره وجعل ينظر إلى تلك الغيوم، فراقبها حينا ثم قطب حاجبيه ولم يفه بحرف.
أما توما فقد استسلم إلى القضاء، وكانت له الحرية المطلقة بالإقامة أين يريد في السفينة.
وقد أذن له الربان بالتكلم مع البحارة، فلم يعد يخطر في باله بعد أن أمعنت في السفر أن يبرحها، ولكنه كان يراقب كل ما يجري فيها وقد رأى الربان حين نظر بمنظاره إلى الغيوم، ورأى تقطيب حاجبيه، فعلم أن العاصفة تنذر السفينة.
فلما أقبل الليل أمر الربان بإيقاف السفينة، فسر توما سرورا عظيما، وإنما أمر بإيقافها لأنه رأى الرياح قد سكنت والأمواج قد ارتفع زبدها فقال للبحارة: ها هي العاصفة بدأت مقدماتها.
ثم هجم الليل وهبت العاصفة فكانت هائلة وأخذت السفينة ترقص فوق تلك الأمواج الثائرة.
وكان توما يعلم أن تناناريف لا تبعد غير مرحلتين، عن موقف السفينة.
فبينما كانت السفينة في أشد هياجها، وبحارة السفينة يخضعون جميعهم للربان كأنهم رجل واحد ويمتثلون لصوته الجهوري الرنان.
وبينما الصواري تكاد تنكسر لقوة الرياح، سمع صوت قائل يقول: «رجل في البحر.»
ولم يعلم أحد إذا كان هذا الرجل قد حملته السفينة أو أنه ألقى نفسه إلى البحر طائعا مختارا.
ثم إنهم لم يعلموا إذا كان من البحارة أو من المسافرين، بل إنهم لم يحاولوا أن يبحثوا لانشغالهم بما كانوا فيه من مقاومة العاصفة وإنقاذ السفينة مما كان يحدق بها من الأخطار.
وعند الصباح هدأت العاصفة وسكنت الأمواج، فعلم الربان أن الرجل الذي سقط في البحر كان توما.
ثم أخذ سجل السفينة وكتب فيه ما يأتي:
في هذه الليلة حملت الأمواج المدعو توما عن ظهر السفينة فغرق، وهو الرجل الذي أنقله إلى أميركا بأمر الرسالة الإنجليكانية في لندرا.
وواصلت السفينة سيرها غير أن ربانها كان مخطئا في توهمه؛ لأن توما لم يغرق إذ كان من الماهرين في السباحة.
فما زال يسبح في ذلك الظلام الدامس ويقاوم تلك الأمواج الثائرة، حتى عثر - وقد أشرف على الغرق - بلوح كبير من الخشب كان السبب في نجاته، فإنه أمسك به واستراح، وجعلت الأمواج تقذفه وهو ممسك باللوح حتى بلغ البر.
إن هذا الرجل الذي لقيه في القطار وأعطاه السيكار المخدر، لم يكن غرضه سرقة ماله، بل الاحتيال على إقصائه، ولذلك أبقى له منطقته وفيها ما كان لديه من المال.
وقد كان أول وصوله إلى شاطئ مهجور، لا ينتابه غير الصيادين، فسقط مغميا غليه فوق تلك الرمال، لفرط ما عاناه من التعب.
فجاء أحد الصيادين عند الفجر ليتفقد شباكه، فوجده وعالجه حتى استفاق فذهب به إلى عاصمة الجزيرة.
وهناك ذهب توما إلى قنصل الإنكليز، وطلب إليه أن يعيده إلى بلده.
وقد اضطر أن يصبر ثمانية أيام إلى أن سارت باخرة نرويجية في تلك الميناء كانت مسافرة إلى أوروبا، فرجع عليها إلى إنكلترا، فاستمرت الباخرة في سفرها شهرا كاملا.
على أن توما كان قد كتب رسالتين من تناناريف، إحداهما إلى زوجته والأخرى إلى اللورد وليم، فشرح لهما أمره وفصل المكيدة، ثم طلب إليهما أن يختبآ في لندرا وأن لا يفعلا شيئا قبل عودته.
وكان توما قد سافر إلى إيكوسيا وهو قد علم بعض الحقيقة، فقد كان واثقا أن إدوار لم يخدعه وأن الرجل الذي أرسل إليه التلغراف من بيرت كان هو نفس الرجل الذي يعرفه، ولذلك كان واثقا كل الثقة أن الذي نصب له هذه المكيدة إنما كان اللورد أفندال دون سواه.
ولذلك سافر توا إلى إيكوسيا ولم يقف إلا في بيرت.
فذهب حين وصوله إلى مركز البريد راجيا أن يجد رسالة من زوجته أو من اللورد وليم فلم يظفر بشيء، فذهب إلى منزل ذلك الصديق الذي أرسل إليه الرسالة البرقية فعلم أن هذا الرجل قد برح مدينة بيرت منذ أعوام بعيدة، وأيقن أنه ليس هو الذي كتب إليه تلك الرسالة.
على أنه لم ييأس بعد كل ما اتفق له بل جعل يبحث عن برسي بأتم تدقيق فما وجد أحدا رآه في تلك المدينة حتى إنه لم يجد من يعرفه فيها.
وعند ذلك عاد المنكود إلى لندرا عودة القانط، وأسرع إلى شارع أدم ستريت حيث ترك امرأته واللورد وليم، فكاد يجن من قنوطه حين علم أن اللورد قد برح المنزل منذ شهر، فلم تحبط هذه المصاعب عزمه، وأخذ يبحث عنهم وهو يقول: لا بد لي أن أجدهم أينما كانوا.
45
وقد كان وصول توما إلى لندرا في الليل، فاضطر أن يؤجل أبحاثه إلى اليوم التالي.
وفي صباح اليوم التالي ذهب توما إلى مكتب المحامي سيمون، وأخبره بما اتفق له مع إدوارد الذي يشتغل في مكتبه.
فدهش المحامي دهشا عظيما إذ لم يشتغل عنده رجل يدعى بهذا الاسم.
فأخبره توما بجميع ما جرى له وعن احتجاب امرأته واللورد وليم.
فقال له المحامي: إني لم أر أحدا منهم على أن تلك الأمور التي أراك تستغربها لا أجد فيها شيئا من الغرابة لأني كنت أتوقع حدوث مثلها، ألا تذكر أني حذرتك من السير أفندال؟ - والآن ماذا نصنع؟ - خير ما تصنعه هو أن ترضى بما عرضته عليك من قبل بشأن التسوية. - ولكن هذا الشقي قد يكون قتل أخاه. - إني لا أرى ما تراه، ألم تقل لي إن امرأتك واللورد وامرأته وولديه قد اختفوا؟ - نعم. - إذا اطمئن فإن قتل خمسة أشخاص ليس بالأمر اليسير. - إذا ماذا صنعوا بهم؟ - أصغ إلي أيها الصديق فإن ميزتي أن لا أهتم بما يتعلق بأعمال غيري، إني أصبحت واثقا الآن أن اللورد وليم لا يزال حقيقة من الأحياء، وقد أشفقت عليك وعليه، وعولت على أن أهتم بأمره وبأمرك.
إني لا أزيدك الآن شيئا على ما قلته، فعد إلي في هذا المساء وسوف ترى ما يكون.
فتركه توما وانصرف هائما على وجهه في لندرا يبحث عن امرأته وسيده دون جدوى.
ولما أقبل المساء رجع إلى المحامي ولم يكن لديه عند ذلك سواه، فقال له: ألعلك لقيت أحدا من الضائعين؟ - كلا واأسفاه. - أما أنا فقد كنت أسعد حظا منك.
فصاح توما صيحة فرح وقال: كيف ذلك يا سيدي؟ - لا تتسرع بالسرور أيها الصديق. - رباه ماذا حدث ألعلهم ماتوا؟ - كلا، ولكنهم كادوا لهم مكيدة فسيحة أتعلم أين هو الآن هذا اللورد المنكود يا توما؟ - أين؟ - إنه في بدلام ...
فصاح توما صيحة يأس وقال: أهو مجنون؟ - كلا، ولكنهم وضعوه في مستشفى المجانين، فإني أعرف بوليسا ماهرا يدعى روجرس، فدعوته إلي بعد انصرافك من عندي، وعهدت إليه أن يبحث عن اللورد، فقال لي: إن مسألة هذا اللورد قد عرضت علي فأبيت أن أتولاها، ولكني أعرف حقيقة ما حدث وإليك ما أخبرني به هذا البوليس.
إنه في اليوم التالي لسفرك ورد تلغراف منك إلى اللورد وليم.
فقاطعه توما وقال: تلغراف مني، إني لم أرسل له شيئا! - إنه تلغراف مزور، وقد كان مفاده ما يأتي: «وجدنا برسي، إن إدوار سافر ليقابلك فاصنع ما يقوله لك.»
وفي اليوم نفسه زار إدوار اللورد وليم، فأملى عليه مذكرة طويلة مزجها بعبارات كثيرة غير مفهومة، فكان إذا اعترض عليها وليم يقول له إدوار: إنها اصطلاحات قضائية تشكل عليك لأنك لم تألفها، ثم عهد إليه أن يذهب بنفسه إلى وزير الحقانية ويقدم له هذه المذكرة.
وبعد ذلك بيومين ورد إلى اللورد وليم كتاب منك.
فقاطعه توما قائلا: ولكني لم أكتب إليه. - هو ذاك، ولكنهم قلدوا خطك. - وماذا كتبوا بلساني؟ - إنك كتبت إليه تقول: إن برسي مريض، وأنك مضطر إلى ملازمته حتى يبرأ.
وبعد ذلك بثمانية أيام صدر الأمر إلى اللورد وليم باسم ولتر بريس أن يذهب إلى نظارة الحقانية.
فذهب مسرعا والرجاء ملء قلبه، ولكنه لم يعد في المساء فقلقت امرأته وامرأتك إلى أن ورد إلى امرأته كتاب بتوقيع اللورد وليم، فإنهم زوروا خطه.
وكانت خلاصة هذا الكتاب أن ناظر الحقانية لم يشكك في قول وليم، وأنه دعا إليه أفندال وجمعه به فاعترف بكل ما كان.
غير أن ناظر الحقانية نظر نظرة خوف إلى جسامة هذه القضية وأشفق على أسرة باميلتون من الفضيحة، فوفق بين الأخوين وعقد تسوية بينهما، وهي أن يقبض اللورد وليم من أخيه مائتين وخمسين ألف جنيه، ويستولي على قصر أسرة باميلتون الكائن في باريس في شارع أونوريه، وتكون إقامته في فرنسا.
وقد قال في ختام هذا الكتاب: إنه مسافر إلى فولكستون، وإنه ينتظر فيها امرأته وولديه، ثم دعا بيتزي إلى السفر إلى بيرت لتخبر زوجها توما وتأتي به إلى لندرا، ثم تسافر وإياه إلى فرنسا.
وكان يوجد في طي الكتاب ورقة مالية قيمتها مائة جنيه، فلم تشكك امرأته بشيء في هذا الكتاب لأن الخط كان مقلدا أتم تقليد، والحكاية معقولة لا تحمل على الريب.
وأسرعت امرأة اللورد إلى دفع ما كان عليها من الدين ثم ركبت مركبة مع ولديها وسارت إلى محطة الجنوب، ولم يرها أحد بعد ذلك العهد.
فقال له توما: وماذا جرى للورد وليم؟ - إن ناظر الحقانية لم يصدق كلمة من حكايته، وقد ورد إليه في الوقت نفسه شكوى من اللورد أفندال خلاصتها أن أحد المجرمين قد انتحل اسم أخيه الميت وطلب معاقبته.
وبينما كانت امرأة اللورد وليم مسافرة مع ولديها إلى فولكستون، كان طبيبان من أطباء المجانين يفحصان اللورد وليم، فما ترددا في الحكم عليه أنه مجنون.
فاضطرب توما وقال: وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك أرسلوه إلى مستشفى المجانين ولا يزال فيه. - وامرأتي؟ - إنها سافرت في اليوم نفسه إلى إيكوسيا في مركبة النساء، فلما بلغت إلى المحطة الأولى ادعت إحدى السيدات أنها قد سرقت في القطار.
فأقبل البوليس وفتش جميع النساء المسافرات فوجد كيس النقود المسروق في جيب امرأتك بيتزي فقبض عليها وذهب بها إلى السجن.
فصاح توما صيحة يأس وقال: رباه لقد قطع كل رجاء. - لا تقنط يا توما فلا يزال لنا رجاء وطيد.
46
فجعل توما ينظر إليه حائرا مبهوتا دون أن يفوه بحرف، فقال له المحامي: إنك بحثت عن برسي دون شك. - إني بحثت عنه في كل مكان فلم أظفر بأثره ولا شك أنه قد مات. - إنك مخطئ يا توما فهو لا يزال في قيد الحياة. - أأنت واثق مما تقول؟ - كل الثقة، فإنك بينما كنت تبحث أنت عنه كنت أنا أبحث أيضا، فعلمت أن برسي في قيد الحياة، وأنه ليس أعمى، ولا هو مريض بل إنه بأتم صحة. - أين هو؟ - في لندرا ...
ثم قرع جرسا فأسرع إليه أحد الموظفين فقال له: اركب مركبة وسر بها إلى ذلك الرجل الذي جاءني أمس وأتني به.
وذهب الموظف، وعند ذلك قال المحامي لتوما: إنك استرسلت إلى اليأس منذ هنيهة، فلا تتمادى بالسرور الآن، فأصغ إلي، فإن برسي مقيم في لندرا وسيبوح بما يعلم مقابل مبلغ اتفقت معه عليه، بل هو سيفعل أكثر من ذلك فإنه سيقنع الحارسين اللذين شاركاه بالجريمة على الاعتراف أيضا فيكون لدينا ثلاثة شهود وهذا فوق الكفاية.
وقد اعتزل هؤلاء الثلاثة خدمة الحكومة، ولهم الآن رواتب تقاعد فإن علمت الحكومة بما ارتكبوه ربما حكمت عليهم بالإعدام.
وعاد توما إلى الاضطراب وقال له: إذا كيف ترجو أن يبوحوا؟ - لقد وجدت طريقة يقرون بها دون أن تنالهم يد الحكومة، وهي أني أعطي كل واحد منهم ألفا وخمسمائة جنيه، وهو السعر الذي اتفقت عليه معهم لحملهم على الإقرار، وبعدها يبرحون لندرا إلى فرنسا.
فقال له توما: إذا لا يبوحون. - بل يعترفوا، ذلك أنهم حين وصولهم إلى باريس يذهبون إلى سفير إنكلترا ويعترفون له بجميع ما حدث، ويخبرونه أيضا بخيانة ذلك السجان الذي وضع الحية في فراش ولتر بريس الحقيقي فيقبضون عليه فجأة ولا بد له عند ذلك من الإقرار.
فقال توما: إذا يحكمون على هذا السجان؟ - هو ذاك، ولكنه يستحق أشد عقاب إذ كان له أطول يد في الجريمة.
فغلب السرور على توما وقال: إذا كسبنا القضية. - لا تتسرع بالحكم، فإن اللورد أفندال قوي، ولا تأذن الحكومة بافتضاح مثل هذا البيت النبيل.
فأطرق توما برأسه وقال: إذا أية فائدة لنا بشهادة برسي ورفيقيه؟ - إنها تفيدنا بالحصول على التسوية؟ - أية تسوية تعني؟ - التسوية التي اقترحها خصومنا في كتابهم المزور إلى اللورد وليم. - مائتان وخمسون ألف جنيه. - وقصر باميلتون في باريس أيضا. - بواسطة تلك الأوراق فأتسلح بها وأذهب إلى اللورد أفندال فيخاف من الفضيحة بعد أن يرى تلك البراهين الجلية ويرضى بالتسوية على ما نبسطه له، ثم يطلق سراح أخيه من مستشفى المجانين بكلمة يكتبها. - وبعد ذلك؟ - يبرح اللورد وليم لندرا إلى باريس، وهناك تتم المبادلة؟ - أية مبادلة تعني؟ - يقبض المال الذي اتفقنا عليه ويسلم أوراق ملكية القصر، وفي مقابل ذلك يرد لهم القرار المسجل بالسفارة.
غير أن توما لم يقتنع وكبر عليه أن يتنازل مولاه عن اسمه وحقه مقابل مال، فقال له المحامي: إنك لا تزال على خطئك على أنك لو علمت كم تقتضيه مثل هذه القضية من الزمن لرجعت عن هذا العناد، فقد يمر أعوام طويلة قبل أن يصدر الحكم فيها. - وماذا يضرنا إن كان النجاح مضمونا؟ - وجه الضرر فيه أن عائلة اللورد تموت جوعا، وأن اللورد المحبوس بين المجانين يصبح مثلهم.
ثم إني لا أكتمك أيها الصديق أن هذه القضية يقتضي لها عشرون ألف جنيه على الأقل، ولا أستطيع المخاطرة بهذا المبلغ الجسيم.
فلم يجد توما بدا من الامتثال بعد هذه البراهين المفحمة، وقال: إذا ليكن ما تريد. - هذا الذي كنت أرجوه منك فقد انصعت للحق بعد ذاك العناد.
وعندها دخل الضابط برسي، وكان لا يزال شابا وعليه دلائل القوة والنشاط. فدله المحامي على توما، وقال له: إننا متفقون على كل الأمور ولم يبق إلا التنفيذ، فهل تسافر الليلة إلى باريس؟ - أسافر دون شك ... - إذا هذه الخمسمائة جنيه لك ولرفاقك وسندفع لك الباقي بعد التسجيل.
ثم أخذ دفتر الحوالات فكتب له حوالة على أحد مصارف باريس وأعطاه إياها.
47
فأخذ الحوالة ووضعها في جيبه، وقد برقت عيناه بأشعة الفرح، فقال له المحامي: اذهب الآن وتأهب للسفر في المساء، وعندما تصل إلى باريس أرسل إلي تلغرافا يرشدني إلى الفندق الذي نزلت فيه مع رفاقك. - أيجب أن نذهب إلى السفارة حين وصولنا إلى باريس؟ - كلا، بل تصبرون إلى أن يوافيكم هذا الرجل، وأشار إلى توما.
فخرج برسي ممتثلا وبقي توما مع المحامي، فقال له: وماذا تصنع بامرأتي المنكودة وهي في السجن؟ - إنها ستخرج منه. - كيف ذلك؟! - إني أطلق سراحها بضمانة مالية. - ولكنها إن برحت إنكلترا تخسر المال. - لا بأس فإني أضيفه إلى ما أدفعه من نفقات اللورد وليم.
فأطرق توما برأسه إلى الأرض وبعد سكوت قصير قال له: ألم تقل لي يا سيدي إن امرأة اللورد وولديه قد احتجبوا؟ - نعم ... - ألعلهم أصيبوا بمكروه؟! - هذا ما كنت أخشاه، أما الآن فقد اطمأننت عليهم بعض الاطمئنان. - كيف ذلك ... - ذلك أني أرسلت في أثرهم ذلك البوليس الذي أخبرتك عنه، فوردني منه في صباح اليوم تلغراف يقول فيه: إنه موشك أن يقف على أثرهم. - أتظن أنه سيجدهم؟! - هذا لا ريب فيه.
فنهض توما يحاول الانصراف وقال: سأعود إليك في الغد. - كلا، لا يجب أن يعلموا أنك حي إلا حين يكتب برسي ورفيقاه إقرارهم، ويسجلون ما كتبوه في السفارة وتصبح هذه الأوراق في يدنا، فقل لي أين تقيم الآن؟ - إني لم أجد بيتا بعد. - يجب أن تقيم في شارع بعيد. - سأفعل، ولكن متى يجب أن أسافر؟! - حينما يرد إلي نبأ من البوليس يدل على التقائه بامرأة اللورد وولديها. - ألا يجب أن أرى اللورد وليم قبل سفري ...؟ - إن الدخول إلى مستشفى بلدام غير ميسور ... - ولكنهم قد يرخصون للبعض. - نعم ... ولكن أعداءنا يراقبوننا كل المراقبة، وقد قلت لك: إنه يجب أن يعتقدوا أنك ميت إلى أن نحصل على الأوراق. - ولكن أين أجدك غدا. - إني سأركب مركبة بين الساعة التاسعة والعاشرة قرب الحدائق فكن في ضواحيها.
ثم افترقا، وفي اليوم التالي ذهب توما في الموعد المعين لمقابلة المحامي فلقيه وقال له: أوجد البوليس امرأة اللورد؟! - نعم ... وهذا كتاب البوليس بشأنها فخذه واقرأه ...
فأخذ توما منه الكتاب وقرأ ما يأتي:
إني أكتب إليك يا سيدي من المحل الذي تقيم فيه مدام بريس، وإنما كتبت لك رسالة بدلا من تلغراف كي لا يطلع على ما أكتبه إليك سواك.
إن مدام بريس الآن في بريتون تقيم في منزل صغير عند شاطئ البحر، وهي لا تعلم شيئا من دخائل المكيدة التي كيدت لزوجها، وتعتقد أنه ينتظرها في باريس، وإليك ما حدث لها بالتفصيل.
إن الكتاب الذي أرسل إليها بتوقيع زوجها كان الخط فيه مقلدا أتم تقليد بحيث لم يحدث في فؤادها شيئا من الريب.
وهي قد برحت لندرا منذ ثلاثة أيام كما تعلم، فلما وصلت إلى فولكستون لقيت رجلا ينتظرها في المحطة.
ولم يكن هذا الرجل زوجها كما كانت تتوقع، بل كان رجلا يدعي أنه قادم من قبل زوجها فأعطاها كتابا منه، وحسبت تلك المنكودة أنه حقيقة من زوجها لإتقان تقليد الخط.
أما هذا الكتاب فقد كانت خلاصته: أنه عرض على شروط الاتفاق بينه وبين أخيه بعض التبديل والتحوير، فاضطر اللورد وليم للذهاب وحده إلى باريس، وهو يرجوها أن تعتمد كل الاعتماد على الرجل الذي أرسله إليها.
فوثقت تلك المنكودة بهذا الكتاب، كما وثقت بالكتاب الذي تقدمه، وسافرت مع ذلك الرجل إلى بريتون؛ حيث أقامها في منزل صغير وجدتها فيه صباح اليوم.
وقد وردها غير هذا الكتاب كتاب آخر من زوجها وفي طيه ما تحتاج إليه من النفقة، فلم أر من الصواب أن أخبرها بالحقيقة قبل أن ترد إلي أوامرك، وإني أخبرتها أني قادم إليها من قبلك لعلمها أنك أنت الذي تتولى عقد التسوية بين اللورد وأخيه، وفي كل حال فإني أنتظر أوامرك.
وبعد أن أتم تلاوة الكتاب رده إلى المحامي وقال له: ماذا فعلت؟ - أرسلت تلغرافا إلى البوليس استحسنت فيه عمله. - وماذا تصنع الآن؟ - يجب أن تسافر اليوم إلى باريس، وهذه حوالة على مصرف سامفري تقبض بموجبها ما تحتاج إليه من النفقات.
فأخذها توما، وقال له: أعلم اللورد وليم بشيء. - كلا. - إذا لا بد أن يكون يأسه شديدا. - دون شك، ولكن ذلك خير من أن يعلم الحقيقة. - لماذا؟ - حذرا من أن ننبه اللورد أفندال. - وأين أجد برسي ورفيقه في باريس؟ - لقد وردني منه تلغراف مفاده أنه يقيم في فندق شامبانيا في شارع مونتمار. - ومتى ذهبت إلى عنده والتقيت به ماذا أصنع؟ - تذهب به توا إلى السفارة فمتى سجلت الأوراق تكتب لي؟ - بعد ذلك؟ - وبعد ذلك أذهب فأقابل السير أفندال.
فودعه توما وانصرف وعاد المحامي بمركبته إلى مكتبه.
وقد سافر توما بعد ساعة إلى باريس، وفي اليوم التالي ورد إلى المحامي هذا التلغراف:
القرار تم والسفير اقتنع والأوراق سجلت، وأنا مسافر هذا المساء إلى لندرا.
توما
فسر المحامي لهذه الرسالة وقال: إنها تسفر عن خير النتائج، ولا بد للورد أفندال أن يذعن بعد أن يقف على الحقيقة.
48
ولما عاد توما من باريس كان في استقباله على المحطة امرأته والمحامي، فإن المحامي كان قد أطلق سراحها بضمانة.
وكانت ملامح توما تدل على الفوز؛ فإنه كان يحمل إقرار برسي مصدقا عليه من السفارة.
فأخذ المحامي الأوراق منه وقال له: لقد بدأت الآن ساعة العمل فسأكتب إلى اللورد أفندال كي يعين لي موعد الاجتماع.
وفي اليوم التالي ذهب المحامي وتوما إلى منزل اللورد، ولما وصلا إليه قال المحامي لتوما: ابق أنت في المركبة، فإذا احتجت إليك دعوتك لأني أخشى أن تبدر منك بادرة غضب تفسد أمرنا معه.
ثم تركه في المركبة وصعد إلى منزل اللورد فوجده ينتظره.
ولم يكن اللورد أفندال يعلم ما يريده منه المحامي، غير أنه كان يعلم أنه كان يتولى أعمال أسرته في عهد أخيه، فقال في نفسه: إنه قادم لمثل تلك الأعمال دون شك.
أما المحامي فإنه بقي واقفا فقال له اللورد: في أي شأن طلبت مقابلتي يا سيدي؟ - إني قادم بالوكالة عن أخيك يا سيدي اللورد. - أي أخ تعني؟! - أخاك البكر اللورد وليم. - ولكني أخي البكر قد مات منذ عشرة أعوام. - هذا ما كان يعتقده الناس. - ولكنها الحقيقة.
فقال له المحامي ببرود: يوجد اثنان أيضا يا سيدي اللورد يعتقد الناس أنهما من الأموات. - من هما؟ - إن الأول يدعى تونا.
فارتعش اللورد وقال: والثاني؟ - هو برسي. - إني لا أعرف هذا الرجل. - ربما، ولكنه هو نفس الرجل الذي أعان أباك السير جورج على استبدال أخيك الحي بجثة ولتر بريس.
فقال له اللورد: إنك ما زلت عارفا بهذه الأمور فلنتحدث بجلاء. - إن هذا كل ما أتمناه يا سيدي اللورد. - إذا فاعلم أنه يوجد رجل شقي قد انتحل اسم أخي الفقيد بغية النصب علي فعلمت ذلك ولكني طلبت إلى الحكومة تأديبه. - إني عارف يا سيدي بجميع ما صنعت. - وإن الحكومة قد استعملت معه الرأفة فوضعته في مستشفى المجانين. - ولكن لهذا الرجل امرأة وبنين. - قد يكون ذلك. - وإن جميع ذلك قد جرى بأمرك.
فأجابه اللورد بعظمة: إني أراك قد وقفت معي موقف قضاة التحقيق. - أسألك المعذرة يا سيدي اللورد عما بدر مني، وإنما أردت به أن أظهر لك وقوفي التام على كل خفايا هذه المسألة الخطيرة. - حسنا تكلم ... - اتفق يا سيدي ذات يوم أن امرأة ولتر بريس «وندعها الآن بهذا الاسم» قد ورد إليها كتاب بخط زوجها، ولكن الخط مزور، وقد تضمن هذا الكتاب الاتفاق على التسوية. - مع من هذه التسوية؟ - معك يا سيدي ... - وما هي هذه التسوية؟ - هي أن اللورد وليم يتنازل عن اسمه ولقبه ويبرح إنكلترا مقابل مائتين وخمسين ألف جنيه يقبضها من أخيه اللورد أفندال. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك رأيت أن هذه التسوية موافقة للفريقين فجئت أقترحها عليك يا سيدي اللورد.
ثم أخرج ورقة من جيبه فوضعها على المنضدة أمام أفندال وقال: إنك حين تقرأ هذه الورقة يا سيدي لا تتوقف لحظة عن قبول ما أقترحه عليك.
فجعل اللورد يقرؤها، وكان المحامي يراقبه فرآه قد اصفر وارتعش ثم بدرت منه بادرة غضب فدعك تلك الورقة بين يديه وكاد يمزقها.
فقال له: هذه صورة الأصل، أما النسخة الأصلية المسجلة في سفارة لندرا في باريس فإنها محفوظة في مكتبي.
فأطرق اللورد عند ذلك هنيهة مفكرا ثم قال: لقد رضيت باقتراحك، فأية ضمانة تكون لي على تنفيذ شروطك؟ - إعدامك النسخة الأصلية المسجلة التي قرأت صورتها الآن فإنها البرهان الوحيد الخطير في هذه القضية. - حسنا، غير أن ولتر بريس في مستشفى المجانين. - هو ذاك، ولكن إن أردتم كان إخراجه منه سهلا ميسورا. - أتظن ذلك؟ - بل أؤكد، فإن كلمة منك إلى ناظر الحقانية تكفي لإخراجه. - ومتى خرج يبرح لندرا؟ - لفوره. - وإذا دفعت المال، وأعطيته القصر في باريس، ترجع إلي نسخة الإقرار الأصلية؟ - دون شك، فما كنت يا سيدي من الكاذبين. - إذا ليكن ما تريد، فسأذهب إليك غدا في مثل هذه الساعة ونبرم الاتفاق النهائي.
فحنى المحامي رأسه للورد وخرج إلى حيث كان ينتظره توما في المركبة، فقال له: قضي الأمر وكسبنا القضية.
فقال له توما والسرور باد بين عينيه: أرضي بكل اقتراحك؟ - إنه رضي بكل شيء. - واللورد وليم أيخرج من المستشفى؟ - إنه يخرج غدا دون شك، وفي كل حال عد إلي في الساعة الثانية بعد ظهر غد فإني أرجو أن يكون كل شيء قد انتهى.
وعند ذلك افترقا، فذهب المحامي إلى مكتبه وانصرف توما إلى امرأته والفرح ملء قلبه.
وكان توما مثل كل الإنكليز، فإن الإنكليزي إذا نال نعمة وأراد شكر الله عليها أصبح يحمده وكأس الشراب بيده، وهكذا توما؛ فإنه قضى مع امرأته بقية يومه وبعض ليله وهو يتجول بها من خمارة إلى أخرى، ويحمد الله لانفراج أزمة مولاه ويناجيه بما توحيه إليه كئوس الخمر، فلم ينم إلا عندما بلغ من الخمر كل مبلغ.
على أنه صحا في اليوم التالي ونامت السكرة، فجعل ينتظر دنو الساعة الثانية بفارغ الصبر.
حتى إذا حان الموعد المعين أسرع مهرولا إلى مكتب المحامي، فلما وصل إلى قرب ذلك المكتب وجد الناس محتشدين جماهير عند باب منزل المحامي.
وكانت علائم الكآبة بادية في ثنايا الوجوه، فامتعضت نفس توما وحدثه قلبه بحدوث سوء، وحاول أن يخترق الجماهير إلى منزل المحامي فلم يستطع لشدة الزحام.
ولما رأى أن المرور قد تعذر عليه سأل أحد الناس عن سبب هذا الزحام فقال له: لقد حدث مصاب عظيم.
فارتعش توما واضطرب قلبه وجعل العرق البارد ينصب من جبينه.
فعاد إلى سؤال الرجل وقال له بلهجة تشف عن القلق: ولكن ماذا حدث يا سيدي؟ - مصاب عظيم. - أي مصاب! - إن سيمون المحامي مات.
49
ولم يكن وقع الصواعق على توما بأشد من وقع هذا النبأ عليه، فصاح صيحة يأس وكاد يذهب عقله، وفي ذلك الحين دنا منه ذلك الموظف الذي كان قد أرسله المحامي لإحضار برسي وقال له: أعرفت هذه الفاجعة الذي أصابتنا يا سيدي؟ - ولكن هذا مستحيل. - لقد كنت مثلك منذ ساعة لا أريد تصديق هذا النبأ المحزن الأليم، ولكني رأيته بعيني مسجى على فراش الموت.
ثم قص عليه تفصيل وفاته، فقال له: إنه عاد أمس إلى منزله وعلائم السرور بادية بين عينيه، فتعشى حسب عادته ونام قبل أن ينتصف الليل، وفي الساعة الثامنة من الصباح لم يخرج من غرفته، فاستبطأته امرأته وقرعت باب غرفته فلم يجبها أحد، ففتحت الباب ودخلت فرأت زوجها على فراشه لا حراك فيه.
وبعد هنيهة أقبل الطبيب فأثبت أنه مات بسكتة دماغية نتجت عن عارض مجهول.
فقال توما: أمات هنا في منزله؟ - كلا، بل مات في ضواحي لندرا. - إذا فما بال الناس محتشدون هنا قرب مكتبه؟ - لأن الجنود قد دخلت إليه.
فدهش توما وقال: أي شأن للجنود في مكتبه؟ - إن الحكومة قد أرسلت مندوبها لوضع الأختام على خزائنه وأوراقه.
ففعل هذا الخبر بتوما كما فعل به خبر الوفاة ذلك أن إقرار برسي المسجل كان موجودا عند المحامي في إحدى خزائن مكتبه، وهو البرهان الوحيد الذي حمل اللورد أفندال على الرضى بالتسوية، وإنما هاله هذا الخبر؛ لأنه كان يعلم بطء الحكومة الإنكليزية، إذا وضعت على منزل أختامها لا تفضها إلا بعد عهد طويل.
وبعد أن خرج الجند تفرق الناس ولبث توما واقفا قرب المكتب فمرت الساعة الثانية والثالثة دون أن يحضر اللورد أفندال، انتظر إلى المساء لم يحضر، عندئذ أيقن أن المحامي المنكود لم يمت حتف أنفه، وأن موته الفجائي لم يكن قضاء وقدرا، بل كان من مكائد أهل الشر والمكر، وأنه لم يضربه هذه الضربة القاتلة غير تلك اليد الخفية الهائلة التي قلدت خط اللورد وليم.
ثم وجد نفسه فردا بإزاء أعدائه الأقوياء، فكبر عليه هذا الأمر وكاد أن يحيط به اليأس لولا نفسه الكبيرة ورجاؤه أن يتولى من يخلف المحامي هذه القضية.
وبعد أن أيقن بوفاة المحامي ذهب إلى امرأته فأخبرها بما اتفق وأخذها فاختبأ وإياها في شارع مقفر خمسة عشر يوما. •••
وفي خلال هذه المدة تولى أحد تلامذة المحامي أشغاله ... فذهب توما إليه وأخبره بما كان فقال له: إني واقف على حقيقة الأمر بالتفصيل ... وسأتولى القضية وأقابل اللورد أفندال، متى رفعت الحكومة الأختام وأملي وطيد بالفوز.
ورجع توما إلى المكان الذي كان مختبئا فيه ...
وبعد أسبوع أزيلت الأختام، ولكن حدثت نكبة كانت أشد ما لقيه توما من النكبات، وهي أن إقرار برسي المسجل لم يكن بين أوراق المحامي الفقيد ... لأن يدا أثيمة قد اختلستها من مكتبه قبل أن يضعوا الأختام.
غير أن المحامي لم ييأس فقال لتوما: عد إلى باريس واطلب إلى برسي أن يكتب إقراره مرة أخرى وهو مسجل.
فظهرت علائم اليأس على توما وقال: ويلاه إنه في اليوم الذي كتب فيه إقراره خاف خوفا شديدا فقبض المال وسافر إلى حيث لا يعلم أحد أين هو. - إذا قضي علينا بالفشل، فلا سبيل إلى الفوز بغير هذه الأوراق.
وخرج توما من عند المحامي خروج القانطين، وهو لا يعلم ليأسه أين يسير ...
وقد اتفق ساعة خروجه أن اللورد أفندال خرج من البرلمان وذهب إلى النادي، فأقام فيه إلى الساعة الثالثة بعد انتصاف الليل.
ثم خرج منه ماشيا على الأقدام إلى منزله لقربه من ذاك النادي، ولم يكد يسير بضع خطوات، حتى شعر أن رجلا يتبعه، فأسرع في سيره، فرأى أن الرجل قد اقتدى به، حتى إذا وصل إلى تمثال نلسن - قرب ترافلغار - وقد دنا منه الرجل الذي كان يتبعه، وقال له: لي كلمة أقولها لك يا ميلورد.
فارتعش اللورد وقال: ماذا تريد ...؟ تكلم ...
فدنا الرجل خطوة منه أيضا وقال له: ألم تعرفني أيها اللورد؟
فأجابه بجفاء: كلا. - إني أدعى توما ... - ماذا تريد؟ - إني جئت أسألك إطلاق سراح أخيك.
فضحك اللورد وقال: لا شك إنك مجنون.
فقال له توما بصوت يضطرب: احذر أيها اللورد.
فانتهره اللورد وقال: ارجع إلى الوراء أيها الشقي.
ثم التفت فرأى بوليسا على مسافة قريبة فناداه مستنجدا فقال له توما: إن الجنود لا يدركونك إلا قتيلا أيها السفاك ...
ثم هجم عليه هجوم الضواري وطعنه بخنجره طعنة نجلاء اخترقت قلبه فسقط صريعا دون أن يصيح ...
أما توما فإنه صاح صيحة فرح وقال: الآن ... لقد انتقمت منك لأخيك أيها القاتل السفاك، فمت غير مأسوف عليك ... لقد استراحت الأرض من شرورك وآثامك.
50
كانت بيتزي واقفة على جميع مشروعات زوجها توما، إذ كان يطلعها على كل أسراره ونواياه، وكان قد أخبرها بعزمه على الانتقام من اللورد أفندال إذا لم يحقق طلبه وينصف أخاه، ولذلك لم تقلق عليه حين لم يعد إليها في المساء.
وفي اليوم التالي ذهبت ترود حول قصر اللورد أفندال، فوجدت جمهورا من الناس محتشدين وسمعتهم يقولون: إن اللورد قتل بطعنة خنجر قرب ترافلغار.
فكان بعضهم يقول: إن الذي قتله إرلندي لأن اللورد ألقى خطابا منذ يومين في مجلس البرلمان أثار سخط الإرلنديين، وبعضهم يقول: إن قاتله كان من اللصوص بغية سلبه ما معه ولم تسمع أحدا منهم ذكر اسم زوجها توما.
غير أنهم كانوا جميعهم متفقين على أن الجنود قبضوا على القاتل ... فلم يبق شك لدى بيتزي أن القاتل هو زوجها؛ لأنه لم يعد إليها في ليلة أمس، فقالت في نفسها: إنه سجن دون شك، ولكني لا أبالي فإني سأتم ما كان شارعا به.
لأنها كانت تعتقد أن اللادي باميلتون تذكر بعد وفاة زوجها أنها أحبت اللورد وليم، وتوافق على التسوية التي اتفق عليها زوجها، مع ذلك المحامي.
فصبرت بيتزي أسبوعا، وبعد انقضائه ذهبت إلى قصر باميلتون وطلبت مقابلة أرملة اللورد فرضيت بمقابلتها.
ولما مثلت بيتزي بين يديها قالت لها: إن الشقي الذي عبث بضميرك وقلبك أيتها اللادي قد لقي حفته وجازاه الله بما يستحق، فهل ترضين أن تعترفي بحق اللورد وليم حبيبك الأول؟
ولم تجبها اللادي باميلتون بشيء، ولكنها قرعت جرسا كان أمامها، فدخل إليها رجلان، أحدهما والدها السير أرشيبالد، والآخر السير بترس توين.
ذلك الأسقف الشقي الذي دبرت قريحته الجهنمية تلك المكيدة التي أفضت إلى مقتل اللورد أفندال.
فلما رأت اللادي أباها أشارت إلى بيتزي وقالت: أرجوك يا والدي أن تطرد هذه المجنونة الشقية من أمام عيني.
فبدت على شفتي بيتزي علائم الاحتقار، وقالت بلهجة شفت عن الازدراء: لقد كنت أظن أنك آلة بيد ذلك اللئيم اللورد أفندال، أما الآن، فقد علمت أنك كنت شريكته بالجريمة، وأنك مثله من أهل الإثم والفساد فتبا لك من خائنة.
وأسرع السير أرشيبالد إلى مناداة الخدم وأمرهم بطردها.
فأخرجوها فجعلت تصيح خارج القصر، فجاءها بوليس الناحية وذهب بها إلى المركز.
وهناك حاولت أن تبوح بجميع ما تعلمه.
غير أن مأمور القسم أسكتها وأمر بإرسالها إلى السجن. •••
وعند ذلك أيقنت بيتزي من ضياع كل رجاء ... غير أنها كانت شديدة الحمية كزوجها ، وقالت في نفسها: إني بت سجينة فلأبذل جهدي في مقابلة اللورد وليم.
وأخذت منذ ذلك الحين تتظاهر بالجنون، فما مر بها ثلاثة أيام، حتى قرر طبيب السجن أنها مجنونة، فأرسلت إلى مستشفى بدلام، وهذا الذي كانت تتوقعه، فإن اللورد كان لا يزال محبوسا في ذاك المستشفى باسم ولتر بريس.
وكان رئيس هذا المستشفى قد تلقى أوامر سرية بشأن اللورد وليم، فعلم أنه يجب إبقاؤه في المستشفى مدة حياته، فكان يراقبه كل المراقبة، ولكن لا يمنعه عن الاجتماع بالمجانين، ولذا فلم يتعذر على بيتزي أن تراه.
ولم يكن هذا اللورد المنكود قد أضاع شيئا من صوابه، ولكن الهم كان يقتله قتلا بطيئا، ويأخذ من حياته وصبره، فقد يئس من استرجاع ثروته ولقبه، ولم يعد يتمنى إلا أن يرى امرأته وولديه ويسافر بهم إلى أوستراليا فيعود إلى رعي المواشي مؤثرا تلك الهمجية الصادقة على هذه المدنية الكاذبة، وذلك العدوان الصريح على هذه الآثام المزخرفة.
وقد كان كتب مذكرة ذكر فيها جميع ما اتفق له من الحوادث الهائلة المفجعة ودعاها مذكرة مجنون؛ لأنه كتبها في المستشفى وهو محبوس فيه بدعوى الجنون، فأتم مذكرته بما وقف عليه من بيتزي بعد اجتماعه بها. •••
وكأنما الأقدار أرادت أن تساعد اللورد وليم وبيتزي بعد أن ضربتهما تلك الضربات الهائلة، فاتفق أنه بعد دخول بيتزي إلى المستشفى ببضعة أيام أدخلوا إليها رجلا لم تلبث بيتزي أن رأته، حتى عرفته، فإنه كان إدوار ذلك الرجل الذي خدع توما بقوله: إنه من عمال المحامي سيمون.
ويذكر القراء أن هذا الرجل كان من أعوان اللورد أفندال في المكيدة، أو من أعوان الأسقف بترس توين، وهو الذي قلد خط اللورد وليم وأرسل إلى توما ذلك التلغراف من بيرت.
وقد جن هذا الرجل حقيقة، وكان السبب في جنونه غريبا، فإنه في اليوم الثاني لمقتل اللورد أفندال ذهب إلى هذا اللورد فلما علم بمقتله ذهب عقله فجأة.
وذلك أن اللورد أفندال كان عازما على أن يدفع له، في ذاك اليوم ، ألفي جنيه جزاء خيانته ونفقاته، ولما علم أنه مات قنط من قبض المال وأصابه اليأس بالجنون.
فذهبوا به إلى منزله، وله فيه امرأة وبنون فحبسوه فيه بضعة أيام إلى أن اشتدت أعراض جنونه فلم يجدوا بدا من نقله إلى المستشفى.
غير أن الغريب في أمره أن عقله لم يذهب إلا إثر انفعال شديد، وقد أصيب بمثل هذا الانفعال فعاد إليه صوابه فجأة كما ذهب، وذلك حين رأى بيتزي واللورد وليم في ذاك المستشفى.
وعادت إليه ذاكرته وعادت معها الندامة على ما ارتكبه من الآثام فركع أمام اللورد وليم سائلا منه الغفران.
ثم اعترف له أنه كان آلة بأيدي اللورد أفندال، والأسقف بترس توين، وأنه هو الذي اختطف توما من القطار، وهو الذي ملأ قلب برسي خوفا حتى دعاه إلى السفر من باريس.
وهو الذي سرق الأوراق المسجلة من مكتب المحامي قبل أن توضع عليها الأختام غير أن الأوراق المسجلة المتضمنة إقرار برسي لم يردها إلى اللورد أفندال، بل أبقاها رهينة إلى أن يدفع اللورد أفندال ما وعد به من المال.
فلما أتم اعترافه قال: إني إذا تيسر لي الخروج من هنا يا سيدي اللورد أصلحت جميع ما أفسدته يدي الأثيمة.
فهز اللورد رأسه وقال: إن من يدخل مستشفى بدلام لا يخرج منه.
فقالت له بيتزي: من يعلم يا سيدي، فقد خطر لي خاطر ربما سهل لي سبيل الفرار ...
فنظر إليها اللورد نظرة المشكك، وقال لها: كيف يتيسر لك الخروج؟ - لقد وجدت طريقة صالحة، ولكني أرجو إدوار أن يخبرني: أين وضع هذه الأوراق؟ - سأرشدك إليها، دون شك، ولكن أخبرينا كيف تخرجين من هذا المكان؟ - بطريقة سهلة، وهي أنه يوجد في لندرا جمعية مؤلفة من السيدات، يدعونها أخوات السجون.
وهن يتفقدن المرضى في السجون والمستشفيات، ولا يأتين إلا متبرقعات؛ بحيث لا يرى الناظر إليهن غير عيونهن، وقد زارت إحداهن أمس مجنونا فنظرت إلي ونادتني باسمي، فذهبت إليها وقلت: ألعلك تعرفينني يا سيدتي؟ - نعم، فإنك امرأة توما، وأنا أعلم أنك سليمة العقل، وأن وجودك بين المجانين لا يدل على أنك منهم. - عجبا يا سيدتي كيف عرفت هذا؟ - إني زرت زوجك في سجنه، قبيل إعدامه، فأخبرني بكل شيء، ويسوءني أني لا أستطيع أن أخدمك خدمات جليلة، ولكني مستعدة لفعل كل ما أستطيعه، حتى إن أردت الخروج من هذا المستشفى أخرجك منه. - كيف ذلك؟ - ألست مقيمة وحدك في غرفتك. - نعم ... - إذا، لا تخرجي من غرفتك هذه الليلة وادعي أنك مريضة، فأزورك بعد يومين تصحبني امرأة أخرى من أخوات السجون وعند ذلك ترين كيف أخرجك؛ فلا تهتمي لهذا الأمر واعتمدي علي.
ثم تركتني وانصرفت.
فقال اللورد وليم: ولكني لم أعلم بأية طريقة تريد إخراجك. - أظن أنها تريد أن تلبسني لباسها فأخرج بدلا منها، وتبقى هي مكاني. - ولكنها تضطر بعد ذلك إلى إشهار أمرها فتسوء بذلك سمعة هذه الجمعية. - إن هذا من شأنها.
ثم التفتت إلى إدوار وقالت له: والآن أخبرني أين خبأت الأوراق. - إن منزلي في شارع أولدلين في الطبقة الثانية ونمرته 7، فخذي هذا الخاتم وأظهريه لامرأتي وقولي لها: إنك آتية من قبلي لأخذ الأوراق، فلا تعترض، أما الأوراق فإنها موضوعة في جوف تمثال على المستوقد في غرفة النوم، وهو تمثال الدوق ولنجتون.
فقالت له بيتزي: ولكن امرأتك لا تصدقني إلا متى اعتقدت أنك غير مجنون. - إذا أكتب لها كتابا يدل على صحة عقلي.
وقد اتفقوا على ذلك، وذهبت بيتزي إلى غرفتها، فتظاهرت أنها مريضة، وفي اليوم التالي أبت أن تذوق الطعام.
وكان اللورد وليم قد أعطاها تلك المذكرات التي كتبها فخبأتها. •••
وفي اليوم الثالث لتظاهرها بالمرض زارتها السيدتان، فأقفلت إحداهما باب الغرفة من الداخل، ثم فتحت صرة كانت بها، فأخرجت منها ثوبا يشبه ثوب أخوات السجون وبرقعا كثيفا كبراقعهن، ثم قالت لبيتزي: أسرعي والبسي هذه الثياب.
فامتثلت وباتت بعد لبس هذه الملابس لا تختلف في شيء عن أخوات السجون.
وبعد أن أتمت لباسها فتحت السيدة الباب وقالت لبيتزي: اتبعيني.
ثم خرجت بها من ذلك المستشفى دون أن ينتبه إليها أحد بفضل ملابسها، أما السيدة الثانية فإنها خرجت من باب آخر.
ولما باتت مطلقة السراح أعطتها كيسا من النقود وافترقت عنها فشكرتها بيتزي وذهبت توا إلى إدوار.
فأعطتها الرسالة والخاتم ثم أخذت منها الأوراق وعادت إلى منزلها فخلعت ملابس أخوات السجون ولبست ملابسها الاعتيادية.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى المحامي الذي خلف المحامي سيمون وعرضت عليه المسألة، وهي تتوقع أن يسر لوجود الأوراق، غير أنها رأت منه عكس ما كانت تتوقعه فإنه قال لها: لقد حدث في هذه الأيام أمور خطيرة؛ أولها أن زوجك قتل اللورد أفندال. - لقد فعل ما يجب؛ لأن قتل هذا الفاجر أقل ما يستحق. - إني وإياك على اتفاق، ولكن أعداءنا اليوم غير أعدائنا أمس، إذ هم الرسالة الإنجليكانية التي يرأسها الأسقف بترس توين، ولا قبل لأحد بمقاومة هذه الطائفة الشديدة. - لماذا يا سيدي؟ - لأنهم يسحقونه سحق الزجاج.
ثم خفض صوته وقال: إني أسديك نصيحة إن عملت بها فربما توسطت لك بالعفو عن زوجك مقابل إتلاف الأوراق.
وخرجت بيتزي تتعثر بأذيالها واليأس يكاد ينفجر في قلبها وهي تقول: إني لن أتلف براهين خيانة اللورد أفندال، ولا أجرد أخاه التعس من سلاحه، فقد يرسل الله من يعينه على استرداد حقه المهضوم.
ثم رجعت قانطة إلى منزلها وهي تفتكر بطريقة تخفي فيها الأوراق في محل لا تهتدي إليه أسرة باميلتون، إلى أن خطر لها أن تدفنها في ضريح، فجعلت تتنكر وتخرج كل يوم إلى التربة بحجة الصلاة على الموتى، حتى اغتنمت فرصة ودفنت تلك الأوراق، وهي مذكرة اللورد وليم، وإقرار برسي ورفيقيه في ذلك الضريح، فأخرجها مرميس كما وصفنا في مقدمة هذه الرواية.
51
إلى هنا انتهت مذكرة اللورد وليم، وكانت الصفحات الأخيرة من ذلك الدفتر الضخم المكتوبة فيه مكتوبة بخط بيتزي.
وكان مرميس يقرأ هذه المذكرة بصوت مرتفع أمام فاندا والأب صموئيل وشوكنج وهم جلوس قرب سرير بيتزي الميتة، فلما فرغ مرميس من تلاوتها جعل مرميس وفاندا ينظر كل منهما إلى الآخر.
فقال مرميس: لقد عرفنا أشياء كثيرة وفاتنا أشياء، فإن اللورد وليم وعائلته لا يزالون أحياء.
فقال الأب صموئيل: أنا أخبركم بما لم تعرفوه فإن بيتزي قد دفنت هذه الأوراق في الضريح منذ ستة أشهر، وأنا مخبركم بما جرى في خلال هذه المدة، وهو أن بيتزي احتجبت عن الأنظار بعد أن خبأت الأوراق حذرا من البوليس؛ لأنه كان يبحث عنها بحثا دقيقا لإرجاعها إلى مستشفى بدلام، فدام البحث ثلاثة أشهر حتى يئس منها.
وبعد ذلك جعلت بيتزي تخرج في كل مساء متنكرة فتذهب إلى الحانات وتعربد كي تحمل البوليس على القبض عليها باسم غير اسمها فيسجنها بقية الليل ثم يطلق سراحها في الصباح، وكانت تفعل ذلك كل ليلة في مركز كي تسجن في جميع سجون البوليس.
وغرضها من ذلك أنها كانت ترجو أن تجد في تلك السجون لصا تقرر سجنه في نوايت فتعهد إليه إخبار زوجها توما أنها وجدت الأوراق كي يطمئن ويموت قرير البال.
وما زالت على ذلك حتى لقيت الرجل العبوس في سجن البوليس يوم قبض عليه بمكيدة مس ألن وكلفته إخبار زوجها بما كان.
فقاطعته فاندا متأوهة وقالت: لا سبيل لإنقاذ توما من سجنه فإنه بات سجينا في القبور.
فأجابها الكاهن: ولكنكم تتمون مشروعه. - ولكنه مشروع صعب.
فقال مرميس: إني لا أرى ما ترينه، فإن إقرار برسي المسجل بيدنا ولدينا من المال ما يكفي للقضية.
فقال شوكنج: وإن المال يعينك على نيل ما تريد في هذه البلاد.
فقال الكاهن: أرى أنه يجب أن تبدءوا بإخراج اللورد وليم باميلتون من المستشفى.
فقالت فاندا: ألا ترون ذللك صعبا؟
فقال مرميس: لا أنكر صعوبته ولكنه ليس مستحيلا، وسأذهب غدا إلى المحامي الذي خلف المحامي سيمون، وأرجو أن أبلغ بما أبذله من المال ما أريد كما قال شوكنج.
وعند ذلك انبعثت أنوار الفجر من نافذة الغرفة التي كانوا فيها وسقطت أشعتها على وجه بيتزي المصفر فركعت فاندا وصلت صلاة الأموات.
خاتمة روكامبول
خاتمة روكامبول
خاتمة روكامبول
خاتمة روكامبول
روكامبول (الجزء السابع عشر)
تأليف
بونسون دو ترايل
ترجمة
طانيوس عبده
خاتمة روكامبول
1
في الساعة العاشرة من الصباح أقبل رجل إلى مكتب المحامي سيمون، وهو شاب جميل الوجه متأنق في لباسه فسأل البواب قائلا: أليس هنا مكتب المحامي سيمون؟ - نعم، غير أن سيمون قد مات وخلفه في إدارة مكتبه المستر جمس كوكلام. - إني أحب أن أراه. - إن هذا محال يا سيدي الآن؛ فإنه يرافع في المجلس. - لا بأس فسأعود غدا.
فقال له البواب: إنك قادم في قضية يا سيدي دون شك، فإذا كان ذلك فإن سكرتير المستر جمس كوكلام يقضي لك ما تريد، لأنه واقف على جميع أشغال المحامي.
فتردد الشاب هنيهة، ثم قال في نفسه: لا أجد بأسا من مقابلة السكرتير وسبر غوره فقد أقف منه على ما يفيدني.
ثم قال للبواب: ماذا يدعى هذا السكرتير؟ - سلمون بيردت. - سر أمامي إليه.
فامتثل البواب وأوصله إلى السكرتير.
فوجده جالسا عند منضدة كبيرة، وهو كبير الشاربين كثيف الشعر، وقد ستر عينيه بنظارتين من الزجاج الأزرق.
فحياه الشاب وقال له: إني كنت أود - يا سيدي - أن أرى المستر كوكلام.
فأجابه سلمون: إني وإياه واحد؛ لأني أدير جميع أعماله. - لا شك عندي بما تقول، غير أن القضية التي جئت من أجلها قديمة العهد تتصل بزمن المحامي سيمون. - هو ما تقول، بل إنها منذ عدة شهور.
فعجب الفتى لقوله، وقال له: كيف عرفت هذا يا سيدي، في حين أني لم أذكر لك اسمي، ولم أقل لك شيئا عن القضية التي جئت من أجلها؟ - كنت أستطيع أن أجيبك أني من السحرة، غير أني أؤثر أن أقول لك: إني أعرفك، فإنك تدعى مسيو بيتافن، وأنت فرنسي، وقد رأيتك أمس في جنازة امرأة فقيرة تدعى بيتزي، وهي امرأة رجل يدعى توما، أعدم شنقا لأنه قتل اللورد أفندال، وأزيدك على ذلك أنك قادم لمحادثتي في قضية اللورد باميلتون، الذي يدعى الآن ولتر بريس.
فدهش الشاب دهشة عظيمة وقال: ولكن كيف عرفت ذلك، يا سيدي؟
فلم يجبه السكرتير على سؤاله، وقال: إن بيتزي، التي دفنت أمس، جاءت منذ ثلاثة أشهر إلى المستر كوكلام، ومعها الأوراق التي تتضمن كسب القضية.
فقال مرميس، وكان هو بعينه: ولكن هذا المحامي أبى أن يتولى القضية. - لقد كان مصيبا في رفضه فإن المستر كوكلام لا يزال في مقتبل الشباب وهو فقير لا يستطيع أن يتحمل نفقات هذه القضية الكبرى، ولم يكن لدى بيتزي شيء من المال.
فقال مرميس: ولكن، الذين ينوبون عنها، في مقاضاة أسرة باميلتون أغنياء.
فهز سلمون رأسه وقال: ليس الفقر وحده الذي منعه عن تولي القضية، بل إن هناك سببا آخر وهو أنه عين مصفيا لتركة اللورد أفندال.
فأجفل مرميس لهذا النبأ، وجعل ينظر إليه بحذر.
فقال له السكرتير: وفوق ذلك، فإن المستر كوكلام يخاف مقاومة الجمعية الإنجليكانية، فإن قوتها في إنكلترا تشبه قوة الجزويت في فرنسا.
فنهض مرميس عند ذلك يحاول الخروج، وقال: أسألك العفو يا سيدي فقد أضعت وقتك الثمين فيما لا يفيد.
فأوقفه سلمون وقال له: إني غير المستر كوكلام، وبوسعي أن أسديك نصيحة، وهي أنك تخطئ خطأ رهيبا إذا قاضيت هذه الأسرة أمام المحاكم.
ولكني لا أجد غير هذه الطريقة. - ثم يجب أن تعلم أن القضايا كثيرة الإسهاب في هذه البلاد. - إني أعرف ذلك حق العرفان، ولكني شديد الصبر، كثير المال. - ثم يجب أن لا تنسى أنك تلميذ روكامبول.
فتراجع مرميس منذعرا إلى الوراء وقال: أتعرف هذا أيضا؟ - بل أعرف أنك أبله.
ثم رفع نظارته عن عينيه فذهل مرميس انذهالا غريبا، وقال في نفسه: إن العينين عينا روكامبول ولكن الوجه غير وجهه، ثم قال له بصوت يتهدج: كلا إن هذا محال ... كلا ... إنك لست ... - إني لا أزال أشد منك بدليل أنك لم تعرفني.
وعند ذلك سقط شاربه وشعر رأسه المستعار، فلم يبق لدى مرميس شيء من الشك إذ رأى أن الرجل الذي يكلمه هو روكامبول نفسه، وقد كان يحسبه من الأموات.
وكان تأثر مرميس قويا، حتى إنه أكب على روكامبول يعانقه ودموع السرور تنهل من عينيه.
أما روكامبول، فإنه أعاد شاربيه وشعر رأسه، ووضع النظارتين على عينيه.
ثم قال لمرميس: كفى بلاهة يا بني ، فقد يتفق دخول أحد علينا ونحن في هذه الحال فنفتضح.
وبقي مرميس على تأثره ينظر إلى روكامبول كأنه لا يصدق أنه يراه ويقول: أنت. أنت روكامبول؟ - نعم أنا هو روكامبول الذي يبدأ فيقول لك: إن من كان مثلنا لا يلجأ بأعماله إلى المحاكم.
2
وقد عاد روكامبول إلى تنكره فكان مرميس ينظر إليه نظرات الانذهال ويرى أنه لا يمكن أن يعرفه أحد وهو على هذا التنكر.
أما روكامبول فإنه ابتسم وقال له: إنك لم تكن تتوقع يا بني أن تراني هنا. - هذا لا ريب فيه. - ألعلكم حسبتوني ميتا؟ - أما أنا فلا، وأما فاندا، فإنها جعلت تبكي آناء الليل وأطراف النهار.
فارتعش روكامبول ارتعاشا لم يخف على مرميس؛ فإنه كان يعلم منزلة فاندا من قلب روكامبول.
أما روكامبول فإنه حاول أن يخفي اضطرابه، فضغط على زر كهربائي، وبعد هنيهة دخل إليه أحد الموظفين فقال له: إني أتحدث مع حضرة هذا الزائر، بشأن خطير، فلا تدع أحدا يدخل إلي، مهما اتفق.
فانحنى الموظف وهم بالانصراف، فأوقفه روكامبول، أو المستر سلمون، وقال: إلا إذا جاء الأسقف بترس توين، فأدخله إلى قاعة الاستقبال، وأخبرني بقدومه.
وبعد انصراف الموظف قال روكامبول لمرميس: لقد خلا بنا المكان الآن فأخبرني كيف كان خروجكم من الدهليز. - إن شوكنج أنقذنا.
ثم قص عليه جميع ما اتفق لهم، مما عرفه القراء في رواية (روكامبول في السجن).
وذكر له كيف أنهم تبعوا أثره وأثر ميلون إلى النافذة المطلة على النهر، وكيف أن فاندا كانت ولا تزال تعتقد أنه غرق، وأنه أي مرميس كان واثقا في معتقده أنه لا يزال في قيد الحياة، وأنه لم يحتجب عن العصابة إلا لشأن خطير.
فلما أتم حكايته قال روكامبول: لقد أصبت في اعتقادك يا بني؛ لأني احتجبت لسبب بالغ الخطورة، ولذلك أريد أن أبقى ميتا مؤقتا في عرف الجميع ما عداك. - وفاندا؟ - وفاندا أيضا.
فتنهد مرميس وأجاب: مسكينة فاندا ... إني أخشى أن يقتلها اليأس. - إنها قوية فلا أخاف عليها، ولكني أخشى أن تحاول أن تراني إذا علمت بوجودي وفي ذلك خطر هائل. - ليكن ما تريد أيها الرئيس، ولكن ألا تريد أن تساعدنا في مهمة اللورد وليم؟ - ما هذه البلاهة يا مرميس؟ ... وما شأني في هذا المكتب إلا لهذا الغرض؟ - ولكن ... إذا كنت تريد أن تكون ميتا، فكيف تستطيع مساعدتنا؟ - إذا كنت أنا ميتا، فإنك لا تزال حيا لدى العصابة، ألقي إليك الأوامر فتنفذها. - لقد أصبت فسأعمل حسب ما تريد. - إذن، اعلم أنه لو لم يكن شأننا إلا مع اللادي باميلتون وأبيها السير أرشيبالد لكانت مهمتنا سهلة، ولكن عدونا قوي هائل. - أتعني به الأسقف بترس توين؟ - هو وعصابته السوداء، فإنها تشبه جيشا من البوليس، وهم لا يغفلون في الليل والنهار من البحث والتنقيب عن الرجل العبوس المحكوم عليه بالشنق كما تعلمون. - ولكني أرى أنك تعرض نفسك للخطر بوجودك هنا.
فابتسم روكامبول ابتسامة تدل على استخفافه بالأخطار وقال: إذا كنت أنت لم تعرفني فكيف تخشى أن يعرفوني بهذا التنكر؟ - إني لا أراك مصيبا في رأيك؛ فإن شعر رأسك وشاربيك قد يسقط اتفاقا في ساعة سوء؛ فيفتضح أمرك وينكشف سرك. - إنه يجدر بك بدلا من أن تحدثني بهذه البلاهة أن تسألني كيف دخلت إلى هذا المكتب بهذه الصفة. - إني مصغ إليك يا حضرة الرئيس. - لقد قلت لك: إن المستر كوكلام صاحب هذا المكتب خلف المحامي سيمون قد عين مصفيا لتركة اللورد أفندال. - نعم أذكر ذلك. - إن هذا الرجل لا يزال في مقتبل الشباب، وهو شريف الخلق نقي القلب، ولكن الأسقف بترس توين، لا يريد أن تكون له هذه الصفات الحسنة. - لماذا؟ - لأن اللورد أفندال، قبل قتله، وقع على صك بمبالغ طائلة لهذا الأسقف، مقابل إنقاذه من أخيه اللورد وليم، ومعاونته على سلب حقه، ولا بد للمستر كوكلام أن ينصر امرأة اللورد على الأسقف، فلما أيقن الأسقف من طهارة ذمة هذا المحامي، أراد أن يعين معه رجلا يكون من أتباعه. - ومن هو هذا الرجل؟
فأجابه روكامبول ببرود: هو أنا!
فقال مرميس بلهجة المنذهل: أنت هو؟!
فضحك روكامبول ضحكا شديدا، وقال : نعم أنا يا بني .
فأعجب مرميس بدهائه، وقال: إننا مهما تقدمنا في حلبة الاختبار، ومهما عاركنا الدهر فإنك لا تزال رئيسنا الأعظم الذي نأتمر به.
فابتسم روكامبول وقال: أما هذا الأسقف فإنه من أهل الذكاء والدهاء والإقدام، ولكن ثقته بي شديدة، فهو ينصاع لي كل الانصياع، ويمتثل لكل ما أريد. - ولكن ...
فقطع عليه روكامبول الكلام قائلا: اسكت.
ذلك أنه رأى الموظف قد فتح الباب، فدخل إليه وقال: إن الأسقف قد أقبل وهو في قاعة الانتظار. - حسنا فادخل به إلي.
فخرج الموظف وأسرع روكامبول ففتح بابا في الغرفة التي هو فيها، يؤدي إلى غرفة أخرى وقال لمرميس: ادخل إلى هذه القاعة وأصغ إلى حديثنا؛ فإن جدارها رقيق لا يحول دون سماعك ما نقول.
ثم رجع إلى مجلسه بعد أن أقفل الباب برفق، فدخل إليه الأسقف بعد هنيهة، وقال بعد التحية والسلام: ماذا ارتأيت؟ - إني تمعنت مليا بالأمر منذ أمس فرأيت أنه لا يمكن نزع أموال اللادي باميلتون على ما تظنه من السهولة. - ولكن الأوراق التي بيدي قانونية لا ريب فيها. - هو ذاك ولكن هذا السلاح الذي نتقلده قد نصاب به نحن. - ماذا تعني بذلك؟ - اسمح لي يا سيدي في البدء أن أبسط الحالة التي نحن فيها. - تكلم. - إنك ساعدت اللورد أفندال على أخيه، وأنت تطلب الآن أجرة عملك بعد فوزك. - دون شك. - وأرى أنك تطلب مقادير عظيمة، تكاد تجرد اللادي باميلتون من ثروتها. - نعم ... - ألا تخاف أنه إذا رأت هذه اللادي باميلتون الخراب بضياع ثروتها أن تتفق مع اللورد وليم المسجون في مستشفى بدلام؟ إنك أصبت بسجن هذا اللورد ستة أشهر، وأما الآن، فإن بقاءه في المستشفى خطر من أشد الأخطار. - إني لا أفهم ما تقول. - أصغ إلي يا سيدي، تعلم جميع ما أعنيه، وأني لم أقل غير الصواب، فإنه يوجد في ذلك المستشفى رجل أدخل إليه مجنونا، وهو الآن ليس من المجانين. - من هو هذا الرجل؟ - هو إدوار كوكري. - نعم. - وهذا الرجل لم يشف فقط من الجنون، بل هو الآن من أشد الناس إخلاصا للورد وليم. - ماذا تقول؟ - أقول الحقيقة.
ثم أخذ دفترا أمامه وأخرج منه مذكرة كتبت بالأرقام فقال: سأقرأ لك هذه المذكرة، وسوف ترى.
فقطب الأسقف حاجبيه، أما مرميس فلم تفته كلمة، من هذا الحديث.
3
وكانت خلاصة هذه المذكرة كما يأتي:
إن المجنون ولتر بريس والمجنون إدوار كوكري، يعيشان في أتم ولاء، ويختليان سرية وهما يذكران في بعض الأحيان بصوت منخفض اسم بيتزي.
وأنتم تعلمون أن بيتزي قد هربت من المستشفى.
ومن المرجح أنهما لا يعرفان هذه المرأة، ولكنهما واثقان أنها استولت على إقرار برسي.
وقد ختمت هذه المذكرة أنهم بحثوا بحثا دقيقا في منزل بيتزي بعد موتها عن هذا الإقرار فلم يجدوا له أثرا.
فلما أكمل روكامبول تلاوة هذه المذكرة نظر إليه الأسقف، وقال له: ماذا ترى؟ - أرى أنه قد يتفق أن يخطر للادي باميلتون، أن تتفق مع اللورد وليم، شقيق زوجها، على مبلغ معين من المال، فيتنازل لها تنازلا قانونيا لا يرد. - وبعد ذلك يخرج اللورد وليم من المستشفى فيكون لنا عدوان بدلا من واحد. - ألا تجد سبيلا لاتقاء هذا الخطر؟ - لدي طريقة صالحة للتفريق بين اللورد وامرأة أخيه، فلا يجتمعان إلى الأبد؟ - كيف يتيسر لك ذلك؟ - إن حبس اللورد وليم لم يذهب بصوابه، كما كنت تتوقع، لأني موقن أن إحدى أخوات السجون تقابله وتطمئنه على امرأته وولديه، وعندي أنه يجب أن نسهل له أسباب الفرار من المستشفى. - وبعد ذلك؟ - نعطيه خمسة آلاف جنيه، ونرسله إلى أستراليا مع باخرة يجد فيها امرأته وولديه. - إن إطلاق سراحه سهل ميسور لدي، فلماذا تريد أن نسهل له أسباب الفرار؟ - لأنهم لو أطلقوا سراحه كما تقول، شكك في نياتنا، واتفق مع إدوار على إزعاجنا، أما إذا أيقن أنه خرج من المستشفى هاربا فلا يبقى له إلا السعي لإيجاد امرأته وولديه. - ومتى بات مطلق السراح أتظن أنه يوافق على السفر؟ - إني أتعهد بتسفيره. - كيف تصنع؟ - أحمله على التوقيع على تسوية مزورة بينه وبين اللادي باميلتون. - وهذه التسوية أيكون لها شأن؟ - على الإطلاق. - ويسافر إلى أستراليا ؟ - بحوالة مزورة على أحد صيارفة سدني، لأن مفاد هذه التسوية المزورة أن يقبض في أستراليا مدى الحياة خمسة آلاف جنيه في كل عام. - وهذا الإيراد السنوي أيدفع له؟ - يدفع مرة واحدة في العام الأول فقط، وأما في العام الثاني فإنك تكون قد نلت من أموال هذه الأسرة ما أردت، ومتى بلغت قصدك فليفعل اللورد وليم وامرأة أخيه ما يريدان. - الحق أنك من كيال الرجال، فقل لي الآن كيف تمهد وسائل الفرار للورد وليم. - بكلمة بخطك تكتبها إلى مدير المستشفى، فهل تأذن لي يا سيدي الأسقف أن أملي عليك فتكتب؟ - أفعل.
ثم أخذ معدات الكتابة، وأملى عليه روكامبول ما يأتي:
رئيس الرسالة الإنجليكانية التي أنت أحد أعضائها السريين يدعوك إلى مساعدة حامل هذه السطور في كل ما يريده.
فلما أتم كتابتها قال: وقع عليها الآن بتوقيعك الخاص.
فكتب الأسقف في ذيل الرسالة الحرف الأول من اسمه، ورسم تحته شكل صليب وثلاث نقط، فأخذ روكامبول الرسالة ووضعها في جيبه.
فقال الأسقف: متى تذهب إلى المستشفى؟ - لا أذهب أنا بل أرسل رجلا أثق به كل الثقة. - ومتى نتقابل؟ وأين؟ - هنا بعد غد. - ألا يكون هنا المحامي كوكلام؟ - كلا بل يكون في المجلس للمرافعة.
فنهض الأسقف وحاول الذهاب فمشى خطوة إلى الباب، ثم رجع روكامبول فقال: ألم يبلغك شيء عن الرجل العبوس؟ - الشائع أنه غرق. - أتظن الإشاعة صحيحة؟ - إني لا أصدق شيئا من هذه الإشاعات، ولا أزال أخشى الرجل العبوس، فإن توما لقيه في سجن نوايت، وأخبره بكل شيء، ولذلك لا هم لي الآن إلا أن أرى قريبا، اللورد وليم وعائلته مسافرين إلى أستراليا. - لقد أصبت يا سلمون، فإن الرجل العبوس هو الرجل الوحيد الذي أخشاه. - وأنا أيضا. - أما عرفت تاريخ هذا الرجل الغامض؟
فقال روكامبول: إن ملخص ما عرفته عنه أن أمه كانت نورية، من أخبث أهل الشر والفساد، وأن أباه كان فرنسيا من أهل السلامة والخير فخرج في بدء أمره شريرا فاسد الأخلاق كأمه، ثم رجع إلى أخلاق أبيه بعد أن ملأ الأرض شرورا، وتاب توبة صادقة، فبات من أصدق أهل الصلاح. - ألا تزال أمه في قيد الحياة؟ - كلا فقد ماتت في أواخر عهد الثورة أفظع موت.
فتنهد الأسقف وقال: إذن، أسرع ومهد سبل الفرار للورد. - كن مطمئنا يا سيدي فما رائدنا إلا النجاح.
فودعه الأسقف وانصرف.
فلما بات خارج المكتب فتح روكامبول باب الغرفة التي كان فيها مرميس ودعاه إليه قائلا: أسمعت الحديث؟ - لم تفتني كلمة منه فأعجبت بك كما أعجب بك الأسقف، غير أنه أشكل علي أمر مما قلته للأسقف حين سألك عن الرجل العبوس فهل كانت أمك حقيقة من النور؟ - نعم فقد كانت من أفظع النساء وجميع ما قلته عنها أكيد، وسأخبركم بتاريخ هذه الأم الهائلة. - أما الآن وقد سمعت حديثي مع الأسقف فقد علمت بلا ريب أني سأرسلك أنت بدلا مني إلى مستشفى بدلام. - أنا؟ ولكني لا أعلم شيئا عن هذا المستشفى، ولم أفهم شيئا من أسرار المهمة التي تعهد بها إلي.
فابتسم روكامبول وقال: سأعطيك التعليمات اللازمة.
ثم أقفل الباب بالزلاج كي لا يدخل إليهما أحد.
4
كانت الساعة الثامنة من المساء وقد ادلهم الظلام، واشتد الضباب وتكاثف بحيث لم تستطع أنوار الغاز النفوذ منه.
وكان رجلان يسيران بالقرب من بدلام، وهما مرميس وشوكنج.
وكان شوكنج يقول لمرميس: إن جميع ما قلته لي غريب نادر. - كيف ذلك يا شوكنج؟ - ألا تعلم إذا كان الرجل العبوس ميتا فيبكى أم حيا فيرجى؟ - كلا إني لا أعلم شيئا من أمره. - ولكنك ذهبت اليوم إلى مكتب المحامي كوكلام، كي تعهد إليه بالقضية. - هو ذاك. - إذن، فما بالك رجعت عن هذا القصد؟ - لأني وجدت طريقة أفضل من طريقة المقاضاة. - إن جميع ما تقول يحملني على الظن أن الرجل العبوس حي. - أية علاقة بين الرجل العبوس والمحامي كوكلام؟ - وجه العلاقة أنك رأيت الرجل العبوس وهو الذي حملك على الرجوع عن القضية. - أصغ إلي أيها الصديق، ألم يكن الاتفاق بيننا أنه حين غياب الرئيس تكون الزعامة لي ويجب عليكم الامتثال؟ - هو ذاك. - إذن، فاصدع بما آمرك به، ولا تهتم إلا بما أقول لك. - سأمتثل لكل ما تريد فقل ما يجب أن أصنع. - يجب أن تذهب إلى كنيسة سانت جورج فتقابل بوابها الشيخ، وتخبره أنك آت من قبل توما. - ولكن توما قد مات. - لا بأس فإنها كلمة متفقون عليها. - ماذا أقول له؟ - لا تقل شيئا غير تلك الكلمة فمتى قلتها أعطاك حبلا فتضع الحبل في جيبك وتأتي إلي. - أين أراك؟ - إني أنتظرك حيث أنا الآن.
فذهب شوكنج إلى الكنيسة، وقال لبوابها ما لقنه إياه مرميس، فأعطاه الحبل قائلا: أتدري ما هذا الحبل؟ - كلا. - إنه الحبل الذي شنق به توما وقد أعطاه للرجل العبوس؛ لأن حبل المشنوق يجلب السعادة، فتركه الرجل العبوس عند الأب صموئيل، ولو كان لي لكنت الآن من الأغنياء. - كيف ذلك؟ - ذلك لأن مدير مستشفى بدلام الثاني ويدعى جوهن بيل دفع خمسة آلاف جنيه فما رضي الكاهن أن يبيعه. - ماذا يرجو هذا المدير فوق ما له من أسباب الهناء في مركزه؟ - لا أعلم ولعل له به حاجة، وأنت يا شوكنج فماذا تريد أن تصنع بهذا الحبل؟ - لا أعلم فإني لم أطلبه لنفسي بل أمرت أن أحضره.
فتنهد البواب وأعطاه الحبل، فوضعه شوكنج تحت ثوبه، ورجع به إلى مرميس.
فعلم مرميس شوكنج ما يجب أن يصنع.
وبعد ربع ساعة كانا عند باب مستشفى بدلام، فتقدم شوكنج وقرع الباب، وقال مرميس: إني في انتظارك.
أما شوكنج فقد كان مرتديا بتلك الملابس التي كان يلبسها حين كان يدعوه روكامبول اللورد ويلموت كما تقدم في الأجزاء السابقة، فلما فتح البواب باب المستشفى قال: ماذا تريد أيها المستر؟
فكبر ذلك على شوكنج وقال: إني لست مستر بل أنا لورد، فنادني بلقب اللوردية.
فاعتذر البواب ورجع إلى السؤال عما يريد، فأجاب: إني أريد أن أرى مدير المستشفى. - أي المديرين تريد مقابلته يا حضرة الميلورد، فإن لهذا المستشفى مديرين. - أعلاهما رتبة. - إنهما متساويان. - إذا كان ذلك فسر بي إلى أيهما شئت. - أظن أن أحدهما، وهو المستر جوهن بيل، قد خرج لبعض الشئون فسأذهب بك إلى المدير الآخر، وهو المستر بلويت. - كما تشاء.
ثم تقدمه البواب فسار في أثره حتى وصلا إلى غرفة المدير فقال البواب: تفضل يا حضرة الميلورد وقل لي اسمك كي أذكره للمدير.
فأجابه شوكنج بملء العظمة والجلال: إني أدعى اللورد ويلموت.
فدخل البواب إلى غرفة المدير، ووقف شوكنج يحدث نفسه فيقول: إني سأفعل كل ما أمرني به مرميس، وأقول كل ما لقنني إياه، ولكن الحق أن هذا الغلام يعبث بي كما يشاء؛ فإني لم أفهم شيئا من هذه الألغاز.
وعند ذلك فتح باب الغرفة، وخرج المدير نفسه لاستقبال شوكنج، فدخل به إلى قاعة الاستقبال.
ولما خلا بهما المكان قال المدير: بماذا يأمر سيدي اللورد فإني خادمه المطيع؟ - إني يا حضرة المدير غني بقدر ما أنا شقي تعس، فإني أرمل، ولم تلد لي امرأتي بنين غير أن لي ابن أخ كفلته وربيته فكان كولدي، وقد عرفت دون شك السبب بقدومي لزيارتك.
فنظر إليه المدير نظر المشفق وقال له: ألعله مجنون يا سيدي اللورد؟ - هو ذاك، واأسفاه، فقد أدبته خير تأديب، وعلمته خير علم، فهو يتكلم بجميع لغات أوروبا، وهو من الشعراء المجيدين في لغتنا الإنكليزية التي جعلها شكسبير من اللغات الخالدة. - ولكن كيف جنونه يا سيدي؟ - إن جنونه بل ذهوله قد بدأ في باريس حين إقامته في تلك العاصمة، فقد كنت عينت له راتبا سنويا قدره عشرة آلاف جنيه، فعاش عيش رخاء، بل عيش طيش أدى به إلى هذا الجنون، وكان السبب في جنونه كثرة تردده إلى الأوبرا. - ألعله من أصحاب الأمزجة العصبية فأثرت به الموسيقى هذا التأثير؟! - كلا، ولكنه كان يهوى إحدى المعنيات في الأوبرا، وقد أنفق عليها الملايين، وكان أحد الممثلين يهواها أيضا، فاتفق ليلة أنه بينما كان جالسا في لوجه فتح الستار فظهر هذا الممثل المنكود مشنوقا بحبل.
فقال له المدير: ألعل دوره بالتمثيل كان يقضي عليه أن يشنق؟! - كلا، بل شنق نفسه حقيقة ليأسه. - وهذا الحادث أثر على ابن أخيك، إذ كان هو السبب في انتحار ذلك المنكود فجن؟ - كلا، فإن الناس يعتقدون أن حبل المشنوق يجلب السعادة فتهافتوا على شراء الحبل، فأصاب ابن أخي قطعة منه، وكان من المولعين بالمقامرة فاتفق أنه ربح مرارا حتى يئس منه اللاعبون، وتآمروا عليه فسرقوا الحبل منه لاعتقادهم أنه السبب في ربحه، كما اتفق أنه خسر بعد سرقة الحبل.
فتنهد المدير وقال: إن لابن أخيك يا سيدي شبيها في جنونه. - ألعله يوجد لديك مصاب بهذا النوع من الجنون؟ - كلا يا سيدي، ولكن المصاب به زميلي في الإدارة وهو المستر جوهن بيل. إنك يا سيدي قد تعجب لهذا الأمر، ولكن مدير مستشفى المجانين نفسه مجنون.
والغريب أنه لا يوجد من يصدق جنونه؛ فإني ذهبت إلى اللورد المحافظ، وقصصت عليه الأمر سرا، فقال: لا بد لي من فحصه.
ثم جاء إلى المستشفى وباحثه مليا، فظهر أمامه بأتم مظاهر العقل، حتى إن اللورد حين انصرافه قال لي: إن كان يوجد بينكما مجنون، فأنت هو ذلك المجنون، ولا شك أنك اتهمته هذه التهمة كي تستقل في إدارة المستشفى.
فقال له شوكنج: إذن، إن جنونه منحصر بحبل المشنوق. - هو ذاك، فإذا حدثته بغير هذا الحديث، فلا تجد منه غير العقل المتزن الرجيح. - ومن أين أتاه هذا العارض؟ - إنه إرلندي الأصل، ولكنه ولد في لندرا، وهو يعتقد أنه من الأشراف وأن أسرته من أغنى الأسرات، غير أنه بروتستانتي مثلنا، وهو يقول إن الإرلنديين قد اضطهدوا جده فاضطر إلى الفرار من إيرلندا بعد أن دفن ثروة طائلة في أراضيه الواسعة.
وقد رسخ هذا الاعتقاد في ذهن جوهن بيل زميلي في الإدارة، حتى إنه سافر منذ ثلاثة أعوام إلى إرلندا باحثا عن تلك الثروة المدفونة في أراضي أسرته، فوجد أن الأراضي قد بيعت، فالتمس من صاحبها الجديد أن يأذن له بالبحث فيها، فأذن له وبحث بحثا دقيقا فلم يجد شيئا، فرجع إلى لندرا، وكاد ينسى أمر هذه الثروة.
غير أنه لنكد طالعه اشتهر في تلك الأيام رجل صناعته التنويم ومعرفة الغيب، وقرأ عنه في الجرائد أخبارا غريبة نادرة، فذهب إليه وسأله أن ينومه ويسأله عن تلك الثروة.
فقال شوكنج: وماذا أجابه؟ - أكد له لسوء بخته أن الثروة موجودة، وأنها فوق ما كان يقدرها، ويوجد مع المال المدفون أوراق تثبت حقه بهذا المال، وله الحق أيضا بلقب اللوردية، ولكن لا يتيسر له إيجاد هذه الثروة إلا إذا كان لديه حبل مشنوق، وقد بدأ جنونه منذ ذلك اليوم. - ولكني لا أجد الحصول على الحبل صعبا إلى هذا الحد. - إنك منخدع يا سيدي، فإن الشنق في سجن نوايت نادر، وفوق ذلك فإذا شنق مجرم تسابق الأغنياء إلى شراء الحبل الذي شنق به بالمزايدة.
وليس زميلي من الأغنياء، ومن ذلك أنهم شنقوا حديثا رجلا يدعى توما، فأفرغ جوهن بيل جهده كي يتحصل على قطعة من هذا الحبل، فذهبت مساعيه أدراج الرياح، لأن هذا الجبل كان لدى بواب كنيسة سانت جورج، وقد طلب ثمنه خمسة آلاف جنيه.
فابتسم شوكنج عند ذلك ابتسامة معنوية.
فقال له المدير: لماذا تبتسم يا سيدي؟ - أتم حديثك فسأخبرك بعد فراغك عن السبب. - أما جوهن بيل فلم يستكثر الثمن ولكنه فقير، ليس له غير راتبه، غير أن العالم لا يخلو من أهل البلاهة في كل مكان، فقد وجد من يسلفه هذا المبلغ بشرط أن يرده إليه أربعة أضعاف حين يجد الثروة التي ينشدها.
فقال شوكنج: إذن، تمكن من شراء الحبل؟ - كلا، يا سيدي، فإنه حين عاد بالمال إلى بواب الكنيسة أبى أن يبيع الحبل. - لماذا؟ - أنت تعلم يا سيدي اللورد تعصب الإرلنديين، إن رئيس هذا البواب أمره أن لا يبيع الحبل إلا لأمثاله من الكاثوليك.
فضحك شوكنج أيضا ...
أما المدير فإنه قطب حاجبيه وقال له: لماذا تضحك يا سيدي هذا الضحك؟ - ذلك لأني أعرف قصة هذا الحبل، وأعرف البواب الذي باعه بسبعة آلاف جنيه بدلا من خمسة. - لمن؟ - لي أنا.
ثم أخرج الحبل من جيبه فدهش المدير، وقال: أتعتقد أنت يا سيدي ما يعتقده سائر الناس بحبل المشنوق؟ - إني لا أعتقد بشيء من هذا على الإطلاق. - إذن ، كيف اشتريت الحبل يا سيدي بهذا المبلغ الجسيم؟ - لأن لي خطة أحب أن أوقفك عليها، وأرجو أن تفيدني في شفاء ابن أخي ... - إني مصغ إليك يا سيدي. - إنك عارف بطبع المجانين، بلا ريب، فهل تظن أنه إن امتلك ابن أخي الحبل، ووثق أنه حبل مشنوق أيشفى من الهوس؟ - لا أظن يا سيدي ... - إذن، قد ذهب المال الذي أنفقته ضياعا. - هذا الذي كنت أخشاه. - ولكني أرجو أن أستفيد من هذا الحبل بعض الاستفادة. - كيف ذلك يا سيدي؟ - إني أجعله وسيلة لإدخال ابن أخي إلى المستشفى. - بأية طريقة؟ - إنه لا يوافق على الإقامة في مستشفى المجانين لاعتقاده بسلامة عقله، وإني أشفق من استعمال القوة، فاسمع ما خطر لي. - إني كلي آذان للسمع يا سيدي.
5
قبل أن يبدأ شوكنج الحديث قال له المدير: ألعلك واثق أن هذا الحبل حبل مشنوق؟ - كل الثقة فانظر، إن العقدة التي عقدها كالكراف الجلاد لا تزال على حالها، وفوق ذلك، فإن بواب الكنيسة ليس من المخادعين. - إذن، ستحضر غدا ابن أخيك إلى هنا ... - بل أحضره الآن فإنه ينتظرني في المركبة عند الباب الخارجي، فإني لم أتمكن من إحضاره إلا بالحيلة. - كيف فعلت؟ - إن ابن أخي كان يعلم أن الحبل في حوزة بواب الكنيسة، وقد قلت له: إني ذهبت إلى البواب كي أشتري الحبل، وإني أتيت بعد فوات الأوان؛ فإن مدير مستشفى بدلام قد سبقك واشتراه.
فقال لي ابن أخي: يجب أن تشتري الحبل من المدير وأن تدفع له قدر ما يشاء.
فقلت له: سأفعل كل ما تريد، وجئت به إلى هنا بحجة شراء الحبل من المدير، وهو لا يعلم أن الحبل في جيبي، ولما كنت أريد أن أخلو بك في البدء وأطلعك على الحقيقة فقد أبقيته في مركبتي عند الباب. - لقد أحسنت، والآن فكيف رأيت أن تدخله؟ - سأقول له: إنك متردد في بيع الحبل وأدعوه ليدخل إليك فيساومك عساك تقبل ... - إنها طريقة صالحة لإدخاله، ولكن كيف يبقى في المستشفى؟ - لقد وجدت طريقة صاحة أيضا ، وهي أن زميلك جوهن بيل خارج المستشفى كما قلت لي، أليس كذلك؟ - بلى. - إذن، تظهر الحبل لابن أخي حين يجتمع بك وتقول له: إنك لا تستطيع الموافقة على البيع إلا بعد موافقة زميلك، فمتى علم أنه غائب فهو ينتظر دون شك إلى أن يرجع. - إنها خير طريقة يا سيدي، فمتى تجيء به؟ - في الحال ...
ثم خرج شوكنج فشيعه المدير إلى الباب، وبعد أن انصرف دعا اثنين من حرس السجن وقال لهما: إنهم سوف يأتوننا بمجنون فاختبئا في هذه الغرفة المجاورة لغرفتي إذ لا نعلم ما يكون.
أما شوكنج فإنه ذهب إلى مرميس، فقال له مرميس: ماذا حدث؟ - قضي الأمر. - أهم ينتظرونني؟ - دون شك. - مع أي المديرين كان حديثك؟ - مع المستر بلونت. - إذن، إن الأمور تجري من نفسها. - كيف ذلك؟
فقال له مرميس: اقنع أيها الصديق بتنفيذ ما أقوله لك، ولا تهتم بما بقي، فاعتبر شوكنج أنه أهين وقال: ولكني أرى أمورا لا أفهمها.
فأجاب بجفاء: لا يجب أن تفهمها.
وأطرق شوكنج برأسه ودخل الاثنان إلى المستشفى. كان مرميس طلق المحيا باسم الثغر، فلما لقي المدير قال: أخبرني عمي اللورد ويلموت يا سيدي أنك أبيت أن تتخلى لنا عن الحبل الذي لديك.
ففحصه المدير باعتناء وقال: ذلك لأني وزميلي جوهن بيل قد اشتريناه بثمن جسيم. - كم هو هذا المبلغ الجسيم؟ - خمسة آلاف جنيه. - وأنا أدفع لكم عشرة آلاف، فهل يرضيك هذا الثمن؟ - إنه ثمن موافق، ولكن ... - ولكن ماذا، ألا تزال تتردد؟ - نعم ولا سيدي. - كيف ذلك؟ - ذلك أني رضيت البيع، ولكني لا أعلم ما يكون من شريكي، إذ لا أستطيع أن أبيعه دون مصادقته. - لقد عرفت ذلك، ولكن شريكك لا يبطئ في الرجوع إلى المستشفى. - دون شك ولا بد أن يكون هنا بعد ساعة. - حسنا فسأنتظره إن أذنت لي.
ثم نظر إلى شوكنج وقال: موعد فتح البرلمان قد حان يا عمي العزيز، ولا أحب أن تتأخر عن حضور الجلسة. - أأبقيك وحدك هنا؟ - لا بأس يا عماه فإني حين أشتري الحبل أوافيك . - ليكن ما تريد.
ثم قام فودع المدير وهو يبتسم ابتسامة معنوية وانصرف.
فلما خلا المكان بالمدير وبمرميس قال له المدير: أتأذن لي يا سيدي أن أقدم لك الشاي. - مع الشكر؛ فإني أحب أن أحدثك هنيهة يا سيدي المدير. - مر بما تشاء ...
فغير مرميس لهجته، وقال: إن عمي يا سيدي المدير من أهل الحماقة والبلاهة؛ فإنه قد مثل الدور الذي عهدت إليه أن يمثله أمام زميلك.
فاضطرب المدير وقال: ماذا تعني بذلك؟ - إنه أحضر لك الحبل.
فدهش المدير وأخرج مرميس عند ذلك من جيبه الكتاب الذي أعطاه إياه روكامبول بخط الأسقف فعرضه عليه وقال: أتعرف هذا الخط والتوقيع؟
فأخذ المدير الرسالة، وقرأ ما يأتي:
إن الجمعية التي أنت أحد أعضائها السريين تأمرك أن تسهل لحامل هذه الرسالة كل ما يريد.
فلم يكد يقرأها ويرى التوقيع حتى ارتعش، ونظر إلى مرميس نظرة الإعجاب فقال: إذن، أنت يا سيدي لست بمجنون؟
فضحك مرميس وقال: كلا فإني سليم العقل بحمد الله، ولا أشتري هذا الحبل بثلاثة شلنات، ولكني كنت في اضطرار إلى الاجتماع بك والاتفاق معه. - على أي شيء يا سيدي؟ - أولا على الطريقة التي نستطيع بها أن نتصرف بزميلك جوهن بيل كما نشاء، وهذا الحبل خير طريقة. - وبعد ذلك؟ - إني أريد تمهيد سبيل الفرار لأحد المسجونين في هذا المستشفى، وهذه الرسالة تأمرك أن تطيعني، أليس كذلك؟ - دون شك يا سيدي، فسأمتثل لك كل الامتثال.
6
ولم يدر أحد ما جرى بين مرميس والمدير، غير أن المدير أصدر أمره بعد ساعتين إلى حارسين من حراس المستشفى، فأخذا مرميس إلى إحدى غرف المجانين، وأمرهما أن يراقباه أتم المراقبة.
فلم يبد من مرميس أقل مقاومة غير أنه طلب أن يلف حبل المشنوق حوله وسطه.
وكان المستر بلونت أمر الحراس أن يخبروه حين قدوم زميله جوهن، وأن بين هذين المديرين تحاسدا غريبا ولده حب الاستقلال، فإن كلا منهما كان يقول في نفسه: إن إنكلترا تحكمها ملكة واحدة فلماذا هذا المستشفى يتولاه مديران؟ أليس من الأفضل أن يعزل زميلي وأن أستقل بالإدارة وحدي ؟
ولم يكونا يجتمعان إلا في الشئون الخطيرة، فبعد ساعة حضر جوهن، فذهب إليه بلونت وقال له: إني آسف لخروجك من المستشفى اليوم. - لماذا؟ - لأنه دخل إليه مجنون جديد. - ألم تدخله إليه؟ - بلى. - إذن، فما وجه الأسف؟ - هو رجل خطير، فهو ابن أخ اللورد ويلموت. - إني لم أسمع هذا الاسم بين أسماء اللوردية. - لا عجب في ذلك فإنه يوجد في لندرا ستمائة لورد، ولكن هذا اللورد من أعظمهم ثروة فإنه دفع عشرة آلاف جنيه ثمن حبل مشنوق.
فوقف جوهن وقد اضطرب لهذا الخبر وسأل: ماذا تقول؟ - الحقيقة. - اللورد ويلموت اشترى الحبل الذي شنق به توما؟ - ليس هو الذي اشتراه، بل ابن أخيه. - ألعله مجنون؟ - بل في أتم العقل. - إذن، كيف أدخلته إلى المستشفى؟ - لأن أسرته أكبرت شراءه قطعة حبل بهذا المبلغ الجسيم. - إذن، هو عمه الذي أدخله إلى المستشفى. - نعم ... - ولكننا لا نستطيع ارتكاب هذه الفظاعة زمنا طويلا فإن هذا المستشفى خاص بالمجانين فلا يسجن به العقلاء مراعاة لعائلاتهم. - لا أنكر ذلك ولكن الأطباء يظنون أنه مجنون. - إذا كان ذلك فأنا أيضا من المجانين. - إني لا أقول عنك هذا القول. - ولكنك تعلم شدة ميلي إلى شراء هذا الحبل فممن اشتراه؟ - من بواب كنيسة سانت جورج. - ولكن هذا المنافق أقسم لي أنه لا يبيعه لأحد. - هذا ما اتفق، فإن الحبل بات الآن في قبضة السير أرثير أي ابن أخي اللورد ويلموت. - ألعل الحبل معه الآن؟ - إنه طوق به وسطه لشدة حرصه عليه.
فأطرق جوهن هنيهة مفكرا ثم قال: إني أحب أن أرى هذا الرجل. - إنه نائم وستراه غدا. - كلا فسأوقظه إذا كان نائما كما تقول، ففي أية غرفة وضعته؟ - في الغرفة التي نمرتها 17.
فخرج عند ذلك ذاهبا إليها لا يلوي على أحد.
أما المستر بلونت فإنه ابتسم بعد انصراف زميله وقال: إنه بات أشد جنونا من جميع من لدينا من المجانين. •••
وذهب المستر جوهن إلى الغرفة التي يقيم فيها مرميس فوجده لا يزال ساهرا، وقد جلس يكتب فوق منضدة فقال: أأنت الذي يدعى السير أرثير؟
فنظر إليه مرميس دون اكتراث، وقال: نعم أنا هو. - وأنا أدعى جوهن بيل أحد مديري المستشفى. - ولكن هذا المستشفى خاص بالمجانين، وأنا لست بمجنون. - وأنا أرى ما تراه يا سيدي.
فبرقت عينا مرميس بأشعة الفرح وقال: أحقا ما تقول؟
وكان الحراس واقفين، فجعلوا يضحكون؛ لتعودهم سماع مثل هذه الأقوال، فقال لهم بلهجة الآمر: اذهبوا في شئونكم فليس لي بكم حاجة.
7
فلما انصرف الحارس وبقي وحده مع مرميس قال له: إني أرى يا سيدي أنك لست بمجنون. - دون شك. - ومع ذلك فإن عائلتك أدخلتك إلى هذا المستشفى، فلو كنت مكانك لطلبت إطلاق سراحي عن يد القضاء. - إنه يوجد في إنكلترا بين المجانين من يعرف أن يثبت الجنون، وإن عائلتي قد اتخذت احتياطها دون شك.
فضرب جوهن الأرض برجليه مغضبا، وقال: إني لا أطيق أن أكون شريك المجرمين بهذا الإثم.
فتنهد مرميس وقال: واأسفاه يا سيدي إني لا أجد طريقة للخروج من هنا إلا بالفرار.
فاضطرب جوهن وقال: الفرار؟ إن هذا محال يا سيدي. - لماذا؟ - لأني إن أذنت لك بالفرار أكون مخلا بواجباتي.
فضحك مرميس وقال: ولكنك معتقد كما أرى أني لست بمجنون. - هذا لا ريب فيه عندي. - أما أنا فإني أعتقد أن حبل المشنوق يجلب السعادة، فلا بد لي إذن من النجاة لأني أحمل هذا الحبل. - أحقيقة أن لديك هذا الحبل؟ - هذا هو.
ثم فتح ثوبه وظهر الحبل ملتفا على وسطه.
أما جوهن فإنه حملق بعينيه وقال: حبذا لو كان هذا الحبل لي، فقد كنت أغدو به أغنى الأغنياء. - كيف ذلك؟
فقص عليه جوهن عند ذلك خبر الثروة المدفونة في إرلندا وما قاله له ذلك الرجل المشتغل في التنويم، وهو أنه لا يتمكن من إيجاد الثروة المدفونة إلا إذا كان له حبل مشنوق.
فقال له مرميس: أأنت واثق من فائدة الحبل؟ - كما أثق بأشعة الشمس، ألا تتفضل علي يا سيدي بإعارتي هذا الحبل؟ - كلا، إنه لن يفارق وسطي ما زلت في قيد الحياة. - إذن ، بعني إياه. - إنك لو دفعت لي به مائة ألف جنيه لما بعته.
فصاح جوهن صيحة يأس وهم بالانصراف، غير أن مرميس أوقفه وقال: أصغ يا سيدي فقد يمكن لنا أن نتفق.
فعاد الرجاء إلى قلب المدير وقال له: كيف ذلك؟ - كم راتبك في العام؟ - ألف جنيه. - إنه راتب قليل لا يكاد يكفي نفقاتك. - هو ذاك، ولكني سأستقيل حين أجد الثروة الضائعة. - ولماذا لا تستقيل الآن؟ - ذلك لأني لم أجد الثروة. - وإذا أعطيتك الحبل الذي معي؟ - أجد الثروة دون شك. - إذن، لنهرب معا من هذا المستشفى. - وبعد ذلك؟ - نذهب معا إلى إرلندا ونبحث عن هذه الثروة فإن لم نجدها عدت معك إلى المستشفى.
فتمعن جوهن هنيهة ثم قال: إن ما تقترحه علي محال، ولكن يوجد طريقة صالحة لبلوغ المراد، وهي أن الأطباء قرروا أن الأسفار تفيد غالبا في شفاء المجانين، وقد التمست الإذن مرات كثيرة بالسفر مع بعض الذين كنت أرجو لهم الشفاء من المجانين، فكانوا يأذنون لي. - إذن، ستلتمس هذ الإذن الآن للسفر معي. - هو ذاك. - إنما يجب أن لا تعلم عائلتي بشيء من هذا، ثم إن الوقت غير متسع لدينا، فإننا نسافر غدا. - ما تعني بذلك؟ - أعني أنه يوجد في هذا المستشفى مجنون لي معه شأن خاص، وأحب أن يصحبنا في هذه الرحلة. - أية فائدة ترجوها؟ - إني أصغيت إلى حديثك، ورجائي أن تصغي إلى حديثي.
فقال له المدير: قل يا سيدي ما تشاء.
وقد كان معولا على تضحية كل ما يستطيع تضحيته بشرط أن ينال الحبل.
فقال له مرميس: إنك تعلم يا سيدي المدير أن هذا الحبل الذي معي قد شنق به رجل يدعى توما، وأن توما وهب حبله قبل شنقه إلى بواب كنيسة سانت جورج. - نعم أعلم ذلك، وأن البواب قد باعك الحبل. - ولكنه لم يبعني إياه إلا بشرط، وهو أن أخرج من المستشفى رجلا منكودا يدعى اللورد باميلتون.
فظهرت علائم الرعب على وجه المدير وقال: إن ما تطلبه مستحيل. - لماذا؟ - لأن اللورد وليم حقيقة مجنون. - لا أنكر ذلك. - وإن الذين أدخلوه إلى هنا من أشد الناس هولا. - تريد أنك لا تتحمل هذه التبعة. - كلا. - إني أمهلك فتمعن بالأمر. - لا فائدة بالتمعن فإن ذلك لن يكون ... - يسوءني أن أرى منك هذا الإباء، فإني تعهدت لبواب الكنيسة أن أخرج هذا الرجل المظلوم من محبسه. - ولكني، إن وافقتك فيما تريد، أخللت بواجباتي، بل كنت من المجانين. - شأنك وما تريد، غير أنك إن لم توافقني لا تنال الحبل.
فجعل العرق البارد ينصب من جبين المدير، وقد ظهرت عليه علائم اليأس.
فقال له مرميس: لقد حان وقت الرقاد يا سيدي فأذن لي أن أنام، وتمعن في الأمر كما قلت لك.
8
وفي اليوم التالي نزل مرميس إلى الساحة التي يجتمع فيها المجانين، وكان قد تنكر حين دخوله إلى المستشفى بحيث لم يعد يعرفه أحد، فأجال نظر الفاحص بين أولئك المجتمعين، فرأى رجلا لا يزال في مقتبل الشباب قد اعتزلهم وجلس وحده على مقعد، وقد حمل رأسه بين يديه وتاه في مهامه التفكير.
فقال مرميس في نفسه: أظن أنه الرجل الذي أبحث عنه.
ثم رأى رجلا آخر قد دنا منه، فلما رآه الرجل الجالس بش إليه، وبرقت أسرة وجهه.
وتبودلت التحية بين الاثنين، فسمع مرميس أحدهما دعا رفيقه باسم إدوار، والآخر حياه بلقب ميلورد، فلم يعد لديه شك.
وجلس الرجلان يتحدثان بصوت منخفض.
فدنا منهما مرميس، فلما رأياه يدنو منهما أجفلا، وحاولا أن يذهبا.
غير أن مرميس أسرع إليهما وقال لأحدهما: أسألك المعذرة يا حضرة الميلورد.
فارتعش اللورد وقال: إنك مخطئ يا سيدي، فما أنا بلورد، بل إني أدعى ولتر بريس ليس إلا. - أنت تدعى الآن ولتر بريس، كما كنت تدعى من قبل اللورد وليم باميلتون.
وكان مرميس يكلمه بلهجة تشف على الاحترام الشديد، فقال له اللورد: من أنت أيها الرجل الذي يعرفني؟ - إني صديق يا سيدي اللورد.
فأجابه بلهجة القانط: ليس لي أصدقاء. - إنك مخطئ يا سيدي اللورد، فإن توما قد أرسلني. - إن توما قد مات. - هو ذا، ولكنه أخبرني بكل شيء قبل موته.
فخفق قلب اللورد حين تذكر اسم توما وقال: أين اجتمعت بتوما؟ - إني لم أره، ولكني رأيت امرأته بيتزي. - أعرفت بيتزي؟ - عرفتها يا سيدي قبيل وفاتها.
فصاح اللورد وإدوار صيحة يأس عند مفاجأتها بهذا الخبر وقال إدوار: هو ذا آخر شعاع من أشعة رجائنا قد انطفأ.
فأجابه مرميس إنك مخطئ باسترسالك إلى اليأس، فإن بيتزي قد تحصلت قبل موتها على الأوراق التي كانت مخبوءة في منزلك.
فنظر إدوار بحذر وقال: كيف عرفت هذا؟ - إن الأوراق عندي، وقد عرفت منها كل حكاية اللورد وليم.
فقال له اللورد: قل لنا من أنت؟ - إني يا سيدي رجل دخل إلى هذا المستشفى لإخراجك منه.
فدهش اللورد، وقال: تخرجني أنا؟ - نعم يا سيدي.
فأجابه اللورد بصوت مختنق: إن الهزء بالتعساء إلى هذا الحد منكر من أشد المنكرات.
فقال مرميس: إني لست من الهازئين، يا سيدي، كما أنك لست من المجانين. - دون ريب. - وهذا رفيقك إدوار دخل إلى المستشفى مجنونا، ثم شفي من جنونه. - هو ما تقول. - إذن، أحدقا بي، أتجدان بين ملامحي ما يدل على الجنون؟ - كلا، ولكنك مع ذلك في مستشفى المجانين. - إني دخلت إليه بملء خاطري خصيصا لأجلك. - لأجلي أنا؟ - نعم إني أتيت لأنقذك. - ولكن ...
فقطع مرميس حديثه قائلا: بل لأجمعك بزوجتك وولديك.
فلم يكد هذا اللورد المنكود يسمع ذكر زوجته وولديه حتى هاجت به عاطفة الحنان وسالت دموعه.
وتابع حديثه قائلا: لا تبكي يا سيدي اللورد، فإن زوجتك وولديك في مأمن من كل طارئ. - أحقا ما تقول ... أتقسم لي؟ - إني أقسم لك يا سيدي أنهم في أتم هناء.
فرفع اللورد عينيه إلى السماء وشكر الله. - وستكون قريبا بينهم.
فاختلج اللورد وقال: أظن أني من الحالمين. - بل هي الحقيقة يا سيدي اللورد، فأرجوك أن تخفف روعك، وتصغي إلي. - ولكن قل لي: من أنت؟ - ألم تسمع يا سيدي باسم الرجل العبوس. - كلا.
فقال إدوار: أنا أعرفه، وأعرف أن الأسقف بترس توين لم يكن يخاف إلاه. - إذن، فاعلما أن الرجل العبوس لقي توما في السجن ، ووعده أن ينقذ اللورد وليم.
فقال اللورد: رباه أهذا من الممكنات؟ - إنه لا يريد أن ينقذك فقط، بل هو يريد أن يرجع إليك ثروتك ولقبك.
فقال له إدوار: أحقا ما تقول يا سيدي، إن الرجل العبوس يتولى أمرنا؟ - أقسم لكما أني صادق فيما أقول، وأنا آت من قبله.
فالتفت إدوار إلى اللورد، وقال له: إذن، أبشرك يا سيدي بالفوز، فإن هذا الرجل العبوس، لم يقدم على شيء، إلا وكان فيه من الفائزين.
9
ورجع مرميس إلى الحديث فقال: إن الرجل العبوس هو الذي أرسلني.
وكرر اللورد السؤال قائلا: من أنت؟ - إن اسمي لا يفيدك شيئا يا سيدي، فاكتف أن تعلم أني أخضع كل الخضوع لهذا الرجل الذي يدعوه الإنكليز الرجل العبوس، ونسميه نحن الفرنسيين باسم آخر. - إذن، هو الرجل العبوس الذي أرسلك؟ - نعم يا سيدي، وإنما أرسلني كي أبلغك أن تكون على استعداد للخروج من هنا.
فهز وليم رأسه وقال: لقد حاول كثيرون الخروج من هذا المستشفى، بل بالحري من هذا السجن فما وجدوا لذلك سبيلا. - ولكننا نحن نخرج منه. - كيف؟ - نخرج من الباب الكبير وفي طالعة النهار. - بأية طريقة تخرج؟ - إني لا أستطيع اليوم أن أزيد حرفا على الذي قلته، كي لا أخالف الرجل العبوس.
وكان إدوار لا يزال مشككا في أقواله فسأل: ولكن من يضمن لنا يا سيدي أنك آت من قبل الرجل العبوس؟ - أتريدون برهانا على ذلك؟
فقال اللورد: نعم، وبعد هذا البرهان نمتثل لك في كل ما تريد.
فمد يده إلى جيبه، وأخرج خاتما وأراه لإدوار، فلما رآه عرفه، وقال: إن هذا خاتمي. - نعم، وهو ذلك الخاتم الذي أعطيته إلى بيتزي أليس كذلك؟ - بلى، وأنا واثق بك الآن كل الثقة.
أما اللورد فإنه قال له: ومن الذي يضمن لنا أن بيتزي لم تكن أسيرة في يدي أعدائي؟ - إذا صح ما تقول، فقد وجب أيضا أن تكون الأوراق بأيدي أعدائك، وهي الأوراق التي ترجع لك ثروتك المسلوبة، وأية فائدة لهم أن يخرجوك من سجنك؟
فلم يستطع اللورد أن يدحض هذا البرهان، فمد يده إليه قائلا: إني واثق بك، وأنا منذ الآن أفعل كل ما تريد.
وعند ذلك أقبل المدير جوهن بيل، فقال لهما مرميس: إني ذاهب لأحيي المدير. - احذر منه فهو شديد العنف والقسوة، وقد حاولت مرة أن أحكي له حكايتي فغضب علي، وأمر أن يضعوني في السجن.
وقال إدوار: وأنا شرحت له شأني فأمر بجلدي.
فضحك مرميس وقال: أما أنا فسوف ترون أنه لا يحدث لي شيء من ذلك.
ثم تركهما وسار إلى المدير.
كان جوهن يسير مطرق الرأس مفكرا مهموما، فلما رأى مرميس يحييه ابتسم له وقال: أهذا أنت يا سير أرثر؟ - نعم يا سيدي المدير فهل تمعنت فيما اقترحته عليك البارحة؟
فظهرت علائم الغضب عليه وقال: إني سأؤدب بواب الكنيسة شر تأديب فقد مكر بي. - إنه لم يمكر بك، ولكنك دفعت خمسة آلاف جنيه ودفعت له أنا عشرة آلاف فباعني إياه، فأين هو وجه المكر؟ إن كل إنسان في مكانه يفعل فعله، وعندي أنه خير لك أن تتمعن فيما اقترحته عليك بدلا من أن تغضب.
فتنهد وقال: واأسفاه إن هذا محال. - لماذا؟
فخفض جوهن صوته، وقال: أراك رجلا شريفا يا سيدي لا تخل بما تتعهد به، فهل تتعهد لي أن لا تبوح بما سأقوله لك؟ - إني أقسم بشرفي على الكتمان. - إذن، اعلم أن هذا الشخص الذي نريد إخراجه من المستشفى، هو اللورد وليم باميلتون حقيقة، وما هو بمجنون، ولكنه مقضي عليه أن يموت في هذا السجن. - من قضى عليه هذا القضاء؟ - جمعية البعثات الإنجليكانية، وأنت تعلم ما لها من النفوذ بلا ريب. - نعم إنها تشبه الجزويت في فرنسا، ألعلك تخشى هذه الطائفة؟ - أخافها كما أخاف الموت.
فضحك مرميس وقال: إذا كان هذا الحائل بينك وبين الحبل، فهو لك. - ماذا تعني بذلك؟
وقد اتقدت عيناه ببارق الأمل، فقال له مرميس: أعطني معدات الكتابة. - وبعد ذلك؟ - أكتب كتابا، وأعطيك إياه فترسله إلى صاحبه. - ولكن ... - هذا كل الذي أستطيع أن أقوله، وسوف ترى النتيجة. - إذن، تعال إلى مكتبي .
ثم تأبط ذراعه دون كلفة، وسار وإياه.
10
وقد دهش المجانين دهشا عظيما، حين رأوا مرميس يسير مع المدير متأبطا ذراعه.
وأما مرميس فإنه دخل برفقة المدير إلى المكتب، ثم أخذ ورقة وكتب فيها سطورا كثيرة، والمدير واقف وراءه ينظر إلى ما يكتب، ولا يفهم شيئا.
فسأل: ما هذه اللغة الغريبة التي تكتب بها الآن؟ - إنهم يسمونها اللغة الجافانية. - ولكن إلى من تكتب؟ - سوف ترى.
ولما فرغ من الكتابة أخذ غلافا، وكتب فوقه هذا العنوان:
بتر نوستر 17، المسيو بيردث سكرتير المحامي كوكلام.
ثم وضع الكتاب في طي الغلاف، وأعطاه للمدير قائلا: إذا وصل هذا الكتاب إلى صاحبه فرجائي وطيد أننا نسافر غدا. - أنصحب معنا اللورد وليم أم نبقيه هنا؟ - بل نأخذه هو وإدوار كوركي أيضا. - ولكن أية فائدة من إخراج هذا الرجل أيضا؟ - هذا الذي أريده، فإما أن تقبل فتأخذ الحبل، أو ترفض فيبقى الحبل لي.
فاضطرب المدير في أمره وقال: ولكن أية علاقة بين سكرتير المحامي كوكلام وبين شركات البعثات الإنجليكانية؟ - سوف ترى في هذا المساء.
ثم تركه وانصرف.
أما المدير فقد كان عرضة للهياج الشديد، فكان يسير ذهابا وإيابا بخطوات غير متزنة ويقول: الحبل ... الحبل ... لا بد لي من نيل الحبل.
وبعد أن مضت ساعة على إرسال الكتاب الذي كتبه مرميس إلى روكامبول، فتح باب غرفة المدير جوهن بيل فجأة، ودخل إليه المدير الثاني زميله، وهو مضطرب فقال: إني لدي الآن شأن خطير يجب أن أباحثك فيه. - ما عسى أن يكون هذا الشأن؟ - تعلم أن لدينا سجينا يجب علينا أن نحرص عليه حرصا خاصا. - لدينا كثيرون من أمثاله. - أنا أعني ولتر بريس. - بل تعني اللورد وليم باميلتون. - سمه كما تشاء، فإن ناظر الحقانية أصدر إلينا أمرا مشددا بأن لا ندع أحدا يراه من الخارج، فإذا أهملنا شيئا من هذه الأوامر، قضي علينا بالعزل. - وبعد ذلك؟ - أقبلت الآن امرأة تلح في مقابلة اللورد وليم أتعلم من هي هذه المرأة؟ إنها اللادي باميلتون امرأة أخي اللورد وليم.
فذهل جوهن بيل وقال : أهذا ممكن، وبماذا أجبتها ؟ - إني أبيت أن آذن لها بمقابلته. - ولكن هذه المرأة وزوجها هما اللذان أدخلا اللورد وليم إلى هذا المستشفى، فلا أجد مانعا من إدخالها إليه. - ولكني أحببت أن لا أبت في شأنها قبل أن أستشيرك.
وبينما المديران يفكران دخل إليهما أحد الحراس يحمل رقعة زيارة الأسقف بترس توين.
فاضطرب جوهن وقال: ماذا عسى أن يريد منا؟
وكان كلاهما يعرفان منزلة هذا الأسقف، فأسرعا إلى استقباله بملء الاحترام.
أما الأسقف فإنه قال لهما بعد أن جلس بينهما: إني أرسلت إليكما منذ حين أمرا مشددا من ناظر العدلية يقضي بمراقبة ولتر بريس.
ثم نظر نظرة خاصة إلى جوهن بيل وقال: إن هذا الرجل يدعي أنه اللورد وليم باميلتون، مع أن هذا اللورد مات كما يعلم الجميع، ولكن هذا الشقي يحاول مقاضاة أسرة اللورد أفندال، وقد أرسل مذكرة إلى اللادي باميلتون، لا أعلم كيف تمكن من إرسالها، فذعرت اللادي لما رأت فيها من الإنذار، وفوق ذلك، فقد أثرت عليها هذه المذكرة حتى أوشكت أن تزعزع اعتقادها.
ولا يبعد أن تزور هذا الرجل وتقف منه على حقيقة ما قرأته في مذكرته من المختلقات الغريبة.
فقال بلونت: ولكنها أتت يا سيدي.
فتظاهر الأسقف بالاضطراب وقال: أحقا ما تقول؟ - نعم يا سيدي، فقد أتت من نصف ساعة. - وهل اجتمعت به؟ - كلا فقد حلت دون قصدها؛ لأن الأوامر كانت قد وردت إلي، ولكنها سوف ترجع غدا. - احذر أن تراه. - بل يصعب علي أن أمنعها بعد الآن. - كيف ذلك؟ - إنها سترجع إلي بأمر من ناظر العدلية.
فقطب الأسقف عند ذلك حاجبيه وقال: إنها تستطيع الحصول على الأمر، ولكن كيف العمل، ألا يوجد طريقة تمنع اجتماعهما؟
فقال جوهن عند ذلك: يوجد طريقة صالحة يا سيدي وهي أن آخذ هذا الرجل. - إلى أين؟ - إن الأسفار تفيد في شفاء المجانين بعض الأحيان، وقد اعتدت أن أسافر ببعضهم كل عام، وسيكون هذا الشخص بين الذين أسافر بهم من المجانين. - وتسافر غدا؟ - بل أسافر الليلة إذا شئت. - إذن، ليكن سفرك في المساء.
فاتقدت عينا جوهن ببارق السرور، وذكر الحبل وأنه سيناله دون أن تقع عليه تبعة فرار اللورد وليم.
غير أنه حاول التفصيل نهائيا فقال للأسقف: ولكني أجد بعض الخطر في تحقيق ذاك القصد. - أي خطر تعني؟ - إني سأسافر بالمجانين إلى إرلندا، وليس لي هناك سلطة عليهم كما لي في إنكلترا. - ماذا تعني؟ - إن ولتر بريس هذا رجل شديد العزم قوي البنية ثابت الإرادة، فقد يتمكن هناك من الفرار وأكون أنا المسئول عنه. - لا تخف تبعة فراره، وفوق ذلك فإني أؤثر أن يهرب على أن يجتمع باللادي باميلتون، فلا تخف، وسافر به وبمن شئت في المساء.
وبعد هنيهة خرج الأسقف فأوصله المدير بلونت إلى الباب، فابتسم الأسقف وقال: مسكين رفيقك فلم يطل وقت سقوطه في الفخ. - ذلك لأن الرجل الذي أرسلته إلينا كان من الماهرين النابغين. - يظهر أنه كما تقول. - كيف تقول ذلك ألم تعرفه يا سيدي؟ - كلا. - إذن، من الذي أرسله إلى هنا؟ - رجل حازم أعتمد عليه في أعمالي. - إذن، لم تره؟ - كيف أكون رأيته وقد قلت لك إني لا أعرفه. - أتريد أن تراه؟ - لا فائدة من ذلك لأن الوقت غير فسيح لدي الآن.
ثم انصرف وهو فرح القلب مما رآه من حسن النتائج.
11
وبعد أن ذهب الأسقف أسرع جوهن بيل إلى مرميس والفرح يملأ قلبه فقال: لدي نبأ عظيم سأرويه لك. - ما هو؟ - هو أنه لم يعد يبقى لدينا حائل دون السفر ولا شيء يمنعني أن أصحب معي ولتر بريس. - تريد أن تقول اللورد وليم. - نعم. - بقي سؤال ألقيه إليك، وهو أني أحب أن أقف على رأيك بهذا الرجل. - رأيي أني واثق من صدق حكايته وأنه من العار أن تحدث هذه الفظائع الشائنة في بلاد الحرية والعدل والدستور. - ولكنك كنت آلة في يد تلك الأسرة، التي ظلمت ذلك اللورد النبيل. - لست أنا يا سيدي الذي أخدمها في أغراضها السافلة، بل هو ناظر العدلية ولا بد لي من الخضوع له مكرها، واأسفاه. - إذن، ناظر العدلية الذي أذن لك أن تصحب معك اللورد وليم . - بل الأسقف بترس توين ولكنهما واحد.
ففتح مرميس سترته بغير اعتناء فرأى جوهن الحبل مشدودا في وسطه فزاد هياجه وقال: أتعلم أننا مسافرون في هذه الليلة بقطار ليفربول؟
فأجاب ببرود: أحقا ما تقول؟ - نعم وإنما اخترت طريق ليفربول لأنها أقرب الطرق إلى إرلندا. - وأنا مستعد الآن للسفر وإياكم.
فلما فرغ جوهن من قص النبأ المفرح عاد إلى أماني نفسه فقال: إني أثق بما قاله لي المنوم على الحبل كما أثق بأشعة الشمس.
فابتسم مرميس وقال: ابحث عن غير هذه الاستعارة في التعبير عن ثقتك فإن أشعة الشمس يندر وجودها في هذه البلاد. - لقد أصبت، وإنما أردت أن أقول إن ثقتي به شديدة، فسأجد كنوز آبائي بفضل ذاك الحبل. - وأنا أعتقد اعتقادك. - بل إنني سأجد أيضا، دون شك، مع تلك الكنوز البراءة المثبتة أني من اللوردية، فيكون لي الحق، عند ذلك، بالعضوية في المجلس الأعلى، وأدافع عند ذلك عن إرلندا خير دفاع، وأحمل على ناظر العدلية حملات منكرة. - إذن، لقد عولت على الأخذ بناصر اللورد وليم. - دون شك.
فعض مرميس شفتيه كي لا يضحك وقال في نفسه: لقد أخطأ روكامبول بتخوفه من أن لا نستطيع ضم هذا الرجل إلينا، في حين أنه يخدمنا أكثر مما نخدم أنفسنا.
وعاد جوهن إلى الحديث فقال: إذن، لقد تم الاتفاق على أن نسافر في هذه الليلة. - دون شك.
فحك جوهن أذنه وقال: لم يعد يشغلني غير شيء واحد. - ما هو؟ - كيف نحتال على اللورد وليم، فإني أخشى أن لا يوافقنا على السفر. - أنا أتعهد به. - وإدوار ألا تزال مصرا على إخراجه أيضا؟ - لست أنا الذي أصر على ذلك، فليس لي به أقل شأن، ولكن هو بواب الكنيسة صاحب الحبل، فقد جعل ذاك الشرط من أخص شروطه، حين باعني إياه. - إذن، سنصحبه معنا، بل إني أفعل كل الذي تريده، من أجل ذاك الحبل.
وقد غلب السرور فجعل يرقص في الغرفة، فلم يوقفه عن الرقص غير سماعه خطوات أحد الحراس.
فقال مرميس في نفسه: ما أليق هذا الرجل لإدارة مستشفيات الجنون فإنه أشد جنونا من المجانين الذين يتولى شفاءهم.
وعند ذلك طرق الباب، ففتحه جوهن فرأى أحد الحراس يحمل بيده رقعة زيارة اللورد ويلموت أي شوكنج.
فقال لمرميس: إني أخشى أن يخطر لعمك أن يخرجك الآن من المستشفى. - وإذا أخرجني منه؟ - إذا أخرجك منه فكيف تسافر معنا الليلة؟ - بل أسافر، فأنت تجدني في الساعة الثامنة، أنتظرك في محطة شارع كروس. - أتعدني بذلك؟ - بل أقسم لك فاطمئن.
12
وكان شوكنج ينتظر في قاعة الاستقبال، فلما دخل إليه مرميس رأى علائم الاضطراب بادية في وجهه، فضحك وقال: لم أكن أتوقع زيارتك. - وأنا لم يكن في نيتي الحضور.
ثم نظر نظرة الفاحص إلى ما حواليه وقال: ألعلنا وحدنا، فلا يسمع حديثنا أحد؟ - نعم، فقل ماذا حدث؟ - لا أعلم شيئا فقد فعلت أمس كل ما أمرتني أن أفعله، ولكني أقول لك إني أعمل عمل الآلة وأنقل ما تلقيه إلي، فشأني معك شأن الببغاء، ولكني لا أفهم شيئا من كل الذي يحدث. - ذلك لأنه لا يجب أن تعلم شيئا، فقل الآن ماذا حدث. - حدث شيء بسيط بالظاهر، وهو أني كنت أتنزه في ستراند فشعرت بيد وضعت على كتفي، فرأيت رجلا لم أكن رأيته قبل هذه المرة. - اذكر لي ملامح الرجل وشكله. - إنه أشقر يضع على عينيه نظارة زرقاء ويحمل محفظة أوراق، وهو من رجال القضاء دون شك.
فابتسم مرميس إذ علم أن ذاك الرجل هو روكامبول وقال له: أأنت واثق أنك لم تر الرجل قبل الآن؟ - كل الوثوق، فلماذا تسألني هذا السؤال؟ - لأني ظننت أنك قد تكون رأيت الرجل، فإني عرفت من ذكرته لي من شكله. - من هو؟ - هو سكرتير المحامي كوكلام، فماذا قال لك؟ - قال لي كلمة دهشت لها فإنه ناداني بلقب لورد مع أني كنت لابسا ثيابي العادية، فنظرت إليه منذهلا، وقلت له: أتهزأ بي أيها الرجل، فإني لست لوردا بل إن اسمي شوكنج؟! - هو ذاك ولكنك تدعى أيضا اللورد ويلموت. - كيف عرفت ذلك؟ - بل إنك سجنت أمس ابن أخيك السير أرثر. - هذا أكيد ولكن كيف عرفت ذلك؟ - ذلك لا يفيدك، ولكني أحب أن أعهد إليك برسالة. - لمن أللسير أرثر؟ - للسير أرثر أو لمرميس، فإن كليهما واحد، أرأيت كيف أني واقف على الحقيقة؟
فقال مرميس: وهل أعطاك الرسالة؟ - نعم وعهد إلي أن أسرع في إيصالها إليك، وهذه هي.
فأخذها مرميس، وكانت مكتوبة باللغة الجافانية فقرأ ما يأتي:
أرسلت إلى السجن امرأة من أتباعي بصفة أنها اللادي باميلتون، فذعر الأسقف لاعتقاده أنها اللادي باميلتون حقيقة، فأذن لجوهن بيل بالسفر مع اللورد وليم.
فإذا سافرتم هذا المساء فاشتر من محطة شرنج كروس جريدة البال مال غازيت من بائع الكتب المقيم في المحطة، فإنك تجد في الجريدة رسالة، وفي الرسالة التعليمات التي يجب أن تجري عليها.
وكان شوكنج يذوب شوقا لمعرفة ما تضمنته تلك الرسالة.
ولكن مرميس لم يجد فائدة من إيقافه على مضمونها: فطواها ووضعها في جيبه.
فقال له شوكنج: أتأذن أن أسألك سؤالا. - إني أجيبك عنه إن استطعت فسل. - كيف أن ذاك الرجل، الذي لم أره في حياتي، عهد إلي بمثل تلك المهمة؟ - لأن هذا الرجل يعرفك كما تعرفه أنت أيضا. - ولكني قلت لك إن هذه أول مرة رأيته فيها. - وأنا أقول لك عكس ما تقول فقد عرفته حق العرفان.
فارتعش شوكنج، أما مرميس فإنه ابتسم وقال له: بل إنك تعرفه، وعشت معه زمنا طويلا.
فاضطرب شوكنج وقال: كلا، إن هذا محال ... كلا، لا يمكن أن يكون ...
وقد كاد يذكر اسم روكامبول فأسكته مرميس، وقال له: اذهب الآن من حيث أتيت. - متى يجب أن أعود. - لا تعد إلي بعد الآن فإني سأخرج من بدلام في المساء. - إلى أين تذهب؟ - إلى محطة لفربول مع اللورد وليم وإدوار.
فزادت دهشة شوكنج وقال: وبعد ذلك؟! - نسافر إلى لفربول ومنها إلى إرلندا. - وأنا وفاندا ماذا يجب أن نصنع؟ - يجب أن تبقيا في لندرا إلى أن أكتب لكما إذا وجبت الكتابة.
فصغرت نفس شوكنج في عينيه، وكبرت عليه تلك الأسرار فقال: أرى أن خدمتكم باتت مزعجة بعد التكتم الغريب.
فلم تظهر على وجه مرميس علامات الاستياء لهذا التقريع بل قال له: إني إذا كنت أتكتم أيها الصديق، ذلك لأني أجهل تلك الأسرار كما تجهلها أنت، وإني أتلقى الأوامر غامضة كما تتلقاها.
فصاح شوكنج صيحة فرح وقال: لقد عرفت الآن من هو ذاك الرجل الذي أرسلني إليك.
فأسكته مرميس بجفاء، وأمره أن ينصرف لفوره.
فانصرف شوكنج ورجع مرميس إلى اللورد وليم وإدوار، وأخبرهما أن السفر سيكون في المساء.
وفي الساعة السابعة والنصف كانت مركبة ضخمة واقفة على باب المستشفى وقد نقلت أمتعة جوهن بيل، ثم خرج ذلك المدير من المستشفى يتبعه اللورد وليم وإدوار ومرميس.
وكان المدير الثاني المسيو بلونت خرج لوداع زميله، وكلاهما يفيض وجهه بشرا، هذا لانطلاق يده في إدارة المستشفى بعد سفر زميله، وذاك لاعتقاده أنه سيظفر بملايين آبائه بعد أن ظفر بضالته المنشودة وهي حبل المشنوق.
ثم سارت بهم المركبة إلى محطة ليفربول، حتى وصلت إليها.
وبينما كانوا يشتغلون بنقل الأمتعة من المركبة إلى القطار، ذهب مرميس إلى مكتبة المحطة كي يشتري الجريدة كما أوصاه روكامبول، فرأى صاحبها جالسا حول منضدة، وعلى عينيه نظارات سوداء، وقد وضع رأسه بين يديه وهو تائه في مهامه التفكير.
فأيقظه مرميس من هواجسه وقال: ألعله بقي لديك يا سيدي نسخة من جريدة البال مال غازيت؟
فارتعش الرجل، وأزاح النظارة عن عينيه، فلما رآه مرميس صاح صيحة دهش وقال: ميلون؟
فأجابه ذلك الشيخ خادم روكامبول الأمين: نعم أنا هو كما ترى، إذ لا أزال في قيد الحياة.
ثم أعاد النظارة إلى عينيه.
13
وعند ذلك أعطاه ميلون الجريدة ونظر إلى الساعة وقال: لا يزال لدينا نصف ساعة لسفر القطار فلنتحدث. - قل أيها الصديق ... - لقد علمت دون شك أنه لم يكتب رسالة في تلك الجريدة. - كيف ذلك؟ ألا يوجد رسالة فيها؟ - كلا. - إذن، أين أجد تلك التعليمات؟ - في الجريدة. - كيف ذاك؟ - إنك تبحث في صفحاتها فتجد بين سطورها كلمات متفرقة وضع تحتها خطوط حمراء، فإن جمعت هذه الكلمات ورتبتها حسب ورودها مبتدئا من أول الجريدة تألف منها رسالة تجد فيها التعليمات التي يجب أن تسير عليها. - لقد فهمت. - وقد اتخذ الرئيس هذا الاحتياط وهو يخشى أن تصلوا إلى المحطة حين سفر القطار فلا أستطيع مباحثتك، ولكن الوقت لا يزال فسيحا لدينا فاسمع خلاصة التعليمات.
إنك ستبلغ لفربول غدا صباحا فتجد هناك باخرة ستسافر قبل جميع البواخر الراسية إلى دبلين، واسم الباخرة كريمي، وربانها من أصحابنا. - إذن، سنسافر إلى إرلندا. - كلا بل تذهبون إلى جزيرة مان. - وهناك ما نصنع؟ - إني لا أستطيع أن أقول لك كل شيء الآن، فإني أرى جوهن بيل يدنو منا، ولكني أخبرك أنه يوجد في الجزيرة امرأة تشتغل بالتنويم. - أيجب أن نذهب إليها؟ - نعم، وهي تخبركم أين تجدون الكنوز التي يبحث عنها جوهن بيل. - ولكننا غير ذاهبين إلى إرلندا كما تقول. - كفى فإنك تعلم البقية من الجريدة.
وعند ذلك وصل إليهما جوهن بيل، فدفع مرميس ثمن الجريدة ووضعها في جيبه.
ثم تأبط ذراع جوهن بيل، وقال له وهو يسير: إنني حادثت صاحب هذه المكتبة فأخبرني بأمر لم نكن نعرفه. - ما هو؟! - أن الباخرة التي سنسافر عليها لا بد لها أن ترسو في جزيرة مان مثل جميع البواخر المسافرة إلى إرلندا، وأنه يوجد في هذه الجزيرة امرأة اشتهرت شهرة غريبة في عجائب التنويم. - أي فائدة بقيت لنا من المنومين بعد أن حصلت على الحبل؟! - ولكنها تعيننا على إيجاد كنوزك، فإن شهرتها بعيدة، ويقال: إنها وجدت كثيرا من الكنوز المدفونة. - أحقا ما تقول؟! - هذا ما قاله لي بائع الكتب.
فأطرق جوهن مفكرا، ولم ينتبه من هواجسه إلا حين سمع الجرس المؤذن بسفر القطار إليه مع رفاقه.
وفي الساعة السابعة من صباح اليوم التالي وصلوا إلى أدمبرج، فوجدوا أن الباخرة كريمي ترفع مراسيها في الساعة التاسعة، وأنها مسافرة قبل جميع البواخر الراسية في الميناء، فأسرعوا إليها جميعهم.
ولما أقلعت السفينة أخذ مرميس الجريدة، وفحص ما فيها، حتى إذا حل رموزها ذهب يبحث عن ربان السفينة.
أما جوهن بيل فإنه كان يحلم بسعادته المقبلة، وقد اختلى بغرفته وجعل يناجي نفسه بتلك الكنوز.
14
ولنعد الآن إلى الأسقف بترس توين، فإنه بعد أن خرج من مستشفى بدلام ذهب توا إلى مكتب المحامي كوكلام فلم يجده فيه، بل وجد سكرتيره بليدت أي روكامبول.
فاستقبله روكامبول مبتسما وقال له: إني أعلم ما تريد أن تقوله لي. - ما تعلم ...؟ - إن اللادي باميلتون خرجت إلى مستشفى بدلام.
فعجب الأسقف وقال: أعرفت هذا ...؟ - بل عرفت كل شيء فإنها طلبت مقابلة اللورد وليم، ولكن المديرين أبيا أن يأذنا لها بمقابلته. - هو ما تقول. - وإن اللادي عزمت على العودة غدا، ولكنها لا تجده، فإن جوهن بيل فر به هذا المساء. - إننا نجونا منه والحمد لله. - ولكنك تعلم أن هذا اللورد سليم العقل وأن المجنون هو ذلك المدير الذي يصحبه. - أعلم ذلك يقينا فما تريد به ...؟ - أريد أن جنون المدير يسهل فرار اللورد. - ليفر إلى أين شاء بشرط أن لا يعود إلى إرلندا. - ولكنه إذا ما تمكن من الفرار، فلا شك أن أول خاطر يخطر له العودة إليها.
ورأى روكامبول أن الأسقف قد قطب حاجبيه فقال له: ولكني قد اتخذت الاحتياطات، وأعطيت التعليمات اللازمة لذلك الرجل الذي يمثل دور السير أرثير. - ألعلك رأيته اليوم؟ - كلا، بل أرسلت إليه تعليماتي.
فاطمأن بال الأسقف وقال له: لندع الآن اللورد وليم وجوهن بيل، ولنتحدث بأمر آخر، فإن اللادي باميلتون قد ذهبت إلى بدلام، وفي ذلك دليل على أنها تريد الاتفاق معه وتأبى أن تدفع لي. - دون شك، ولكني أستطيع إكراهها على الدفع بالمقاضاة. - كم ينبغي لذلك من الزمن؟ - إن المحامي العادي لا يستطيع إنجاز هذه المهمة قبل عامين، أما أنا فإني أتمها بمدة ثلاثة أشهر. - أتعدني بذلك؟
فبرقت أسرة وجهه ثم عاد إلى التقطيب فقال: إني إذن أعتمد عليك كل الاعتماد، فإني مسافر إلى فرنسا حيث أقيم فيها بضعة أيام. - أتأذن لي يا سيدي، بسؤالك عن السبب الذي يدعوك إلى زيارة فرنسا؟ - إني أحاول الوقوف على أثر رجل لا أخشى سواه في هذا الوجود وهو الرجل العبوس فإنه الخصم الوحيد القوي الذي لقيته في حياتي. - أتظن أنه سافر إلى فرنسا؟ - نعم، فقد أكد لي ذلك أحد رجال بوليسي السري ولي به ملء الثقة. - إذن، سافر يا سيدي، وأنا أشرع بالحصول على إرث اللورد أفندال.
وعند ذلك ودعه وانصرف، فابتسم روكامبول وقال: إنك لم تظفر به أيها الأبله وقد ظفر بك.
أما الأسقف فإنه ركب مركبته، وأمر السائق أن يسير به إلى المنزل.
ولما وصلت به المركبة إلى أكسفورد تقابلت مع مركبة أخرى، فسمع الأسقف صوتا يناديه، فعرف أنه السير أرشيبالد والد اللادي باميلتون.
أما السير أرشيبالد فإنه نزل من مركبته وأسرع إلى الأسقف فقال له بعد التحية: إلى أين أنت ذاهب يا سيدي؟ - إني عائد إلى منزلي. - أرجو أن تأذن لي بمرافقتك، فإن لدي أمورا كثيرة أحب أن أحدثك عنها.
ثم صعد إلى المركبة فجلس بجانبه وأمر السائق أن يسير.
ودار بين الاثنين الحديث الآتي: قال السير أرشيبالد: إني عائد يا سيدي من إيكوسيا فإني رافقت ابنتي اللادي باميلتون إليها.
فذهل الأسقف وقال: أنت ذهبت بابنتك اللادي إلى إيكوسيا؟ - نعم يا سيدي الأسقف ... - متى سافرتما إليها؟ - منذ خمسة أيام. - ومتى عدت منها؟ - اليوم. - وابنتك أعادت معك؟ - كلا، بل بقيت هناك.
فنظر إليه الأسقف نظرة إنكار وقال: أراك تجرؤ على الهزء بي.
فاهتز السير أرشيبالد لكلام الأسقف وقال: كيف خطر لك أني أهزأ بك؟ ولم هذا الهزء؟ - لا أعلم، ولكني أثبت ما قلته، فإن اللادي باميلتون ليست في إيكوسيا كما تقول بل في لندرا. - إنك مخطئ يا سيدي الأسقف. - كلا، بل إني أثبت ذلك بالبرهان. - إذا كان ذلك فأنت الذي تهزأ بي يا سيدي، ولست أنا، فإني أعيد عليك ما قلته فإن اللادي باميلتون بعيدة مائة مرحلة عن إرلندا.
فهز الأسقف كتفيه وقال: أرى يا سيدي أنه يجدر بك أن تكلمني بجلاء؛ فإن الجلاء أصلح في هذه الشئون. - قل يا سيدي فإني مصغ إليك. - إنك وابنتك تعلمان يقينا أني أنا الذي أنقذتكم من ولتر بريس. - نحن شاكرون لك هذا الصنيع. - ثم إنك تعلم أن هذه الجمعية العظيمة التي أتولى رئاستها العليا لا تخدم الناس لمجرد حب الله، وأن اللورد أفندال تعهد لي كتابة بمبلغ من تلك الثروة التي حفظتها له. - نحن مستعدون لدفع ما تعهد به اللورد. - أحقا ما تقول؟ - كل الحق يا سيدي، فإنك تعلم أني من كبار الأغنياء وأني لم أطمع بمال اللورد حين صاهرته، بل بجاهه. - إذن، أنت عازم على أن تدفع لي تلك المبالغ الجسيمة التي تعهد لي اللورد أفندال بدفعها؟ - دون شك.
فانذهل الأسقف لما رآه من التناقض.
ثم أطرق رأسه هنيهة وقال: إذن، قل لي لماذا أرادت اللادي باميلتون مقابلة ولتر بريس، أي اللورد وليم؟ - لا أعلم أنها خطر لها هذا الخاطر. - إذن، قد كان ذلك دون أن تعلم. - دون شك ولذلك أدهشتني بهذا الخبر الغريب، فمتى حاولت مقابلته؟ - اليوم. - ولكن هذا محال يا سيدي، فقد قلت لك إنها في إيكوسيا منذ خمسة أيام وما أنا من الكاذبين.
وتبين الأسقف دلائل الصدق الأكيد من لهجته وحار في أمره فقال له: ولكني أؤكد لك أن امرأة ذهبت اليوم إلى بدلام فقالت: إنها اللادي باميلتون وإنها تريد مقابلة ولتر بريس. - إني لا أستطيع حل هذا اللغز، ولا أدري أية شقية تجاسرت على انتحال اسم ابنتي.
فلم يجبه الأسقف بشيء، ولكن مر في باله خاطر سريع وجفت له أعضاؤه، فقد تذكر أن حاكم سجن نوايت كان قد وضع الرجل العبوس حين كان سجينا في غرفة واحدة مع توما قبل إعدامه وقال في نفسه: لا بد أن يكون أخبر الرجل العبوس بحكاية اللورد وليم، وأن الرجل العبوس تولى الانتصار له، ودليل ذلك أن امرأة تنكرت باسم اللادي، وأرادت مقابلة اللورد، فلا بد أنه يوجد من يهتم لهذا الرجل، وقد يكون هذا من صنع الرجل العبوس.
غير أن الأسقف لم يجاهر بمخاوفه أمام السير أرشيبالد بل قال: إني وثقت بكلامك يا سيدي، ولكني أؤثر ألف مرة أن تكون خدعتني. - لماذا يا سيدي؟
وكانت المركبة وقفت عندها أمام باب منزل الأسقف فقال له: هلم بنا إلى منزلي فأخبرك بكل شيء.
ولما دخلا أسرع أحد الخدم إلى الأسقف وقال له: إن البوليس سكوتوي قد خرج الآن بعد أن انتظرك مدة طويلة، وقد ترك لك رسالة يا سيدي. - أين هي؟ - على المستوقد في غرفتك.
فذهب الأسقف إلى غرفته، وقرأ الرسالة فقرأ ما يأتي:
لقد وجدت أثر الرجل العبوس فاطمئن.
إنه، يا سيدي، يضع فوق عينيه نظارة زرقاء ويلبس شعرا مستعارا أشقر، وهو يسمي نفسه، بليدت سلمون، ويشتغل في مكتب المحامي كوكلام.
إني أنتظر أوامرك.
فسقط الكتاب من يد الأسقف وقد اصفر وجهه حتى بات كالأموات فقال: لا شك أني لست من رجال هذا الشيطان المريد، فإنه يهزأ بي منذ خمسة عشر يوما ويلعب بي كما يلعب الصبيان بالكرة.
ثم سقط على كرسيه واهن القوى وقد كاد يغمى عليه.
15
وجعل كل من الاثنين ينظر إلى الآخر، أما الأسقف فقد كان خائر القوى منخلع القلب، أما السير أرشيبالد فلم يكن قد فهم شيئا من ذلك الكتاب، ولكنه أيقن مما رآه من انقلاب الأسقف أنه حدث أمر هائل.
فقال له: ماذا حدث يا سيدي؟
فانفجر الغضب في قلب الأسقف وقال: أتريد أن تعلم ما حدث؟ - نعم ... - إذن، فاسمع ... إنك كنت تعتقد بي إلى الآن أني من أهل الذكاء والمهارة ولكنك منخدع يا سيدي.
ثم ضحك ضحكا مغضبا وقال: بل إني أبله ضعيف العقل، فإني منذ ثلاثة أسابيع اصطفيت رجلا، وجعلته موضع ثقتي، فكان يعبث بي كما يشاء دون أن أعلم، فإن هذا الرجل كان ألد عدو لي وأنا أحسبه خير صديق، أتريد الآن أن تعلم ما حدث؟
إن اللادي باميلتون لم تذهب إلى المستشفى كما كنت أعتقد، واللورد وليم خرج من ذلك المستشفى.
فاضطرب السير أرشيبالد وقال: كيف خرج؟ وإلى أين ذهب؟ - إنه الآن في الطريق إلى لندرا.
ثم جعل يمشي في الغرفة ذهابا وإيابا بخطوات غير موزونة.
فسأله السير أرشيبالد: ما أصابك فإني أراك كالمجانين؟ - إني لم أجن بعد ولكني سأجن. - ولكن كيف يمكن اللورد مبارحة المستشفى؟ - ... لأني فتحت له بابه.
فنظر إليه أرشيبالد بملء الانذهال وقال: أنت أطلقت سراحه بيدك؟ - نعم ... فإن هذا الرجل الذي وثقت به قد خدعني شر خداع ثلاثة أسابيع متوالية بحيث وثقت به كل الثقة، وبت لا أحيد عن رأيه، وهذا الرجل قد آلى على نفسه أن يرد للورد وليم ثروته وألقابه. - إن هذا محال. - ولكنه الحقيقة. - وعند ذلك طرق الباب فسكت الأسقف، وأمر الطارق أن يدخل، ففتح الباب ودخل منه ذلك البوليس السري، وقال: أسألك المعذرة يا سيدي لقدومي إليك الآن، فقد رأيت مركبة وقفت عند بابك، فما أخطأ ظني أنها تقلك وأتيت أخبرك ... - حسنا فعلت بقدومك فإني كنت أنتظرك. - أقرأت الكتاب؟ - نعم، فهل أنت واثق أن الرجل العبوس وبرديت واحد؟ - كل الثقة، وهو يقيم في زقاق ضيق في شارع باترنوستر، فإن دخل إلى منزله في المساء نزع شعره المستعار. - أيقيم وحده في المنزل؟ - كلا، بل مع رفيق له ضخم الجثة يدعى ميلون، وهو يبيع الجرائد في محطة شارنج كروس، وقد كان بوسعي أن أقبض عليه، غير أني ما أردت أن أفعل شيئا قبل أن أتلقى أوامرك، فإن القبض عليه سهل ميسور سواء في منزله، أو في مكتب المحامي الذي يشتغل فيه. - ألعلك اتخذت الاحتياطات اللازمة للقبض عليه؟ - إني أعددت كل شيء. - كم رجلا أعددت؟ - ثمانية. - أأنت واثق أنه لا يوجد منفذ في المنزل الذي هو فيه؟ - كل الثقة ... - أمن السهل تطويق المنزل؟ - نعم فإنه في زقاق.
فاتقدت عينا الأسقف ببارق من نار وقال: إن الساعة الثامنة الآن من المساء، ولا يجب أن نصبر إلى الغد. - أتريد إذن يا سيدي القبض عليه في هذه الليلة؟ - بل في هذه الدقيقة، إن كان هذا من الممكنات. - إذن، اطمئن يا سيدي، فسيعود إلى نوايت قبل منتصف الليل. - وبعد غد يشنق.
وكان السير أرشيبالد يسمع الحديث فسأل: أي رجل تعنون ...؟ - إن له اسما غريبا فإنه يدعى الرجل العبوس.
ثم قال في نفسه: إن الرجاء لم يفقد بعد ما زال الرجل العبوس سيشنق.
16
لقد كان البوليس صادقا في قوله فإن روكامبول كان يقيم حقيقة في الزقاق الذي أشار إليه، وإنما اختار روكامبول هذا المنزل، لأنه كان يعرفه فإن مس ألن كانت مستأجرة غرفة فيه، فكانت تأتي إليها حين تريد تغيير ملابسها واستبدالها بملابس أخوات السجون.
وكان لديه مفتاح هذه الغرفة، فلما نجا من السرداب مع ميلون في تلك الليلة التي بسطنا تفصيل حوادثها في رواية روكامبول في السجن وألقى نفسه من النافذة إلى النهر مع ميلون ذهب به توا إلى تلك الغرفة وهو يقول لرفيقه: إنهم دون شك لا يبحثون عنا في هذا المكان.
ومن أخلاق أهالي لندرا، بل الإنكليز عامة عدم الفضول، فإن المرء لا يهتم إلا بمشاغله، وإن العائلة قد تجاور العائلة في منزل واحد أعواما دون أن تتعارفا.
وبعد ثمانية أيام من إقامتهما في هذه الغرفة، اشترى ميلون مكتبة في محطة شانج كروس، فأقام فيها، ودخل روكامبول إلى مكتب المحامي، فكان يذهب إلى عمله في الساعة السابعة من كل صباح، وروكامبول في الساعة الثامنة.
وفي الساعة السادسة ينصرف روكامبول من المكتب فيذهب إلى ميلون ويسير به متنزها، إلى زمن العشاء، فيتعشيان ويعودان إلى الغرفة قبل انتصاف الليل.
ففي اليوم الذي عرف فيه البوليس روكامبول وكتب عنه إلى الأسقف بترس توين، كان روكامبول خارجا من المطعم مع ميلون في الساعة التاسعة وقد تأبط ذراعه وسار وإياه يتحدثان.
فقال له ميلون: أرأيت هذا الشخص الذي كان يتعشى في الفندق على المائدة المقابلة لمائدتنا؟ - نعم، وأظنه أحد المستخدمين. - نعم، وأنا أظنه جاسوسا من الفرنسيين، فقد رأيته في باريس، وقد رأيت منه ما رابني، وأخاف أن يكون جاسوسا علينا. - أتظن ذلك؟ - بل أؤكد.
ثم ضغط على يده وقال: انظر.
والتفت روكامبول دون أن يتوقف عن السير وقال: لقد أصبت، فإنه يقتفي أثرنا فهلم نلهو به قليلا فليس لنا ما نعمله الآن وأسرع الخطى.
فقال ميلون: إني كنت أؤثر أن نتخلص منه. - هذا الذي سنفعله وسوف ترى .
وقد كان روكامبول متنكرا أتم التنكر بحيث إن رجال عصابته أنفسهم لم يعرفوه.
وكذلك ميلون فقد كانت ملامحه تدل على أنهما من الإنكليز.
وكانا يسيران وهذا الرجل يتبعهما وميلون مضطرب البال.
فقال روكامبول: إني لا أنكر أن هذا الرجل جاسوس علينا، ولكني أريد أن أتحقق فإن بوليس لندرا يعتقد في اعتقادين مختلفين: أحدهما أني مت تحت أنقاض الدهليز، والآخر أني غير مقيم في لندرا، ولذلك لا أخشى غير رجل واحد وهو السير بترس توين، وكيف يعتقد هذا الأسقف أني الرجل العبوس وهو يحادثني كل يوم ويمتثل لي في كل ما أرتئيه. - ولكن انظر فإنه لا يزال في أثرنا. - سوف ترى فادخل معي إلى هذا الدكان لشراء سكاير.
فدخلا إليها وعندها رأيا الرجل قد انتقل من رصيف إلى آخر وظل واقفا بإزاء الدكان إلى أن خرجا منها، فلم يعد شك لدى روكامبول وذهب توا إلى الرجل فرفع النظارة عن عينيه، ونظر إليه تلك النظرات المكهربة، وقال له باللغة الفرنسية: ما تفعل أنت في لندرا؟
فاضطرب الرجل لتلك النظرات وقال: أسألك العفو يا سيدي فإني أشتغل بما يقوم بأودي. - إنك فرنسي مثلنا؟ - نعم ... - إذن، لم تتجسس أحوالنا وتقفو أثرنا؟ أيطيب لك أن تخدم الأغراب على مواطنيك؟
فتلعثم الرجل وقال: إنهم يدفعون لي جنيها كل يوم لأقفو أثركما وأنا معدم فقير. - من الذي يدفع لك بهذا السخاء؟ - هو بوليس سري يدعى سكوتوي.
وكانت نظرات روكامبول ومباغتته لهذا الجاسوس قد أثرت به تأثيرا عظيما فقال له: أتعرف من أنا؟ - كلا، ولكن يظهر أنك الرجل العبوس الذي فر من سجن نوايت. - هو ذاك.
ثم مد يده إلى جيبه فأخرج قبضة من الذهب فدفعها إلى الجاسوس وقال: خذ هذا المال فهو يغنيك الآن عن إيذاء مواطنيك وانصرف.
فاعتذر الجاسوس وأخذ المال وانصرف.
أما روكامبول فإنه ضحك وقال لميلون: بورك بهذا الجاسوس الذي يبوح بكلمة عما يعلم.
ثم واصل السير مع ميلون.
فقال له ميلون: أرى أنك تريد العودة إلى الغرفة، وعندي أن المبيت فيها خطر. - لماذا ؟ - لأن البوليس بات عارفا بأمرنا.
فأجابه روكامبول ببرود: إن البوليس لا يعلم شيئا عني، ولا أكترث للبوليس.
فقال له ميلون بلهجة المستسلم: إن هذا سيان عندي فقد تعودت أن أذهب معك حيثما ذهبت.
ثم سار الاثنان حتى وصلا إلى الغرفة فنزع روكامبول شعره المستعار، وعاد إلى هيئته الأصلية.
أما ميلون فإنه أشعل سيكارة وذهب إلى النافذة فجعل يدخن، وهو على فرط استسلامه لا يزال مضطرب البال.
وفيما هو يدخن مسترسلا إلى هواجسه حانت منه التفاتة من النافذة فاضطرب وتراجع منذعرا إلى الوراء.
وكان روكامبول قد رآه فقال: ما حدث؟ - حدث أنهم طوقونا، ولا أجد مناصا هذه المرة.
فقام روكامبول إلى النافذة فرأى كثيرا من الجنود يطوقون المنزل.
فابتسم ابتسام الاستخفاف، أما ميلون فإنه قال بلهجة القانطين: لقد قطع كل رجاء.
17
وقد رأى القراء كيف أن الأسقف بترس توين لم يضع الوقت سدى، فإنه بعد أن اجتمع ببوليسه على ما تقدم خرج مسرعا إلى ناظر الحقانية وأخبره بما أبلغه إياه البوليس.
ثم ذهب إلى مدير سجن نوايت، وكان هذا المدير المنكود الذي لم يكن يلقى غير باسم الثغر طلق المحيا قد انقلبت سحنته بعد فرار الرجل العبوس من سجنه، فبات شديد السويداء كثير الهم والتفكير.
فلما زاره الأسقف قال له المدير: ألعلك جئت يا سيدي لتأنيبي على فرار ذلك الشيطان الرجيم، فإن كان ذلك يا سيدي، فقد كفاني ما لقيت، فإن الرجل الذي كنت أحسبه من الأشراف قد قيدني كما يقيد المجرمون، وإن هؤلاء الإرلنديين كادوا ينسفون السجن بي وبعائلتي، حتى إني أدفع كل مالي في سبيل القبض على هذا المجرم الأثيم.
فابتسم الأسقف وقال: إنه سيعود إليك دون أن تدفع درهما، ولكني أرجو أن لا تعامله هذه المرة بمثل تلك المجاملة. - أضعه في أصفاد الحديد، وأنزع من قلبي معه كل رحمة وإشفاق. - ألا تزال الغرفة التي كان مسجونا فيها فارغة؟
فنظر إليه المدير نظرة المنذهل وأجاب: نعم. - إذن، تعز فسيعود الرجل العبوس إليها في هذه الليلة ويملأ فراغها.
فصاح المدير صيحة فرح وقال: أقبضتم عليه؟ - لم نظفر به بعد، ولكننا سنقبض عليه.
فتجهم وجه المدير بعد هذا الإشراق وقال: واأسفاه إني أخشى أن لا تنالوا منه مرادا فليس هذا الرجل من البشر. - هيئ له السجن، وما تريد من أسباب التعذيب، ورجائي أن أعود إليك به في أقرب حين.
ثم تركه وانصرف دون أن يزيد في الإيضاح.
وقد ركب مركبته وسار توا إلى كنيسة سانت بول، وهناك وافاه البوليس سكوتوي فقال له الأسقف بلهف: ما حدث؟ - إن الرجل العبوس ورفيقه صاحب المكتبة لا يزال البوليس يتعقبهما. - أين هما الآن؟ - في الطريق إلى المنزل. - أتظن أنهما يعودان إليه؟ - دون شك. - وكيف تعلم بعودتهما؟ - إني عينت رقباء يخبرونني حين عودتهما، وفيما هو يقول هذا رأى رجلا قد مر بهما فناداه البوليس وسأله: ألعلك قادم من هناك؟ - نعم. - أعاد الرجلان إلى المنزل؟ - إنهما عادا إليه، فأسرعت لأخبرك.
فاضطرب الأسقف وقال: يجب أن لا نضيع الوقت. - إني أعددت كل شيء يا سيدي فاطمئن. - أين وضعت رجالك الذين تحت أمرك؟ - إني أقمت ستة منهم في خمارة في ذلك الزقاق، فإن صفرت لهم صفيرا اصطلاحيا خرجوا منها في الحال. - وبقية رجالك؟! - إنهم في موضع آخر من الزقاق. - إذن، هلم بنا.
فهمس البوليس عند ذلك بضع كلمات في أذن الرجل الذي أخبره بعودة روكامبول إلى المنزل، فانطلق يعدو كالريح، لتنفيذ ما أمره به.
وبعد ذلك بربع ساعة، كان المنزل الذي يقيم فيه روكامبول قد طوقته الجنود وكان ميلون يتراجع منذعرا ويقول لروكامبول: قضي علينا الآن ولم يبق لنا مناص.
أما الأسقف فإنه لم يكتف بنجاح البوليس ووثوقه من فوزه في مهمته إلى النهاية، بل أراد أن يتولى أمر القبض عليه بنفسه، ولذلك ذهب مع البوليس حتى إذا وصلا إلى المنزل قال الأسقف: أأنت واثق أنه لا يوجد منفذ في هذا المنزل؟ - كل الثقة، وفوق ذلك، فإنه يوجد رجل من رجالنا على السلم. - ولكن الباب الخارجي مقفل؟ - إني أعرف طريقة فتحه. - هل رجالك مسلحون؟ - إنهم مدججون بالسلاح. - إذن، هلم بنا.
فسار الأسقف والبوليس سكوتوي في طليعة الجنود، وبقي قسم من الجند في الزقاق.
ففتح البوليس الباب بمفتاح خاص، وصعد مع الأسقف السلم والجند وراءه إلى الغرفة التي يقيم فيها روكامبول وميلون.
وكان يوجد عند بابها جندي وضعه البوليس للمراقبة، فقال له بصوت منخفض: ألا يزالان في الغرفة؟ - نعم ...
فطرق البوليس الباب فلم يجبه أحد، فهلع قلب الأسقف وقال: إنهما لا يجيبان. - ولكنهما في الغرفة دون شك ألا ترى المصباح الذي هو في الداخل تنبعث أشعته من خلال قفل الباب. - إذن، نكسر الباب؟ - لا حاجة إلى ذلك إن المفتاح فيه.
ثم أمر الجند أن يشهروا سلاحهم، وفتح الباب بعنف وهو يتوقع أن يسمع دوي الرصاص.
ولكنه لم يسمع غير صوت الأسقف قد صاح صيحة ذعر ويأس، لأن الغرفة كانت خاوية خالية والمصباح لا يزال يضيء على المستوقد، وروكامبول وميلون قد اختفيا.
ولا يستطيع قلم أن يصف الذي أصاب ذلك الأسقف من تأثير الخذلان، فإنه بعد أن صاح تلك الصيحة المنكرة، وقف جامدا مبهوتا كالصنم لا يتحرك.
أما البوليس فإنه نادى الرقيب الذي على السلم وقال له: ألم ترهما حين خروجهما من الغرفة؟ - كيف أراهما يا سيدي وهما لم يخرجا منها، إني أقسم لك بشرف الجندية أن باب هذه الغرفة لم يفتح.
فتركه البوليس ونزل إلى حيث كان الجنود، وسألهم عما رأوه، فأكد له بعضهم أنهم رأوا رجلا ضخم الجثة يدخن، وهو واقف عند النافذة.
ورجع البوليس إلى الغرفة، وبحث فيها بحثا دقيقا.
ولم يجد فيها ما يشير إلى وجود منفذ غير خزانة مقفلة، ففتحها فلم يجد ذلك المنفذ.
فوقف مضطربا منذهلا وهو يقول: لا شك أن ذاك الرجل من الأبالسة.
أما الأسقف بترس توين فإنه أفاق من سباته وقال: يستحيل أن يكون هذان الرجلان خرجا من غير هذا الباب.
فقال البوليس: إذا كان ذلك فلا بد أن يكونا باقيين في المنزل. - يجب أن نفتشه تفتيشا دقيقا. - ولكنك تعلم، يا سيدي، أن النظام في إنكلترا لا يجيز مهاجمة المنازل. - تعال معي ودع المسئولية علي.
فخرجا من غرفة روكامبول وطرق باب الغرفة المجاورة، ففتح لهم الذي يقيم فيها.
فقال الأسقف: إننا نبحث عن رجل شرير من أولئك الإرلنديين الذين كادوا ينسفون لندرا في هذه الأيام.
فأجاب: ولكن هذا الرجل لا يكون عندي يا سيدي، فإني من البروتستانت. - لا بأس فأذن لنا بتفتيش منزلك.
ثم أعطاه خمسة جنيهات فكف عن الاعتراض ودخلوا جميعهم ففتشوا المنزل تفتيشا دقيقا فلم يقفوا على أثر.
فزاد اضطراب الأسقف، ولكنه لم يفقد رشده فقال للبوليس: إننا إذا لم نجد هذا الشيطان المريد فلا بد لنا من إيجاد أوراقه.
وقد خطر للأسقف أنه لما كان الرجل العبوس والمستر بريدت واحدا فلا بد أن يكون قرار برسي المسجل في سفارة إنكلترا في باريس موجودا لديه في مكتب المحامي كوكلام، فإذا عثر بهذه الأوراق فلا يعود يخشى الرجل العبوس.
وعند ذلك برح المنزل بعد أن يئس من وجود روكامبول فيه، وذهب مع البوليس توا إلى مكتب المحامي كوكلام.
وكان المكتب مقفلا في تلك الساعة فنادى الأسقف البواب وسأله أن يفتح الباب بأمر ناظر العدلية.
فأبى، فبذل جهده في الحيلة والوعود، ولكن البواب أصر على الإباء وقال: إنه لا يفتح المكتب، ولا يأذن لأحد بالدخول إليه إلا بأمر سيده المحامي.
فأمر الأسقف البوليس أن يحيط المكتب بجنوده وينتظر إلى أن يعود، وذهب مسرعا إلى بيت المحامي كوكلام.
وكان المحامي يعرف منزلة الأسقف حق العرفان، فحكى له الأسقف جميع ما اتفق، وهذا المحامي من أنصار اللادي باميلتون فإنه كان مصفيا لتركتها، كما يذكر القراء.
ولذلك تمكن الأسقف من إقناعه على الذهاب معه إلى مكتبه للتفتيش في غرفة الرجل العبوس عن تلك الأوراق، فإن العثور بها يفيد تلك الأسرة التي يتولى أمورها.
وبعد ساعة رجع الاثنان إلى المكتب، وبحثا بحثا دقيقا في غرفة الرجل العبوس، أو المسيو بريدت، فلم يجدوا بين أوراقه أثرا لتلك الأوراق، بل وجدوا أن جميع الأوراق الخاصة بقضية اللورد وليم، قد اختفت.
فغضب الأسقف عند ذلك غضبا شديدا حتى إن الزبد كان يخرج من شدقيه، وخرج من المكتب خروج القانطين.
فلما دخل إلى الشارع وهو لا يكاد يبصر ما حوله لفرط غيظه، جاءه رجل وأعطاه رسالة وقال له: إن رجلا لقيه في الطريق، فعهد إليه أن يسلمه إياها.
فأخذ الأسقف الرسالة ففضها بيد ترتجف وتلا ما يأتي:
إنك أجهدت نفسك في هذه الليلة، فلم تظفر بالأوراق، ولم يتيسر لك القبض علي، فاسمح لي، على أمل اللقاء القريب، أن أقدم لك فروض التعازي.
الرجل العبوس
فصاح الأسقف صيحة مؤلمة، وقد كاد يذهب عقله من القهر، فإن الرجل العبوس، لم يكتف بما ناله من الفوز بالفرار، بل إنه كتب إليه يهزأ به.
18
ولنذكر الآن كيف تمكن الرجل العبوس من الفرار مع ميلون من تلك الغرفة، بعد أن طوقها الجند، وأصبح الفرار منه ضربا من المحال، فإنه حين قال له ميلون: لقد طوقنا الجند، وليس لدينا سلاح، فلا سبيل للفرار.
فابتسم روكامبول وقال له: خذ هذا المسدس كي تطمئن، ولكن لن تحتاج إليه. - كيف ذلك؟ - إن الوقت يضيق بي الآن عن أن أوضح لك بالتفصيل، ولكن لا بد لي من إخبارك ببعض الأمر كي تكون على بينة فلا تهفو، فاعلم أني كنت أتوقع حدوث ما جرى. - إذا كان ذلك فكيف عدت إلى الغرفة؟ - كان لي بذلك مأرب لا تعلمه. - ولكن الجند قد طوقتنا وسوف يقبضون علينا. - اسكت الآن وأصغ، ألم تر حين وصولنا إلى هذه الغرفة أن رجلا كان يقتفي أثرنا وقد اختبأ الآن عند السلم؟ - كلا. - أما أنا فقد رأيته وهو يقيم الآن وراء الباب. - إذن، سيحول دون خروجنا من الغرفة. - كلا وسوف ترى الآن فاتبعني.
ثم فتح الباب وخرج فتبعه ميلون، ورآهما الرجل الكامن فهم أن يصيح، غير أن روكامبول بادره بإشارة سرية فوجم ودنا منه روكامبول وقال له: أنا هو الرجل العبوس.
فانحنى الرجل ولم يفه بحرف.
وعند ذلك أقفل روكامبول باب الغرفة التي خرج منها، وأبقى المفتاح في قفله، ثم صعد وتبعه ميلون سلما انتهى بهما إلى غرفة لا أثاث فيها فدخل الاثنان إليها.
وكان في تلك الغرفة نافذة عالية مفتوحة تشرف على سطح المنزل فقال روكامبول لميلون: احملني إليها.
فحمله ميلون حتى إذا صار فيها مد له ساقه فتعلق ميلون بالساق وصعد، فخرج الاثنان إلى السطح.
وكانت سطوح ذلك الزقاق متلاصقة، فما زال روكامبول يسير من سطح إلى سطح وميلون يتبعه، حتى انتهى إلى سطح وقف عنده ونقر بيده فوق مكان معين منه ثلاث مرات، ففتحت في الحال كوة في ذلك السطح، فنزل الاثنان إلى غرفة مظلمة، وأقفلت الكوة من نفسها حين نزولهما.
فأجفل ميلون لما رآه من هذه الغرائب وقال: أين نحن الآن؟ - إننا في بيت صديق لي، وأنت تعلم أن لي كثيرا من الأصدقاء. - أهو الذي فتح لك نافذة السطح؟ - كلا بل أنا. - ولكنك قرعت السطح ثلاث مرات. - إني طرقت هذه الطرقات كي أدير لولبا. - إذن، نحن الآن في أمان من كل خطر؟ - دون شك ونستطيع أن نتحدث. - إذن، ستخبرني الآن ماذا فعلت بالرجل الذي كان كامنا لنا عند باب الغرفة حتى أذن لنا بالذهاب دون أن يعترضنا. - ذلك أني عرفت هذا الرجل حين دخولنا إلى الغرفة، فهو من الإرلنديين، ولولا ذلك لخرجت من منفذ سري في الغرفة، فإني كنت أتوقع كل حين هذه المباغتة، وتأهبت لها كل التأهب، فلما أيقنت أن الرجل إرلندي فضلت الفرار من طريق السطح وأشرت إلى ذلك الإرلندي إشارة الرؤساء السرية. - لقد فهمت ولكني أعتقد أننا خاطرنا مخاطرة عظيمة. - هو ذاك ولكني لم أجد بدا من المخاطرة. - ولماذا؟ - لأني أريد أن أبرهن للأسقف أني لا أخافه. - إذا كان ذلك فأنت مصيب، ولكن ماذا فعلت بالأوراق؟ - أية أوراق؟ - أوراق اللورد التي كانت في مكتب المحامي. - إنها ليست فيه، فقد أخذتها في المساء وهي الآن في جيبي.
فتنهد ميلون تنهد المرتاح ثم قال: لكن الأسقف يعلم من أنت. - دون شك. - وهو سيرسل أوامره إلى لندرا للقبض على مرميس.
فابتسم روكامبول وقال: لا تخف، فلا تصاب عصابتي بسوء، وأنا في قيد الحياة.
19
أما الأسقف فإنه بعد أن اطلع على الرسالة التي كتبها إليه الرجل العبوس، مزقها وألقى بها مغضبا إلى الأرض، ثم لم يلبث أن أخمد نار غيظه وجعل يمعن الفكرة في ما صار إليه، فقال في نفسه: لم يبق شك أن الرجل العبوس يتولى شأن اللورد وليم، ولا يجب التهامل لحظة مع مثل هذا الخصم الشديد.
وماذا صنع بي هذا الرجل خلال انخداعي بإخلاصه وثقتي به.
إنه أقنعني بوجوب إخراج اللورد وليم من المستشفى، فامتثلت له وهو الآن سائر في طريق إرلندا.
وهناك ينجو بسهولة من جوهن بيل، ويعود بملء السكينة إلى لندرا. إذن، يجب أن أهتم بالقبض على اللورد في القريب العاجل.
ولما أقر على هذا القرار نظر إلى البوليس سكوتوي وقال له: يجب عليك أن تسافر الليلة. - إلى أين؟ - إلى إرلندا. - وماذا يجب أن أصنع فيها؟ - تلقي القبض على ثلاثة، أحدهم مدير مستشفى بدلام، والاثنان من المجانين. - إني أعرف شيئا من أمر هذا المدير، أما هو جوهن بيل؟ - هو بعينه. - ولكن لا يصحبه اثنان كما تتوهم بل أربعة. - كيف عرفت أنه يصحبه أربعة؟ - عرفته من أحد رجالي فقد كان في المحطة حين سفرهم وأحد هؤلاء الأربعة السير أرثر وهو صاحب حبل المشنوق. - هو ذاك، ويجب أن تسافر في الحال إلى إرلندا، وتقبض عليهم جميعا. - وماذا أصنع بعدها هل أعود بهم إلى إرلندا؟ - كلا بل تضعهم في مستشفى دبلين وترجع إلي، فنعود إلى البحث عن الرجل العبوس. - ولكني لا أرى حاجة للذهاب إلى إرلندا فإن البواخر التي تسافر من لفربول إلى دبلين لا بد لها من الوقوف في جزيرة مان، وجوهن بيل لم يسافر إلا من ساعة، بل ربما كان باقيا في الميناء. - إني لم أفهم قصدك. - قصدي هو أن ترسل تلغرافا إلى قومندان ميناء تلك الجزيرة، فيوقف المركبة المقلة جوهن بيل ورفاقه عن السفر، إلى حين صدور أوامر جديدة. - وأية فائدة لنا من ذلك؟ - فائدتنا أنه يوجد في جزيرة مان مستشفى للمجانين، من يدخل إليه لا يخرج منه، ثم إننا قد نجد في دبلين من الخطر ما لا نجده في تلك الجزيرة. - كيف ذلك؟ صرح لي. - إني عارف بحقيقة الأمر يا سيدي، فإن الذي يهمك القبض عليه من أولئك الخمسة هو اللورد وليم دون سواه، وإن لهذا اللورد الآن نصيرا من أشد الأنصار. - بل هو شيطان في صورة إنسان. - وإن هذا الشيطان يا سيدي من زعماء الإرلنديين كما تعلم، فلا بد أن يكون له كثير من الأنصار في إرلندا. - دون شك. - وإن دبلين عاصمة إرلندا، فلو سافر اللورد وليم إليها، لما عدم الرجل العبوس واسطة، تمكنه من إنقاذ اللورد وليم، بواسطة الإرلنديين.
وإن هؤلاء الإرلنديين مستخدمون في جميع المصالح وبينهم كثيرون من رجال البوليس. - ولهذا أرى أن الأفضل أن يقبض عليهم في جزيرة مان. - وأنا أرى رأيك. غير أنه لا بد، لإيقاف الباخرة في الميناء، من صدور أمر ناظر البحرية، وكيف يتيسر لنا الحصول على هذا الأمر في مدة ساعة؟ - بواسطة السير أرشيبالد فإنه من كبار رجال البحرية.
فقال له الأسقف: لقد أذكرتني ما كانت ناسيا، وها أنا ذاهب إليه لفوري. - أما أنا فإني واثق من حصولك على هذا الأمر، ولذلك سأذهب لفوري أيضا إلى المحطة وأسافر إلى ليفربول.
ثم افترق الاثنان.
وركب الأسقف مركبته، وسار بها مسرعا إلى قصر باميلتون، حيث كان يقيم السير أرشيبالد.
أما البوليس فقد سار إلى المحطة.
وكانت الشمس عندئذ قد تعالت، والباخرة المقبلة لجوهن بيل خارجة من حوض ليفربول.
20
ولنبرح الآن لندرا إلى ليفربول، حين صعد جوهن بيل ورفاقه إلى الباخرة.
ويذكر القراء أنه بعد أن رفعت الباخرة مرساها، وبعد أن قرأ مرميس في الجريدة ما كتبه له روكامبول ذهب لمقابلة الربان فحياه وقال له: إني أدعى يا سيدي السير أرثر.
فانحنى الربان دون أن يجيب. - وإني يا سيدي ابن أخ اللورد ويلموت، ولا بد أن يكون أحد أصدقاء عمي قد كتب إليك يوصيك بي أليس كذلك؟ - هو ما تقول يا بني. - وإن لهذا الرجل الذي أوصاك بي اسما، لا أجد فائدة من التصريح به . - لقد عرف كل منا الآخر وهذا يكفي، فأذن لي الآن أن أراقب سير الباخرة حين خروجها من الحوض.
ثم تركه وانصرف.
فقال مرميس في نفسه: إنه قليل الكلام، ولكن دلائل صدق العزم بادية بين عينيه بحيث إني واثق من إمكان الاعتماد عليه.
وصفرت الباخرة ثم سارت في الحوض، فلم تسر هنيهة، حتى أمر الربان بإيقاقها.
فشعر مرميس أن السفينة قد وقفت بعد سيرها، وأسرع إلى الربان وقال: ماذا حدث؟
فأشار الربان بيده إلى المنارة وقال: انظر. - ما هذا؟ - إشارة تأمرنا بإيقاف الباخرة. - لماذا؟ - لا أعلم بعد، ولعل ذلك نبأ برقي وارد من لندرا.
فاصفر وجه مرميس، أما الربان فإنه ابتسم ابتسامة معنوية وقال له: لا تخف شيئا. - بل إني أخاف كل شيء، فقد يمكن أن يكون ذلك النبأ أمرا صادرا إليك وهو بإرجاعنا إلى البر.
وقد يكون الأسقف بترس توين استصدره، فإذا كان ذلك فقد ضاع كل رجاء.
فلم يجبه الربان بشيء بل أخذ نظارته وجعل ينظر بها إلى الميناء.
وبعد هنيهة خرج قارب من الميناء وسار إلى جهة الباخرة، ولم يمر نصف ساعة حتى وصل إليها.
وأخذ الربان التلغراف من الذي جاء بالقارب، فنظر فيه وقال لمرميس: إن هذا التلغراف ليس لي بل هو لك.
فأخذ مرميس التلغراف بلهف وفضه، فوجده ممضيا بتوقيع بريدت، فإن روكامبول كان قد سبق الأسقف كما نرى.
أما التلغراف فقد كان متضمنا ما يأتي:
افتضح أمر بريدت وهو في أمان، ولكن الأسقف على حذر ... فاحذروا أنتم أيضا، وستردكم تعليماتي.
بريدت
فلما قرأ مرميس الرسالة قال: إنها لا تدل على شيء وتدل على كل شيء في حين واحد.
وبعد مداولة الربان مع مرميس استنتجا أن الأسقف بترس توين عرف الرجل العبوس وأنه بات واثقا من خطئه بتسهيل خروج اللورد وليم من مستشفى بدلام، فهو دون شك قد اتخذ التدابير اللازمة لمنع اللورد وليم من الوصول إلى لندرا.
فقال الربان: إني أؤثر أن يكون الأمر كذلك، فلنسافر الآن إذ لا بد لنا من السفر. - وما كنت تفعل لو كان هذا النبأ واردا من الأميرالية، يتضمن إرجاعنا إلى البر؟ - كنت أعصي الأميرالية.
ثم تركه وانصرف إلى مراقبة السفينة.
21
ولنعد الآن إلى البوليس سكوتوي، فقد كان هذا الرجل من أمهر رجال البوليس السري وأشدهم حذقا، ولم يغلبه إلى الآن غير روكامبول، ولكنه تعزى لخيبته، وعلل نفسه بالأخذ بالثأر، فركب القطار من لندرا إلى ليفربول.
ولبث تلك المدة الفاصلة بين المدينتين، وهي اثنتا عشرة ساعة، على أحر من النار.
فلما وصل إلى لفربول استقصى عن مدير مستشفى بدلام، فعلم أن الباخرة قد أقلعت به وبرفاقه في الصباح، وأنها وصلت إلى جزيرة مان، ولا تزال راسية فيها.
وذهب إلى إدارة التلغراف، فعلم منها أن الأميرالية البحرية أرسلت إلى قومندان ميناء الجزيرة هذا التلغراف الوجيز:
أوقفوا، إلى حين صدور أوامر جديدة، الباخرة التي يدعى ربانها روبرت والاس، وراقبوا جميع المسافرين فيها.
فلما اطلع البوليس على التلغراف قال في نفسه: إن الأسقف لم يضع الوقت سدى فلأقتد به.
وعند ذلك عزم على السفر إلى تلك الجزيرة، ولكنه لم يجد باخرة مسافرة إليها.
فاستاء كل الاستياء من هذا التأخير، لأنه كان واثقا أن الرجل العبوس يعمل في لندرا على تخليص اللورد وليم، وأنه لا بد أن يكون أرسل تعليماته إلى ركاب السفينة.
وكان البحر شديد الاضطراب، ولولا هياجه لكان سافر على قارب صغير غير مكترث للأخطار.
ولكنه لم يجد نوتية يجسرون على السفر إلى الجزيرة بالقوارب، في مثل هذه الأنواء الثائرة، فلم يجد بدا من الصبر إلى صباح اليوم التالي.
ثم ذهب إلى خمارة في الميناء، كان يتردد إليها البحارة، فأقام فيها إلى أن يحين وقت الرقاد.
وفيما هو جالس يشرب شيئا من الخمر، دخل نوتي جثل الشعر لوحت وجهه الشمس، فبات لونه كألوان أهل الشرق، فطلب زجاجة شراب، فلما شرب الكأس الأول التفت إلى الحاضرين وقال: إني مسافر الليلة على سفينتي إلى جزيرة مان فهل بينكم من يريد السفر؟
فارتعش البوليس ولكنه لم يفه بحرف.
وكان أحد النوتية جالسا يشرب مع رفاقه ، فلما سمع صوت الرجل قال: هذا أنت يا بنيتن؟ - نعم، وقد أتيت أشرب كأسا قبل سفري علي أجد في الخمارة من يود السفر. - إلى أين أنت مسافر؟ - إني مسافر إلى إرلندا. - متى؟ - بعد ساعة. - أتسافر على سفينتك فكتوريا؟ - نعم، إنها صغيرة كما تعلم ولكنها تقاوم الأمواج كالمدرعات. - ولكن البحر شديد الاضطراب الليلة. - هو ذاك، غير أن اضطراب البحار لا يروع أمثالي، وأنت تعرف مهارة بحارتي، وفوق ذلك فإني مضطر أن أسافر الليلة إلى جزيرة مان لأشغال خطيرة، والريح موافقة فإنها تهب من الشمال الشرقي. - إني أرجو لك سفرا سعيدا موفقا، ولكني لست من المسافرين.
فأفرغ النوتي بقية الزجاجة في كأسه، فشرب ما بها ثم حيا الجماعة وهم بالخروج.
فاستوقفه البوليس سكوتوي عند ذلك، وقال له: أحقيقة أنك مسافر الليلة؟ - دون شك. - أتذهب إلى جزيرة مان؟ - نعم يا سيدي. - كم تأخذ مني أجرة سفري في سفينتك؟ - جنيهين ونصف. - إذن، أسافر معك، وهذه الأجرة أدفعها لك سلفا.
فقال النوتي: إذا كان ذلك فهلم معي الآن، وهات أمتعة سفرك. - ليس لدي غير هذه الحقيبة.
ثم أخذ حقيبته وخرج من الخمارة في أثر النوتي، وكان النوتيون يعجبون لجرأته النادرة، فإن البحر كان شديد الاضطراب وهو يسافر مسافة شاسعة في فلك صغير.
وبعد ذلك بساعة كانت تلك السفينة تخترق عباب الريح، وترقص فوق الأمواج.
وكان البوليس ممسكا بحبال السفينة حذرا من أن تقذفه الرياح إلى البحر لشدتها، والربان وبحارته يراقبون سير الفلك، دون اكتراث للأخطار.
غير أن هذا البوليس لم يلبث أن ندم، لشدة ما لقيه من العناء، وفيما هو على ذلك دنا منه رجل كان نائما في أرض السفينة وقال له: ألا ترى يا سيدي أن البحر شديد الاضطراب وأننا في خطر؟
فارتعش سكوتوي وذكر أنه سمع ذلك الصوت.
ولكنه لم يذكر أين، وحاول أن يرى وجه محدثه، فحال دون ذلك اربداد الظلام.
22
ثم دنا الرجل المجهول من البوليس حتى التصق به ووضع يده فوق كتفه، فخيل للبوليس أنها يد من حديد وقال له : ماذا تريد مني؟ - إني مسافر في هذه السفينة مثلك، وقد رأيت اضطراب البحر فجئت أسألك رأيك. - عن أي شيء؟! - أتظن أن هذه السفينة الصغيرة، تتحمل مواصلة السير وتستطيع بلوغ الميناء؟ - لا أعلم.
ثم قال في نفسه لا شك أني سمعت هذا الصوت، ولكن أين؟!
أما الرجل فعاد إلى الحديث وقال: يظهر لي أنك غير خائف. - ومم الخوف فإن حياتنا بيد الله؟!
فضحك الرجل بسخرية وقال: أتعتقد أنت بالله؟! - ولماذا لا أعتقد به؟! - لأنك تمتهن مهنة لا تنطبق على إرادته، ولا يمتهنها من يعتقد به.
فرجع البوليس خطوة إلى الوراء منذعرا وقال: ماذا تعني بذلك ...؟
فأجابه بلهجة الهازئ: أعني أنك من رجال البوليس الذين يشتغلون بالجاسوسية. - وإذا كان ذلك، ماذا يعنيك أمري؟ - إنك اكتشفت أول أمس اكتشافا جميلا في لندرا يدل على توقد ذكائك.
فاستدل البوليس من هذه الكلمات على كل شيء، وحاول أن يتخلص من الرجل وقال له: انظر إلي فلعلك تعرفني الآن.
فلم يكد البوليس يراه، حتى صاح صيحة ذعر، وقال: الرجل العبوس. - نعم، هو بعينه، وقد أيقنت يا سيدي أنك دون ما بلغته من الشهرة، فقد قيل عنك إنك من أذكياء رجال البوليس، ولكنك سقطت في الفخ الذي نصب لك دون احتراس.
فذعر البوليس ذعرا شديدا، وجعل يصيح مستغيثا ...
فأسرع إليه الربان وقال: ما حدث ...؟
أما روكامبول فإنه أشار إلى الربان وقال للبوليس: لا بد أن تكون عرفت أيضا هذا الرجل النوتي الذي تستجير به، فإنه صاحب المكتبة في المحطة، أي ميلون.
فاسطكت أسنان البوليس من الرعب، وأيقن أنه بات مقضيا عليه.
وعند ذلك جعل روكامبول وميلون يتحدثان بلغة لم يفهمها البوليس حتى إذا فرغا من حديثهما، التفت روكامبول إلى البوليس وقال له: إني مخيرك الآن في أمر. - بم تخيرني؟ - بالطريقة التي تريد أن تموت فيها، ثم أخرج مسدسا من جيبه فصوبه إليه وقال: أتريد أن أقتلك بالرصاص، أم تؤثر أن ألقيك في البحر، فتأكلك الأسماك؟
فجثا البوليس على ركبتيه وقد ملئ فؤاده رعبا وقال: ألتمس منك العفو يا سيدي عن حياتي ، فلي امرأة وبنون لا معين لهم سواي.
فضحك روكامبول وقال: لنفترض أنك تمكنت من القبض علي تلك الليلة ألعلك كنت ترجع عن الذهاب بي إلى سجن نوايت، حين لا يكون جزائي فيه غير الشنق.
فلبث البوليس راكعا وقال: العفو والرحمة يا سيدي. - إنك تعرف المثل القائل: اقتل الذئب خيرا من أن يفترسك، ولكني أقول: إني على فرط إساءتك إلي لم أحمل عليك حقدا، ولم أضمر لك شرا، ولكني إن أبقيت عليك أخطأت خطأ لا يغتفر، وندمت أشد الندم. - أقسم لك يا سيدي أنك لا تخطئ ولا تندم. - أيها الغاشم أتحسب أني أغتر بأقسام أمثالك؟ - إني أقسم لك يا سيدي حلفة صادقة أنك إذا عفوت عني لا أسيء إليك في حياتي، ولا أكون عليك في شأن من الشئون.
فعاد روكامبول إلى المحادثة بتلك اللغة السرية مع ميلون كأنما يتشاوران، وبقي البوليس راكعا ينتظر القضاء عليه.
إلى أن فرغ من المحادثة فقال روكامبول: إنك تدعى جاك سكوتوي، أليس كذلك؟ - نعم يا سيدي. - وأنت من رجال البوليس السري؟ - نعم. - إذن، لا بد أن يكون لديك أوراق تثبت وظيفتك. - نعم. - ولا بد أيضا، أن يكون لديك كتاب توصية، من الأسقف بترس توين. - نعم ... - إذن، هات هذه الأوراق وهذا الكتاب. - وإن أعطيتك إياها يا سيدي، أتعفو عني؟ - إن العفو عنك منوط بك، فأعطني الأوراق الآن.
ففتح البوليس سترته، وأخرج من جيبه محفظة ودفعها لروكامبول، فأخذها روكامبول وقال لميلون: احرص على هذا الرجل.
ثم اقترب من المصباح، ففتح المحفظة وجعل يفحص ما فيها من الأوراق.
23
وكانت هذه المحفظة محتوية على أوراق كثيرة، كل واحدة كافية لإثبات مهمة البوليس سكوتوي وبينها جواز غريب في بابه، وهو الذي كان يبحث عنه روكامبول ...
لأنه جواز سري مكتوب على ورق أصفر، وفي وسطه صليبان رسما بالحبر الأحمر، وقد كتب تحتهما بحبر بنفسجي هذا الحرفان ر. ب فكان للبوليس سكوتوي بفضل هذا الجواز، سلطة لا حد لها، إذ كان يستطيع به أن يذهب إلى حيث شاء، ويجمع قدر ما يشاء من أولئك الرجال، ذوي الملابس السوداء المنتمين إلى الجمعية الإنجليكانية، برئاسة الأسقف بترس توين.
فلما فحص روكامبول هذا الجواز، وضعه في جيبه وعاد إلى سكوتوي، الذي كان يخفره ميلون، ولم يكن ميلون ينتظر غير إشارة من روكامبول كي يحمله ويلقيه في البحر.
أما روكامبول فإنه التفت إلى سكوتوي وقال له: إن الموقف خطير، وإن سلامتك موقوفة على صدقك في القول. - سل يا سيدي ما تشاء أجبك. - أبدأ بسؤالك: إلى أين كنت مسافرا؟ - إلى جزيرة مان. - بأية مهمة؟ - بمهمة القبض على جوهن بيل، مدير مستشفى بدلام ومن معه من المجانين ... - وبعد ذلك؟ - أضعهم في مستشفى المجانين في جزيرة مان وأدعهم فيه. - ألم تكن متفقا مع الأسقف على أن تكتب إليه حين تقبض عليهم؟ - نعم ... - إذن، تعال معي، واكتب إليه رسالة أمليها عليك.
فلم يجد البوليس بدا من الامتثال حذر القتل، وجلس حيث أمره روكامبول، فأحضر له ميلون أدوات الكتابة وأعطاه إياها.
فقال البوليس لروكامبول: إني سأكتب كل ما تمليه علي، ولكن كتابتي ستكون مضطربة لشدة هياج البحر.
فابتسم روكامبول وقال: لا تهتم بذلك واكتب.
فأخذ القلم وكتب بإملاء روكامبول ما يأتي:
سيدي الأسقف ...
إن جوهن بيل واللورد وليم، وبقية الرفاق قبض عليهم، ولكني لا أعود الآن إلى لندرا، فإن جوهن مجنون، ولا ريب في جنونه، غير أن جنونه منحصر في كنوز أجداده وهذه الكنوز موجودة حقيقة فلا أستطيع الإيضاح أكثر من ذلك الآن ...
إني أكتب إليك هذه الرسالة وأنا في سفينة صغيرة تتقاذفها الأمواج وهي ذاهبة إلى لندرا ...
وقد قضيت المهمة التي انتدبتني إليها فبت حرا، ولكني أحب أن أقترح عليك أمرا، وهو أني واثق من إيجاد تلك الكنوز المدفونة التي يبحث عنها جوهن بيل، فهل تريد أن نقتسمها بيننا؟
إذا راقت لك القسمة فاركب أول باخرة مزمعة على السفر، واحضر بها إلى كورك، فإن حضرت فإنك تجد في مينائها فندقا عنوانه زنبقة الحقل، وإني أنتظرك فيه.
خادمك المطيع
سكوتوي
ولما فرغ من كتابة الرسالة قال له روكامبول : إنك مصطلح دون شك على أن تضيف إلى توقيعك علامة سرية. - هو ذاك ... - إذن، ضع هذه العلامة، واحذر أن يجول في خاطرك خديعتي فلا يكون جزاؤك غير الموت.
ثم أشار روكامبول إلى عرض البحر وقال للبوليس: انظر إلى هذا النور المتألق في البحر، إنه نور سفينة خاصة بالإرلنديين، وكلهم مخلصون لي، وستأتي إلينا عند الصباح فيأخذك ربانها ويحبسك في عنبرها إلى أن يرد تلغراف يشير إلى أن الأسقف بترس توين برح لفربول إلى إرلندا، وعلى هذا فإن كان توقيعك صحيحا فلا بد للأسقف أن يحضر، وإن لم يحضر كان التوقيع مزورا فتصبح طعاما للأسماك.
فأخذ البوليس القلم دون أن يجيب، ورسم تحت توقيعه صليبين.
فقال له روكامبول: لقد أحسنت، فاكتب الآن العنوان.
فامتثل البوليس، وعند ذلك، أخذ روكامبول الكتاب ووضعه في جيبه.
وظلت السفينة سائرة، إلى أن أشرق الصباح، فرأى روكامبول تلك الباخرة التي أخبر عنها روكامبول البوليس، وأمر أن يشير لها براية بيضاء، ولم تكد تمضي ساعة حتى التقتا فنقل البوليس إليها، وسجن في عنبرها.
ووصلت سفينة روكامبول سيرها إلى جزيرة مان، وقال روكامبول لميلون: لقد ظفرنا الآن، بهذا الأسقف كل الظفر، ولم يبق له مناص هذه المرة.
24
ولنعد الآن إلى الباخرة التي كانت تقل جوهن بيل ورفاقه، فإنها حين وصلت إلى ميناء دوغلاس، في جزيرة مان، وألقت مراسيها، كان أول من صعد إليها ضابط إنكليزي فاجتمع بربانها وقال له: كم عزمت على الإقامة في هذه الميناء؟ - إني أقيم فيها إلى أن يتم نقل الركاب. - ولكني قادم إليك بنبأ من الأميرالية سيغير خطتك.
ثم أعطاه الأمر ففضه الربان وقرأ ما يأتي:
نأمر الربان روبرت والاس أن يبقى في جزيرة مان بباخرته إلى أن ترد إليه التعليمات.
فقال الربان بعد أن اطلع على التلغراف: ولكن يوجد في باخرتي كثيرون من المسافرين إلى إرلندا. - أعرف ذلك. - وهم لا يطيقون الصبر إلى أن ترد التعليمات. - لقد توقعت الأميرالية ذلك، فإنه يوجد الآن باخرة في الميناء متأهبة للسفر إلى دبلين. - ألعلها تنقل المسافرين في باخرتي؟ - هو ذاك ، ما عدا خمسة منهم ... - من هم هؤلاء الخمسة؟ - المستر جوهن بيل مدير مستشفى بدلام، ورجل من المجرمين يدعى ولتر بريس، وآخر من رجال الشرائع يدعى إدوار كوكري، ورجل آخر من الأعيان يدعى السير أرثير. - وهؤلاء أيجب أن أبقيهم في باخرتي؟ - نعم إلى أن ترد أوامر جديدة بشأنهم. - وإن أرادوا أن يخرجوا منها إلى المدينة للنزهة؟ - تأذن لهم بشرط أن تكون مسئولا عنهم. - سأمتثل للأمر، وسأأذن لهؤلاء الذين اخترتهم بالنزهة وتحمل تبعتهم. فودعه الضابط وانصرف.
وكان مرميس واقفا بعيدا عنهما يصغي إلى حديثهما فلما انصرف الضابط دنا من الربان وقال: ماذا حدث؟
فأطلعه الربان على الأمر الصادر من الأميرالية، فلما وقف عليه مرميس قال: ماذا عولت أن تفعل؟ - عزمت على الطاعة والامتثال، فإن الرجل العبوس يشتغل بأمرنا دون شك. - وإن جاء أعوان الأسقف قبل الرئيس؟
فأجابه الربان ببرود: إن اتفق ذلك ننظر حينئذ فيما يجب أن نصنعه.
أما جوهن بيل، فكان يسير على ظهر السفينة ذهابا وإيابا، وقد راعه ما رآه من إطفاء نور السفينة، ووقوفها في الميناء من غير حراك، فدنا من الربان وقال له بعنف: ما هذا الوقوف؟ وما هذا البطء؟ أتظن أن الوقت متسع لدي؟ - إننا ننتظر، يا سيدي، تلك الباخرة الراسية في طرف الميناء فإنها مسافرة قريبا. - ولماذا ننتظرها؟ - لأنها ستجيء إلينا. - لماذا؟ - لنقل الركاب الذي معنا إليها، وتذهب بهم إلى إرلندا.
فاضطرب جوهن بيل وقال: ولكن لماذا لا تنزل إلى دوغلاس، فإنك تعلم يقينا أني أريد أن أستشير فيها تلك المرأة المشهورة بفن التنويم. - سوف تنزل مع رفاقك. - ومتى أستأنف السفر إلى إرلندا؟ - متى فرغت من استشارة تلك المرأة.
وعادت السكينة إلى جوهن بيل وقال: إن كان كذلك فلا بأس من الانتظار.
وبعد هنيهة دخلت الباخرة ونقل إليها المسافرون. •••
ولما تم النقل جاء ربان الباخرة التي نقل إليها المسافرون إلى ربان الباخرة التي نقلوا منها، وقال له باللغة الإرلندية الاصطلاحية: وأنا أيضا وردني تلغراف كما وردك. - ممن؟ - من لفربول وهو وارد إليك .
ثم أعطاه التلغراف وقرأ ما يأتي:
وصلت مع ميلون إلى ليفربول، خبروا مرميس، سيرد إليكم أمر بالبقاء في جزيرة مان، فلا تقلقوا لذلك، إن الأمور جارية خير مجرى.
ر...
ولما قرأ الربان هذا التلغراف دفعه لمرميس فأشرق وجهه بعد انقباضه، وأيقن أن الرئيس ساهر عليهم فقال للربان: أنستطيع النزول إلى البر؟ - دون شك فقد تحملت تبعتكم. - متى ننزل؟ - بعد ساعة.
فاطمأن مرميس خلافا لجوهن بيل فقد غضب لهذا التسويف وقال: إني أرى في جميع ذلك مكيدة هائلة، كادها لي زميلي، كي يستقل في الإدارة، ولكني سأجد كنوزي وأصير لوردا، وعند ذلك أعزله من منصبه شر عزل.
وما زال مرميس يطيب خاطره وهو لا يزيد إلا هياجا، وسوء ظن، حتى أمر الربان بإنزال قارب إلى البحر.
وقال له مرميس: أرأيت يا سيدي أن الربان كان صادقا، وأنه لا أثر للمكائد، فهلم بنا الآن فقد دنا زمن استشارة المنومة التي سترشدنا إلى مواضع الكنوز.
25
ولنرجع الآن خطوة إلى الوراء فقد تركنا السير أرشيبالد والد اللادي باميلتون، منذعرا لما رآه من اضطراب الأسقف، حين علم بوجود الرجل العبوس في لندرا، وأنه كان يخدمه منذ أسبوعين، فلم يستطع من اضطرابه أن يتفكر بما دار بينه وبين الأسقف من الحديث.
غير أنه لما خلا بنفسه، وزالت دهشة ذلك النبأ أخذ يتمعن في حديث الأسقف، ويفحص كل كلمة خرجت من فمه، فذكر أن الأسقف قد أظهر استياء شديدا، حين كان يعتقد أن اللادي باميلتون ذهبت إلى مستشفى بدلام.
وأنه كان يعتقد أيضا أن أسرة باميلتون تحاول نقض ما تعهد به اللورد أفندال للجمعية الإنجليكانية، فقال في نفسه بعد التفكير والتمعن: إن هذا الأسقف لم يسهل للورد وليم سبيل الخروج من المستشفى إلا لخوفه أن تجتمع به اللادي باميلتون.
وإنما خشي هذه المقابلة حذرا من اتفاق الاثنين فيحرم عند ذلك من المال الذي تعهد به له اللورد أفندال، إذن، فلا بد أن تكون هذه المبالغ التي يطمع بها الأسقف ويخاطر من أجلها هذه المخاطرة جسيمة جدا، وإلا لما باع ذمته وضميره بيع السلع.
ولم يكن السير أرشيبالد يعلم قيمة هذه المبالغ، ولم يدر بشيء من مفاد تعهد صهره، فعول على مقابلة الأسقف ومباحثته بجلاء في هذا الشأن.
فإن وجد أن المبالغ جسيمة نقض التعهد، واتفق مع اللورد وليم.
وعند ذلك خرج من منزله وذهب إلى منزل الأسقف فلم يجده فيه، فبحث عنه في كل مكان يذهب عادة إليه فلم يظفر به، فعاد إلى منزله وهو عازم عزما أكيدا على المفاوضة بأتم الجلاء مع هذا الأسقف الطامع.
ولم يكد يستقر في منزله حتى دخل إليه الخادم برقعة زيارة مكتوب عليها هذا العنوان:
الكونتس فاندا
فقال للخادم: من هذه السيدة فإني لا أعرفها؟ - إنها سيدة بارعة في الجمال وهي تلح يا سيدي بمقابلتكم. - إذن، لتدخل.
فخرج الخادم ودخلت فاندا، فخف السير أرشيبالد لاستقبالها، وقد بهر بما رآه من جمال صديقة روكامبول.
وكان السير أرشيبالد في الخامسة والخمسين من عمره، ولكنه كان كثير التأنق، فلا يحسب من رآه أنه قد تجاوز الحلقة الرابعة من العمر.
أما فاندا فقد تأنقت تأنقا عظيما بملابسها حتى باتت فتنة للناظرين، فلما دخلت إلى السير أرشيبالد ورأت من نظراته دلائل الإعجاب بجمالها ابتسمت له ألطف ابتسام، وقالت: العفو يا سيدي فقد تجاسرت بقدومي على زيارتك دون سابق معرفة لأني جئتك بشأن خطير.
فاضطرب السير أرشيبالد للطفها وقدم لها كرسيا ولبث واقفا أمامها وقال لها: ما هي الظروف السعيدة، التي جعلتني أحظى بهذه الزيارة، يا سيدتي؟ - إني أعرف كثيرين يا سيدي يعبثون الآن بك وبابنتك اللادي باميلتون وأولهم الأسقف بترس توين.
فارتعش السير أرشيبالد وقال: كيف ذلك؟ - ويوجد رجل أيضا يهتم بشأنك وهو الرجل العبوس الذي أقام لندرا وأقعدها منذ شهر، وإني قادمة إليك من قبله يا سيدي ...
فأجفل وقال: أنت قادمة إلي من قبل الرجل العبوس؟ - نعم ... فإنه قد برح لندرا في هذا الصباح، وعهد إلي أن أراك.
فزاد اضطراب السير أرشيبالد وقال: اسمحي لي يا سيدتي أن أقول لك إني لا أعرف الرجل العبوس وما رأيته في حياتي . - إني أعرف هذا حق العرفان، ألعلك معجب كيف أنه يرسلني إليك وأنت لا تعرفه؟ - هو ذاك ...
فابتسمت فاندا وقالت: ولكن ... متى أصغيت إلي يا سيدي، يبطل عجبك.
فجلس السير أرشيبالد بقربها وقال: تفضلي إذن يا سيدتي، فإني كلي آذان للسمع.
فتكلفت فاندا هيئة السكينة التامة وقالت: أرجو أن تأذن لي يا سيدي بالقول إني عارفة بحقيقة ولتر بريس، الذي يقول إنه يدعى اللورد وليم.
فاهتز السير أرشيبالد في كرسيه اهتزازا عنيفا، فقالت له فاندا: رويدك يا سيدي، واسمح لي أن أتم حديثي، فإن الرجل العبوس قد أخذ على نفسه الانتصار لهذا اللورد المنكود، ومتى انتصر الرجل العبوس لمظلوم فلا يكون حليفه غير النصر.
فاصفر وجه السير أرشيبالد اصفرارا شديدا، ولكن فاندا لم تكترث له فمضت في حديثها وقالت: ولا بد أن تكون عالما يا سيدي أن المرحوم اللورد أفندال قد عهد بأموره إلى الجمعية الإنجليكانية.
وقد أمضى دون تمعن تعهدا لا يكون بعد تنفيذه غير دمار أسرة باميلتون وتجريدها من معظم ثروتها. - أحقا ما تقولين؟ - كل الحق، فإن الأسقف بترس توين رئيس هذه الجمعية المخطرة وضع هذا التعهد الذي أعطاه إياه اللورد أفندال في مكتب المحامي كوكلام، وكان لهذا المحامي، سكرتير يدعى المستر بريدت، وهو والرجل العبوس واحد يا سيدي. - لقد عرفت ذلك يا سيدتي. - بقي أمر لم تعرفه وهو أن الرجل العبوس قد اختفى فاختفت معه تلك الأوراق التي كانت سلاح الأسقف ضدكم بحيث بات هذا الأسقف دون سلاح.
فاتقدت عينا السير أرشيبالد ببارق من الفرح وقال: أهذا أكيد؟
فابتسمت فاندا وقالت: هذا أكيد لا ريب فيه، ولكن لا تتسرع بالسرور؛ فإنك لا تكسب شيئا من اختفاء هذه الأوراق. - كيف ذلك؟ - إن خصمك قد تغير، ليس إلا، فبدلا من أن يكون الأسقف، صار الرجل العبوس. - ولكن ماذا يريد مني الرجل العبوس؟ - إني قادمة إليك باقتراحاته. - تفضلي يا سيدتي بعرضها علي لننظر فيها. - إن الرجل العبوس يا سيدي تولى رئاسة جمعية أشد بأسا من الجمعية التي يتولاها الأسقف. - ألعله زعيم الإرلنديين؟
قالت: ربما، وقد آلى الرجل العبوس على نفسه أن يبدأ بإطلاق سراح اللورد وليم. - إني لا أعارض في ذلك. - ثم يرد إليه ثروته.
فلم يجب بحرف.
قالت: ثم يرد إليه اسمه ولقبه. - ولكن هذا مستحيل يا سيدتي ... - لماذا؟ - لأن اللورد وليم قد مات في عرف الحكومة والناس. - ولكنه في عرفك لم يمت. - هو ذاك يا سيدتي، ولكن يستحيل رد اسمه إليه. - بل إن الأمر سهل ميسور. - كيف ذلك؟ - بواسطة إقرار الضابط برسي، فإن أوراق إقراره محفوظة وهي مسجلة في سفارة إنكلترا في باريس. - ولكن، هذه الأوراق قد تكون مفقودة. - كلا، يا سيدي، بل هي محفوظة عند الرجل العبوس.
فتجهم وجه السير أرشيبالد وقال: إذن، سيئول الأمر إلى المرافعات في القضايا.
فابتسمت فاندا وقال: إنك منخدع يا سيدي، فإن الرجل العبوس ما تعود أن ينال حقا بواسطة القضاء، وفوق ذلك فهو محكوم عليه بالإعدام في إنكلترا، فكيف يستطيع الظهور أمام القضاء؟ - إن كان ذلك كما تقولين، فما نخاف إذن أنا وابنتي؟ - تخافان من الطرق التي يستعملها الرجل العبوس لنيل حق اللورد وليم، وإن طرقه هائلة في بعض الأحيان.
وكانت فاندا تقول هذا القول بلهجة الوعيد حتى إن السير أرشيبالد خاف وعيدها، فاغتنمت فاندا فرصة خوفه وقالت له: إنك تحب ابنتك دون شك يا سيدي، فاسمح لي أن أسديك نصيحة. - ما هي يا سيدتي؟ - إن أوراق تعهد اللورد أفندال لو بقيت في يد الأسقف لتمكن من تجريد ابنتك من معظم أموالها، ولكنك أنت واسع الثروة، فلا تبالي بخسارة هذه الأموال، ويبقى للادي باميلتون اسمها، ولأولادها لقب أبيهم، والآن فاعلم أنك إن رفضت اقتراحات الرجل العبوس فإن اللادي باميلتون لا تخسر ثروتها واسمها فقط، بل قد تفقد حياتها.
فارتعد السير أرشيبالد وقال: ماذا يقترح هذا الرجل؟ - التخلي عن ثروة باميلتون لصاحبها اللورد وليم. - ولكن هذا محال. - وهو لا يقتصر على استرجاع الثروة وحدها بل يطلب أن تعترفوا بأن اللورد وليم رئيس أسرة باميلتون. - وهذا لا يكون.
فأجابته فاندا ببرود: إن الرجل العبوس أمرني أن أمهلك يومين لتتمعن في اقتراحه، وسأعود إليك بعد يومين.
ثم نهضت وهي تبتسم له ألطف ابتسام، فاضطرب قلبه لابتسامها على ما هو فيه من الشواغل فودعها إلى الباب، وهو منشغل بجمالها.
ولما أصبح وحده وضع رأسه بين يديه، وقال في نفسه: إني أخاف هذه المرأة أكثر مما أخاف الرجل العبوس.
ذلك أنه شعر بعاصفة حب وحشي قد هاجت في فؤاده فشغلته عن ابنته وعن أسرة باميلتون.
26
إن مدينة دوغلاس، وهي عاصمة جزيرة مان، ضيقة الشوارع واطئة المنازل يطوفها السائر فيها بنصف ساعة.
وقد تركنا مرميس وجوهن بيل ينزلان من الباخرة إلى البر، فلما رست السفينة ونزلا، جعل جوهن بيل يسير سير المستعجل، ومرميس في أثره.
فأوقفه مرميس وقال له: أية فائدة من السرعة في السير إذا كنا لا نعلم أين نسير؟ - إننا ذاهبان إلى المنومة. - هو ذاك، ولكن أتعلم أين تقيم هذه المنومة؟ - كلا. - إذن، دعني أستعلم عن مكانها.
وإنما قال مرميس هذا القول لأنه رأى حين نزوله من الباخرة رجلا يتبعه وينظر له نظرات خاصة، فأيقن أن لهذا الرجل شأنا معه، فانفصل عن جوهن بيل، وذهب توا إليه فقال له: أتأذن لي، يا سيدي، أن أسألك سؤالا؟
فابتسم الرجل وقال: سل يا سيدي ما تشاء. - ألا يوجد منومة في دوغلاس؟ - نعم. - أين تقيم؟ - اتبعني أدلك عليها.
وكان جوهن بيل قد سمع الحديث فقال له: إني أكافئك بجنيه على أن تسرع الخطى. - أهي بعيدة؟ - كلا فاتبعاني.
وسار الرجل وجوهن في أثره ومرميس إلى جانبه فقال له الرجل: أأنت الذي يدعونه السير أرثر؟
فابتسم مرميس وقال: إني أدعى في الوقت الحاضر بهذا الاسم. - إذن، خذ هذه الرسالة فقد عهد إلي أن أطلعك عليها. - ما هي هذه الرسالة؟ - تلغراف. - من أين؟ - من لفربول وقد ورد من ساعة.
ففتح مرميس التلغراف وقرأ ما يأتي:
إلى جورج بلاك في دوغلاس
دع المنومة تبقي عندها جوهن بيل، ودع السير أرثر ينتظرني.
الإمضاء «ر.»
فنظر مرميس إلى الرجل، وأشار إليه إشارة إرلندية أجابه بمثلها فقال له مرميس: إن توصية الرئيس لا فائدة منها لأننا أسرى في الجزيرة، ولا بد لنا من البقاء فيها. - إني لا أبالي بأسركم، فلو لم تكن إرادة الرئيس أن تبقوا في الجزيرة لأخرجتكم منها بالرغم عن المستر وجوربيم.
وكان مرميس قد سمع هذا الاسم أول مرة، فقال له: ومن هو هذا الشخص؟ - هو وكيل الجمعية الإنجليكانية في جزيرة مان وسأريك إياه.
فقال له مرميس: إن التعليمات، التي وردت إلي، تفيد أن المنومة من أشياعنا. - هو ذاك. - أهي عارفة حقيقة بفن التنويم؟
فابتسم الرجل وقال: هي كذلك عند الاقتضاء.
وقد كان جوهن بيل يتقدم رفاقه وهو يود لو كان له أجنحة فيطير بها إلى تلك المرأة، ومرميس ومحدثه يسيران جنبا إلى جنب ووراءهما اللورد وليم وإدوارد.
وبعد هنيهة وصلوا إلى تلك المرأة المنومة، فصعد بهم الرجل إليها.
وهناك نقده جوهن بيل ما وعده به من المكافأة، وأطلق سراحه.
وهمس الرجل، في أذن مرميس قائلا: سنلتقي عند الميناء، في هذا المساء.
ثم انصرف.
ثم دخلوا جميعهم إلى تلك المرأة، وهي عجوز شمطاء.
ووجدوها جالسة على كرسي كبير، في غرفة تكاد تكون مظلمة لكثافة ستائرها.
فاستقبلتهم العجوز بلطف وقالت لهم. - ما أسعدني بقدومكم!
فرد جوهن بيل: إننا قادمون إليك للاستشارة. - ألعلكم تريدون معرفة مستقبل مريض؟ - كلا. - أتبحثون إذن عن مفقود؟ - هو ذاك. - إذن، ادفع لي خمسة جنيهات سلفا، وضعها فوق المائدة.
فامتثل جوهن ووضع المال حيث أمرته.
وقالت: والآن اجلس بجانبي، وانتظر إلى أن أنام.
ثم اضطجعت على كرسيها وأطبقت عينيها.
فجعل قلب جوهن ينبض نبضا عنيفا حتى خشي أن يخرج من صدره.
27
إن للتنويم المغناطيسي طريقتين: إحداهما أن المرء القابل للتنويم ينام بضغط منوم خبير، والثانية أن القابل للتنويم ينام من نفسه بمحض إرادته.
ويظهر أن هذه العجوز كانت من أهل الطريقة الثانية، فإنها أغمضت عينيها، ولبثت بضع دقائق دون حراك.
ثم أحنت رأسها برفق إلى جهة كتفها الأيسر، وتحركت شفتاها فتمتمت قائلة: إني أرى.
فكاد جوهن بيل يجن من سروره وقال : أترين؟ - نعم، فسلني عما يجول بخاطرك.
فقال لها المدير: أتعلمين من أنا؟ - نعم، إنك لورد نبيل.
ونظر جوهن إلى رفاقه نظرة انتصار، وقال لهم: أرأيتم كيف عرفت الحقيقة، وكيف أنه يوجد من الكنوز المدفونة ما يثبت أني من اللوردية.
واستمرت العجوز في حديثها فقالت: إنك تبحث عن كنوز. - نعم ... - وهي كنوز مدفونة. - لقد أصبت، ولكن هل أجد تلك الكنوز؟ - ستجدها. - متى؟ - بعد ثمانية أيام. - في أي مكان ألعلك ترين؟ - نعم ...
فاتقدت عينا جوهن وقال: ما بالك ساكتة؟ تكلمي.
فلم تجبه بحرف.
فهمس مرميس في أذنه قائلا: إنها تعبت فاصبر عليها.
فصبر جوهن مكرها على أحر من نار الجمر، إلى أن عادت العجوز إلى الكلام، فقالت: إني أرى وراء عرض البحر أرضا، وهذه الأرض جزيرة. - ألعلها إرلندا؟ - ربما. بل نعم ... نعم إرلندا، وستسافرون وتنزلون في ميناء صغير من هذه الجزيرة واقع في الجنوب. - ألعله ميناء كورك؟ - ربما. - وبعد ذلك؟ - تسيرون في طريق ممتدة وراء الميناء، وتصعدون إلى قمة، وتسيرون نحو ساعتين. - وبعد ذلك أنقف؟ - إنكم تصلون إلى غابة واسعة، زرعت فيها أشجار السنديان منذ قرنين أو أكثر، وهذه الكنوز التي تبحثون عنها مدفونة عند جذع إحدى تلك الأشجار. - أية شجرة؟
فسكتت العجوز وجعل العرق البارد ينصب من على جبين جوهن وأخذ يلح عليها بالسؤال وهي لا تجيب.
فصبر عليها جوهن بإيعاز مرميس إلى أن تستريح.
ثم رآها انتفضت فجأة وعادت إلى الكلام فقالت: أرى بينكم رجلا قد شد حبلا على وسطه.
فدهش جوهن وقال: هذا أكيد. - وأن الحبل حبل مشنوق.
فاضطرب جوهن لهذه الحقائق، وجعل يسير في الغرفة ذهابا وإيابا بخطوات غير موزونة.
فقالت العجوز: وإني أرى بجانب هذا الشخص الذي عقد الحبل على وسطه شخصا آخر، فيجب عليك حين تبحث عن كنوزك أن تصحب معك هذين الشخصين إلى الغابة التي ذكرتها لك.
وكان الرجل الذي أشارت إليه اللورد وليم.
فقال لها: حسنا سأفعل. - إن حبل المشنوق سيفيدك فائدة كبرى، ولكن هذه الفائدة لا تتم إلا إذا دخل إلى الغابة هذان الشخصان، وكان كل منهما ممسكا طرفا من طرفي الحبل. - سيفعلان، والآن قولي لي كيف أستطيع أن أعرف الشجرة التي دفنت تحتها الكنوز؟ - لا أستطيع أن أقول لك اليوم. - لماذا؟ - لأني لا أرى! - إذن، سنبحث تحت جميع أشجار الغابة. - إنك تضيع الوقت سدى، إذ يوجد في تلك الغابة نحو ألفي شجرة وكلها متشابهة.
فظهرت على محيا جوهن علائم اليأس وقال: إذن، كيف نعمل؟ - أنا أرشدك إلى طريقة، وهي أنه يجب أن تدع أحد المجانين يلمس هذا الحبل. - لماذا اخترت أن يكون مجنونا دون سواه؟ - لا أستطيع أن أقول لك ولكن ذلك لا بد منه. - وبعد ذلك؟ - تسافر إلى كورك وتسير في الطريق الذي أرشدتك إليه، ثم تذهب إلى غابة السنديان فتدخل إليها مع الرجلين ويكون كل منهما ممسكا بأحد طرفي الحبل، ويجب عليهما أن لا ينظرا نظرة إلى الأرض بل تكون أبصارهما شاخصة إلى السماء. - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك يعثر أحدهما، فتقف عند المكان الذي عثر فيه، وتبحث تحت أقرب شجرة من الشخص الذي عثر، فتجد تحتها ما تبحث عنه.
فصاح جوهن صيحة فرح صحت لها العجوز، فنظرت إلى من حولها نظرا تائها، إلى أن استقر على جوهن فقالت له: أأنت الذي كان يسألني حين كنت نائمة؟ - نعم. - ألعلك كنت راضيا؟ - كل الرضا. - لا تؤاخذني بسؤالي، فإني حين أستفيق لا أذكر شيئا مما قلته، حين نومي.
فأعطاها جوهن جنيهين وقال: يجب أن نسافر في الحال.
ثم خرج من الغرفة وتبعه رفاقه.
فلما صاروا في الشارع، قال له مرميس: لا أرى الأمر سهلا، كما تراه يا حضرة المدير.
فحملق جوهن بعينيه وقال: كيف ذلك؟
28 - ذلك أنه يجب قبل كل شيء أن تظفر بمجنون يلمس الحبل بيده، كما قالت العجوز. - أليس اللورد وليم معنا؟ - نعم ولكنك تعلم يقينا أنه سليم العقل. - وإدوارد؟ - إنه مثله لا أثر في عقله للجنون. - ولكنه كان مجنونا. - إنما المراد أن يمسك الحبل شخص به مس الجنون، فإذا كان إدوارد مجنونا من قبل فهو الآن سليم العقل. - إذن، ماذا نعمل؟ - يجب أن نبحث عن مجنون. - ذلك سهل أيضا فإنه يوجد في دوغلاس مستشفى للمجانين. - أتعرف مديرها؟ - كلا فإني لم أره، ولم يرني، غير أننا تراسلنا وأن العلائق كثيرة بين مستشفانا في لندرا ومستشفاه. - أتعلم أين هو هذا المستشفى؟ - كلا.
وكان ذلك الشخص الذي أرشدهم إلى منزل العجوز المنومة مارا في ذلك الحين فناداه وسأله أن يرشده إلى المستشفى.
فامتثل وسار أمامهم وهم في أثره.
فلما قربوا من المستشفى وقف مرميس فجأة وقال لجوهن: أتأذن لي يا سيدي بإبداء ملاحظة؟ - ما هي؟ - يجب أن ننهج مناهج الحكمة ونتمعن في كل أمر. - ماذا تعني؟ - لقد قلت لي إن مدير هذا المستشفى لم يعرفك. - هو ذاك فإنه لم يرني ولم أره. - إذن، أصغ إلي أيها الصديق. إنك تعتقد بحبل المشنوق، كما أعتقد أنا به أيضا، ولكن كثيرين من الناس لا يعتقدون هذا الاعتقاد، بل قد يوجد بينهم من يندهش، حين يعلم اعتقادك، وأنت من أطباء المجانين، وفوق ذلك، فإنك متأثر بهذا الحبل، تأثرا عجيبا، يبدو عليك لأول وهلة. - ذلك لأن صبري كاد ينفد، وأود لو طرت بأجنحة، إلى تلك الغابة. - هو ذاك، ولكن مدير المستشفى يندهش حين يرى منك هذا التسرع، وعندي أنه يجب أن تخبره بزيارتك من قبل. - من يتولى إخباره؟ - أنا فإني أشد سكينة منك.
فتنهد جوهن وقال: ولكن ذلك يدعو إلى التأخير. - إنه يؤخرنا ربع ساعة وهو خير من تأخير ثلاثة أيام.
فارتعش جوهن وقال: كيف ذلك؟ - ذلك أن المدير قد يندهش مما يراه من اعتقادك بالحبل، وطلبك أن يمسه مجنون، ويعجب من تأثرك وحكاية كنزك.
فيتزعزع اعتقاده بعقلك، فيكتب إلى إرلندا بشأنك ويبقيك عنده حتى يأتيه الجواب.
فاصفر محيا جوهن وقال: افعل ما تشاء، وادخل وحدك إلى مستشفى المجانين. - أتنتظرني عند الباب؟ - نعم.
فواصلوا سيرهم، وكان الرجل الدليل يمشي بجانب مرميس، فقال له مرميس: ليفعل مدير المستشفى به ما يشاء، أما أنا فإني أجري حسب تعليمات الرئيس. - ما هي تعليماته؟ - هي أن ألقى طريقة أبقي فيها جوهن بجزيرة مان. - ألعلك لقيت الطريقة؟ - نعم، وراقب أنت جوهن بيل لأني داخل وحدي إلى المستشفى.
وكانوا قد وصلوا إلى المستشفى، فوقفوا جميعهم بعيدا، وتقدم مرميس إلى البواب وقال له: هل المدير في المستشفى؟ - نعم يا سيدي. - قل له إذن، إن زميله جوهن بيل، مدير مستشفى لندرا، قادم لزيارته.
فانحنى البواب وتقدم أمام مرميس إلى غرفة المدير، وهو يعتقد أنه جوهن بيل نفسه.
29
كان هذا المدير يدعى وادامان، وهو مناقض أتم التناقض لزميله جوهن بيل، من حيث الطباع والأخلاق؛ إذ كان يشبه أكثر الإنكليز بالسكينة والجمود.
وكان يعتقد أن كل شخص يمشي، لما يجد من اللذة بالمشي، وكل شخص يتكلم دون أن يسفر حديثه عن نتيجة، فهو دون شك، من المجانين.
فلما دخل عليه مرميس كان جالسا على منضدة، عليها كثير من الكتب والأوراق.
فلم ينهض لقدومه بل مد إليه يده مسلما وقال له: لقد آن لنا أن نتعارف بالوجوه يا زميلي العزيز بعد طول تعارفنا بالكتابة.
فأجابه مرميس، بنفس بروده: لقد أصبت، فقد تبودلت بيننا رسائل كثيرة. - ما أسعدني بقدومك فإني لم أكن أتوقع زيارتك! - إني جئتك في مهمة ألتمس قضاءها فإني مسافر إلى إرلندا مع ثلاثة مجانين من مستشفى بدلام.
وإن بينهم شخصا يدعى ولتر بريس قد نال الشفاء تقريبا، وكنت أتمنى أن يتم السفر شفاءه. - ألعله انتكس؟ - وأي انتكاس، فإنه بعد أن خرجنا من لندرا عاوده الجنون، ولكن بشكل غريب فإنه نسي اسمه الحقيقي، وبات يعتقد أنه يدعى جوهن بيل أي أنا.
فلم يضحك المدير وقال: إنك تحسب هذا النوع من الجنون فريدا في نوعه، ولكن قد اتفق منذ ستة أعوام، حادثة تشبه هذه الحادثة تماما في هذا المستشفى، فهل أتيت أيها الصديق تستشيرني في أمر هذا الشخص؟ - بل أتيت أسألك معاونتي فإني مسافر إلى لندرا ولي فيها مشاغل خاصة، فإذا بقي معي هذا المنكود ولتر بريس بعد انتكاسه شغلتني مراقبته عما سافرت من أجله. - إذن، تريد أن أبقيه عندي في المستشفى إلى أن تعود ؟ - هو ذاك، فهل أثقل عليك بهذا الطلب؟ - كلا فأرسله لي. - إني ذاهب لإحضاره. - ألعله في مكان قريب؟ - إنه واقف على الباب، ولا بد لي أن أخبرك بأنواع جنونه قبل إحضاره، فإنه لا يعتقد فقط أنه أنا، بل هو يعتقد أن لديه كنوزا مدفونة، وأنه سيظفر بهذه الكنوز بواسطة حبل مشنوق. - إن هذا الجنون أيضا كثير الشيوع ...
وهم أن يروي له حادثة تشبهها.
فقاطعه مرميس وقال له: إني ذاهب لإحضار هذا المنكود، فهو واقف عند الباب.
ثم خرج مرميس إلى جوهن ووجده ينتظره بفارغ الصبر فقال له: هلم معي فقد أخبرت المدير بقدومك فهو يستقبلك خير استقبال، وتختار أي مجنون شئت من مستشفاه ليمس الحبل كما قالت العجوز.
فدخل جوهن مع مرميس إلى غرفة المدير، فلم ينهض المدير لاستقباله، ولكن جوهن هجم عليه فجعل يعانقه ويقول: ما أسعدني بلقائك، أيها الزميل العزيز!
فرد المدير بمثل تحيته وهو يبتسم. - وإني أحسب نفسي سعيدا باجتماعي بك، لأني سأعتزل المهنة وأنت في منصب الرئاسة. - كيف ذلك؟ - ذلك لأني لورد أيها الصديق وسأغدو من كبار الأغنياء.
وكان من عادة هذا المدير أنه لا يناقض المجانين في شيء من أقوالهم فقال: لقد أخبروني بذلك فأهنئك.
أما جوهن بيل فإنه لم يكن يطيب له غير التحدث بثروته ولورديته وحبله، فقال: إن السير أرثر قد أحضر الحبل الذي طالما بحثت عنه. - من هو أرثر هذا؟
فغمز مرميس المدير بعينه وقال: هو أنا يا سيدي.
فقال له المدير: وماذا تريد أن تصنع بهذا الحبل؟ - أريد أن يلمسه أحد المجانين عندكم. - سأفعل كل ما تريد.
ثم ضغط على زر كهربائي فجاءه اثنان من الممرضين: فقال لهما: سيرا به إلى جوناتهام.
فالتفت جوهن إلى مرميس، وقال له: هات الآن الحبل، فقد قضي الأمر.
فأعطاه مرميس ذلك الحبل الذي شنق به توما.
فسار به مع الممرضين وبقي مرميس مع المدير.
فقال له المدير: إنهما سيصبان عليه الماء البارد، فيهدأ ثائر جنونه.
وعض مرميس شفته، كي لا يضحك، وقال: إنه محتاج إلى هذا العلاج. •••
وكان مرميس باش الوجه، غير أن تلك البشاشة لم تدم، فقد فتح الباب عند ذلك، ودخل أحد الخدم وقال: إن المستر وجوربيم بالباب، يا سيدي.
فارتعش مرميس لسماعه هذا الاسم.
أما المدير فإنه أسرع لاستقباله، فإن هذا الزائر كان وكيل الجمعية الإنجليكانية في الجزيرة.
ودخل الوكيل فقال للمدير: ألم يزرك المستر جوهن بيل مدير مستشفى بدلام في لندرا؟
فدله المدير على مرميس وقال: هذا هو يا سيدي.
فجعل الوكيل ينظر إلى مرميس نظرات الشك، حتى إنه اضطرب لنظراته على كونه تلميذ روكامبول.
ثم بادره الوكيل بالحديث فقال له: أأنت هو المستر جوهن بيل؟
فتشدد مرميس وقال: نعم، أنا هو. - إنك لم تحضر وحدك إلى الجزيرة، بل أحضرت معك مجنونا يدعى ولتر بريس.
فقال المدير: قد أدخلناه الآن إلى المستشفى.
وقال مرميس: أما الآخر فإنه ينتظرني عند الباب.
فأخرج الوكيل دفترا من جيبه فنظر فيه وقال: لقد حضر معك أيضا شخص يدعى السير أرثر فأين هو؟ - إنه ينتظرني مع إدوارد. - إني أحب أن أرى الاثنين.
فنهض مرميس وقال: إني ذاهب لإحضارهما. - حسنا تفعل، ولكن لا بد لي من القول لك إنه وردني تلغراف من لندرا بشأنك، وهذا التلغراف وارد من إدارة البوليس يقضي عليك أنت وجوهن بيل بالسجن مع رفاقك في المستشفى.
فتظاهر مرميس بالدهشة وقال: أنا جوهن بيل مدير مستشفى بدلام يحكم علي بالسجن مع المجانين؟ إنك مخطئ! - كلا، فإن الأمر صريح.
فقال له مدير مستشفى الجزيرة، وقد راعه هذا الحكم: افتكر يا سيدي أن هذا الرجل زميلي وأني لا أستطيع سجنه عندي إلا إذا كان مصابا بالجنون. - هو ذاك، ولكن الأمر الوارد إلي صريح، كما قلت لكم وهذا هو التلغراف:
إن جوهن بيل مدير مستشفى بدلام سافر من لندرا مع مجنونين أحدهما يدعى ولتر بريس، والآخر كوكري، ومع رجل عاطل يدعى السير أرثير فاقبضوا على الأربعة، واسجنوهم في مستشفى جزيرة مان، وألقوا تبعة الاحتفاظ بهم على مدير مستشفى مان، إلى أن يصل إليكم البوليس سكوتوي فيتصرف بهم كيف شاء، ويكون له عليهم مطلق السلطان.
فقرأ مرميس التلغراف أيضا، ثم رده إلى الوكيل وقال: إن الأمر صريح يا سيدي، لا سبيل إلى نقضه، ولكن لا بد لي من أن أوضح لك أمرا تجهله.
فسر مدير المستشفى لقوله وقال: أوضح أيها الزميل العزيز فإني لا أطيق أن أراك متهما بتهمة الجنون.
فابتسم مرميس وقال: إنهم لا يتهمونني بالجنون بل بالمؤامرة مع المجانين.
فقال الوكيل: ماذا تعني بذلك؟
فقال مرميس في نفسه: أرى أن الاثنين يجهلان الحقيقة.
ثم التفت إلى المدير وقال له: إنك تعلم أيها الزميل العزيز أن مستشفيات المجانين يتفق لها كثيرا أن تكون شريكة في جرائم سرية، فإن ولتر بريس هذا الذي يسافر معي ليس من المجانين، أو أنه لم يكن مجنونا حين أدخل إلى مستشفى بدلام. - إذن، لماذا أدخلوه؟ - لسبب سياسي، فإن ولتر بريس حين كان متمتعا بقواه العقلية كان معاديا للشركة الإنجليكانية التي ينوب عنها المستر وجوربيم، ولم تكن الشركة تعلم أن ولتر بريس قد بات مجنونا حقيقة، بل كانت تعتقد أنه لا يزال سليم العقل.
فلما علمت الشركة أني سافرت به حسبت أني أحاول أن أسهل له سبل الفرار فلا بد لي أن أبقى أسيركم إلى أن تتضح الحقيقة فترد أوامر جديدة.
فقال المدير: إني أرجو أن لا يطول زمن انتظار ورودها.
وقال الوكيل: أظنها ترد مع البوليس سكوتوي.
فقال مرميس: متى يحضر البوليس؟ - غدا وربما حضر اليوم. - إنك عالم دون شك يا سيدي، أنهم حين أرسلوا إليك الأوامر بالقبض علي، أرسلوا مثل هذه الأوامر إلى إدارة البوليس وإلى ربان الباخرة التي جئت فيها وإلى قومندان الميناء. - هو ذاك. - ولذلك بات فراري مستحيلا إذا أردته. - لا أظن أنك تحاول الفرار، فإن حقيقة أمرك لا تلبث أن تتضح فيفرج عنك. - إذن، فاسمح يا سيدي أن ألتمس قضاء أمر. - إنه يجاب إن كان في وسعي فعل ما تشاء. - إني تركت عند الباب السير أرثير وإدوار وهو لا يزال مجنونا ولكنه أخذ بالشفاء.
أما السير أرثير فهو بأتم العقل وقد سافر معي طائعا مختارا، وهو الآن يقبض عليه ويسجن مع المجانين. - ما تريد بذلك؟ - إن هذا الرجل صديق لي وهو من الأشراف، وإنما سافر معي لمجرد خدمتي في بعض الشئون، فهل تأذن لي يا سيدي، أن أخبره بما اتفق لنا فأعزيه عن نكبته! - لا بأس فأخبره. - إني مضطر إلى استعمال الحيلة مع إدوار كي أتمكن من إدخاله إلى المستشفى. - افعل ما بدا لك ويقيني أنه لا يخطر لك الفرار ببال فإني أحضرت معي ثلة من الجند وهي تطوق المستشفى.
فابتسم مرميس وقال: أرجو أن تطمئن يا سيدي، فإن الفرار يضيع حقي، وأنا أرجو أن أنال تعويضا عظيما من الحكومة عن إساءتها إلي. - إذن، فاذهب إليهما.
فخرج مرميس من تلك الغرفة إلى الباب الخارجي، حيث كان اللورد وليم وإدوار والدليل الإرلندي ينتظرونه فدنا منهم وقال لهم: إن الوقت ضيق لا يسمح لي بإيضاح فاعلموا أننا أسرى.
فاصفر وجه اللورد وليم فقال له مرميس: اطمئن يا سيدي اللورد فإن الرجل العبوس لا يلبث أن يحضر فينقذنا، فاعلم الآن أنك ستدخل وإدوار معي إلى هذا المستشفى وإني لا أدعى السير أرثير، بل جوهن بيل مدير مسشتفى بدلام.
فقال له اللورد: ولكن ...
فقطع مرميس عليه الكلام وقال له: سأوضح لك فيما بعد فاعلم الآن أنك تدعى السير أرثير.
وكان الدليل الإرلندي يسمع الحديث فقال لمرميس: لا تخف يا سيدي فإني مع إخواني ساهرون عليكم.
وعند ذلك تأبط مرميس ذراع اللورد وليم، ودخل به إلى الوكيل مع إدوار فقال له: هذا هو، يا سيدي السير أرثير الذي أخبرتك عنه.
30
بعد ذلك بساعة كان اللورد وليم ومرميس أسيرين في المستشفى أحدهما باسم جوهن بيل، والآخر باسم السير أرثير، وكان وكيل الجمعية قد انصرف فجعل مدير المستشفى يعتذر لمرميس، وهو يحسبه زميله ويطيب خاطره، فقال له مرميس: أرجو أن لا تستاء أيها الصديق لما أصابك، فإن البوليس سكوتوي لا يلبث أن يحضر فتتضح الحقيقة.
وكان المدير قد بالغ في إكرامهما تلطيفا لنكبتهما، أما إدوار فقد وضع بين المجانين.
وكذلك جوهن بيل فإنه كلما صاح صبوا عليه الماء المثلج، حتى رأى أن لا حيلة له في إثبات صحة عقله فاستسلم للقضاء، وكف عن الصياح.
وفي صباح اليوم التالي دخل مدير المستشفى إلى غرفة مرميس وقال له: أبشرك بقدوم سكوتوي.
ولم يكد يتم حديثه حتى دخل سكوتوي، فلم يكد مرميس يراه حتى اهتز وكاد يفتضح أمره، فإن سكوتوي هذا إنما كان روكامبول بعينه، ولم يكن قادما وحده، بل كان يصحبه وكيل الجمعية الإنجليكانية، فإن هذا الوكيل كان واثقا كل الوثوق أن روكامبول هو سكوتوي البوليس الذي أرسله إليه الأسقف. •••
وكان روكامبول قد دخل إلى ميناء دوغلاس منذ ساعة، فكان أول من استقبله الدليل الإرلندي.
وكان روكامبول واثقا أن وكيل الجمعية لا يعرف سكوتوي، لكنه تزيا بشكله من قبيل الاحتياط.
ولم يعرفه الدليل الإرلندي حين رآه، ولكن روكامبول عرفه بنفسه وقال له: أين رجالي؟ - إنهم في مستشفى المجانين، فإن وكيل الجمعية قد سجنهم فيه. - كلهم؟ - نعم، غير أن السير أرثير عبث بهم جميعا.
فظهرت على روكامبول دلائل الإعجاب بتلميذه وقال: كيف ذلك؟
وأخبره الدليل بجميع ما اتفق.
ولما أتم حكايته قال روكامبول: أتعرف منزل وكيل الجمعية؟! - نعم. - سر بي إليه.
فسار به إليه وأخبره الوكيل وهو يحسبه سكوتوي بجميع ما فعله.
فقال روكامبول: لا نية لي بحبس جوهن بيل والسير أرثير، لأن الأسقف أمر في البدء بالقبض عليهم جميعا حذرا من فرار ولتر بريس. - والمجنون الآخر الذي يدعى إدوار! - إن هذا سأعود به إلى بدلام حين عودتي إلى لندرا. - إذن، يجب أن تبقي هنا اللورد وليم.
فأجابه روكامبول بجفاء: لا تذكر أبدا هذا الاسم، واعلم أنه لا يوجد في الوجود رجل يدعى اللورد وليم، وأن هذا السجين يدعى ولتر بريس، وهو من المجانين. - إذن، سندع ولتر بريس. - نعم إلى أن يرد أمر جديد. - وجوهن بيل أتطلق سراحه؟ - إني سأعود به إلى لندرا وهناك ينال ما يستحقه من التوبيخ. - إذن، إنه سيكون أقل جزائه العزل. - هذا لا ريب فيه .
وعندها ذهب الاثنان إلى مستشفى المجانين ودخلا إلى غرفة مرميس كما تقدم، وكان مرميس يمثل دور جوهن بيل أتقن تمثيل، فإنه جعل يوبخ روكامبول ويتوعده بالمقاضاة.
وكان روكامبول يمثل دور سكوتوي فيعتذر إلى مرميس عما حدث من الخطأ لسجنه.
وذكر له أن الحكومة لا بد أن تعوضه عن هذه الإساءة، غير أنه لامه لوما لطيفا وختم لومه بقوله: إنك تعلم حرص الحكومة على ولتر بريس وأنه شديد الخطر، ولذلك كان خطؤك عظيما بإخراجه من المستشفى، لأنه لو تمكن من الفرار لما نجوت من العقاب الصارم.
فقال له المدير: ألعلك عازم يا سيدي على إبقاء هذا المجنون عندي؟ - نعم فاحذر أن يفر. - لا تخف فإن المجانين لا يستطيعون الفرار من هذا المستشفى. •••
وبعد ذلك بساعتين كان روكامبول ومرميس واللورد وليم وإدورد كوكري وهيلون على ظهر الباخرة.
وقال مرميس لروكامبول: إلى أين نسير أيها الرئيس؟ - إلى إرلندا. - ماذا نصنع فيها؟
فضحك روكامبول وقال: نبحث عن كنوز جوهن بيل.
ثم أقلعت بهم الباخرة سائرة إلى إرلندا.
31
يذكر القراء أن السير أرشيبالد كان قد ذهب إلى الأسقف، فلم يجده، لأن هذا الأسقف كان منهمكا في كثير من المشاغل فلم ينم في منزله، في ذلك اليوم.
وفي اليوم التالي وردت إليه رسالة سكوتوي، وهي تلك الرسالة التي أملاها عليه روكامبول في السفينة.
فلما قرأها الأسقف سر سرورا عظيما للقبض على وليم، ولما ذكر له سكوتوي من أمر الكنز.
وكان توقيع هذا البوليس صحيحا وهو توقيع اصطلاحي سري متفق عليه بينه وبين البوليس.
ولم يجل الشك في خاطر الأسقف، وعقد النية على السفر إلى كورك، وهي ذلك الميناء الإرلندي الذي دعاه إليه سكوتوي بالرسالة كما يذكر القراء.
وفي الحال وضع شيئا من الثياب في حقيبة فركب مركبة وسار بها إلى محطة لفربول، فركب القطار إليها.
ثم ركب البحر منها إلى كورك متخذا أقرب الطرق إليها.
وكان البحر شديد الهيام فأقام الأسقف في غرفته في الباخرة لا يذوق طعاما، ولبث على ذلك إلى أن ظهرت أرض إرلندا ، وكان قد سكن بعض السكون، فشدد عزيمته وصعد إلى ظهر السفينة.
وكانت الشمس قد أشرقت فبينما هو واقف يتنشق نسيم الصباح دنا منه أحد المسافرين وحياه باحترام.
فقال له المسافر: أرى أن سيدي لم يعرفني.
فحدق به الأسقف وارتعش ثم قال: أظن أني رأيتك، ولكني لا أذكر أين. - إني أدعى يا سيدي شوكنج.
فوقع هذا الاسم على الأسقف وقوع الصاعقة، إذ ذكر في الحال أن شوكنج رفيق الرجل العبوس.
أما شوكنج فإنه قال له: أسأل سيدي المعذرة فإني خلقت كثير الكلام من طبعي، وقد رأيتك في هذه السفينة.
فقاطعه الأسقف بجفاء وقال: وبعد ... - إني ذاهب إلى إرلندا كما أنك ذاهب أنت.
ولم يجبه الأسقف بشيء بل أدار له ظهره ومشى، وقد تمكن الرعب من قلبه، وجعل يسائل نفسه في السبب في وجود شوكنج معه في السفينة، فاستنتج من ذلك أن الرجل العبوس قد جعله جاسوسا عليه كي يقتفي آثاره.
وكانت السفينة أوشكت أن تصل إلى الميناء فجعل المستر توين يراقب شوكنج بطرف خفي، فيرى أنه لا يكترث له أقل اكتراث.
وبعد ساعة رست الباخرة في الميناء، ونزل المسافرون إلى البر وبينهم توين، وكان يرجو أن يرى البوليس سكوتومي قادما لاستقباله، ولكن ساء ظنه فإنه لم ير له أثرا.
وفيما هو واقف يبحث عنه دنا منه رجل بملابس البحارة وقال: ألست يا سيدي بحضرة الأسقف بترس توين؟ - نعم. - إن المستر سكوتوي قد أرسلني إليك بهذه الرسالة.
فأخذ الأسقف الرسالة وقرأ ما يأتي:
ليس جوهن بيل وحده الذي يبحث عن الكنوز، فقد تألفت هنا شركة من الإرلنديين للبحث عنها أيضا، ولكنهم لم يهتدوا إليها بعد، أما أنا فقد اهتديت.
غير أني وجدت أنه لا بد من الاحتياط الشديد في هذا المقام، ولم أر من الحكمة أن أنتظرك في كورك كي لا أنبه إلينا الأنظار.
أما الكنوز فإنها مدفونة في مكان يبعد ستة أميال عن مدينة كورك، وأنا أنتظرك في منتصف الطريق، فاتبع الشخص الذي يعطيك رسالتي هذه فإنه من رجالي وهو من أهل الثقة.
سكوتوي
ففحص الأسقف الخط والتوقيع فوجد أنهما خط سكوتوي وتوقيعه، فنظر إلى الرجل الذي جاءه بالرسالة، فرآه بمقتبل الشباب، وهو بملابس البحارة، غير أنه لو دقق النظر في يديه لعلم من نعومتهما أن الرجل كان متنكرا بهذه الملابس، وأنه لا يمكن أن يكون من رجال البحار.
وعند ذلك قال له: أأنت من رجال سكوتوي؟ - نعم، يا سيدي. - إني متأهب للسير معك.
ثم نظر إلى ما حواليه نظرة الخائف باحثا عن شوكنج، فإنه بات واثقا أنه لم يسافر إلى إرلندا إلا للتجسس على أحواله، فلم يره فاطمئن بعض الاطمئنان، وسار في أثر الرجل حتى وقف به عند باب فندق فقال له الأسقف: ما عسى أن نصنع في هذا الفندق؟ - نقضي فيه بقية النهار يا سيدي، فقد رأى سكوتوي أنه ليس من الحكمة أن نخرج من كورك في رائعة النهار. - لقد أصاب، وسأصبر إلى الليل. - وقد جئت بك إلى هذا الفندق لبعده عن المدينة، وفنادقها غاصة بالغرباء، فلا يخطر لأحد أنك مقيم فيه.
فلم يعترض الأسقف، ودخل إلى ذلك الفندق، وهو فندق حقير ينتابه البحارة فيأكلون ويسكرون فيه ويتخاصمون ويعربدون، بحيث لا ينتبه أحد منهم من يدخل إليه من المسافرين أو غيرهم.
وصعد البحار المتنكر، أمام الأسقف إلى إحدى غرف الفندق فأدخله إليها وقال: يجب أن تبقى فيها إلى الليل، أما أنا فإني منصرف عنك لإعداد معدات السفر.
ثم انصرف، وأقام الأسقف سجينا في تلك الغرفة إلى أن أقبل الليل فجاءه ذلك البحار وقال له: لقد آن يا سيدي أوان السفر فهلم بنا.
فخرج الأسقف معه خارج الفندق فوجد جوادين قد أعدهما البحار، فامتطى كل منهما جوادا، وسار بهما الجوادان ينهبان الأرض إلى حيث كان يقودهما البحار.
32
يكثر المسافرون في مدينة كورك بحيث ألف سكانها النظر إليهم فلم يعودوا يكترثون لهم، ولذلك لم ينتبه أحد لسفر الأسقف ومرشده.
وبعد أن خرجا من المدينة واجتازا بضعة فراسخ وصلا إلى قمة عالية، وكان الجوادان يصعدان إليها بعناء، غير أن الأسقف كان ماهرا بركوب الجياد كسائر إخوانه الإنكليز.
فلما وصلا إلى أعلى القمة وقفا وكان الظلام حالكا، والضباب كثيفا فكانا يريان من ورائهما أنوار الغاز التي في المدينة تظهر صغيرة كالنجوم، وأمامهما تمتد السهول والغابات والوديان.
فالتفت البحار المتنكر إلى الأسقف وقال له: يجب أن ننتظر هنا. - لماذا؟ - لأني أنتظر إشارة. - ممن؟ - من المستر سكوتوي. - إني لم أفهم شيئا. - إنه سيشير إلينا إشارة خاصة، فإما أن نتقدم بعدها أو نرجع. - كيف ذلك؟ - إنه إن رأيناه وأشار إلينا أن نتقدم كان ذلك دليلا على أن كل شيء قد تهيأ للتنقيب عن الكنوز. - وإن لم تكن هذه المعدات قد تمت؟ - نعود عند ذلك إلى كورك.
فارتعش الأسقف، وتذكر شوكنج فقال له البحار: ولكني أرجو أن تكون الإشارة مؤذنة بالتقدم. - إذن، لا بد أن يكون سكوتوي قريبا منا. - بل هو على مسافة ثلاث مراحل من هذا المكان الذي نحن فيه. - إن كان ذلك فكيف يستطيع أن يشير إلينا؟
فمد البحار يده إلى ناحية البحر وقال: انظر ألا ترى نورا يضيء في الأفق ويخترق الضباب كالنجم؟ - نعم. - إنها نيران أوقدتها يد إنسان. - إذن، هي الإشارة فلنتقدم. - كلا، بل يجب أن ننتظر نيرانا أخرى تضاء بجانب هذه النيران التي نراها الآن. - إذن، لنصبر إلى أن نرى هذه الإشارة.
غير أن صبرهما لم يطل فإنه لم تمض هنيهة حتى ظهرت نار ثانية بجانب تلك النار.
فقال له البحار بلهجة المستبشر: هلم بنا الآن يا سيدي إلى الأمام.
ثم أطلق العنان لجواده فسار توين في أثره.
ولبثنا نحو ساعة وهما تارة يصعدان قمة، وتارة ينزلان إلى واد، وطورا يسيران في سهل.
إلى أن أوقف الدليل جواده فجأة فاقتدى به توين، ونظر إلى الأمام، فرأى رجلين قادمين إليهما.
وكان البحار قد رآهما فقال: هو ذا المستر سكوتوي، فإنه قادم لمقابلتك.
فتنهد الأسقف تنهد الارتياح.
وبعد هنيهة وصل الرجلان إليهما وقال أحدهما: أأنت هو يا سيدي الأسقف بترس توين؟
فعرف الأسقف من صوته أنه سكوتوي.
فدنا منه وصافحه وقد رأى معه رجلا يصحبه فلم يستطع أن يتبين وجهه لشدة الظلام.
ولكنه لم يكترث له لاطمئنانه بعد أن رأى سكوتوي فقال: أرأيت أني لبيت دعوتك في الحال؟ - أشكرك.
وقد قال هذا القول بلهجة تشف عن الكآبة، فأنكر الأسقف هذه اللهجة وقال في نفسه: لا شك أنه لم يهتد إلى موضع الكنز.
أما البوليس فقد قال: لنتقدم يا سيدي.
ووضع جواده بإزاء جواده وسار وإياه وهو لا يفوه بحرف.
غير أن الأسقف أجفل لسكوته فقال: ما بالك حزينا؟ ألعلك فشلت؟ - كلا، وما أنا بحزين. - ألعل المكان الذي نسير إليه بعيدا؟ - نعم.
وعاد إلى السكوت والتفكير.
فاشتد قلق الأسقف لما رآه من سكوت البوليس وارتياحه إلى الإيجاز في الحديث، كما أنه قلق أيضا لسكوت ذلك الرجل الذي كان يصحب البوليس وقال في نفسه: لا بد أن يكون في الأمر سر؛ فإني ما تعودت من البوليس هذا المنهج.
وعند ذلك طرق أذنه خبب جياد كثيرة من محل بعيد، فوضع الرجل الذي كان يصحب البوليس إصبعيه في فمه وصفر صفيرا اصطلاحيا.
فوجف قلب الأسقف، وبدأ يضطرب دون أن يعلم سبب هذا الاضطراب.
33
وبعد هذا الصفير أتى فارسان فانضما إلى الجماعة، وواصلوا السير دون أن ينبس أحدهم بكلمة.
فقال بترس توين في نفسه: لا شك أن هذين الفارسين من رجال سكوتوي.
ثم ساروا نحو عشر دقائق، فصفر الشخص نفس الصفير الأول، وأتى على أثر الصفير فارسان، فانضما إلى الجماعة دون أن يتكلما، وواصلوا جميعهم السير.
فكبرت تلك المعميات على بترس توين وقال لسكوتوي: أما آن أن توضح لي هذه الألغاز.
فتظاهر سكوتوي أنه لم يسمع.
فعاد بترس توين إلى السؤال وقال له: من هؤلاء الرفاق فإننا كلما سرنا بضع خطوات ينضم إلينا اثنان، ألعل ذلك يدوم؟ - كلا يا سيدي فقد انتهينا.
وقد قال له هذا القول كمن تنبه من ذهول عظيم، ثم عاد إلى ذلك الذهول.
وظلوا سائرين حتى انتهوا إلى قمة، فعثروا عندها على آثار تلك النيران، فعيل صبر بترس توين لسكوت البوليس وقال له: ما هذا السكوت وما هذا التكتم ، ألسنا ذاهبين للبحث عن الكنز؟ - نعم. - وما شأن هؤلاء الفرسان أيذهبون جميعهم معنا للبحث عنه؟ - نعم.
وقد حار بترس توين في أمره، وحاول أن يحمل البوليس على الكلام، فلم يستطع.
فعاد إلى الدليل الذي أتى به من مدينة كورك وقال له: ألا تقول لي أيها الصديق ماذا أصاب المستر سكوتوي فإنه كثير الهم والتفكير؟ - لم يصب بشيء، ولكن هذه الأعراض تحدث له كثيرا. - ألعلك تعرفه؟ - عرفته حق العرفان فقد اشتغلنا معا في كثير من الشئون. - والآن ألعلنا اقتربنا من المكان الذي نسير إليه؟ - أظن. - كيف تظن ألست واثقا؟ - كلا فإن المكان لا يعرفه غير سكوتوي. - ولكن ما شأن هؤلاء الفرسان معنا؟ - يظهر أن سكوتوي محتاج إليهم. - لماذا؟ - للتأمين على الكنوز، فإنه يخشى الإرلنديين كما يظهر.
فكف بترس توين عن السؤال، وتابع الجميع سيرهم في القمة، حتى انتهوا إلى أعلاها.
فأمر رفيق سكوتوي الجماعة بالوقوف، وكانت هذه أول كلمة خرجت من فمه في هذه الرحلة.
فوقف بترس توين، وأخذ ينظر إلى المكان الذي هو فيه نظر الفاحص، فلم ير لاشتداد الظلام، غير آثار النار التي كانت موقدة في مرتفع القمة فقال في نفسه: ربما كانت الكنوز مدفونة في هذا المكان.
وعند ذلك أمر رفيق سكوتوي الفرسان أن يترجلوا، فامتثلوا جميعهم لأمره حتى سكوتوي نفسه فقد كان يظهر أنه خاضع لأوامر هذا الرجل.
فلم يخف ذلك على الأسقف وأوجس خيفة لا سيما حين رأى على نور تلك النار رجالا نائمين على الأرض فوق تلك القمة.
فنادى الأسقف سكوتوي وقال له بلهجة تشف عما داخل فؤاده من الرعب: ما الفائدة من هذا الجمع الكثير ألعلنا في حاجة إليهم؟ - يظهر ذلك.
وكان الفرسان قد نزعوا الأعنة من الجياد وأطلقوا سراحها.
فانطلقت ترعى ذلك العشب الذي كان يغطي وجه الأرض خلافا لجواد الأسقف فإنه لم يترجل عنه.
إلى أن جاءه الدليل وقال له: ما بالك يا سيدي لا تترجل؟! - لماذا ألعل إقامتنا هنا تطول؟ - إننا نبيت في هذه القمة إلى الصباح . - لماذا؟ - لأننا لا نستطيع مواصلة السير في الليل. - كنت أحسب أن المكان قريب من هنا. - هو ذاك، ولكنه في الجانب الآخر من هذه القمة واد عميق، كما قال لي سكوتوي.
وهذا الوادي تكتنفه الأدغال من كل جانب بحيث يستحيل الدخول إليه في ظلام الليل.
وبينما كان الدليل يوضح للأسقف ما كان يسأله عنه، كان رفيق سكوتوي قد ألقى في النار بضع قطع من الأخشاب، فعادت إلى الشبوب وأضاءت ما حولها.
فنظر الأسقف إلى ذلك الرجل السري، وتبين وجهه على نور الوقود فلم يعرفه، ولكنه نظر إلى عينيه فذعر ذعرا عظيما، والتفت إلى سكوتوي فأطرق سكوتوي برأسه إلى الأرض، وبدت علائم اليأس على وجهه فكان كمن حكم عليه بعقاب سري هائل.
34
بعد أن جدد رفيق سكوتوي إيقاد النار اضطجع بقربها فوق العشب، فاقتدى به الجميع فالتف كل منهم بردائه، وحاول أن ينام.
وكانت مخاوف الأسقف أخذت بالازدياد، فإن كل ما كان يراه كان يحمل على الظنون.
غير أن ثقته بسكوتوي كانت قوية فاقتدى بالمضطجعين، وجعل يفكر بالحالة التي هو فيها فيقول في نفسه: إن سكوتوي قد ائتمن على سر الكنز نحو عشرة رجال، فهل يحتاج إلى مثل هذا العدد الكثير للتنقيب عن هذا الكنز؟
ثم هل يكون لهؤلاء الجماعة نصيب نسبي من الأموال المدفونة أم أن شأنهم معنا شأن العمال.
إذا كان ذلك فما بال سكوتوي يتكتم عني إلى هذا الحد، بل ما شأن هذا الرجل الذي أقبل معه لاستقباله، فإني أرى من لهجة سيادته أنه الزعيم الأكبر لهذه العصابة، وأنه الآمر الناهي، حتى سكوتوي يمتثل له صاغرا.
وقد جالت جميع هذه الأفكار في خاطر الأسقف، فكانت تتمثل له أحاجي ومعميات لا يرى من خلالها غير الخطر، حتى إنه ندم لحضوره من لندرا، وعد عمله تسرعا وطيشا.
ثم إنه خطر له خاطر زاد في قلقه واضطرابه، وهو أنه إذا كان سكوتوي قد ظفر بهذا الكنز على فقره، فلماذا أراد أن يقتسمه مع الشركة الإنجليكانية.
وبينما كان الأسقف يتصور هذه التصورات ويضرب أخماسا لأسداس في حل هذه المعميات، حانت منه التفاتة فرأى اثنين من رجال العصابة واقفين في مواقف الحراس، بينما كان الجميع نياما، فقال في نفسه: إنهم يتوقعون خطرا دون شك، ولولا ذلك لما وضعوا الحراس.
وكان سكوتوي مضطجعا بجانب الأسقف وهو يحاول الرقاد فلا يستطيع، فلما عيل صبر الأسقف هز كتف سكوتوي ففتح عينيه، وقال له بصوت منخفض: ماذا تريد؟ - إني أوشك أن أجن مما أراه وأنت لا توضح لي شيئا، والذي أريده منك الآن أن توضح لي الحقيقة بما عهدته بك من الإخلاص، فقل لي: لماذا بتنا هنا بدلا من أن نواصل السير؟ - ذلك لأنه يظهر لي أن الوادي عميق وأن النزول إليه في ظلام الليل شديد الخطر. - إنك تخدعني يا سكوتوي على فرط إحساني إليك وثقتي بك، وما عهدي بك من المنافقين.
فلم يجبه البوليس بحرف.
فقال الأسقف: إنك دفعتني إلى السقوط في الفخ الذي نصب لي.
وقد أراد بهذا القول أن يحمله على الكلام وأن ينفي عنه هذه التهمة.
غير أن البوليس جعل يتمتم بكلمات لا تفهم.
فقال الأسقف بلهجة الأمر: أوضح كلامك، فإني لا أفهم ما تقول، وأجبني على سؤالي. - لا أستطيع يا سيدي.
ثم زحف إليه ووضع فمه عند أذنه وقال له همسا: احذر أن تصبح أو تبدو منك بادرة وإلا هلكنا.
وشعر الأسقف أن العرق البارد ينصب من جسمه.
وكان رفيق سكوتوي ذلك الرجل ذو النظرات النافذة مضطجعا في مكان بعيد عنهما بحيث لا يستطيع سماع الحديث.
فقال للبوليس: كيف ذلك، وما حدث؟ - إني أسير يا سيدي، وقد أكرهت على الكتابة إليك والمسدس مصوب إلى رأسي.
فرعب توين رعبا عظيما وقال: والكنز؟ - لا أعلم إن كان يوجد كنز، وإنما كتبت إليك عن هذا الكنز، ودعوتك إلى الحضور لأني كنت مكرها على كتابة ما أملي علي، ونحن الآن أسيران.
فقال الأسقف بصوت مختنق: ولكن من هو الذي أسرنا وكاد لنا هذه المكيدة؟ - إننا أسرى لدى هذا الرجل؟ - من هو هذا الرجل؟
فسكت البوليس ولم يجب .
وعند ذلك ذعر الأسقف ذعرا شديدا، إذ جال في خاطره الرجل العبوس، وفيما هو يمسح عرق اليأس المنصب من جبينه، رأى رجلا من النيام قد نهض منذعرا كمن صحا وقد أصابه الكابوس فنظر توين إلى وجهه على نور النيران المشبوبة فرأى أنه شوكنج.
وعند ذلك لم يبق لديه شك أنه في قبضة الرجل العبوس ما زال شوكنج مع العصابة فإنه من رجاله.
غير أن هذا الأسقف كان عازما صبورا شديد التأني في مواقف الخطر فلم يسترسل إلى اليأس، بل إنه دنا من سكوتوي وهمس في أذنه قائلا: ألم تجد وسيلة في جزيرة مان للنجاة من قبضتهم؟ - إني لم أذهب إلى الجزيرة. - أهذا ممكن؟ - هي الحقيقة يا سيدي. - إذن، لقد كاد لنا الرجل العبوس ونحن في قبضته الآن. - هو ذاك يا سيدي، واأسفاه، فإن هذا الرجل ليس من البشر بل هو شيطان في صورة إنسان. - أتعلم ما يريد أن يصنع بنا؟ - أما أنا فقد وعدني أن يعفو عني. - وأنا؟ - لا أعلم.
35
وساد السكوت بين الاثنين، فكان البوليس يضطرب من خوفه أن يصحو رئيس العصابة، وكان الأسقف يمعن الفكر فيما صار إليه، ويدبر حيلة للخروج من موقفه الحرج.
فقد كان يعلم قوة خصمه، وجعل يتكهن عن المستقبل ويبحث في الماضي.
وأول ما جال في خاطره التفكر في ما أعده الرجل العبوس من الانتقام، وذكر ماضي هذا الرجل وما اشتهر به من صدق التوبة والصلاح، فأيقن أنه يقدم على قتله، ولا يسفك دما بشريا، وما زال آمنا الموت فلا سبيل إلى القنوط من النجاة.
وقد التفت فرأى أن جميع العصابة ورئيسها نيام.
فخطر له خاطر الفرار، ودنا من البوليس وقال له همسا: ألا ترى أننا نستطيع الفرار؟
فارتعش البوليس ثم هز رأسه قانطا وقال: إن هذا محال. - لماذا؟ - لأن هؤلاء النيام قد يستيقظون، ولأن الحراس ساهرون. - لم يبق من الحارسين غير واحد، فإن أحدهما قد غلبه النعاس فنام. - ألا يكفي حارس واحد لإيقاظ النائمين؟ - ولكنه سوف يقتدي برفيقه فينام. - ولو افترضنا ذلك فإن فرارنا غير مضمون. - لماذا ؟ - لأننا أولا في بلدة منعزلة. - وماذا يضيرنا ذلك؟ - إنهم متى استيقظوا لا يصعب عليهم إدراكنا. - ولكن خطر لي خاطر، فلنفرض أن الحارس الثاني قد نام كما نام الحارس الأول، وأننا نستطيع أن نزحف فوق هذا العشب زحف الأفاعي إلى حيث ترعى الجياد. - نعم. - إذن، نمتطي جوادين منها ونعود بهما إلى مدينة كورك.
فابتسم البوليس ابتسام المشكك بالفوز وقال: إني أحب أن أحاول الفرار معك، لكن رجائي بالفوز ضعيف. - كم الساعة الآن؟ - أظنها تبلغ الثانية بعد منتصف الليل. - يبقى أربع ساعات لطلوع الصباح فلينم الحارس الثاني، وأنا أضمن الفوز بالفرار.
وكأنما وثوق الأسقف من الفوز قد ولد الأمل في نفس البوليس فقال له: إني أوافقك على الفرار فلنصبر.
وعند ذلك انقطعا عن المحادثة وتظاهرا بالرقاد مع الراقدين.
وكان الحارس يسير ذهابا وإيابا وكان السير بترس توين يراقبه من حين إلى حين.
وظل الحارس على ذلك نحو ساعة، ثم اضطجع على العشب ونام، وكان الأسقف يراقبه فهز كتف البوليس وقال له: أرى أن الفرصة قد حانت فإن الحارس قد نام. - لنصبر هنيهة إلى أن يغفو.
فصبرا نصف ساعة، ثم جعلا يزحفان على بطنيهما فوق العشب حتى وصلا إلى موقف الجياد، فهم الأسقف أن يمتطي أحدهما، فمنعه البوليس وقال له: إننا إذا ركبناها هنا فقد تعدو بنا فيستيقظ النيام لوقع حوافرها، فلنقدها بأعنتها ولنسر بها برفق إلى حيث لا يسمع لحوافرها صوت فنمتطيها. - لقد أصبت ...
ثم أخذ كل منهما بعنان جواد وجعلا يسيران سيرا خفيفا، وكلما تقدما بضع خطوات التفتا إلى الوراء كي يريا إن كان أحد من رجال العصابة قد صحا.
وما زالا على ذلك حتى بعدا عن العصابة، فوثب الأسقف إلى ظهر جواده، واقتدى به البوليس.
ثم أطلقا لجواديهما العنان فاندفعا بهما فوق تلك المروج الخضراء اندفاع الرياح.
وكان الأسقف يترنح طربا فوق جواده ويقول: لقد نجوت اليوم من الرجل العبوس، ولكنه لا ينجو مني الغد.
ولم يمر بهما بضع دقائق حتى اجتازا القمة وباتا في سهل متسع فسارا به وهما لا يدريان أين يسيران لاشتداد الظلام.
ولم يسمعا حسا من ورائهما، فكانا واثقين أن عصابة الرجل العبوس نائمة، وأنه لم يفطن أحد إلى فرارهما.
وكان الليل حالك الظلام بحيث كان الجوادان يسيران حسب أهوائهما.
غير أن توين لم يكترث بشيء من ذلك، بل كان همه منصرفا إلى السرعة والابتعاد عن الرجل العبوس ورجاله، فقال للبوليس: إننا إذا سرنا هذا السير ربع ساعة أيضا فقد نجونا دون شك. - قد تصدق هذه الأمنية، ولكن إلى أين نحن سائران؟ - إننا عائدان إلى مدينة كورك. - ألعلك واثق أننا عائدان إليها؟! - إني لا أشك بأننا سائران في نفس الطريق التي جئت فيها من تلك المدينة. - قد تكون مخطئا فإن الطرق تتشابه في هذه السهول. - وفوق ذلك، فقد لاحظت أني أمتطي نفس الجواد الذي جئت عليه من كورك. - وما يفيد ذلك؟ - يفيد أن الجواد متى أطلقت له الحرية عاد بالسليقة إلى مربطه، ولما كان هذا الجواد من كورك فهو عائد إليها دون شك. - ولكن من يضمن أن جوادي أنا مستأجر من كورك؟ - لا بأس في ذلك فإن جوادك يقفو أثر جوادي منذ فرارنا إلى الآن.
فسكت البوليس، ولكنهما لم يسيرا بضع خطوات حتى شعرا أن حوافر الجوادين تقع على حجارة صلبة، ولم يكن في الطريق من كورك إلى القمة مثل هذه الحجارة.
فتنهد سكوتوي وقال: لقد كنت متوقعا هذا الخطأ. - أي خطأ تعني؟ - ألا تشعر أن حوافر الجوادين تقع فوق الحجارة. - ماذا يفيد ذلك؟ - يفيد أننا ضللنا السبيل، فإننا لم نجد من كورك إلى القمة التي كنا فيها غير العشب. - وما علينا من ضلالنا فإننا إن لم نصل إلى كورك وصلنا إلى سواها. - هو ما تقول، بشرط أن لا نصل إلى قرية من قرى الإرلنديين.
فارتعد الأسقف لذكر الإرلنديين، وكان جواداهما يسيران في منحدر، فشعر سكوتوي أن الانحدار قد زاد فحاول الوقوف غير أن توين لكز بطن جواده وقال: الفرار.
وعند ذلك سمع صوتا يلعلع فوق رأسيهما، وخيل لهما أنه ضاع بين الغيوم وهو صوت صفير قوي.
فالتفت البوليس إلى ورائه عله يقف على سر هذا الصفير فرأى أن السماء قد احمرت فوق المنحدر الذي كانوا نزلوا منه، فذعر وقال: إنها آثار النيران ولا شك أنهم شعروا بفرارنا. - إذن، لنسرع العدو فإننا نتقدمهم بمسافة كبيرة.
ثم دفع جواده في ذلك المنحدر الذي كان يظهر أنه لا نهاية له، وكان الجوادان ينطلقان انطلاق السهم، وسكوتوي يلتفت من حين إلى حين إلى الوراء ثم يرفع عينيه إلى السماء متفقدا الوهج فيراه على ازدياد.
ومما زاد في شقائهما أنهما لم يكونا عالمين إلى أن يسيران، فكان الشرطي ملأ قلبه اليأس خلافا للأسقف، فإنه كان يعلل نفسه بالفوز ويقول: لا بد لنا أن نصل إلى مكان نأمن فيه الخطر.
وفيما هما سائران رأيا شعاعا قد تألق فجأة في أسفل المنحدر يشبه ذلك الوهج الذي رأياه في كبد السماء وراءهما فأوقف بترس توين جواده وقال لسكوتوي: انظر. - ماذا تصنع؟ - أرى أنه يجب أن نتقدم فلا بد أن يكون هذا الشعاع من منزل في أسفل المنحدر أو من حقل. - إذن، يجب التقدم؟ - هذا ما أراه. - وإذا كان أصحاب هذا النور من الإرلنديين؟ - يفعل الله ما يشاء. - إذن، لنسر على بركات الله.
وكان النور الذي يبدو لهما من أشعة المنحدر يتعاظم فكانا يريان من حولهما أشباحا سوداء تمثلها لهما الصخور الضخمة والقمم.
ولما رأى ذلك سكوتوي أوقف جواده وقال: أرى أننا ضللنا مرة ثانية، أتعلم أين نحن الآن؟ - كلا. - إننا ننزل إلى واد عميق. - وهذا النور الذي تراه؟ - إنه مضاء في الفضاء وليس في منزل. - لقد أناره الرعاة دون شك. - أو عصابات الإرلنديين.
فذعر الأسقف لخوفه من الإرلنديين وقال: إذن، لنرجع على أعقابنا.
فاستسلم البوليس للقضاء وقال: أية فائدة بقيت من الرجوع؟
ثم لكز جواده فانطلق في ذلك المنحدر، وتبعه جواد بترس توين بالرغم عن فارسه، فإنه بذل جهده في سبيل إيقافه فلم يستطع.
وعند ذلك سمعا صفيرا شديدا كالصفير الأول وانطفأت في أثره تلك الأنوار التي كانت تضيء في أسفل المنحدر.
36
وكأنما الجوادان قد أجفلا لهذا الصفير فانطلقا انطلاق السهم، وجمحا فلم يستطع الهاربان كبح جماحهما.
ثم رأى الفارسان أن المنحدر قد ضاق بعد اتساعه، وأن على جانبيه هوتين هائلتين، فقال سكوتوي: لقد قضي علينا.
وقد أصيب الأسقف بمثل ما أصيب به رفيقه من الرعب، ولكنه لم يقنط بل أمسك بشعر جواده كي لا يسقط عنه، وكان المنحدر يضيق كلما نزلا فيه حتى بات عرضه لا يزيد عن ثلاث أذرع.
ثم سمعا صفيرا آخر فزاد جماح الجوادين، وكبا جواد سكوتوي فسقط عنه ولكنه لم يسقط في أرض المنحدر، بل اندفع إلى الهاوية، وبعد أن صاح صيحة رعب منكرة.
وقد مسع الأسقف صيحته، ثم لم يعد يسمع بعدها شيئا، فأيقن أنه سقط في الهاوية، وأن الهاوية عميقة جدا، حتى إن صوت سقوطه لم يصل إلى مسمعه.
ثم رأى جواد سكوتوي يسير بجانب جواده دون فارسه، فلم يخطر له في تلك الساعة أن ينجو من قبضة الرجل العبوس، بل كان يحاول أن لا يصاب بما أصيب به سكوتوي.
فبذل جهده كي يوقف جواده، فلم يستطع، فأمسك جيدا بشعره وتركه يسير كما يشاء، بعد أن لم يجد سبيلا لكبح جماحه واستمر الجواد في ركضه، والظلام محيط به.
ثم رأى أن ذلك النور الذي كان يضي في أسفل المنحدر قد انطفأ فجأة، ثم عاد فجأة أيضا إلى الإضاءة، ولكنه كان هذه المرة قريبا جدا من الأسقف بحيث لم يبعد عنه أكثر من مائة متر.
وقد فاجأ هذا النور عينيه في الظلام الدامس فاضطر إلى إطباقهما، ثم فتحهما ونظر إلى ما حوله فرأى أنه لم يكن يسير في منحدر بل في منجم حفرته أيدي العمال تحت الأرض.
وكان الحفر ممتدا من أعلى القمة، فلما وصل الأسقف إلى أسفل المنحدر رأى على ذلك النور الساطع رفيقه سكوتوي المنكود وهو جثة جامدة لا حراك فيها.
وعند ذلك وقف جواده فخف اضطرابه، وزال ما كان عنده من اليأس ولم يعد يروعه غير موت رفيقه سكوتوي فإنه كان يعتقد أنه بات بعيدا عن الرجل العبوس، وإن رجال هذا المنجم لا علاقة لهم بعصابات الإرلنديين، فهو سيلجأ إليهم ويهتدي منهم إلى الطريق فيعود آمنا إلى كورك ويسافر إلى لندرا.
غير أن سكينته لم تطل لنكد حظه فإنه سمع صفيرا من ورائه، ثم صفيرا آخر يشبهه من المنجم، وتلا هذا الصفير صوت وقع حوافر جياد قادمة من المنحدر فعاوده الخوف، وأيقن أنهم يطاردونه وأنه لم يبق له سبيل للفرار.
وكان جواده يسير الهويناء فوقف عند جثة سكوتوي وهي غارقة بالدماء، فنظر إليها نظرة القنوط، وقال: يا ليتني مت هذه الميتة فإنها خير من الرجوع إلى أسر الرجل العبوس.
37
وفيما هو على ذلك سمع صفيرا آخر رن صداه في تلك الهاوية التي كان فيها، ورأى الأشعة تتماوج منها وتتحرك وهي تدنو منه، فعلم أن هذا الصفير لم يكن إلا إشارة اصطلاحية، وأن هذه الأنوار المتحركة التي كانت تدنو منه لم تكن إلا مصابيح يعلقها عمال المناجم عادة في رءوسهم كي يسترشدوا بأنوارها.
وكانت المصابيح تدنو منه من الأمام والجياد تقترب إليه من الوراء، وهو سجين بينهما لا يجد منفذا للخروج.
وقد وصل إليه عمال المناجم قبل وصول الفرسان.
فرأى بترس توين عشرة رجال عراة الأبدان إلى الوسط، وعلى رأس كل منهم مصباح يضيء.
فأحاطوا به جميعهم، وأمروه أن ينزل عن جواده ففعل، وعند ذلك تقدم أعظمهم جثة من توين وقال له باللغة الإنكليزية: من أنت وما أتيت تعمل هنا؟ - إني مسافر ضللت السبيل.
فضحك الجميع لجوابه ضحكا عاليا، وقال زعيمهم: ألست أسيرا هاربا؟
فأشار له الأسقف إشارة سلبية، لأن لسانه لم ينطق بالكلام لما أصابه من الرعب.
ثم سمع وقع حوافر جياد فالتفت فرأى ستة فرسان قادمين إليه من ذلك المنحدر العميق وهم يسيرون اثنين اثنين.
ورأى في طليعتهم ذلك الرجل الذي كان يتولى زعامة العصابة فوق القمة التي كان فيها قبل الفرار.
ثم وصل الفرسان وترجلوا عن جيادهم فحياهم عمال المناجم بملء الاحترام.
وعند ذلك دنا الزعيم ذو النظرات النافذة من الأسقف فوضع يده فوق كتفه وقال له: إنك من الفرسان الماهرين يا سيدي، ولكنك قد تكون أخطأت بعدم اختيارك الميتة التي مات بها المستر سكوتوي.
فذعر الأسقف لهذه اللهجة ولهذا الصوت ولكنه لم يجب.
وعاد الرجل إلى الحديث فقال: إن سكوتوي المنكود قد أخطأ لفراره فإني لم أقتصر على العفو عنه، بل إني وعدته أن أذهب به إلى فرنسا حين أتمم أشغالي في بلادكم.
وكان توين ينظر إليه وهو يكلمه ويقول في نفسه: إنه لا يستطيع أن يقول مثل هذا القول غير الرجل العبوس، ولكن هذا الوجه ليس وجهه؟
وكأنما الرجل قد أدرك ما يجول في خاطره فضحك وقال له: ألم تصدقني يا سيدي الأسقف؟
فتراجع منذعرا وقال: ما هذا الصوت؟ - إنه صوت المستر بريدت فكيف لم تعرفني يا سيدي وقد تشرفت بعشرتك أسبوعين؟
وعند ذلك تجلد الأسقف واستسلم إلى القضاء فوضع يده فوق صدره وقال له: نعم، فقد عرفتك الآن، وإني لا أنتظر منك عفوا ولا مرحمة، فقل ماذا تريد مني؟
فقال الرجل العبوس وقد كان هو بعينه: لقد أصبت يا سيدي فإنك كدت تنزع الرحمة من قلبي.
فقال له توين بلهجة شفت عن توقعه الموت بملء السكينة: قل ماذا تريد؟ - إن كلينا يا سيدي يسعى إلى غاية، وقد التحمت الغايات، ونحن في عراك دائم منذ أسبوع، وقد انتصرت علي مرة، فلما وضعتني في سجن نوايت حسبت أن الحرب قد وضعت أوزارها. - وبعد ذلك؟ - إني لو بقيت بضع ساعات في ذلك السجن لقرت عيناك برؤيا الرجل العبوس معلقا من عنقه، وعلى ذلك فإنك تأخرت بضع ساعات.
فقال له الأسقف بكبرياء: ولكن، قل لي ماذا تريد أن تصنع بي فإني يئست من هذه الحياة؟
فضحك الرجل العبوس وقال: إنك لا تفتكر بما تقول يا سيدي، ثم أنك تعلم أن الإرلنديين، وأنا أحد زعمائهم، لا يسفكون الدماء إلا حين لا يجدون بدا من سفكها، ولذلك لا أحكم عليك بالموت.
فاطمئن توين لهذا التصريح، لأنه كان يطمع بالنجاة والإفلات من قبضته بعد أن أبقى على حياته، وكما أن الرجل العبوس تمكن من الفرار من سجن نوايت وظفر به، فهو لا يعدم وسيلة للفرار من الرجل العبوس والظفر به أيضا.
فنظر إلى روكامبول وقال بلهجة الملتمس: أسألك بالله أن لا تطيل جزعي وأن تخبرني أي نوع من أنواع الأسر أعددت لي. - إني حكمت عليك يا سيدي بالسجن المؤبد ولا بأس عليك في ذلك، فإن كثيرين من أتقياء رجال الدين أمثالك كانوا يحكمون على أنفسهم بمثل هذا السجن المؤبد طائعين مختارين. - أين تريد سجني؟ - في قلب هذا المنجم.
فذعر توين لهذا السجن الرهيب وقال: احذر من العاقبة فلا شيء يدوم في هذا الوجود. - إن سكنك سيكون مؤبدا يا سيدي إلا إذا أصبت خلال مدة سجنك بحادثة تمنعك عن الضرر أو الإيذاء في مستقبل الأيام، وتجعلك في عيون الناس أهلا للرحمة والإشفاق، فبعد ذلك يطلق سراحك.
فجمد الدم في عروق توين، وهو لم يعلم حقيقة ما أراد روكامبول، ولكنه توقع حوادث هائلة.
وعند ذلك أمر روكامبول رفاقه أن يمتطوا صهوات جيادهم، وأمر عمال المناجم أن يحملوا السير بترس توين ويضعوه فوق جواده ففعلوا، ودخل روكامبول ورجاله إلى ذلك المنجم العميق.
38
إن هذا المنجم الذي دخل إليه روكامبول ورفاقه كان مدخله عريضا وعاليا فدخلوه بجيادهم.
وكانت مركبات النقل مصطفة فيه على الجانبين، وفي كل مسافة عشرة أمتار مصباح كبير معلق في القبة، وفي الجملة فإنه كان يشبه نفقا تسير فيه القطر الحديدية تحت الأرض.
وكان الأسقف يسير فوق جواده تحيط به عصابة روكامبول، أما روكامبول فكان يسير في طليعة رجاله.
وقد حاول توين مرارا أن يقف، ولكن العصابة المحيطة به كانت تمنعه عن الوقوف، فكانوا يسيرون تارة بين المصابيح المضيئة، وتارة يكتنفهم الظلام الدامس.
وداموا على ذلك نحو ربع ساعة مرت بتوين مرور الأدهار إلى أن أوقف روكامبول جواده وقال: قفوا. فأوقفوا جيادهم.
وعند ذلك ترجل عن جواده فاقتدى به الجميع وأسرع العمال إلى الأسقف فأنزلوه عن جواده.
وقد اصفر وجهه حتى بات كالأموات ، ولكن اصفراره لم يكن عن خوف بل عن تأثر عصبي، فقد كان شجاع القلب، وقد ذهب عنه اليأس حين علم أنه لم يحكم عليه بالموت.
فاقترب الرجل العبوس عند ذلك منه وتأبط ذراعه دون كلفة وقال له: تعال معي يا سيدي، فإننا مضطرون إلى مواصلة السير على الأقدام وهي فرصة نغتنمها للمحادثة.
وكان يكلمه بلهجة تشف عن السلامة وأنه يطوي له خير النيات.
فسار الأسقف معه حتى دخلا في رواق ضيق.
فالتفت قبل دخوله في الرواق، فرأى أن رجال العصابة لا يتبعونهما ما خلا اثنين من العمال كانا يتقدمانهما ليرشداهما إلى الطريق. إن الرواق كان مظلما إذ لم يكن فيه مصابيح.
بدأ روكامبول الحديث مع الأسقف فقال: لا شك أنك مستاء أشد الاستياء يا سيدي مما أصابك، إنك على فرط ذكائك ودهائك خدعت كما يخدع الأطفال.
فأجابه الأسقف وقد استنكر هذا التهكم: إنني في قبضة يدك وحسبك هذا الفوز فلا سبيل إلى الهزء. - إني لا أهزأ بك يا سيدي، ولكني أقول الحقيقة، وسأثبت لك أيضا أني بعيد عن الهزء لأني مخبرك بما أعددته لك. - إني أنتظر أن أسمع حكمك. - لقد تقدم لي القول أني حكمت عليك بالسجن المؤبد، إلا إذا أصبت بما يمنعك عن إيذاء الناس فأطلق سراحك.
فأجابه الأسقف وقد تنبهت فيه عاطفة الكبرياء: أو إذا أنقذوني. - إن ذلك صعب، ولكني لا أمنعك عن التعلل بهذا الرجاء.
وعند ذلك وقف العاملان المرشدان فجأة، فرأى الأسقف أن الدهليز الذي يسيرون فيه قد انتهى عند قبة، ووجد تحت هذه القبة شيئا غريبا استلفت أنظاره، وظهر لعينيه لأول وهلة بشكل صندوق يبلغ ارتفاعه ست أقدام وعرضه أربع.
ولكنه عندما اقترب منه ورآه وجد أنه قفص مصنوع من قضبان ضخمة من الحديد.
فقال له روكامبول عند ذلك ببرود: هذا هو السجن الذي أعددت لك يا حضرة الأسقف.
فجمد الدم في عروق الأسقف، وحاول أن ينزع يده من يد روكامبول فلم يستطع، قال له روكامبول: إن مقاومتك لا فائدة منها.
فكاد الأسقف يتميز من غيظه، وقال له: إنك سافل دنيء.
فلم يجبه روكامبول، ولكنه أشار إشارة إلى العاملين فأطبقا عليه.
وحاول الأسقف أن يدافع عن نفسه فلم يمهلاه، فحملاه وأدخلاه إلى ذلك القفص وأغلقا بابه الحديدي.
وكان يوجد في القفص كرسي ومائدة فقال روكامبول: إنهم سيحضرون لك الطعام كل يوم.
وأودعك الآن يا سيدي، وعسى أن تذكر أنك من الأساقفة فتلقى الله تائبا نادما عما اقترفته من الآثام.
ثم تركه وانصرف.
فهاج توين هياج الأسود الضارية، وهجم على تلك القضبان الحديدية يريد كسرها، ولكنه عاد عنها بالخيبة وهو يصيح صياح المجانين.
ثم وقف ينظر إلى العاملين يسيران بمصباحهما حتى خرجا من الدهليز، وساد الظلام.
وبقي وحده في ذلك القفص الضيق المظلم عدة ساعات وهو يستغيث فلا يجيبه غير الصدى.
ثم يهيج ويندفع هاجما على باب القفص، فيصدمه صدما عنيفا، ويقع على الأرض من شدة الصدمة حتى أعياه الأمر، ورأى أن ما يفعله ضرب من الجنون فاضطجع في أرض القفص وهو يؤثر الموت على هذا الأسر.
وفيما هو على ذلك والظلام الدامس يكتنفه من كل صوب سطع نور شديد تبلغ قوته عشرات أضعاف قوة الشمس لدى من يحدق بها.
فسطع هذا النور الغريب وكشفت ستائر كانت موضوعة على جدران القبة، فظهر أن تلك الجدران قد وضعت فوقها المرائي البراقة وهناك آلة ضخمة تعكس الأنوار الكهربائية.
فشعر توين بألم شديد في عينيه كأنما أصيبتا بحديد محمي بالنار فأطبق عينيه، وعلم ما كان يعنيه روكامبول بقوله: «سيكون سجنك مؤبدا إلا إذا أصبت بما يمنعك عن إيذاء الناس.»
وذكر ما روي عن دنيس الظالم، الذي كان يعاقب أسراه بالعمى، فيضعهم في الظلمات الدامسة، ثم يطلق عليهم فجأة الأنوار البازغة، فيفقدون البصر.
وعندها، أيقن أنه حكم عليه بالعمى.
39
ولم يحاول الأسقف أن يبحث عن النور فإنه حين سطع فجأة صاح صيحة ألم وأطبق عينيه اتقاء لحرارته المؤلمة.
غير أن هذا الحذر لم يفد، فإن النور قد نفذ إلى عينيه فأثر تأثيره فيها.
ودام تألقه نحو عشر دقائق، ثم انطفأ فجأة كما سطع، فعادت الظلمات إلى الدهليز.
وبينما هو يفكر في طريقة يتقي فيها آلام هذا النور وأخطاره، سمع وقع أقدام، فعلل نفسه بالرجاء.
فإن رجال الشر يثقون غالبا برأفة غيرهم من الناس.
فعلق الرجاء بقلب هذا الوحش الضاري الذي لم يعرف الرحمة، وقال في نفسه: إن الرجل العبوس قد اشتهر شهرة بعيدة بالرفق والإصلاح ومكارم الأخلاق، فهو لا يرتكب جريمة إعمائي دون شك، وإنما فعل فعله من قبيل الإرهاب. - وعند ذلك وقف في قفصه، واتكأ على قضبانه الحديدية، وأدار رأسه إلى الجهة التي سمع فيها وقع الأقدام فرأى نورا.
وكان هذا النور مصباحا يحمله رجل بيده ويدنو من القفص، فقال توين في نفسه: لا شك أنه الرجل العبوس وأنه قادم ليعفو عني مقابل إرجاع ثروة أسرة باميلتون للورد وليم.
فلما قرب الرجل منه وتبين وجهه ذهب ذلك الرجاء الذي علل به نفسه، فإن هذا الشخص لم يكن روكامبول، بل كان شوكنج ذلك المتسول القديم الذي احتقره بترس توين حين كلمه في الباخرة وأبى أن يجيبه.
وكان شوكنج يحمل بإحدى يديه مصباحا وبالأخرى سلة فيها طعام.
فدنا من القفص وحيا الأسقف، ولكن بترس توين جعل ينظر إليه ولم يرد التحية.
فقال له شوكنج بلهجة المسكنة: ألا تزال متكبرا علي يا سيدي؟ - إني لا أتكبر على أحد. - إن كان كذلك فإننا نستطيع المحادثة. - ألديك ما تقوله لي؟ - أولا إني قادم إليك بالطعام.
ثم أخرج من السلة ما كان فيها من خبز ولحم وخمر، وقال له: أسألك المعذرة يا سيدي، فإني لم أحضر لك سكينا لتقطع اللحم لأن الرجل العبوس لا يريد. - لماذا لا يريد؟ - إنه يخشى أن يتمكن منك اليأس فيؤدي بك إلى الانتحار. - لقد أخطأ الرجل العبوس. - وأنا أرى ما تراه يا سيدي الأسقف من خطئه، لأن من كان مثلك لا يتناوله هذا الضعف.
فأخذ بترس توين الطعام من شوكنج، ووضعه على المائدة دون أن يأكل منه.
فقال له شوكنج: ألست جائعا يا سيدي؟ - لم أجع بعد؟ - ولكنك إن لم تأكل الآن اضطررت أن تأكل في الظلام لأني أفارقك وأذهب بالمصباح. - لا بأس فإني أؤثر الظلمة. - ولا سيما حين يتلوها مثل ذلك النور الساطع الذي فاجأ عينيك منذ حين.
فنظر الأسقف نظرة غريبة إلى شوكنج وقال له: أتعرف هذا النور أيضا؟ - نعم. - وهذا النور؟ - سيفاجئك في كل ساعة يا سيدي على التوالي ...
فأجابه بصوت مختنق: ولكن لماذا؟ - إنك ما زلت اليوم تكلمني برفق يا سيدي دون استكبار فإني موضح لك ما أعلمه، فاعلم أن هذا النور الذي كاد يحرق عينيك منذ هنيهة قد اخترعه جوهن أوبريان، وهو إرلندي عريق بالإرلندية، وأحد كبار زعمائهم. - ولأية غاية؟ - لتعذيب من يقع في يد الإرلنديين من أعدائهم. - وماذا يحدث من توالي هذا التعذيب؟ - لقد جربوه مرارا فاتضح لهم أن من يحكم عليه به، يفقد بصره بعد ثلاثة أيام، وأن كثيرين أصيبوا بعد ذلك بالجنون.
فارتعدت فرائص بترس توين وقال: ألعلهم حكموا علي بهذا العقاب؟ - نعم يا سيدي، ولكن نجاتك موكولة إليك. - كيف ذلك؟ - ذلك أني لست قادما إليك لإحضار الطعام فقط، بل لأكون سفيرا لديك. - أهو الرجل العبوس الذي أرسلك؟ - نعم. - حسنا، فماذا يريد مني؟ - صبرا يا سيدي فلا بد لي أن أوضح لك بعض الأمور. - إني مصغ إليك. - إن الرجل العبوس قد اتفق مع زعماء الإرلنديين، وهو يرجو إنهاء ما لديهم من المهمات في مدة شهرين. - وبعد ذلك؟ - وهو واثق من رد ثروة اللورد وليم إليه في أقرب حين، وهذه فرصة لك تغتنمها للقبول باقتراحات الرجل العبوس، أو لرفضها، فإن رضيت باقتراحاته خرجت من هنا بعد شهرين سليم البصر. - وإن أبيت؟ - تصبح أعمى قبل ثمانية أيام.
فسكت الأسقف سكوتا دل على مبلغ عنائه واضطرابه.
40
أما شوكنج فإنه سكت وصبر عليه إلى أن يجيب من تلقاء نفسه.
وبعد هنيهة عاد توين إلى الحديث فقال: إذن، قد تقرر فقد بصري إن أبيت قبل ثمانية أيام؟ - نعم. - وإن رضيت؟ - يطلق سراحك حين يفرغ الرجل العبوس من جميع مهماته ولا يعود يخشى ضررك. - وفي خلال هذه المدة أين أقيم؟ - تبقى في هذا القفص.
فعاد الأسقف إلى السكوت، ثم استأنف الحديث فقال: إن الرجل العبوس قد فوضك تفويضا مطلقا كما أظن. - دون شك. - إذن، اعرض علي اقتراحاته. - إنك يا سيدي من أعظم الناس نفوذا في إنكلترا، وإنك تقود جيشا كبيرا من رجال الملابس السوداء يدعونهم بكهنة الإنجليكان، وإن للجمعية الإنجليكانية التي تتولى رئاستها سلطة لا حد لها، حتى إنها تستطيع قلب الحكومة إذا خطر لها هذا الخاطر. - ربما، وبعد ذلك؟ - لقد خطر للرجل العبوس خاطر غريب، وهو أنه يريد أن يستولى على هذه السلطة لمدة معينة. - إني لا أفهم شيئا مما تقول. - تفضل يا سيدي، وأصغ إلي فإني موضح لك ما أشكل عليك، وافترض أنك كولونيل فرقة من الجيش. - نعم. - ثم افترض أن الوزارات قررت أنك لا تحسن إدارة الجنود الذين تتولى رئاستهم؛ فعينت رئيسا عليك جنرالا. - وبعد ذلك؟ - يصبح الأمر للجنرال وتجب عليك الطاعة. - لقد بدأت أن أفهم. - إذن، فاعلم أنه خطر للرجل العبوس أن تكون له الرئاسة العليا على الجمعية الإنجليكانية إلى أن يقضي مهماته. - ولكن ... ذلك مستحيل. - لماذا؟ - لأنهم لا يخضعون للرجل العبوس. - هو ذاك، ولكنهم يخضعون لك. - دون شك. - وأنت يا سيدي تخضع للرجل العبوس، وترسل إلى رجالك الأوامر التي يصدرها إليك.
فاستغرق السير بترس توين بالضحك وقال: أيخطر للرجل العبوس على ذكائه هذا الخاطر الغريب؟ - قد يكون غريبا ولكنه يرجو تنفيذه.
فأجابه بلهجة المستكبر المستعظم: إني أسير الرجل العبوس فله أن يفعل ما يشاء في جسمي وحياتي، وأما نفسي وإرادتي فلا تؤسران. - إذن، ترفض هذا الاقتراح؟ - كل الرفض. - أنت وشأنك فافعل ما تشاء.
ثم أخرج شوكنج من جيبه نظارة مطلية الزجاج فوضعها على عينيه، ووضع إصبعه في فمه وصفر بعد أن أطفأ مصباحه ووضعه على الأرض.
فساد الظلام في القفص والدهليز وصبر بضع دقائق فبزغت تلك الأنوار الكهربائية المحرقة فجأة.
فصاح الأسقف صيحة شديدة وقد كاد يحرق النور عينيه وانقلب على ظهره إلى الأرض.
وقد وضع يديه فوق عينيه وكانت آلامه شديدة حتى إنه كاد يخال أن ألوفا من الإبر تخز عينيه.
فصبر شوكنج عليه إلى أن انقطع صياحه فقال له: إني لم يصبني ما أصابك يا سيدي الأسقف بفضل النظارة المطلية التي حجبت بها النور عن عيني فإن أردت عدنا إلى الحديث. - إنكم لصوص سفاكون، بل وحوش ضارية، فتبا لكم ولأحاديثكم.
فصفر شوكنج مرة أخرى فانطفأ النور، وشعر الأسقف بشيء من الراحة فقال له شوكنج: هذه هي المرة الثانية التي أطلق فيها على عينيك، وسترى نتيجتها فانظر ...
ثم أخرج من جيبه علبة من الكبريت الشمعي، وأنار بها مصباحه وقال للأسقف: أنظرت؟
وكان السير بترس توين قد سمع احتكاك الكبريت، ولكنه لم ير النور، فقال له: إن هذا الكبريت لا ينفع. - أتظن؟ - بل أؤكد فلو كان مفيدا لكنت أنرت به المصباح. - إن المصباح مضاء يا سيدي. - لقد كذبت. - بل أظن أنك فقدت بصرك ... ولكن الذنب ذنبك فأنت أردت.
فصاح توين صيحة منكرة خرجت من صدره كزئير الأسود، وسقط على الأرض وهو يشتم ويسب أقبح السباب.
41
غير أن الأسقف لم يكن قد فقد بصره تماما كما توهم في البدء فإنه فتح عينيه بعد هنيهة فرأى مصباح شوكنج يضيء على قرب منه كما يضيء النجم البعيد.
فعلم أن النور الكهربائي قد أثر بعينيه تأثيرا عظيما فعاد إلى الهياج.
فلما سكن تأثره بعض السكون قال له شوكنج، يستحيل يا سيدي أن تكون عميت من مرتين فقط، على أن بصرك، وإن يكن قد ضعف ضعفا شديدا كما تحققت ذلك بنفسك، فإن شفاءك ميسور.
فأعادت هذه الكلمات الرجاء إلى قلبه ووقف قائلا: نعم، إني لا أزال أرى. - أترى مصباحي؟ - نعم. - كيف تراه؟ - كمصباح غازي خلال ضباب كثيف. - إن لدى الرجل العبوس مرهما إذا وضع مدة خمس دقائق على عينيك عاد نظرهما إلى ما كان عليه. - أحقا ما تقول؟ - نعم. - ولكن هذا الرجل لا يريد أن يشفيني فهو شقي أقسم لإهلاكي.
فأجابه صوت غير صوت شوكنج قائلا: إنك مخطئ يا سيدي.
فصاح السير بترس توين صيحة دهش لأنه عرف من الصوت أن صاحبه الرجل العبوس.
فقال له روكامبول: إنك ما زلت لم تفقد البصر تماما فإني أستطيع أن أشفيك. - أتشفيني حقيقة؟ - إني أشفيك في الحال.
فحدق الأسقف فلم ير غير نور المصباح ولكنه لم ير شوكنج ولا الرجل العبوس، إنه لم يكن بينه وبينهما غير مسافة متر.
وعاد الرجل العبوس إلى الحديث وقال له: أغمض عينيك.
فامتثل، وعند ذلك شعر أن يدا مبتلة مرت فوق عينيه، وأحس بأنهما بردتا بردا شديدا كما لو وضع فوقهما قطعة من الثلج.
وقال له: لا تفتح عينيك إلا حين أقول لك؛ إذ يجب أن تصبر بضع دقائق كي ينفذ مفعول الدواء، وفي خلال ذلك نتحدث.
فأجابه بصوت يضطرب: ماذا تريد مني؟ - إن شوكنج أخبرك قبل قدومي بما أريده وأنك ستفتح عينيك بعد هنيهة فتجدهما سليمتين، كما كانتا قبل أن يفاجئهما النور، على أن هذه المفاجأة إن تكررت أيضا ثلاث أو أربع مرات، فإن دوائي لا يعود يفيد عينيك، بل لا يعود يفيدهما دواء. - ألعلك عازم على تكرار هذه المفاجآت؟ - ذلك منوط بك. - ولكن الذي تطلبه مني يستحيل أن أجيبك إليه. - إذن، لا تنكر علي الاستفادة من نوري، فإنك لو فزت علي لما رحمتني. - إني لا أستطيع أن أخون الجمعية التي أتولى رئاستها. - كما تريد فافتح الآن عينيك.
ففتح الأسقف عينيه فرأى النور، ورأى شوكنج والرجل العبوس وعاد بصره كما كان.
فقال له روكامبول: إنك قد وجدت بصرك بعد فقده، وعلمت حقيقة لذة النظر، والآن فاعلم يا سيدي أنه يوجد في لندرا رجل يدعى المستر سكوت وهو ساعدك الأيمن.
فدهش الأسقف وقال: أتعرف هذا أيضا؟ - وأعرف أيضا أن المستر سكوت يتظاهر أنه لا يعرفك لأسباب أعرفها أنا كما تعرفها أنت، حتى إنكما إذا تقابلتما في مجلس لا تتبادلان التحية، ولكنك إذا برحت لندرا فإنه يتولى عنك قيادة جيشكم السري. - وما الذي تريد بما ذكرته لي الآن؟ - أريد أن تكتب كتابا إلى المستر سكوت. - ما معنى هذا الكتاب؟ - إني أمليه عليك فتعلم القصد. - أمل ما تريد فإنني سأرى بعد ذلك.
42
وقد كان الأسقف منذ هنيهة يؤثر الموت على خيانة الجمعية التي يتولاها.
ولكنه، ظهر الآن، أنه عازم على الرضوخ لكل ما يريده الرجل العبوس!
أما الرجل العبوس فقد أشار إشارة إلى شوكنج، فأخرج من السلة التي أحضر فيها الطعام ورقا وأدوات الكتابة، وأدخلها إلى الأسقف من خلال قضبان الحديد.
ووضع الأسقف تلك الأدوات فوق المائدة فتنهد تنهدا طويلا، ثم نظر إلى الرجل العبوس وقال له: إني في قبضة يدك، وأرى أنه لا بد لي من الامتثال.
فقال له روكامبول: ثق يا سيدي أني لا أستخدم سلطتك لأمور دينية بل لمهامي الخاصة ومهام من يهمني أمرهم.
فلم يجبه الأسقف بشيء بل أخذ القلم بيده وتأهب للكتابة.
فقال روكامبول: إني عالم يا سيدي بكل عاداتك مع عمالك، فإنك حين تسافر من لندرا لا تخبر أحدا منهم بسفرك حتى ولا المستر سكوت. - كل هذا أكيد، ولكن ماذا تريد مني الآن؟ - تفضل إذن بكتابة ما أمليه عليك. - قل!
فأملى عليه روكامبول ما يأتي:
عزيزي سكوت ...
إني أكتب لك من إيكوسيا، فقد برحت لندرا فجأة دون أن أتمكن من إخبارك بالسبب الذي سافرت من أجله فأقصر الآن على إخبارك أن رحلتي ستأتي بخير فائدة للجمعية.
وسأسافر غدا إلى جزائر سرفي للبحث عن كنز فيها، ولا أعلم متى أعود، فقد تكون رحلتي قصيرة، وقد تطول إلى عدة أسابيع، فاعلم الآن أن حامل هذا الكتاب هو أحد عمالي الثقاة، وهو يخبرك بسر رحلتي لوقوفه عليه، وإنما أرسلته إلى لندرا لشأن خطير، وهو نائبي فيها فاخضعوا له خضوعا مطلقا في كل شأن كما تخضعون لي.
وهنا توقف روكامبول عن الإملاء، فتوقف بترس توين عن الكتابة وقال: أهذا كل ما تريد؟ - نعم، فلم يبق عليك غير التوقيع.
فتنهد وكتب اسمه تحت السطور.
فأخذه روكامبول وتمعن فيه، ثم ابتسم وقال: يظهر أن اضطرابك كان شديدا يا سيدي، حتى إنك نسيت أن تضيفه إلى توقيعك. - أية إضافة تعني بكلامك هذا؟ - أعني إضافة صليبين؛ فإن توقيعك إذا لم يكن مذيلا بهما لا يعتبره نائبك، بل يعلم أنك أكرهت على الكتابة.
فارتعش الأسقف ولم يجب بشيء.
أما روكامبول فإنه رد إليه الكتاب، وقال: تفضل يا سيدي، وضع هذه العلامة. - كلا ... فإن ذلك لن يكون. - لقد توقعت منك هذا العناد.
ثم التفت إلى شوكنج وقال: هلم بنا فإن حضرة الأسقف يؤثر العمى كما يظهر لنا من إصراره وعناده فأطفئ مصباحك، ولنضع النظارات على عيوننا فإن الأشعة ستعود إلى الظهور.
فذعر الأسقف وصاح بروكامبول قائلا: قف لا تفعل. - لماذا لا أفعل ألعلك خفت؟ - إني أضيف العلامة إلى التوقيع، وأفعل ما تريد بشرط أن تعدني بقضاء أمر. - ما هو؟ - هو أن لا يصاب المستر سكوت بأذى. - أتعهد لك. - وأن تخرجني من هذا القفص في أقرب ما يمكن. - أعدك بذلك أيضا.
فأخذ عند ذلك الكتاب، ووضع العلامة الاصطلاحية تحت توقيعه.
فقال له روكامبول: اكتب الآن العنوان فوق الغلاف.
ففعل ودفعهما لروكامبول، فأخذهما ووضعهما في جيبه، ثم قال للأسقف: إلى اللقاء يا سيدي.
وانصرف ...
ووضع الأسقف رأسه بين يديه، وبدت عليه علائم اليأس الشديد فقال له شوكنج: أظننت يا سيدي أنك تغلب الرئيس؟
فلم يجبه الأسقف، فوضع شوكنج المصباح على الأرض وانصرف، فشيعه الأسقف بنظرات تشف عن مبلغ همه حتى توارى عن الأنظار.
43
ولنعد الآن إلى لندرا فقد تركنا السير أرشيبالد مضطرب القلب لخوفه من الرجل العبوس ولافتتانه بجمال فاندا.
وكان إذا ذكر الرجل العبوس تذكر ما رآه من رعب الأسقف بترس توين، حين علم أن الرجل العبوس يخدعه، فيهلع قلبه، ثم يذكر ما أنذرته به فاندا، وهو أنه إذا أصر على المكابرة والعناد كان الخطر شديدا على حياة ابنته.
وكان يذكر جميع ذلك بعد أن فارقته فاندا ويخاف خوفا شديدا.
ثم يرى أن الرجل العبوس ليس لديه برهان غير تلك الأوراق المسجلة في سفارة باريس، وهي برهان قاطع وسلاح ماض، لا سيما في يد ذلك الرجل لمقدرته على الإنفاق، ولكنه كان يشكك في وجود هذه الأواق حقيقة لديه، ويظن أن الرجل العبوس كان عارفا بأمره، وأنه يدعي أنها لديه من قبيل الإرهاب والوعيد فيهدأ خاطره ويطمئن بعض الاطمئنان.
ثم يعاوده الخوف مما قالته فاندا، وهو أن الرجل العبوس لا يقرع أبواب المحاكم، ويذكر شهرة هذا الداهية وتفننه بالحيل فيعود إلى الاضطراب والجزع.
ولبث هذا دأبه يوما وليلة، وهو تارة يتمكن منه الخوف فيعول على الاستسلام، وتارة يطمئن فيعزم على الإباء.
ويذكر القراء أن فاندا فارقته على أن تعود إليه في اليوم التالي، وأنها أمهلته يوما للتفكير والإمعان، فلما دنا موعد قدومها كان لا يزال مترددا في أمره، لا يعلم أين يستقر.
ثم جاءته فاندا وهو على الحالة التي تقدم لنا وصفها، فنسي كل ما فيه؛ لما تولاه من الدهشة بجمالها.
وخف لاستقبالها وهو يضطرب غراما ويتلعثم، فلا يجد للتعبير عن فرحه بلقائها كلاما.
ثم جلست فاندا، وهي على أتم التأنق، فجلس بجانبها.
حتى إذا زالت دهشة اللقاء، بدأت فاندا الحديث، فقالت له وهي تبتسم: أي حضرة السير أرشيبالد، هل تمعنت في ما اقترحته عليك باسم الرجل العبوس؟
فبدت على وجه السير أرشيبالد علائم الانقباض لذكر اسم هذا الشخص الهائل وقال: نعم يا سيدتي لقد فكرت مليا في هذه المشكلة العويصة فما فتحت منها بابا حتى سد بدلا منه ما وراءه من الأبواب. - كيف ذلك؟ - إنك تسألينني التنازل عن جميع ثروة اللورد أفندال لأخيه اللورد وليم من نقد وعقار ومقتنيات.
فابتسمت فاندا وقالت: أليس ذلك حقا ولمن هذه الأموال أما هي أموال اللورد وليم؟
ورد قائلا: هو ذلك يا سيدتي، غير أني أرى تحقيق تلك الأمنية محال. ولو كنت تطلبين المال النقد لسهل الأمر، وأما عقار القاصرين فلا يمكن بيعه. - ومال القاصرين كيف يسهل دفعه؟ - إني أدفعه من مالي ولكن العقار لا يباع. - إني لا أسألك البيع، فإن اللورد وليم لا يريده، ولكني أسألك التنازل! - وكيف يتيسر هذا التنازل إلا إذا أثبتنا حقيقة أن اللورد لا يزال في قيد الحياة؟ - ألعلك نسيت يا سيدي أن الرجل العبوس يريد أن يرد إلى اللورد وليم ثروته ولقبه. - ولكن هذا محال لن يكون. - بل يكون إذا تدبرت، وأحسنت التمعن في عاقبة الرفض، وأشفقت على ابنتك، وذكرت ما يتهدد حياتها من الأخطار.
فابتسم السير أرشيبالد ابتسام المشكك وقال لها: أراك تتوعدين كثيرا يا سيدتي. - إني لا أتوعد من تلقاء نفسي، بل إني رسول، وليس على الرسول إلا البلاغ، وقد نقلت هذه الأقوال كما تلقيتها. - وهل تظنين أن هذا الوعيد صدق وأن الرجل العبوس قادر على إنفاذه في بلاد لا تنام فيها عيون رجال الأمن.
فضحكت فاندا وقالت: لقد غفلت عيون رجال الأمن عن الرجل العبوس حين خرج آمنا من سجن نوايت ليلة الحكم عليه بالإعدام.
وغفلت عيون رجال الأمن عنه، حين طوق الأسقف بترس توين منزله.
وغفلت عيون رجال الأمن عنه حيث عبث بذلك الأسقف، كما يعبث الهر بالفأر.
وماذا عسى أن يصنع رجال الأمن مع هذا الشخص الهائل الذي أقام لندرا وأقعدها؟
إنك يا سيدي مخطئ بما تظهره من عدم الاكتراث، مسيء لابنتك، مسيء لولديها، مسيء لنفسك، وإنما أقول لك ذلك من قبيل الإشفاق، وأنت مخير في قبول النصيحة.
فأطرق السير أرشيبالد هنيهة مفكرا وقال: إني أشكرك لنصحك، يا سيدتي، ولكنك لو كنت في مكاني لهانت عليك الأخطار في جانب تلك المطالب الفادحة، فإن الرجل العبوس، أي اللورد وليم يريد أن يحرم ابنتي وابنتها من كل شيء. - إنه لا يحرم أحدا يا سيدي، بل إنه يسترجع حقه. - ولكن أخاه إذا كان قد أذنب بإغواء أبيه فأي ذنب جنته امرأته وبنوه فيعاقبون بهذا الحرمان؟ - قد تكون مصيبا بعض الإصابة يا سيدي، ولكن اللورد وليم ليس من أهل الشر والانتقام، فمتى نال حقه الصريح فهو لا يهمل امرأة أخيه وأولادها.
فكبر هذا القول على السير أرشيبالد، وعظم عنده أن تكون بنته في موقف المتسولات.
فهاجت كبرياؤه وقال لفاندا: لا أدري بأي سلاح يريد أن يحاربنا هذا الرجل العبوس، ولا أدري كيف يريد اللورد وليم أن ينال ما يطمع به ثم يقف معنا في موقف المتبرعين المحسنين؟
وقد رأت فاندا أن عينيه قد اتقدتا وأنه بات أقرب إلى المشاكسة والعناد منه إلى المسالمة واللين.
فابتسمت له ألطف ابتسام وقالت له: إني ما جئت يا سيدي غير رسول، ويسوءني أن يكون لكلامي هذا الوقع الأليم منك، فإني لا أريد لك إلا الخير، غير أني أراك كثير التشبث في رأيك، قليل الاكتراث بما يتهددك من الأخطار، فهل تريد أن أقنعك بوجود هذه الأخطار؟ - هذا كل ما أريده يا سيدتي.
وقالت له فاندا: وإذا أقنعتك يا سيدي، أتوافق الرجل العبوس في ما اقترحته لك؟ - إني أنظر عند ذلك في اقتراحاته نظرة أخرى. - إنك سألتني، يا سيدي، عن سلاح الرجل العبوس، وسلاح اللورد وليم. - هو ذاك. - أما سلاح الرجل العبوس، فهو فوزه على أبناء سيوا في الهند، وعلى الإنجليكان في لندرا، وكفى بذلك سلاحا يحملك على الخوف إذا كنت من المتبصرين، وأما سلاح اللورد وليم فهو إقرار برسي المسجل في السفارة الإنكليزية. - وأين هذا الإقرار؟ - لدى العبوس.
فابتسم السير أرشيبالد ابتسام المشكك وقال: وما يضمن لي صحة هذا القول؟ - يضمن لك الاطلاع على هذه الأوراق.
وكانت فاندا تقول هذا القول بلهجة الواثق المطمئن وقد تبين السير أرشيبالد الصدق من لهجتها.
فاضطرب وأفحمه البرهان، ولكنه حاول المراوغة فقال: لنفرض أن هذه الأوراق موجودة حقيقة لدى العبوس، فكيف يستطيع المجاهرة بها وهو محكوم عليه بالإعدام؟ - لقد قلت يا سيدي، إن الرجل العبوس لا يلجأ إلى المحاكم في نيل حق.
ولكن لنفرض كما فرضت أنه عاجز عن نيل حق اللورد وليم بالدهاء والحيلة فإنه يعطي الأوراق للورد وليم. - إن ذلك يحتاج إلى المقاضاة. - وما يمنعه عنها؟ - أولا المال. - إن العبوس ينفق عن سعة ولا يعوزه المال. - ثم البرلمان نفسه؛ فإنه لا يؤذن بمثل هذه الفضيحة، ولا يسمح بمحاكمة هذه الأسرة. - إن القضاة فوق البرلمان، والمال في بلادكم فوق القضاء، وفوق البرلمان. - ولكن هناك قوة لا تعلمينها وهي فوق جميع ما ذكرناه. - ما هي؟ - هي نفوذ الجمعية الإنجليكانية. - بمن يقوم نفوذ هذه الجمعية السرية؟ - بعميدها ورئيسها الأسقف بترس توين.
فابتسمت فاندا وقالت له بلهجة المتهكم: إنك تبحث يا سيدي منذ يومين عن هذا الرئيس ألعلك وجدته؟
فذعر السير أرشيبالد لما سمعه وقال: هو ذاك فكيف عرفت أني أبحث عنه وأين هو الآن؟ - أما إني عرفت أنك تبحث عنه، فذلك مما يثبت لك أن عين العبوس غير غافلة عنك.
وأما بترس توين فلا أدري أين هو، ولكن لنفرض أنه في قبضة الرجل العبوس، وأنه اضطر إلى أسره كي لا يكون عثرة في سبيل ما يريد قضاءه من المهمات.
فأجفل السير أرشيبالد وقال: ماذا أسمع منك يا سيدتي، أيمكن ذلك أن يكون؟ - كل شيء ممكن للرجل العبوس، فما أراد أن يكون فهو كائن، وقد نصحتك، ولا أزال أكرر عليك النصح، فإن مسالمة هذا الشخص خير من معاداته، ولأن تنيله ما يريد بالرضا خير من أن يناله منك بالكره والاغتصاب. - ولكنك لم تخرجي بعد يا سيدتي عن حد الافتراض، فكيف أستطيع التسليم والرضوخ وأنت تقولين لنفرض أن الأوراق بيد العبوس، ولنفرض أن بترس توين في أسره. - تريد أنك لا توافق الآن على اقتراحاتنا إلا عندما ترى تلك الأوراق ويثبت لك أسر بترس توين. - هو ذاك ومتى ثبت ذلك نظرنا معا في تعديل تلك الاقتراحات، فإن تحقيقها بجملتها محال. - إذن، أستمهلك يومين فأثبت لك الأمرين. - أتريني الأوراق وتثبتين لي أسر بترس توين. - نعم. - وعندها ننظر في اقتراحكم.
وردت فاندا قائلة: بل تنظر فيه الآن على افتراض أن البرهان موجود كي لا يطول زمن المخابرات، فإن أشغال الرجل العبوس تقضي عليه بسرعة الذهاب. - ألعلك مفوضة عن العبوس بإبرام الاتفاق؟ - كلا، وإنما أعرض عليه ما اقترحته من التعديل بلسان البرق، فإذا رضي به فلا توقع على الاتفاق إلا بعد أن تستوثق من تلك البراهين، فقل الآن ماذا تريد أن تقترح؟ - إني أبسط اقتراحي يا سيدتي وأنا أرجو أن تكوني لي عونا في تنفيذه فإني أراك من نساء الخير وخير النساء.
فانحنت فاندا شاكرة وقالت له: ثق يا سيدي، إني سأكون عونا لك فيما تريد. - إن أشد مشكلات هذه القضية التنازل عن اللقب؛ فإن في ذلك فضيحة لا يخلق أن توصم بها تلك الأسرة العريقة بالنسب.
أما الفضيحة فهي أن اللورد وليم ميت في عيون الحكومة والناس، فإذا أعدنا إليه اسمه فلا بد من إظهار حقيقة الجناية، وأية فضيحة أعظم من فضيحة اللورد أفندال إذ ظهرت جنايته على أخيه.
ثم إن هذا العار لا يلحق باللورد أفندال الميت، وأولاده وامرأته الأحياء فقط، بل إنه يشمل أسرة باميلتون، ويلطخ هذا البيت بوصمة لا يمحوها كرور الأدهار.
وبعد، فأية فائدة للورد وليم من المحافظة على اسم أسرة تلطخ بعار الجنايات؟
إن المرء يحافظ على اسم أسرته ما زال نقيا من العيوب، سالما من الشوائب ...
أليس خير للورد وليم أن يبقي على شرف هذه الأسرة، وينتحل لنفسه ما أراد من الأسماء بفضل ما يقبضه من المال الكثير؟ - ليس من شأني الحكم في هذا الشأن فقد يكون للعبوس واللورد وليم غير هذا الرأي. - ولكنك وعدتني يا سيدتي بالمساعدة. - لم أزل على وعدي، فقل لي بقية ما تريده من التعديلات، حتى إذا رأيت من التساهل ما يفسح لي مجال المداخلة تداخلت، وكنت لك خير معين. - لم يبق غير أمرين وهما إرجاع الثروة وابتعاد اللورد عن لندرا.
أما الثروة فقد تقدم لي القول إني أدفع له منها المال النقد، فإن عقار القاصرين لا يباع، والتنازل محال، ما زال اللورد ميتا في أعين الناس.
وأما ابتعاده عن إرلندا فذلك لا بد منه تجنبا للفضيحة إذ قد يراه بعض أصحابه القدماء فيعرفونه.
فابتسمت فاندا ابتسام المتهكم وقالت: أهذا هو التعديل الذي تريد أن تحمل به اللورد على التنازل عن لقبه ولديه بإثباته أمضى سلاح؟ - ماذا تريدين؟ - إني لا أريد شيئا، ولكني أشير عليك أن تتنازل عن الثروة بجملتها فإن اللورد يأنف من أسرته بعد تلك الجناية الهائلة، وقد ينفر من الإقامة في لندرا، بعد ما لقي فيها تلك الآثام، ولكني لا أخاله يتنازل عن درهم من ثروته. - ولكن العقار لا يباع وأصحابه قاصرون. - ولكن قيمته تعرف . - ماذا تعنين بذلك؟ - أعني به أن ثروتك تبلغ أربعة أضعاف ثروة أسرة باميلتون، وأنت لا وارث لك غير ابنتك وبنيها.
ثم أنت من أشد الناس رغبة بالجاه والنفوذ، فإذا أردت استبقاء الجاه، واتقاء الفضيحة، والاحتفاظ بذاك اللقب، لأبناء ابنتك، فلتثمن موجودات أسرة باميلتون بأسرها، فإذا عرفت قيمتها، دفعتها أنت من نقودك.
فذعر السير أرشيبالد وصاح مستنكرا: إن هذه الثروة تبلغ عشرين مليونا، أتريدين أن أدفع من مالي ذاك المبلغ الجسيم؟ - أليس خيرا أن تدفع بالرضا، بدلا من أن تدفع بالإكراه؟ وقد عرفت يا سيدي سلاح العبوس، فهل تجعل بك المكابرة بعد ذاك العرفان؟ - ولكن هذه البراهين لم تثبت لي يا سيدتي، ولا تزال في حد الافتراض! - دون شك، ولكنك لا تدفع المال إلا بعد أن تستلم الأوراق، أي بعد أن يصبح ذاك السلاح بيدك، على أني أعيد عليك ما قلته وهو أني لا أضمن رضا العبوس، ولكني أتوسط لديه، وأرجو أن أتمكن من حمله على القبول.
فأطرق السير أرشيبالد إطراق المهموم وقد أيقن من وجود البراهين وهي أمضى سلاح ضد ابنته.
وراعه احتجاب الأسقف، وهو معينه الوحيد، وخشي أن ينتزع الرجل العبوس لقب اللوردية من أبناء بنته، وهو يحتقر كل مال في جانب هذا اللقب.
ثم إنه كان من أعظم أغنياء الإنكليز، ومن أشدهم احتقارا للمال، فلما رأى أنه بات كالطير قص جناحاه لم يجد بدا من القول، فالتفت إلى فاندا وقال لها: متى أرى البراهين يا سيدتي؟ - أية براهين؟ - براهين الأوراق وبراهين الأسقف. - بعد يومين. - وإذا دفعت المال بجملته أستلم الأوراق؟ - دون ريب. - ويتعهد اللورد وليم أن لا يقيم في لندرا! - إذا رضي باسترجاع الثروة دون اللقب فلا بد له من الرضا بالابتعاد، وإنما شأني بينكما شأن الوسيط، فسأعرض على العبوس اقتراحك، فإذا رضي به بلغتك رضاه. - وإذا لم يرض؟ - يعود إلى العمل لاسترجاع اللقب بالقوة، ويعود اللورد إلى استرجاعه بالأحكام.
فاصفر محيا السير أرشيبالد وقال: إذن، تفضلي بعرض اقتراحي على الرجل العبوس. - إنه يتضمن إعادة الثروة بجملتها من نقد وعقار؟ - هو ذاك. - وأما العقار فيثمن، وتحول قيمته إلى نقد، وتدفع أنت المال على الفور. - بعد أن أستلم الأوراق. - هذا لا ريب فيه.
فتنهد السيد أرشيبالد وقال: إذن، افعلي ما تشائين، فقد ألقيت عليك اعتمادي. - وأنا معتمدة في قضاء هذه المهمة على ما لي من الدلالة على العبوس، ورجائي أن أتمكن من إقناعه. - متى أراك يا سيدتي؟ - بعد يومين، فإما آتيك نذير حرب أو أكون رسول سلام. - إنك حمامة وديعة يا سيدتي، ولم تكن الحمائم إلا رسل السلام. •••
وبعد حين ودعته فاندا، وانصرفت رأسا إلى مكتب التلغراف، وأرسلت إلى روكامبول بجمل اصطلاحية التلغراف الآتي:
مضى بعد الجهد بإعادة الثروة بجملتها من ماله الخاص دون اللقب ... إنه مصيب، فإن إحياء اسم اللورد وليم يظهر الحقيقة، ويشين الأسرة.
وهو يشترط استلام تقرير برسي، وإثبات أسر الأسقف بترس توين، وابتعاد اللورد عن لندرا ... وعدته بالجواب بعد يومين ... فمر بماذا يجب أن أجيب.
فاندا
وبعد أن أرسلت هذا التلغراف إلى روكامبول، عادت إلى منزلها بعد أن تركت عنوانها وأقامت فيه تنتظر الرد.
فجاءها بعد ساعة هذا التلغراف:
سأكون أنا الجواب وسنتفق.
روكامبول
44
لقد تركنا الأسقف سجينا في قفص الحديد، وهو يعض البنان حسرة وندما لما أصابه من الفشل، ولوقوعه في قبضة الرجل العبوس، بعد أن كاد يظفر به في لندرا، ويرده إلى سجن نوايت، وينال منه مراده.
وقد كان أشد ما لقيه من الهم أنه اضطر إلى خيانة الجمعية التي يتولى رئاستها بذلك الكتاب الذي أملاه عليه روكامبول.
وقد ندم بعد فوات الأوان، وبات يؤثر العمى، وكل ضروب التعذيب والتنكيل.
ولكنه ندم بعد فوات الأوان، فكان يأسه لا يوصف، لا سيما حين كان يجول في خاطره ما يمكن أن يناله الرجل العبوس والإرلنديون بواسطة هذا الكتاب، فإنه كان يئن أنين المتوجعين، ويزأر في ذلك القفص زئير الوحوش.
أما روكامبول فإنه بعد أن أخذ الكتاب من الأسقف ذهب إلى عصابته فقال لهم: لقد قضي الأمر، وحمله الخوف على التسليم.
ثم حدثهم بأمر الكتاب وقال له مرميس: إني لا أرى في الكتاب فائدة لك بل كل الفائدة للإرلنديين. - بل لي ولهم. - إني أعجب أيها الرئيس كيف تخدم الإرلنديين مثل هذه الخدمة الجليلة وهم جحدوا نعمتك، وأنكروا فضلك حين كنت في السجن. - ألم يحاولوا إنقاذي؟ وما عليهم أن يفلحوا فإن على المرء أن يسعى وليس عليه أن تتم المقاصد. - ولكنهم ما حاولوا إنقاذك من أجلك بل من أجل مس ألن. - قد يكون ذلك، غير أن غايتهم نبيلة، لا تضيع فيها جلائل الأعمال. - ولكن جحودهم نعمتك لوث هذه الغاية، ولو كان أمرهم بيدي لتركتهم وشأنهم وما جازيتهم بعد الإساءة بالإحسان.
فابتسم روكامبول ابتسام الحزين وقال: أهذا ما أخذته عني يا مرميس بعد التلمذة؟
ألا تدرى أنك تعمل بمبدأ الشر بالشر وأنت لا تدري ... وإذا تخليت عن نصرة المظلوم وانتشاله من براثن أهل الشر حين تستطيع، ألا تكون شريكا لهؤلاء الأشرار؟
ومتى علمتك أن تكون من أهل الشر؟
إن المرء خلق جحودا كافرا بالنعمة، يذكر السيئة ويتغاضى عن الحسنة، فإذا تخلقت بأخلاقهم فكيف تمتاز عنهم؟
وإذا لم تكن لك ميزة عليهم فكيف تفيدهم، وإذا أحببتم من يحبكم فأي فضل لكم؟
فأطرق مرميس مستحييا وقال: عفوك أيها الرئيس فقد دفعني حقدي على الإرلنديين إلى قول ما قلته، فقد أثر بي رفضهم إنقاذك تأثيرا شديدا لا تزال آثاره إلى الآن في داخل صدري. - وما نطقت به الآن هفوة أخرى أود أن لا تعود، فإن النفوس الشريفة لا تضمر الأحقاد.
وكأنما قد أشفق على تلميذه من الاستحياء، فالتفت إلى اللورد وليم وقال له: بقيت لهذا الكتاب فائدة أخرى، قلت لمرميس إنها لي والحقيقة أنها لك. - كيف ذلك أيها الرئيس؟ - ذلك لأني أرجو أن أقنع به السير أرشيبالد أن الأسقف في قبضتي كي أحمله على التساهل في أمرك إذ لا نصير له غير الأسقف فمتى عرف أنه في قبضتي، لم يبق له نصير، كما عرف أن إقرار برسي بيدي فهو يتساهل كل المساهلة دون شك. - كيف عرف أن الإقرار بيدك؟ - إني قد عهدت إلى فاندا بمخابرته، وربما تكون قد لمحت له عن وقوع الأسقف في قبضتي، فقد كلفتها بذلك أيضا. - إذن، لم يبق لدينا ما نعمله الآن هنا فلنعد إلى لندرا. - كلا فإني أنتظر تلغرافا من فاندا عما أفضت إليه المخابرات، إذ ربما احتجت إلى كتاب آخر أمليه على الأسقف السجين. •••
بينما كان روكامبول يحادث اللورد وليم وتلميذه بما تقدم كانت فاندا تخابر السير أرشيبالد بما تقدم لنا بيانه في الفصل السابق.
فلم تمض ساعة حتى ورد إلى روكامبول ذلك التلغراف المتضمن خلاصة المخابرات.
وعاد روكامبول إلى الاجتماع باللورد وليم والمداولة معه فيما اقترحه السير أرشيبالد من التعديل، وهو إرجاع الثروة بجملتها إلى اللورد وإبقاء اللقب لأبناء أخيه وسفره من لندرا.
وقد كان من رأي روكامبول الإصرار على استرجاع اللقب والثروة معا.
ومن رأي اللورد، الاكتفاء بالثروة حذرا من الافتضاح، وإشفاقا على أسرة باميلتون من العار.
وفوق ذلك فإنه أنف العودة إلى هذه الأسرة بعد تلطخها بهذه الوصمة الشائنة فرضي بما اقترحه السير أرشيبالد من التعديل.
وكذلك روكامبول فإنه علم أنه إذا لم يفز على السير أرشيبالد بالدهاء والحيلة فاز عليه بالمقاضاة.
لكن مثل هذه القضية الكبرى يقتضي لها عدة أعوام، لا يستطيع في خلالها مفارقة اللورد وليم، لا سيما وأن اللورد رضي بما قسم له فاضطر إلى موافقته.
وعند ذلك أرسل إلى فاندا ذلك التلغراف ويقول فيه: «سأكون أنا الجواب».
ثم جمع عصابته فأمرها أن تتأهب للرحيل ونادى شوكنج وقال له: إننا سنسافر دونك، وستبقى في هذا المنجم، وتكون مهمتك حراسة القفص الحديدي ومن يسكنه. - أيطول عهد سجن هذا الأسقف؟ - إني لا أظنه يمتد أكثر من شهر واحد. - وبعد ذلك ماذا أعمل؟ - تطلق سراحه. - بأمر من؟ - بأمري أو بأمر من الكاهن صموئيل. - وبعد إطلاق سراحه؟ - تبرح هذه البلاد وتعود توا إلى باريس حيث تلقاني فيها. - ألا خطر علي من الأسقف بعد إطلاق سراحه؟ - كلا، حيث يصبح عاجزا عن الإيذاء بأحد، وأحوج منك إلى الخوف واتقاء الأخطار. - سأمتثل يا سيدي لما تريد ، فسر آمنا على السجين.
وبعد ساعة سافر روكامبول وعصابته واللورد وليم وإدوار عائدين إلى لندرا، بعد أن كتب إلى رئيس مستشفى الجزيرة يأمره بإطلاق سراح جوهن بيل أو ولتر بريس؛ إذ لم تبق لهم فائدة من أسره.
ولما وصلوا إلى لندرا اجتمع روكامبول وفاندا بالسير أرشيبالد وأيقن السير أرشيبالد من صدق ما قالته له فاندا.
وتم الاتفاق بينه وبين اللورد وليم أن يبرح لندرا فلا يرجع إليها احتفاظا بالسر، وأن يتخلى عن لقبه، وأن يقبض نقدا قيمة جميع ثروة أسرة باميلتون.
ففضت هذه المشكلة العويصة رحلة روكامبول، وكان الخصمان راضيين أتم الرضا، هذا لاحتفاظه بالجاه والنفوذ، وذاك لاقتصاره على المال وابتعاده عن أهل الشر والنفاق.
45
لقد مضى بنا عهد طويل دون أن نذكر شيئا عن مس ألن ابنة اللورد بالمير ولا بد أن يكون القراء تواقين إلى معرفة أمرها، بعد عودتها من باريس إلى لندرا فنقول: إن أباها كان يحبها حبا شديدا فلم يكن يحن إلا لصوتها، ولا يرق فؤاده إلا لحديثها، ولا يعرف قلبه الضعف إلا حين ينظر إليها.
وقد عادت مس ألن إلى منزله وهي واثقة كل الوثوق من استرضائه، بل إنها كانت واثقة أيضا من حمله على موافقتها في التشيع للإرلنديين بعد أن انضمت إليهم بفضل روكامبول.
وقد نالت كل ما أرادت من ذلك القلب الأبوي الضعيف فغفر لها فرارها من منزله.
ولم يمض بها بضعة أيام حتى أرجعته إلى مذهب آبائه وهو الكثلكة فبات لوردا بروتستانيا بالظاهر وفي الباطن إرلندي كابنته.
وكان روكامبول يزورها بعد خروجه من السجن متنكرا، وقد راعه ما رآه من تهورها في غرامه، فكان يحاول أن يصرف قلبها عن هذا الحب الذي لا رجاء فيه بما أوتيه من الدهاء والحيلة، ولكنها لم تكن تزداد إلا هياما به وتعلقا برجاء زواجه حتى خشي عاقبة هذا التهور، وعول أن يلجأ معها إلى التصريح بدلا من التلميح.
وكانت مس ألن تدرك معاني تلميحه وترى من مناهجه أنه يحبها حبا أبويا طاهرا فيكبر عليها أمره، ثم يمر بخاطرها اسم فاندا فتكاد تفترسها الغيرة منها، ولكنها لا تذكر شيئا من غيرتها لروكامبول أنفة واستكبارا.
فلما فرع روكامبول من قضاء مهمة اللورد وليم، لم يبق عليه غير مهمتين وهما توديع الأب صموئيل وتسليحه بكتاب الأسقف بترس توين، وتوديع مس ألن ونزع هذه الأميال من فؤادها بما تفتقه له الحيلة في تضاعف الحديث، إذ جاهر لسانها بما كانت تجاهر به عيناها من معاني الغرام.
وقد بدأ بزيارة مس ألن فسار إليها وقلبه يضطرب لما كان يتوقع أن يلقاه في ساعة التوديع.
فاستقبلته في القاعة الكبرى، ثم نزلت به إلى الحديقة وجلست وإياه على مقعد في ظل شجرة باسقة فأقام معها نحو ساعتين لم يعلم أحد ما دار بينهما من الحديث في خلالهما.
غير أنهما حين افترقا كانت مس ألن مصفرة الوجه متقدة العينين، وكان روكامبول مضطرب البال تبدو آثار القلق من عينيه.
ولم يذهب بعد افتراقهما إلى مقر العصابة، بل سار توا إلى الكنيسة التي يقيم فيها الأب صموئيل، فلقيه وأخبره بجميع ما اتفق له مع الأسقف، إلى أن أخبره بأمر الكتاب الذي أملاه عليه وكتبه بخطه وتوقيعه، فكاد يطير فؤاد الكاهن سرورا وقال: إنك خدمت الإرلنديين خدمة لا ينسونها أبد الدهر، فإننا سنبلغ من الجمعية الإنجليكانية ما نشاء بفضل هذا الكتاب. - وإذا كنتم محتاجين إلى المال فإن خزائنها الآن بين أيديكم على أن تحسنوا الحيلة. - ولكن الكتاب يتضمن تفويضا مطلقا وطاعة لحامله لا حد لها. - وماذا عليك من هذا الإطلاق؟ - إني أخشى أن يريبهم ذلك فلا ندرك كل مقاصدنا. - إن شعرتم بشيء من الريبة فاعمدوا إلى التخصيص. - كيف ذاك؟ - ذلك أن الأسقف لا يزال سجينا في القفص، وشوكنج يعرف أسرار الآلة الكهربائية فأملوا عليه ما تشاءون، فيكتب لكم، وإن أبى هددوه بالنور؛ فقد لقي من عنائه وآلامه ما يضطره إلى الإذعان. - وبعد ذلك ما تريد أن نصنع به؟ - إني كنت أود أن أطلق لكم الحرية في أمره، ولكني وعدته بإطلاق سراحه حين نفرغ من مهمتنا ونصبح جميعنا في أمن من كيده، أما أنا فإني قد قضيت الآن مهمتي فأسرعوا الآن أنتم في قضاء ما تبتغون منه. - ولمن عهدت إطلاق سراحه؟ - لك، فإن شوكنج لا يطلقه إلا إذا ورده أمر منك أو مني، وأنا مسافر فلا أتداخل في أمره بعد الآن. - وأين أجد شوكنج؟
فأرشد روكامبول إلى مكانه، ثم ودع ذلك الكاهن الجليل بعد أن أقام عنده مدة طويلة وانصرف إلى مقر العصابة وهو مشتت البال وعلائم الحزن بادية عليه.
فلما وصل إلى حيث يقيمون كان أول ما نطق به سؤاله عن فاندا لأنه لم يرها بينهم.
فقال له مرميس: إنها خرجت من المنزل منذ ساعتين ولم تعد بعد. - إلى أين ذهبت؟ - إلى مس ألن فإنها أرسلت تدعوها برسالة قالت فيها إنها محتاجة إليها لشأن خطير فلم يسع فاندا إلا الإسراع بالذهاب مع الرسول.
فلم يكد روكامبول يسمع هذا القول حتى امتقع لون وجهه وبدت علائم الرعب بين عينيه فهب منذعرا وخرج من المنزل وهو لا يلوي على أحد.
فأجفل مرميس ورفاقه وحاولوا أن يتبعوا الرئيس، فعاد إليهم وأمرهم بالبقاء في المنزل، ثم خرج وهو يقول: قوتلت الغيرة، فإني أخشى أن تكون دفعت تلك الفتاة إلى الكيد بفاندا، بل قوتلت أنا فقد غفلت عما يجره نزق الشباب.
ثم اندفع ينزل درجات السلم أربعا أربعا وهو يود لو كان له أجنحة فيطير بها إلى مس ألن لفرط إشفاقه على فاندا ورجال العصابة وقوف في أعلى السلم وهم منذعرون، فإنهم عاشروا الرئيس دهرا طويلا، ومارسوا معه أفدح الخطوب فما رأوه مرة أصيب بمثل هذا الرعب ولم يتعودوا منه غير السكينة وثبات الجأش.
أما روكامبول فإنه لم يكد يخرج من الباب حتى صاح صيحة فرح وقال: فاندا!
فأجابته فاندا بصيحة مثلها وقالت: روكامبول!
ثم هجمت عليه فعانقته والدموع تذرف من عينيها، ذلك أنه كان خارجا من الباب، وكانت داخلة إليه، وكان خائفا عليها، وكانت خائفة عليه كما سنبسطه للقراء.
46
كانت مس ألن قد علقت بروكامبول وفتنت به أي افتتان حتى باتت تراه في مقتبل الشباب وهي تعلم أنه تجاوز عهده، ورأته مثيلا لها في النبل والنسب على عرفانها بأنه وجد لقيطا ونشأ لصا وترعرع سفاكا، ولكن الغرام جعل كهولته شبابا ناضرا، وحطة مولده نسبا طاهرا.
فكانت إذا ذكرت آثامه شفع فيها أنه ندم وتاب، وإذا رأت وخط الشيب في شعره قالت إنه استبدل حمامة بغراب، وإذا خطرت لها حطة نسبه قالت: إن عرش الغرام لا يرقى إليه بسلم الأنساب.
الغرام الغرام إنه آفة البصائر والألباب، فلا يسمع فيه غير حديث القلوب، ولا لغة له غير لغة الوجدان، ولا رأي فيه لعقل وصواب.
ذلك كان حال تلك الفتاة، وهي في ربيع العمر وزهرة الشباب، قد نفذت إلى قلبها أشعة الغرام، فملأت وعاء ذلك القلب، وعشقت في الثامنة عشرة من عمرها، وهي عروس الشعر كهلا تجاوز الأربعين فتجاوز عنه الشعراء.
ولقد زادت في اتقاد جذوة غرامها استخفاف روكامبول بذلك الغرام، ووثوقها أنه يحب فاندا، ولذلك كانت إذا ذكرت ما بينها وبين مزاحمتها من التباين في الجمال والصبى والمقام، ثم رأت ميل روكامبول إلى خصيمتها فيه، هاجت فيها عوامل الغيرة وأكبرت رغبته بها عنها، على وجود ذلك التباين، وهي لا تدري أن أعظم مفرق بينها وبينه إنما هو هذا التباين نفسه، فما رأت العقلاء جناية أبلغ من جناية زواج تباينت فيه الأقدار والأعمار إلى حد تباينها بين هذين.
غير أن مس ألن على وفرة ذكائها لم تكن تصغي إلا لصوت قلبها، فلما انصرف روكامبول من منزلها تمثلت لها فاندا وكادت تفترسها الغيرة، وقد أضل الغرام صوابها، وخطر لها أن تدعو إليها فاندا وتبوح لها بمكنونات قلبها وتمنحها ما تشاء من أموالها في مقابل التخلي لها عن ذلك العشيق، كأنما العشق يباع ويشترى.
ولكن الغيرة ذهبت بذكائها، فقامت إلى منضدة، وكتبت إلى فاندا رسالة تسألها فيها الحضور إليها، وبعثت رسالتها مع إحدى خدامها، ثم ذهبت إلى غرفة زينتها فتبرجت أحسن تبرج، ولبست أفضل ما لديها من الملابس والمجوهرات فباتت فتنة للناظرين، وأقامت تنتظر قدوم فاندا على أحر من النار.
وقد عرف القراء من حب فاندا لروكامبول، ما لم يبق سبيل معه لوصف، فهي شريكته في سرائه وضرائه، وهي التائبة من أجله أصدق توبة، وهي التي كانت تقتبس نور الحياة من نور عينيه، وتخاطر بالموت من أجل أن يحيا، وهي التي امتزجت نفسها بنفسه، حتى سارتا نفسا واحدة ذات شعور واحد ووجدان واحد.
وهي التي اتفقت وإياه في المقام والسيرة والمنزلة والروح، ومثل هذا الحب لا يوصف، وأنى لأقلام الكتاب أن تجول فيه.
غير أن فاندا، على فرط ثقتها بروكامبول، وعلى توقد ذهنها كان يأخذ الغرام في حالاته من ثقتها وعقلها بقدر ما كان يأخذ من عقل مس ألن، فإن الحب يضعف الأحلام.
ولذلك كانت إذا علمت بالتقاء روكامبول مع تلك الفتاة خلت في غرفتها، وبكت بكاء الأطفال، ليس لخوفها من أن تنفذ نظرات مس ألن إلى قلب الرئيس، فقد كانت تعلم أن هذا القلب العظيم لا موضع فيه للخيانة، ولكنها كانت تحزن لهذا اللقاء دون أن تعلم السبب في هذا الحزن، ولعل ذلك لشدة حرصها على غرامه، ولفرط افتتانها به على اعتقادها بصدق ولائه، فكان مثلها مثل الطفل إذا دنوت من ألعوبته صاح وبكى دون أن تمسها.
تلك هي حالة هاتين المتزاحمتين في حب ذلك الرجل الكبير، وتلك حال روكامبول بينهما.
فلما وصل كتاب مس ألن إلى فاندا وجف قلبها، كأنما قد توقعت مصابا، ولكنها لم تجد بدا من الذهاب إليها، فسارت إلى ذلك القصر الفخيم مكرهة وهي كأنها تسير إلى موقف عقاب.
وكانت مس ألن قد أخفت اضطرابها، حتى إذا أقبلت فاندا استقبلتها بالبشر والترحاب، وآنستها كل الإيناس، وجعلت تنتقل معها من حديث إلى حديث حتى بلغت إلى حديث عزم العصابة على السفر.
فأخبرتها بصوت مضطرب، أن روكامبول جاءها مودعا، وأنه فارقها منذ حين.
فاصفر وجه فاندا لما رأته من اضطراب مس ألن حين ذكرت اسم روكامبول، ونظرت كلتاهما إلى الأخرى نظرة تشف عما يخالج قلبهما من الغيرة.
وكأنما هذا الاصفرار والاضطراب منهما قد فتح بينهما باب التصريح، وأطلقت الألسنة بمكنونات الفؤاد، فكانت مس ألن البادئة بالحديث، فابتسمت ابتسام المتهكم وقالت لفاندا: أرى وجهك قد اصفر أيتها الحسناء، فهل راعك أن يزورني روكامبول مودعا قبل السفر؟
فأجابتها فاندا بمثل ابتسامها وقالت: لم ترعني زيارته لك يا سيدتي فقد طالما زارك، وإنما راعني اضطراب شفتيك حين خرج منها اسم روكامبول. - وماذا فهمت من هذا الاضطراب؟ - كما فهمت أنت من ذلك الاصفرار. - نعم ... إن قلبي يضطرب حين يجول رسمه في خاطري، ويتلعثم لساني حين ينطلق باسمه، نعم إني أهواه، ولا أخشى في هواه لومة لائم، فقد جرى حبه في قلبي مجرى دمي في مفاصلي، فعصيت من أجله أبي، وفررت من بلدي، وتركت مذهبي، وخنت أمتي، فكيف أخاف التصريح بهواه وقد برح حبه بي هذا التبريح؟
فامتقع وجه فاندا لما سمعته من هذا التصريح الجلي، ولكنها تجلدت وتذرعت بالسكينة والحكمة فابتسمت وقالت لها: يسوءني يا سيدتي أن أرى منك هذا الاندفاع في حب رجل لا فائدة لك من هواه، وأية فائدة من غرام لا يسفر عن القران؟ إنه لا يكون منه غير العذاب.
فاهتزت الفتاة وهاجت بها عوامل الكبرياء فقالت: ولماذا لا يسفر حبي له عن القران؟ ألعلي لست من أكفائه؟ - إنه ليس من أكفائك يا سيدتي، فإن ما بينكما من تباين المقام يحول دون هذا الغرام؛ إنك يا سيدتي في الحلقة الثانية من العمر، وهو قد تجاوز الرابعة، وأنت يدعونك اللادي بنت فلانة وفلان، وهو لقيط لا يعرف اسم أبيه، ولا يعرف عن أمه إلا أنها كانت وصيفة نورية في أيام الثورة عند إحدى النبيلات، وكيف يكون التباين أعظم مما بينكما، وكيف يخطر لك خاطر الزواج ببال.
تمعني أيها الحبيبة تجدي أن زواجك به محال، وإذا كنت قد جريت في حبه هذا الشوط البعيد، فصبرا إنك سوف تتدرجين بسلوانه كما تدرجت بحبه، ويكون البعاد خير شفيع للسلوان.
وكانت مس ألن تسمع حديث فاندا والدموع تكاد تجول في عينيها لوثوقها أن فاندا لا تحاول إقناعها بهذه البراهين العقلية ، إلا لتواله قلبها فيه، ولكنها تكلفت السكينة أيضا، كما تكلفتها فاندا، وأرادت دحض برهانها بالبرهان فقالت: تقولين: إنه تجاوز عهد الصبى، وإن الشيب قد وخط شعره، ولكنه إذا شاب رأسه فإن قلبه لم يشب، وكفى بإقدامه دليلا على أنه من أهل الشباب، وأما أنه نشأ بين اللصوص فكفاه نسبا أنه ابن نفسه، وأنه أشرف أهل الأنساب، وماذا يشين المرء أن يكون لقيطا، وأي عدل يقضي أن يؤخذ الولد بذنب أبويه.
وأما أنه كان من اللصوص الآثمة فأنت تعلمين أنه تاب توبة صادقة لا رجعة فيها، وأن بين جنبيه قلبا كبيرا لا متسع فيه لغير النبل والشرف وجلائل الأعمال، فأي تباين بقي بيني وبينه، وماذا يمنعني عن هواه؟ - ولكنه يا سيدتي محكوم عليه بالإعدام في لندرا، ومحكوم عليه بالسجن المؤبد في باريس فهو يعيش ما يحيا وأين وجد متنكرا حذرا لا يأمن في كل ساعة أن ينقض البوليس عليه. - إن بلاد الله واسعة فأهرب به إلى آخر الأرض، إني أحب منه «هو»، هو أينما كان وكيف كان.
ورأت فاندا أن إقناعها بالبرهان مستحيل فقالت: إذا كان ذلك كذلك يا سيدتي يبقى إلا أن يقنع هو اقتناعك. - ولهذا دعوتك إلي يا فاندا. - وأي شأن لي في إقناعه، ألا تعلمين أنه الرئيس المطلق علينا وأنه ليس بيننا من يجسر على اعتراضه في ما يريد حتى بالفكر والتصور.
فابتسمت الفتاة ابتسامة حزن وكآبة وقالت: كفى يا فاندا مواربة فقد تدفعت بالتصريح حتى لم أعد أجد بدا من البلوغ به إلى أبعد غاياته ...
إنك ترينني يا فاندا أتمتع بملذات الحياة وترين الجواهر تتألق فوق صدري، ولكني لا أمتع النفس بهذه الملاذ إلا لألطف ذلك الشعاع الذي يملأ قلبي وجميع حواسي، فكوني لي أختا صادقة أفتح لك خزائني وأشركك في ثروتي ونعيمي، بل أمنحك كل ما لدي بشرط أن تتخلي عن روكامبول.
فابتسمت فاندا ابتسام الحزن وقالت: ليس الحب يا سيدتي بمتاع ... ومتى كانت قلوب المحبين تشرى وتباع؟ ... وبعد، فهل لديك من أسباب السعادة ما يفيض عنك، فتفرقي منه على الناس، ولو اقترحت عليك أن نتبادل بالقلبين وبالمحظين مهما بلغت من الفقر وبلغت من النعيم، ألا ترضين هذا التبادل؟ - إني أراك شديد الاغترار بجمالك، فهل تظنين أن زهرة هذا الجمال تدوم نضرتها ولا يعتريها الذبول، إنك الآن وجمالك كالحلية تسترها أوراق الذهب فماذا تصنعين متى أسقط العمر تلك الأوراق بيد من تحبين؟ - أشكر هذا المحب، الذي لم يشتر الحلية إلا لما يحيط بها من أوراق الذهب ... - إن لكل امرأة مرآتين إحداهما من زجاج، تنظر فيها إلى نضرة جمالها، والثانية من وجه من تحب، تنظر فيها إلى أمالي الهوى، فإذا كسرت مرآة الغرام، فهل تنظرين في المرآة الصحيحة غير آثار تلك النضرة الزائلة؟ - وأنت إذا كسرت تلك المرآة فكيف تنظرين بمرآتك الصحيحة إلى هذه اللآلئ المضيئة على صدرك؟ - ما أحلى ذلك اليوم الذي يأتي فيه روكامبول فيقول إن بريق دموعك في عينيك أشد لمعانا من بريق اللآلئ على صدرك ... إني ذلك اليوم أطرح الملاذ، وألقي تلك الجواهر، وأكون عبدة لهذا الحبيب، فأفر به إلى آخر حدود الأرض، يوارينا تيها الغرام على عيون البشر. نعم، أحبه ... أحبه ولا أخشى عارا في هذا الإقرار، إن حبه تعاظم في قلبي حتى ضاق به وخرجت منه تلك الأسرار، وإنه يناجي قلبي فيحرقه، وما أصدق من وصف الحب بالنار.
وكانت فاندا تسمعها وهي تزيد اصفرارا وتقول في نفسها: ويلاه إنها بنت ثمانية عشر، أي في أول دور من أدوار الحياة حين تنفذ إلى القلوب فيه أشعة الغرام، وترقى النفس فيه إلى عرش الحب الأول. ويلاه لا يمكن أن تتلاقى الأشعة من هذين القلبين.
ثم عادت مس ألن إلى الحديث ومسحت دمعها فقالت: قلت لك يا فاندا إني سأبلغ بالتصريح إلى أبعد غاياته، وقد علمت من إقراري أن هذا الحب قد تمكن من قلبي فلا سبيل إلى انتزاعه، وقد بقي أن تعلمي أني عالمة بما بينك وبين الرئيس وبأنك تهوينه منذ أمد بعيد.
فوجف قلب فاندا، وعلمت أن ساعة النزاع قد دنت، وأنه لا سبيل مع هذه الفتاة المتدلهة إلى لغة العقل، فعولت على التصريح.
قالت: نعم أهواه فوق ما تهوينه، وقد طفت معه البلاد، وخاطرت من أجله بالحياة، وامتزجت نفسه بنفسي فهو عندي بمنزلة الروح، فلا يحق لسواي هواه! فأصغي إلي يا سيدتي، إنك طاهرة القلب عظيمة النفس وقد أوقفت ...
فامتعضت نفس مس ألن، وتغلبت فيها عواطف الشر فقالت: أرى أنك لا يدفعك إلى هذا القول غير ما تدعينه من الجمال ... - بل هو صوت أرفع وأشد، وهذا الصوت يوحي إلي أن أقول إن في العالم أمورا يجب الحذر منها فهي لا تورث غير الندم وتقريع الضمير. - إني لم أفهم ما تريدين. - أريد أن أقول أيتها السيدة إن ضميرك سيقرعك أشد التقريع حين تحولين بيني وبين من أحب.
إني إذا بليت بالضعف في حبه فلا أرتكب ذنب الخداع في إخفاء هذا الحب. نعم، إني أعبده ولا أرى في هذا القول كفرا ولا إلحادا، فإني قبل أن أراه لم أكن أفتكر بغير الله، ثم رأيته فصرت أفتكر به وحده دون الله. ألا ترين أنه عندما نرى رسما جميلا كيف نمدح الرسم ونغفل عن امتداح الراسم، أفلا نكون بامتداح الرسم قد امتدحنا الراسم، لأنه مرجع الفضل إليه في ذلك الرسم. وكذلك روكامبول، فإن الله قد جعله على هذا المثال الجميل، فإذا غفلت عن ذكر الصانع فلافتتاني بجمال المصنوع، وإذا عبدت روكامبول فأنا أعبد الله، وإذا كان هذا مبلغ حبه من قلبي ألا يكون انتزاعه كجناية، على أنه لا ينتزع من قلبي إلا بانتزاع ذلك القلب.
فعضت مس ألن شفتها من القهر وقالت في نفسها: ويلاه إنها كلمات مرة ولكنها حق.
وعادت فاندا إلى الحديث فقالت: إن تعرضك لي في هذا الحب يا سيدتي عدوان محض، وإساءة بينة، وأنا لم أسئ إليك في شيء، فقد أحببته قبل أن يكون في قلبك موضع للغرام، وبعد فهل تظنين إذا رجعت عن حبه أحبك أكثر مني؟ - ربما لن أكون سعيدة معه ولكني أمنعه أن يكون سعيدا معك، ومع سعادة العدو سعادة. - أتعدين شقاء الناس سعادة أيتها اللادي؟
فاضطربت مس ألن وقالت: إني لا أرى سعادة بعد سعادتي، فاحذري أن أكون من أعدائك. - أتحسبين أني أخشى انتقامك يا سيدتي، كلا فقد بلغ بي الشقاء منتهاه، فلم أعد أخشى مزيدا ولا وعيدا، وأنت تريدين أن أترك لك روكامبول فأقول خذيه، إن الموت والحياة عندي ذلك الرجل الذي تريدين أن تسلخيه من نفسي القانطة، فإن هناء الغرام لا يدوم أيتها اللادي، وضعي على رأسه بيدك إكليل الزفاف.
ولكن لا تنسي أيتها اللادي أن تنظري إلي خيالي الدموي، فهو سيكون بينكما عند أول ليلة تتبادلان قبلات الغرام.
ثم خرجت فاندا وعلى وجهها علائم القنوط، وقد نادتها مس ألن مرارا فلم تجب.
أما مس ألن فقد أثر فيها كلام فاندا أشد تأثير، حتى إنها وقفت بعد انصرافها جامدة ساهية.
ثم انتفضت وجعلت تكلم نفسها فتقول: ماذا تقول هذه المنكودة ... أحلم ما رأيت ... كلا فإن كلماتها لا تزال ترن في أذني وتقرع في قلبي ... الخيال الدموي ... قبلات الغرام ... إكليل الزفاف ... خذيه ... ويلاه بأي صوت كانت تقول خذيه وبأي نظر متقد كانت تنظر إلي ... خذيه ... كلا فغير ابنة بالمير تغتصب القلوب ...
والآن فقف أيها القلب الخفوق الدامي واحرق بوقيد نارك دموع عيني فامنعها أو تسيل، وأنت يا أماني الغرام وأحلام الهناء ارقدي بسلام آمنة، فما أنت ثائرة بعد هذا الحين.
وعند ذلك جلست على كرسي ووضعت رأسها بين يديها، وتاهت في مهامه التفكير كأنها حاولت الإقدام على أمر جليل فأخذت تفكر فيه.
47
ولنعد الآن إلى فاندا فإنها لم تقل قولها الأخير لمس ألن إلا لتصيب غرضا من غرضين، وهما: إما أن تتأثر تلك الفتاة من كلامها وظواهر بأسها فتهزها الأريحية وتنثني عن ذلك الغرام.
وإما أن تعتقد أنها، أي فاندا، قد تخلت لها حقيقة عن روكامبول فلا تقدم على الانتقام.
وإنما خشيت انتقامها، لأنها كانت تعلم أنها واقفة على جميع أسرار روكامبول، فخشيت أن يحملها نزق الشباب على الانتقام، بإفشاء تلك الأسرار .
وقد رأت من ملامح مس ألن، حين كانت تكلمها، أن حيلتها قد جازت عليها، فلم تجب نداءها حين نادتها، وانصرفت وهي تتظاهر بأشد حالات اليأس.
حتى إذا باتت خارج المنزل ذهبت أعراض اليأس، ولكن ظواهر التأثر والانفعال كانت لا تزال بادية عليها، حتى وصلت إلى منزل العصابة ولقيت روكامبول خارجا من الباب، فعانقته ودموع الفرح تنهال من عينيها، كما تقدم في الفصل السابق.
أما روكامبول فقد علم من اضطرابها أنه قد جرى بينها وبين مس ألن أمور خطيرة، فسألها أن تقص عليه بالتفصيل كل ما جرى.
فروت له فاندا عند ذلك كل ما دار بينهما من الحديث، وأخبرته بحيلتها الأخيرة وأنها ترجو أن تكون قد جازت على الفتاة.
فأطرق روكامبول هنيهة ثم قال: لم يبق بد من السفر في هذه الليلة، فإن الغيرة ونزق الشباب قد يدفعانها إلى فعل ما لا تريد أن تفعله وخير لنا اتقاء الخطر.
ثم صعد مع فاندا إلى المنزل، وكان اللورد وليم ورجال العصابة ينتظرون عودته بفارغ الصبر، وقد وجفت قلوبهم خوفا لما رأوه من اضطرابه حين برحهم.
فلما رأوه عائدا مع فاندا فرحوا واستبشروا.
ثم نادى روكامبول مرميس وقال له: هل استأجرت الباخرة التي تنقلنا إلى فرنسا؟ - نعم. - أين هي الآن؟ - في مرساها. - كيف اتفقت مع الربان؟ - على أن يكون موعد السفر بعد غد كما أمرتني. - كلا فإننا مسافرون بعد ساعة فأسرع إلى الربان، وقل له يتأهب، وابق في الباخرة فإننا ذاهبون في أثرك.
فأسرع مرميس إلى تنفيذ أوامر الرئيس، وأخذ رفاقه يتأهبون للسفر، فلم تمض ساعة حتى كانوا جميعهم في الباخرة.
فأمر روكامبول الربان أن يسير، فرفعت المراسي وصفرت السفينة، فأجابها أصوات رجال العصابة الهتاف قائلين: ليحيا الوطن! ليحيا روكامبول!
ثم سارت الباخرة باللورد وليم ورجال العصابة وهم ينظرون إلى روكامبول وفاندا ويبتسمون ابتسام الاستبشار.
أما فاندا فكانت متكئة على روكامبول تنظر إليه نظرات الدلال وتقول له: أما آن لنا أيها الحبيب أن نستريح؟
وكان روكامبول ينظر إليها نظرات تشف عن الحب الصادق ، والحنان الشديد، فتكاد تطير سرورا لأنها أول مرة جاهر فيها روكامبول بحبه لفاندا هذه المجاهرة.
48
وبعد يومين كان اللورد وليم مقيما في قصر أسرة باميلتون في باريس مع امرأته وأولاده، ومرميس مقيما في منزله، وميلون يتفقد أعماله، وجواني الجزار في حانوته، وبوليت وامرأته عند أمه، وفاندا مع روكامبول.
وقد ارتاحوا جميعا مما لقوه من العناء، واعتصبوا جميعهم على روكامبول يحاولون تزويجه بفاندا.
وكان يقطب حاجبيه عندما يذكرون له الزواج ويقول: إني لم أكفر عن ذنوبي بعد، ولا يحق لي أن أستريح.
ولما رأت العصابة ما كان من إصراره، وما تولى فاندا من اليأس خافت على الرئيس أن يعود إلى الأسفار والأخطار، وخافت على فاندا أن يحملها اليأس على الانتحار.
فخطر لمرميس أن يستعين عليه بباكارا والكونت أرمان دي كركاز، فزارهما والتمس منهما مساعدته على إقناع الرئيس.
وفي اليوم التالي جاء رسول إلى روكامبول، يدعوه إلى زيارة أرمان دي كركاز.
فأسرع إلى تلبية الدعوة معجبا لها، ووجد عنده باكارا.
ولم يعلم أحد ما دار بينهم من الحديث. غير أن روكامبول خرج بعد خلوة ساعات، منخفض الرأس مغلوبا، فإنهما أقنعاه على الزواج، وعيناه بعد أسبوع.
فلما عاد إلى المنزل الذي كان يقيم فيه مع فاندا، وجد جميع العصابة، فأيقن أنهم كانوا عالمين بسر دعوة الكونت أرمان له، فنظر إليهم نظر المؤنب، وقال لهم: أيكم الذي خان الرئيس؟
ثم نظر إلى مرميس نظرة خاصة، فلم يطق مرميس احتمالها وقال له: أنا هو يا سيدي ... فإني خشيت أن تعود إلى المخاطرة وأنت أحوج إلى الراحة بعد ما لقيته من العناء. أليس في باريس من الأعمال ما يشغلنا عن سواها من البلدان؟ ألا تحب أن تقر عيون رجالك بولد يرث عنك تلك المبادئ الجليلة؟
فابتسم روكامبول ابتساما ذهب بخوف مرميس، وقال له: لقد شفع بهفوتك حسن قصدك، فاحذر أن تعود إلى مثلها.
ثم نظر إلى فاندا، وقال لها مبتسما: لقد حكم علي الكونت وباكارا ورجالي بالزواج، فهل أنت راضية بهذا الحكم؟
فلما سمع رجال العصابة كلامه أيقنوا أنه رضي بالزواج فهتفوا هتافا: ليحيا روكامبول! ولتحيا فاندا!
49
وفي اليوم الثاني ذهب روكامبول إلى المستشفى الذي وضع فيه المركيز دي مورفر، وهو ذلك المركيز الذي عذبته البستانية الحسناء عذابا أفضى به إلى الجنون، ووجده قد شفي من جنونه فأخرجه منه وأعاد إليه ثروته وولده، فكان سرور هذا المركيز بمنقذه ومنقذ ولده لا يوصف.
ثم تفقد ابن صديقه الرجاه الهندي فوجده على خير حال.
وذهب إلى حنة، والدة ابن إرلندا، فأخبرها بانضمام اللورد بالمير، شقيق زوجها، إلى الإرلنديين، وبغل يد الأسقف. وأنه ينتظر ورود كتاب من الكاهن صموئيل كي يرسلها مع ولدها إلى إرلندا، فتقيم فيها آمنة كيد المعتدين.
ومرت أيام ذلك الأسبوع، ورجال العصابة يهتمون بإعداد معدات الزفاف، وهم كلما خلوا بفاندا اتفقوا على مداعبتها وممازحتها، حتى إذا أقبل الرئيس كفوا عن المزاح ووقفوا في مجلسه وقد رهبوا رهبة التلامذة بحضور الأستاذ.
إلى أن انقضى ذلك الأسبوع، ودنا ذلك اليوم العظيم الذي طالما حنت فاندا إليه، فذهب بها روكامبول إلى الكنيسة يحيط بها رجال العصابة، كما يحاط الأمير بحراسه.
حتى إذا وصلوا إليها وجدوا فيها الكونت أرمان دي كركاز والكونت دي أرتوف وامرأته باكارا، والمركيز دي مورفر وابنه واللورد وليم وامرأته، وحنة الإرلندية وولدها، وجميع الذين أحسن إليهم هذا الرجل العظيم صاحب الزفاف ووقاهم كيد الأشرار.
وقبل أن يشرع الكاهن بصلاة الإكليل، دخل رجل يحمل بيديه علبتين ورسالتين فدفعهما إلى روكامبول.
وظهرت علائم السرور على وجوه رجال العصابة، فإن هذا الرجل كان شوكنج.
أما روكامبول فإنه فض إحدى الرسالتين ووجدها مذيلة بتوقيع الكاهن صموئيل فقرأ فيها ما يأتي:
إلى ولدي الحبيب روكامبول
يصل إليك شوكنج في اليوم الذي تعين لزفافك المبارك، إن شاء الله، وقد علمت من مس ألن خبر هذا الزفاف الميمون، فأسرعت إلى تهنئتك، وإني أهنئك بلسان كل إرلندي عرف نبل نفسك، وشهامة قلبك، وأسأل الله أن يجعل زفافك سعيدا هنيئا، محفوفا باليمن والخير والبركات.
ولقد أقر رأي الزعماء في جلسة عقدت خصيصا أن يغتنموا هذه الفرصة ويرسلوا إليك أجل تذكار مقدس عندهم يحفظ عندك دليلا على اعتراف إرلندا والإرلنديين بما لك عليهم من المنة والفضل.
هذا التذكار صليب مرصع، أهداه الإرلنديون لأول أمير منهم بدأ بالجهاد، فأصبح هذا التذكار وطنيا مقدسا، بعد استشهاد الأمير، وبقي محفوظا في مركز الزعامة الكبرى إلى أن قررت اليوم إهداءه إليك فاقبله يا بني، إنه خير من أوسمة الملوك فإن الوسام يهدى من واحد، وهذا التذكار قد أهدي إليك من ملايين.
نعم، أرسلت إليك هذا الكتاب مع شوكنج، لأني قضيت بفضلك كل ما كنا نبتغيه من الجمعية الإنجليكانية، وأطلقت الأسقف من قفصه الحديدي.
ولكنه لم يخرج منه إلا بعد أن ذهب عقله، وهو الآن في ذلك المستشفى الذي وضع فيه ولتر بريس من قبل، وقد أمن الناس أذاه.
فأرسل يا بني ابن إرلندا، زعيمنا الأكبر، مع أمه، فلا خوف عليه بيننا بعد الآن ...
وفي الختام، أسأل الله لك ولعروسك كل خير وهناء.
الكاهن صموئيل
فاغتم روكامبول لجنون الأسقف، إذ لم يكن يريد أن يبلغ به العقاب إلى هذا الحد، ولكنه تعزى بأن أذاه قد امتنع عن الناس.
ثم فض الكتاب الثاني بيد تضطرب، إذ علم من خط عنوانه أنه من مس ألن، فقرأ ما يلي:
إلى أخي روكامبول وأختي فاندا
يصل إليكما كتابي هذا وأنتما في خير ما ترجوانه من نعيم الحياة، وقد بلغ قلباكما الطاهران ما طالما تمنياه.
وستقرآنه ونحن جميعا في أقدس موقف، فأنتما في الهيكل المقدس يعقد إليكما الكاهن إكليل الزفاف، وأنا جاثية في غرفة من غرف الدير، أدعو لكما دعاء مستجابا بإذن الله، فإن دعاء الإخلاص يبلغ إلى ذلك العرش العالي.
نعد لقد أوحى إلي جل جلاله أن أكون من خدامه، فدخلت الدير لا قنوطا من السعادة في هذه الدار بل ابتغاء لها في الأخرى.
فادعوا لي كما أدعو لكما، فإنكما خير من أحببت في هذا الوجود.
ولقد أرسلت مع شوكنج علبة تحتوي على جميع ما كنت أتزين به من المجوهرات.
ورجائي من الحبيبة فاندا أن تتكرم بقبولها هدية زفاف، بل هدية من التي كانت تدعى من قبل مس ألن وهي الآن تدعى الأخت.
ماري
فأدمعت عينا روكامبول حنوا وسره هذا الانقلاب، فإنه كان يتوقع لها غير هذا المصير.
ثم دفع المجوهرات إلى فاندا وسألها أن تتزين بها، وعلق هو صليب الإرلنديين في عنقه. وعندها بدأت صلاة الإكليل.
وانتهت حفلة الإكليل، وهنأ الجميع ذلك البطل الخالد وعلائم البشر بادية في ثنايا الوجوه.
فهم روكامبول بالانصراف مع عروسه وعصابته إلى منزله، فحالت باكارا دون قصده، ودعت الجميع إلى مأدبة أعدتها للعروسين وللضيوف، فلبوا الدعوة.
غير أن باكارا لم تذهب بهم إلى قصرها، بل سارت بهم إلى منزل لم يكن روكامبول يعرفه من قبل.
وكان كل ما في هذا المنزل من الأثاث والرياش جديدا من أتقن ما جادت به يد الصناعة.
وهناك بسطت الموائد فأكل المدعوون ما لذ وطاب، ثم جاء دور الأنخاب.
فنهضت باكارا وكأسها بيدها فشربت نخب العروسين، وقالت: إن بيني وبين روكامبول اتفاقا في السيرة من البدء إلى المصير، وائتلافا في الحياة من المبدأ إلى الغاية.
ولذلك أسأله بحق هذا الاتفاق أن يقبل مني هذا المنزل وما فيه هدية زفاف أرجو أن يكون سعيدا بإذن الله.
ثم وضعت حجة المنزل أمامه فابتسم ولم يجب.
ووقف بعدها المركيز دي مورفر فشرب نخب العروسين، وقال: إنكم تعلمون جميعا أني مدين لهذا الكريم بثروتي وعقلي وحياتي وحياة ولدي، فلا أجسر على مكافأته فليس لعمله جزاء يفي حق فضله في هذه الديار، ولكني أقتسم هذه الثروة التي ردها إلي بيني وبينه وبين ولدي، وأرجو أن يقبل حظه من القسمة هدية زفاف.
ثم وضع أمامه محفظة محشوة بالأوراق.
فابتسم روكامبول ولم يجب.
ووقف بعده اللورد وليم فشرب النخب وقال: إني لا أقل عن حضرة المركيز امتنانا لمنقذي، فإني مثله مدين له بالثروة والحياة وإنقاذ العقل والبنين، فأنا أقف لك نصف ريع ثروتي الطائلة ولأولادك من بعدك، وأرجو من سيدي روكامبول أن يكون حظ هذه القسمة القبول.
ثم وضع أمامه حجة الوقف.
وعند ذلك وقف الكونت دي كركاز وهم أن يتكلم، فسبقه روكامبول إلى الكلام وقال: من الأمثال المأثورة يا سادتي أن الإحسان يطلق اللسان، ولكن هذه الأمثال لا تنطبق علي، لأني لا أجد كلاما يعرب عما يخالج قلبي من الامتنان.
لقد عرفتم أيها السادة تاريخ حياتي التي سودتها الجرائم والآثام، إلى أن قدر الله لذاك اللص أن يتوب ولذاك السفاك أن يندم، ويرجو أن يلقى الله بوجه لا يسود.
وكيف ألقاه بهذا الوجه إذا لم أكفر عن تلك الذنوب؟ وإذا قبلت من الكونتس أرتوف تلك الهبة، ورضيت أن أقتسم ثروة اللورد والمركيز فكيف أكون كفرت عن ذنوبي؟
إني ألتمس منكم أن أرفض هذه الهبات شاكرا ممتنا، فما أنا من طلاب المال والعقار، ولم يبق لي مأرب في الحياة غير التكفير والاستغفار، على أني أقبل هبة واحدة، وهي هبة ألتمسها التماسا من الكونت أرمان دي كركاز.
إن لسيدي الكونت بوليسا سريا في باريس، يرشده إلى كل منكود وإلى كل ظالم محتال، وإلى كل من أناخ به الدهر وجور المعتدين.
وقد كان لهذا البوليس رئيس يخدع الكونت، وكنت من عصابة ذاك الرئيس في عهد الشر والغواية.
فأنا ألتمس من سيدي الكونت أن يجعلني رئيسا لبوليسه الخيري وهذا كل ما أبتغيه.
فأكبر الحضور علو نفسه وأعجبوا بشهامته، ورأوا من لهجته أن لا سبيل إلى إثنائه عن عزمه، فاسترجع كل على الكره منه ما وهب.
وتفرقوا، يلهجون بمواهب هذا الرجل الكبير، وكلهم منه بين الإعجاب والعجب.
وأرجع روكامبول ابن إرلندا وأمه إلى الكاهن صموئيل، وأعاد رجال عصابته إلى الانضمام تحت لوائه، وتقلد رئاسة بوليس الكونت أرمان أعواما طويلة.
واستعان بأموال مرميس فأنشأ منها محافل للبر والمعروف، لا تزال آثارها باقية إلى الآن.
وقد مضى على عهد زواجه ثلاثون عاما لم يرزقه الله ولدا، فكان ولده تلميذه مرميس.
50
إن الشيخ الهزيل هرم وتشنج جلده نحولا.
قلب عليه الدهر مجنه، فعاضه من نضارة عوده ذبولا، واعوجت قناته فتوكأ على العصا.
إنه كالنسر من قمة إلى قمة يرقى، وأين له همة النسور وقد فصمت منه العرى؟ •••
وإن في أثره كهلا وخطه الشيب، وهو يسير سير الفتى، وما فتئ مفتول الساعد جزل القوى، وقد ومض الذكاء من عينيه برقا، إنه يستوقف الشيخ فلا يريد الرجعى.
يقول: قف يا أبتاه حسبك وكفى، إن شدتك قد ولت وإن عظمك قد دق، وهذا السير يهد منك القوى. - سر يا بني إنها دقائق معدودة فأستريح أبدا. - إلى أين تريد البلوغ من هذه القمة العالية؟ - إلى هوة الأبد القصيا، إن الناس ينزلون إلى قبورهم وأنا أذهب إلى القبر صعدا. - علو في الحياة وفي الممات أيضا ... إنها معجزة، ما متع الدهر بها أحدا.
وتأبط الشيخ ذراع الكهل فاستعان به على ارتقاء الذرى.
وهناك شجرة باسقة خرجت أغصانها من سقف قبة ولها فروع تتدلى، وتكاثفت أوراقها فغطت جوانب القبة الناصعة بياضا. •••
أشرف الشيخ من فوق القمة وقال: سلام على الأرض ومن فيها، إنها آخر نظرة إلى الوجود، ثم يأكل لحمي الدود.
سبحانك اللهم إني تماديت في الغي وتهت في الضلالة، وهذا عبدك قد تاب وارعوى.
اللهم أقلني عثرتي، وتجاوز عن ذنبي، إنك أرحم من أغضى.
اللهم إني استكملت مدتي، وبلغت الميقات، فانقلني إلى دار كرامتك، إن عبدك قد أودى. •••
وفتح الشيخ باب القبة وقال: تعال يا بني، هنا ولدت لأموت، وهنا أموت لأحيا.
فاجأ أمي المخاض عند جزع هذه الشجرة، وكانت امرأة سوء بغيا، هنا ولدتني بالإثم، فكفلتني بغي مثلها، فخرجت لصا شقيا.
ألقني يا بني فوق هذا العشب، إنه فراش الموت وأنعم به فراشا وثيرا، ولا تلقني في قبر ضيق الأرجاء، بل تحت هذه القبة الزرقاء في فسيح الخلاء أموت قريرا، سعة في الفناء لم تدرك في البقاء، ولو بت طعم طير السماء ووحش الفلاء.
واعلم يا بني أنك بت بعدي فريدا أوحدا.
فاعمل بما علمتك، واحي للناس تلق رشدا، واعمل ليومك كأنك تعيش أبدا، ولغدك كأنك تموت غدا.
هذه وصيتي، يا بني، فاركع وادع لي الله يحشرني بين عباده الصالحين تنل ثوابا . •••
فبكى الكهل حتى اخضل عارضاه، وجزع الشيخ فقال: علام البكاء؟ أعلى الحياة وهي من بنات الموت؟ أم على نفسي وهي من بنات الخلود؟
لا تبك يا بني من مات بل ابك من بقي حيا، وأطبق الآن عيني فقد دنت الساعة وآن لي بهذا الموت أن أحيا ...
وانقطع صوت الشيخ، وأخذت الروح تحشرج في صدره، فتخرج زفيرا. •••
وكان هذا آخر العهد به، فخرج الكهل من القبة تكاد تبيض عينيه من البكاء والحسرات، فأقفل الباب وكتب فوقه:
هذا الذي مات بالحياة، وعاش بالممات.
إن هذا الشيخ كان روكامبول، وهذا الكهل مرميس، إذ لم يبق من عصابة روكامبول في عهد موته غير تلميذ روكامبول.
وإن من زار قرية بوجيال وصعد إلى قمتها العالية، يجد في أعلى تلك القمة قبة جعلها الناس مزارا، وقد رسم على بابها روكامبول وعصابته.
فرحم الله تلك الأرواح الطاهرة، ورحم من ترحم عليها.
Unknown page