94

Rasaʾil Ihwan al-safaʾ wa hillan al-wafaʾ

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

Genres

ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني عنه، فأخبرني يا مغا، أنت أيضا عن مذهبك واعتقادك، قال المجوسي: أما اعتقادي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم ولا أريد لأحد من الخلق سوءا، لا لمن كان على ديني ويوافقني ولا لمن يخالفني ويضادني في مذهبي.

فقال اليهودي له: وإن ظلمك وتعدى عليك؟ قال نعم؛ لأني أعلم أن في هذه السماء إلها خبيرا فاضلا عادلا حكيما عليما لا تخفى عليه خافية في أمر خلقه، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم ويكافئ المسيئين على إساءتهم.

فقال اليهودي للمجوسي: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك، فقال المجوسي وكيف ذلك؟ قال؛ لأني من أبناء جنسك وأنت تراني أمشي متعوبا جائعا، وأنت راكب شبعان مترفه، قال: صدقت، وماذا تريد؟ قال: أطعمني واحملني ساعة لأستريح فقد أعييت، فنزل المجوسي عن بغلته وفتح له سفرته، فأطعمه حتى أشبعه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان، فلما تمكن اليهودي من الركوب، وعلم أن المجوسي قد أعيا حرك البغلة وسبقه وجعل المجوسي يمشي فلا يلحقه، فناداه: يا خوشاك، قف لي وانزل فقد أعييت، فقال له اليهودي: أليس قد أخبرتك عن مذهبي يا مغا، وخبرتني عن مذهبك ونصرته وحققته، وأنا أريد أيضا أن أنصر مذهبي وأحقق اعتقادي.

وجعل يجري البغلة والمجوسي في أثره يعدو، ويقول : ويحك يا خوشاك، قف لي قليلا، واحملني معك، ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعا وعطشا وارحمني كما رحمتك، وجعل اليهودي لا يفكر في ندائه، ولا يلوي عليه حتى مضى وغاب عن بصره، فلما يئس المجوسي منه وأشرف على الهلاك تذكر تمام اعتقاده وما وصف له بأن في السماء إلها خبيرا فاضلا عالما عادلا لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء، فقال: يا إلهي، قد علمت أني قد اعتقدت مذهبا ونصرته وحققته ووصفتك بما سمعت وعلمت وتحققت، فحقق عند اليهودي خوشاك ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت.

فما مشى المجوسي إلا قليلا حتى رأى اليهودي، وقد رمت به البغلة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها، فلما لحق المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت، فناداه اليهودي: يا مغا، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعا وعطشا، وحقق مذهبك، وانصر اعتقادك، قال المجوسي: قد فعلت مرة، ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك ولم تعقل ما وصفت لك، فقال اليهودي: وكيف ذلك؟ فقال: لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، وذلك أني قلت لك: إن في هذه السماء إلها خبيرا فاضلا عالما عادلا لا يخفى عليه خافية، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم، قال اليهودي: قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت، فقال له المجوسي: فما الذي منعك أن تتعظ بما قلت لك يا خوشاك؟ فقال اليهودي: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد ألفته وصار عادة وجبلة بطول الدءوب فيه وكثرة الاستعمال له؛ اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، فقد صار جبلة وطبيعة ثابتة يصعب علي تركها والإقلاع عنها.

فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة وسلمه إلى أهله مكسورا، وحدث الناس بقصته وحديثه معه فجعلوا يتعجبون، فقال بعض الناس للمجوسي: كيف حملته بعد شدة جفائه بك وقبيح مكافأته إحسانك إليه؟ قال المجوسي اعتذر إلي، وقال: مذهبي كيت وكيت، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة لطول الدءوب فيه وجريان العادة به، يصعب الإقلاع عنها والترك لها، وأنا أيضا قد اعتقدت رأيا، وسلكت مذهبا صار لي عادة وجبلة فيصعب الإقلاع عنها والترك لها.

وإذ قد تبين بما ذكرنا أن العلل الموجبة لاختلاف أخلاق النفوس والأسباب المؤدية إليها أربعة أنواع حسب، كما قلنا في أول الرسالة؛ فنقول الآن: إن الأخلاق كلها نوعان، إما مطبوعة في جبلة النفوس مركوزة فيها، وإما مكتسبة معتادة من جريان العادة وكثرة الاستعمال، ومن وجه آخر أيضا إن الأخلاق نوعان، منها ما هي أصول وقوانين، ومنها ما هي فروع وتابعة لها، فنحتاج أن نبينها ونفصلها ليعرف بعضها من بعض؛ إذ كان هذا الفن من المعرفة من العلوم الشريفة النافعة جدا، وخاصة لمن له عناية برياضة النفس وتهذيبها وإصلاح أخلاقها؛ إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأسباب المنجية لها من الهلكة، المفصلة بعضها من بعض، كما بينا في رسالة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

(7) فصل في مراتب الأنفس

اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري - جل ثناؤه - لما أبدع النفوس واخترعها وأبرز المستكن والمستجن من الكائنات رتبها ونظمها كمراتب الأعداد المفردات - كما ذكر تعالى بقوله حكاية عن الملائكة قولهم: @QUR014 وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون.

واعلم يا أخي بأن أعداد النفوس كثيرة لا يحصيها إلا الله - جل ثناؤه - كما قال: @QUR06 وما يعلم جنود ربك إلا هو، ولكن نحتاج أن نذكر طرفا من مراتبها ومقاماتها الجنسية؛ إذ كانت الأنواع والأشخاص لا يمكن تعديدها ولا يعلمها إلا هو.

Unknown page