Rasāʾil Ikhwān al-Ṣafāʾ wa-Khillān al-Wafāʾ
رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء
Genres
وليس في هذه الآية دلالة على أن الكواكب هي ترمي بأنفسها؛ لأنك إذا قلت: اتخذت هذه القوس لأرمي بها العدو والكفار، فليس في قولك دلالة على أنك ترمي بنفس القوس، بل ترمي عنها بالنشاب، فهكذا قوله تعالى: @QUR03 وجعلناها رجوما للشياطين؛ أي يرمون عنها بالشهب؛ لأن هذه الشهب لا تحدث في الهواء إلا بإشراق هذه الكواكب وشعاعاتها في الهواء كما بينا من قبل، وقد فسرنا معنى هذه الآية وأخواتها في رسائل لنا.
واعلم أن أهل صناعة النجوم متفقون على أن هذه الكواكب الثابتة في الفلك الثامن هي من وراء فلك زحل الذي هو الكرسي الواسع كما بينا في رسالة السماء والعالم، وإنما ذكر الله - تعالى - أنها زينة السماء الدنيا؛ لأن أهل الأرض لا يرونها إلا دون فلك القمر الذي هو سماء الدنيا.
ومما يدل على أن هذه الشهب تحدث قريبة من الأرض بعيدة من فلك القمر سرعة حركتها، فإنها في لحظة تمر من المشرق إلى المغرب أو من المغرب إلى المشرق، فلو كانت قريبة من فلك القمر لما رأيت حركتها بهذه السرعة.
واعلم يا أخي أنها إذا حدث فمرت مقبلة على الناظرين، وجازت على سمت رءوسهم إلى الجانب الآخر ذاهبة إلى الأفق بسيرها على الرؤية يتخيل للناظرين أنها وقعت إلى الأرض، وليس الأمر كذلك؛ لأنها مادة خفيفة تطلب العلو، ولا يزيدها اشتعالها إلا خفة، فأما التي تقع منها إلى الأرض فهي التي تحدث في كرة النسيم فيضغطها السحاب ويردها إلى أسفل كنار البرق التي يضغطها السحاب من فوق إلى أسفل.
وأما علة استدارة تلك المادة فهي أن الأجسام السيالة من شأنها أن تتشكل ما لم يمنعها مانع أشكالا كروية، كما يستدير القطر في الهواء؛ لأن الشكل الكروي أفضل الأشكال كما بينا في رسالة الهندسة.
وأما علة حركتها إلى جهة دون جهة فبحسب الدافع لها من جهة المقابل، وليست هي الريح؛ لأنها أسرع حركة من الريح، وقد بينا علة حركتها في رسالة الحركات.
فانظر يا أخي وتفكر في هذه الحكمة الإلهية والعناية الربانية كيف جعلت ورتبت كرة الأثير دون فلك القمر، وجعلتها نارا بلا ضياء كيما تحترق بحرارتها الدخانات الغليظة الصاعدة في الهواء، وتلطف البخارات العفنة الكثيفة ليكون الجو أبدا صافيا شفافا ولم تجعل تلك النار مضيئة؛ لأنها لو كانت مضيئة كالنيران التي عندنا لمنعت أبصار الحيوان عن رؤية عالم الأفلاك والكواكب، وخاصة الإنسان؛ لأنه لما منع الكون هناك لم يمنع الرؤية والنظر إليه، لكيما تشتاق النفوس إلى الصعود نحوها هناك كما قال جل ثناؤه: @QUR07 إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه. يعني به روح المؤمنين، وقال في منع روح الكافر: @QUR014 لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وقد جعلت الحكمة الإلهية أيضا الزمهرير حجابا بين كرة النسيم وبين كرة الأثير لتمنع ببردها وهج الأثير عن الحيوان والنبات أن يتلفها، ولتبرد البخار وتعقده غيوما ليكون أمطارا تحيا بها البلاد، وجعلت كرة النسيم معتدلة المزاج، ولما كان سببها انعكاس شعاعات الكواكب كما بينا قبل وأكثرها وأوكدها هي الشمس، جعلت تارة تغيب لبرد الجو وتارة تطلع لسخن الهواء، ولو دامت بطلوعها لدام الإسخان ولأفرط الحر، وكان ذلك فسادا كليا، وكذلك لو دام مغيبها لبرد الجو وجمدت المياه والرطوبات وهلك النبات والحيوان من البرد، وكذلك جعل لها أن تميل إلى ناحية الجنوب ليكون الصيف هناك والشتاء في الشمال: @QUR04 ذلك تقدير العزيز العليم، وهذه من عظيم نعم الله على خلقه، وذلك معنى قوله تعالى: @QUR017 قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ... الآية. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون، ومن رحمته أن جعل لكم الليل والنهار، إلى قوله: @QUR02 ولعلكم تشكرون.
وعلى هذا القياس لو دام الشتاء والصيف لكان بوارا وفسادا للنظام، وكذلك إذا دام مدارها على سمت واحد، قال الله تعالى: @QUR05 والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، تارة غاربة وتارة طالعة وتارة مائلة إلى الشمال وتارة مائلة إلى الجنوب وتارة مرتفعة في الأوج، وتارة منحطة إلى الحضيض، وتارة فوق الأرض، وتارة تحتها، وتارة موازية للبروج النارية، وتارة للترابية، وتارة للهوائية، وتارة للمائية، وتارة للبروج المتقلبة، وتارة في الثابتة، وتارة في ذوات الأجساد، وتارة مجتمعة، وتارة متفرقة، وتارة ناظرة ينظر بعضها إلى بعض، وتارة ساقطة، وتارة منفصلة، وتارة منصرفة، وتارة كالواقفة، وتارة راجعة، وتارة مستقيمة، وتارة شرقية، وتارة غربية، وتارة محترقة بنورها، وتارة في بيوتها، وتارة في غربة، وتارة في الشرف، وتارة في الهبوط.
هذه كلها من أوصافها وأحوالها لأغراض موصوفة وآجال معدودة لا يعلمها إلا هو: @QUR06 ما خلق الله ذلك إلا بالحق، ولا يحيط أهل صناعة النجوم والخلق أجمع بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات والأرض، وقد ذكرنا طرفا من هذا العلم في رسالة الأدوار شبه النموذج والإشارة، فانظر فيها وتفكر فيما ذكرنا؛ لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فتحيا حياة العلماء، وتعيش عيش السعداء مع الأبرار في دار القرار منعمة ملذذة فرحانة مسرورة أبد الآبدين، ولا تكن من الغافلين في أسفل السافلين في عالم الكون والفساد، واستعد للرحيل قبل انقطاع المدة، وتزود؛ فإن خير الزاد التقوى.
فصل
Unknown page