102

Rasaʾil Ihwan al-safaʾ wa hillan al-wafaʾ

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

Genres

وقد بينا نحن في رسائلنا الناموسية والعقلية ما يحتاج إليه كلا الفريقين جميعا في هذا المعنى؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الدنيا وما الآخرة، فنقول الآن: إن الناس كلهم أبناء الآخرة وأهلها كما هم أبناء الدنيا وأهلها، ولكنهم ينقسمون في الآخرة قسمين اثنين، كما هم في الدنيا قسمان اثنان: سعداء وأشقياء، فأما سعداء بني الدنيا وأشقياؤهم فهم معروفون ولسنا نحتاج إلى ذكرهم؛ إذ كان هذا هو مشاهد، ولكن الذي نحتاج أن نذكره علامات سعداء أبناء الآخرة وأخلاقهم وأعمالهم؛ إذ كان هذا أمرا خفيا لا يعلم إلا بعد الوصف والشرح والدليل والعلامات.

(11) فصل في انقسام الناس في السعادة أربعة أقسام

اعلم يا أخي أن الناس ينقسمون في سعادة الدنيا والآخرة وشقائهما أربعة أقسام، فمنهم سعداء في الدنيا والآخرة جميعا، ومنهم أشقياء فيهما جميعا، ومنهم أشقياء في الدنيا سعداء في الآخرة، ومنهم سعداء في الدنيا أشقياء في الآخرة.

فأما السعداء في الدنيا والآخرة جميعا فهم الذين وفر حظهم في الدنيا من المال والمتاع والصحة، ومكنوا فيها فاقتصروا منها على البلغة، ورضوا بالقليل، وقنعوا به، وقدموا الفضل إلى الآخرة ذخيرة لأنفسهم، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR08 وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله، وقال الله سبحانه: @QUR04 ووجدوا ما عملوا حاضرا وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.

وأما سعداء أبناء الدنيا وأشقياء أبناء الآخرة فهم الذين وفر حظهم من متاعها ومكنوا منها وارتقوا فيها فتمتعوا وتلذذوا وتفاخروا وتكاثروا، ولم يتعظوا بزواجر الناموس، ولم ينقادوا له، ولم يأتمروا لأمره، وتعدوا حدوده، وتجاوزوا المقدار ، وطغوا وبغوا وأسرفوا، والله لا يحب المسرفين، وهم الذين أشار إليهم بقوله - جل ثناؤه: @QUR07 أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها إلى آخر الآية، وقال: @QUR013 ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب، وآيات كثيرة في القرآن في وصف هؤلاء.

وأما أشقياء الدنيا وسعداء الآخرة فهم الذين طالت أعمارهم فيها، وكثرت مصائبهم في تصاريف أيامها، واشتدت عنايتهم في طلبها، وفنيت أبدانهم في خدمة أهلها، وكثرت همومهم من أجلها، ولم يحظوا بشيء من نعيمها ولذاتها، وائتمروا بأوامر الناموس، ولم يتعدوا حدوده، وقد ذكر الله ذلك في آيات كثيرة من القرآن: @QUR06 إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

وأما أشقياء الدنيا والآخرة فهم الذين بخسوا حظهم من الدنيا، ولم يمكنوا منها، وشقوا في طلبها، فعاشوا فيها طول أعمارهم بأبدان متعوبة ونفوس مهمومة، ولم ينالوا خيرا، ثم لم يأتمروا بأوامر الناموس، ولم ينقادوا لأحكامه، وتجاوزوا حدوده، ولم يتعظوا بزواجره، ولم يعملوا في عمارة بنيانه ولا في حفظ أركانه، فهم الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعا، ذلك هو الخسران المبين.

فصل

وإذ قد تبين بما ذكرنا بأقسام عقلية أنه لا يخلو أحد من الناس من أن يكون داخلا في أحد تلك الأقسام الأربعة، فنريد أن نذكر أخلاق أبناء الدنيا وطباعهم، وأخلاق أبناء الآخرة وسجاياهم؛ ليعرف الفرق بينهم.

اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أخلاق بني الدنيا هي التي ركزتها الطبيعة في الجبلة من غير كسب منهم ولا اختيار ولا فكرة ولا روية ولا اجتهاد ولا كلفة، فهم يسعون فيها ويعملون عليها مثل البهائم في طلب منافع الأجساد ودفع المضرة عنها، كما قال الله تعالى ذكره: @QUR07 يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم، وأما أخلاق أبناء الآخرة فهي التي اكتسبوها باجتهادهم، إما بموجب العقل والفكر والروية، وإما باتباع أوامر الناموس وتأديبه، كما سنبين، وتصير عند ذلك عادة لهم بطول الدءوب فيها، وكثرة الاستعمال لها، وعليها يجازون ويثابون، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR016 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى.

Unknown page