Nazariyyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Genres
إن باحثي الفلسفة - فيما أعلم - لم يعيروا اهتماما كبيرا لمشكلة التباين بين التفكير النظري والتصرف العملي للفلاسفة المثاليين، وربما كانوا ينظرون إلى المشكلة على أنها - في أساسها - «ساذجة»، ولكني لا أرى على الإطلاق ما يدعو إلى الاستخفاف بها، بل إنني أعتقد أن من الواجبات المقدسة لكل باحث نزيه في الفلسفة أن يفكر مليا في هذا التعارض، ويحاول استخلاص دلالته الحقيقية، وعلينا دائما - إذا شئنا أن نناقش هذه المسألة مناقشة لا تغفل أي طرف من أطرافها - أن نسأل المثالي: إذا كنت حقا تؤمن بأن العالم الخارجي معتمد على الذهن، فلماذا لا تتعامل مع ذلك العالم على هذا الأساس؟ ولماذا تسلك دائما في حياتك العملية كما لو كنت مؤمنا «بالواقعية الساذجة» التي تعد الخروج عنها أول شروط التفلسف؟
ولست أدري ماذا ستكون إجابة المثالي على هذا السؤال، ولكن الإجابة الواضحة في رأيي - سواء أتت من جانب المثالي أو غيره - هي أن التعامل مع العالم الخارجي مستحيل إلا على أساس الموقف الطبيعي، فالشخص الذي يعامل الأشياء على أنها «ذهنية»، ويتصرف في حياته العملية تصرفا متسقا مع هذا التفكير، معرض للفناء لتوه، والشخص الذي يتعامل مع بقية الناس على أساس إنكار وجود الأذهان الأخرى أو الشك في وجود هذه الأذهان - وهي فكرة غير أصيلة - معرض للاصطدام الدائم - وربما الضار - بهؤلاء الناس، ولا أظن أن تاريخ الفكر قد عرف شخصا استطاع أن يوفق بين اعتقاداته المثالية وطريقة نظرته إلى الأشياء وإلى بقية الناس.
وبعبارة أخرى: فالمثالية - على الرغم من أنها تتناول نظريا مشكلة الموضوعات الفعلية الموجودة في هذا العالم - لا تؤدي إلى أي تغيير فعلي في موقف الإنسان العملي من هذه الموضوعات، أي إن صورة العالم كما ترسمها المثالية ستظل، من الوجهة العملية، هي نفسها صورة العالم كما يكونها الإنسان في موقفه الطبيعي، ولكن مصوغة في «لغة أخرى»، فلنحاول إذن أن نثبت - بشيء من التفصيل - الفكرة القائلة: إن المثالية مجرد «لغة أخرى» لا تؤثر في صورة العالم الفعلية أدنى تأثير. •••
ففي فلسفة باركلي المثالية تظهر محاولة من أكثر المحاولات تطرفا لإنكار الوجود المستقل والمتميز للعالم الخارجي، ومع ذلك فقد اعترف باركلي نفسه بأن صورة العالم النهائية لن تتغير - من الناحية العملية - عن صورته المألوفة في الموقف الطبيعي، «فإذا كنت تعني بالأفكار
ideas
الموضوعات المباشرة للفهم، أو الأشياء المحسوسة التي لا يمكن أن توجد غير مدركة أو خارج ذهن، فإن هذه الأشياء (الشمس، القمر، النجوم، الأرض، إلخ ...) أفكار، أما تسميتك لها بالأفكار فأمر ليست له أهمية كبرى؛ إذ الفارق كله يدور حول اسم، وسواء احتفظ بهذا الاسم أم لم يحتفظ به فإن معنى الأشياء وحقيقتها يظل كما هو، ونحن في حديثنا المعتاد لا نسمي موضوعات حواسنا أفكارا وإنما أشياء، فلتظل تطلق عليها هذا الاسم، شريطة ألا تنسب إليها أي وجود خارجي مطلق، ولن أتنازع معك أبدا حول كلمة.»
1
وهنا يظهر بوضوح أن هدف باركلي الأساسي هو إنكار الوجود الخارجي المطلق للأشياء، مع الاعتراف بأن الأشياء - من حيث حقيقتها وواقعيتها - ستظل كما هي، وتتحدد هذه الفكرة بمزيد من الوضوح في مواضع أخرى كثيرة من كتابات باركلي يحرص فيها على أن يؤكد أن حقيقة العالم لا تتأثر على الإطلاق بنظريته، وأن كل الظواهر والقوانين الطبيعية تظل كما هي، وكل ما في الأمر أنها في فلسفته تفسر على أساس الأفكار لا المادة.
2
ويضرب باركلي مثلا له دلالة بالغة في هذا الصدد: «فلنفرض - وهو فرض لا ينكر أحد إمكانه - أن هناك عقلا يتأثر، دون مساعدة أجسام خارجية، بنفس سلسلة الإحساسات أو الأفكار التي تتأثر أنت بها، منطبعة في ذهنه بنفس الترتيب والحيوية، فهل تكون لدى هذا الذهن من أسباب الاعتقاد بوجود جواهر مادية تمثلها أفكاره، وتثير هذه الأفكار في ذهنه ما لديك أنت للاعتقاد بالأمر نفسه؟ هذا أمر لا جدال فيه، وهو يكفي وحده لتشكيك أي عاقل في قوة أية حجة قد يعتقد أنها تبعث فيه الاعتقاد بوجود الأجسام دون الذهن.»
Unknown page