Nazariyyat Macrifa
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Genres
ولنتوسع قليلا في مسألة الصلة بين فكرة وجود العالم الخارجي هذه، وبين سلوك الإنسان العملي في الحياة، فهناك في حياة الإنسان أمور واضحة لا ينكر الإنسان وجودها على الإطلاق، ولكنه يظل دائما عاجزا عن إثباتها، فهل يعني ذلك عدم وجودها؟ ولنضرب لهذه الأمور مثلا مشهورا، هو حجج زينون لإثبات بطلان الحركة، فهذه الحجج ما زالت لها جديتها، وما زال الفلاسفة يناقشونه بوصفها مشكلة فلسفية حقيقية حتى اليوم، ولكن رغم منطقية هذه الحجج، فهل شك أحد في ظاهرة الحركة ذاتها؟ الواقع أن شيئا من ذلك لم يحدث، ولم تكن المشكلة في واقع الأمر هي: هل للحركة وجود بعد كل هذه الاعتراضات؟ وإنما هي: كيف نتخلص من المشاكل المنطقية التي تثيرها حجج زينون؟ وكيف يمكن التغلب على هذه الصعوبات؟ ولكن لماذا لا نشك في وجود الحركة رغم إثارة هذه الحجج التي لا تدحض؟ ذلك لأن ظاهرة الحركة ليست في حاجة إلى تحليل وتبرير منطقي؛ لأنها توجد بالفعل، وتمارس على الدوام في عالم الأحياء وغير الأحياء، ومهما كان للحجة الفلسفية من قوة فليس في وسعها أن تهدم اعتقادنا بوجود ما ندركه أو نمارسه عمليا بلا انقطاع، والواقع أنني لا أعتقد أن حجج زينون لها تلك الأهمية التي ظل المفكرون يعزونها إليها حتى اليوم؛ إذ إنها لا تعدو - في نظري - أن تكون مثالا لمحاولة باطلة لتطبيق البراهين العقلية على ميدان لا يقبل هذه البراهين. ولست أعتقد أن من واجب المفكرين أن يولوا أهمية كبيرة - كما فعل رسل وكثير من المناطقة الرياضيين المحدثين - لحجة كتلك القائلة: إن من المستحيل قطع مسافة ما؛ لأن ذلك معناه قطع نصف المسافة ثم نصف النصف ويليه نصف النصف الباقي، وهكذا إلى ما لا نهاية، مثل هذه الحجة - في رأيي - لا تستحق كل ما أبدى نحوها من الاهتمام؛ لأنها لو طبقت في أي ميدان آخر فستجعل كل الأفعال مستحيلة: فمثلا أستطيع أن أقول: إني لن أشرب كوب الماء كله؛ لأني سأشرب أولا نصفه ثم نصف النصف إلخ، ولن أقرأ هذه الصفحة كلها؛ لأني سأقرأ أولا نصفها ثم نصف النصف ... إلخ، ولن أصعد سلم داري لأني سأصعد أولا نصف الدرج ثم نصف النصف إلخ ...
وهكذا تؤدي نفس الحجة - إذا طبقت على أي فعل بشري (لا على الحركة فحسب) - إلى استحالته تماما، ومثل هذه النتائج الغريبة ذاتها ينبغي أن تؤدي بنا إلى الإقلال من قيمة هذه الحجة، ولا بد أن يكون هناك بطلان في أي استدلال فكري تكون له مثل هذه النتائج؛ لأنني بالفعل أشرب كوب الماء كله، وأقرأ الصفحة كلها، وأصعد كل سلالم داري، ولأن الحركة موجودة، ولولاها لما كانت الحياة.
ونستطيع أن نقول: إن هذا هو الفارق بين طريقة التفكير التي ترتكز على الموقف الطبيعي وطريقة التفكير المثالية، فإذا صادفت الأولى حجة تؤدي إلى نتيجة مستحيلة كالنتائج السابقة رفضتها على التو، مهما بدا لهذه الحجة من قيمة منطقية، طالما أن نتائجها تناقض الواقع الفعلي الملموس، ومن الممكن أن يأتي بعد ذلك تفنيد منطقي مفصل لهذه الحجة،
8
ولكن المهم في الأمر أن منافاة نتائجها للواقع الفعلي تكفي «وحدها» لاستبعاد الحجة فورا، أما طريقة التفكير المثالية فتقبل الحجة على أساس ما يبدو لها من تماسك منطقي، ولا تجد غضاضة في إنكار الواقع الملموس ذاته إذا تنافى معها.
والواقع أن هناك أمورا عديدة واضحة كل الوضوح، ويثبتها الواقع العملي كل لحظة، ولكن يصعب - وربما يستحيل - إيجاد «برهان» لها، بل إنه يبدو أنه كلما ازداد الشيء وضوحا، كان الإتيان ببرهان لإثباته أصعب، ولكن النقد في مثل هذه الحالات ينبغي أن يوجه إلى محاولة البحث عن برهان، لا إلى وضوح الشيء ذاته، فما أصعب أن يثبت المرء أن هذه الورقة التي أكتب عليها بيضاء (إلا بقياس ذبذبة الصوت، وهي عملية عظيمة التعقيد، ولا تؤلف «برهانا» بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة)، ولنفرض أنك أبديت لصديقك في يوم مشمس إعجابك بالدفء الذي تبعثه الشمس، فأجاب: أثبت لي أن الشمس طالعة، فهل يكون من السهل الإتيان بمثل هذا الإثبات؟ وهلا يكون أفضل رد في هذه الحالة هو الإشارة إلى عملية الإدراك ذاتها، واستبعاد طلب الإثبات في الحالات التي تحدث فيها هذه العملية؟
إن الاستدلال أو البرهان العقلي - في نهاية الأمر - لا يعدو أن يكون مجموعة من الأفكار، والأفكار لا تستطيع وحدها أن تنفي وجود شيء ندركه بالفعل؛ لأن هذا خارج عن نطاق قدرتها، والواقع أن الحاجة إلى البرهنة على وجود شيء تقوم في الحالات التي لا يستطيع المرء فيها أن يدرك الموضوع أو أن يحسه مباشرة، وربما كان تعريف البرهان ذاته - في الحالات المتعلقة بوجود الأشياء - هو أنه إثبات ما لا يدرك، أي إن عدم القدرة على الإدراك شرط أساسي لمجرد التفكير في البحث عن برهان، فنقطة البداية في أي بحث عن وجود شيء ما ينبغي أن تكون السعي إلى إثبات كون موضوعه قابلا للإدراك المباشر، فإذا أمكن ذلك عدت النتيجة منتهية، أما إذا لم يكن فعندئذ يبدأ البحث عن برهان، وبعبارة أخرى: فإن السعي إلى البرهنة على الوجود في الحالات التي يكون فيها الشيء قابلا لأن يدرك - أي في حالة مثل وجود العالم الخارجي - هو فكرة منافية لطبيعة البرهان ذاته.
المثالية ومحتوى المعرفة
يتناول هذا الفصل بالمناقشة مشكلة تأثير المثالية في موقف الإنسان من الوقائع الفعلية، ويبحث في تلك الظاهرة الفريدة: ظاهرة التضاد التام بين المواقف العملية والأفكار النظرية للفيلسوف المثالي، ويحاول استخلاص دلالة هذا التضاد.
ومن الواضح أن للمرء كل الحق في أن ينتظر من المثالية أن تؤثر في مواقف الإنسان العملية إزاء موضوعات أو أشياء هذا العالم؛ ذلك لأن المثالية تبدي رأيا محددا واضح المعالم في «طريقة وجود» هذه الموضوعات وعلاقتها بنا، ومن المعقول تماما أن يكون لهذا الرأي انعكاس على تصرفاتنا إزاء هذه الأشياء: فعندما كان الناس يؤمنون بأن محاصيلهم هبة من إله الزرع أو الخصب، كانوا يركزون جهودهم في الصلاة لذلك الإله ويتركون زرعهم تحت رحمته، أما عندما أصبحوا يؤمنون بأن جودة محاصيلهم تتوقف على ما يبذلونه فيها من جهد، فإن نشاطهم تحول من الصلاة لإله الزرع إلى رعاية الأرض وتعهد النبات، وهكذا يؤدي تغيير طريقة التفكير النظري في الأشياء إلى تغيير في طريقة التعامل مع هذه الأشياء، ومن هنا كان من المشروع جدا أن ننتظر من المثالية - طالما أنها تفكر نظريا في مشكلة العالم الخارجي على نحو مخالف للطريقة التي تفكر بها في موقفنا الطبيعي - أن تؤدي إلى تصرفات عملية مخالفة لتصرفات الإنسان المألوفة إزاء العالم الخارجي في ظل الموقف الطبيعي، أو بعبارة أخرى: فإن الإنسان في موقفه الطبيعي يعد الأشياء ذات وجود خارج ومستقل عنه، ويتصرف عمليا على هذا الأساس، وها هو ذا المثالي يعد الأشياء ذات وجود غير مستقل عن الذهن - بمعان مختلفة لهذه الكلمة - فلماذا إذن لا يتصورها على أساس اعتقاده هذا؟ ولماذا لم نجد مثاليا واحدا يعامل الأشياء كما لو كانت «ذهنية» بالفعل، أي يستخرج النتائج العملية المتوقعة من تفكيره النظري، ويتصرف على أساسها؟
Unknown page