139

Mashāhid al-mamālik

مشاهد الممالك

Genres

خلاصة تاريخية

احتل هذه الجزيرة أجدادنا الفينيقيون الذين اشتهروا بمتاجرهم، وأطلقوا عليها اسم أوجاجية، وهو لفظ معناه الملجأ، وليس العلم بتاريخ استيلائهم على مالطة ميسورا؛ لما أن تاريخهم كله غامض قليل الآثار، وربما كان ذلك في أواخر القرن الثاني عشر قبل المسيح ثم أخذها منهم الرومانيون في سنة 316 قبل المسيح وأقاموا فيها 700 سنة. قال ديودور المؤرخ الشهير إن الجزيرة نمت وتقدمت في تجارتها وثروتها مدة الرومانيين نموا عظيما، وقد ورد ذكرها في الإنجيل، حيث قيل إن بولس الرسول كان مسافرا في سفينة جنحت به عند هذه الجزيرة في خليج اسمه خليج مار بولس إلى الآن، وهم يحجون إليه ويتباركون من الاغتسال بمائه، وكانت حادثة هذا الرسول على عهد طيباريوس قيصر رومية في سنة 58 مسيحية، وهو أقام في الجزيرة ثلاثة أشهر، وأدخل إليها الدين المسيحي ونصب فيها أسقفا يدعى بوبليوس. وبقيت مالطة في حوزة الرومان قرونا - كما تقدم - ثم انتقلت إلى سلطنة القسطنطينية سنة 355 مسيحية على يد قايد بيزانتي اسمه بليزاروس، وأطلق عليها في ذلك العهد اسم مليتة - أي العسل - لكثرة هذا النوع فيها يومئذ، ثم دخلت الجزيرة في حوزة العرب سنة 870، فتحها قائد اسمه محمد بن الأغلب وأطلق قومه عليها اسم مالطة بدل مليتة، فهو اسمها عندنا إلى اليوم. وقد فتك العرب يوم هذا الفتح بأهل الجزيرة فباعوا من نسائها وأولادها عبيدا بقيمة 5000 أوقية ذهب، وبنوا حصونا جديدة فيها لرد هجمات الأعداء. وقد بقيت مالطة للعرب إلى سنة 1090 حين قام الملك روجر وأكره حاكمها العربي على الرحيل بأولاده وأهل بيته. ولما كانت سنة 1194 اقترن هنري الثاني إمبراطور ألمانيا بالأميرة كونستانس بنت الملك روجر، فأهداها أبوها جزيرة مالطة مهرا. وأصبحت الجزيرة بعد ذلك من أملاك قياصرة ألمانيا، وظلت على ذلك 72 سنة تقدمت في خلالها ونمت، حتى إنها قويت على جمهورية بيزا ودمرت أسطولها. وفتحها في سنة 1266 الأمير شارل إنجو شقيق لويس التاسع ملك فرنسا، فبقيت في يد الفرنسويين حتى سنة 1284 حين فتحها الإسبانيون وبقوا فيها إلى سنة 1520، وكان ملك إسبانيا يومئذ وإمبراطور ألمانيا معا كارلوس الخامس المشهور تنازل عن مالطة لفرسان مار يوحنا، وهم أشهر من استولى على هذه الجزيرة، وأبقى فيها من الآثار، فنحن نورد زبدة تاريخهم هنا موجزين.

كان في القدس رهبان بنوا مستشفى للمرضى، وكانوا أبدا عرضة للاعتداء من المسلمين حين مدتهم رومية بنجدة من الرهبان المسلحين عرفوا بالرهبان الفرسان، كثروا وبعدت شهرتهم، حتى إن أهل أوروبا كانوا في كل بلد يوقفون لهم الأموال والأملاك، فزادت ثروتهم زيادة كبرى، ولكنهم قوي عليهم المسلمون وطردوهم من القدس، فساروا تحت قيادة زعيم لهم اسمه فولك دي فيلاري إلى جزيرة رودس سنة 1310، واستولوا عليها بعد معارك شديدة بينهم وبين المسلمين واليونان معا، فبقيت في حوزتهم قرنين. وهاجمهم السلطان محمود الثاني بأسطوله سنة 1480، فمات قبل أن ينال منهم منالا، ولكن السلطان سليم الثاني رد الكرة عليهم سنة 1522 بجيش عرمرم يزيد عن مائة ألف مقاتل، ودام الحصار الشديد خمسة أشهر، استغاث رئيس الفرسان في آخرها بملوك أوروبا، فلم يغثه غير كارلوس الخامس الذي ذكرناه مرارا؛ فإنه تنازل للفرسان عن جزيرة مالطة، فخرجوا من رودس وأتوا مالطة في العام المذكور، ولكن الأهالي لم يسلموا للفرسان إلا بعد أن أقسم قائدهم - وهو يومئذ فيليه آدم دي ليل - ألا يعارضهم في لغتهم وامتيازاتهم، وكان هذا القسم فرضا على كل رئيس بعده للفرسان.

وزاد غنى الفرسان في أوروبا الكاثوليكية في هذا العهد من الأوقاف الكثيرة حتى بلغ 50 ألف جنيه في السنة، وهو إيراد كبير جعل الجزيرة دولة قوية بثروتها وجنودها وسفنها وأسلحتها، فجعلت تسطو وتحارب وتوسع نطاق ملكها، وشنت الغارة على جزائر الغرب، وهي قريبة منها، وسيرت أسطولا لضبط السفن العثمانية التي كانت تمخر بين الآستانة وتونس، حتى اضطرت السلطان سليمان أن يهم للانتقام منها، فجرد عليها سنة 1565 جيشا وأسطولا تحت قيادة مصطفى باشا، ومعه 180 مركبا و38300 محارب و62 مدفعا، وكان قائد الفرسان في ذلك العهد شجاعا باسلا اسمه لافاليتا، له دراية بفنون الحرب ومعه 474 فارسا من إخوانه، و8100 محارب يعضدهم الأهالي.

فلما وصل الأتراك بدءوا بمحاصرة الجزيرة في الحال وإطلاق المدافع عليها، ففتحوا الحصن الأول بعد شهر، ورفعوا عليه راية آل عثمان، وعدوا ذلك دليل الفوز التام، ولكنه ورد على مالطة نجدات قوية من إسبانيا وإيطاليا، فارتد الأتراك عنها بعد حصار وحرب داما أربعة أشهر، ورجع مصطفى باشا إلى الآستانة وهو يقول إن هذه الطفلة - أي مالطة - لا تعادل الخسارة الكبرى التي لحقت بجيشه؛ لأنه قتل من عساكره نحو 25 ألفا ومن الفرسان 200 ومن بقية جنود مالطة 3000 ومن أهل الجزيرة 7000.

ولما انتهت هذه الحرب رمم رئيس الفرسان الحصون فبنى لنفسه قصرا جميلا على إحدى ربوات مالطة، وفعل بقية الفرسان فعله، وتمثل بهم الأهالي أيضا، فما مرت أعوام حتى قامت فوق تلك الأكمة فاليتا عاصمة مالطة الآن، واسمها من اسم هذا القائد المشهور، وقد توفي هذا القائد بالرعن في شهر مارس من سنة 1750، ودفن في كنيسة مار يوحنا، فبكاه الجميع. وخلفه بطرس دل مونته في القيادة، وهو رد الأتراك عن الجزيرة مرة أخرى؛ لأنهم هاجموها في السنة الأولى من حكمه، وحاصروها، ولكن قائدهم رجع في الحال حين علم أن المدافع في حصون مالطة وأسوارها تعد بمائة وستين مدفعا كبيرا من النحاس. وفي سنة 1590 جاءت سفن من الشرق ورست في مالطة، فأدخلت الطاعون إليها وفتك بأهلها، فكان عدد الوفيات به 4000. وفي سنة 1622 توفي قائد الفرسان ألوفيو، وحصرت تركته الخصوصية فكانت 20460 جنيها و2000 خادم وخادمة. وكان رئيس الفرسان إذا ذهب في عيد أو موسم إلى الكنيسة يركب مركبة تجرها 6 بغال تكسوها أقمشة مزركشة بالذهب، ولها قيمة كبرى ويسير بموكب عظيم أمامه 16 فتى من أبناء الأشراف، لا يزيد عمر أحدهم عن 16 سنة على الجياد المطهمة، ووراء المركبة 400 من الفرسان على الأقدام، وغير هذه من آيات الفخر والأبهة التي لم يأتها ملك أو قيصر كبير، وكأن ذلك أوجب البابا أن يقول إن هؤلاء الفرسان نسوا أو تناسوا أنهم رهبان.

وقد اشترى الفرسان في سنة 1650 أملاكا واسعة في أوروبا، فتنعموا بإيرادها زمانا، ولكن الطاعون عاد إلى الجزيرة سنة 1675 فقتل من أهلها أحد عشر ألفا، وتلاه زلزال في سنة 1693 دمر وزاد الخراب. وكانت مراكب الأتراك والمغاربة تكثر الاعتداء على مالطة في ذلك الزمان، حتى إن المراكب التركية التقت سنة 1709 بسفينة الأميرال المالطي وفيها 500 نفس فأغرقتها بمن فيها، وكان في مالطة نحو 4000 مسلم تخلفوا فيها من قدم فلما علموا بانتصار إخوانهم عقدوا اجتماعا سريا تعاقدوا فيه على أن يقوموا في ساعة معينة ويذبحوا جميع الفرسان، وجعلوا عيد بطرس وبولس موعد هذه الفعلة؛ لأن الفرسان يجتمعون يومئذ في الكنيسة، ولكن مكيدتهم ظهرت ؛ لأن ابنة فلاح جاءت من مزرعتها وأخبرت الفرسان بالمكيدة، فقبضوا على 60 من المتآمرين وأعدموهم.

وفي سنة 1768 أمر قائد الفرسان - وهو يومئذ بنتو - بطرد الجزويت من مالطة وضبط أديرتهم وأملاكهم، فلما وصل المطرودون إلى فرنسا وأخبروا رهبان طريقتهم بما جرى لهم أضمروا السوء لرهبان مار يوحنا، ونشأ عن مساعيهم المتواصلة أن مجلس الشورى في باريس قرر سنة 1792 إبطال طريقة الفرسان ومحو آثارها من فرنسا، فضبطت الحكومة أملاك الفرسان، وكانت خسارتهم كبيرة؛ لأن أوقاف طريقتهم كانت شيئا يستحق الذكر في بلاد الفرنسيس، وإيرادها لا يقل عن 50 ألف جنيه في العام. واقتدت الدول الأخرى بفرنسا، مثل ألمانيا ونابولي وإسبانيا، فكلها ضبطت أملاك الفرسان، وكذلك إنكلترا البروتستانتية، فأثر ذلك في رهبان مالطة أشد تأثير وأوقعهم في الارتباك؛ لأنهم كانوا في حاجة إلى إيرادهم من تلك الممالك؛ ولذلك عمدوا إلى أخذ الأواني الذهبية من الكنائس وضربوها نقودا رغما عن معارضة الأتقياء من أهل مالطة الذين بدءوا يتضجرون من حكم الفرسان، ولا سيما بعد أن أوقف الفرسان صرف الرواتب.

وساءت الحالة الداخلية كثيرا حين ظهرت مراكب الدولة الفرنسوية أمام مالطة سنة 1798 تحمل نابوليون وجيشه إلى مصر، وكان عددها 36 سفينة حربية و470 سفينة أخرى لنقل المهمات، هاجمت الجزيرة فقاومها الفرسان وعددهم يومئذ 400 فقط وعدد جنودهم 6000، ولكن القوات الفرنسوية تغلبت عليهم فدخلت جزيرتهم من 12 مكانا في 10 يونيو سنة 1798؛ فاضطربت مالطة بمن فيها لدخولهم، واشتد الهياج والقلق، ودام الفاتحون في مخابرة أصحاب الجزيرة من ساعة دخولهم في الفجر إلى آخر النهار حين سلمت لهم الجزيرة على شروط أمضيت في السفينة الفرنسوية المسماة لوريان - أي الشرق - وخلاصتها حفظ امتيازات المالطيين، ودفع مرتب إلى رئيس الفرسان - وهو يومئذ هوبش - وإلى رفاقه الفرسان عن سنة كاملة، على شرط ألا يذهبوا إلى فرنسا ولا يدخلوا أرضها في حال من الأحوال. وكان في الجزيرة يوم احتلها الفرنسويون 1200 مدفع و40000 بندقية ومليون ونصف رطل من البارود. وكان قائد الفرسان المذكور ضعيفا فيما يقال، وقد بلغ من العمر عتيا فترك مالطة ومعه 12 فارسا، وسافر في سفينة نمساوية إلى تريستة، ومنها إلى بطرسبورج، وماتت طريقة الفرسان معه بعد أن بلغت من السؤدد ما تقدم وصفه في هذا الفصل. وكان أول قائد للفرسان من حكام مالطة فيليه آدم دي ليل، بدأ حكمه سنة 1532 وآخرهم هوبش انتهى حكمه سنة 1798، فمدة استيلائهم على الجزيرة 276 سنة.

ولما تمكن الفرنسويون في مالطة جعلوا يمحون آثار الفرسان، فاحتلوا قصورهم وأزالوا شعارهم، ثم مدوا أيديهم إلى آنية الكنائس الذهبية، ولم يقم نابوليون في مالطة طويلا؛ لأنه برحها في 21 من شهر يونيو المذكور بعد أن ترك فيها الجنرال فوبوا ومعه 3000 جندي وخمس بطريات من المدافع، وتقدم هو إلى الإسكندرية. وأساء الفرنسويون سلوكهم في مالطة بعد سفر نابوليون؛ لأنهم سلبوا كنيسة في المدينة القديمة، فقام الأهالي عليهم في 12 سبتمبر من تلك السنة وذبحوهم ليلا وهم 65 نفسا حامية تلك الجهة، وأرسل الجنرال فوبوا من فاليتا نجدة تقتص من الأهالي حين بلغه هذا الخبر، فاعترضت جنوده ألوف من الفلاحين في الطريق وأحاطت بها من كل جهة، ولم يحدث قتال بين الفريقين، ولكن المالطيين انتهزوا هذه الفرصة وأرسلوا للأميرال نلسون قائد الأسطول الإنكليزي الذي كان يتأثر أسطول نابوليون؛ فجاء حالا وحصر الجزيرة وأطلق المدافع على حاميتها الفرنسوية. وكان المالطيون محيطين بالمدينة من كل جهة ليمنعوا عنها الزاد، فأقام الفرنسويون على الحصار، ورأى نلسون أنه لا يمكنه الانتظار فترك قوة أمام مالطة تحت قيادة السير إسكندر بال، وسار بأسطوله وراء نابوليون حتى التقى بأسطوله عند أبي قير على مقربة من الإسكندرية، حيث حدثت المعركة المشهورة التي دمر بها أسطول الفرنسيس. وأما السير إسكندربال فإنه أقام على حصار مالطة نحو سنة على غير جدوى، وأظهر الجنرال فوبوا الفرنسوي في خلال الحصار مقدرة وبسالة زادتا قدره، ولكنه رأى أن الأهالي موالون للأعداء، وقد قطع الزاد والمدد عنه من البر والبحر فسلم في أوائل أبريل سنة 1799 للقائد الإنكليزي واسمه الجنرال بجوت. فلما استولى الإنكليز على الجزيرة وزع بجوت إعلانا على الأهالي قال فيه إن جلالة ملك إنكلترا لا يريد الاستيلاء على مالطة، ولكنه يقيم فيها حامية لحفظ الأمن والنظام، وتعهد بحفظ استقلال المالطيين وحريتهم في الدين واللغة والعوائد والأملاك، وأخبرهم أيضا في هذا المنشور أن إنكلترا أرسلت 4000 جنيه إلى الآستانة فكاكا للأسرى المالطيين، فرضي الأهالي عن هذا الإعلان، ولما جاء الأسرى فرحوا بلقياهم فرحا عظيما، وأظهروا كل ولاء للإنكليز. على أن إنكلترا ضمت هذه الجزيرة رسميا إلى أملاكها بعد 14 سنة بمقتضى البند السابع من معاهدة باريس سنة 1814.

Unknown page