وكان أول حاكم إنكليزي لمالطة السير إسكندربال السابق ذكره، توفي سنة 1809 فأسف الجميع لوفاته، وخلفه الحكام في جملتهم السر بونسونبي سنة 1835، اشتهر بتأسيس المجالس المحلية. وخلفه السر فرال سنة 1840، وهو الذي قال مالطة للمالطيين، وحصر وظائف حكومة مالطة بالمالطيين، ما خلا ثلاثة من المناصب الرئيسية. وتلاه لمرشنت فاهتم لزيادة عدد المدارس في مالطة وتوسيع نطاقها. وفي سنة 1862 ذهب جلالة الملك إدورد الحالي - وهو يومئذ ولي العهد - فزار مالطة، وقوبل بالاحتفاء العظيم. وفي سنة 1877 عين الديوك أوف كونوت شقيق الملك إدورد حاكما لمالطة، ورزق فيها بنتا سماها فكتوريا مليتة باسم الجزيرة القديمة، وهي الآن زوجة ولي عهد السويد، وقد توالى الحكام الإنكليز على الجزيرة، وكلهم من بعد الديوك أوف كونوت قواد عسكريون، وهم يحكمون باسم الملك وإرادة الشعب المالطي ونوابه الآن. هذا أشهر ما يقال في تاريخ مالطة، نسقته تنسيقا لا يمل القارئ من مطالعته، وقد جمعته من عدة قواميس ومؤلفات، والآن أتقدم لوصف هذه الجزيرة وما فيها، فأقول:
تتكون مالطة من أربع جزر، أولها فاليتا على اسم مؤسسها - وقد تقدم ذكره - وفيها العاصمة وجزيرة غوسو سماها العرب هودج؛ لأنهم شبهوها بالهودج، وهي على مقربة من فاليتا، وجزيرة كومينو سماها العرب كمونة، وهي صغيرة واقعة بين الجزيرتين السابقتين، والرابعة فيلافلا سماها العرب فلفلة لصغرها. طول هذه الجزر 20 ميلا وعرضها 12 ومساحتها 117 ميلا، وعدد سكانها مائتا ألف نفس، وهي مجموع أكمات يختلف علوها ما بين 600 قدم و1000 قدم، وأكثرها صخرية رملية لونها أصفر فاقع، وأبنيتها من الحجر الرملي، قائمة على الروابي وضفاف الماء وبعضها في الخلجان والكهوف. وقد تخللت المياه أرض هذه الجزيرة فدخلتها من اليمين ومن الشمال حتى كونت ثغورا طبيعية واسعة ترسو فيها البوارج وبواخر التجار، فالواقف في أي الأحياء في مالطة يرى البحر من أمامه ومن ورائه. وطرق الاتصال بين هذه الأحياء سهلة، إما بحرا بالوابورات الصغيرة والقوارب مسافة 5 دقائق تقريبا، أو برا بالعربات أو على الأقدام. ومالطة نظيفة يعنى مجلسها البلدي بالرش والكنس كثيرا ولا سيما في زمان الصيف، حيث يكثر الغبار ويشتد الحر، وإذا هبت الرياح في الشتاء كانت شديدة هوجاء يلجأ الناس منها إلى المنازل والحوانيت، حتى قال أحد المؤرخين إن مالطة مخزن الأهوية، ولكنها مع ذلك معتدلة الإقليم. ومع أن الأرض صخرية فقد زرعوا فيها العنب والصبير (التين بشوكة)، وهو مشهور بحمرة لونه وحلاوته، وفيها بعض مزارع القمح والشعير. على أن سوقها ملأى بكل أنواع الفاكهة والخضر، تأتيها من صقلية من أعمال إيطاليا، وهي قريبة منها لا تزيد المسافة عن 12 ساعة، ويرد منها باخرة كل يوم.
وأما رابية العاصمة فإنها هرمية الشكل مثل قالب السكر نظموا في قمتها شارعين مهمين، أولهما اسمه ريالة - أي الشارع الملكي - والثاني مركانتة - أي الشارع التجاري - وبقية طرقها منحدرة تتصل من القمة إلى ضفة البحر، فهم جعلوها ملتفة معوجة حتى لا يتعب المرء من السير فيها، وهي طريقة التنظيم في كل الجبال. وقد بنوا سلالم من الحديد والخشب في بعض جهاتها، حيث يكثر الانحدار تسهيلا للصعود والنزول. وفي شارع ريالة - السابق ذكره - أحسن الأبنية للمنازل والفنادق والحوانيت والقهاوي والتياترو الكبير والمكتبة والبورصة والنادي والمجلس البلدي، وهنالك أيضا قصر فاليتا قائد الفرسان مساحته 3000 قدم مربعة، وقد جعله الإنكليز مقام الحاكم العام، دخلته لأرى ما فيه من التحف وآثار دولة الفرسان، فولجت بابا كبيرا وصلت منه رحبة، ثم رقيت سلما من الرخام عريض الذرى واطئا، يكاد المرء لا يشعر بمشقة الصعود عليه، ودخلت القاعة الكبرى التي كان الفرسان يجتمعون فيها، وقد جمعوا فيها أنواع الأسلحة القديمة وعددها 150 قطعة من كل الأشكال، وفيها ملابس الفرسان وكسوة قائدهم فاليتا مزركشة بالذهب والقصب ومنظرها يروق للعيون. قال لنا الدليل: كان لهذه الكسوة سيف من الذهب مرصعة قبضته بحجارة الألماس الكبرى، وقد أخذه نابوليون الأول حين احتل الجزيرة.
وفي وسط القاعة منضدة كبرى وضعت فيها حلي الفرسان وجواهرهم مغطاة بالزجاج، وفي جملتها صولجان الإمارة للقائد فاليتا، وهو من الذهب في رأسه صليب، وحجة تملك الفرسان لمالطة من شارلكان، وهناك البوق الذي نفخوا فيه إعلانا بالخروج من رودس حين تركوها للأتراك. وفي الجدران رسوم جميلة لمعارك الحصار التركي تمثل الأتراك في المراكب بسترهم الحمراء والعمامات البيضاء، وقد شهروا السيوف وهموا بالنزول إلى البر، وعلى الجدران أيضا نقوش ورسوم أفريقية ذات قيمة واعتبار. وفي القصر نحو 60 غرفة كبيرة للحاكم العام وعمال ديوانه وبعضها لعائلته، وهو يقيم فيه كل سنة حفلة راقصة يدعو إليها كبار الموظفين ووجوه الأهالي، وفيهم أصحاب الشرف ورتب الشرف، كالماركيز والكونت والبارون، وفيهم عدة أغنياء ورثوا الأموال الطايلة عن الآباء والأجداد. وفي قاعة الطعام رسوم كل قواد الفرسان من أولهم إلى آخرهم. وقد أضاف المجلس البلدي رسوم الحكام الإنكليز من بدء استيلاء هذه الدولة عليها إلى الآن، فكلما جد حاكم وضعوا رسمه هنا، وما زال في مالطة سبعة قصور بناها الفرسان، أخذتها الحكومة الإنكليزية وأعطت بعضها للضباط، وأحدها للنادي العسكري، والأخرى لمراكز الحكومة. وقد قضيت زمانا في هذا القصر، ثم نزلت منه فرأيت في ردهته الخارجية عربة من النوع القديم كانت لهومبش، وهو آخر قادة الفرسان، قيل إن نابوليون الأول ركب هذه العربة حين كان في مالطة، وقال بعضهم غير ذلك؛ أي إن نابوليون طلب إليه الركوب فيها، فقال إن مالطة لا تسع قدمه.
وتجاه القصر ميدان القديس جورجيوس، وكان اسمه ميدان الفرسان؛ لأنهم كانوا يجتمعون فيه ليراهم الرئيس من الشباك، وكان المرور غير مباح للأهالي في هذا الميدان، فجعله الفرنسويون حرا، وأطلقوا على الموضع اسم ميدان الحرية، وأقاموا يوم 14 يوليو حفلات فيه وزينات دعوا إليها الأهالي، وهنا أعدم الفرنسويون أيضا الذين تآمروا عليهم ووالوا الإنكليز مدة الحصار الذي جاهد فيه الجنرال فوبوا. والميدان هذا أحسن مواضع مالطة لأن تصدح الموسيقى فيه أحيانا فيتألب الناس لسماعها جمهورا كبيرا. وعلى مقربة من هذا الميدان ساحة نصب فيها تمثال الملكة فكتوريا فوق العرش، وعلى رأسها تاج الملك وبيدها اليمنى صولجان الملك، والتمثال كله من الرخام الأبيض.
وهناك قهوة يجتمع المالطيون فيها، كنت أنتابها أحيانا؛ لأسمع لغتهم الغريبة، وهي خليط من العربي والطلياني. وعلى مقربة من هذه الساحة كنيسة يوحنا المعمدان، وهي من كنائس أوروبا المشهورة، طولها 187 قدما والعرض 118 والعلو 63، دخلتها فوجدت فيها جمهورا من الأهالي في غير وقت الصلاة للتحدث والمباحثات الدينية ومشاهدة الرسوم، وهم لا يشبعون من ذلك. وقد قلت تحف هذه الكنيسة عما كانت في أيام الفرسان؛ لأنه كان يفرض على كل فارس يرتقي درجة أن يهدي الكنيسة شيئا، وكانت هدية الرئيس عند تنصيبه 50 أوقية من الذهب؛ فلهذا كانت كل آنية الكنيسة من الذهب، حتى إن بابها كان يغشاه الذهب. وقد راح معظم هذه التحف في أيام الاحتلال الفرنسوي ما عدا بعض آثار قديمة عظيمة القيمة حفظت في صندوق من الحديد من أقدم أيام النصرانية، وفي جملتها يد القديس يوحنا المعمدان، كانت في بدء أمرها في إحدى كنائس أنطاكية ونقلها القيصر يوستنيانوس إلى القسطنطينية.
وحدث بعد هذا أن نجل السلطان بايزيد مرض مرضا ثقيلا فأتوا لمعالجته بفارس من فرسان رودس اشتهر بالطب، ولما شفي الأمير على يده طلب أن يكافئه السلطان بيد يوحنا المعمدان، فلما طرد الفرسان من رودس أخذها رئيسهم معه إلى مالطة حيث ألبسها غشاء من الذهب ووضعها في صندوق ذهبي، وحفظ هذا الصندوق في خزانة الحديد التي ذكرناها، بقيت إلى أن وصل نابوليون وفتح هذا الصندوق فوجد في أصابع اليد خواتم ذات حجارة ثمينة من الألماس، فأخذ الحجارة، وأعطى اليد للقائد هومبش ثم طرده من مالطة كما سبق البيان. وسافر هومبش بهذه اليد إلى تريسلة، ومنها إلى بطرسبورج واليد باقية إلى اليوم في القصر الشتوي لقياصرة الروس ملبسة بغشاء من الفضة، وقد ذكرت أني رأيتها عند الكلام على عاصمة الروس. وكنيسة مار يوحنا التي نحن في شأنها جميلة، أرضها مبلطة بنحو 400 قطعة من الرخام الكبير، وكل قطعة منها مرصعة بقطع أخرى من جميع ألوان الرخام. وفي جدران هذه الكنيسة وسقفها نقوش بديعة ورسوم حوادث الإنجيل كلها وافية الإتقان، ولا سيما المختصة منها بحياة مار يوحنا المعمدان، وفيها أيضا مدفن رؤساء الفرسان الذين توفوا ما بين سنة 1534 وسنة 1776، وفي جملتهم فاليتا مؤسس عاصمة مالطة الحالية.
الأمير بشير الشهابي.
قلعة سان إلمو:
لما خرجت من كنيسة مار يوحنا التقيت بضابط مالطي عرفته في مصر، فذهب بي إلى قلعة سان إلمو، وأراني ما بها من المدافع الكبرى وأنواع السلاح القديم والحديث. ورأيت ركاما من الكرات التي قذفها الأتراك على مالطة مدة الحصار. ثم دخلت ثكنة الجنود وكلهم من أهل الجزيرة، فأشرفنا منها على المدافع الهائلة المصوبة إلى البحر، ورأينا ما فيها من البوارج الراسية. وفي هذه القلعة قبر السر إير كرومبي، وهو القائد الإنكليزي الذي حارب نابوليون الأول وقتل على مقربة من الإسكندرية. وخرجت من القلعة إلى شارع ريالة، وفي آخره باب كبير يفصل المدينة عن الخلاء وإلى يمينه تمثال فيليه آدم دي ليل، وهو رئيس الفرسان الذي دافع عن رودس، وإلى الشمال تمثال فاليتا مؤسس المدينة. وعند خروجنا من هذا الباب ألفينا نفسنا في الخلاء، ورأينا المخازن المبنية تحت الأرض التي كان الفرسان يذخرون بها الزاد والمئونة مدة الحصار، ولها فوهات تشبه فوهات الآبار والصهاريج، وهي تؤجرها الحكومة الإنكليزية للتجار يخزنون فيها الغلال والمحصولات. وقد أنشئوا في هذه الأرض حديقة جميلة دخلتها مع حضرة المركيزة تيستا فراتا، فقالت لي إن سيدات المدينة يعنين بها كثيرا؛ ليكون لهن بعض الأزهار فيها. ثم ذهبت إلى ضاحية سان أنطونيو، وهي تبعد أربعة أميال عن العاصمة فقصدتها بالعربة في طريق منحدر حسب طبيعة الأرض، فكنت أرى المالطيين قاعدين أمام أبواب منازلهم الكائنة في الطريق وكلها ذات دور واحد، وربما كانت عادة الجلوس على الأبواب في أهل مالطة شرقية الأصل. ولهذه الضاحية حديقة فيها نحو 500 شجرة برتقال زرعوها في تراب نقلوه من إيطاليا؛ لأن أرض الجزيرة كلها رملية صخرية - كما تقدم القول - فرأيت في الحديقة عددا من القسوس والرهبان يتنزهون، وعددهم يزيد عن عدد الآخرين، ولا عجب فإن مالطة فيها 200 كنيسة و14 ديرا. وفي طريق الحديقة قصر بناه دي بولا رئيس الفرسان في سنة 1625 فصار قصرا صيفيا لخلفائه، وقد أقام فيه الملك إدورد السابع لما زار مالطة على عهد أمه، وكان مسكن الأمير بشير اللبناني حين اعتزل في هذه الجزيرة زمانا وسماه بعضهم بعد ذلك بالمالطي.
Unknown page