138

Mashāhid al-mamālik

مشاهد الممالك

Genres

وفي قرطاجة فندق صغير، فيه نحو عشرين غرفة لمندوبي الجمعيات العلمية وغيرهم، وهم يأتون من أنحاء أوروبا فينقبون زمانا ويبحثون ثم يعودون لنشر خلاصة ما رأوا من الآثار. ولكن أنقاض هذه المعابد والقصور وأجزاءها فرقتها الأيدي من زمان طويل، حتى إنهم يقولون إن كل معابد تونس من جوامع وكنائس بنيت من حجارة المباني القديمة في قرطاجة، وكأن هذا لم يكفها حتى إنهم نقلوا كثيرا من بقايا القدماء إلى مالطة وصقلية وبنوا بها ما عندهم من الكنائس والقصور، فما بقي من تلك العظائم غير أراض زراعية للرهبان يؤجرونها للفلاحين، فسبحان مغير الأحوال !

المرسى:

لما احتل الفرنسويون تونس وبسطوا حمايتهم عليها ترك علي باي قصر الباردو، وتوطن المرسى مع أهل بيته في قصر بناه، وقد رأيت العلم التونسي يخفق عليه دليل وجوده في القصر وهو توفي فيه. وليس لهذا القصر جمال ظاهر، ولكنه بني في أرض واسعة كبيرة، وله باب بالغ العلو، يقف أمامه رجال الحرس الخصوصي للباي يلبسون مثل جنود الدولة العلية، غير أن طربوشهم تونسي له شرابة طويلة وحلية من القصب فوق جهة الجبين هي شعار تونس. فترى هؤلاء الجنود يخطرون أمام القصر والناس تمر من الساحة الكبرى التي تحكي ساحة قصر عابدين، يريدون الذهاب إلى القهاوي الواقعة على شاطئ البحر.

سيدي أبو سعيد:

وهذه مدينة صغيرة جميلة بنيت على مرتفع فوق ماء البحر، وبعدها عن المرسى قليل، تكثر فيها كروم العنب والزيتون الشهية في وسطها البيوت البيضاء، وهواؤها جيد صحي، فأغنياء المسلمين بنوا فيها المنازل أو استأجروها لقضاء أشهر الصيف فرارا من حر تونس، وهو يشتد كثيرا في فصل الصيف.

حمام الأنف:

إن كل ما تقدم ذكره من الضواحي واقع إلى شمال مدينة تونس ما خلا هذه؛ فإنها في الشمال الغربي، وهي تعد المتنزه العمومي للمدينة، يقصدها الناس بسكة الحديد. وقد ذهبت إليها يوم أحد حين تكثر القطارات، فكنت أرى البحر في الطريق إلى الشمال والمزارع البهية إلى اليمين، وفي طرفها جبل أبي قرنين سموه بهذا الاسم؛ لأن له رأسين كالحراب في أعلاه وعلوه 640 مترا. ولما نزلنا في المحطة سرت مع الرفاق في طريق رصع بالحصى، وإلى جانبه المنازل الصغيرة كلها ذات دور واحد ومنظرها يشرح الصدور، حتى بلغت شاطئ البحر بعد مسير ربع ساعة، فإذا بهم قد أنشئوا على ضفته طريقا عظيما غرسوا فيه الأشجار الأفريقية والأوروبية إلى الجانبين، يسير فيه الناس لاستنشاق هواء البحر النقي. وفي هذا المكان تياترو بني على النسق المغربي، رأينا فيه جوقا فرنسويا من المغنين والراقصين، وهم يأتون بمثل هذا الجوق في كل صيف. وهناك فندق وملهى وكازينو وحمامات كالتي توجد في كل المصايف البحرية في سائر الأقطار.

من تونس إلى مالطة:

وفي هذا اليوم برحت تونس، فقامت الباخرة في ترعة البحيرة السابق ذكرها، وكانت تسير الهوينا سير البواخر في ترع السويس، وجعلت مناظر تونس تضمر وتتضاءل حتى غابت عن العيون. ولما دخلت الباخرة عرض البحر جدت في المسير وكان الليل قد بدأ فدخلنا غرفة الطعام، ووجدنا فيه رجالا من وكلاء البيوت التجارية ذاهبين إلى مالطة لشراء الخروج (دانتيلة) منها؛ لأن هذا الصنف رخيص في مالطة جيد الصنعة، تصنعه بنات الفقراء بأيديهن ويبعنه برخيص الأثمان. وظهرت جزيرة مالطة في الصباح بحصونها والمدافع فيها مصوبة إلى جهة البحر، والبوارج الإنكليزية رأسية في موضعها، وبواخر التجار في ميناء لها آخر، وقد كان شكل هذه الجزيرة ودخول الماء في خلال أرضها مكونا لأحسن المواني الطبيعية تضارع مواني بورسعيد وإسكندرية، وهي التي أنفقوا عليها الملايين، وقد ملكت دولة إنكلترا هذه المواني المعدة لمرادها بلا نفقة من أدلة حظها المشهور. وحالما رست الباخرة صعد الطبيب في يده الإنجيل والصليب، وجعل يطلب من كل راكب أن يقسم أنه لم يأت من مصر، حيث انتشر الهواء الأصفر، فلما جاءني أبرزت شهادة من قنصل إنكلترا في تونس تدل بأني تركت مصر من نحو ثلاثة أشهر، وكنت سائحا في أوروبا والغرب، فكان يلمسني بالصليب مرارا، وهو يتلو علي الأيمان بأني لست قادما من مصر، ولعل القوم يعذرون في هذا التشديد؛ لأن التاريخ يدل أن الطاعون والهواء الأصفر يفتكان في جزيرتهم فتكا ذريعا، وليس لهم ملجأ غير تلك الجزيرة يفرون إليه.

مالطة

Unknown page