137

Mashāhid al-mamālik

مشاهد الممالك

Genres

بلفيدير:

لا بد للفرنسويين أينما حلوا من متنزهات ينتابونها كما ينتاب أهل باريس غاب بولونيا وغيره، وهم ذوو همة في تحسين المدن حتى إن مدن فرنسا ولو صغرت لتعد من أجمل مدائن الأوروبيين. وقد وجدوا على مقربة من تونس في جهة الشمال أرضا بعضها مرتفع والبعض منبسط، فجعلها المجلس البلدي متنزها أطلق عليه اسم بلفيدير - أي المنظر الجميل - وقرر أن ينفق عليها 20 مليون فرنك، وقد قصدت هذا المتنزه فإذا هو مثل المتنزهات الفرنسوية في رسم أشكاله وشجره وغرسه ومناظره، وقد بلغت قمته بالعربة فرأيت منها مدينة تونس كلها بيضاء ناصعة؛ لأنهم يطلون جميع جدرانها بالكلس الأبيض، وتظهر الضواحي أيضا من هذه القمة واضحة واحدة بعد واحدة على شاطئ البحر.

الضواحي:

والضواحي كثيرة حول تونس لما أن البحر يحيط بالمدينة من الشرق والشمال، وقد بنيت على ضفافه المدن الصغرى، مثل حلق الوادي وخير الدين وقرطاجة والمرسى وسيدي أبو سعيد. ومدت إحدى الشركات الطليانية سكة حديد من المدينة إلى هذه الضواحي، طولها 16 كيلومترا، فاشتراها الفرنسويون بثمن بالغ؛ حتى تكون المصالح كلها في يدهم، وتبدأ هذه السكة من حي الإفرنج، حيث يقوم كل ساعة في النهار والليل، ويكثر الركاب ولا سيما في الليالي المقمرة. وإليك بيان هذه الضواحي واحدة بعد واحدة حسب وضعها الطبيعي:

حلق الوادي:

واسمها عند الفرنسويين لاجوليت، كانت مرفأ تونس القديم، ولكنها ضاعت أهميتها بعد حفر الترعة في وسط البحيرة وبناء الميناء الجديد، ولكن حسن موقعها على شاطئ البحر وإنشاء سكة الحديد أعاد إليها الرونق السابق، فقامت فيها الأحياء الجديدة على شاطئ البحر، ويعد أهلها الآن بستة آلاف.

خير الدين:

دعيت باسم خير الدين باشا وزير تونس، وهو الذي صار الصدر الأعظم في الدولة العلية وله هنا قصر. وهي مدينة صغيرة يكثر قصادها للاستحمام بالحمامات البحرية، وقد جعلوا قصر خير الدين فندقا وملهى، فالناس تنتابه عند الغروب لتناول الطعام والشراب في الموائد الممدودة على شاطئ البحر، وفي الليل يدخلون التياترو، وكل الشخصيات فيه من يهوديات تونس المعروفات بالملابس المزوقة الحسناء.

قرطاجة:

لها شهرة من أيام الفينيقيين كما ذكرنا في المقدمة التاريخية، وهي قريبة من محطة سكة الحديد، ذهبت مع دليل كان يدلني إلى حدود قرطاجة القديمة من الجهات الأربع، وكل الأراضي المتاخمة لها تزرع الآن قمحا وشعيرا، وهي أراض يكفي النظر إليها للعلم بما كانت دولة قرطاجة عليه من الثروة والقوة، حتى إنها حاربت سلطنة الرومانيين، ثم دالت دولتها، فما بقي من آثارها إلا الساحة التي كان جمهور الرومان يؤمها في مدائنهم، وتعرف باسم فورم، وفيها حتى الساعة أعمدة أو قطع منها مبعثرة في جوانب الأرض. وفي صدر هذا الموضع كنيسة صغيرة تتلى فيها الصلوات أحيانا للشهداء الذين قتلوا في هذه الساحة حين كان الرومانيون يضطهدون النصارى ويطلقون عليهم الضواري في مثل هذه المواضع، وكان الرومانيون يعدون الفرجة على هذه المشاهد من أعظم المسرات. وزرنا الصهاريج الرومانية، وهي مبنية بالطوب الأحمر وكلها طويلة قليلة العرض غير عميقة، وربما كان عدم عمقها من رسوب الأكدار والغبار فيها مدة هذه القرون، حتى إنها كادت تساوي سطح الأرض، وقد جعلها الفلاحون في هذه الأيام مساكن لهم أو زرائب لمواشيهم. وذهبت من هنالك لأرى آثار الكردينال لافجري، وهو كاهن فرنسوي عظيم، وقد بنى متحفا عظيما جمع فيه آثار دول قرطاجة ورومية وبزانتيوم وإسبانيا والعرب والترك، جعلوا أقساما، في كل منها ألوف من هذه الآثار، وفيه قبور قياصرة رومية نقشت أسماؤهم عليها ولا سيما المواقع التي فازوا فيها. وهنالك مطاحن حجرية وآلات فلكية وأسلحة قديمة كثيرة الأنواع، ومصابيح وحلي ونقود من الذهب والفضة والنحاس والزجاج، وهي - أي نقود الزجاج - نادرة المثال. وفيه موازين وأقفال ومفاتيح رومانية من الخشب كالتي تستعمل في قرى مصر والشام الآن، وأشياء أخرى لا تعد. وإلى جانب هذا المتحف الكنيسة بنيت سنة 1842، حيث مات ملك فرنسا لويس التاسع، وهو المعروف باسم القديس لويس سنة 1270 عند رجوعه من بعض الحروب الصليبية؛ لأنه زار المطعونين حين تفشى الوباء فمات به وأقاموا له التمثال. وقد بنى الكردينال لافجري في سنة 1890 كنيسة كبرى لها ثلاثة أبواب، وهي قائمة على صفين من عمد الرخام مذهبة الرءوس، وفيها كثير من آنية الذهب والفضة، تراها العين كيفما اتجهت في ذلك البناء، وأنفقوا أموالا طائلة في زخارف السقف، وكتبوا أسماء المتبرعين لها بالمال على الجدران، فهي بالجملة من الكنائس الفخيمة لا نظير لها بين كنائس اللاتين في مصر وإسكندرية مع أنها لا يؤمها للصلاة إلا قليل من الرهبان، ومن يقصدها من نصارى تونس مرة كل سنة في عيد مار لويس. وفي هذه الكنيسة قبر الكردينال لافجري بانيها، وتمثاله وضع بعد وفاته فوق القبر متكئا وبيده كتاب، كل ذلك عمل من الرخام الأبيض الناصع.

Unknown page