طريقة المتقدمين في ذلك
وأما المتقدمون فأغفلوا ذلك في كثير من المواضع لا سيما ما يستغني عن ضبطه الخواص واقتصروا فيها على الشكل، فإن كان في الكلمة لغات كرروها بعددها ليتيسر شكلها بالأوجه المختلفة، كقول الجوهري: «قلب النخلة لبها.» وفيه ثلاث لغات: «قلب» «قلب» «قلب»، والشكل وإن كان كافيا في الضبط إلا أنه كثيرا ما يغفله النساخ، فإن لم يغفلوه لم يخل غالبا من خطأ يتطرق إليه، إما عن جهل أو غفلة، وإنما حملهم على الاقتصار على الشكل فيما لا يعم الإشكال فيه ما كان لهم من العناية بكتب اللغة؛ فإنها كانت تروى كما تروى كتب الحديث، وتقابل على الأصول المعتمدة، وكان كثير منها جامعا بين صحة الضبط وحسن الخط، فلما فترت الهمم وخشي من شيوع التصحيف في اللغة تدارك علماؤها ذلك، وسلكوا طريقا يؤمن فيه من العثار، وهو الطريق الذي أشرنا إليه أولا.
واعلم أنهم قد يعينون موضع الحركة وقد يوهمونه، فإذا عينوه فالأمر ظاهر؛ كقول بعضهم: «المغرب» بكسر الراء على الأكثر وبفتحها، والنسبة إليه «مغربي» بالوجهين.
وكقوله: الغرفة العلية والجمع غرف، والغرفات بفتح الراء: جمع الجمع عند قوم، وهو تخفيف عند قوم، وتضم الراء للاتباع، وتسكن حملا على لفظ الواحد، والمغرفة بكسر الميم: ما يغرف به الطعام.
وإذا أبهموه فإن لم يكن ثم قرينة كان موضع تلك الحركة هو الحرف الأول، مثال ذلك: قول الجوهري «اللعبة» بالضم لعبة الشطرنج والنرد، وكل ملعوب به فهو لعبة لأنه اسم، ومنه قولهم: اقعد حتى أفرغ من هذه اللعبة، وقال ثعلب: من هذه بالفتح أجود؛ لأنه أراد المرة الواحدة من اللعب، و«اللعبة» بالكسر: نوع اللعب مثل: الركبة والجلسة.
فإن وجدت قرينة تدل على غيره كان موضعها ما دلت عليه، مثال ذلك قوله: القالب بالفتح: قالب الخف وغيره، والقالب بالكسر: البسر الأحمر، وقوله الطابع بالفتح: الخاتم، والطابع بالكسر: لغة فيه؛ فإن الحرف الأول لا يتصور فيه هنا غير الفتح لوجود الألف اللينة بعده فتعين أن يكون الفتح والكسر راجعا إلى اللام في القالب، والباء في الطابع، ومما يتعين فيه الحرف الثاني الفعل الماضي من الثلاثي؛ لأن الأول والثالث لا يحتاجان إلى ضبط، مثال ذلك قوله: «الحلم» بالضم ما يراه النائم، تقول منه: «حلم» بالفتح واحتلم، و«الحلم» بالكسر: الأناة، تقول منه: حلم الرجل بالضم، والحلم بالتحريك أن يفسد الإهاب في العمل تقول: منه حلم الأديم بالكسر، فموضع الحركة في قوله: حلم بالفتح وحلم بالضم وحلم بالكسر، إنما هو اللام الذي هو عين الفعل بخلاف قوله: الحلم بالضم والحلم بالكسر، فإن موضع الحركة فيهما إنما هو الحرف الأول وهو الحاء، وأما قوله: والحلم بالتحريك، فإنه يشير به إلى فتح الحرف الأول والثاني وهما الحاء واللام، وإنما دل قوله: بالتحريك على فتح الثاني؛ لأن الحرف الأول لا يكون إلا محركا، والأصل فيه أن يكون محركا بالفتحة؛ ولذلك لا يشيرون غالبا إلى حركة الحرف الأول إذا كان محركا بها؛ لأنه جاء على الأصل، والأصل في حرف الثاني في كثير من المواضع أن يكون ساكنا؛ ولذا لا يشيرون إلى سكونه في الغالب؛ لأنه جاء على الأصل، فإذا كان محركا فإن كان محركا بالضمة أو الفتحة نصوا على ذلك، وإذا كان محركا بالفتحة اكتفوا بالإشارة إلى كونه محركا؛ لأن الفتحة هي الأصل في الحركات، وكثير من اللغويين يستعمل عوض قوله: بالتحريك أو محركا، قوله: بفتحتين، نحو قول بعضهم: الكبد بفتحتين: المشقة من المكابدة للشيء. وقوله: الكتم بفتحتين: نبت فيه حمرة يخلط بالوسمة ويختضب به للسواد، وقوله: «الكثب» بفتحتين القرب، تقول هو «يرمي من كثب».
هذا، ومثل ماضي الثلاثي مضارعه؛ فإن موضع الحركة فيه هو العين، غير أن العين فيه تكون هي الحرف الثالث ، فإذا قيل: يكتب بالضم كان موضع الضم فيه هو الثالث وهو التاء، إلا في مثل «يقر» فإن موضع الحركة فيه يكون هو الثاني لانتقالها من الثالث إليه، وقد جرت عادتهم في الأبواب الثلاثة الأول من الثلاثي إذا ضبطوها بالحركات أن يذكروا الماضي والمضارع، ويكون الضبط فيه للمضارع؛ لاستغناء الماضي حينئذ عن الضبط؛ إذ يعلم بذلك كونه مفتوح العين، مثال ذلك قول الجوهري: «الخلابة»: الخديعة باللسان، تقول منه: خلبه يخلبه بالضم واختلبه مثله، وقوله: نسبت الرجل أنسبه بالضم نسبة ونسبا إذا ذكرت نسبه. ونسب الشاعر بالمرأة ينسب بالكسر نسيبا إذا شبب بها، وقوله: «اللغوب»: التعب والإعياء، تقول منه: لغب يلغب بالضم لغوبا، ولغب بالكسر يلغب لغوبا لغة ضعيفة فيه، وكثيرا ما يذكرون الماضي، ويتبعونه بالمضارع مكررا من غير إشارة إلى ضبط، وهذا في الغالب يكون من الباب الأول والثاني، مثال ذلك قوله: عكفه أي حبسه ووقفه، يعكفه ويعكفه عكفا، ومنه قوله تعالى:
والهدي معكوفا ، يقال ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس، وعكف على الشيء يعكف ويعكف عكوفا: أي أقبل عليه مواظبا. وأما السكون والتشديد فلا يقعان في أول الكلمة، فإذا عين موضعهما فالأمر ظاهر، وإن لم يعين فالغالب أن يكون موضعهما الحرف الثاني إلا أن تدل قرينة على غيره فيرجع إليها، مثال ذلك قول الجوهري: «زهرة الدنيا» بالتسكين غضارتها وحسنها، وزهرة النبات أيضا نوره، وكذلك الزهرة بالتحريك، وقوله: «عثر» مخففا بلد باليمن، وعثر بالتشديد: موضع، وقوله: «القمطر» و«القمطرة» ما يصان فيه الكتب، قال ابن السكيت: لا يقال بالتشديد وينشد:
ليس بعلم ما يعي القمطر
ما العلم إلا ما وعاه الصدر
Unknown page