خطبة الكافي
خطبة الكافي
الكافي في اللغة
الكافي في اللغة
تأليف
طاهر الجزائري
خطبة الكافي
الحمد لله الذي خلق الإنسان، علمه البيان، وميزه على سائر أجناس الحيوان. والصلاة والسلام على أفصح الأنبياء بيانا، وأوضحهم حجة وبرهانا، أحمد
1
من أرسله لإرشاد الخلائق إلى أسنى الحقائق، وعلى آله الكرام البررة الذين اقتفوا أثره، وصحبه أعلام العلم والهداية، الذين كان لهم في نشر آثاره أسمى عناية، وعلى التابعين لهم بإحسان، ما أعرب عما في النفس لسان.
Unknown page
أما بعد، فلما كان للغة العربية الشأن الذي لا يجهل أقبلت وجوه العلماء الأعلام عليها؛ وجعلوا وجهتهم تمهيد السبيل إليها
2
كي لا يحلأ عن مواردها العذبة وارد، ولا يدرأ عن معاهدها الرحبة قاصد،
3
فبينوا قواعدها وأحكامها، ورفعوا أعلامها. وأفردوا كلا من حالي الأفراد والتأليف بالبيان، حتى كاد بيانهم يكون بمنزلة العيان، ونقبوا في البلاد عن شواردها، وجعلوا أسفارهم قيد أوابدها،
4
وأبرزوا في ذلك مصنفات مختلفة الأصناف، مشحونة بصحاح الجواهر ممتازة عن الأصداف،
5
ودعوا الناس إليها دعوة تامة؛ لتكون مأدبة الأدب لهم عامة.
6
Unknown page
ثم اجتهدوا في فقه اللغة؛ فأوضحوا أصوله المحكمة، وشرحوا فصوله المبهمة
7
حتى ظهر ما بهر من سرها الخفي ومن خصائصها المونقة لمن هو بها حفي،
8
ولم يزل التأليف فيها متواترا بقدر الإمكان مرعيا فيه حال الزمان والمكان،
9
والناس لهم بما ألف فيها أعظم إلف، حتى بلغ ذلك زهاء ألف.
10
ثم عرضت عوارض قضت بضعف العلم، وخفض أعلامه الشم؛
11
Unknown page
ففترت في تحصيلها الهمم، وترك رعاية ما لها من الذمم. حتى نجم عن ذلك ما نجم، وكاد أهلها في إهمال لغتهم يكونون كالعجم،
12
بل جعل بعض الأغمار أمرها غير أمم، وعد الاشتغال بها ضربا من اللمم،
13
وحال ما لا يحصى من الأحوال على هذا البلبال. ثم حالت تلك الحال، وأتى ما لا يخطر بالبال،
14
فقيض الله لها نفوسا سامية أشرفت عليها فعرفت قدرها السامي، وسمت إليها فرأت لها من المحاسن ما به تحكي العرب التي تجل عن المسامي،
15
فشرعوا في تجديد معاهدها، وتشييد قواعدها، إماطة الأذى عن شوارعها، وإزالة القذى عن مشارعها؛
16
Unknown page
ليكون الناس شرعا في وردها السائغ، وظلها السابغ
17
وإن اختلفت مشاربهم، وتباينت أسرابهم ومساربهم،
18
وقرروا درسها في المدارس، وأحيوا من كتبها ما كان كالرسم الدارس؛ فهبت ريحها، وأضاءت مصابيحها. وكاد يعود لها رونقها الأول، وخفت من كان يقول: وهل عند رسم دارس من معول؟
19
ولما كنت خليلا لها أحببت أن أبدي أمارة من أمارات الخلة؛ شفاء لما في النفس الغلة، فألفت هذا الكتاب على وجه يروق أولي الألباب. فذكرت فيه ألفاظ الكتاب العزيز، وما يتلوه من كتب الحديث والأثر،
20
وضممت إلى ذلك ما لا بد للأديب من معرفته، وقد أوردت فيه كثيرا من الشواهد
21
Unknown page
والأمثال؛
22
لتبقى الكلمات ممثلة في النفس وهي سالمة المبنى واضحة المعنى، وليقف على منهاج البلغاء في تأليف الكلام من أراد أن ينحو نحوهم.
23
وقد اجتنبت فيه غريب اللغة ووحشيها إلا أن يدعو إلى ذلك داع،
24
ولم آل جهدا في توخي أقرب العبارات إلى الفهم، وأبعدها عن الوهم،
25
مع رعاية حسن النسق بإيراد كل شيء في أحسن مواضعه بقدر الإمكان.
26
Unknown page
غير أني لم أتعد أقوال الأئمة الذين يعول في اللغة عليهم،
27
وقد فرقت فيه بين الفصيح والأفصح؛ ليأخذ الناظر في نفسه بما هو الأرجح
28
ويدع غيره في دعة، حيث كان في الأمر سعة، وأرجو أن يكون هذا الكتاب على ما فيه من الإجمال كافيا فيما قصدت إليه من غير إخلال؛
29
فإني غصت لأجله في قاموس لسان العرب؛ لإسعاف من لهم في التحلي به أرب،
30
فأجلت النظر في جواهره المختلفة الأوضاح، ثم استخرجت لهم من مختار صحاح مفرداتها ما هو مزهر كالمصباح،
31
Unknown page
ليبني على أساس البلاغة، وهو في نهاية الأحكام من يريد منهم إصلاح المنطق وتهذيب الكلام.
وليس لي فيه مع الجمع غير الوضع، على وجه يلائم الطبع، فإن راقك ما فيه فاشكر لمن تقدم وقل سلام على من لم يغادر فيها من متردم،
32
وإن رأيت فيه ما راعك من خلل لا يمكن حمله على غير الخطل،
33
فنبه بلطف عليه، وأشر من غير أشر إليه؛
34
صيانة للسان من الزلل فإن أمره جلل.
35
ورتبته على حروف المعجم، معتبرا فيه أوائل الكلم.
Unknown page
36
وأسأل الله التوفيق لما يرضى من قول وعمل.
الطريقة الأولى: طريقة الإمام الأوحد الخليل بن أحمد في كتاب «العين»
وهو أول كتاب ألف في اللغة، وسمي بذلك لابتدائه بحرف العين؛ فإنه رتب كتابه على الحروف، وهي مسوقة على هذا الترتيب:
ع
ح
ه
خ
غ
ق
Unknown page
ك
ج
ش
ض
ص
س
ز
ط
د
ت
Unknown page
ظ
ذ
ث
ر
ل
ن
ف
ب
م
و
Unknown page
أ
ي
ولا إشكال في كتابه من جهة هذا الترتيب وإن خالف ما ألفه الجمهور في ترتيب حروف المعجم، ألا ترى أن حروف المعجم قد اختلف في ترتيبها المشارقة والمغاربة، ولم يعق ذلك أحد الفريقين عن الانتفاع بكتب الفريق الآخر فيما رتب على حروف المعجم، كما لم يعقهما عن الانتفاع بالكتب التي رتبت على نسق أبي جاد؟
وإنما أتى الإشكال فيه من جهة أخرى وهي أنه يذكر الكلمة وما ينشأ عنها بالقلب في موضع واحد؛ فيذكر «الضرم» في حرف الضاد، ويتبعها بذكر «الضمر» ثم «الرضم»، ثم «المضر»، ثم «الرمض»، ثم «المرض»، فإن أهمل شيء من أنواع القلب أشار إلى إهماله، وزاد على ذلك أنه ذكر كل نوع من الصحيح والمضاعف والمهموز والمعتل على حدة؛ ليمتاز كل نوع عن غيره، وقد جرى طريقته بعض اللغويين ومنهم الأزهري وابن سيده، ولصعوبة هذه الطريقة على الجمهور الذين ليس لهم مأرب في غير معرفة أبنية الكلم ومعانيها قال صاحب «لسان العرب»: «ولم أجد في كتب اللغة أجل من تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، ولا أكمل من المحكم لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي رحمهما الله؛ فإنهما من أمهات كتب اللغة على التحقيق، وما عداهما بالنسبة إليهما بنيات الطريق، غير أن كلا منهما مطلب عسر المدرك ومنهل وعر المسلك، وكأن واضعه شرع للناس موردا عذبا وحلأهم عنه، وارتاد لهم مرتعا مربعا ومنعهم منه، قد أخر وقدم، وقصد أن يعرب فأعجم. فرق الذهن بين الثنائي المضاعف والمقلوب، وبدد الفكر باللفيف والمعتل والرباعي والخماسي فضاع المطلوب. فأهمل الناس أمرهما، وانصرفوا عنهما، وكادت البلاد لعدم الإقبال عليهما أن تخلو منهما، وليس لذلك سبب إلا سوء الترتيب وتخليط التفصيل والتبويب، ثم ذكر «صحاح الجوهري» ونوه بحسن ترتيبه وجرى عليه.»
واعلم أن طريقة الخليل لها موقع عند الذين يرون أن الكلمات التي تشترك في الحروف وإن اختلفت في الترتيب لا بد أن يكون لها معنى مشترك بينها هو جنس لأنواع موضوعاتها، وذلك مثل: «كلم» و«كمل» و«مكل» و«ملك» و«لكم» و«لمك»؛ فإن لها معنى يجمع بينها وهو القوة والشدة.
الطريقة الثانية: طريقة الجوهري صاحب «الصحاح»
فإنه رتب كتابه على حروف المعجم على النسق المعروف في المشرق، غير أنه جعل الآخر للباب والأول للفصل، فكل كلمة يكون آخرها ألف؛ مثل: «بدا» يذكرها في الباب الأول وهو باب الألف، ويسميها بالألف المهموزة احترازا عن الألف اللينة التي هي أحد حروف المد، وكل كلمة يكون آخرها باء مثل: «أب» يذكرها في الباب الثاني وهو باب الباء، ولم يزل يجري على هذا الترتيب حتى وصل إلى الحرف الأخير وهو حرف الياء، وقد جعل كل باب ثمانية وعشرين فصلا، جعل الفصل الأول منها لما يكون أوله همزة، والفصل الثاني لما يكون أوله باء إلى أن وصل إلى الآخر. غير أن بعض الأبواب قد تكون فصولها أقل من ثمانية وعشرين وهو الأكثر؛ كباب الراء، فإنه لا يوجد فيه فصل اللام لعدم وجود كلمة في العربية أولها لام وآخرها راء، وأقل الأبواب فصولا باب الظاء؛ فإن فصوله ستة عشر، إذا عرفت هذا تعرف أن مثل «بري» و«بغي» يذكر في فصل الباب من باب الياء، وذلك في آخر الكتاب، وإن مثل «برء» و«بطء» يذكر في فصل الباء من باب الألف، وذلك في أول الكتاب، وقد جرت عادته في الفصل أن يراعي ما بعد الأول في الترتيب فيقدم «سأر» على «سبر» وهي على «ستر»، ويقدم «خردل » على «خزعل»، و«عبقر» على «عبهر»، وقد أشار الجوهري إلى طريقته في خطبة الصحاح فقال: «الحمد لله شكرا على نواله، والصلاة على محمد وآله.
أما بعد: فإني قد أودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة التي شرف الله تعالى منزلتها، وجعل علم الدين والدنيا منوطا بمعرفتها، على ترتيب لم أسبق إليه، وتهذيب لم أغلب عليه، في ثمانية وعشرين بابا، وكل باب منها ثمانية وعشرون فصلا على عدد حروف المعجم وترتيبها، إلا أن يهمل من الأبواب جنس من الفصول، بعد تحصيلها بالعراق رواية، وإتقانها دراية، ومشافهتي بها العرب العاربة في ديارهم بالبادية، ولم آل في ذلك نصحا، ولا ادخرت وسعا، نفعنا الله وإياكم به.»
وعلى طريقته سلك الإمام رضي الدين الحسن الصغاني في «العباب» و«التكملة»، والإمام جمال الدين في «لسان العرب».
الطريقة الثالثة: طريقة الجمهور
Unknown page
وقد رتب السالكون عليها كتبهم على حروف المعجم معتبرين فيها أوائل الكلم؛ فيذكرون في الباب الأول وهو باب الألف - ويراد بها هنا الهمزة - كل كلمة في أولها ألف، مثل: «أب» و«ألو» و«أبي»، وفي الباب الثاني وهو باب الباء كل كلمة في أولها باء، مثل: «بر» و«بري»، ولا يزالون على هذا النهج إلى أن يصلوا إلى النهاية وهي باب الياء، وقد جعلوا كأصحاب الطريقة الجوهرية في كل باب فصولا ناظرين فيها إلى ثواني الكلم؛ فيذكرون الفصل الأول ما يكون ثانيه همزة، وفي الثاني ما يكون ثانيه باء، وفي الفصل الثالث ما يكون ثانيه تاء، ولا يزالون على ذلك إلى أن يصلوا إلى النهاية؛ فالحرف الأول عند هؤلاء كالحرف الأخير عند الجوهري، والحرف الثاني عندهم كالحرف الأول عنده؛ فمثل «أبي» تذكر عندهم في أول الكتاب في فصل الباء من كتاب الألف، وتذكر عند الجوهري في آخر الكتاب في فصل الألف من كتاب الياء، ويقدمون بعض كلمات الفصل على بعض بالنظر إلى ما بعد الحرف الثاني؛ فيذكرون «برج» مثلا قبل «برح»، و«برنج» قبل «برزخ»، و«عندل» قبل «عندم»، و«سنبك» قبل «سندس »، وعلى هذه الطريقة جرى ابن فارس في «المجمل»، والهروي في «الغريبين»، والراغب الأصفهاني في «المفردات»، والزمخشري في «أساس البلاغة»، وابن الأثير في «النهاية».
قال صاحب «المجمل» في أوله مبينا لسبب أمن قارئه المتدبر له من التصحيف: «وذلك أني خرجته على حروف المعجم، وجعلت كل كلمة أولها همزة في كتاب الهمز، وكل كلمة أولها باء في كتاب الباء، حتى أتيت على الحروف كلها، فإذا احتجت إلى كلمة نظرت إلى أول حروفها فالتمستها في الكتاب الموسوم بذلك الحرف؛ فإنك تجدها مصورة في الحاشية ومفسرة من بعد.» وقد تسمى الألف ههنا همزة.
وقال صاحب «الغريبين» في كتابه وهو موضوع على نسق الحروف المعجمة: «نبدأ بالهمزة فنفيض بها على سائر الحروف حرفا حرفا، ونعمل لكل حرف بابا، ونفتتح كل باب بالحرف الذي يكون أوله الهمزة ثم الباء ثم التاء إلى آخر الحروف، إلا أن لا نجده فنتعداه إلى ما نجده على الترتيب فيه، ثم نأخذ في كتاب الباء على هذا العمل إلى أن ننتهي بالحروف كلها إلى آخرها؛ ليصير المفتش عن الحرف إلى إصابته من الكتاب بأهون سعي وأخف طلب، وقد جعل بعض المؤلفين بدل قولهم: باب كذا، قوله: كتاب كذا، وبدل قولهم: فصل كذا، قوله: باب كذا، وربما ترك بعضهم ذكر لفظ الفصل في العنوان، واكتفى بقوله: الألف مع الباء مثلا، والخطب في ذلك سهل.»
هذا، ويجب على من أراد البحث عن كلمة في كتب اللغة أن يجردها أولا من الزوائد إن كان فيها زائد، ويعيدها إلى أصلها الأول إن عراها تغيير، ثم يبحث عن الموضع الذي هو مظنة أن توجد فيه؛ فيراجع: «أقبل» «تقبل» و«استقبل» في: «قبل»، و«إثمد» في: «ثمد»، و«منسأة» في: «نسأ»، و«مبراة» في: «بري»، و«وهبة» في: «وهب»، و«سعة» في: «وسع»، و«هدى» في: «هدى»، و«أب» في: «أبو»، و«ابن» في: «بنو»، و«يد» في: «يدي».
ومعرفة الحرف الزائد والأصل الأول وإن توقف على معرفة علم الصرف، إلا أن أناسا عرفوا ذلك بالممارسة، وقد مرن بعض المعلمين في مدارس المبتدئين تلاميذهم على ذلك فصاروا في أقل مدة يراجعون ما يورد عليهم من الكلمات في كتب اللغة بدون تلكؤ، وجرى لهم نحو ذلك في رسم الخط؛ فتراهم يرسمون مثلا: علا بالألف، وأعلى بالياء، ومن عرف سر التعليم لم يستبعد أعظم من ذلك أن هنا شيئا، وهو أن بعض الكلمات قد اختلف فيها رأي اللغويين، مثل: «هبلع» وهو الأكول؛ فإن بعضهم يحكم بأن الهاء زائدة فيذكر في مادة «بلع»، وبعضهم يحكم بأنها أصلية، ومثل: «إبان» فإن صاحب «الصحاح» ذكره في «أبن» بناء على أن النون فيه أصلية؛ فيكون وزنه فعالا، وصاحب «أساس البلاغة» ذكره في «أب» بناء على أن النون فيه زائدة، كنون وجدان ونحوها؛ فيكون وزنه فعلانا.
وقد جرت عادة اللغويين أن يذكروه في الموضع الذي يترجح عندهم أنه موضعه، وبعضهم يذكره في أحد الموضعين، ويذكر في الموضع الآخر أنه قد مضى ذكره في كذا أو سيأتي فيه، وقد جرت عادة كثير من اللغويين الذين يحبون التيسير على الناس أن يذكروه في الموضع الذي يظن في بادئ الرأي أنه يذكر فيه وإن كان ليس موضعه على مذهبه، وقد جرى على ذلك الزمخشري في «أساس البلاغة»؛ فإنه قال فيه:
وقد رتب هذا الكتاب على أشهر ترتيب متداولا، وأسهله متناولا، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع، وإلى النظر فيما لا يوصل إلا بإعمال الفكر إليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه.
وجرى على مثل ذلك المطرزي في «المغرب» فقال فيه: «وربما فسرت الشيء مع لفقه موضع ليس بوفقه؛ لئلا ينقطع الكلام، ويتضلع النظام. ثم إذا انتهيت إلى موضعه الذي يقتضيه، أثبته غير مفسر فيه؛ كل ذلك تقريبا للبعيد وتسهيلا على المستفيد.»
وممن جرى على ذلك مجد الدين المبارك ابن الأثير في «النهاية في غريب الحديث والأثر»؛ فإنه قال بعد أن ذكر كتاب «الغريبين» للهروي، وكتاب أبي موسى الأصفهاني في استدراك ما فات الهروي: «وسلكت طريق الكتابين في الترتيب الذي اشتملا عليه، والوضع الذي حوياه من التقفية على حروف المعجم بالتزام الحرف الأول والثاني من كل كلمة وإتباعهما بالحرف الثالث منها على سياق الحروف، إلا أني وجدت في الحديث كلمات كثيرة في أوائلها حروف زائدة قد بنيت الكلمة عليها حتى صارت كأنها من نفسها، وكان يلتبس موضعها الأصلي على طالبها، لا سيما وأكثر طلبة غريب الحديث لا يكادون يفرقون بين الأصلي والزائد؛ فرأيت أن أثبتها في باب الحرف الذي هو في أولها وإن لم يكن أصليا، ونبهت عند ذكره على زيادته؛ لئلا يراها أحد في غير بابها فيظن أني وضعتها فيه للجهل بها؛ فلا أنسب إلى ذلك ولا أكون قد عرضت الواقف عليها للغيبة وسوء الظن، ومع هذا فإن المصيب في القول والفعل قليل بل عديم، ومن الذي يأمن الغلط والسهو والزلل! نسأل الله العصمة والتوفيق.»
وقد أكثر صاحب «القاموس» من تعقب الجوهري في مواضع الكلم، وذلك كقوله: في «زرج»: «و«الزرجون»، كقربوس شجر العنب أو قضبانها والخمر وماء المطر الصافي المستنقع في الصخرة، وذكره الجوهري في النون ووهم.» وكقوله لدى لغة في «لدن» و«اللدة»، كعدة الترب جمع «لدات» ... هنا يذكر لا في «ولد»، وقد اشتد إنكار العلماء على صاحب «القاموس» في ذلك؛ لما عرفت أن عادة كثير من اللغويين أن يذكروا الكلمة في الموضع الذي يظن أن الطالب يطلبها فيه، وأنهم قد يذكرون الكلمة مع لفقها في موضع ليس بوفقها تسهيلا عليه؛ مع أن أكثر ما انتقده عليه هو مذكور في موضعه على أصول أئمة الصرف الذين كان الجوهري يعد منهم، غير أنهم أفرطوا في ذلك حتى كادوا أن لا يقيموا لاعتراض من اعتراضاته وزنا، مع أن من كثر خطؤه يمكن أن يخطئ الخطأ ولو مرة، ولم يفده كونه من الجماعة وكون الجوهري من أهل الاعتزال؛ لما أن أهل الأدب لا تؤثر فيهم غالبا هذه العصبية، وعلى كل فليس لنا إلا أن نشكر مسعى كل من خدم هذه اللغة على أي وجه كان، أجزل الله ثوابهم وجعل إلى دار السعادة مآبهم.
Unknown page
واعلم أن طريقة الجوهري يؤمن فيها التصحيف في الأول والأخير البتة؛ لدلالة الباب والفصل عليهما، وفيما عداهما في الغالب؛ لدلالة ما سبق أو ما يأتي على ذلك، وحيث لم يؤمن التصحيف صرحوا بما يرفع الإشكال، ولا يبقى مجالا للاحتمال كقول الجوهري: «الشبادع: العقارب، واحدتها: شبدعة بالكسر والدال غير معجمة.»
وطريقة الجمهور يؤمن فيها التصحيف في الأول والثاني البتة وفيما عداهما في الغالب، ويصرحون بما يرفع الإشكال في المواضع التي يكون له فيها مجال؛ فإن قلت: أي الطريقتين أرجح؟ قلت: لا فرق بينهما في بادئ الرأي؛ لأن الباحث يحتاج على كل حال إلى تجريد الكلمة من الزوائد وإرجاعها إلى أصلها، وإذا تيسر له ذلك سهل عليه معرفة موضعها من كتب الفريقين، وإذا دقق النظر وجد طريقة الجمهور أسهل مسلكا؛ وذلك لأن طريقة الجوهري تتوقف على معرفة الآخر فإذا لم يعرف لم يمكن أن يعرف باب الكلمة، ومعرفة الآخر أصعب من معرفة ما سواه غالبا. فإذا أراد المبتدئ أن يبحث عن مثل «إبان» و«برهان» و«عرجون» لم يدر هل النون فيها أصلية؟ فيراجعها في باب النون؟ أم زائدة فيراجعها في غيره؟ والحيرة في مثل هذا أقل من الحيرة في مثل «يد» و«دم» و«ابن» و«أب» و«أخ»، مما حذف آخره، وفي مثل «خبأ» و«ذرأ» و«برأ» مما يحتمل أن يكون مهموزا فيرجع فيه إلى باب الهمزة في أول الكتاب، أو ناقصا فيرجع فيه إلى باب الواو أو الياء في آخر الكتاب، ولنذكر لك أمثلة أخرى.
فمن ذلك: «الجفاء» بالضم، وهو ما نفاه السيل؛ فإنه من: جفأ الوادي إذا رمى بالقذى والزبد، فإنه يذكر في باب الهمز، وأما «الجفاء» بالفتح وهو خلاف الصلة، فإنه يذكر في باب الواو؛ لأنه مصدر جفوته إذا هجرته، ومن ذلك «الداء» و«الدواء»؛ فإن الداء يذكر في باب الهمز؛ لأنه من ذوات الهمزة، ويجمع على «أدواء»، و«الدواء» يذكر في باب الياء؛ لأنه من ذوات الياء، ويجمع على «أدوية»، وأما الكتب الموضوعة للجمهور فإن مثل «برا» و«برأ»، و«ذرا» و«ذرأ»، و«جفاء» و«جفاء»، يذكر في باب واحد في فصل واحد.
نعم، قد يقع الإشكال في الأول في مثل «ابن» و«إثمد» و«أصبع»؛ فإن الهمزة فيها زائدة غير أن الإشكال فيه أقل.
والظاهر أن الذي دعا الجوهري إلى المسلك الذي سلكه مع أنه أصعب من المسلك الآخر هو رعاية جانب أهل الأدب؛ فإنه إذا جمعت الكلمات المتحدة الأواخر في باب تيسر لهم أن يقصدوه لمعرفة الكلم التي على روي واحد من غير مشقة ونصب، وذلك من المهمات في النظم والنثر الذي ينحى به منحاه، وقد جرت عادة كثير من الشعراء أن يعدوا القوافي قبل النظم، وأكثر ما يشكل في الشعر من الكلم في الأكثر: الكلم التي ترد في القوافي، ولا يخفى أن للقوافي شأنا غير شأن غيرها؛ حتى تغاضوا فيها عن ورود الغريب الذي لم يتجاوز الحد في الغرابة لمكان الاضطرار إليها، ويكفيك ما شاع من قول الناس: «هذا مما جرته القافية.» ويذكر أن بعض أهل الأدب عمل أبياتا في وصف مدامة شربها وذكر فيها أنها جعلته في العي يحكي فلان بن فلان، فسمع بذلك المهجو فقال له: لم هجوتني وأنا من أصدقائك؟ فقال: لأنك قعدت على طريق القافية.
وقد رأيت كتابا كبيرا في اللغة العربية رتبه صاحبه على القوافي إلا أنه فسر الكلمات فيه بالفارسية لإفادة الفرس، وإذا عرفت ما اختصت به الطريقة الجوهرية فلنذكر لك ما اختصت به الطريقة الجمهورية: وهي جمع الكلمات المتقاربة في اللفظ والمعنى في فصل واحد، وذلك أنه قد ثبت عند علماء الاشتقاق أن التقارب بين اللفظين يدل على التقارب بين المعنيين نحو: «قسم» و«قصم» و«قدر» و«قتر»، مما اتفق فيه الأول والثالث، واختلف فيه الوسط، ونحو: «صعد» و«سعد» و«قضم» و«خضم» مما اتفق الثاني والثالث واختلف الأول، ونحو: «أبد» و«أبق» و«بتر» و«بتك»، مما اتفق فيه الأول والثاني واختلف فيه الثالث، قال بعضهم في هذا النوع: وهو الذي يجمع في طريقة الجمهور في فصل واحد إذا أمعنت نظرك في التراكيب اللغوية وجدت بين كل كلمتين اتفقتا في الفاء والعين اتصالا؛ فإن تقارب اللامان في المخرج كان التقارب بين المعنيين أشد، وإن تباعدا كان التباعد بين المعنيين بقدر ذلك.
وأما أصل الاتصال فلا بد منه يظهر ذلك عند إمعان النظر، وذلك المعنى هو الجهة الجامعة لهما وإن خفيت، وقد ظهر من البحث والنظر أن تركيب الهمزة مع الباء يدل على النفور والبعد والانفصال، ويظهر ذلك في: «أب» و«أبد» و«أبق» و«أبى» ونحوها؛ فإن كل واحد منها لا يفارقه ذلك المعنى، يقال أب إذا تهيأ للذهاب، وأبدت البهيمة إذا نفرت وتوحشت، وأبق العبد إذا هرب من سيده، وأبى الرجل إذا امتنع، وإن تركيب الهمزة مع الزاي يدل على الضيق والشدة؛ ويظهر ذلك في: «أز» و«أزق» و«أزل» و«أزم» ونحوها، وأمثلة ذلك كثيرة وقد أوردوا ما يكفي للتدريب، وباقيه يحتاج إلى من يثيره من مكامنه، وكأن القائلين بهذا القول يذهبون إلى أن الأصل في هذا الباب هو حرفان وضعا لمعنى، ثم زيد عليهما حرف آخر ليدل على معنى آخر يكون بمنزلة النوع للمعنى الأول الذي هو بمنزلة الجنس لأنواع معاني الألفاظ التي نشأت عنه بالزيادة، وهذا بحسب الظاهر يخالف ما قرروه؛ فإنهم ذكروا أن ما كان على ثلاثة أحرف لا يحكم على حرف منه بالزيادة، وهذا كالمتفق عليه، قال سيبويه في كتابه: «وأما ما جاء على ثلاثة أحرف: فهو أكثر الكلام في كل شيء من الأسماء والأفعال وغيرهما مزيدا فيه وغير مزيد فيه؛ وذلك لأنه كأنه هو الأول فمن ثم تمكن في الكلام، ثم ما كان على أربعة أحرف بعده، ثم بنات الخمسة وهي أقل، لا تكون في الفعل البتة، ولا يكسر بتمامه للجميع؛ لأنها الغاية في الكثرة فاستثقل ذلك فيها.»
فالكلام على ثلاثة أحرف وأربعة أحرف وخمسة لا زيادة فيها ولا نقصان، والخمسة أقل الثلاثة في الكلام؛ فالثلاثة أكثر ما تبلغ بالزيادة سبعة أحرف وهي أقصى الغاية والمجهود، وذلك نحو: «اشهيباب»، فهو يجري على ما بين الثلاثة والسبعة، والأربعة تبلغ هذا نحو: «احرنجام»، ولا تبلغ السبعة إلا في هذين المصدرين، وأما بنات الخمسة فتبلغ الزيادة ستة، نحو «عضرفوط»، ولا تبلغ سبعة كما بلغتها الثلاثة والأربعة؛ لأنها لا تكون في الفعل فيكون لها مصدر نحو هذا، فعلى هذا عدة حروف الكلم، فما قصر عن الثلاثة فمحذوف، وما جاوز الخمسة فمزيد فيه.
وكأن علماء الصرف أجمعوا على أن الاسم المتمكن والفعل لا يبنيان من أقل من ثلاثة أحرف، واحترزوا بالمتمكن عن غير المتمكن وهو المبني؛ فإنه لمشابهته للحرف قد يبنى من أقل من ثلاثة أحرف كالحرف، وذلك مثل «من» و«هي»، فإن وجد اسم متمكن على أقل من ثلاثة أحرف «كأب» و«أخ» حكموا بأنه قد حذف منه شيء، وأصلهما عندهم: «أبو» و«أخو»، ويدل على ذلك أنه يقال في تثنيتهما: «أبوان» و«أخوان»، وقد استقرءوا الكلم فوجدوا أن الأبنية الثلاثية أكثر مما سواها، وحكموا بأنه أعدل الأبنية، وأن الأصل في كل كلمة أن تكون على ثلاثة أحرف: حرف يبتدأ به، وحرف يوقف عليه، وحرف يكون واسطة بينهما.
إذا عرفت ما ذكرنا ربما عرض لك الإعراض عن القول السابق متعللا بأن إجماع علماء الصرف حجة فإنهم صرفوا أعمارهم في هذا الفن، ووجهوا أنظارهم إلى دقائقه، فإذا اتفقوا على شيء منه ولا داعي لهم على ذلك من رغبة أو رهبة لم يكن ذلك إلا لكونه صوابا؛ إذ يعسر الحكم بخطئهم أجمعين بعد إعطائهم النظر حقه، لكن إذا أمعنت النظر ربما ظهر لك ذلك القول ربما لم يكن مصادما للإجماع؛ لأن كثيرا من المسائل يختلف الحال فيها باختلاف الفن، ألا ترى أن النحوي المنطقي يجزم بأن عبد الله - إذا كان علما - مفرد؟ هذا إذا كان يبحث في المنطق؛ لأنه لا فرق بينه وبين زيد في كونه لا يدل جزء لفظه على جزء معناه، فإذا كان يبحث في النحو يرجح كونه مركبا رعاية لجانب اللفظ، فحكمه عنده حكم قولك: أنا عبد الله، إذا لم يكن ذلك اسمك لوجود جزأين فيه قد أعرب كل واحد منهما بإعراب، ولعلك تقول إن هذا ليس باستدلال بل هو من قبيل إيراد المثال، وهو لا يزيل ما حاك في صدري من الإشكال، فهل عندك أقرب من هذا إلى الفهم وأبعد منه عن الوهم؟!
Unknown page
فأقول: إن علماء الصرف إنما يبحثون عن الكلمات باعتبار الزمن الأخير الذي وصلت إليهم فيه، وحكمهم في ذلك صحيح لا مرية فيه، وعلماء سر اللغة إنما يبحثون عنها باعتبار الزمان الأول وهو زمن ظهورها شيئا فشيئا، وحكمهم في ذلك وإن كان في الغالب بطريق الظن إلا أنه لا يصادم حكم أولئك، فكم من زائد في أول الأمر حكم له من بعد بالأصالة! وكم من مركب في الابتداء صار مفردا في الانتهاء! وانظر إلى ميم «مكن»، فإنه لا يتوقف أحد من أهل الصرف عن الحكم بأنها أصلية، فإنها نظير ميم «مرن» و«مكث»، مع أن بعضهم قال: إنها مأخوذة من المكان وميمه زائدة، فهو مفعل من الكون، لكن لكثرته في الكلام توهموا أن ميمه أصلية؛ فأجروه مجرى فعال كزمان، وجمع على أمكنة، ثم أخذ منه «مكن» و«تمكن».
وانظر إلى همزة «إمعة»، وهو الذي يتابع كل أحد على رأيه ويقول له: «أنا معك.» ومنه قول ابن مسعود: «لا يكونن أحدكم إمعة.» وقد جاء في الأثر: «اغد عالما متعلما ولا تكن إمعة.» فإنهم حكموا بأنها أصلية فوزنه فعلة، مع أن الظاهر أنها زائدة دخلت على لفظ «مع»؛ فيكون وزنه أفعلة، قالوا: لأن أفعل وأفعلة لا يكونان وصفا.
ومثل ذلك تاء «تخذ»، فإنهم حكموا بأنها أصلية مع أنها كانت في الأصل زائدة، قال علماء اللغة: يقال اتخذوا في القتال بهمزتين؛ أي أخذ بعضهم بعضا، و«الاتخاذ» افتعال أيضا من الأخذ، إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدالها بالتاء، ثم لما كثر استعماله توهموا أن التاء فيه أصلية كتاء «اتبع»: فبنوا منه فعل بالكسر فقالوا: «تخذت زيدا صديقا.» إذا جعلته كذلك، ومصدره «تخذ» بفتح الخاء وسكونها، واستبعد بعضهم ذلك فجعل «تخذ» أصلا، وجعل «اتخذ» مأخوذا منه فهما بمنزلة «تبع» و«اتبع»، ومن دقق النظر تبين له أن البناء على التوهم لا يحصى في اللغة، وأن معظم اتساعها نشأ عن ذلك؛ ومغزى الكلام هنا أن الحكم على كلمة بكونها كانت مجردة ثم زيد فيها شيء لا ينافي الحكم عليها بأنها ليس فيها زائد؛ نظرا إلى الحال الحاضر.
ويظهر لك هذا الأمر ظهورا لا خفاء بعده بأمر النحت، وهو جعل الكلمتين كلمة واحدة بعد إزالة ما يمنع التئامهما، نحو: «حيعل المنادي» أي قال: حي على كذا، قال الشاعر:
أقول لها ودمع العين جار
ألم يحزنك حيعلة المنادي؟
وقد ذكروا أن أكثر الكلمات التي تجاوزت حروفها الثلاثة منحوت، ولا يخفى أن المنحوت مفرد مع أنه كان في الأصل مركبا؛ فليس يسوغ لمن لا يعرفه أو ينكره أن يعترض على القائل به بأن الألفاظ المدعى نحتها مفردة، مع أن قاعدة النحت تقتضي أنها مركبة؛ لأن المدعي للنحت لا يخالفه في كونها الآن مفردة وقد ذكرنا في كتاب «أصول اللغة» أنه قد يعرض في بعض المواضع أن تختلف أنظار كل من علماء الصرف وعلماء اللغة وعلماء الفقه فيها ويكون لكل وجهة. والواجب على كل فريق منهم أن يعطي فنه ما يستحقه من النظر والاعتبار غير متعرض لما لا يعنيه من الاعتراض على غير أهل مذهبه؛ فإن ذلك أقرب للسلامة من الخطأ والخطل، وإن كان مليا بها كلها كان أجدر أن يعطي كل فن ما يستحقه من النظر والاعتبار لإشرافه عليها من عل، إلا أن يبدو له شيء يضطره إليه البرهان فيقول به، فإن أصاب فله مع الأجر جميل الذكر، وإن أخطأ لم ينح عليه بالملام؛ لأنه تكلم فيما له به إلمام، وعلى كل حال فليكن متمثلا بقول من قال:
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن
وإن لقيت معديا فعدناني
هذا، والإمعة بكسر الهمزة وتشديد الميم المفتوحة، وقد تفتح الهمزة، والهاء فيه للمبالغة ، ولا أستبعد أن يكون الإمعة منحوتا مما يقوله لكل من يلقاه، وهو: إني معه، حذفت النون الثانية؛ ليتيسر المزج ثم قلبت النون ميما، ثم أدغمت في ميم «مع»، فصار «إمع»، ثم زيدت فيه الهاء للمبالغة فصار: «إمعة»، ويقال أيضا: «إمع» بدون هاء.
Unknown page
ولعل قائلا يقول: كيف يحكمون بأن الأصل في الكلم العربية أن تكون على ثلاثة أحرف فما زاد على ثلاثة يكون إما من المزيد فيه أو مما ركب من كلمتين صارتا بعد بطريق النحت كلمة واحدة، وما نقص عن ثلاثة أحرف يكون مما حذف منه شيء، إلا أن تكون الكلمة من قبيل الحرف ك «هل»، و«قد»، أو من قبيل الأسماء المشابهة للحرف ك «من» و«هو»، فإن هذا النوع يحكم فيه بأنه قد نشأ كذلك لعلة يذكرونها، والخليل بن أحمد يسمي مثل: «در» و«رد» ثنائيا، ويفتتح في العين كل حرف من الحروف به، وناهيك قول مثل صاحب «مفتاح العلوم» في مبحث النواصب وهو من العدلية المعروفين بالاعتزال، والخليل من الجماعة الموصوفين بالاعتدال: وأما الناصبة للأفعال فالأصل فيها أن عند الخليل - قدس الله روحه - وقول الخليل يغني عن الدليل:
إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام
على أن كثيرا من الباحثين عن أصول اللغات في هذا العصر قد أفضى بهم البحث إلى أن الكلم في اللغات السامية كانت ثنائية في أول الأمر.
فنقول: إن الخليل إنما سمى مثل «در» و«رد» بالثنائي المضاعف؛ وفي لفظ «المضاعف» ما يدل على أنه لم يرد بلفظ الثنائي المعنى الذي تشير إليه، ألا ترى أنه لما ذكر «در» في أول حرف الدال في نوع الثنائي المضاعف منه أتبعه بذكر «دردر» و«دردور»؟ ولا شك أن «دردر» ذو أربعة أحرف، ولكن سماه هو ثنائيا لعدم وجود غير الدال والراء فيه، وهما حرفان وإن كان منهما قد ضوعف، وذكر بعده «الدرد» وهو ذو ثلاثة أحرف، غير أن فاءه ولامه من جنس واحد، و«الددن» وهو ذو ثلاثة أحرف غير أن فاءه وعينه من جنس واحد، ثم لما انقضى الثنائي المضاعف انتقل إلى ذكر الثلاثي الصحيح فذكر فيه ما ذكر من نحو: «دثر» و«درن» و«دفر» وما قلب منها على عادته ... وعلى ذلك جرى في سائر الحروف.
وههنا أمر جدير بأن ينظر فيه، وهو أنهم قالوا إن الأصل في أواخر الكلم أن تكون ساكنة، قال في «المفتاح»: «إن اعتبار أواخر الكلم ساكنة ما لم يعرف عن السكون مانع أقرب لخفة السكون بشهادة الحس، وكون الخفة مطلوبة بشهادة العرف، ولكون السكون أيضا أقرب حصولا لتوقفه على اعتبار واحد، وهو جنسه دون الحركة لتوقفها على اعتبارين: جنسها، ونوعها. فتأمل!»
وعلى هذا يكون المضاعف على حرفين حين الوضع؛ وذلك لأن الكلمات قبل التركيب تبنى على الوقف، وإذا وقف عليه بقي على حرفين فتقول في «قد»: «قد» بسكون الدال، وفي «هل»: «هل» بسكون اللام؛ فتصير قد حين الوقف على صورة قد في قولك: «قد قام»، غير أن بينهما فرقا يشعر به السامع مثل ما يشعر به المتكلم؛ وذلك أن الحرف المشدد إذا وقف عليه يكون الاعتماد عليه أكثر، فيبقى فيه شيء من آثار التشديد، فيشعر السامع بأنه كان قبل الوقف مشددا.
ومن أراد أن يتجاوز هذا الحد عسر عليه ذلك، إلا أن يأخذ بالمذهب الذي تقبله ابن جني بقبول حسن، وهو ما ذكره في «الخصائص» بقوله: «ذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات؛ كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي ... ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد.» وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل.
فإن حكاية الأصوات تظهر في المضاعف أكثر مما تظهر في غيره، وإذا استقرأت المضاعف وجدت جله مما يشعر بحكاية صوت، وكثير من ذلك يظهر بأدنى التفات إليه، وكثير منه يحتاج إلى قوة حس وحدس فيبدو لأناس ويخفى على آخرين؛ حتى إن بعض المنكرين يتخيل أن هذا من تأثير التخيل، ويقول: إن هؤلاء لما اعتقدوا أن المضاعف نشأ عن حكاية الأصوات صاروا يتخيلون في المضاعف صوتا يشاكل ما أخذ عنه وإن لم يكن ثم مشاكلة.
قال ابن جني بعد أن أفاض في بيان مناسبة اللفظ للمعنى: «ووراء هذا ما اللطف فيه أظهر والحكمة أعلى وأصنع، وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف تشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها بها ترتيبها وتقديم ما يضاهي أول الحدث وتأخير ما يضاهي آخره وتوسيط ما يضاهي أوسطه؛ سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب.
Unknown page
ومن ذلك قولهم: «شد الحبل»، فالشين لما فيها من التفشي تشبه صوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليها إحكام الشد والجذب وتأريب العقد فيعبر بالدال التي هي أقوى من الشين، لا سيما وهي مدغمة فهي أقوى لصيغتها، وأدل على المعنى الذي أريدها بها ويقال: شد وهو يشد، فأما الشدة في الأمر فإنها مستعارة من شد الحبل.، ومن ذلك قولهم: «جر الشيء يجره.» قدم الجيم؛ لأنه حرف شديد، وأول الجر مشقة على الجار والمجرور جميعا، ثم عقبوا ذلك بالراء وهي حرف تكرير، وكرروها مع ذلك في نفسها؛ وذلك لأن الشيء إذا جر على الأرض في غالب الأمر اهتز عليها واضطرب صاعدا عنها ونازلا إليها، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق؛ فكانت الراء لما فيها من التكرير، ولأنها أيضا قد كررت في نفسها أوفق بهذا المعنى من جميع الحروف، فإن رأيت شيئا من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه، ولا يتابعك على ما أوردناه؛ فذلك لأحد أمرين: إما أن يكون لم تنعم النظر فيه فيقعدك فكرك عنه، أو لأن لهذه اللغة أصولا وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا.»
وعلى ما ذكر من أن اللغات إنما نشأت عن الأصوات، وأن حكاية الأصوات تظهر في المضاعف أكثر مما تظهر في غيره، وأن الأصل في أواخر الكلم السكون يقوي القول بأن الكلمات كانت في أول الأمر ثنائية، وأن أول ما وضع من الكلم هو المضاعف ثم تلاه غيره، قال ابن جني: «الصواب: رأي أبي الحسن الأخفش، سواء قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم توضع كلها في وقت واحد؛ بل وقعت متلاحقة متتابعة.»
في أن ذلك لا ينافي قوله تعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها
واعلم أن الذين قالوا بحدوث اللغات عن الأصوات، وبكونها لم توضع كلها في وقت واحد، يقولون إن هذا لا ينافي قوله سبحانه:
وعلم آدم الأسماء كلها ؛ لأن غاية ما في القول الأول ثبوت المناسبة بين اللفظ والمعنى، وفي ذلك دلالة على حكمة الواضع، وغاية ما في القول الثاني أن بعض الأشياء لم يوضع لها اسم إذ ذاك لعدم الاحتياج إليها حينئذ. إما لأنها لم توجد بعد أو لأنها وإن وجدت فإن الحاجة لم تدع إليها؛ فإن وضع الاسم للشيء إنما تكون له فائدة إذا كان مما يحتاج إليه ليدل به حين الحاجة عليه.
ويدل على أن ما لم يوجد حينئذ لم يوضع له اسم تتمة الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، قال المفسرون: الضمير في عرضهم عائد إلى المسميات المدلول عليها ضمنا؛ إذ التقرير
وعلم آدم
أسماء المسميات كلها، ثم عرض المسميات على الملائكة، وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء، وأما التأكيد ب «كل» هنا فأجابوا عنه بأن كل قد يأتي للتكثير دون الإحاطة، كقوله تعالى:
Unknown page
ولقد أريناه آياتنا كلها ، والتزم بعضهم التخصيص في الأسماء فقال التقدير:
وعلم آدم الأسماء
المسميات التي احتاج إليها كلها، وعليه فتكون «كل» هنا على ظاهرها من الدلالة على الإحاطة، وعلى كل حال فإيراد الأسماء وهو جمع محلى بالألف واللام، وهو مما يدل ظاهره على العموم، وتأكيد ذلك ب «كل» يدل على أن ما علمه آدم - عليه السلام - من ذلك أمر عظيم لا يحاط بكنهه، ولا يخفى أن معرفة الأسماء على الحقيقة لا تكون إلا مع معرفة المسمى وحصول صورته في النفس؛ ولذلك كان القصور في اللغة أو التقصير فيها موجبا في الأكثر للتقصير في كثير من العلوم، وكفى بهذه الآية دليلا على شرف علم اللغة.
في سر تقديم بعضهم المضاعف على غيره
ولنرجع إلى أول الكلام، فنقول: قد عرفت أن طريقة الجمهور يتحد فيها الأول والثاني في كل فصل من فصول الأبواب، إلا أن ترتيب الكلمات في الفصل الواحد يكون بالنظر إلى ما بعد الثاني؛ فما كان فيه مقدما قدم لا فرق بين المضاعف وغيره، وقد التزم الراغب الأصفهاني أن يبدأ بالمضاعف إن كان ثم بمضاعفه، ثم يعود إلى الترتيب المشهور فيذكر في فصل الراء من باب الباء: «بر» و«بربر»، ثم يأخذ في ذكر «برأ» فما بعده.
وكأن لذلك سببين:
أحدهما:
أن عنوان الفصل ينطبق على المضاعف أكثر من انطباقه على غيره؛ فإن دخول «بر» في فصل الباء مع الراء أظهر من دخول «برأ» ونحوه فيه؛ لوجود زيادة فيه على عنوان الفصل، ولأنه ثنائي في بادئ الرأي، والثنائي مقدم على ما فوقه، وهذا سبب لفظي لا مانع من مراعاته.
والثاني:
ما أشير إليه سابقا وهو أن المضاعف هو الأصل في كل فصل، وهذا سبب معنوي جدير بالمراعاة.
Unknown page
وقد ذكر بعضهم مثل: «رأب» في «راب، ومثل: «صبأ» في «صبا» لانقلاب الهمزة في كثير من المواضع إلى حرف العلة.
وقد قدم بعضهم الهاء على الواو موافقة للمغاربة في هذا الموضع، وهذا موافق للحكمة؛ لأن الواو والياء أختان لا ينبغي أن يفصل بينهما بفاصل لا سيما وكثير من ذوات الواو قد وردت في بعض اللغات بالياء نحو «محوته» فقد ورد «محيته» من باب نفع في لغة، ونحو «فاح» «يفوح» «فوحا»، فقد جاء فيه «فاح» «يفيح» «فيحا» في لغة، وكثير من ذوات الياء قد وردت في بعض اللغات بالواو نحو: «كنيت» عنه، فقد ورد «كنوت» عنه في لغة، ونحو «تاه» «يتيه» فقد جاء «تاه» «يتوه» في لغة.
طريقة كل من المشارقة والمغاربة في ترتيب حروف الهجاء
هذا، وقد أحببنا أن نذكر لك طريقة المغاربة في ترتيب حروف الهجاء؛ فإن ذلك ينفعك حين مطالعة كتبهم المرتبة على حروف المعجم ككتب اللغة والتاريخ، وقد وافقوا المشارقة في الألف فما بعدها إلى حرف الزاي، وخالفوهم فيما فوق ذلك، وها هي مسوقة على ترتيبهم، وتحتها حروف المعجم مسوقة على ترتيب المشارقة، وهي بخط دقيق:
ب
ت
ث
ج
ح
خ
Unknown page
د
ذ
ر
ز
ط
ظ
ك
ب
ت
ث
Unknown page