يرى البشراويون جبران غير ما نراه نحن الأدباء، يرون فيه مسيحيا مخلصا حتى للطقسيات؛ ولذلك يقدسون لراحة نفسه كل أحد على مذبح مار سركيس، أما الترحم عليه فلا ينقطع.
وانتقلنا من بيت جبران إلى متحفه فمررنا على ساحة جديدة في وسطها ينبوع يتدفق من أشداق الأسود، ولا عجب أن أوحى إليهم هذا المشهد فهم أسود تلك الغابة.
استقبلنا محافظ المتحف الشجاع وعرفنا فرحب بنا ترحيبا «شوقيا» ينم عن وفاء ورحابة صدر ينسيان الضيف وحشته، وما اكتفى الرجل بالترحيب بنا حتى رحب أكثر من مرة بالسيارة التي حملتنا إلى بشري، وأخذنا توا إلى غرفة جبران فرأينا تخته البسيط وعليه فراش ذكرني بالفراش الذي للأب أغناطيوس التنوري، منتثرة فوقه وسائد ومخدات، والصليب معلق فوق رأسه، وفي الناحية الأخرى شماعدين دهرية أظنها عمل بيت شباب، فخلت أنني في مار روحانا عين كفاع، وهناك أيضا شماعدين ذات سبعة أنوار وجبران مولع بهذا العدد، وتحت الرف القائمة عليه الشماعدين مطبخ جبران الزاهد، من المقلي إلى القصعة والملعقة الخشبية، وقد مدت في أرض الغرفة صورة جبران التي أهداها ميشال العبد إلى بشري، وهي من بلاط صيني كالتي في بكركي تمثل البطريرك عريضة بتاجه وصولجانه وبرفيره، وضعت هذه الصور هناك مؤقتا وستنقل إلى بيت جبران مع متحفه.
ومضينا إلى قاعة ثانية فإذا هناك أيضا أشياء جبران الكثيرة، منها عصاه التي رفعها مرة كما أخبرنا الأستاذ نعيمة في رده على الريحاني، وفيها ساعات جبران وكلها عادية، وأقلام وتحف وطرف، وتماثيل صغيرة بينها صورة ماري هسكل وكل عدة مصنع جبران التصويري، وخرجنا إلى الدار نطوف على الصور المعلقة على جدرانه، وأكثرها رمزية توحي حيرة وخشوعا وعجبا، ذكرني متحف جبران بقول نشيد الإنشاد: «هو ذا سرير سليمان حوله ستون جبارا ... كبرج داود المبني للسلاح علق فيه ألف مجن.» وفي الدار مكتبة جبران أكثرها إنكليزية، أما كتبها العربية فالأغاني وبعض كتب نحو وبيان، وكتب عديدة مهداة إليه.
فتشتها فلفت نظري رواية ميخائيل نعيمة «الآباء والبنون»، التي يقول في إهدائها إلى جبران إنها أول آثاره يهديها إلى عزيزه جبران وهو ذاهب إلى الحرب، وقد تكون الأخيرة، الحمد لله أنها لم تكن الأخيرة، ولو كانت لخسر الأدب العربي كثيرا.
واستوقفني أكثر كتاب للآنسة مي، قدمته لجبران بهذه العبارة: إلى «النبي» مع الرعب، وهناك كتاب آخر منها نسيت عبارة إهدائه.
وأخذت أتأمل الصور المجموعة في جلود من الكرتون وكلها بالقلم الرصاصي، فعثرت بينها على واحدة مقدمة لميشلين سنة 1908 وهي صورة جبران الشاب بقلمه، وفي المتحف صورتان كبيرة وصغيرة عليهما مخايل القدم لم أفهم سرهما، ولكني متكل على الصديق الفنان الشيخ قيصر الجميل الذي سيدرس متحف جبران بدعوة من اللجنة.
وخرجنا من المتحف مشيعين بنظرات محافظه الباسل السيد حنا مارون، الذي ينام على مسدس كاد يذهب ضحيته ليلة لولا لطف الله به وبعائلته.
وعدت إلى الفندق أتمتع بلطف صاحبه بربر بك الضاهر وإيناسه، وقبل الغروب جاءني السيد لدوس لنذهب إلى اجتماع لجنة جبران في هذه السنة الضيقة، وفي النادي تعرفنا بوجوه بشري أعضاء اللجنة، وبحثنا شئونا تتعلق بجبران الخالد لو كانت وافقت اللجنة لانتعش الأدب العربي كما أراد جبران وفعل، وسرنا خطوة ثابتة إلى الأمام، والكحل خير من العمى.
لا تتعجب إن قلت لك كنا نخال جبران معنا، فصورته بريشه الجميل في صدر القاعة التي اجتمعنا بها، إن جبران أول أديب عربي له متحف آثار وبيت يزار ومدفن فخم ، وسيكون له أشياء غير هذه وهو يستحق، وعلى ذكر يستحق أخبرك أنه استحق شكر لبنان، بعد الموت - من الدرجة الثانية - والبراءة معلقة على جدار متحفه.
Unknown page