وصى جبران بهذه الثروة الطائلة لمدينة بشري، وحرم منها أخته وأهله جميعا حتى صديقه ميخائيل نعيمة، الذي لم يصح حلمه كما قال في كتابه جبران خليل جبران.
أما القائمون بهذا العمل فلجنة جبران الوطنية، يرأسها شاب ناهض وفي هو السيد سليم رحمة، ومن أعضائها الذين اجتمعت بهم - وكلهم ذو همة كرئيسها - الشيخ القاضي طنوس جعجع، والخوري طانيوس جعجع، والشيخ مجيد حنا ضاهر رئيس البلدية، وشابان ناهضان من أسرتي الفخري وسكر، وأمين صندوق اللجنة السيد منصور حبيب لدوس.
أما أمين الصندوق فشيخ يطل على السبعين ولكنه نشيط حريص على المال، ككل خازن وقيم يؤلمه إنفاق فرنك على رخصه، إذا لم يكن طبقا لنية جبران، هذا الشيخ لم يعقب وقد جمع مالا كثيرا أنفقه على البر والإحسان، وهما في عرفه محصوران ببشري كما حصر جبران ثروته بها.
بشري نائمة في حضن الجبل تغني لها الجداول ويهدهدها الهواء، ويمر نهر قاديشا تحت أقدامها فهي أبدا في حمام بارد، ينتصب فيها الحور كالعمالقة بين أقزام الأشجار المثمرة، فلولا البيوت لخلتها غوطة، ولولا الأجراس التي تقرع دائما للصلاة، وخصوصا جرس الآباء الكرمليين لحسبت أنك في خلوة، لا صراخ ولا عياط في بشري، تمر بقهواتها كأنك مار بغرفة قراءة، وإن لم تر كتبا أو جرائد.
تحيط بها الجبال من الجهات الأربع، وكيف التفت ترى شماريخ منتصبة كأنها التماثيل والقباب، ومن الشرق يتدلى الشلال فتخاله سلسلة فضية في عنق «الجبة» الحسناء، وترى أنابيب كهرباء قاديشا كأنها الحية التي خدعت أمنا حواء، هذا إذا كانت سوداء، فكل لاهوتي يكسوها لونا من مخيلته، أما الماء فمثلوج أبدا، وهو مريء هدام لما تبنيه المطابخ.
وصلت بشري عصر الاثنين 12 آب، وقرب الغروب زرت جبران في بيته الموحش، في دير مار سركيس المخبأ في عب غابة تجري من تحتها الأنهار كأنها الفردوس المحكي عنه، يذكرنا هذا الدير بالآية القائلة:
ينحتون من الجبال بيوتا ، وهذا شأن سكان لبنان القدماء وخصوصا النساك والحبساء، الدير رهيب لا جميل، كان ملعبا لجبران في صباه فأخذ عنه أشباح الليل ومواكب النهار، تحيد من السكة وتمشي في لحف الجبل قليلا فتبلغ الكنيسة، وهي خارج سور الدير كعادة رهبان لبنان في ديورتهم، فالنساء لا يدخلنها أبدا، تلج الكنيسة - وهي كهف غائر في صدر الجبل - فيواجهك تابوت جبران المسطح في مغارة، كأنها حنية كنيسة مارونية، شرقية لا غربية، مزينة برفرف من متحجرات مغارة قديشا التي اكتشفها الخوري الناهض طانيوس جعجع، ومرتبة التابوت مفروشة بخشب زيتون عتيق كأنه مأخوذ من البستان الذي صلى فيه يسوع، حبيب جبران.
كتب بول بورجه يوم زار بيت غوته شاعر الألمان مقالا جاء فيه: إن صورة الأشياء التي يعيش بينها كاتب عظيم تتحد بآثاره لتكملها وتوضحها، إن هذا ما شعرت به ثلاث مرات: الأولى في أورشليم والجليل، والثانية في المعرة، والثالثة في بشري.
نمت الليلة متأثرا وأصبحت ناسيا، فزرت صديقي الأستاذ خليل صادق ثم اجتمعنا برئيس لجنة جبران المنصرف إلى تكميل فندق جميل أحدثه في قلب بشري، وطوفت في بشري يرافقني أمين صندوق اللجنة السيد لدوس، فأراني أعمال لجنة جبران التي أنفقت في هذا العام على ترميم بشري نحو عشرة آلاف ليرة فحمدت المسعى.
وبلغنا بيت جبران حيث تمت رواية وع وع وع، التي أتحفنا بها ميخائيل نعيمة، فأجفلت كمن رأى أفعى، إنه أشبه بمزرب حمير، لا سقف له ولا جدران، وأدرك ذلك مرافقي الأمين فأنبأني بالمشروع الخطير الذي سيتم في العام القادم، وقد وافق عليها غبطة البطريرك أنطون، وهو هدم كنيسة مار سابا التي يعاد بنيانها على حافة الجبل.
Unknown page