الأدب الساخر
أدب الظل
فرح أنطون
حول جبران ومي
الشدياق والجاحظ والمتنبي
قادة ذهبوا
في المضمار
يقظة ونهضة
الأدب الساخر
أدب الظل
فرح أنطون
حول جبران ومي
الشدياق والجاحظ والمتنبي
قادة ذهبوا
في المضمار
يقظة ونهضة
جدد وقدماء
جدد وقدماء
دراسات ونقد ومناقشات
تأليف
مارون عبود
لم نكن في أيامنا ننتقد بنزاهة كما يجب، كانت تأخذنا في بعضهم هوادة أحيانا، فكم غضضنا النظر، وكم غمرنا العالم والمتعالم بفيض من التقريظ والثناء.
إن واجب الناقد هو أن يعرف كيف يجد الخطأ، وأن ينتقد حيث يجب الانتقاد.
أناتول فرانس
الأدب الساخر
كما تقتضينا بعض الحفلات والسهرات طرازا معلوما من الثياب كالسموكن وغيره، أو لونا خاصا على الأقل كالأسود أو الكحلي، هكذا قضى نقادنا على أحفاد امرئ القيس، فأمسى الشاعر كالقطار الحديدي، إن تنكب عن سكته وخطوطه بضع سنتمترات، تدهور وتحطم.
وكما أن في أوروبا ثيابا معدة تستأجر لتلبس في الحفلات، هكذا استعار شعراؤنا بزاتهم من عند امرئ القيس ليمثلوا بها في ديوان العرب.
بقي مخزن الملك الضليل مشرع الأبواب مئات السنين، ينتقي منه الغادي والرائح ثوبا على قده، فتنفتح له أبواب القصور، ويهتك دونه الحجاب الصعب، وظلت صفة الطلول قيد التجويد والتنقيح أدهارا، كأنها أحد اكتشافات باستور التي نجت البشر من أعدائهم غير المنظورين.
وكان عنترة - ذلك الغراب الغريد - أول من شك في هذا المذهب الشعري، وما علينا لو سميناه: الطقس الأدبي، فللشعراء طقوس يمارسونها بورع وخشوع، شك عنترة وآمن في مطلع مطولته المشهور:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
وكأنه لم يطمئن، ففتش عن مرعى لقريحته، فرآه في جلده فاستغله، والأرض السوداء مغلال.
واستيقظ العصر العباسي الأول، وهو عصر الثورة في الأدب العربي، فتفتحت عيون شعرائه الخلعاء على حضارة مجنونة بالترف والجمال، ففطموا أنفسهم عن الحليب واللبن، وعبدوا الأحمرين: الخمر واللحم، وكان شك وكان مجون، وكانت حرية بعيدة المدى، ولكن إلى أجل مسمى، فتقديس القديم من سجايا الناس الرئيسية، وهو منبع العبودية.
ثم همدت تلك الثورة بانطواء سجل هذه العصابة، وعاد الشعر بعدها إلى تزمته، فخلع ثياب المرافع ليلبس البجاد المفروض، فعاد الشعر إلى سمته، لا يتعداه إلا بمقدار محدود، فدار شعراؤنا على أنفسهم في حلقة ضيقة اختطها لهم القدماء، كأنهم أجرام النظام الشمسي، كل في فلك يسبحون.
وإذا كان النثر كالمشي، والشعر كالرقص، فجل شعرنا رقص الدراويش؛ أغراض موجزة كحياة البدوي، في ناقته تتجمع كل مرافق حياته، من وبرها يكتسي، ومن درها يغتذي، وبفحمها يصطلي، وهي مركبه إذا أسرى، وخيمته إذا لذعه الهجير، فمن يلومه إن وصفها جملة وتفصيلا، ومن ذا يعنفه إن استبدت صورتها بخياله، فتجلت لنا في تعابيره؟ فلو لم تخصه الطبيعة بذوق سليم لأضاف: لله وبرها وبعرها، إلى الله درها، وأورثناها.
ليس هذا عجيبا، ولكن العجيب الغريب هو أن يفرض أناس أوليون أساليبهم على من سكنوا الدور والقصور من ذريتهم، فانحلت الشخصية العربية، وذابت في خطة امرئ القيس، فلم يخرج عليه غير نفر قليل.
وقف هذا النفر في باب الصيرة وتنشقوا الهواء النقي قليلا، فلا يستسلمون إلى سجيتهم حتى يتذكروا الوقار والترصن المفروضين، فيخلعوا مباذلهم ليندسوا في بزة الشعر الرسمية، وهذا «مالوش» الأدب العربي و«فيلوكسيرا» الشعر.
تتراءى الشخصية في خلفاء امرئ القيس كوميض الحباحب في عتمة الغسق، فيسخر طرفة طرفة عين، ويتهكم زهير بآل حصن عابرا، ويهزأ ابن حلزة بإخوانه الأراقم مقتصدا، ويرشد الحطيئة إيثاره العافية إلى ذاته، من حيث لا يدري، فيقول لمهجوه التاريخي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وانتشر نهار الإسلام، فاضمحلت ظلمات الجاهلية، وتراجعت لتقعد القرفصاء في دياميس الشعراء، لم ينسخ الدين الجديد روح الشعر الجاهلي، فظل الأخطل وجرير والفرزدق جاهليين قلبا وقالبا، أكبر همهم من الفن مضارعة الأقدمين، فعبروا عن الحياة الجديدة بالقوالب المعهودة، اللهم إلا ومضات تقل عند الأخطل، وتكثر عند جرير، أما الفرزدق فما انفك يقرع مروة الجاهلية وصفاتها.
أرسل الأخطل نفسه على سجيتها في هذه الأبيات:
ونجى ابن بدر ركضه من رماحنا
ونضاحة الأعطاف ملهبة الخصر
كأنهما والآل ينجاب عنهما
إذا انغمسا فيه يجوبان في غمر
يسر إليها والرماح تنوشه
فدى لك أمي إن دأبت إلى العصر
عقاب يفديها وظلت كأنها
عقاب دعاها جنح ليل إلى وكر
تنق بلا شيء شيوخ محارب
وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت
فدل عليها صوتها حية البحر
وهو لو نحا في شعره هذا النحو لترك في صحراء الشعر الجاهلي قطعا من الرياض. أما جرير صاحب الهجاء الحلو المر، كما نعته القدماء، فكان أوقح من الأخطل وأفتح عينا، فلم يحفل بجبروت السلطان وأبهة سريره، فضحك في حضرته مادحا فقال:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها
فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وهزئ متغزلا:
وتقول «بوزع» قد دببت على العصا
هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
وامتاح البحور مازحا:
ماذا ترى في عيال قد برمت بهم
لم تحص عدتهم إلا بعداد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية
لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
وهجا ساخرا:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع
وقال في خصمه الآخر:
قال الأخيطل إذ رأى راياتهم
يا مار سرجس لا أريد قتالا
وما زال ينحو هذا النحو، كلما انفتح له مجال، حتى نام عن السخر وتولى رعيه الأسد الأعمى، فأطلق لذاته العنان واستولى على الأمد.
سخر بشار من كل شيء، وفي كل شيء، سخر في المدح، وسخر في الرثاء، وسخر في الهجو، وسخر في الحديث وفي ... وفي ... فلم ينج من وخزاته المؤلمة وجراحاته الدامية إلا من لا يعرفه.
تهكم مر، وسخر مؤلم، لا الصداقة تقي، ولا الإحسان يعصم. غريب أمر هذا الضرير؛ فقد بذ البصراء في كل ميدان، اتخذ مما حوله مادة لصوره، ولم تتوار شخصيته في مجالات القريض جميعها، فهو في جده شخصي، وفي هزله شخصي، وفي مدحه ووقوفه على الأطلال شخصي، نفس عاتية متمردة، نفضت عنها رماد الماضي، وأضرمت نارا جديدة في هيكل الأدب.
ثم نام الجبار على أشواك تمرده نومة الأبد، راسما صورته للذرية في ثلاثة خطوط خالدة:
عميت جنينا والذكاء من العمى
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للعلم رافدا
لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الروض لاءمت بينه
بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا
وآلت زعامة السخر بعده إلى المستهتر أبي نواس، فضحك الأدب العربي حتى بدت نواجذه. وكانت ثورة أدبية قوضت الخيام، وكبت اللبن، وأحلت الخوابي والدوارق على دست الحكم. وما أغنانا عن سرد شيء من شعر أبي نواس، فكل عربي يلم بطرف منه.
ويطوي الدهر مدرسة الخلعاء فيخلع الشعر طيلسانه، ويستعيد عباءته، فتتجهم الوجوه حتى يطلع ابن الرومي بسخره الذي يكشر له القارئ ولا يبتسم، ثم ينطوي العلم مع المتنبي، ولو أسرف أبو الطيب في سخره لفاز بسهمي فاطمة امرئ القيس، ولكن كبرياءه أبت عليه إلا التزمت والتوقر، وقديما جنت الكبرياء على الملائكة فبدلت الأجنحة الخضراء بأذناب سوداء وآذان وطواطية.
ولزم الشعر وقاره، حتى الساعة، فما بانت له سن، وانتهت به هذه العبوسة إلى الجفاف فاليبوسة.
أما النثر فما نبه له شأن قبل الجاحظ، أنزله هذا الزعيم العبقري منزلة الشعر، فانفتحت بوجهه القصور. كانت عناكب الأقلام لا تنسج خيوطها إلا حول رجال الحول والطول والأبهة والوقار، فإذا بها في يد الجاحظ تدور حول عبد الرحمن وأضرابه، فخلق الأدب الشعبي. جد الجاحظ ضاحكا، وتفلسف ساخرا، وحل أخطر المعضلات وأدقها هازئا، فكان كل من جاء بعده عيالا عليه حقا، فهو أستاذ الأصبهاني في أغانيه، وهادي أبي العلاء إلى سلاح العميان وعتادهم.
قرأت في ملحق لكتاب اليتيمة قال فيه مؤلفه إنه عرف في المعرة شاعرا ظريفا، يعني أبا العلاء. لم أستغرب نعت أبي العلاء بالظرف، فالرجل ظريف أي ظريف، ولئن لبس الثوب المفروض ليدخل ديوان العرب، فقد خلعه في رسالة الغفران ووقف بين الخالدين.
ونام السخر نومة آل الكهف حتى أيقظه الشدياق في منتصف القرن التاسع عشر، فكتب «الفارياق» و«الواسطة» و«كشف المخبأ»، فأخرج العقل العربي من دياميس الحريري وكهوف القاضي الفاضل، فابتسم الأدب حينا، ثم عاد إلى تجهمه، لا يتجه زعماؤه إلى هذا الصواب كأنهم مسمرون على صلبانهم، ما خلا كاتبا واحدا طواه الموت منذ أعوام هو فيلسوف الفريكة، فدبت روح المرح، وفاضت الابتسامة على حفافي كتب رحلاته، من «ملوك العرب» إلى «قلب لبنان».
ثم كانت الضحكات الغامضة النادرة في كلام الكاتب العبقري عمر فاخوري، رحمهما الله وخلف علينا.
أدب الظل
كان أقصى أماني الأديب أن يشارف قصر ملك أو أمير، والسعيد من ينفتح له الباب ويدنو من السدة والسرير؛ حيث ينعم بعيش أخضر فيوهب ويهب حتى الغلمان والجواري والضياع إن صار وزيرا؛ فحسن التحرير والتحبير كان سلما للوزارة، كما قال المأمون لأحدهم حين جود كتابا عرضه عليه.
وكذلك قل في الشعراء من أبي سلمى حتى شوقي؛ فالأدب، وخصوصا الشعر منه، ما نبت وجن إلا في ظلال القصور، وعنه نشأ هذا الأدب الذي نقرأ - أدب الظل - فما أشبهه إلا بتلك النباتات التي تغرس في الأصص زينة للدار، تصعر خدها إذا هش لها نور النافذة الحليم، وتستقيم أخادعها إذا ضربتها الشمس ضربة فرزدقية، فتعود إلى البوق كالحلزون.
فلا يلومن أدباء اليوم زملاءهم أدباء الأمس، فلا يكون القماش إلا على هوى العصر. فصل أسلافنا نسيج الكلام وفقا للطراز المرغوب فيه، فكان منهم الخياط الماهر، وكان منهم كالذي خاط قباء لبشار فوقع في لسانه، فلا تظنن أنهم كانوا أقل عقلا منا، يقلدون ولا يطمحون إلى التجديد، فكم تبرم زعماؤهم بشهوة أمرائهم للمدح، فغرفوا لهم الثناء من بحور الشعر حتى صار المديح كالعبث والسخرية.
إنك تلمح الجديد في آثار هؤلاء الأدباء بين العتيق المعفن، فكأنك في دكان «سمانة» فيه كل ما يحتاج إليه البيت. ولا غرابة فيما أقول، فالشاعر أيضا كان من حوائج القصر، كالهراج والنديم والسمير، فالناس ألهية الناس.
فلو قرأت عمر بن أبي ربيعة، وبشارا، وأبا نواس، وابن الرومي، والبحتري، لرأيت أن كلا منهم قال شعرين: شعرا أرضى به نفسه، وشعرا رضي عنه كيسه، أنفق ما أجداه شعر الكيس على إنماء شعر النفس، والمضي في الطريق الحديث الذي هداه إليه وجدانه الحكيم.
مساكين الشعراء، فلا يغرك ما تقرأ في كتب الأدب عن الحفاوة بهم وإعظامهم، فقد كان يقف الشاعر بباب الأمير الشهر والشهرين، والعام والعامين، ولا تطأ رجله البساط ليقبل بين يدي سيد السرير، وينشده قصيدة سداها الكذب ولحمتها التمليق، وكم كان هؤلاء الأسياد يعبثون بالشعراء، بل كم كانوا يئدون بناتهم، فهذا صراخ ابن الرومي يجرح القلب على بعد العهد به، فيقول:
رددت إلي مدحي بعد مطل
وقد دنست ملبسه الجديدا
وقلت امدح به من شئت غيري
ومن ذا يقبل المدح الرديدا
ولا سيما وقد أعقبت فيه
مخازيك اللواتي لن تبيدا
وما للحي في أكفان ميت
لبوس بعد ما امتلأت صديدا
أرأيت ماذا تعقب خيبة الشاعر؟! وإن تسمع بالأخطل المدلل فهذا واحد لا غير، وقد مات ذلك الدلال بموت ممدوحه عبد الملك، وعفى عليه عمر بن عبد العزيز، فطرد الشاعر، فانزوى في صحرائه القاحلة حتى مات، وهو يذكر بطن الغوطة و«الخبر» الذي أتى.
مساكين الشعراء! مات المتنبي وفي قلبه جرح أليم من ضربة الدواة التي خلد مدادها سيف الدولة، وإن قال: «فما لجرح إذا أرضاكم ألم»، فلا تصدقه، فقد رافقه ذلك الألم إلى القبر. وخيبة أبي نواس بالخصيب، والمتنبي بكافور، تنبئك كم كان يكدح قوالو الشعر في إدراك الرغيف، فتركض ويركضون، ويعلم الله من يسبق. وإن شبعوا حمدوا الله على تلك النعمة وقالوا في الأمير ما يزهى به كالغراب، والجسور منهم كان يهجو إذا استبطأ العطاء؛ فطورا يأتيه، وتارة يقضي عليه.
وما كانت حال الشعراء في غير أمتنا إلا كحالهم عندنا، فهذا كورنيل يسترحم القصر ليجري على بوالو قليلا من المال يتقوت به، كما أوصى قبله أبو تمام أمراء المعرة بابن البحتري، فأكرموه على بذاذته، وأخيرا نهض الغرب، فأبى أن يكون كالدجاج، يزرب في الحوش، وينثر له الحب، ويشرب الماء الآسن من الجرن، فطار في الأفق الفسيح، يفتش عن هواء طليق، وشمس حرة، وماء طهور، وألف الجنان، فألهمته غناء أطرب القصور والأكواخ، وزأر - والشعراء أسد وطير - فأرعد فرائص العروش، وشعر أنه ملك دولة الرأي العام فبسط عليها سلطانه ، وأوغل في طلب حريته، وذاقت الأمم حلاوتها، فتهافتت على ما يطبخ وينضج، فكان للنابغ الثروة والسعادة والمجد. ألم يتوجوا فولتير قبل موته بأشهر؟ ألم تمش فرنسا في مناحة هيغو؟ ... إلخ.
أما المتطفل على موائد الأدب، في كل جيل وأمة، فظل قلبه يتعصر مشتهيا عضة كسرة، كاليعازار، ولا يجدها، وإن يئس علل نفسه بالجلوس في حضن إبراهيم، ولكن ليس في الأدب لهؤلاء المعاتيه جنة يخلدون بها.
أما عندنا، فظل الأدب يتسكع في الظلال حتى كانت الحرب الكبرى التي نفخت في العالمين روحا جديدة، وخلقت أدبا جديدا، فأدرك أدباؤنا أنهم خلقوا لغير التسول والشحاذة، فأبت عليهم أنفسهم أن يظلوا راسفين في تلك القيود - إلا الذين ما برحوا مداحين نواحين - فنحوا منحى جديدا في كل ألوان الأدب، وإن لم يعرفوا بعد بصنف خاص، فإنهم سيظفرون بالطابع إن فكروا بعقولهم لا بعقول جيرانهم كأكثر الناس، وإن عبروا بلغة جيلهم وزمانهم تعبيرا صحيحا، ولم يروا مثلهم الأعلى في تلك الرواسم، التي يجدحون من سويقها ولا يتأبون، ولم يخالوا الأدب كله في عبارة مقفعية، وجملة جاحظية، وسجعة همذانية، فالجاحظ الأديب الساخر لم تقر له الأجيال بالإمامة إلا لأنه فكر بعقله، ونطق بلسان جيله، وأبى أن يتكلم كالمتقدمين، فقال للناس: أنا أبو عثمان، أنا الجاحظ، ولست قسا ولا سحبان، ولا أكثم بن صيفي.
لسنا نبحث الآن تطور الأدب ونهضته الحديثة - هذا بحث طويل كشهر الصوم، وأنا صائم دائما ولا أرتجي أجرا - ولكنها كلمة عرضت، ساقنا إليها فرحنا ب «بنك مصر» الواهب الألف الجنيه، ولمن يأخذونها المنة والشكر، فلا عذر بعد اليوم، ولا شكوى لأدباء القطر الشقيق. فإلى الميدان أيها الجياد، وأرونا فتحا لا غزوا، أرونا تأليفا لا ترجمة ونقلا.
قلنا فيما مضى للأستاذين الرافعي والعقاد إن المستقبل للقصة، فليتركا الشباب وشأنهم فيها، فجادلا وماحكا لأن ليس لهما قصة، فما يقولان اليوم وقد رددت أجواء مصر صدى النفير العام، عفوا بل النفير الخاص، ينفخ فيه بنك مصر داعيا الكتاب إلى الجهاد القلمي، وما علينا نحن إلا أن نردد : نصر من الله وفتح قريب.
أية كلمة تفي بالثناء الواجب لبنك مصر، فتشت فما وجدت إلا كلاما مبتذلا، فلو كلنا المدح بالمد لمن حقق آمالنا لقصرنا، فخير من المدح تمنيات قلبية لهذه المؤسسة، وحث كل عربي ليجعلها بيت ماله فيستثمره ويفيد أمته، فهي رافعة رأس العرب، إن شاء الله.
كنا نحس ألما حين نقرأ في صحف الغرب عن الجوائز الأدبية التي جلت صدأ العقول، وفتحت للإنتاج الفكري أبوابا، فعقد القوم لكل لون من الأدب جوائز، أما نحن فكنا نلهو بالتفاهة، كأن الأدب سباق أطيفال يجريهم فكه في المضمار، وللمجلي كرة أو ليمونة.
فكرنا منذ أشهر بخلق جائزة ولو زهيدة، وطرقنا باب كثيرين فعدنا من عندهم نردد قول الحطيئة:
لقد مريتكم لو أن درتكم
يوما يجيء بها مسحي وإبساسي
لم يخطر على بالنا أن نقرع باب «بنك»، لعلمنا أن صناديق البنوك حديدية، وليقيننا أنها لا تعنى إلا ب «من وإلى»، حتى طلع علينا بنك مصر بهذه الأريحية، ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
نعم إن الجائزة للكتاب المصريين، كما يدل ما قرأت، والموضوعات أيضا قصص مصرية محضة، فنحن لا يعنينا من يأخذ المال، فسواء أعندنا مصريا كان أم عراقيا أم مراكشيا، ما دام اللسان عربيا، فكل ما نحلم به ونصبو إليه أن تربو ثروة الأدب العربي ويرزق مولودا جديدا ولو أنثى.
وإن كان لي ما أقول في هذا الصدد، فرجاء إلى طلعت حرب باشا ألا تكون لغة «الحوار»؛ لأن القصص تفقد طرافتها متى عرضت في الأقطار العربية التي لا تفهم اللسان المصري العامي، على ظرافته وحسن جرسه، فكم كنت أتألم - لا لشيء إلا لأني لم أفهم - حين أسمع حديثا تنطق به أشباح السينما المصرية.
أما الذين هززناهم للجائزة الصغيرة وظلوا جامدين كالصنم فليعذرونا، ظننا بهم خيرا فأزعجناهم، وما علمنا أنهم لا ينفقون مالهم إلا على جاه باطل، وصيت زيف، على موائد خضر، ودفاتر غير دفاترنا السوداء.
نحن لم نكلفهم أريحية بنك مصر، فليتهم أرونا عذرهم ولم يرونا بخلهم، ما طلبنا منهم إلا فلس الأرملة لأدبنا اليتيم، فكنا من المفلسين، والسادة معذورون؛ لأنهم لم يتعودوا الإنفاق على الأدب.
1
فرح أنطون
(1) سيرته وآثاره وأثره
في صيف عام 1937 أذيعت في القاهرة هذه الكلمة:
في الشهر القادم يكون قد مضى على وفاة فرح أنطون خمسة عشر عاما، ويحسن برجال الأدب الذين يعرفون فضل هذا الأديب العظيم في النهضة الحاضرة أن يحتفلوا به، فإن في الاحتفال تنويها بألوان التجديد التي قام بها في توجيه الأدب الحديث نحو الثورة، واعترافا بفضله على التفكير المصري. ونحن لا نعرف أديبا ممن يؤبه بهم في مصر لم يتأثر بأحسن التأثيرات من فرح أنطون، وكثير من النزعات الحسنة في أدبنا يعود إليه. وقد كان دأبنا في كل فرصة أن نعترف بفضله؛ ولذلك نحن ننتهز الفرصة الحاضرة لتنبيه الوجدان الأدبي في مصر إلى ضرورة الاحتفال بمرور خمسة عشر عاما على وفاته.
سلامة موسى
هذه كلمة سلامة موسى في عدد حزيران من مجلته «الجديدة» عام 1937، وسلامة هذا من رءوس كتاب مصر، أديب ثائر من الطراز الأول، يبغض كل قديم حتى نفسه إذا عمر طويلا، ويرى الخير كله في الغرب الذي يبدل كل يوم ثوبا، ويؤلمه الشرق المنكمش القابع في قميصه وسراويله كأنه السلحفاة. يحذو سلامة في العادات والآداب واللغة حذو مصطفى كمال في الدولة، يريد أن يلحقنا بالغرب في كل شيء، حتى دعا إلى استعمال الحروف اللاتينية بدلا من العربية، وقلع الطربوش ولبس القبعة، وحجته أن لبس البرنيطة يصير تفكيرنا غربيا، كأنما عقل الإنسان في رأس طربوشه، كما يقول المثل اللبناني.
إن سلامة يسير إلى التجديد طافرا، ونحن نعجب بالكثير من آرائه الطريفة، وإن شجبنا دعوته إلى الحروف اللاتينية وما أشبهها، أما الطربوش فحسبه أحمد حسن الزيات نصيرا.
ليست هذه ساعة تحليل سلامة موسى وتصويره بالألوان، ولكنها خطوط نرسمها، لعلها تطبع شيئا من صورته في أذهان قرائنا، فهذا الأديب الذي يريد أن يخلق مصر خلقا جديدا يتم بحماسة رسالتين اثنتين: رسالة الشميل وصروف، ورسالة فرح أنطون في الجامعة. وهو ينقل لنا في كل ساعة ما يبتدعه الغرب، وبحسبنا «العقل الباطن» الذي فتن سلامة موسى، ففتن به عقل العالم العربي.
لست أضع الأستاذ سلامة على محك الشدياق، وابن خالويه، بل أقول فيه كلمة قبل الانتقال إلى فرح أنطون: إن سلامة موسى كاتب يجري إلى غاية، وهدفه تجديد الشرق اجتماعيا وأدبيا، ومجلته التي يدل اسمها عليها نشرة ثمينة لا يسد مسدها غيرها، وإذا انطوت - وقد انطوت - كان في الشرق فراغ كالفراغ الذي أحدثه انطواء جامعة فرح أنطون ومقتطف صروف.
إن سلامة مجدد من مزراب برنيطته إلى شريط بوطه، والأيام كفيلة بتحقيق الكثير من أمانيه، قد أحسن هذا الأديب بتذكير مصر بأديب أفضل عليها، وهو - بعد الشدياق - من رسل هذه اليقظة الفكرية في الشرق، كما قلنا عنه مرة في «عكاظ مدرسة الحكمة»، وهذه كلمتنا بحروفها:
وإذا نظرنا إلى المدارس الفكرية رأيناها أيضا بنت هذا البلد الطيب - لبنان - فقبل الشميل وصروف لم يتحرك لسان في الشرق العربي بحديث النشوء والارتقاء، وقبل فرح أنطون لم يعالج أحد المشاكل الاجتماعية العويصة، ففرح فتح باب التفكير الحر وشرعه للناس، ولكنه جاء قبل أوانه، فحولته الحاجة عن مجراه، إلى مسرحي سطحي يكتب ليعيش ... إلخ.
وكتبنا أيضا بتاريخ 29 تشرين الثاني سنة 1934 في جريدة «صوت الأحرار» ما يلي:
وهذا فرح أنطون، ماذا لقي في هذا الوطن؟ وا خجلة التاريخ منك يا أبا المدرسة الحرة! فمن نشر آراء رنان، وروسو، وتولستوي، وروسكين، ونيتشه، وغيرهم قبل فرح؟ وماذا فعلنا نحن له غير الإغارة على آثاره التي اتخذ سويداء قلبه مدادا لتحبيرها؟ فهذا المنفلوطي - غفر الله له - صديق فرح، قد قرظ قصة بولس وفرجيني التي ترجمها فرح، وعملها قصيدة يوم كان ينظم الشعر، حتى إذا ما مات فرح، شن الغارة على بيت صاحبه، فسبى بناته وكساها ثوبا عربيا من طرازه، فأفسد خطوطها ورسومها، فصارت لا عربية ملحفة ولا فرنجية مشمرة.
وفي ذاك المقال عتبت عتبا عنيفا على خليل مطران؛ لأنه كتب مقالا في هلال حزيران سنة 1934 عنوانه «رواد النهضة الحديثة»، لم يذكر فيه فرح أنطون وجبران وولي الدين، ثم لمت فيه مؤلفي «المفصل»؛ لأنهم أغفلوا ذلك، فقلت في فرح: «وفرح يحيا بآثاره الخالدة يوم يؤرخ الأدب تأريخا نزيها لا عوج فيه.»
فليراجع المقال من يحب التفصيل، أما نحن فقد طابت الآن نفسنا، واليوم الذي ظنناه بعيدا كان قريبا جدا؛ إذ قام أديب خطير كسلامة موسى، بارك الله في عمره، ودعا الغافلين إلى إحياء ذكرى فرح، ليس أبلغ في مجال شكرنا للأستاذ سلامة من الكلمة العربية المأثورة: الفضل يعرفه ذووه.
والآن فإننا نتساءل: إذا لبت مصر نداء أديبها الحر، وشاءت أن تزور ضريح فرح أنطون، فهل تعرف أين هو؟ هل لفرح ضريح خاص، أليس فرح في ضيافة أحد أنسبائه كبودلير قبل أن نهض أدباء الأمة الفرنسية وبنوا له ضريحا؟ فهل من يعمل هذا لفرح في مصر العزيزة، منبع الخير والبركة؟
ولكي نعرف فرح أنطون إلى شبابنا الذين يجهلونه - كما جهلوا الشدياق من قبل - لا بد من كلمة موجزة في سيرة حياته، نكتبها ونسأل صديقنا الأستاذ جرجي نقولا باز أن يتفضل علينا بترجمة للرجل، فهو يستحقها كالذين يؤرخهم صاحبنا. ومن الرب نطلب أن يوفق إلى إلحاق نسبه بغسان أو قريش، كما يفعل في كتابة «السير» غالبا.
ولد فرح في طرابلس سنة 1874 وتخرج في مدرسة كفتين يوم كان جبر ضومط وأنطون شحيبر أستاذين فيها. كان أبوه من تجار الخشب في طرابلس، فأراد أن يجعله مثله تاجرا، فجرب فرح ثم أبى، وعكف على مطالعة روسو، وتولستوي، ورنان، وسيمون، وكارل ماركس، وبرناردشو وغيرهم ... ودعي لرئاسة مدرسة للروم الأرثوذكس بطرابلس فتولى إدارتها بضع سنين، وشرع يكتب في تلك الأثناء فأعجب الناس، ورأى مجال القول ضيقا في طرابلس، فنزح إلى مصر سنة 1897، وهناك أنشأ مجلة الجامعة التي ملأ صيتها الشرق وديار هجرة العرب، وكانت بوق الحرية الصارخ في أذن الراقدين، ثم ضاقت عليه مصر، فنزح إلى نيويورك سنة 1907، فقال أحمد محرم أحد شعراء مصر قصيدة في هجرته، هذا مطلعها:
إن كنت لا تبغي لنفسك راحة
فأرح مطيك والدنى وبنيها
وفي نيويورك وسع البيكار، فأصدر الجامعة: يومية بثماني صفحات، وأسبوعية، وشهرية، ولكن إقامته لم تطل هناك فعاد إلى مصر، وأصدر الجامعة - المجلة - سنة أو أقل، ثم حجبها عن الناس. وانصرف فرح الأديب إلى تحرير الصحف الوطنية السياسية، وأخذ يؤلف الروايات ويترجمها، ووضع الروايات التمثيلية الغنائية، وألف جوقة منيرة المهدية فقامت بتمثيلها، وأخيرا انضم إلى صفوف الوفديين المجاهدين، فعاون الأستاذ عبد القادر حمزة في تحرير جريدة الأهالي إلى أن مات بغتة قبل صياح ديك ثالث تموز سنة 1922.
آثاره الأدبية
الجامعة:
مجلة شهرية أصدرها سبع سنوات.
فلسفة ابن رشد:
جدال بين فرح والإمام محمد عبده.
أورشليم الجديدة:
قصة فلسفية اجتماعية.
مريم قبل التوبة:
قصة اجتماعية مات ولم يتمها.
الوحش الوحش الوحش:
قصة خلقية لبنانية.
الدين والعلم والمال:
قصة.
بولس وفرجيني، الكوخ الهندي:
لبرنردين ده سانبيار.
أتالا:
لشاتو بريان.
نهضة الأسد:
رواية ديماس عن الثورة الفرنسية.
تاريخ المسيح:
لرنان لخصه تلخيصا.
أما رواياته التمثيلية فعديدة: «البرج الهائل»، «ابن الشعب»، «الساحرة»، «أوديب الملك»، «المتصرف في العباد»، «صلاح الدين»؛ مثلها جميعها الأستاذ جورج أبيض. «كرمن»، «كرمنينا»، «روزينا»، «تاييس»؛ هذه الروايات الأربع مقتبسة، مثلها جوق منيرة المهدية. «مصر الجديدة»، «بنات الشوارع وبنات الخدور»؛ روايتان غنائيتان، مثلهما جوق آخر. «أبو الهول يتحرك»، رواية غنائية وهي أبدع ما ألف في التمثيل، ورواية «ذات الورد» لديماس.
أما ما أودعه فرح في «جامعته» فكنز ثمين، بل ذخيرة للذين يرغبون في مرافقة الفكر الإنساني واتباع تطور الخلق والدين. وفرح أول كاتب عرف العرب بالفيلسوف الألماني نيتشه والمعلم كارل ماركس.
عندما قرأت في رسالة الزيات أن صديقي ورفيقي الأستاذ فيلكس فارس عزم على ترجمة كتاب فردريك نيتشه «هكذا تكلم زاراتوسترا»، فرحت كثيرا لعلمي أن فيلكس يحذق اللغتين، وهذا أول شرط الترجمة، ثم توقعت أن أقرأ لفيلكس كلمة يترحم بها على فرح وينوه به، فإذا به يقول: «لم يفكر أحد بترجمة هذا الكتاب العظيم ... إلخ.» مع أني كنت أقرأ وفيلكس ما ترجمه فرح من زاراتوسترا، وما كتبه من الفصول عن نيتشه وفلسفته.
إن في صدور أدبائنا حبا شديدا للاحتكار ورغبة في الاستبداد بالأصناف، ففي كل بلاد ألوف من الشعراء والقصصيين والمؤرخين والكتاب، ولكنهم لا يتزاحمون هذا الزحام المزعج، ولا ينسى المتأخر المتقدم، وأول ضحايا هذه الأنانية الجائعة كان فرح أنطون، فقد أكلناه ميتا، ونسيناه نسيانا مشينا. (2) في مجلته الجامعة
كلما رأيت دير كفتين الناظر إلى طرابلس، تذكرت فرح أنطون، وكلما مررت في الشمال، تذكرت قصته «الوحش الوحش الوحش»، وتأملت الأمكنة التي وصفها هذا الأديب الثائر، من دير حماطورة إلى الحدث والأرز.
فرح ابن الشمال، ولد في طرابلس، وتعلم بدير كفتين، رأى التعصب الديني في طرابلس والكورة والجبة، فثار على محيطه - ومحيطه محيط الشرق كله - ثم أغرق في مطالعة كتب المحررين، فخلع النير.
قال بول بورجه: «كل من يصفيه التفكير والمطالعة يتعرض لعدم الامتزاج بجماعته، فإما أن يثور على بيئته التي يتألم منها، أو يحاول الدخول في غيرها، فهو كالنبتة التي تشق جذورها الإناء الذي نشأت فيه، فيجب أن تنقل منه.»
وهكذا فعل فرح، نزح إلى مصر وأنشأ الجامعة، كانت في عامها الأول عثمانية تدعو الشرق إلى الالتفاف حول عرش الأستانة وتكرهه بأوروبا، فكان فيها فرح شرقيا يحب الكثير من عقائد الغرب الاجتماعية، كان كالبستاني الخبير يؤصل ويطعم، أذاع مبادئ جول سيمون، بل أعلن في مقدمة مجلته أنها لسان حال هذا الفيلسوف، ورأى معه أن تربية المرأة والنشء تمنع كل فساد، فانصرف إلى بحث التربية فرآها في ثلاثة أقانيم: بدنية، وعقلية، وروحية، وحيث لا تتجمع ثلاثتها يظل الإنسان ناقصا.
ونظر فرح إلى التعليم فرأى المدارس كافية، فكان أول الداعين إلى إصلاح تربيتها وتعليمها، لا إلى زيادة عددها، والإكثار منها. وأنشأ في السنة الأولى بابين يدلان على ذوقه السليم؛ الأول: غذاء المعد القوية، وفيه نشر حكم مفكري الشرق والغرب (وخصوصا لابروير)، والثاني: غذاء المعد الضعيفة، وهو للفكاهات والنوادر.
وما أطلت الجامعة حتى قالت فيها مجلة الهلال: «إن الجامعة جاءت الشرق في إبان حاجته إليها.» ورأى فرح في القصة معلما ومهذبا للناس، فدعا إلى إنشائها، وألف قصة «الحب حتى الموت»، أقامها دليلا على أمانة المرأة المحصنة، وعرب رواية البرج الهائل، لتكون برهانا على خيانة الفاجرة وقتلها النفوس إشباعا لشهوتها.
ففرح أنطون أديب اجتماعي قبل كل شيء، وفي كل شيء؛ في مجلته، ومقالاته، وقصصه، ومسرحياته، وهو رسول الديمقراطية في الشرق العربي، نشر تراجم الرجال، شرقيين وغربيين، ليجعلها أمثولة للشرق الغافي، وكثيرا ما كان يذكر مزايا الحيوان ليبكت أخاه الإنسان، وإن ذكر خبرا علميا فليعجب بالعقل البشري ويتفاءل.
شكا في أول عدد من الجامعة قلة الإيمان بالله وضعف الثقة به، ولكنه نسي ذلك أخيرا حين اعتنق مبادئ نيتشه كما سيأتي، ولم يهمل فرح الشعر والشعراء، فهو أول من أطرى أحمد شوقي، لا لأنه شاعر الأمير، بل لأنه رأى أنه سيكون عظيما إذا كد واجتهد، ونشر كثيرا من سير الشعراء المتقدمين والمعاصرين حتى حشر الأمير عبد القادر الجزائري في هذا المضيق وأورد شيئا من نظمه.
فرح كاتب ثوري وعملي بروح رومنتيكية، فالتربية والمدرسة حديثه الدائم منذ مولد الجامعة حتى موتها، يشبهه من كتابنا اليوم الذين لهم عقيدة لا ينفكون عنها، الكاتبان الشهيران أمين الريحاني ويوسف يزبك، وكلاهما يتفقان معه في التأليف عن الثورة الفرنسية، الريحاني في نبذته، وهي أول آثاره الأدبية، ويزبك في «14 تموز»، كما لا يختلفان عنه في المثابرة على خطة لا يحيدان عنها.
كل ما خطه قلم فرح أنطون يتفق وروحه، بل قل لم يكتب كلمة تخالف عقيدته، وروحه الحية ظاهرة في جامعته، فكأنها كتاب خاص لا مجلة جامعة.
طبع على نصرة الضعفاء، فما نشبت حرب البوير حتى كتب تحت عنوان «الترانسفال ظالمة أم مظلومة»؛ سلسلة مقالات طار فيها على أجنحة الخيال، وعنف الإنكليز تعنيفا معقولا، وتكلم بلغة أشعيا وأرميا ينذر الدنيا بالويل. ثم رأى حاجة الشرق إلى معرفة سير أصحاب الأديان؛ فنشر المقالات الضافية عن بوذا وفلسفة الصينيين ... إلخ، فأثار الأذهان وفتح العيون.
وكان حرم السينودوس - المجمع المقدس - للفيلسوف تولستوي، فقام فرح يكتب عن هذا المعلم العظيم، نشر سيرة حياته، وحلل فلسفته ومحيطه، ولخص رواية «البعث» رأس كتبه، ثم أذاع ما دار حول «حرمه» من مناقشات، ورده على المجمع ودفاع زوجته عنه، وبعض رسائل تبادلها الفيلسوف ومعاصريه.
ففي الجامعة يتعرف القارئ رجال الفكر العظام، ولا أظلم صاحبي فرح أنطون إن قلت - معرفة وجه - أو كما يلم ناظر السينما بما يعرض عليه من مشاهد، لخص فرح كتبا كثيرة في فصول، وهو إن أساء إلى أصحابها والفن، فقد أحسن إلى الجمهور؛ إذ كان كمن يعطي المريض درهم كينا بدلا من حزمة قنطاريون.
أرانا فرح برنردين دي سان بيار في الكوخ الهندي، وبولس وفرجيني، وشاتوبريان في أتالا، وحدثنا طويلا عن الإسكندر، وبحث نظرية داروين، وتكلم عن الحلقة المفقودة، ولم يهمل شيئا حتى سكان الكواكب، ولكن ليس بتعمق المقتطف؛ فهدفه تنوير العقول وتعريفنا بأحبابه من الكتاب الغربيين مثل جون روسكن، رسول الفنون الجميلة، والمبشر بحب الطبيعة، والمنادي ببدعة ملكة أيار - الاحتفال بعيد الربيع الذي نعظمه اليوم.
يرى روسكن أن الفن ضرب من العبادة؛ لأن الإنسان لا يبلغه إلا بعد فهم الطبيعة وحبها (ص567، سنة ثانية)، أما رأيه الاجتماعي فينحصر في أن سبب الفساد والشقاء هو استبداد أرباب الأموال بالشعب، وحفظهم هذا الاستبداد بواسطة المعامل والآلات.
وينشر قاسم أمين كتابه «المرأة الجديدة»، فينصره فرح ويلخص الكتاب لقراء الجامعة كما يلخص أشهر الكتب العالمية، ويعير هذا الكتاب اهتماما عظيما، فيقابل بين آراء قاسم وجول سيمون. ويموت الحمولي، موسيقي زمانه، فيكتب عنه فرح ويعتبره عظيما، ويتكلم بهذه المناسبة عن الطفل «أريولا» الذي صار موسيقيا في عامه الثاني.
هذا شأن فرح في كل مناسبة تعرض. أما حبه للتمثيل فشديد، وقد كتب عنه كثيرا في الجامعة مناصرا هذا الفن الرفيع، وإن عده الزيات من الأدب الخفيف في مجلة «الرسالة».
وتدخل الجامعة في الحول الثالث، فيصدرها فرح بمقال «تاريخ الأندلس من أوله إلى آخره»، فيستبكي الرافعي، فينظم قصيدة ندية القافية. وكأنما كان أقصى هم فرح تعريف الشرق بالغرب، فيلخص كتيبا لريدر كبلنغ، وينشر مقالات علمية ترمي كلها إلى غرضه، حتى إذا عرف أرنست رنان الشهير، ترجم له ونوه به تنويها عظيما ، ونقل كتابه «حياة يسوع» مع مراعاة مقتضى الحال، متصرفا حتى في عنوان الكتاب، فجاء أشبه بالشبية: «كتاب صلوات وتأملات روحية».
ولم يلهه كل هذا عن شئون مصر وسورية خاصة، والشرق عامة، كما لم يغفل عن نشر سير العصاميين، فكتب سيرة فليكس فور بعنوان: «من معمل الدباغة إلى رئاسة الجمهورية»، ولا ينسى برتلو الكيماوي فيترجم له ويهتف: المجد للعلماء.
ولا يهاب النظر في الشعر، على قلة بضاعته منه، فيحدد حافظ إبراهيم وأحمد شوقي تحديدا جديدا جيدا، ويتكلم عن باكون وشكسبير بإسهاب مبتدئا هكذا: «مشاهير الناس آلهة للناس في هذه الحياة، ولكنهم آلهة لا تعبد إلا بعد الممات.»
وتحتفل فرنسا بذكرى ميلاد هيغو المئوية، فيكتب درسا مطولا يفتتحه بكلمة كاتب دنمركي شهير: «إن ظهور أعاظم الرجال في الأرض منحة إلهية من السماء.» كذا كان ظهورك يا فرح، يرحمك الله.
ويجول في الموضوع جولة صادقة كأنه من كبار النقاد - أقول هذا ولا أشك في أنه ممن طالعوا كثيرا النقد الفرنسي في أهم مصادره - ولا يترك فرح مقالته هذه بلا استنتاج، فيقول لكتاب الشرق وشعرائه: «إن رجلا كهيغو لا ينبت من الأرض، ولا يهبط من السماء، بل هو ينشئ نفسه بنفسه، وذلك بالصبر والعمل والسهر» (ص452، سنة 3).
قلت: هلا يسمع شعراؤنا الذين يريدون أن يكونوا كبارا غصبا عنا!
وقبل أن يختم فرح مقاله عن هيغو يتذكر مهمته التربوية، فيدير وجهه صوب النساء ويقول لهن بلسان روستان: «أيتها النساء، لا تهملن ولدا؛ إذ من يعلم متى يمر في الأرض ذلك الولد الذي سيكون إلها. ومتى أخذتن رأس ولدكن لتقبيله، فلا تضغطن عليه كثيرا، فإنه ربما كان هذا الرأس وحده يضم عالما عظيما.»
ويعطف على رنان فيعرب «حرمه» لحارميه، ويذيع صلاته المشهورة عند الأكروبول، ثم جواب أناتول فرانس عليها بلسان آلهة الحكمة يوم الاحتفال بتمثال رنان. وهنا ينتقل فرح إلى دارة جديدة فيلخص فلسفة ابن رشد ويذكر محنته، فتتجه الجامعة اتجاها جديدا تتجلى فيه أبهى خدماتها للفكر العربي، وهي إذاعة أعقد المسائل والقضايا بلغة يفهمها كل قارئ، فكان فيها فرح من أولئك الذين ينشرون العلوم بلغة القراءة المصورة، فما انتشر عدد ابن رشد حتى نشبت معركة جدلية حوله، فينصرف فرح إلى الرد على الإمام محمد عبده.
خبرنا فرح بهذه المناسبة قال: ««وعصبت رأسي» كما يقال، وانصرفت ثلاثة شهور إلى درس هذا الموضوع وحده حتى فقدت النوم والقابلية.» إن الأشهر الثلاثة التي صرفها فرح في الرد على الإمام لا شبيه لها في التاريخ إلا مناظرة الخوارزمي والهمذاني، بيد أن فرح أنطون الشاب أظهر أسمى الاحترام للشيخ الذي يستحقه، وهكذا ذاعت شهرة فرح، الذي نسيناه، في العالم العربي وتجاوزته إلى الغرب؛ فطلب المتمشرقون تآليفه.
قال حافظ إبراهيم شاعر الإمام في هذه المناقشة:
وأنت لها إن قام في الغرب مرجف
وأنت لها إن قام في الشرق مرجف
يعني حافظ بالمرجفين: هانوتو وفرح أنطون، أما فرح فعلق على هذا البيت بقوله: حافظ، حافظ، إنك لم تحاسب نفسك لما نظمت هذا البيت.
وتدخل الجامعة في السنة الرابعة (1903)، فيبدؤها فرح بإذاعة الفلسفة الحسية، ناشرا ترجمة «أوغست كنت» واضع ديانة الإنسانية والعلم، ثم يلخص تاريخ الرسل لرنان، ويقترح على حكومة مصر إحداث مدارس زراعية، كما دعا السوريين في أميركا إلى الزراعة فيما بعد. ونظر فرح إلى السماء فلخص لقرائه شيئا من كتاب فلامريون الفلكي الشهير، وظهرت اكتشافات بابلية فنشر سيرة حمورابي وشريعته، وما أحدثه اكتشاف ألواحها من قلق فكري وشك في التوراة، وترجم رسالة الإمبراطور غليوم لأحد أصحابه العلماء، فكأنما كان فرح مذياعا ينقل خطة الفكر في العالم.
كان يعلن أحيانا ولا ينجز، لكثرة أشغاله واضطرابه العصبي، بدأ أشياء كثيرة ولم يتمها؛ ككتاب فلامريون، ورواية مريم قبل التوبة، وقصة إسبانية تحب عربيا، وعد بها ولم ينشر شيئا منها.
وفي هذه السنة - الرابعة - ألف فرح ثلاث قصص أهداها إلى قرائه، ونامت الجامعة على إثرها سنة كاملة حتى استيقظت في نيويورك سنة 1905، وهناك أرخى فرح لقلمه العنان، فحيا تمثال الحرية تحية حارة ضمنها أصدق عواطفه الاجتماعية، وكتب بعدها عن عظمة أميركا فصولا ضافية، ودرس مدنيتها ، ولكنه لم ينس الشرق بل ظل يحن إليه، واستماله روسو فكتب عنه ونشر رسوما عدة له ولمدام دي وارين التي أحبته، وعرب رواية ابن الشعب ونشرها متقطعة، وفتح بابا جديدا نشر فيه روائع الفن التصويري، وكتب عن القصة فصلا جميلا (306، سنة خامسة)، وتحدث عن مشاهير أميركيين مثل تافت وهارست، ونشر ترجمة مار بولس؛ حبيب الأميركيين.
وفيها عرف فرح الفيلسوف نيتشه ونقل شذرات من فلسفته الهوجاء، وجاءت السنة السادسة فنشر فصولا من رائعته «مريم قبل التوبة»، وأثرت أميركا المادية به فرأى في نيتشه كل شيء، وتهوس حتى قال شعرا هو الأول والآخر من نظمه، فجاء كالأراجيز، وألقى خطابا أمام شلال نياغرا أشبه بخطبة رنان أمام الأكروبول فيه روح نيتشه أو نازيته إن شئت، وإليك بعض أبياته الشعرية التي بناها على فلسفة نيتشه:
عج بالجبال ولا تعج بالوادي
إن شئت رؤية هذه الأمجاد
واركب لها قطر البخار فقد مضى
عصر النياق وصوت ذاك الحادي
واطلب إليها أن تطير ولا تقل: «مهلا فإنك سائر بفؤادي»
فالوقت وقت إرادة صماء تص
رع كل معترض سبيل جهاد
مات القديم فكفنوه فما له
ما بيننا من رجعة ومعاد
الأرض تحتاج «الإرادة والعزيمة
والنشاط» وليس وحي الدين والإرشاد
فيها ارتقت هذي البلاد وإنها
مرقاة كل تمدن وبلاد
هذا كلام نيتش إن نيتش كا
ن مقوم المعوج والمنآد
في زعم بعض الناس أما مذهبي
فيه فأبقيه إلى ميعاد
ولكن هذا الميعاد لم يأت.
رأى فرح صراع المادة في أميركا وعاد إلى القاهرة مقهورا غير ظافر، فصرف العام السابع دارسا نيتشه؛ ترجم كتابه الفريد «هكذا قال زاراتوسترا» ولم يتمه، ولخص رأي فاكه وهاليفي فيه، ونقل أيضا قول نيتشه نفسه في كتابه، وإليك فقرة منه: «ليس دانتي بالقياس على زاراتوسترا إلا مؤمنا، وما شعراء الفيدا إلا كهانا لا يستحقون أن يحلوا سيور حذاء زاراتوسترا ... إلخ.»
وبينما فرح غارق في لجة مبادئ نيتشه الهائجة، إذا به يقف نشر رواية مريم، واعدا بطبع تتمتها على حدة، لينشر رواية ملفا للروائي مكسيم غوركي ، وهكذا التقى الصيف والشتاء على سطح واحد، فكأن صاحب الجامعة أراد أن يوفق بين اسمها ومسماها، وفي هذا العام لفظت الجامعة آخر نفس، فماتت مبكية من أحرار العالم العربي، أو الكتاب الديمقراطيين كما يسميهم أخي الأستاذ يوسف يزبك. (3) فرح أنطون القصصي
لماذا لا تكتب عن أديب إسحاق، عن نجيب الحداد، عن ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم، عن بطرس البستاني وابنه سليم، عن الأحدب والأسير، عن كرامة ومراش وزيدان، عن البارودي وشوقي وصبري وحافظ وولي الدين ... إلخ.
من كتاب أديب
الجواب يا سيدي: هذا لا يعنيك، وكتابك يذكرني بلوائح المطاعم، فإذا كنت جائعا حتى ترى الحجارة خبزا كما سيحدث يوم يجيء المسيح الدجال، أتستطيع أن تزور جميع القدور المذكورة في اللائحة، أم تختار ما تشتهي نفسك أكثر، وتؤجل ما تحب إلى علفة ثانية؟ فبحياتك تدعني ومعلفي، أنا أحب الهريسة فلا تكرهني على الملوخية، الأدب كالطعام يا سيدي، فكل أنت ما تشتهي، ودعني وشأني، أما لك معدة وأضراس مثلي؟ •••
مات فرح أنطون فكتبت مجلة الهلال: إن الجامعة خير آثاره، ونتاجه بعدها دونها قيمة، فساءت كلمتها هذه شقيقته الكريمة السيدة روزا، فردت على الهلال، ثم ضرب جورج دوماني في مجلته «الريفو اجبسيان» على هذا الوتر، فرد عليه الأستاذ محمد لطفي جمعة.
ليس لدي من تآليف فرح الأخيرة إلا مسرحية واحدة: «صلاح الدين ومملكة أورشليم»، وهذه إذا وضعت في الميزان قبالة الجامعة رجحت الجامعة، وشالت هذه كأبي جرير في ميزان الأخطل، وإذا قلنا الجامعة عنينا سبعة مجلدات ضخمة كلها جديد طريف، وعنينا أيضا تلك الكتب النفيسة التي ألفها فرح: ابن رشد وفلسفته، الحب هو الموت، الدين والعلم والمال، الوحش الوحش الوحش، أورشليم الجديدة، مريم قبل التوبة، والتي ترجمها: الكوخ الهندي، بولس وفرجيني، أتالا، ابن الشعب، نهضة الأسد، تاريخ المسيح، تاريخ الرسل، زارتوسترا، ملفا، وكلها من كنوز الأدب العالمي، ولن نذكر ما لخص من كتب، فقد مر ذلك في المقال السابق.
وعندي أن قول الهلال هذا لا يضير فرح أنطون، كما لا يبخس الجاحظ أشياءه قول القائل: كتاب الحيوان خير آثار الجاحظ عمرانا، فأدباء مصر أقروا لفرح بالسبق في ميدان الأدب العالي، ثم بالنضال السياسي والدفاع عن أسمى قضاياهم فقال فيه محمد لطفي جمعة يؤبنه: «عندما ذهب الآخرون يلعبون بذهب المعز كنت أنت أيها الغريب لا ترهب سيفه، فما أعظم هذا الفضل لك علينا! ها نحن فئة قليلة من الأقارب والأحباب حول قبرك؛ لأنك لم تكن من هؤلاء الذين تتحرك في ركاب نعشهم المركبات الضخمة ويسير في جنازتهم ذوو النفاق والخديعة.»
وقال سلامة موسى، زعيم المجددين في مصر، يوم مات فرح: إن الفراغ الذي أحدثته وفاة فرح أنطون في الأدب العربي لن يملأه أحد في أيامنا الهوجاء هذه، كان ميدانه الأدب، لا يتعداه إلى غيره؛ ولذا بزغ فيه وألم بأطرافه وابتدع فيه واخترع، فهو أول من تطاول إلى نجمين من نجوم الأدب الإفرنجي تولستوي ونيتشه، وحاول أن يستضيء بضوئهما ولكن الظلام الذي كان يكتنفه كان أشد مما يحسب.
وقال صاحب جريدة الإكسبرس: لم يتزوج فرح؛ لأنه لم يجد متسعا في وقته لأداء واجب العائلة، وكان مع ذلك مستقيما عفيفا، ولم نره يوما في كنيسة، ولا سمعنا أنه حضر قداسا، على أن ذلك لا يمنع من أن يكون مسيحيا مخلصا كما يفهم من كتاباته.
وكتب الشيخ إبراهيم الدباغ: كتبت عنه - عن فرح - الصحف بأقلام فاترة عن نفوس جامدة غير جازعة كأنها تكتب عن بعض الأفراد، فأوجد تقصير الصحف تجاه فقيدنا الجليل عندنا موجدة عليها، ثم قال: فرح أنطون الكاتب السوري تقوم قيامة تأبينه في جامعة أميركية، أترى الجامعة المصرية تضيق جوانبها بإحياء ذكرى رجل لو كان من الحاضرين فيها لشاد للعالم بنيانا، وللآداب والأخلاق مكانا، لم أدر لماذا ضاقت هذه الحظيرة بتلك النفس الكبيرة، ألأنه كان من أحرار الفكر؟ إن الدكاترة طه حسين وهيكل ومنصور من أحرار الفكر أيضا، بل من أشد أحرار الفكر وطأة على العقائد! أم لأنه سوري مسيحي، مع أن مصر ليس فيها اليوم مسلم ولا مسيحي ولا يهودي بل فيها مصري، فمتى ينصف الشرق أبناء الشرق ومتى يقف الشرق في صفه ويأخذ محله؟
ويقول عباس محمود العقاد: فقلت له مواسيا: إنك يا فرح طليعة مبكرة من طلائع هذه النهضة، وسيعرف لك المستقبل من عملك ما لم يعرفه الحاضر، وستكون حين تفترق الطريقان خيرا مما كنت في هذا الملقى المضطرب.
فأومأ برأسه إيماءة شاكرة وحرك يده حركة فاترة وقال: ماذا يحفل المستقبل بالحاضر، وماذا يبالي السائر للغد بمن كان قبله في مفترق الطريق (مطالعات، 61 و62).
تلك سنة الطبيعة يا فرح، فكما تذكر الشمس بالاحمرار الذي تتركه بعد غروبها، كذلك يذكرنا أبناؤنا ثم يوارينا الليل، أراك أحسنت إذ أسأت الظن بأناس طويلي الأيدي ينقبون البيوت وينبشون القبور ليسرقوا الخبايا والأكفان. •••
قال فرنسوا مورياك أحد مشاهير كتاب فرنسة الحاليين: «أنا من الذين يؤمنون بالناس لا بالأجناس، وأؤمن بالشعر خصوصا، وأؤمن أنه ليس غير الشعر، وأنه من العناصر الشعرية وحدها يؤلف الفن في كتب الأدباء، وهي التي تهبها البقاء والخلود، فالروائي هو شاعر قبل كل شيء، وهكذا كان تولستوي وبروست؛ لأن قوة إلهامهم واستيحائهم كانت واسعة.»
إذا صح هذا القول وسمحنا للقصصي أن يحدثنا كما يشاء؛ إذ لم نفرض عليه نوعا من القصة نحبه حتى نرى كل فن القصة فيه وما عداه خرافة ورقاعة، كان فرح أنطون قصصيا من الطراز الأول، قلت «إذا» ولا بد من إذا لئلا تقوم القيامة، وأزيد على ما تقدم لو لم يولع فرح أنطون بالترجمة وإذاعة المبادئ الجديدة، ولو لم يترك بعض آثاره الرائعة ناقصة، ليترجم للشرق روائع الغرب، بل لو كمل هذا الأديب المخلوق قصصيا روايته «مريم قبل التوبة» لكانت رائعة من الروائع العالمية ككتاب الفارياق، إن في الاثنتين والتسعين صفحة يقوم الدليل على ما أزعم، فليقرأها المخلصون لهذا الفن إذا لم يصدقوا ما قلت وسأقول فيها، أما الآن فأبتدئ بأولى قصصه. (4) الحب حتى الموت
هذه أول قصة ألفها فرح أنطون وهي سلسلة نصف سنة الجامعة الأولى، قطع فرح هذه السلسلة ليترجم قصة ديماس عن الثورة الفرنسية، وملخصها: شابان لبنانيان من «الكورة» هاجرا إلى أميركا، فاجتمعا قبل سفرهما بخوري الضيعة، وهو راهب فزودهما مع دعاه وبركته بعض آرائه الاجتماعية، واستقل الشابان باخرة واحدة وحلا في أميركا ببيت واحد تقريبا، المعلم إميل عند الخواجا بولس، وبطرس عند الخواجا حنا عديل بولس، وكان الزحام على الآنسة ماري بنت الخواجا بولس، بنت وحيدة وأبوها غني، ولأجلها سافر الشابان من حامات، ففضلت ماري المعلم إميل - هذه أول مرة يفوز بها المعلم ولكن على من - على بطرس الذي أرادها له زوج خالتها الخواجا حنا، وكانت الدعوة لوليمة في بيت أبي ماري أقامها للمعلم، ودعا إليها وجوه الجالية فجاءوا جميعا، أما الخواجا حنا فتجاوز حدود اللياقة، وأخذ يضحك على المعلم المحتفى به ويتهكم تهكما لاذعا، حاول الخواجا بولس إسكات عديله ووقف حملته على ضيفه فما نجح، وساء ذلك ماري فأغمي عليها.
وكان لماري صديقة اسمها فدوكي تعمل ككاتب في محل تجاري، فرأى بها الخواجا حنا قوة عظمى من القوات المتجمعة على مرشحه بطرس، فكاد للمعلم إميل وعطل سمعته فقتله تجاريا وسد بوجهه أبواب الرزق، وسعى في فدوكي فعزلها من وظيفتها لظنه أنها تدبر الأمر لماري وإميل، فتمرض فدوكي ويشير الطبيب بإرسالها إلى كاليفورنيا، فيؤثر الجميع العود إلى لبنان ويعودون كلهم: ماري وأبوها وأمها، وفدوكي وأمها، والمعلم إميل، ويتوجهون إلى الأرز بطريق حامات فيرى إميل أمه والراهب «ظلانور»، ويسير الموكب إلى الأرز ولكن الأرز لا يحيي الموتى، فتسوء حالة فدوكي وتوصي ماري بإميل.
وبعد أيام يلحق بهم الراهب وأم أميل فتنحل عقدة الرواية حين وصولهما فتكون فدوكي أختا لإميل، وتفصيل الخبر أنه كان لأم فدوكي بنت غرقت في الباخرة مع أبي إميل، وسلمت أخت إميل الصغيرة - فدوكي - فأخذتها هذه المرأة على أنها بنتها؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش بلا ولد كما اعترفت، وإبراء لذمتها أشعرت أم أميل بالأمر، وكأن هذا التعارف أثر بفدوكي فشعرت بدنو أجلها فقالت للراهب: باركني يا أبتاه! فمد الكاهن يده ليباركها والجميع يبكون بكاء مرا حولها، فعلا نعيب الغربان في أعالي الشجرة: قاق قاق ، واجتمعت بكثرة على المجتمعين تحتها، فنظرت فدوكي إلى أعالي الشجرة وقالت بهدوء: «أتيت، أتيت.»
وبعد شهرين يقترن إميل بماري لابسين ملابس الحداد على فدوكي. •••
تسير القصة سيرا لينا وخطتها واسعة، فكان الكلام فيها كالثوب المفصل على القد، ولكن هذا الراهب الذي افتتحها واختتمها فكأنه لم يكن في أولها إلا ليشهد آخرها، ويبارك الصبية على فراش الموت، مع أن الحل من الخطايا - في الكنيسة الأرثوذكسية - يجوز بعد الموت، وليس وجود الخوري ضروريا كعندنا، وإلا هلك الميت إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، أما نعيق الغربان فوق الرءوس فما استطعت تحليله إلا هكذا: كأن الغربان رأت في ثوب الراهب ما يغريها على التجمع فتجمعت، قد يكون أوحى إلى فرح هذا السرب من الأغربة التشاؤم اللبناني بحضور الخوري إلى بيت المريض، كما أنهم يسمون الموت غراب البين، وهي عقيدة موروثة مع ما ورثنا من خرافات، أما قول فدوكي للأغربة: أتيت أتيت، فيشبه أسطورة أمية بن أبي الصلت الذي علل نفسه بالنبوة، ومات بحسرتها حانقا على النبي، ولا شك أن فرح أنطون قرأها.
قلت إنه جاء بالراهب في آخر الرواية ليحضر الدفن ويجنز ويأخذ «الجزو»، أما في أول القصة فسخره فرح ليشجب الحياة الرهبانية بلسان أحد أفرادها، ولا يفل الحديد إلا الحديد ولا يقطع الشجرة إلا فرع منها كما يقول المثل اللبناني.
ذم فرح بلسان الراهب حياة الكسل التي يعيشها الرهبان، ودفع الشابين إلى المهاجرة والكسب، أما هذا الاسم الغريب الثقيل ظلانور فيلوح لي أن المؤلف نحته من ظل ونور، وعندي أن وجود هذا المحترم فضولي في القصة كما هو في غيرها.
في الرواية شخصيتان بارزتان؛ فريد مدبر العرائس: فهو طيب الحديث لولا فصاحته وبلاغته، ولولا أنه أفلت من شق قلم فرح نحويا يلوك لسانه، والخواجة حنا: الذي يمثل اللبناني المهاجر أصدق تمثيل، فهو جبلي كما كان قبل الهجرة، لم يتظرف ولم يتكلف مضغ الكلام، فحواره وتفكيره وحركته ومشيته لبنانية محض، لم ينس شيئا من آثار محيطه الذي عاش فيه ونشأ، فدخوله على المدعوين في بيت عديله، وسلامه عليهم وسؤاله حالا: أين مريمنا؟ ثم صراحته الصارخة، كل هذا يدلك على أن الرجل لبناني عتيق، لا يروقه حتى التلفظ باسم ماري، فلولا الخواجة حنا وفريد لكانت رواية فرح هذه تصلح لكل محيط، لا يدلك شيء على أن أشخاصها من اللبنانيين المهاجرين إلى أميركا، فماري وأمها وأبوها متأمركون، وكذلك فدوكي وأمها.
يفهم فرح الفن القصصي فهما صحيحا، والدليل على ذلك لباقته في المأزق الحرج فإنه يحسن الفرار، أراد أن تتمثل فتاة ببيت للمتنبي فقال: «ولو كانت تعلم الفتاة هذا البيت:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
لرددته.»
يشبه عمل فرح هذا ما فعله الشدياق في مقدمة فارياقه العجيب؛ إذ قال معتذرا عن حديث امرأته فيه: «فإن قيل إنه - أي الشدياق - قد نقل عنها ألفاظا غريبة غير مشهورة، لا في التخاطب ولا في الكتب، فلا يمكن أن تكون نطقت بها - أي الفارياقية - قلت: إن النقل لا يلزم هنا أن يكون بحروفه وإنما المدار على المعنى.» (5) الدين والعلم والمال
فرح أنطون كاتب اشتراكي محموم، حرارته دائما فوق الأربعين، والميكروب إذا افتتح بلدا كان أقوى وأفتك، كان فرح من هذه المبادئ التي تشغل الدنيا في هم مقيم، وتلك مزية المصلحين الذين يحملون البشرية على ظهورهم، عرف هذه المبادئ في الكتب فصح فيه قول الشاعر: والأذن تعشق قبل العين أحيانا، جاشت نفسه وفارت كالقدر، ولو لم ينفس عنه القلم لانشق، كان جو الشرق كالقطب الشمالي فصيرته أنفاس فرح صالحا للاستيطان، وأشرقت شمس المعرفة فأوت الوطاويط إلى خرائبها تنتظر الغروب كالأجير، ولكنه لن يأتي، وما هذه الغيوم المعترضة إلا سحب صيف ستكنسها ريح الشمال.
رأى فرح أن تكون القصة معرضا لآرائه الهدامة، فنحا نحو قصصيي أوروبا الاجتماعيين الذين أحبهم، أما «الدين والعلم والمال» فليست قصة مبنية على الطراز الفني، ولكنها قضية عظمى ألبسها فرح ثوب القصة، فتنكرت فيه كما يتنكرون في السهرات، يدور موضوعها حول الربين: الله والمال، وليس فرح ممن يعبدون الأخير، ولا ممن يتكلون على الأول اتكالا مشينا للعقل، شالا للفكر.
يتناول الكتاب الدين والسياسة بالبحث العميق، والناس في الدين والسياسة قسمان: واحد يهذر ويخرف في منطقه، وآخر يأبى أن يتعقل، فالذي نسميه مبادئ ليس أكثر من ميول قوية عنيفة لبست براقع نظريات كذابة خداعة؛ لأن الحياة كالله واحدة فقط، أما نحن فنصفها بما يبدو لنا، أقول: الحياة حلوة، بدلا من أن أقول: وجدت الحياة حلوة، وبالعكس، فبين «فكر» و«شعر» هوة أعظم من التي قال عنها يسوع في مثل «الغني والفقير».
إن ذواتنا كفلك فيه نجوم منظورة ونجوم غير منظورة، وهناك نجوم سديمية لم تدر بعد على ذواتها دورانا وافيا لتكتمل، وفي هذا الفلك أيضا شموس قريبة وشموس بعيدة، وفي أعمق ذات الإنسان أسرار قد تبديها «الانقلابات» كما تكتشف الزلازل أرضا جديدة.
كان فرح كهذا الفلك، ولكن نجومه لم تكمل، وشموسه احتجبت صلاة الظهر.
كان من محبي الحقيقة، ومحبة الحقيقة واجبة قبل أية محبة أخرى، ولكن البحث عنها بإلحاح يحول دون الحصول عليها، وكثيرا ما يسبب إنكارها، ناهيك أن طلبها بعنف قد يؤدي إلى السفسطة والعناد، فاستنطاقنا الحياة وفحص معاني الأشياء السرية يعرضها للإبادة، إن ما نسميه اليوم فضائل سيكون الكثير منه بلا جدوى، والمبادئ الأدبية الرئيسية التي تدعم الحياة الحاضرة ستهدم وتقضي الحياة تحت الردم كأولاد أيوب.
إن مرض المعرفة آكلة تلتهم السعادة البشرية وتشل أجساما كثيرة، قال آراسم
Erasme : «يأكل البدوي لحمته النتنة كأنها عنبر، بينا أنت لا تطيق رؤيتها، فمن هو على حق؟»
الحقيقة إذن أن تكون سعيدا، وما المعرفة التي ذاق غبها فرح إلا غذاء يقدم للنفس ليس أكثر، وبكلمة أوضح هي غذاء تقدمه النفوس الكبيرة للنفوس الصغيرة بلا ثمن، وفي العقول أوهام تولد وأوهام تموت؛ لأن الأوهام الضرورية للحياة تتبدل وتتغير إذ يكبر العقل، فليست أوهام الفيلسوف كأوهام الرجل العادي، ولا أحلام الشاعر كأحلام القروي، فالأوهام والأحلام لا تفارق الإنسان.
وليست هي التي تتغير بل مادتها، فتبنى على أسس جديدة، نحن لا نشك أبدا أن العلم سيضع - إن لم يكن وضع - التخوم الفاصلة بين الأرض والسماء؛ أي بين الله والدنيا، ولكن ماذا يحدث؟ يصح فينا إذ ذاك قول الشاعر:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
إن الدنيا كلها تختفي تحت برقع الرياء والطمع، وأحسن عمل فيها يسبب الخجل، وليس فيما حولنا ما يستحق احترامنا الكامل، وليس في أنفسنا ما يحب، فلجة شهواتنا عميقة، ثائرة أبدا، ومدها وجزرها يعملان كالقلب، ليل نهار.
كيف رأيتني؟ أما تفلسفت كثيرا اليوم؟ فالمعذرة يا أخي، من حضر السوق باع واشترى، إن هذه القضايا التي لا تحل، هذه المعضلة التي مات لأجلها يسوع، واضطهد محمد، وشقي موسى وبوذا، هي التي شغلت بال أديبنا فرح أنطون فتشنجت أعصابه حتى التوتر، وتهور قلبه الكبير، ففي كتابه «الدين والعلم والمال» أراد إصلاح المدينة التي بناها «الشيخ سليمان» فلم يقدر، فعمل بها عمل الله في سدوم وعمورة، كما زعموا وبنى على أنقاضها مدينة «الرفق والإخاء».
إن مكان مدينة «الدين والعلم والمال» غير معروف؛ لأنها من استنباط فرح، أما تخطيطها فهكذا كان، كما روى شيخ قرية «الدخول» لحليم النازل عليه: «اشترى الشيخ سليمان - سيظهر أيضا هذا الشيخ في أورشليم الجديدة - هذا السهل الواسع الذي أمامنا، ومساحته 5000 فدان، وأسكن فيه فتيانا وفتيات من طبقة الرعاع، وأحضر لهم زراعا وصناعا يدربونهم على الزراعة والصناعة،
1
وأقام لهم حكومة، وسن لهذه الحكومة قوانين ... إلخ (ص3) فغدا حليم - هو فرح بعينه تظهر لك صفاته في صفحة 4 و5 و6 - إلى المدينة ومعه رفيقه، فرأى مدينة المال كبيروت، أو أعظم مدينة رأيتها أنت، وفتش فيها عن فتاته ذات الحلة البيضاء التي رآها في الطريق، فما وجدها في مدينة المال، وتقدم فرأى مدينة العلم كمصح بحنس: هدوء شامل وصمت رهيب، أما مدينة الدين فهي كما قال أعمى المعرة:
قس يعالج دلبة
والشيخ من حنق يصيح
ويجول حليم في المدن الثلاث، فيلتقي في الحديقة العامة بمن يعرفونه، فيدعونه لجلسة المساء العامة بين رجال الدين والعلم والمال، فيحضر ويحمى الجدال والخصام بين العمال والرأسماليين، وبين رجال الدين والعلم، ثم يستتب النظام فتدرس مشكلة العمال وأرباب الأموال، فيعرفنا فرح بكارل ماركس - أرأيت كيف سبق فرح زمانه؟ فأين بلاشفة البلد يكرمون واحدا اعتنق القضية يوم كانوا في أحضان أمهاتهم - وينادي بمذهبه في ذلك الزمان، فيقول زعيم العمال ما قاله ماركس: إن معامل الأمة ومصانعها ومتاجرها وأرضها هي من مرافقها ومنافعها كالأنهر والأبحر والهواء، فعلى الأمة أن تتولى إدارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها - أي إن تجعل الحكومة نفسها التاجر الكبير» (ص19).
ثم ينذر فرح بثورة العمال (سنة 1903)، وقد تحقق حلمه الذي رآه، ولكنه لم يخل من مرارة الخيبة الممزوجة بالرجاء.
وينتصر رجل العلم للعمال، فيناهضه رجل الدين، ويتناطحان حول تنازع البقاء وبقاء الأنسب، فيستشهد فرح بنيوتن الضعيف ضد مذهب القوة الذي أذاعه حين عرف نيتشه، أو حين تغيرت أحلامه وتبدلت أوهامه كما قلنا. وفي الحوار بين رجال العلم والدين يندد فرح بزنمات في الدين يجب قطعها، كما يرى فيه أشياء نخرة يجب ترميمها، وأخيرا يتراءى له أن الكمال البشري ممكن دون الدين.
ويشتد الخصام والجدال فتخضب الجلسة بالدم، ثم تعقد ثانية وتختم بتسعة بنود نصها شيخ العلماء إنصافا للعمال، وفي أحدها وضع الضرائب على الدخل (ص42)، فقامت قيامة الرأسماليين، وبدسيسة منهم علق إعلان يحرض الشعب؛ فيثور وتحترق المدينة، فنجا حليم ورفيقه بسلم صنعاه من ستائر الفندق وسجاده، وتشارك الطبيعة البشر فتثور الزوابع وتنقض الصواعق، ويلجأ حليم ورفيقه إلى شجرة يتذريان بها من المطر والبرد، وينظران إلى خراب المدينة العظمى.
وهنا تظهر الفتيات الخمس راكبات، وفي وسطهن حسناء حليم ذات الحلة البيضاء كئيبة حزينة باكية، فيلاطفها حليم وبالاختصار يتزوجها، ورفيقه يتزوج أختها، وأخواتها الباقيات يجعلهن فرح أوفر حظا من بنتي لوط؛ فيستقدم ثلاثة من أصدقائه ليكونوا أزواجا لهن، ويعيد بنيان المدينة على أسس الرفق والإخاء.
لأمر ما جعل فرح الفتيات خمسا، أما أنا فما وفقت إلى فك هذا اللغز، وإلا فلماذا سلمن خمستهن وهو يعلم أن هذا غريب، أيعارض بهذا قصة لوط وبنتيه وولديهما من - أبيهما - موآب وعمون ؟
ومهما اجتهدنا تظل حسناء حليم أختا للمحترم «ظلانور »، ملزقة تلزيقا كالشوارب التي كنا نصنعها صغارا تشبها بالرجال، يوم كانوا يحلفون بشواربهم.
لا نعرض لهذا الكتاب بالنقد القصصي، فهو ليس قصة كما قلنا وكما يعترف فرح، ولكن خاتمته - إن كان قصة أو لم يكن - غريبة عجيبة لا تصدق، وإن رأينا لها شبيها في التوراة فما عند الله ليس عند الناس، والذي صنف قصة التوراة أخرج لوط وعائلته الكريمة قبل أن أحرق المدينتين بالنار والكبريت.
وبمناسبة الكلام عن هذا الكتاب نقول: لو عاد فرح ورأى ما نحن فيه اليوم لعقدنا وإياه مناحة يبلغ الجو خبرها، بل لم يجر مثلها اليهود على أسوار أورشليم.
ليت عينك ترى يا فرح، فالوطن عندنا هو الدين كما جاء في أورشليمك (ص147)، إن سياستنا في أيدي رجاله، صاروا ولاة أجسادنا كما هم أولياء النفوس، فعلينا العمل بقول بولس الرسول: أطيعوا مدبريكم واخضعوا لهم كأناس يؤدون حسابكم.
كان الدين صنم العالم أمس، أما اليوم فصنمه العلم، فباسم العلم والتمدن تستعمر الشعوب الضعيفة، أما في لبنان فباسم الدين غرقت البلاد في «الطائفية»، وأقرب الناس إلينا وأدراهم بنا يحسبوننا همجا يقضي عنا «رعاتنا» بالأمر، يمجدونهم لأجلنا وعلى حسابنا، إن مجد الله يكفيهم، فنحن نطلب العمل النافع لا هذه السخرية المبهمة والضحك الصامت.
طلبت كثيرا للشعب يا فرح، أما الشعب فشعاره: القناعة كنز لا يفنى، إنه لا يطلب إلا البركة والدعاء وملكوت الله وبره.
انتظروا هذا الملكوت، فلعله يأتيكم. (6) الوحش الوحش الوحش
أو سياحة في أرز لبنان بقالب رواية فلسفية اجتماعية أدبية، هكذا عنونها فرح ودفعها إلى القراء، وملخصها:
تاجر من صيدا اسمه متى حاروم جاء بيروت وعظم شأن تجارته فيها، فتزلف إليه تاجر صغير اسمه لوقا طمعون، فأطلعه على أسراره التجارية، فانقلب الصديق مزاحما لئيما فكسدت تجارة متى وأفلس، ويئست بنت متى لأن أباها افتقر، ولوقا جفاها بعدما عللها بالزواج، فألقت نفسها في البحر، فأنقذها شاب من تلامذة بيروت الجامعيين صوري المنشأ.
وأحبها الشاب وأحبته ولكنها رأته فقيرا مثلها، فهاجرت تاركة له كتابا تسأله فيه أن ينساها، فساء يعقوب نكرانها الجميل واشتد به العشق فجن.
أما متى أبو إميليا، فقنط إذ لم يبق له بيت يستره، فاختفى عن الأبصار، وهام عاشق إميليا - يعقوب درمان - في البلاد على وجهه، وعرفه الناس باسم مخلوف.
أما إميليا فتزوجها في أميركا غني عظيم - المستر كلدن - فعاشت سعيدة لولا ذكرى أبيها التي لم تكن تفارقها، وجعل زوجها جائزة سنية لمن يأتيه بخبره فخاب الرجاء.
وحنت إميليا إلى وطنها لبنان، فجاءت وزوجها إليه، وأبت أن تمر ببيروت هربا من الذكريات المؤلمة فكانت خطة الموكب: طرابلس - الحدث - الأرز.
وعرف لوقا طمعون بقدوم المستر كلدن المثري الأميركي الشهير فحدثته نفسه بأن يكون معتمده في الشرق، فكتب إليه يسأله ذلك، فاستشار زوجته فما وقعت عينها على رسالة لوقا طمعون حتى اقشعر بدنها وبكت أمر البكاء، وجاء لوقا طمعون ليقابل كلدن في الأرز فكان مشهد غريب، عرفه مخلوف المجنون - يعقوب درمان - فانقض عليه فهشمه تهشيما، وحضر أيضا متى حاروم - ملك رأس القضيب - وفي يده بندقيته، فعرفه مخلوف، وصاح بصوت كالرعد: «متى حاروم، حنا جاروم، جئت في وقتك، وفي يدك بندقيتك، انظر صاحبك لوقا طمعون.»
فأطلق متى بندقيته فخانته، فألقاها واتكل على باعه وذراعه يعاونه مخلوف.
وكان في الأرز جماهير وفدت لتحضر يوم كلدن - يوم في العام يوزع فيه هذا الغني آلاف الدولارات، أراد عمله في الأرز حبا بزوجته اللبنانية - فقبضوا بعد جهد على المجنونين وحبسوهما في كنيسة الرب.
أما لوقا طمعون فتجلد وأصلح من هندامه ما استطاع ودخل على المستر كلدن، وبعد جدال عنيف بين إميليا ولوقا وكلدن حول الشهادات التي جاء بها لوقا إلى المستر، اختصر كلدن الحديث بقوله: «هل تريد أن أجعل أحد خدامي يجلب مثلها - بينها شهادة رئيس ديني كبير - بعشرة ريالات فقط يا مستر لوقا؟ جئنا بشهادة شرف واستقامة من الخواجة متى حاروم في صيدا.»
فاغتم لوقا وقال: «إن متى حاروم مخفي وزوجته ماتت، وابنته الطائشة فرت وتركته.»
فانتفضت مسز كلدن لهذا الكلام، وحاول لوقا أن يخرج فأخذه كلدن بعنف وقال له: مستر لوقا! اجث ، اطلب العفو من مسز كلدن ابنة الخواجة متى حاروم.
فانتصب لوقا المقهور مدافعا عن نفسه زاعما إن لم يتعد المنافسة التجارية، التي بها نفسها تغلب كلدن على الأسواق، وختم كلامه بقول غوت: إلى الأمام ولو فوق الجثث.
فلم تبال إميليا بحججه وبراهينه وأمعنت في إهانته، ثم ترقرق دمعها لذكرى أبيها فقال لوقا: أنا أعرف مكان أبيك، وسأجيئك منه بالشهادة المطلوبة، فدهشت وصاحت: قل أين؟ فأملأ فاك درا، فقال: الآن في الأرز.
فخرج الجميع تتقدمهم إميليا، فرأت أباها المجنون مقيدا في الكنيسة، فشفي حالا حين رآها، ووزع هو عطايا «يوم كلدن»، وعفا عن لوقا طمعون الذي سار مع موكب كلدن، وترك مخلوف الشقي تهيجه الذكرى، ثم سيق إلى دير «قزحيا» المستشفى البلدي للمجانين.
أما بسط فرح لخطة قصته ففيه شيء كثير من فن القصصي المطبوع ولباقته، وللقدرة على غرس المبادئ جعل فرح الكلام على لسان شابين متعلمين كليم وسليم، سفرهما من قلحات قبل الفجر بكثير فتحدثا عن الجداجد التي سمعا صوتها في الليل - لا أدري إذا كانت تغني قصائدها في الدجى - وجعلا يخطئان لافونتين، فسئم المكاري وغضب على جواده غضب سليمان حين فاتته الصلاة، فأدرك الشابان خطأهما وسألا المكاري لماذا اختار هذه الطريق، فحدثهما عن خصام أهل قلحات وفيع بسبب تشاتم الأولاد.
وينعس الشابان فيغني المكاري الحنيانا والميجانا ويا دوم حالي يا دوم، فينشط الراكبان ويعجبان بهذا الأدب الساذج الرفيع الذي يمثل الأمة وحبها العنيف، وتطلع نجمة الصبح فيناجيها الرفيقان متفلسفين.
ولاح لهما دير حماطورة مع الشمس، فكان حديث طويل عن الحياة الرهبانية، يخطئها كليم ويصوبها سليم، ودخل المكاري في القضية شخصا ثالثا خائفا على جواده إذا ظل كليم يجدف على الرهبان، فيتراخى كليم ليغلب سليم، فيسر المكاري ويأمن عثار الخيل.
وبلغوا عين السنديانة فأخذ رجل معتوه مجلة إنكليزية من الخرج بلا استئذان، وقرأ فيها حادثة غرامية، فطوى المجلة وأعادها قائلا: كلهن سواء، وردد:
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا
وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
وأغمي عليه فأسعفوه فأفاق، ولم يعرفوا من أمره إلا أنه مجنون اسمه مخلوف، وتركاه على أن يلاقيهما إلى الأرز، وسارا إلى الحدث، فدخلاها والأهالي في جلبة وضوضى، يريد واحد أن يكري بيته من بروتستانيين قدموا إليه، والضيعة لا تريد، وينتهي الأمر بقبولهم؛ لأن أبا مرعب وهو من الذين حاربوا مع يوسف بك كرم قد أراد ذلك، ويتعرف كليم وسليم بالأميركيين، فإذا هم طلائع حاشية المستر كلدن لا مرسلون بروتستان كما توهم موارنة الحدث.
ويبيت كليم وسليم عند صديق لهما مسلول، وهذا أيضا من ضحايا لوقا طمعون، وفي الغد يذهبان إلى الأرز فينامان في العراء، ويعوي الذئب فيطير النوم، ويصبحان فيطلبان الصيد في ذلك الوعر، فيضلان في الجبل ويسقطان في واد صغير، وتنطلق بندقيتهما فتجيبهما أخرى ويصرخ صوت: الوحش الوحش الوحش.
ثم يقبل شبح كالوحش رافعا بندقيته في الفضاء إنذارا لهما فسلما، وتعارفوا فسألاه عن تاريخ وجوده في القفر فأجاب: منذ تكوين العالم.
واستغرب كيف لم يصدقاه، وحاولا كشف سره فاستحلفاه بأولاده، فغضب أشد الغضب، وذكرا له الله فخر إلى ذقنه، ثم انتصب وأخبرهما أنه في هذا القفر «يكون العالم الحقيقي، الذي يسود فيه الخير والصلاح، وأن أصل الشر الوحش الذي في الإنسان.»
وتم له ذلك بمعونة الله، وأنه سمع صائحا يقول: «لقد انتهى»، ويلوح ذئبان يقتتلان على رابية، فيعدو إليهما ويصرعهما ويجرهما إلى كوخه، ويقول لضيفي مملكته: «كلاهما معتد فأرحنا المملكة منهما.»
فأدرك كليم وسليم سره وسألاه لماذا لا يذهب إلى المدن؟
فغضب وقال: إني لا أقدر على جميع الوحوش التي فيها؛ إذ ليس لي غير يدين ولا أقدر أن أمسك بهما أكثر من بندقية واحدة، لا تصدقوا أنني ولدت هنا بل إنني ولدت في المدن وعشت في المدن، ولكن الوحوش فيها أكلتني وطحنتني ففررت منها، ولكن لا بأس ستأتي نوبة المدن، وحينئذ أدخل إليها بإذن الله دخول المنتقم لله من وحوشها الضارية (ص50).
أظنك عرفت الرجل، هو متى حاروم، ملك رأس القضيب، أبو إميليا الذي أنقض مع مخلوف على لوقا طمعون في يوم كلدن. •••
على القصة مآخذ شتى، لا يعنيني إذا كان حشاها فرح فلسفة اجتماعية ممكنة ومستحيلة، فهذا هدفه الأدبي، والمرء لا يساق إلى الهدف.
ولكن فرح أنطون أغرب جدا في الاستنباط، وكان أعظم من الله في «الخلق»، فرجل مثل متى حاروم - ابن ثغر نشأ على سيف البحر وفي صيدا الحامية كالتنور - لا يستطيع أن يحيا في رأس القضيب شهرا واحدا فكيف بالسنين! فهذا ما يعجز عنه ابن بقعكفرا وهي أعلى ضيعة في لبنان، الوحوش ترحل عن تلك الأرض في الشتاء لتشتي بالأقاليم المعتدلة، فهل يستطيع تاجر مرفه كمتى هذا أن يعيش هناك كما وصفه لنا فرح: «فعلما - أي سليم وكليم - أنه رجل أضاع صوابه لظلم أصابه؛ فبرح بلدته وأقام في تلك الجهات المقفرة، وهو يعتقد أن الله ولاه عليها لمحو الظلم والشر، ثم يملكه المدن لاستئصالهما منها أيضا، وقد افتقد كليم وسليم كوخه ومعيشته فوجدا أنه يعيش في أسوأ الحالات، ورب يوم لا يتناول فيه غير كسرة خبز أسود يصنعه من دقيق يعجنه ويشويه على النار، أو قطعة من لحم الوحوش المعتدية التي يصطادها، وكان يمر عليه في زمن الثلج والشتاء عدة أيام يظل فيها مخبوءا في كوخه الحقير، لتراكم الثلج عليه في ذلك الجبل، وكان قد تعود احتمال البرد كالحيوانات، فإذا ذاب الثلج زحف من كوخه وخرج على الثلوج يسير زلقا لا مشيا كأنه سائح فوق ثلوج القطبين» (51).
قرأنا عن سليم وكليم أنهما لم يطيقا برد جبل الأرز صيفا، أفلا تكون الحياة في الشتاء معجزة المعجزات؟! وقول فرح «وكان قد تعود احتمال البرد كالحيوانات» لا يجعل الأمر ممكنا، ولكن الأستاذ أراد أن يتبع خطة ديماس، فأغرب كبونسون دي ترايل.
أما شخصية مخلوف المجنون الثاني فأجاد في خلقها كل الإجادة، كمخلوف أبرز أشخاص القصة، طبيعي في كل شيء، في حواره وتفكيره، وحركاته وسكناته، ونفسيته وحكماته، ومشهده مع حبيبته، حين رآها في الأرز من أروع المواقف.
وقد لحظت في هذه القصة وفي أورشليم الجديدة إجادة فرح في تصوير المعتوهين وإنطاقهم، وتركه هذا المجنون يطوف في البلاد واقعي جدا في أرضنا، وهذا ما عرفناه عن المجانين، وليس في حديث مخلوف وأطواره أدنى غرابة، فقد رأينا بأعيننا وسمعنا بأذننا معتوه حمانا، فيلسوف الشاغور، يكتب آياته على الصخور بالقلم العريض، بل بالفحمة الغليظة، وأبرزها قوله: من خلق علق، إنها لحكمة جموح يتمنى الفلاسفة الكبار أن تكون لهم.
كان اجتماع إميليا بأبيها قريبا من التصديق لولا هذا الجو الذي وضع فيه متى حاروم، يتراءى لي أن فرح أنطون أحب الأرز حتى العبادة، فأراد أن يجترح فيه عجيبة تصديقا للتسمية، أفليس هو أرز الرب؟
أما بقية الأشخاص فطوع قلم فرح، وإن تعقد الحوار أحيانا، ففرح ابن مدينة أراد أن يصف أطوارا قروية رآها مرة أو مرتين - وهذا لا يكفي - فجاء عمله أحيانا مطابقا للواقع وأحيانا لا، ففي الحوار ما هو جيد كقول كلدن للوقا طمعون: أنا لا أحب كثرة الكلام يا مستر لوقا، فإذا شئت أن تكون وكيلا لأشغالنا فجئنا بشهادة شرف واستقامة من الخواجة متى حاروم.
فعندي أن استعمال «مستر» للوقا وخواجة لمتى فيه تدقيق وفن، وكذلك قول إميليا للوقا: يا ظالم، تخرب بيته، وتميت زوجته، وتهرب ابنته، وتبيع منزله وتمحو آثاره ... إلخ.
ثم بالعكس قولها له بعدئذ: «قل فأملأ فاك درا» فهذه نابية، وكان على الأستاذ أن يقول: «فمك» بدلا من «فاك» على الأقل، فهي أقرب إلى حديثنا من تلك.
وأشنع من هذه سؤال كليم للمكاري: هل ظهر نجم الصباح يا جرجس؟ فأجابه المكاري بأبشع: سيظهر بعد نصف ساعة على الكثير، والأرجح أن الشمس تشرق لنا عند بطرام، فيقول كليم: فلنعجل إذن، فإننا نروم الوصول إلى الجبل قبل اضطرام وطيسها فرارا من الحر. فوطيسها تركية في أذن المكاري اللبناني، ومثل هذا قول كليم أيضا لرفيقه سليم: هل نركب يا سليم، فإن مطيتينا حاضرتان، ولنلبس ملابسنا أولا.
فكيف غفل فرح عن هذا وهو يعلم أن في الحوار كل جمال القصة، وهناك طفيليات علقها فرح كالقراد في جسم قصته، كبعض حكايات من العقد الفريد، لا يتسع المجال لسردها كلها، وفي الحدث يقلد فرح الشدياق ولكنه لا يوفق، يقول المستر كلدن: يس يس سنأمل يوم كلدن في الهرز، يعني: سنعمل يوم كلدن في الأرز (ص53)، ثم في اليوم الثاني يرينا المستر كلدن فصيحا كأنه بدوي لا لكنة ولا رطانة.
وكذلك تمثل لوقا طمعون بقول غوت: إلى الأمام ولو فوق الجثث. فتعريف فرح له لا يؤهله للتفوه بهذا الكلام السامي، فنفسية دنيئة قذرة كنفسية لوقا لا تتعالى إلى هذا الأفق، فالخائن دساس جبان يطعن في الظهور لا في الصدور، فلو قوله كلمة عربية لأفصح العرب كان الخطب أهون، وجاء الكلام أقرب إلى الفن، وأرى كما رأيت في اسم ظلانور أن لفرح ولعا باشتقاق خاص لأسماء أبطاله مثل حاروم وطمعون ودرمان، فإنها تأتي كريهة وإن دلت على شيء.
أما تخلص فرح في «المأزق الحرج» فإليك في هذه القصة شيئا منه، يشفى متى حاروم حين يرى بنته، فيعلم فرح أن ذلك مستحيل لا يصدق فيقول: «ولم يدون علم الطب شفاء كهذا» (64).
أما سير القصة فسريع نحو النهاية سرعة المسافرين إلى الأرز، وهذه حسنة من حسنات القصص، أما غاية فرح الاجتماعية فتحققت إذ سرد آراء كثيرة في كل فن ومطلب، حتى كتب صفحتين عن السل (32 و33)، وقد وطأ لهذه الآراء كلها أحسن توطئة، فلا تشعر أن المؤلف يقصدها إلا حين يعلم المكاري الديمقراطية، فيأبى بعد قليل أن يسقيه، ولو لم يبرطله بقنينة عرق لما فعل.
إن جعل فرح محيط قصته في وطنه يدلك على معرفته أن القصصي لا يخلق قصته في مكان لم يعرفه، ولكن كلامه عن غوغاء الحدث وتخاطبهم بيا ابن طنوس ويا ابن مرقص ويا ابن ... بدلا من الاسم، فهذا لا يكون إلا نادرا وللتحقير.
في القصة مبادئ كثيرة عرضها فرح بلسان أشخاصه وأحسن عرضها كما قلنا، وقلما تخلو صفحة من حكمة، وفي القصة فصول رائعة كالفصل السابع، وموقف إميليا وكلدن ولوقا، ومخلوف في ساعة الرحيل كما قلنا، أما العفو عن لوقا طمعون فتولستوي ، وأظن أن غرابة «العقدة» نست القراء هذه القصة الطيبة، وجعلتهم لا يذكرون لفرح إلا «أورشليم الجديدة» رائعته الكاملة، فإلى اللقاء في القدس والمجدل. (7) أورشليم الجديدة
تلخيص القصص قتل للفن، ولكن الناقد كالجراح، فلا غنى عن البضع أحيانا، وفتح البطن حينا، فعلى من يعنيهم الأمر أن يقرءوا النص المنقود ليدركوا الجمال الذي يسقط تحت الردم، ويروا الأعضاء مركبة متناسقة، لا أشلاء على وضم.
إن أورشليم الجديدة أبعد آثار فرح شهرة، وأكثر القراء يذكرونه بها، ولو طول الله عمر «مريم قبل التوبة» لفاقتها، ولكنها ماتت ولم تبلغ الرشد.
علم فرح أن سقوط مملكة الروم وتقلص ظلها عن سورية كان أول أسبابه تلهي القوم بالقشور الدينية، فبنى قصته «أورشليم الجديدة» على هذا الأساس.
ورأى أيضا أن القصة بلا حب وغرام كالطعام المسلوق، وهو إن غذى فلا يكون شهيا، فوضع من هذه التوابل ما قدر عليه، فدارت قصته حول فتاة يهودية أسماها إستير تيمنا بإستير أحشوروش، ولكنها ماتت مقهورة، وجدت هذه الفتاة مع أبيها في بيت لحم ليلة عيد الميلاد سنة 636، وانطفأ مصباح كنيسة المهد، فترك النصارى المعيدون مباحثهم الدينية وثاروا يطلبون اليهودي؛ لأن وجود يهودي في بيت لحم يمنع المصباح أن يشتعل، فيهزأ بخرافتهم شاب مسيحي اسمه إيليا، فيقبضون عليه ويشبعونه ضربا ولطما زاعمين أنه يهودي، فتهرع سيدة نبيلة اسمها تيوفانا إلى معتوه يلقبونه النبي أرميا، فيخلص إيليا من الغوغاء، فيشكره إيليا ويمضي مفتشا عن الذي حرض عليه، فيلتقي بإستير وأبيها اليهوديين خارجين من بيت لحم، فيضحك لصدق وهم العوام ويتبعهما ليخلصهما من الاعتداء، فيلتقي بجماهير قادمة إلى بيت لحم؛ إذ بلغهم انطفاء القنديل، فيعترضون البنت وأباها على أنهما يهوديان، فينتصر لهما إيليا مدعيا أنهما نصرانيان ويرسم إشارة الصليب، ويفعل مثله أبو إستير، أما البنت فتأبى ذلك فيتمسك الجمهور بها، فيقول لهم إيليا إنها وثنية من بصرى؛ لأن الوثنيين أحب إلى قلب النصارى من اليهود؛ إذ ليس بينهما دم وثأر، فتصر الجماهير على تعميدها ويفرحون بهداية نفس بشرية يوم العيد المبارك، وحينئذ يطل موكب البطريرك تتقدمه المشاعل والمصابيح، فينتظر الجميع الموكب، فيأمر البطريرك بسوق البنت وأبيها إلى بيت لحم رغم مساعي إيليا لديه.
وأعاد إيليا الكرة في بيت لحم فلم يفلح أيضا؛ إذ قطع البطريرك الكلام بقوله: قد يكونان جاسوسين للعرب، ولكنه أمر بعزل الفتاة في دير الراهبات ولم يعمدها.
وبينا القوم لاهون بهذه الترهات والسفاسف، بلغ البطريرك اقتراب العرب من المدينة، فقدس مستعجلا ليعود إلى أورشليم قبل أن يدهمها العرب.
وبينما كان البطريرك وحاشيته مشغولين بالعرب، كان كيريه إيليا يزحف على الدير متسلقا جبل الزيتون ليرى ما حل بإستير.
أما سبب حب إيليا الفجائي لإستير فهو أنه رأى منذ سنوات واحدة مثلها مع أبيها في يافا فأحبها، ولكن حبه مات جنينا فبعث اليوم حيا، وهناك سبب آخر قوي وهو تأثير التوراة وتاريخ يوسيفوس، فقد أرت قراءتهما إيليا أن اليهود معاصريه بقايا أمة عظيمة، حلت قوة نفوس نسائها وجمالهن مشاكل كثيرة في التاريخ.
وفي جبل الزيتون اجتمع إيليا بالملقب بالنبي أرميا في كوخه قرب أرزة صهيون، فشكر له صنيعه؛ إذ أنقذه من الغوغاء، وكان أرميا حانقا في تلك الساعة على الإمبراطور لتركه المدينة المقدسة بلا حامية، وسماه المسيح الدجال، فكاشف إيليا بفكرته العظيمة وهي تحرير السوريين من نير اليونان الذين يحكمونهم دينيا، فهو يرى أن يقف السوريون من العرب ويقيموا بطريركا سوريا، فيخطئه إيليا ويحدثه عن إستير، فيظهر له أنه عارف بدخولها الدير، فيحتال إيليا ليوجه أرميا في سبيل مآربه ثم يتركه قاصدا دير الراهبات، فلا يرى إستير بل السيدة تيوفانا، فتخبره أن إستير فتاة عنيدة بكت وأغمي عليها حين رأت صليبا في غرفتها، فسألها أن تسهل له مقابلتها ليقنعها فرفضت، وهل يخفى أمر بسيط كهذا على عانس كتيوفانا؟
وفيما هما مشغولان بالحديث إذ بأرميا يهرول ويصيح: وصل العرب.
هذا ما كان يجري حول الدير، أما في أورشليم فالبطريرك والوالي في خلوة يتشاوران، فدخل عليهما بدوي غساني يحمل أنباء العرب، وفي تلك الساعة المشئومة جاءت أم تيوفانا وأبو إستير خائفين على ولديهما، فتأفف البطريرك وقال: العذراء تحمي ديرها.
وعاد أرميا إلى كوخه وذهب إيليا إلى المزرعة (مزرعة الشيخ سليمان)، وهنا يقص فرح سيرة بطله إيليا، فأمه نذرته لله وأخذت تخبز له كل يوم أرغفا يوزعها على الفقراء، فيدعو له أولئك أن يصير بطركا، ثم جاء أحد علماء القسطنطينية ورآه يفعل ذلك فقال له: ستكون بطريرك أورشليم الجديدة، ودخل إيليا الدير حين شب، ورأى يوما أسقفا يلطم راهبا في القداس فاستعظم فعله، واجتمع بالراهب ميخائيل على الجبل حيث واعده، فأفرغ هذا الراهب الآبق جعبة آرائه الدينية والاجتماعية في نفس إيليا فنفره، والحديث طويل سماه فرح «الخطبة على الجبل»، أول الخطبة مبهم ككلام الأنبياء («يا بني ... إلخ.» ص41)، وموضوعها البحث عن أعمال رجال الدين ومخالفتها للإنجيل؛ إذ عاد رجال الدين إلى الحالة التي حاربها المسيح، ولو ظهر اليوم لاضطر أن يصلب ثانية.
وأطرى الراهب ميخائيل النسطوري النبي والعرب، ثم رأى أن يصيب الإسلام ما أصاب المسيحية بسبب المئولين والمجتهدين، وأن إصلاح الهيئة الاجتماعية بواسطة الدين لا يمكن أن يتم إلا إذا عادت الإنسانية إلى طفولتها، وعندئذ يلزم نبي جديد للإنسانية الجديدة (ص45).
أما ميخائيل هذا فراهب كان يجمع الصدقات للفقراء، فأشاع الناس أنه يخبئ المال في الغابات، فعاف عن هذا العمل وانصرف إلى الحقول يشتغل مع البائسين، فخطط قرى عديدة فاتهم بأنه يسعى لرفع نير الكنيسة، فحبس في الدير للوعظ فقط، ووعظ يوما فكفر وطرد، وأخذه قائد في جيشه، وبعد الحرب والظفر أسس مزرعة - كما في «الدين والعلم والمال» - وأخيرا يبشر ميخائيل تلميذه الجديد بديانة «الرفق والمحبة والصفح»، وتطلع الشمس فيذهل ميخائيل ويتعجب ويخر ساجدا لها - مشهد فولتيري - وتنتهي الخطبة فيتمشى ميخائيل وإيليا، حتى إذا بلغا المزرعة رحب الشيخ سليمان بإيليا بعد ما عرفه، وبشره أنه سيرث ميخائيل في أورشليم الجديدة أي المزرعة.
وبعد حين مات ميخائيل فعزم الشيخ سليمان ألا يكون إكليريكي في مزرعته، وقال للشعب: اقرءوا التوراة والإنجيل ونظفوا قلوبكم وهذا يكفيكم، فقالوا: ومن يعمد ويكلل ويجنز؟ فأراد سيامة إيليا كاهنا فأبى ا .ه.
هذه حكاية إيليا قبل أن عرف الشيخ سليمان، وخبر إيليا سليمان عن بلوغ العرب القدس، وقص عليه خبر بيت لحم، فغضب سليمان وقال: كان على البطريرك ألا يساير الشعب، فإن كان الرجل جاسوسا حبسه وأطلق البنت.
ولم يستطع إيليا الرقاد في المزرعة، فعاد إلى جوار الدير وجلس على أكمة في الظلام يقرسه البرد الشديد، وقرب نصف الليل انسل إلى الدير فسمع زفيرا وبكاء، الراهبة تحدث إستير لتقنعها ببقاء الصليب في غرفتها، والبنت تصر على إخراجه فتخرج الراهبة غضبى، ويدخل إيليا فترتاع البنت، وتعلم أنه موفد من قبل أبيها فتهدأ، وتخرج معه من الدير وإذ تراها وإيليا وحدهما تفزع.
ولكنها تمشي وتهب العاصفة، فيحاول إيليا حمل إستير - كما في بولس وفرجيني - فتأبى، ولكنها تسمح له بأخذ ذراعها فيأخذ اليسرى، وهنا يشرح لنا فرح أنها جهة القلب.
ويحضر أرميا في تلك الساعة فيحملانها برداء إلى كوخ النبي أرميا، وبللهم المطر فذهب أرميا إلى المدينة ليجيء بملابس ناشفة وفرس، فتخبر الفتاة إيليا أنها من مصر وأنه شاعت نبوءة أن السلطنة ستصير إلى أناس مختونين، فجاءت مع أبيها وأمها المقعدة التي تريد أن تموت بجانب هيكل سليمان.
وسار بالفتاة راكبة إلى المزرعة، فسلمها الشيخ سليمان إلى بناته، وفي الغد ذهبت وإيليا إلى الحقل فخبرها أن المدينة في حصار، ولقاء أبيها صعب، فحزنت وأقبل عليهما أرميا يخبرهما عن التفتيش عن إستير.
وفي جلسة أخرى في الحقل أيضا، ثار جدال عنيف بين إيليا وإستير حول المسيح والدينين الموسوي والعيسوي، انتهى بتقبيل إستير للصليب - بعد ذاك الفزع - وكاشفها إيليا بحبه قرب قبر الراهب ميخائيل معلمه.
وساء أرميا استئثار إيليا بإستير دونه، فأخذ يحوم كالغراب حول المزرعة حتى جاء يوما يناقش إيليا الحساب، واقترح أخيرا الاقتراع عليها فضا للمشكل، وترى إستير في تلك الليلة حلما فتبكي بكاء مرا: رأت أنها جاثية أمام المصلوب، فدخلت أمها وراءها الكنيسة وقالت لها: أهكذا تتركيننا يا إستير؟
ولم ينم أرميا على الضيم فغر إستير، ففرت تاركة رسالة إلى إيليا تسأله أن ينساها، ويتبعهما إيليا باحثا عنهما فيأسره العرب، وكذلك أسرت إستير ولكنها تركت طليقة حرة ، وسعت لفك إسار أرميا الهائج في محبسه فأفلح سعيها، ودرى أرميا بأسر إيليا فقال للعرب: شددوا عليه، هذا أخو الإمبراطور، ولكن أبا إستير أنقذه.
وتدل الشئون على أن أبا إستير جاسوس للعرب، فيتذكر إيليا كلمة البطريرك فيتنازع قلبه: الحب والوطن، فيذهب لمقابلة البطريرك ويشير عليه بالتسليم لعمر بن الخطاب كما نصح عمرو بن معد يكرب، فيأتي عمر - كما نص التاريخ - ويتسلم المدينة من البطريرك صفرونيوس، ويرى فرح أن فتح القدس كان بلاء على الشرق كله («فيا أورشليم استعدي ... إلخ.» ص128).
وتنتظر إستير عودة إيليا فلا يعود، ويتخاصم عليها ابن معد يكرب وضرار، فيبدو عليها نحول وهزال يحملان أباها على ترك معسكر العرب.
ودخل عمر القدس فكان أبو إستير دليله، فجاء إيليا رسولا من لدن البطريرك إلى عمر، فمر أمام إستير فصاحت وامتقع لونها، ثم يجتمع إيليا بها فيتصارع الحب والدين في قلب إستير، والحب والوطن في قلب إيليا، ويتساءلان عن صحتهما، فإذا هما كالجاحظ عليلان في مكانين، وتعتب إستير على إيليا لذهابه بلا وداع فيتنصل، ولكن أرميا يصيح من الخيمة: هذا كذب.
ويتغافر إيليا وأرميا فتعلم إستير أن إيليا تركها؛ لأن أباها جاسوس دنيء فيغمى عليها، ويطلب إيليا معاقبة أرميا على فعلته هذه فيصيح أرميا بجنون: أنا لست منكم، أنا عرب عرب ... لقد صرت مسلما ... إلخ.
واستدعى عمر إيليا فجاءه كاسف البال، ودله على قبر المسيح ليدخله ويسلم على روح الله، ثم على مكان الصعود ففعل، وطلب منه أن يحدثه عن أسباب سقوط المملكة فاعتذر إيليا تاركا هذا للشيخ سليمان، فجيء به وقص عليهم تاريخ هرقل وحروبه مع الفرس، وبين لهم أسباب ضعف السلطنة.
وعرضت في هذا الحديث مسألة خطيرة وهي حال الإكليروس، ومداخلة الدين بالدنيا، ومداخلة الدنيا بالدين والانشغال بالقضايا الدينية عن تدبير الملك، وصرف الشعب إلى ظاهر الدين، وإنه كلما شغف الشعب بهذه المظاهر زادت سلطة الإكليروس عليه، فدلنا تحرج فرح على عصره.
وبلسان سليمان تنبأ فرح عن مصير الإسلام وملك العرب، فاضطرب عمر والسامعون من القواد والأمراء، وانتهى الحديث فمشى عمر وأخذ يسأل إيليا: هل يعلمكم إنجيلكم كذا، وهل يعلمكم كذا ... إلخ، فيجيب إيليا: لا، ويقول خالد: يا سبحان الله.
وبعد هذا الكلام يبكي عمر فيصيح أبو عبيدة: ما أبكى أمير المؤمنين؟ فيزداد عمر بكاء ويقول له: «يا عامر قد سمعت من إيليا الشاب ما هي شريعة الروم، وسمعت من الشيخ سليمان كيف خرجوا عنها، فأنا أخشى أن نخرج عن شريعتنا في مستقبل الزمان كما خرج الروم فيصيبنا ما أصابهم»، وينتهي قول فرح بيا ... ويا ... كعادته.
ويقبل أرميا رسول الخير، مخبرا إيليا أن إستير في خطر، وأنه يتنازل له عنها بشرط أن يخلصها؛ لأنها تحبه، وأن البطريرك يطلب إيليا لهذا الأمر، فذهب إيليا وقابل البطريرك فكلفه ذلك، فذهب إلى بيت لحم حيث ابتدأت القصة، فرأى أبا إستير ينتظره، وكان حديث، فحلل هذا عداءه للنصارى؛ إذ لم ير أي عار في تجسسه لأعداء من خربوا مملكة أورشليم.
ودخل إيليا على إستير فرآها منهوكة ضعيفة، فتشددت وتعزت، ولكن وطأة الحمى التيفوئيدية كانت أشد فقضت بعد أن دفعت إلى إيليا شيئا، وأوصت أن تدفن في مزرعة الشيخ سليمان قرب قبر الراهب ميخائيل، ولم يصف لنا - كعادته في المأزق الحرج - لوعة أبطاله في تلك الساعة بل ترك لنا ذلك.
واختلى إيليا بعد الدفن، وتذكر الهدية فإذا هي دفتر مذكرات إستير، فقبله وقرأه بالبكاء والنحيب، ثم ذهب لزيارة قبر إستير فرأى أرميا منبطحا عليه ...
وانتقل المرض إلى إيليا فأخذ يهذي باسم إستير، وفي الساعة التي كان يتهيأ فيها عمر للرجوع إلى الجزيرة، كان أرميا الجديد يتلو مراثي أورشليم لسميه القديم، وينقل فرح أكثرها؛ إذ يراها منطبقة على حالة الفتح.
وبعد أيام يموت إيليا ويدفن بين قبر إستير ومعلمه ميخائيل وتختم الرواية: بيا أيتها القبور الثلاثة ... إلخ.
هذا ملخص القصة، بل هذا هيكلها العظمي، فالمتروك منها كالبشرة التي فيها الرواء والأبهة، فليطلب الفن محبوه في القصة كاملة، أما نحن فسنشير إلى الحسن والقبح في فرح القصصي.
عندما ظهرت هذه الرواية الخطيرة انتقدها الشيخ سليم خطار الدحداح من الجهة الدينية فقال: إن فرح فيها يعتنق الاشتراكية التي دعا إليها أفلاطون، وانتقد أيضا كلام إيليا لإستير اليهودية: «لا تتركي الحواجز الصناعية التي يضعها البشر تحول بيني وبينك»، وانتقدت جريدة الظاهر كلمة «الميكانيكية»، فقالت: إنها لم تكن في ذلك الزمان، وانتقدت جريدة «المنارة» المؤلف؛ لأنه لم يعرف أرميا والشيخ سليمان إلى قرائه، وانتقدت «المقتطف» اعتماد فرح على الواقدي - تاريخيا - مع أن الواقدي أقرب إلى القصة منه إلى التاريخ، وانتقدت أيضا أن في الرواية «نصائح وحكم تشف عن لوم صاحبها الدنيا»، فدافع فرح عن نفسه فكان ذا حق، وإن كانت لهجته شديدة في رده على شيخ المجلات المحترم.
ولئن أطلنا البحث فالعذر بين، إن فرح أنطون عميق، وأورشليم بعيدة القعر تغذي الفكر وتروح المخيلة، وهي مؤسسة على صخور الوجدان في قاع البناء الإنساني والحياة الحقيقية، وإذا لم تكن فيها عجائب وغرائب ألف ليلة وليلة ففيها المسألة العظمى التي تشغل بال الشرق كله.
قال فرح في مقدمة أورشليم الجديدة إنه عني «بجمال التأليف»، وإن نهضة أوروبا قامت على حب الجمال في الصنائع والفنون؛ لأن الجمال الحقيقي لا ينفصل عن الخير والحق، ثم أدرك عباس محمود العقاد هذا - طبعا بعد فرح - فراح يبشر في مقدمة «فصوله» بألوهية هذا الثالوث الأقدس في عالم الفن.
افتتح فرح أورشليم بخطبة المدخل التي وجهها إلى «بنت صهيون»، فدل على الموضوع وجمال التأليف معا حيث قال:
إن حمامة الروح السماوية قد طارت من بين جدرانك، فهلا استعدت روحك لتحيا بها نفسك ويؤهل منزلك، هلا نظرت بإخلاص ونزاهة إلى مرضك؟ إنك لم تريدي يا ابنة صهيون، فهو ذا جراح وخصم شديد قادم نحوك، ولكن وا أسفاه، إن سكينه ليست نحيفة بل هي عبارة عن سيف قوي، ومع السيف رمح ونبلة وترس وجواد عربي.
إن الدنيا تتمخض الآن بدين جديد وسلطنة جديدة، إن رمال قفار العرب قد تحركت يا ابنة صهيون، وزحفت نحوك قاصدة الدنيا كلها.
إن أبناء إسماعيل الأقوياء خرجوا لملاقاة بني إسحاق الظرفاء، ولكن ملاقاتهم كانت للاقتتال على سلطنة الأرض، كأن هذه الدنيا الواسعة تضيق عن أخوين كريمين، سدوا آذانكم أيها البشر، فإن أرضكم ستصير ميدانا للحروب والمجازر.
فيا أيتها الأمم المختلفة التي تقوم وتسقط وتتطاحن كحبوب الحنطة تحت الرحى، عليك أن تقولي: «المجد لله في العلى»؛ لأن الله خالقنا عظيم، ولكن لا تقولي: «وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة»، فإن الأرض ليس فيها اليوم غير السيف والنار، وليس بين البشر شيء يسر، بل السائد بينهم الفساد والاضطراب والبغض والشقاء والدمار.
فالشعر الذي هو «جمال التأليف» بعينه منتشر في أورشليم فرح انتشار الشرايين في الجسد، والخيال الذي هو أبو الفن وواهب الوحي والقياس للفنان كما قال بودلير، والخيال الذي يصور لنا الحياة بأبهى الألوان حتى يجعل المداس «شعريا»، الخيال الذي يحفظ للحب الذي فسد عطره الإلهي - كما في مريم فرح، وسلمى ومرتا ووردة جبران - يعزي عن يأس القلب والجسد ويحقق ظفر الروح.
الخيال الذي لا يضل؛ لأنه منبثق من الحقيقة انبثاق الروح القدس من الآب والابن، هو ملاك أورشليم هذه، ففرح القوي الخيال، المغذى بالقراءة الدسمة، خلق إستير أورشليمه مزيجا من أتالا وفرجيني، فكما حال «النذر» دون أتالا، كذلك حال الدين دون حب إستير، وماجريات القصة وما حدث في الطريق - من الدير إلى كوخ أرميا - أشبه بما جرى لفرجيني وبولس، ولكن فرجيني فطرية وإستير بنت تقاليد ضيقة وعقيدة صارمة أقلقت الدنيا ولا تزال، أما حمل إستير في ثوب كما يحمل النعش فغريب مضحك، يشبه تنبؤ الشيخ سليمان عن مصير ملك العرب، الذي يشبه «نبوءة التبعي الملك اليماني» في قصة الزير، ولو كان فرح حيا لقلت أكثر من هذا.
إن فرح أنطون مبتلى بحمى رومنتيكية أوقدت نارها القروح الاجتماعية، فعالج موضوعا واحدا - ككثير من كبار قصصي العالم - لذلك تشابهت أبطاله في ملامحها ومشاكلها، فأرميا ومخلوف توأمان، والمزرعة في «أورشليم» وفي «الدين والعلم» واحدة، ومؤسسها واحد هو الشيخ سليمان الذي هو فرح أنطون بعينه.
أما خطة القصة فيديرها فرح كقائد محنك يعرف كيف يربح المعركة الفاصلة، يسير جيوشه زحفا، أما إذا عثر بحجارة القضايا الاجتماعية فيقف ويطيل الشروح، ويثير أبحاثا عنيفة بين أبطاله تكاد تملها لولا أسلوبه الحي واندفاع قلمه المحموم، وعاطفته المتقدة الصادرة عن قلب مقروح، فإذا كنت تقرأ لتتسلى فعليك بغير فرح، تأخذ المؤلف نوبة الوعظ ولكنه وعظ حار غير مملول، ولا عجب ففرح قصصي عالج المسائل العظمى كتولستوي وغيره في «أورشليم» روايته هذه، وفي رواية «الدين والعلم والمال» و«مريم قبل التوبة»، والمسائل الصغرى في «الحب والوحوش»، وإذا جاءت عقدة الوحش كعقدة الإسكندر، فعقدة أورشليم أنشوطة - شالوطة - أما الخيط فيمسكه فرح ولا يفلته حتى النهاية، وقد يتركه معلقا - كما في الحب - ثم لا يغفل عن صغيرة مهما دقت فيعود بك إليها.
إن قصصه جميعها وخصوصا رائعته «أورشليم» غنية جدا بالأفكار، ولكنها أفكار كردستها المطالعة، وإعجابه بكل جديد.
رأى فقر الأدب العربي في زمانه فكان كمن دخل مخزنا كثيرة أصنافه وأنواعه فتحير؛ ولذلك جاءت قصصه معرضا «أمميا»، فكل المسائل التي دوخت رأسه - كانحطاط الشعوب في الدين والأخلاق والسياسة - آثارها في أورشليم - وأورشليم سبب كل علة - ولهذا جاءت بعض شخوصه حية كأنك تحدثها وتراها - إيليا، أرميا، البطرك، إستير، خالد، عمر - وبعضها تشعر بنقلها وأنها ليست بشرا بل خيالات وأشباح كأبي عبيدة، فشخصيته «باهتة» أما الباقون فبين بين، فأرميا وإن حضر كل ساعة كذاك «الذي يبقى وحده» في سفر أيوب ليحمل بشائر النحس إلى ذاك الصديق المبتلى، فحركاته طبيعية، وهو أهبل حلو يذكرني بكثيرين من الموسوسين.
يصور فرح لواعج أبطاله تصويرا بارعا، فهو خبير إلى حد بعيد بالتفاعل الداخلي، كما يظهر من وصفه انقلاب إيليا، ولكن الوصف المشهدي قليل عنده ولا سيما في أورشليم التي جاءت كصورة جميلة بلا إطار، فقارئ لم يزر القدس يجهل ساحة حرب أبطاله، أظن فرح أن كل مسيحي يعرف القدس وبيت لحم، وكل مسلم يعرف المسجد الأقصى والصخرة؟ أم ترك للمسيحي أن يتخيلها كما يتخيل المسيح؟ أم توهم أن بعض رسوم طبعها في أول الكتاب تقوم بحاجة القارئ الملحة، وتستر عورة الفن ؟
هب أن هذا ممكن فأين تقع المزرعة وهي من مشاهد القصة الكبرى؟ فوصفها الوجيز المبهم يطابق لبنان لا فلسطين، «يظهر لكل من تأمل الأرض الجبلية القحلة الجافة في النواحي، أن صاحب المزرعة أتى ضروب المعجزات ليجعل تلك الأرض صالحة للزراعة» (ص68).
إن أورشليم الجديدة رواية غنائية في أسلوبها الذي يرتفع وينحط، عملية واقعية في تفكيرها، أما مأساتها فمبتذلة، ولكن البشرة التي نشرها فرح على هيكلها جعلتها زينة بين عرائس الأدب، عالج فيها مسألة خطيرة جدا، مسألة الرهبان، فجاءت كأنها كتبت عنا، ولا يشين فرح أن آراءه فيهم مستعارة من منتسكيو، فالجماعة هم هم قديما وحديثا وفي كل زمان ومكان، عشق فرح المثل الأعلى عشقا جنونيا وحاول إصلاح الإنسانية بعنف، فصار نصحه تحاملا وتوبيخه صراعا، وكما حمل يسوع خطايا العالم - كما قالوا لنا - حمل فرح آلام المساكين ونصب نفسه وكيلا مسخرا، وإذا لم يجد من يصلبه صلب نفسه.
ففرح كاتب يمثل عصرا بل شعور شعب أثقل ظهره الكتبة والفرينسيون بالأحمال الثقيلة ولم يحركوها بإحدى أصابعهم، فبينما يكون أشخاصه منهمكين في الحب، إذا به يحولهم إلى شئونه وشجونه؛ ولهذا تراه لا يمتزج بهم ولا يتحد الاتحاد الكلي المطلوب من القصصي الكامل، إنه يحب التغلغل في أحشاء الماضي مفتشا عن «الكمال» الضائع بين الأمس واليوم، فالذي يطلب من رجال الدين ألا يتحولوا كالذي يطلب من الفضة ألا تتسخ وتزرق، فالنخالة نخالة دائما.
إن كتاب أورشليم عراك بين فرح الخارجي وفرح الداخلي، تردد نفسه أصداء محيطه الموبوء، أحسن فيه فرح تقسيم شخصيته بين كثيرين، فهو إن لم ينطق العرب كما ينطقون فالسبب معلوم، وحسبه أنه وضع في أفواههم آيات وكلمات جامعة تدلك على أنه يعرف نفسيتهم؛ ولهذا تحرك أكثرهم تحت قلمه، أما حديث البطريرك مع إيليا فجميل جدا، وكأنما فرح إكليريكي عتيق يحسن كلام هؤلاء ويفهم روحهم وحركاتهم وإيماءاتهم، وكذلك حوار إيليا وأرميا في مواقفهما جميعها.
إذا نظرنا إلى آراء فرح على ضوء اليوم، بدت قليلة الطرافة، فهو فيها كخوري ماروني درس في روما وباريس ، ثم عاد إلى لبنان فرأوه جديدا، فما مبادئه إلا انعكاس أضواء، ولكن النور حاد لحدة طبع المؤلف وإبائه العبودية، ففي تعنيفه نغمة الإنجيل وتهديد التوراة.
يعلم فرح - والدليل مقاله في القصة - أن على القصصي أن يفتش عن موضوعه في محيطه، ولكن ميله إلى القضايا الاجتماعية واعتقاده أن الإنسانية هي هي في كل مكان وزمان أرجعاه إلى الوراء عشرين قرنا، فنصب مسرحه في محيط لا يعرفه تماما، كما فعل شاتوبريان وغيره من كتاب الغرب؛ ولهذا خسرت أورشليم فرح كثيرا من الجمال الفني، فالمسرح لا يتصل اتصالا وثيقا بالأشخاص، وقياس فلسطين على لبنان إن صح إجمالا فهو لا يصح تفصيلا.
وقد رأيت أن فرح أنطون يتعب في آخر الشوط أسلوبا، ولكنه لا يني خطة، فيسوق جماعته إلى الكمين سوقا رويدا.
أما الأسلوب فتارة يكون فيه رسميا - من المجترين - فيقول: والشمس أنقى من مرآة الغريبة، وذر قرن الغزالة، وشنشنة نعرفها من أخزم، وهلم جرا، وطورا - وهذا قليل - يأتيك بتعابير شخصية تدل على لبنانيته، وأحيانا - وهو الأكثر - يدل على تأثره بالفرنسية، أما بعض الألفاظ الدينية فمستعارة من «البعث» التي لخصها، مثلا: كيرياليسون، يا رب ارحم، وحياة العذراء، وكذلك رسم الصليب والحلف باسمه.
وقد يستعير مشهدا قرأه فيجعله لآخر قوله (ص63) ومن غرائب الاتفاق أن الشمس أطلعت قرنها في هذه اللحظة حين سكت الراهب - إن حادثا بسيطا كهذا، والشمس كل يوم تطلع، لا يستأهل «ومن غرائب الاتفاق» - فوثب الراهب وقال: «هلم هلم نشهد مطلع الشمس، تبارك الخالق»، فهذا الاندهاش لا يكون من مقدسي كميخائيل يشهد الشروق كل يوم، فهو إن صح لفولتير لا يصح لهذا الشرقي المحترم، كما أن «هلم هلم» ليست من كلامه، ولكن «تبارك الخالق» تستر بشاعتها.
يعجبني هذا الراهب الفالت ويعجبني حديثه في «خطبة الجبل»، وإن أصدر علينا حكما قاسيا فقال بلسان الإمبراطور: «هذا شأن السوريين، فإنهم متى حكموا أنفسهم كانوا أقرب إلى الجور منهم إلى العدل، لكثرة تحاسدهم وتنافسهم، ولعدم وجود جامعة قوية عادلة تساعد الجيد فيهم وتخذل الرديء» (ص60).
وأعجبني أيضا كلام الشيخ سليمان عن الرهبان، وإن رأيت آراءه أكبر منه: «لا تنس أن الرهبان في مملكتنا، كانوا في أكثر الأحيان أقوى من رؤسائهم، لتحريكهم الشعب عليهم، وكم حالوا دون إصلاحات مهمة بهذا السبب الصغير؛ ولذلك كانوا قادة الشعب ضد الأساقفة والبطاركة والموظفين حتى ضد الإمبراطور.»
قلت: فمن يشك بهذا فليسأل تاريخ لبنان، وبطريرك الموارنة وأساقفتهم.
وكذلك رأى سليمان في الوطن فقد قال: «إن الدين عندنا هو الوطن، بل الدين عندنا فوق الوطن وفوق كل شيء»، فقوله هذا يصح فينا أمس واليوم.
وأبرز عيوب قصص فرح ظهور شخصيته فيها، فهو ملقن عريض الصوت لا يسكت ولو أعطيته ما أعطى الله عبيده؛ ولذلك أتت قصصه قريبة من الدروس والمحاضرات في بعض المواضيع، فهو يترك القصص حين يستطيع ويمشي في الاستنتاج هاتفا: «يا ويا ويا حتى لم يدع مكروب الحمى التيفوئيدية بلا «يا»، وكذلك ملاك الموت الذي خطف روح إستير.»
أما «الخطبة على الجبل» فهي مجموعة آراء فرح الاجتماعية وإعجابه بالعلم، ولكنه عاد في آخرها إلى المعلم الجليل، وحب مبادئ يسوع خلق أكثر أبطال فرح من الخيرين يكررون نظرياته في كل قصة، وقد يكررونها في القصة الوحيدة، غير أن مؤلف أورشليم أمين لا يسرق ولا يشتهي مقتنى غيره، ولا يفعل بالناس ما لا يريد أن يفعلوه به؛ ولهذا نسب كل رأي إلى صاحبه، ولكنه وا أسفاه لو عاد اليوم لقال مع الإمام علي: أرى تراثي نهبا. (8) مريم قبل التوبة
لا ألخصها لأنها غير كاملة، فيها أدق وصف للعراك الداخلي في نفس المومس، وأحوالها الخارجية مع الذين يزورون دكانها ليشتروا من بضاعتها الهاربة، وفيها رأي السذج بهذه المرأة وخوفهم من الدنو من بيتها؛ لأن فيها سبعة شياطين نقدا وعدا، كما خبرنا الرسل الأطهار، أنطق فرح الراعي بذلك فجعله من الخالدين، وفيها الحديث الراقي بين مريم وزوارها المثقفين، وإن قل حظ سنيكا الفيلسوف الروماني منها؛ فلأنه جاءها وقت نوبة سوداء، أما أسلوب القصة وإنشاؤها فأروع ما أنتجته قريحة فرح.
يظهر أن ذات الجمال الفتان مثقفة، والبرهان تلك الرسوم الرائعة التي صورها بها الفنان، فهي تهيج الخصي كافور الإخشيدي وتصير الخلي شجيا، فإن وضع فرح في فمها آيات بينات فلسان المجدلية يحملها بسهولة، فالتي تعطي وتأخذ كأم سيبويه لا يصعب عليها ما قالت دفاعا عن قضيتها، أما جاءها الشاب يوسف وبكى متأسفا على جمالها الممتهن، واعتذر لبكائه بذكرى أمه، فأدرك كنهه عقل مريم الحصيف فراودته، ولما صرح كانت أخف من النسيم ودعته إلى الزواج فتلعثم ونكل، وما هذا في نظري إلا توطئة لعذر المسيح لها غدا، ولكن الرواية لم تتم.
إن مسرح رواية مريم هذه ومسرح رواية أورشليم واحد، أما المبادئ فمتناقضة، والمرجح أن المؤلف كتب أورشليم قبل قراءة نيتشه، ولولا ذلك لما حشر مبادئه في قصة مريم، إن نيتشه تيه فرح أنطون فأذاع مبدأه العنيف، وهدمه في ساعة بحث بين مريم وشاب روماني، ولم تتم القصة لنرى رأي فرح الأخير الذي «أبقاه إلى ميعاده» كما مر، ولكنني أعتقد أن المعلم صفى الحساب في خطبته عند شلال نياغرا التي تسوى كتابا خالدا.
وبعد، فإننا نشعر بأن الكثيرين من أبطال فرح هم أخوة الكثيرين منا، نشترك معهم الاشتراك الكامل، ومتى رأيت في البطل عدوا أو صاحبا كان مخلوقا خلقا سويا، كملاك الرب حين تمثل لمريم العذراء، إن هذا «الاشتراك» جوهر القصة الفرد، والقصصي المطبوع يلبس لكل حالة لبوسها كابن همام الحريري، وهذا ما فعله فرح، فرأيناه بطريركا جليلا وفيلسوفا كبيرا، وبهلولا لامعا وعاشقا حاميا، وهو في كل هذه المواقف يجيد إجادة متفاوتة.
تخلق الطبيعة عوالم تموت، أما عالم القصة فلا يموت ما دمنا نقرأ، ومثلما ينبغ أفراد في العالم كذلك يكون في عالم القصة، وهذا ما وفق إليه فرح الذي لم يغفل عن حل أكثر قضاياه كما يفعل القصصي الأصيل، وإذا شئت أن تعرف لون فرح فخذ حفنة من تولستوي ونيتشه وسيمون وروسكن ورنان وامزجها يبد لك لون فرح أنطون .
أما لغته فسهلة سلسة لم تخل من الغلط النحوي واللغوي، قد يكون سببه ذهول فرح وسرعته، أما رأيه في الكتابة فهو ينبئك به عني، وهذا ما كتب:
وعلى ذلك فحقيقة البلاغة ليست في قواميس اللغة وكتب الأدب ليذهب الطلاب ويفتشوا فيها عنها، فمن لا يملكها في نفسه فعبثا يطلبها في الكتب، فإنها حسناء ذات دلال، لا تسبى إلا مرة واحدة وذلك حين نزول الإنسان من جوف أمه، فالبلاغة إذن حسن فطري باطني أي نفسي، كما أن جمال الوجه حسن خارجي.
إلى أن يقول:
ويعلم حينئذ الذين ينسبون إلى اللغة العربية القصور عن مجاراة لغة الإفرنج أنهم ظلموها بذلك؛ لأن القصور هو في أسلوبها البدوي القديم الذي لا ينطبق على حاجات العصر لا فيها نفسها؛ لأنها لا تخرج عن كونها لغة سامية رقيقة يعبر بها عن كل العواطف الجميلة، متى هجر ذلك الأسلوب وحل محله الأسلوب الذي يسمونه إفرنجيا، وهو في الحقيقة طبيعي أزلي؛ لأنه سبق الإفرنج واليونان والرومان ووجد الإنسان في أول بلاغته (الجامعة، ج4، ص314 و315).
وأخيرا إننا نشكر فرح أنطون كثيرا، فقد أمضينا وإياه أكبر حصة من الصيف، فأرحنا الكثيرين من شرنا فصيفوا مستريحين.
لقد كانت سياحتنا عجيبة، إذ رأينا في تلافيف ذلك الدماغ الكبير عجائب غرائب، وها نحن نودعه راجين أن نلتقي مرة أخرى، وهيهات.
حول جبران ومي
(1) بين عين كفاع وعاليه: «الأندلس الجديدة - العصبة - أبو الهول - كراتشوكوفسكي - جبران الخالد»
عدنا فهل من يقول العود أحمد؟
كتب علي كل عام خطوتان، بل رحلتان: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وإن لم أعبد رب البيت الذي أطعمني من جوع وأمنني من خوف؛ فلأنني أراه يمنيني بما لا يعنيني، فهو لي كابن يقطين بشار، أريده للدنيا وراحتها، ويريدني يوم الدين للدين، ومن لج كفر، فلو زوجني بنته هذه لمهرتها من الغلف والقلف أكثر مما مهر شاول بنت داود الملك والنبي التائب!
ويلي إن شكوت وويلي إن سكت، أنا بين ويلين كهريرة الأعشى، لقد صمت مكرها خمس جمع، ولو ذات سوار لطمتني للذ لي اللطم، وكانت المصيبة هينة، ولكنها - أجلك الله - تعسة دابة، حطمت الآلة الكاتبة، ورضت لي أضلاعا، فدوختني أياما، وإليك الخبر :
بتنا على سفر فالتأم مجلسنا - مجلس القرية - للوداع، وكان الحديث، ذاك يقول للمكاري: هذه آخر مرة يا بطرس يركب دابتك الأستاذ، وذاك: غدا؛ أي بعد أشهر، تزمر سيارته في الوطا وتشق الضيعة فينزل قدام الباب، غدا ... غدا ... وكلنا:
نرجو غدا وغدا كحاملة
في الحي لا يدرون ما تضع
ثم كان الوداع الحار: بوس، وشد أيدي حتى حسبتنا نتصارع، وأخيرا هونها الله فمرت تلك الساعة بسلام.
ثم أصبحنا والأتان مربوطة أمام البيت تامة الكسوة، حلس فبردعة، ومفرشة تحتها خرج في إحدى عينيه الآلة الكاتبة، وفي الأخرى ما يعادلها من متاع، فالأثقال كالطائفية تتطلب التوازن.
مشت غزالة - اسم الحمارة - وكان العهد بها فارهة؛ لأنها غير عانس، فإذا بها تتلكأ، إن جذبت رسنها وقفت، وإن أرخيته اصطكت ركبتاها، فقلت لبطرس: أيش مصيبة دابتك اليوم؟!
فأجاب: خيسها سقوط الليرة أكثر من خمسين بالمائة، خذ حذرك، ظننته يهزل كعادته فقال: ما لك؟ ما نسينا أيام الحرب.
فسكت وسرت وأنا على يقين من أن الحمارة ساجدة شكرا لله على حملها الخفيف، ولما أسهلنا أخذت تنتق بي، ثم طفقت تنطق من خلف كحمارة الجاحظ، فضحكت وقلت لرفيقي: إنها تكذب بطرس.
فسمعها بطرس وضحك قائلا: يا ليت ...
وبعد سير قليل شرعت تحيد عن الطريق وتمشي في الحقل - والحقل عندنا كما علمت خير من السكة - فتذكرت أتان بلعام الفصيحة، حين قام صباحا وشد عليها وانطلق مع رؤساء موآب، فحمي غضب الله ووقف له ملاك الرب في الطريق، وسيفه مسلول في يده، فمالت الدابة عن الدرب مرارا حتى وقف ملاك الرب في مضيق، فربضت الدابة تحت بلعام، فحمي غضب بلعام كربه من قبل، وضربها بالقضيب، ففتح الرب فمها، وكان حديث بين الأتان وبلعام يدل على أن الحمارة كانت من كبار علماء المنطق وأصحاب البحث العلمي، اقرأ هذا الحوار في سفر العدد (الفصل 22)، وإياك أن تنسى أن الملاك قال لبلعام : لو لم تمل حمارتك من قدامي لكنت قتلتك واستبقيتها.
أما أنا فلم يقع لي شيء من هذا، ولا أذكر من هول تلك الساعة إلا أنني سمعت هاتفا يقول: فلتحي المساواة، ولتعش وزارة النافعة! •••
سبحان من عرى صيفي وجعل خريفي مورقا، كيف أطلعني «أحد المعجبين» على مجلة «البرازيل المصورة»، فزادني قرفا للأدب العربي ما خلا اليسير منه، كانت سياحتي فيها كوجود أحمد فارس الشدياق في مالطة؛ حيث قال: «ومن يكن من العرب ذا غيرة على لغته فلا يطيق أن يسمع الكلام المالطي على فساده.»
ومع كل ما تحلت به البرازيل المصورة من ركاكة، أقول إنني قرأت تقريظا لها في الأندلس الجديدة والعصبة وأبي الهول.
صار الكلام في شعرنا البلدي - شعر المناسبات - ضربا من العبث، كان في نيتي أن أحدثك باختصار عما قيل في مأتم المتنبي بدمشق، فوجدت القصائد متقاربة، فقس على ما قيل وما لم يقل، واعذرنا فقد تناولنا المتنبي وحفلاته العديدة أكثر من مرة، فالحمد لله على سلامة لحيته من النتف مرة ثانية، ولكننا لن نعفي أحدهم حين تصل إلينا قصيدته الثانية، التي هجا بها أمة علمته «مدرستها الجديدة» أدبه الذي يعتز به ويحمد عليه، أما الآن فإني محدثك عن «أندلسنا الجديدة» عن أدبنا في البرازيل.
فليلة سفرتي البلعامية حمل إلي صاحب البريد مجلة «الأندلس الجديدة»، وما بلغت عاليه مطحطحا حتى وردت علي مجلة «العصبة» وجريدة «أبو الهول» فتعزيت، وهكذا أورق خريفي كما قلت لك، ثم بعد أيام فرحني كتاب «عابرة سبيل» الصادر عن بروكلين، فأنساني بعض أوجاعي.
الأندلس الجديدة مجلة مجلوة كالعروس ليلة زفافها، حسن نفسي في جمال جسدي، فلو رأتها ولادة لضاحكت بين جداولها حبيبها «المسدس» وتذاكرا معا شعرها الرائق مبنى ومعنى، شعر تنزه أكثره عن البضاعة الرائجة في «بندرنا»، ذاك الشعر الذي يصبحني كل يوم صباح أحلت أي أحلت.
إن أثواب هذه العرائس «الأندلس الجديدة، العصبة، أبو الهول» تعبق بعطر لبنان، أما قلبها فينبض بحب العرب، ولا غرابة في هذا الأمر فاللغة العربية ربيبة لبنان في هذا الدهر، رافقتهم في رحلاتهم البعيدة فأروها محاسن الدنيا أجمع، وأروا العالم جمالها الفتان، كانت ربابهم فأسمعوا الدنيا أعذب الألحان وأشجى الترانيم ، لا ينخفض لهم صوت حتى تليه نبرات، فما كادت تهمد مدرسة جبران الخالدة حتى طار قبس منها إلى البرازيل فاضطرم واتقد، والعدد الذي أحدثك عنه من الأندلس الجديدة هو عدد تموز الممتاز، مهدى «إلى روح جبران الخالد» سيد أدباء جيله - الجيل بمعناها الأصلي - وإمام المجددين في هذا العصر، وإليك عبارة صاحب الأندلس الجديدة الشاعر شكر الله الجر، وهي مكتوبة تحت صورة جبران:
أجل - إلى روح جبران الحبيب - نقدم هذا العدد، وهو كل ما نستطيعه من تكريم ذكراه بمناسبة الحفلات التي يقيمها أدباء الأميركان؛ لمرور أربع سنوات على انتقاله إلى دار الخلود.
فإليك يا جبران الحبيب هذه الأضمومة العاطرة من أزاهر حبنا، تقديرا لآلامك المريرة وجهودك القاصمة في سبيل تحريرنا من قيود الجهل والتقاليد، والنهوض بنا من مهاوي الظلمة إلى مشارف النور، إليك أيتها المسرجة التي ستتحول مع تحولنا - قلت ولا شك - إلى منارة وهاجة تنير شواطئ أفكارنا وأحلامنا، فنهتدي إلى حقيقة كياننا الضائع في كياننا.
سلم فمك يا شكر الله، امض في سبيلك فالحق معك، لا أقول شيئا في «غمائك» المطرزة بألوان المغيب الذي أتمتع به في عاليه كل مساء، بل أرجئ كلمتي إلى يوم تظهر في أفق الأدب، وإذ ذاك نقابل طلتها بما يستحق، لا تتوقع مني ثناء صرفا، فبوس الأيادي ضحك على اللحى.
صدر الشاعر شكر الله الجر مجلته المومأ إليها بمقاطع من مواكب جبران عنونها «معجزات جبران»، كما فعل من قبل الصديق الأعز الشيخ فؤاد حبيش في المكشوف يوم نشر ردا علي، قلت هذا استطرادا إلى محو ما علق بالأذهان من زعم السيد عباس محمود العقاد يوم نقد «المواكب» حين ظهر، قال في «الفصول» (ص46): «وقد فتحنا الكتاب - أي المواكب - فوجدنا في أول شطرة من أول بيت خطأ من هذا القبيل في قوله:
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا ... ... ... ...
يريد أجبروا.»
قلت: نعم وهي كذلك، كان على الأستاذ العقاد أن يتثبت فيما يقول قبل أن يكتب مهولا: «في أول شطرة من أول بيت»، كأنما أنزل على الأرض كسف من السماء فخربت، راجع الفيروزآبادي وغيره حتى أصغر المعاجم لتعلم تعنت العقاد، إننا نسأل العقاد وأضرابه: من أين جاءت الجبرية؟ - الطائفة التي تقول إن الإنسان مجبور لا اختيار له ولا قدرة، وإن الله قدر عليه أعمالا لا بد أن تصدر منه - أنغلط كل من قالوا الجبر الجبرية، لنخطئ جبران؟ فما رأيت المجبرة إلا لابن النديم.
نعم إن جبر لغة تميم، ولكن الذين تكلموا بهذا الحرف وجاروا بني تميم فيه كلهم عرب صحاح اللسان، أيظل هؤلاء الذين يحلو لهم أن يكونوا جبران يسقطون على هذه السفاسف التي لا تعلي ولا تسقط! لست أنكر أن جبران في نثره أشعر منه في نظمه، ولكنه كيفما دارت به الحال، لا يقل عن العقاد نغمة شعرية على قلة ممارسته النظم، بل يفوقه كثيرا.
ثم قال العقاد: «لم ننته من الصفحة إلا على خطأ ثان في قوله:
فأفضل الناس قطعان يسير بها
صوت الرعاة، ومن لم يمش يندثر
والواجب جزم يندثر.»
قلت: لا يا أستاذنا العلامة! الجزم غير واجب، فمن هنا اسم موصول، ومثل هذا كثير في كلامهم، فليراجع الأستاذ العقاد كتب النحو، وإن شاء فأنا أدله «مغني اللبيب»، ولا أشك في أنه ذاك، فليفتح صفحة 19 من الجزء الثاني طبعة سنة 1302 هجرية، على صاحبه وآله أفضل الصلوات وأذكى التحية.
ثم قال العقاد: «هذا وليس في الصفحة إلا أربعة أبيات»، ليوهمنا أن «مواكب جبران» الراقصة من سقط المتاع، ولكن العقاد كان أسود البخت فأخطأ الغرض ونقد الحبة بمنقار أعوج فأفلتت منه سالمة.
ثم انتقل العقاد من نقد المبنى إلى نقد المعنى فقال:
فإذا ما اللوز ألقى
زهره فوق الهشيم
لم يقل هذا حقير
وأنا الملك العظيم «قلنا - أي العقاد - إنه لا يقول ولكنه يفعل»، قلت أنا: ليس هذا ما عناه الشاعر، وكان على الناقد أن يكون أرحب صدرا وأبعد نظرا ليفهم ما يقصد.
إن أكثر من ينتقدون جبران كهذا الفاضل، وجلهم من تبابيع أدبه، يتمنون أن يشبهوا به وإن أعجبوا بمثل هذا النقد الزيف، ولكن عارفي قدره يرون أن عناصره في الأدب الحديث حية لا تموت، ولا يرون من يدانيه أو يقاربه من هؤلاء المقلدين، وأنه سيظل نسيج وحده، وكأنما هذه العبارة كتبت لتقال فيه وفي أشباهه من نوابغ العالم الأفذاذ.
وبعد، فإن كان لي كلمة أقولها في مجلة أخي شكر الله، فهي أنه يغالي كثيرا في تقديم كتابنا إلى قرائه، وينتقي لهم أضخم الألقاب وأفخمها، لا أنكر أن بعضهم جنوا بها وقد يضربون ولا يلبون إن لم يبرزها لهم، ولكن ما علينا لو عودناهم، فالأديب الكبير حقا لا يغر بمثل هذه المضحكات، فليته يكتفي بأسمائهم فقط، وليت أدباءنا الكبار يتشبهون بسيدات البيوت الخطيرة، أما تركن التزين بأساور الذهب لخادماتهن ووصيفاتهن!
وأخيرا لا أكتمه أن تقريظه البرازيل المصورة بقوله: «تشمل على أروع المقالات وأبدع الشعر، وألطف المستظرفات» يثير ظنوني، ويشككني فيما يغدق من ألقاب.
لا تصدق يا أستاذ مسرة، فزملاؤك يمزحون، والحق هو ما قلته أنا فيها، فإن كنت قرأت، فاعمل على تهذيبها وتجميلها إن كنت تطلب لها خاطبين.
أما مجلة العصبة التي رأيت وجهها الصبيح ولم أضرب لها كف موعد، فهي لسان حال «العصبة الأندلسية» أخت رابطة جبران الأدبية، بل بنت تلك المدرسة الدارسة التي يصح فيها قول دعبل في آل البيت:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومهبط وحي مقفر العرصات
متع الله عصبة الخير والأدب الصحيح بعمر طويل لنحيي ثقافتنا بين الأمم.
تطالعك مجلة العصبة بأروع مشاهد لبنان، جبار القطر الشامي، وتريك أمجد آثار العرب وتسري إليك بعطر الأندلس ممزوجا بأريج لبني لبنان، فإلى الأمام يا شباب العرب، ولا أقول شباب لبنان فلبنان أصبح مرادفا للعروبة، وإن نفره ما تهربه أقلام بعضهم على الطروس، لست أعني إلا بعض أدباء وشعراء، فما أنا بسياسي لأناقش كتابها.
إن صح أن اللسان يوحد الأمم والشعوب، فجماعاتنا المنتشرة في كل الأقطار المسكونة هم دعاة القومية العربية لا غيرهم، فهم الذين حثوا أمس ويحثون اليوم وغدا كل عربي من مهاجر ومقيم على تقديس لغته وقوميته، وهم الذين احتلوا مقاما ساميا بين أمم الأرض، والذين خالطوا شعوبها مخالطة الأشباه والأنداد، وأفهموا بعضهم أنهم أحفاد الأمة العربية، فحنوا على جدتهم المرحومة وذكروها بالخير.
قد تظنني مبالغا إن قلت لك إن مجلاتهم الراقية تحبب إلينا لغتنا، ولكنك ذاهب مذهبي - إن شاء الله - متى طالعت «العصبة» الحافلة بكل طريف مفيد من شعر عال وأدب صحيح، إلى تاريخ مجيد يهز النفوس ويرفع الرءوس.
وحياتك يا أخي، إن آثارا كهذه تجمد شبابنا المائعين فلا يذوبون في الأمم الطارئة علينا، أو الشعوب التي طرأنا عليها، فشكري الخوري في «أبي هوله» لبناني فوق كل لبناني، وهو ممن عيدوا للبنان في زمن عبوديته «6 أيلول»، حتى حاول الرجل أن ينشئ أدبا لبنانيا لغة وتفكيرا، فأخرج لنا منذ عشرات السنين روايته الرائعة «فنيانوس» نعم فنيانوس وشقفه.
لم ينس المتمشرق غناطيوس كراتشوفسكي فضل صاحب أبي الهول في بحثه «أدبنا الحديث» فقال كما ترجموا لنا: وقد شرع شكري الخوري في محاولة طريفة، وهي استعمال اللهجة السورية - قلت اللبنانية - الدارجة في الكتابة ولكن أحدا لم ينسج على منواله.
واعجبا للمتمشرق أغناطيوس، أينسى المكرزل صاحب جريدة الدبور الطريفة الحلوة النكتة، وحنا الفغالي صاحب «شموني» القصة البديعة، فهي أخت فنيانوس شكري وعلى طرازها وإن تفاوت سنهما، بل أعجب له سبع مرات، وهو يؤرخ أدبنا المعاصر كيف لا ينسى حليم دموس وينسى هذين المنشئين، فيقول عن شكري الخوري: ولكن أحدا لم ينسج على منواله.
ولكنك لا تلوم غناطيوس مثلي متى علمت أنه «مكبر فوتوغرافي»، لما كتبه العلامة المدقق الأستاذ جب عن أدبنا الحديث، كما ضخم العقاد مقالات صديقه المازني في ابن الرومي فجاءت كتابا غليظا، فالذي يقول - إن صحت الترجمة فليس الأصل عندي - أن القصة العربية التاريخية شاعت أولا في محيط البستاني فعذره بين كالعنزة البلقاء.
يا لله من بعض هؤلاء المتمشرقين كيف يتصدرون للحكم وما عندهم من آلته شيء، إنهم ككتابهم الذين يكتبون عنا ما لا يعلمون، لقد ذكرني هذا بشكسبير حين أرسى المراكب في حلب، وبشاعر فرنسي - أظنه دي هيريديا - قال: إن لبنان يدخن، ظانا أنه جبل بركاني.
فأي طالب علم لا يعلم أن المحيط كتاب لغة وضعه العلامة البستاني فأحل فيه رأس الكلمة محل ذنبها، أظن «غنطوسنا» هذا أراد «الجنان» فأخطأ في النسخ، وجاءت غلطته ثخينة غريبة مثل آرائه العمشاء.
ما رأيت كراتشكوفسكي إلا ناسخا سالخا ماسخا، كما عبر ابن الأثير في «أدب الكاتب»، فهو لم يبرح الدائرة التي رسمها الأستاذ جب، وإن خرج من تلك الصيرة رقص رقصة الجدي هنيهة، ثم عاد إليها يفتش عن ضرع أمه ... فما كتبه الأستاذ جب عن أدبنا يدل على درس من يتفهم الكلام ويمحصه، لا على نقل ومسخ كما رأيت في فصول كراتشكوفسكي الثلاثة التي قرأتها مترجمة في رسالة الزيات.
رحم الله الشدياق ما كان أنبهه، حين خص أمثال كراتشكوفسكي بالذكر في «ذنب الفارياق» التعبير للشدياق، فاقرأ هذا الذنب العاقل وقل إن هذا الشدياق الذي يقول عنه كراتشكوفسكي «وفي البلاد غير العربية امتاز العصر بظهور بعض الكتاب النوابغ كأحمد فارس الشدياق»، كان بابا اللغة لا شدياقها.
لقد حفظها عن ظهر قلبه كالماء الجاري فألف الطرائف المعدومة النظير، وصف لك ما مر على رأسه من المحن، وما رك وما التك، آلمه غرور متمشرق وادعاؤه على قلة بضاعته، فقال في ذنب فارياقه: «وإنما الغرض من هذا الكلام هو أن أبين لهذا الرملي الهارف المتملق، مناضلة عن شيوخي الذين أخذت عنهم من العلم ما أخذت، أن شيوخه لا يحسبون في عداد العلماء، نعم إن لهم باعا طويلا في التاريخ فيعرفون مثلا أن أبا تمام والبحتري كانا متعاصرين، وأن الثاني أخذ عن الأول، وأن المتنبي كان متأخرا عنهما، وأن الحريري ألف خمسين مقامة حذا بها حذو البديع وما أشبه ذلك، إلا أنهم لا يفهمون كتبهم، ولا يدرون جزل الكلام من ركيكه، وثبته من مصنوعه، ولا المحسنات اللفظية والمعنوية ولا الدقائق اللغوية، ولا النكات الأدبية ولا النحوية، ولا الاصطلاحات الشعرية ، فغاية ما يقال أنهم نتفوا نتفة من علوم بواسطة كتب ألفت بالفرنسوية.»
وإن شئت أكثر فخذ «كشف المخبأ»، واقرأ ما يحدثك به عن الدكتور لي حين كان يصحح له ترجمة التوراة، ثم ما كتبه عن بعض أساتذة اللغة العربية في جامعتي كمبردج وأكسفورد.
أجل لقد بذر الشدياق لغتنا الفصحى في كل الأقطار كمصر ومالطة، وإنكلترة وفرنسا وتونس حتى بين أتراك الأستانة، ثم في العالم كله «بجوائبه»، وكأنما عناه ابن زريق البغدادي بقوله: موكل بفضاء الله «يزرعه».
أقدرت الآن هيام لبنان بلغة العرب وسبقه الدائم، أمس واليوم، إلى التجديد؟ فهو باني النهضة الحديثة ولا أقول «الانبعاث»، فاللغة العربية لم تمت لتبعث، بل لاذت إبان محنتها بكهفين: لبنان والأزهر، فاللبناني مشاء دائما إلى التجديد والإبداع، ما وقف ولا يقف ولن يقف، ولديه في كل زمان شاهد عدل، حاول ويحاول التجديد في كل دهر، وحسبك شاهدا هذا التطور الذي تلمسه في مدارسنا الحديثة، وإن لم تتكامل بعد فرؤية الهلال تبشر بنموه.
لا أشك في أنك قليل الإيمان بما أقوله لك، ولكنك ستؤمن مثل العم توما حين يمسها أصبعك، والآتي قريب فادع لي بطول العمر، والله يحفظك ويبقيك.
ولنعد إلى مساق الحديث عن هذه الصحائف التي تذاع في جنوبي أميركا، أليس من الحيف على شباب العرب ألا تكون في متداولهم ومتناولهم، وفيها ما فيها من أدب سني ودروس قومية؟! فليت غرف المطالعة - على الأقل - تطلبها، وهل يكثر بدل الاشتراك الزهيد على من يعلم شبابنا المتهافت على قصاع الأجانب كيف يحب لغته ويعبدها؟
ففي مجلة العصبة نصرة للمغلوب على حقه كقصيدة الشاعر شفيق معلوف الرصينة، وقد نقلتها صحفنا، وفيها رسائل يتيمة لزعيم الأدب الجديد جبران تبين بعض مشاعره الدالة على أنه بشر مثلنا، وليس من الجن والعفاريت كما فهم بعضهم، وفيها قصيدة متينة للشاعر القروي ورسوم رائعة لبعض مشاهد لبنان، وصورة سيد المرسلين محمد - كما تخيله جبران، نابغة الفنين: الرسم والأدب - تليها قصيدتان غراوان في مدح هذا النبي المفرد للشاعرين حسني غراب ونصر سمعان، ثم رسم عربي محض - موت عبد الرحمن الثاني - كله فن وروعة، وهناك بحوث شتى ومقالات وقصص موضوعة ومترجمة تملي على المتفرنجين منا دروسا عالية، أخص منها بالذكر «ذكاء بدوي» مترجمة عن الإنكليزية لإثبات ما يدل عليه عنوانها، وفيها نبأ ترجمة كتاب نبي جبران آية الشرق للغرب، بقلم الكاتب يوسف مرعب، ترجمه إلى البرتوغالية كما ترجم من قبل دمعة وابتسامة، والأجنحة المتكسرة، والأرواح المتمردة وغيرها من مقالات جبران، فاستقبلت بما يستحقه خيالها السامي وإبداعها الطريف، فهل تسمح مديرية المعارف الجليلة فتتعرف بأديبها المنفي؟
وفيها أخيرا: أصدر الكاتب المدقق واللغوي المعروف جورج مسرة مجلة شهرية في الحاضرة، دعاها «البرازيل السورية» وقد مر ذكرها، قد يكون الأستاذ جورج كاتبا مدققا ولغويا محققا، أما الكعك فما دل على العجين.
ولا أنسى قصيدة الشاعر إلياس قنصل «كيف خلق الله الأزهار»، ففيها شعر أكثر مما في ديوانه «السهام» كله، وهذا دليل جديد - لي - على أن الشعر الوطني أمسى علكة يتعذر الإبداع فيه إلا على القروم، لكثرة ما لاكته الشعراء منذ ابن كلثوم حتى بشارة الخوري وعمر أبي ريشة، فليس كل ما يقوله الشعراء شعرا وطنيا.
وما وقعت عيني على فهرست العدد السادس من العصبة حتى رأيت توفيق ضعون، فتذكرت ما كان يذيعه في «النصير»، رحم الله ذاك العهد، فهل أنت هو يا توفيق؟ فإن كنت ذاك فابعث إلي بعنوانك فلي كلمة أسر بها إليك.
والعدد السادس حافل كأخويه بالشعر الطلي والمباحث المفيدة التي تنم عن مجاهدة مستمرة، أمد الله الأستاذ حبيب مسعود مدير العصبة بصحة وعافية، وأخذ بيده ليثابر على عمله النبيل، وحيا الله إخوتنا في وطنهم الثاني، ولا أقول غربتهم فمن كان هذا شأنهم فكل بلاد الله أرضهم، والعربي مطبوع على الفتح.
أما شكر الله الجر ذاك الكناري الفصيح، فما قرأت له شيئا في «العصبة»، أتراه اكتفى وترك سربه ليغني وحده كأنه نسي أن الطيور على أشكالها تقع؟
وأخيرا لا بد لي من رأي أبديه بإخلاص للشاعر القروي صاحب «شرر الفكر» في هذا العدد، فقوله:
رباه إني قد عصيتك عامدا
لأراك أجمل ما تكون غفورا
ولقد جنيت من الذنوب كبارها
ضنا بعفوك أن يكون صغيرا
رصين بليغ لا يمكن سبكه في قالب أبدع وأجمل، ولكن الفكرة طريدة أجيال ودهور، فمن عهد الخيام وأبي نواس حتى زمن إسماعيل صبري أمس، وهي تتدهور في حناجر الشعراء، الأخيار والأشرار منهم، أما قائلها الأول الذي لاكها ومسها أي مس ولم يترك إلا المجاجة، فهو إفرام السرياني الشاعر الصوفي العظيم في عرفي، والقديس الطاهر وملفان البيعة في عرف الكنيسة، ليت المقام يسمح لي فأترجم لك كثيرا من أقواله، لترى كيف كان يتغنج ويخاطب ربه بلا كلفة؛ أي
SANS FASONS
كما يقول الشيخ فولتير، ولكني لن أحرمك واحدة منها وهذه هي: «إن كان العبد بلا خطيئة فمن أين تعرف رحمة السيد، ارحمني يا الله ... إلخ.»
أرأيت الغنج والدلال، أأيقنت أن الله جل جلاله سبحانه وتعالى، طويل البال واسع الصدر، ما انتحر ولن ينتحر أحد من عشاقه الكثيرين، وسيعفو عنك عفوا كبيرا يليق بعظمته وجبروته، وبينما أنا أحاول ختم حديثي بالتي هي أحسن عن رواد أدبنا الحديث ودعاته في العالمين، وقد أدهشني إخلاصهم للغتهم، إذا بأحد تلاميذي - عراقي - وقد بلغه أني لزمت غرفتي لعارض فأتاني عائدا، فتجملت في محادثته هنيهة ثم عدت إلى شغلي، وأخذ هو الأندلس الجديدة والعصبة وأبا الهول وقلب أوراقها، وما كاد ينتهي من استقرائها جميعها استقراء عجلان حتى أعجب بعروبة أصحابها وكتابها، وقال لي بلهجته العراقية: هلقد عرب؛ أي أهم عرب بهذا المقدار؟
قلت: نعم وزيادة.
وهكذا أيد التلميذ معلمه، وأحسن ختام مقالة من حيث لا يدري.
وعندما قرأ الأستاذ جب هذه المقالة بعث إلي بهذه الرسالة، وهي ليست أولى رسائله، وقد آثرت نشر صورة لها ليقدر القارئ العربي همة هذا العلامة الكبير واهتمامه بأدبنا العربي الحديث. (2) جبران خليل تقي الدين
قرأت في جريدة «المكشوف» الغراء مقالة «جبران خليل جبران كما أفهمه» للشيخ خليل تقي الدين، فخلته يحدثنا عن طهرا بك الفقير الهندي الذي جاء بيروت منذ أعوام وعمل العجائب، أو عن «مغربي» جاز الدكتوراة من «مغارة دانيال» التي ينفتح بابها كل عام مرة كما يقول الناس.
أجل، إن جبران خليل تقي الدين أحجية لا تفك، فكأنه في مولده عمرو بن كلثوم، وفي موته أمية بن أبي الصلت.
ولماذا لا؟ ألم يقل الصديق خليل في جبران: فإذا مولده مطلع عهد جديد، وإذ وفاته تاريخ!
ما هذه الحيرة يا أستاذ؟ جبران بشر مثلنا، ولد في بشري من ذكر وأنثى (سنة 1883)، أمه «كاملة» بنت الخوري إسطفان رحمة، وهي أرملة لا عذراء، اسم زوجها الأول حنا عبد السلام رحمة، واسم الثاني خليل جبران «سميك»، لا أدري من أوحى إلى الشيخ يوسف توما البستاني تلك الكلمة، التي كتبها في مقدمة «البدائع والطرائف» عن مولد جبران «ويقال بل في بومباي الهند» حتى جعلها ميخائيل نعيمة مفتاحا لقبر صديقه جبران، لست أعني أن نعيمة أساء إلى جبران بقوله عنه: إنه حب وأحب، ولا فيما خبرنا من قصص، فليس جبران ذا طبيعتين.
أما كلام جبران وهو موضوع بحثنا فعربي مفهوم، أما كيف يخفى على الشيخ خليل ذي العقل الراجح، والنظر الثاقب، فهذا ما يحيرني، لقد حيرني تحويم الشيخ ودورانه، وهذا التجاهل وتلك الألفاظ الضخمة الطنانة التي أنعم بها على جبران بلا كيل ولا ميزان «سر من الأسرار، نبوغ، عبقرية، رسالة، خلود، نبي، رسول، فيلسوف، ألغاز، رموز» وهلم جرا، فكأن جبران هندي حقا ومن مواليد بومباي، والشيخ أيده الله، يريد أن يقلده عقدا من أزهار بستان اللغة.
أنا قلت: إن لجبران أسلوبا عربيا معروفا كالعنزة البلقاء، ولجبران تلاميذ في كل قطر يقرأ: أبجد هوز حطي، وبسم الله الرحمن الرحيم، وطوبى للرجل، اقرأ ما كتبه «حجازي» في رسالة أحمد حسن الزيات (عدد 149، ص784) عن النهضة الأدبية في شبه جزيرة العرب، فصاحبها يعترف بأنهم كانوا تلاميذ المدرسة الجبرانية قبل أن «يرتدوا»، ويتتلمذوا للمدرسة المصرية التي ناهضت مدرسة جبران باسم الثقافة الإسلامية، كما قال المتمشرق «جب» وقد نشرت السياسة الأسبوعية هذا الزعم بكل فخر (عدد 201، ص2)، فلماذا نتجاهل هذا ونحاول تحديد جبران من الجهات الأربع، كأننا نكتب فيه صك بيع؟ إن بحثنا لم يتعد الأسلوب الجبراني، ولم نسأل مجلس المعارف الأعلى إلا وضع صاحبه بين أصحاب الأساليب، فكان ما كان مما لست أذكره.
أما زعم الشيخ أنه قال في ذلك اليوم وتلك الساعة: إن جبران خليق بأن يدرس في كلية من كليات الآداب، فذكرني قصة رجل عزل عن وظيفته فحار في أمره حين سقطت سلطته، وقد تعود الأمر والنهي، فاشترى بضعة أباريق صفها أمام داره لعابري السبيل، فكان إن تناول أحد منهم الإبريق العتيق أمره بأخذ الجديد وبالعكس.
أين كلية الآداب هذه يا شيخ؟! أكلية «عليكرة» ببومباي حيث ولد جبران؟ ثم رأيتك ترجح وضعه في منهاج الفلسفة لئلا يغضب إذا لم ير أعمى المعرة، فحنانيك يا شيخ، إننا نشرب بالإبريق الذي تنقيه لنا فاسقنا، إنما بغير الوعد يا كمون، ألا تذكر وعد عام أول؟
لا إخالك تنسى كم ناقشناك، وكم سألناك، حتى ناشدناك ملتمسين «صفو الخاطر» على الفقيد الكريم فما رحمته، ولا تركت أحدا يرحمه، وهكذا اصطلحت الأضداد في تلك الساعة على روح جبران، كما اصطلحت من قبل على جسد الجاحظ.
والآن فلأمر مرا خفيفا بنقط لا بد من إيضاحها تفنيدا لما كتبته إثباتا لغموض جبران.
قلت: إن ميخائيل نعيمة الذي عرف جبران وآكله وشاربه أرانا - وتراب جبران لا يزال مبللا بدموع الباكين - أنه رجل مادي يبيع بالمال كل شيء حتى جسده، ويشتري بالمال كل شيء حتى الحب.
اسمح لي أن أسألك: ما علاقة هذه الحكاية بأدب جبران وأسلوبه؟ هل خبرك أحد أنني أريد «تطويبه» قديسا؟ ثم من يدري، فقد تكون توهمت ذلك حتى قلت بعد أربعة أسطر: فإذا مات - أي جبران - أرقده رجال الدين في ظلال الأرز الخالد، وجعلوا قبره حجة ومزارا، وأضاءوا من حوله الشموع، وقدسوا التراب الذي ضم رفاته، ثم دعوا المؤمنين لزيارته على أنه قديس ...
على مهل يا شيخ، لقد استعرت قلم غبريال شارم وبيار بنوا، فكأنك من أولئك الكتاب الغربيين الذين يزورون ديارنا ويقولون علينا مثل هذا ، فوا عجبا لك وأنت اللبناني الصميم، ورئيس ديوان المعارف اللبنانية، كيف لا تعرف أن رجال الدين لا يقدسون حتى البابوات والبطاركة! إن الشيوخ الأجلاء عندكم - الجويدين - لا يرحمون من في حياته أقل شبهة - والمسألة في أيديهم - فكيف برجال الدين عندنا ويديهم قصيرة عن هذا، إن مسألة تطويب القديسين مسألة شرحها طويل، وإليك مثلا يجلو لك الكثير من غوامضها:
حكي - والله أعلم - أن المجمع الروماني حال دون تطويب أحد الرجال الصالحين، حين ثبت له بعد بحث مائة سنة أنه كان يتنشق العاطوس مثلي، أرأيت ما أصعبها خطة وما أبعدني عنها؟
أما قصة جبران فهاك حديثها: في صيف سنة 1930 زرت بشري وحدثت الخوري فرنسيس رحمة، وشبل بك عيسى الخوري، والشيخ خليل صادق بأمر شراء ديار مار سركيس؛ ليكون مأوى لجبران في آخر العمر، فأبى الرهبان الكرمليون بيعه، وبعد شهور مات جبران عن تلك الوصية التي خاب أمل ميخائيل نعيمة فيها، فغر المال الرهبان، والمال غرار، فباعوا الدير - بل الكهف المهجور - ونام فيه جبران إلى يوم يوقظه بوق ميخائيل، أو حين تلده امرأة أخرى كما توهم في نبيه.
إن كل ما يتمتع به جبران من احترام وتكريم لا يد لرجال الدين فيه، فلو مات جبران فقيرا لما عرف أحد أين قبره ولا الذبان الأزرق، أنحن في أمة تعرف أقدار النوابغ؟
ولزيادة الإيضاح راجع، غير مأمور، رسالة البطريرك إلياس الحويك تعزية لبشري بفقيدها جبران، فهي لا تتضمن العبارة «التقليدية»، كل هذا يثبت لك أن لا يد لرجال الدين في كل ما صنع ويصنع لجبران.
كتب واحد - من غير رجال الدين - فوق ضريح جبران بنور الكهرباء «هنا يرقد نبينا جبران»، فأمر بإصلاحها فأطاع وصارت نبينا «بيننا»، وأراني مضطرا أيضا إلى تفنيد زعم آخر، وهو قول الأرشمندريت بشير في مقدمة «النبي»: إن جبران مرشوق بالحرم الثقيل، فلا ثقيل ولا خفيف، ولا كبير ولا صغير، فلو كان جبران محروما لما صلوا عليه.
ما هذه المصيبة؟! ما انتهينا من إصلاح «سنكسار» جبران المخرفش حتى اصطدمنا بفنه التصويري، ليقل الشيخ في هذا ما شاء، فماذا يعني مثلي من «الفنون الجميلة»؟
هذا وقد وصلنا إلى عبارة تمس موضوعنا، قال الشيخ: «ونقرأ كتبه - أي جبران - فإذا العربية منها خليط من مقالات كتبت لمناسبات معلومة وروايات أملتها عاطفة الشباب، بعضها يمت إلى الأدب بصلة، وبعضها يمت إلى الفلسفة بصلات.»
كيف تكون الرواية والمقالات يا ترى؟ ومن يكتب غير متأثر بحال من الأحوال، بل من يطلب من الكاتب أن يصير جنيا حين يكتب، فلا يحس ولا يشعر؟
ثم قال: «ولكن أكثرها لا يجعل من جبران الأديب الخالد والفيلسوف صاحب المذهب المعروف.»
إذن بقي اسم صالح من أدب جبران، وحيث إنه لا منهاج في الدنيا يدرس الكاتب جملة، فلينتق لنا جناب الشيخ هذا «البعض»، وبهذا يكون حل جزءا من مسألة جبران الهندسية.
أما زعمه أن جبران هدم بعض الأسس التي قامت عليها اللغة، فوالله لم أدر بعد ما هي، فهل من يدلنا عليها وله أجر وحلوان؟
فإن كانت الأخطاء النحوية والصرفية واللغوية، فلجرير والفرزدق وعمر وبشار وأبي تمام والمتنبي وغيرهم خطيئات، ما زال بنونا يتحملون عقابها كالخطيئة الأصلية، وإن كان يعني الأسلوب أو التعبير، فكتاب الله - القرآن الكريم - نبذ أساليب الناس وتعابيرهم العتيقة الخشنة، حتى قالوا عن الرسول
صلى الله عليه وسلم : إنه ساحر مجنون، وشاعر مفتون، فهل فينا اليوم من يشك في ذوق الله تقدس اسمه؟ كما فعل أبو جهل وأبو لهب؟ أيضير جبران خروجه من صيرة القدماء؟ أما فعل ذلك غيره من مجددي الكتاب في الأمم، هذا هيغو الذي ندرسه في المنهاج، ألم يقل:
J’ai mis un bonnet rouge au vieux dictionnaire.
N’etant que caporal, je L’ai fait colonel.
أما كفانا هذا الجمود أحقابا؟ فقد أساء الناس الظن بالعقلية العربية.
أما قولك إن جبران قد يكون فكر أن يكون نبيا، وما عليه لو فكر؟ ألم يفعل ذلك المتنبي؟ ثم من يقاص الناس بخطيئة الفكر غير الله؟! هذا نيتشه الذي نحا نحوه جبران في نبيه، لم يقل إنه صار إلها إلا ساعة خرف، فأخذ يصافح كل من يعرفه قائلا له: فلنغتبط، إني إله.
أما جبران فلم يخرف ولم يقل شيئا من هذا، وكأني بالدكتور فيليب حتى وقد رأى الناس في حفلة تكريم جبران يسمعون كلمته واقفين، خاف عليه من هذا التعظيم الفائق فقال له ما قال في تلك الساعة، فمثل دور «اليوناني» الذي كان يهمس في أذن البطل ساعة تأليهه قائلا له: لا تنس أنك إنسان.
أما الكنيسة التي تليت فيها كتب جبران كالكتب المقدسة، فهاتيك مرسح لا كنيسة، أيصدق الشيخ، جزاه الله صالحة، قول نعيمة عن بيع جبران جسده بالمال، ولا يصدقه حين تكلم عن هذه الكنيسة المجنونة؟
ثم قال: «وبعد ذلك يقوم صديقنا مارون عبود - أذكر جيدا أني قمت ولم أتكلم قاعدا - فيعجب كيف لم يدخل اسم جبران في منهاج الأدب العربي في البكالوريا اللبنانية، وأدخل فيه اسم المنفلوطي، وحقنا نحن أن نعجب من هذا»، وبعد أن يبين أن لا شبه بين المنفلوطي وجبران قال: «ألا يعلم الصديق أن مناهج الأدب توضع لبيان تطور الآداب في سيرها نحو الكمال؟»
قلت: بلى، علمت شيئا، وبناء عليه طلبت تدريس جبران؛ لأنه أخطر حدث أدبي في تاريخ نهضتنا الحاضرة، فلا يشق عليك أيها الصديق، ولا على شيخنا المنذر إن قلت لكم ولكل من يقرأ: إن عمل المنفلوطي لم يفق عمل من يجلو الصدأ عن حوائج البيت المعدنية، وأن كل ما كتبه هامد همود القبور ما خلا بضع مقالات تجول فيها الروح جولان الهر المنازع في جراب، أما التجديد فلا أشرك المنفلوطي فيه ولا بسهم؛ لأنه مقلد للأقدمين يفتش عن خرثيهم، ويحسب الفن كله في العبارة المصقولة، وفي فقه اللغة، والألفاظ الكتابية، ونجعة الرائد، ومعين الشرتوني، غنى للتلميذ عن المنفلوطي، وبرهاني على ما قلت أخذه ترجمة فرح أنطون لبولس وفرجيني، فرمى برنردين وفرحا بحجر واحد، وكذلك فعل بقصة جبران «صراخ القبور»، فخنق فن جبران ولم يفهم خطا واحدا من خطوطه، فكان كصانع أحمق ينقض على التمثال بمهدته ليجعل منه زاوية للمدماك.
ثم قلت إن المنفلوطي «قدم للأدباء الحقيقيين قوالب مصنوعة بيد صانع ماهر.»
أما أنا فأقول: وهل يستعير الأدب الحقيقي قالبا من عند أحد؟! ومتى كانت الروح تخلق قبل الجسد أو بعده؟!
أليس الكاتب الحقيقي من يخلق الأجساد ولا يستعيرها؟ فهو كالإسكاف وغيره ممن لا غنى لهم عن القالب.
إن الخياط الأستاذ لا يتقيد بالهنداز، وإن فعل فما يخيط ثوبا مهندما، بل قباء كالذي خاطه عمرو لبشار.
ثم قلت إن المنفلوطي كصانع الأقداح يصب الزجاج ويلونه، وعلينا نحن أن نملأه بالراح، أليس الأولى بالأديب والحالة هذه، أن يتشبه بالراعي الذي يكرع من النهر والعين ويترك طاسة الزنخ؟
وبعد، فلا تسم هذه الأباريق والأكواز والدوارق والصحون أقداحا ملونة، فيتسرب الشك إلى نفسي فيك، فلا تزعزع إيماني، أما ولغ في هذه القصاع مليون لسان؟ أما مستها مليون شفة؟ ليس هذا ما ندعو إليه أبناءنا، أما إذا كنت تريد أن يلهو أبناء هذا الجيل بالقشور فأوصهم بقراءة «افتتاحية» أحمد حسن الزيات في رسالته، فيشبعوا من هذا الخروب حتى البشم.
ولما عرضت لما وقع سنة 1933 في مجلس المعارف الأعلى قلت: وضعنا موضع البحث اسم جبران، فقال هذا العاجز: ألا ترى أن هذا «العاجز» منفلوطية بل أقدم عهدا؟ إنها تستأهل الجواب المألوف: كلك خير وبركة، فلماذا هذا التواضع العميق يا شيخ شباب الأدب؟
أما قولك أخيرا: «وليس من مخرج لنا من هذا المأزق إلا أن يتقدم صديقنا مارون عبود باقتراح يرمي إلى إدخال الأرشمندريت أنطونيوس بشير في منهاج البكالوريا وعند ذلك تنحل العقدة.»
الله كريم يا شيخ، ولعل من عقد الأمور يحلها، فليتك تصير جبران، ويترجمك الأرشمندريت.
وبعد فأراك تتغنى كثيرا بالقصة، ألم يعجبك شيء من قصص جبران؟ أليس بين قصصه العربية قصة تستحق الدرس؟ فلماذا تتذرى خلف جبة المطران أنطونيوس بشير، وتتلطى وراء «لاطيته»؟! ما لنا ولأدب جبران الإنكليزي، فنحن نبحث أدبه العربي وأسلوبه وما فيه من فن، فلماذا المغالطة؟ هات الحديث فإما أن تشايعني فيه أو أنني أشايعك عليه.
أما جبران فهاك رأيي الصريح فيه: هو فليسوف يلبس مطرف الشاعر وطيلسان الأديب، وبكلمة أوضح: جبران فيلسوف في أدبه، وأدب جبران فلسفة، والعنصران متحدان في كلامه اتحاد اللون والعطر في الزهرة المنمنمة.
حاشية: أيها القارئ الكريم، لا تتوهمن بعد قراءة هذه الكلمة أن جبران لا عيب فيه، ففي جبران من العيوب ما في كل أديب خطير، ولكن لا تنس أن جبران من أفراد الجيل «العالميين» الجديرين بالنقد والتقدير، وإن ضاق عنه منهاج البكالوريا اللبنانية فحسبه رفوف مكاتب الأدباء في العالمين.
لقد عاد جبران إلى خاصته وخاصته لم تقبله، وكذلك النابغة يزعج معاصريه؛ لأنه لا يساير الجماعة كما قال جورج سوريل. (3) حول عكاظ الحكمة
كتاب إبراهيم المنذر
الجمهورية اللبنانية: مجلس النواب
أخي مارون
أجدت أمس كما أجدت في بعض ما كتبته قبل أمس، شأن كل كاتب وناقد يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا، وقد خرج الخطباء على الإثر من الحفلة فحييناهم ولم تخرج معهم فنحييك.
أما جبران فقد أصبت في ما ذكرت عنه، ولكنك أطلت وطلبت ما أرجح أن المدرسة لا تجيبك إليه، ولا شك أنك تذكر أني كنت وإياك في جانب جبران وزيدان في لجنة المعارف فلم نفلح، ولا يعني انتصارنا لجبران انتقاصا من قدر المنفلوطي، فإن أسلوبه في الإنشاء (العربي) يفوق أسلوب جبران، ويجب أن نضم الرجل إلى ناشري لواء البلاغة والتهذيب في الشرق، فقولك: «إن اللجنة أبدلت المنفلوطي من جبران» فيه تحقير للمنفلوطي، ولا أظنك تعني هذا بل تعني وجوب وضع جبران في مصف الكتاب المصلحين في منهاج البكالوريا.
وأما حملتك على شعراء العصر في التهاني والترحاب والاستقبالات فحملة مردودة؛ لأن كل شاعر مهما علت منزلته في مثل هذه المناسبات مضطر أن يقول كلمة شكر، ولا تكون كلمة الشكر آية من آيات الفن والخيال والتصور والابتكار.
وهناك أبيات كثيرة من غير هذا الباب فسرتها، يا أبا محمد، بغير ما يريد صاحبها، أو شرحتها باستهزاء والمعنى فيها مقبول مأنوس، وليس بالصعب على كل ناقد أن يزدري قول أعظم شاعر متهكما، ويجعل ألفاظه مبتذلة ومعانيه مسروقة.
بقيت المحاسن يا مارون، أين هي؟ فقد يكون للشاعر بيت في قصيدة يعادل قصائد - ويظهر أنك تريد أن تهدم البيوت على أربابها فتقتل جميع ما فيها، وكم هنالك من كنوز تضيع تحت الأنقاض، وليس هذا عمل النقاد المنصفين.
أحييك وأدعو لك.
أخوك المنذر
بيروت ، 4 / 5 / 1936
الجواب
الجامعة الوطنية
أخي وشيخي إبراهيم
لا أنسى يوم كنت تشجعني فتى - عفوا ما عنيت أنك أسن مني كثيرا - ولكني أذكر بلذة أياما كنت أمر بها على «مكتبك»، فتبسم لي وأعدها نعمة، وإني لا أزال أحرص على رضاك الغالي جد الحرص.
قلت في كتابك الكريم المفتتح بهذا التعبير، فلا حيا الله ولا سلم الله: «أجدت أمس كما أجدت في بعض ما كتبته قبل أمس شأن كل كاتب وكل ناقد يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا، وقد خرج الخطباء على الإثر من الحفلة فحييناهم ولم تخرج معهم فنحييك.»
لم أخرج مع الخطباء؛ لأن همتي قليلة فسبقوني، واكتفيت بتسليمي عليك، سلام الأحباب بعد الغياب، قبل أن صعدت المنبر ولم يدر في خلدي قط أني غير حاصل على رضاك، أما الإصابة والإجادة فحسبنا منهما الإفادة وإنهاض أدبنا المقعد ما نستطيع، أما الخطأ - والعصمة لا أدري لمن - فليتك تدل عليه ولك من الأدب أجر غير ممنون.
يا شيخنا:
حمل إلي استياءك وبلغني رسالتك الشفهية بل نصيحتك الأخوية، من حملته إياها، فشكرا وعذرا وإن كنت تأمر فتطاع، فأنا ماض في سبيلي، فادع لي بالتسهيل، فإن تقدمت بهذا الأدب خطوة صغيرة بلغت أقصى الأماني فأنا رجل قنعان.
أما قولك أني أصبت فيما ذكرت عن جبران، فلك الشكر على ذلك منى ومن نزيل وادي قاديشا ومجاور الأرز، وأما أني أطلت الكلام عنه وطلبت ما ترجح أن المدرسة لا تجيبني إليه فجوابه: إننا في زمن «مطالبات» أولستم كذلك في المجلس؟ فإن فعلت المدرسة أحسنت، وإلا فلا حرج عليها، الزاد زادها تأكل منه ما تشاء وتطعم ما تشاء، كما قال معن بن زائدة للأعرابي.
ثم قلت لي: «تذكر أني كنت وإياك في جانب جبران وزيدان في لجنة المعارف فلم نفلح»، إني أذكر ذلك ولا أنساه، وقد أشرت بقولي: ولم يبق في جانب جبران إلا المتهمون في دينهم مثله؛ أي أنت وأنا ومن لف لفنا.
أما أني قلت: «إن اللجنة أبدلت المنفلوطي من جبران»، فما هكذا قلت، بل: وهكذا أقر المنفلوطي في المنهاج ونفي جبران من وطنه الذي يردد كل يوم:
ملء عين الزمن
سيفنا والقلم
أرزه عزه
رمزه للخلود
أما أن أسلوب المنفلوطي يفوق أسلوب جبران، فإننا لا نتفق في هذا يا شيخ، إننا نريد غير هذا الكعك، إنما من العجين، وبكلمة أوضح قد قرفنا خبز الملة.
ثم تقول لي: «وأما حملتك على شعراء العصر في التهاني والترحاب والاستقبالات فحملة مردودة؛ لأن كل شاعر مهما علت منزلته مضطر في مثل هذه المناسبات أن يقول كلمة شكر، ولا تكون كلمة الشكر آية من آيات الفن والخيال والتصوير والابتكار.»
أظن - وبعض الظن إثم - أن هنا «التخلص» يا أستاذ، فإن شئت رأيي في شعر الفرح والترح فإليكه: ليقل الناس الترحيب والتهانئ والتعازي نثرا فهو خير من هذا الشعر الدميم المقرف، وإن وفق الشاعر إلى إبداء عاطفته بفن وإبداع فليقل شعرا، أما متى قال شعرا مثل هذا الذي نقرأ فليطمره، ولا يدع الهرة أفطن منه كما قال البديع للخوارزمي.
ثم قلت - وأراك تقول كثيرا اليوم - «وهنالك أبيات كثيرة من غير هذا الباب فسرتها يا أبا محمد، بغير ما يريد صاحبها، أو شرحتها باستهزاء والمعنى فيها مقبول مأنوس، وليس بالصعب على كل ناقد أن يزدري قول أعظم شاعر متهكما، ويحمل ألفاظه مبتذلة مسروقة.»
أما أني فسرتها بغير ما يريد صاحبها فلا أظن، أما شرحها باستهزاء فهذا لا شك فيه، ولكن هل يتيسر لي هذا الاستهزاء إذا لم تكن الألفاظ والمعاني مبتذلة؟ أما السرقة فأظنني قبضت على مرتكبيها متلبسين بالجريمة، أما المعاني فأعترف لك أنني ما عدت أقنع منها «بالمقبول» ولا أغصب نفسي عليه.
اسمح لي أن أصارحك بما في نفسي يا سيدي الشيخ، يظهر أنها قصة الباذنجان، لا قصة منفلوطي وجبران، وإنك لمروان كما قال علي لعثمان: ليتك تفقأ هذه الدملة فتستريح.
ثم قلت: بقيت المحاسن يا مارون، أين هي؟ فقد يكون للشاعر بيت في قصيدة يعادل قصائد.
أظن أنني أشرت إلى بعض المحاسن يا أستاذنا، ولكن يظهر أن ما يسرك منها أكثر مما يسرني، وأنا لا أستطيع أن أرى إلا بعيني، وهي ضيقة كما يقول الناس، ولا تكبر الأشياء.
وأخيرا قلت: ويظهر أنك تريد أن تهدم البيوت على أربابها فتقتل جميع ما فيها، وكم هناك من كنوز تضيع بين الأنقاض، وليس هذا عمل النقاد المنصفين.
لا يا شيخ - يقطع السم - ترو قليلا، هل النقد في عرفك هدم؟ وهل هدمنا حتى الآن غير أكواخ عششت فيها البراغيث والبق والخنافس؟! ما هدمنا بعد يا شيخ غير أكواخ خشبية جريا على قوانين «البلديات» الحديثة، ليتك تسمي من تعني لنجول جولة حول هذه «الرمم» فتوافقني على هدها، رحمة بأولادنا، ولا يؤثر بقلبك الرقيق عويل أصحابها.
سيدي الشيخ:
حييت ودعوت في ختامك، ولم تقبل وتصافح كعادتك، أما أنا فحالي معك لا تتغير، وهي دائما على حد قول شاعرنا العامي القديم:
لمن بشوفك بنفعطلك من بعيد
وبستحي سلم عليك بفرد إيد
وأخيرا وكأني بالغضب قد ضيق صدرك الواسع، فطويت كتابك على البطاقة التي سطرت عليها ما يأتي: «إذا شئت يا أخي أن تنشر هذا الكتاب وتجيب عما فيه فلك ذلك.»
لبيك يا شيخ والأمر لك، ها قد فعلت، وشرطي في الأمر ألا نقف، وأن تصرح في الآتي ولا تلمح، والسلام عليك من أخيك.
مارون عبود
عاليه، 7 / 5 / 1936 (4) لذكرى جبران الخالد
إلى حضرة الأستاذ حبيب أبو شهلا وزير التربية الوطنية
أما وقد نسخ الاستقلال شعار منصبكم الخطير، فراح وزير المعارف وجاء وزير التربية الوطنية، أفنرجو تنسيقا جديدا في منهاج البكالوريا اللبنانية؟ أم نظل ندرس فتياننا ما ينعسهم، فيرون وجهنا كوجه الناعي؟
إن الجديد في هذا المنهاج فلتة، فأكثر شعرائه وكتابه من طراز واحد، نفتتحه بامرئ القيس - أول من بكى واستبكى، وقيد الأوابد - فنبحث معلقته بيتا بيتا لندل طلابنا على ما أبدع ونفهمهم خطة الشعر العربي.
ونتغلغل في الأنجاد والصحاري والبطاح فيقبل علينا زهير، أبو من ومن ومن، وربيب أوس المقعد، فتكبح «سئمت تكاليف الحياة ...» طموح الشباب وتكرههم العيشة قبل العشرين، ونتركه يتبجح بحكمة مبتذلة يضحك بعضها الأطفال، فيلاقينا طرفة الشاب على ناقته فيصفها لنا من رأسها إلى ذنبها حتى يقتلنا الضجر قبل أن يدعونا إلى «كأس روية»، وتنبري لنا قينته ونرى نداماه البيض كالنجوم، فنقول شيئا غير ما قلناه في زهير وامرئ القيس.
ولا نخلص من هؤلاء حتى يطل علينا عنترة على ناقته «أولا»، ويبادينا كالثلاثة السابقين في استنطاق دار عبلة بالجواء، وينزل ذلك الحر الطازج عن ناقته ليركب جواده ويكر، فيشكو الحصان بعبرة وتحمحم، وتلين نفس عبلة العتية أمام البطل الطب بأخذ الفارس المستلئم.
وعلى حدود العصر الجاهلي يلاقينا النابغة الهربان من وجه أبي قابوس فينشد في البلقاء وقلبه في الحيرة، فهؤلاء خمسة في واحد لولا فرق زهيد لا يساوي تعب الأستاذ وتلاميذه، فهلا نكتفي بتدريس اثنين ثلاثة منهم، وإن قلنا الحق، فاثنان يبشمان.
ونبلغ صدر الإسلام وهو أعظم عصور تطور الأدب فنتمسك بالفروع ونترك الأصل، ندرس الحجاج بن يوسف وعبد الحميد، وحجتنا «بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد» وعلى الدنيا السلام.
ثم نتشرف بزيارة البلاط الأموي فنرى هناك ثلاثة فحول يتناطحون، وملوكا وأمراء يتلهون في نقارهم، نرى الأخطل والفرزدق وجريرا ينبشون قبور القبائل ويمزقون الأكفان ويصلبون الموتى على مصلبات الطرق، فننظر كارهين إلى تلك المقابر المفتحة ونطمها آسفين، موصين طلابنا باحترام كل دين، لافتين نظرهم إلى شعرهم الإنساني فقط ...
ولا نتنفس الصعداء حتى يطلع ابن أبي ربيعة «يعدو به الأغر» في ميدان الشعر الحي، فتطيب نفوسنا إذ نرى الشعر يقلع ثوبه العتيق ويلبس جديدا.
ويمتد ظل الزمان فنبلغ العباسيين ونرى ابن برد الأعمى بصيرا بالفن، يقعد القرفصاء بالبصرة ويرسل شعره طيرا أبابيل وحجارة من سجيل، ونشهد أبا نواس مقبلا في ظل كرمه يستعرض القدماء البائسين الباكين ويكركر في الضحك، فنمجد الفن في شاعرين ظريفين: خفيف وثقيل، أحسا الحياة وأحباها فجعلاها شعرا نسانا شهورا سوداء الجبين.
ولا نفارق هذين الشاعرين حتى نعيد سيرتنا الأولى، فنرى أبا تمام والبحتري وابن الرومي، إن في الطائي غنى عن الكبير، أما ابن الرومي فيشفع تصويره في تعبيره.
ونطوف مع المتنبي في الأمصار فيسمع المعلم والتلميذ ما يرضيهما، فنهيم - كل يغني على ليلاه - حتى نستيقظ على صراخ النواحة الأسير في «رومياته» فتمتلئ الغرفة بكاء بليدا، ولولا «رائيته» لفطسنا، فما دعا هذا البكاء الحردان إلى محضرنا إلا قول حسود: «بدئ الشعر بملك وختم بملك»، وينقضي نواح أبي فراس فيتلوه غناء الأندلسيين فتشجينا أنغام موشحاتهم، ونرى صورة حياتهم تتحرك أمامنا.
ويجيء النثر فنرى ابن المقفع في كليلة ودمنة يعلو ويسفل كالمكاء، فنقول ما يحضرنا في أسلوبه، وحسبنا منه أنه عدل عن سجع الكهان وفصل الكلام ثيابا للأفكار، وتنسى التعب إذ يواجهنا الجاحظ أبو الطرف الكحيل، يحمل على لسانه أدبا نابضا في كلام راقص، فنمرح في مقاصيره وجناته التي تجري من تحتها الأنهار، فيهزنا الفكر يزهو بثوب النكتة الشفاف.
وننتقل إلى مقلده بديع الزمان فنرتاح إلى أدبه الشخصي ونعذره على تقليد بارى فيه معاصريه، ثم ننتقل إلى الحريري - شيخ لنا من ربيعة الفرس - فينعس الصف وليس على الأستاذ إلا أن «ينتف عثنونه من الهوس» ويرفع الصوت جهرة، ولا بأس عليه من آية أنكر الأصوات، فهو إن لم يفعل يرقد تلاميذه رقدة أهل الكهف، ونختم درس الكتاب بالترحم على الجاحظ الذي خلق أسلوبه الأصفهاني وكتابه الأغاني خزانة الأدب العربي.
أما ابن الأثير وحظه قليل من المدرسين والدارسين، فما أحوجنا إلى درسه، فهو مهذب الذوق اللفظي وأستاذ نقد بصير بمواضيع الكلام، وإن نفخنا ادعاؤه فالصبر جميل، ولا سيما أزمة البكالوريا كانت تقتل الإنشاء، فأمسى الطالب وليس يهمه إلا «المنهاج» ليحمل شهادة.
ونشرف على النهضة الحديثة فنرى على قمتها أحمد شوقي، وفي يده كتابه مرآة العصور السالفة كلها، فنرد الكثير من شعره إلى أصحابه، وندل على إبداعه ونلهو وأولادنا بمسرحياته أياما، ثم نتركه لنزور بضعة نفر من أضياف المنهاج: اليازجي والبستاني والمنفلوطي وولي الدين، فنرى الثلاثة يقلدون القدماء ولا يزيدون إلا صقلا وتمليسا، ونرى عند الرابع تجديدا استمده من نفسه الحانقة لا من جملته.
وهكذا تمسح أيدينا من تراب المنهاج اللبناني الذي يستغني عن نصفه ويظل حملا ثقيلا، لا نسمع ذكر لبنان إلا مرتين عند المتنبي، حين رأى جبلنا من خلف، وعند شوقي في قصائد أنطقته بها المآدب والأوسمة، هذا في القسم الأول، أما في القسم الثاني فلا شيء من هذا، فلبنان شاعر لا فيلسوف، فكيف تكون البكالوريا لبنانية ونوابغ لبنان مطرودون خارجا.
أين زعيم النهضة جبران خليل جبران، جبران الشاعر الناثر الأديب الفيلسوف، جبران أبو القصة اللبنانية الحديثة، جبران الخالق أدبا لبنانيا شرقيا، فموسيقاه من عيوننا وجداولنا، ورهبته من أوديتنا وكهوفنا، وأبهته من ربانا وقممنا، وسفينته من أخشاب غاباتنا، ومداد ألوانه من قوس قزح لبنان.
جبران الذي عاش لبنانيا بين ولولة المعامل وعجيجها، فما التهى بجسر بروكلين عن قنطرة المدفون، ولم ينس نواح المعصرة وهزج البيادر، فنظم لبنان نشيدا سليمانيا، استوحى هذا الجبل فكان له برقه ورعده، وصواعقه وعواصفه، وصفاؤه وهدوءه، لم يبال بناطحات السحاب فمات وهو يحن إلى شماريخ لبنان، رأى الخلود كله على القرنة السوداء فنام نومة الأبد مغطى بأذيال برقعها الناصع البياض.
يا حضرة الوزير
إن منهاج البكالوريا اللبنانية ناقص جدا جدا، ولا يتمه إلا اثنان: الشدياق وجبران، فهذان كاتبان مبدعان حقا، ونواحيهما شتى ككبار كتاب العالم وأدبائه، وما أبعد النوم والضجر من الدارس والمدارس في ناديهما العامر، فمر بصف كرسيين للأميرين تغنم ثناء الأدب الحي، وأرحنا من بعض أوثان الأدب، وأجرك على الله.
أما أنت يا جبران، يا عريس نيسان الذي غنيته في موكبك، فلا تقنط من رحمة تاريخ الأدب، إنك لحي في الكثيرين وإن لم تتجمع عناصرها كلها في واحد.
نم يا فتى الليل، ولا تترج القيامة ثانية يا ابن الفجر، فهيهات - كما قلت لك مرة - أن تلدك امرأة أخرى، هذا حلم رأيته عند صياح الديك ولا تعبير له.
إن العاشر من نيسان ليوم تاريخ نهضتنا الحديثة، ففيه انطفأ كوكب طلع من لبنان، ودار دورته في الأبراج وعاد إلينا رمادا مطهرا. (5) جبران اللبناني
أذاعت هذه المحطة
1
بمناسبة ذكرى آلام السيد وعيد الفصح المجيد قطعتين من الأدب الجبراني الخالد، فتذكرت جبران الذي مات في الحادي عشر من نيسان وقلت لقلمي: امش على خيرة الله ولنكتب شيئا عن جبران الذي لا يموت في ذكراه السابعة عشرة.
إن عناصر جبران الفنية لا تعد ولا يستطاع درسها إلا في مجلد ضخم، هذا إذا اعتصمنا بالإيجاز؛ ولهذا أحببت أن أتحدث الليلة عن جبران اللبناني.
ترعرع جبران ونشأ في لبنان فانطبع بطابعه، ثم طوى سجل شبابه واكتهل في أميركا، ولكنه لم يحدثنا عن غير الشرق، فكأن معامل أميركا وعمليتها لم تؤثر شيئا بروحية جبران، فعاش بين ناطحات السحاب يحلم بظهر القضيب والقرنة السوداء شاعرا ومصورا وكاتبا.
فكر أولا بإنشاء مدرسة أدبية عربية فكان مؤسس مدرستين في لغة الضاد: الرومنتيكية والرمزية، ففي جبران - وهو سليل الشدياق وإسحاق الحداد، وسبط أيوب وأشعيا وأرميا وسليمان، وإفرام ويعقوب، والمعري والمتنبي والفارض - عناصر تفاعلت فكونت الأسلوب الجبراني.
والرابطة القلمية التي خلقها جبران هي أول مدرسة منظمة في أدبنا العربي، كان غرضها خلق مدرسة أدبية جديدة، فأشبهت من جميع مناحيها المدرسة الرومنتيكية الأوروبية، حتى في التصوير، والأسباب التي كونت هذه المدرسة الأدبية عندنا هي التي كونت تلك هناك، فهناك الثورة الفرنسية وهنا الحرب العظمى الأولى.
وكما زعم رجال النهضة الرومنتيكية أن الشاعر يقوم بأهم عمل اجتماعي، وأنه فوق الناس، كذلك اعتقد جبران وتلاميذه - تصوروا كما تصور هيغو - أن الكتاب هم قادة الإنسانية، والكاتب أكبر من المزربان، وعليه أن يحمل مشعله حتى الموت في يده، وكذلك اعتقد جبران حتى كتب النبي ويسوع ابن الإنسان وآلهة الأرض، وظل يكافح حتى النفس الأخير.
وكأني بالدكتور فيليب حتى، حين رأى الناس يسمعون كلمة جبران في حفلة تكريمية وقوفا، ويقدمون للناس كتبه مجلدة مفضضة كالإنجيل والكتب السماوية، أعلن على الملأ في كلمته التي ألقاها في تلك الحفلة:
إننا نرجو أن يظل جبران بيننا.
وبعد موت هذا المعلم العربي العظيم قال الدكتور حتى أيضا: «والحقيقة هي أن اسم جبران وحده - لسمعتنا ونفوذنا في هذه البلاد - يساوي كل ملايين الدولارات التي ادخرناها.»
هذا هو جبران اللبناني في نظر المنزهين، وقلما نرى كاتبا تعصب لجنسه وعرقه ولغته كجبران، فإذا فتشنا عن الألوان المحلية المستمدة من المحيط اللبناني وجدناها صارخة في ما كتب جبران بالعربية والإنكليزية، استمد الشاعر هذه الألوان الزاهية في إنشائه من سماء بلاده وأرضها، ففي التعابير الجبرانية بياض الثلوج، وخضرة المروج، واصفرار البيادر، وأنين المعاصر، وشقشقة العواصف، وشموخ الجبال، وحزم الأرز، ونواح الهاوية، وزمجرة الأودية، وثرثرة الينابيع، وعربدة الأنهار، وهلهلة الضباب.
استمد هذه الألوان واللدونة والمرونة والنعومة من أجواء لبنان، فاشتعلت حافات عبارته، وأرسلت نورا ونارا وموسيقى، إن تمسك جبران بشرقيته حمله على المحافظة على قوميته، فوقف كل ثروته على بلدته، ووعده هذا وذاك بشيء من ماله، إن صحت الرواية يذكرني بالثوري أحد بخلاء الجاحظ الذي كان يقول عند الإشهاد: «قد علمتم أنه لا وارث لي، فإذا مت فهذا المال لفلان»، فعلل الكثيرين بالآمال، وورث واحدا لا غير.
إن جبران لفي غنى عن الانتساب إلى قومية جديدة فهو وحده قومية، وحرصه على قوميته حمله على أن ينفخ روحا جديدة في لساننا العربي المبين، فقال في ذلك: «يكتب بعضنا لمن ماتوا ولا يدري أن قراءه في المقابر، ويكتب بعضنا لإرضاء معاصريه حاسبا أن في ذلك العظمة والخلود فيخطئ المرمى، ويكتب بعضنا؛ لأنه إن لم يكتب يمت وهذا من الخالدين.»
والذي عندي هو أن من يغالي في المحافظة على القديم بحذافيره يكون كمن يحفظ جميع أفراد أسرته ويبقيها في بيته، فأي رعب يحدث له، فلنكلف أنفسنا عناء الخلق، فالحياة إنما تجدد نفسها بمواليدها، ولا نخف آلام المخاض وأخطار الولادة، فهذه من لوازم الحياة.
يظن بعضهم أن ليس جبران إلا كاتبا خياليا، وقد ضل من ظن ذلك، فلجبران غرض أبعد جدا من هذا يلبسه ثيابا محاكة على نول حديث ومفصلة طرازا جديدا.
إنني لا أسمع حين أقرأ جبران في جميع أطواره إلا صوتا عاما يغني على نايه لجميع النفوس، بنشيدته المحزنة فتصبح صلاة الأطفال عند يقظتهم في الليل، إنه ينشد أروع شعره المحزن لتذكاراته القوية التي لا تموت، فيحس بتساقط أوراق الخريف موسيقى الأبدية، وهكذا يريك خطوات الموت واحدة إثر واحدة، فإذا شئت أن تحس وطنك وتشم أرض بلادك أيها اللبناني فاقرأ جبران، واشكر للعناية هذه الهبة، فقد أعطتك أديبا عالميا خالدا.
لا تنس أيها اللبناني من لم ينس لبنان حين رأى الدولارات تفد إلى صندوقه، فجمعها ليتركها من آثاره حيث نشأ وحيث يرقد الآن جثمانه، لا تبال بما يقال، فالذين يحولون الوجوه عنه لن يظفروا بشيء إلا الأسف واللوعة، اسمع الآن صوت جبرانك اللبناني فتعلم أن في الأدب الرفيع نفحة من النبوة، قال جبران منذ عشرات السنين:
لكم لبنانكم ولي لبناني، لكم لبنانكم ومعضلاته، ولي لبناني وجماله.
لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني.
لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلها الأيام، أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء.
لبنانكم مشكلة دولية تتقاذفها الليالي، أما لبناني فأودية هادئة سحرية تتموج في جنباتها رنات الأجراس وأغاني السواقي.
لبنانكم صراع بين رجل جاء من المغرب ورجل جاء من الجنوب، أما لبناني فصلاة مجنحة ترفرف صباحا عندما يقود الرعاة قطعانهم إلى المروج، وتتصاعد مساء عندما يعود الفلاحون من الحقول والكروم.
لبنانكم مرافئ وبريد وتجارة، أما لبناني ففكرة بعيدة وعاطفة مشتعلة، وكلمة علوية تهمسها الأرض في أذن الفضاء.
لبنانكم موظفون وعمال ومديرون، أما لبناني فتأهب الشباب وعزم الكهولة وحكمة الشيخوخة.
لبنانكم وفود ولجان، أما لبناني فمجالس حول المواقد في ليال تغمرها هيبة العواصف ويجللها طهر الثلوج.
لبنانكم طوائف وأحزاب وخطب ومحاضرات ومناقشات، أما لبناني فتغريد الشحارير، وحفيف أغصان الحور والسنديان، ورجع صدى الغابات في المغاور والكهوف.
لبنانكم شرائع وبنود على أوراق، وعقود وعهود في دفاتر، أما لبناني فمعطرة في أسرار الحياة وهي لا تعلم أنها تعلم، وشوق يلامس في اليقظة أذيال الغيب ويظن نفسه في منام.
لبنانكم، شيخ قابض على لحيته، قاطب ما بين عينيه، ولا يفكر إلا بذاته، أما لبناني ففتى ينتصب كالبرج، ويبتسم كالصباح، ويشعر بسواه شعوره بنفسه.
لكم لبنانكم وأبناؤه، ولي لبناني وأبناؤه.
فأبناء لبنانكم هم الذين ولدت أرواحهم في مستشفيات الغربيين، واستيقظت عقولهم في حضن طامع يمثل دور أريحي.
أما أبناء لبناني فهم الفلاحون الذين يحولون الوعر إلى حدائق وبساتين، هم الرعاة الذين يقودون قطعانهم من واد إلى واد، فتنمو وتتكاثر وتعطيكم لحومها غذاء وصوفها رداء.
هم الآباء الذين يربون التوت والأمهات اللواتي يغزلن الحرير، هم البناءون والفخارون والحائكون وصانعوا الأجراس والنواقيس، وهم الشعراء الذين يسكبون أرواحهم في كئوس جديدة، وهم شعراء الفطرة الذين ينشدون العتابا والمعنى والزجل.
هم الذين يغادرون لبنان وليس لهم سوى حماسة في قلوبهم وعزم في سواعدهم، ويعودون إليه وخيرات الأرض في أكفهم، وأكاليل الغار على رءوسهم.
هم الذين يولدون في الأكواخ ويموتون في قصور العلم، هؤلاء هم أبناء لبنان، هؤلاء هم السرج التي لا تطفئها الأرياح والملح الذي لا تفسده الدهور، هؤلاء هم السائرون بأقدام ثابتة نحو الحقيقة والجمال والكمال.
لكم لبنانكم ولي لبناني، هذا ما يقوله جبران أما أنا فأقول لروحه في ذكراه السابعة عشرة: لقد تحقق الكثير مما تمنيت وحسب لبنان أنه له جبران. (6) في مدينة جبران
ما هذه أول مرة أزور فيها بشري عاصمة مقدمي المردة يوم كان لبنان مهابا، عرفتها سنة 1912، ونمت تحت أرز لبنان الراكب على كتفها، تنظره من الحدث والديمان فتخاله زهرة ناضرة شكها الزمن في عروة لبنان.
مررت بها في ذلك الحين بعدما زرت شيخ الجبل البطرك إلياس الحويك، بت عنده ليلتين أحلى وأقصر من ليل عمر، كانت نكاته ونوادره الوجيزة تنعش حضرته، وإذا احتشمنا تحكك بنا لنقول، ويأبى إلا التبسط فنفعل، متذكرين قول الفرزدق في زين العابدين:
يغضي حياء ويغضى من مهابته
فما يكلم إلا حين يبتسم
ودرى غبطته أنني زائر الأرز غدا فضحك ضحكة خرساء، ولكنه خبأ النادرة لساعتها، وجئته في الصباح مودعا فقال: وأين مكاريك؟
وجاء المكاري فإذا هو من بطانة الذيل البطريركي، والبغلة بغلة الكرسي فقال له: توق صاحبك، إصح هه، الطريق عكشة.
وأخذت يده فوضع يسراه على كتفي وقال: زر قصحيا بدربك، فقلت: زرته وما انتفعت.
فضحك وقال: لأن شيطانك كبير . مع السلامة.
وبت بالأرز، وكلفني نفس الأركيلة ثلاثة بشالك - أجرة رسول إلى بشري - وتعشيت كبة نية، ونمت في خيمة نصبها الشيخ نسيم حنا ضاهر لزوار الأرز، وفي الغد اجتزت بشري فرأيتها بيوتا متراكمة، أوسع طرقاتها أقل من باع، وأكثرها أزقة بالكد يسلكها شاب ضخم مثلي.
وزرت بشري بعد الحرب الكبرى مرات فإذا هي هي، بيوت ملزوزة كخلايا النحل وقرايا النمل، فقلت في نفسي: يا ضياع الماء والهواء في هذا البلد، هيهات أن تظفر بشري بصيف واحد.
وزرتها أمس فأنكرتها، الشوارع مفتوحة كذراعي يسوع حين قال: «تعالوا إلي أيها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم» والسبل منفرجة كيدي أم تستقبل وحيدا حديث الكرج والدبدبة، وساحات فسيحة كصدور أهلها الكرام، وأقنية حديثة تجيش فيها المياه جيشان النخوة في صدور أبناء بنت الأرز، وبكلمة تغني عن ألف: آمنت بفورونوف ورجوع الشيخ إلى صباه بعدما رأيت بشري تبرجت بعد حياء وخفر.
فمن أبرز هذه العروس وجلاها؟ إنه جبران، هذا أول أديب عربي أثرى من القلم، عفوا، من الريشة، ولست أعني ريشة التصوير بل تلك التي كتبت المجنون، والسابق، ويسوع ابن الإنسان، وآلهة الأرض، وحديقة النبي، ورمل وزبد.
وصى جبران بهذه الثروة الطائلة لمدينة بشري، وحرم منها أخته وأهله جميعا حتى صديقه ميخائيل نعيمة، الذي لم يصح حلمه كما قال في كتابه جبران خليل جبران.
أما القائمون بهذا العمل فلجنة جبران الوطنية، يرأسها شاب ناهض وفي هو السيد سليم رحمة، ومن أعضائها الذين اجتمعت بهم - وكلهم ذو همة كرئيسها - الشيخ القاضي طنوس جعجع، والخوري طانيوس جعجع، والشيخ مجيد حنا ضاهر رئيس البلدية، وشابان ناهضان من أسرتي الفخري وسكر، وأمين صندوق اللجنة السيد منصور حبيب لدوس.
أما أمين الصندوق فشيخ يطل على السبعين ولكنه نشيط حريص على المال، ككل خازن وقيم يؤلمه إنفاق فرنك على رخصه، إذا لم يكن طبقا لنية جبران، هذا الشيخ لم يعقب وقد جمع مالا كثيرا أنفقه على البر والإحسان، وهما في عرفه محصوران ببشري كما حصر جبران ثروته بها.
بشري نائمة في حضن الجبل تغني لها الجداول ويهدهدها الهواء، ويمر نهر قاديشا تحت أقدامها فهي أبدا في حمام بارد، ينتصب فيها الحور كالعمالقة بين أقزام الأشجار المثمرة، فلولا البيوت لخلتها غوطة، ولولا الأجراس التي تقرع دائما للصلاة، وخصوصا جرس الآباء الكرمليين لحسبت أنك في خلوة، لا صراخ ولا عياط في بشري، تمر بقهواتها كأنك مار بغرفة قراءة، وإن لم تر كتبا أو جرائد.
تحيط بها الجبال من الجهات الأربع، وكيف التفت ترى شماريخ منتصبة كأنها التماثيل والقباب، ومن الشرق يتدلى الشلال فتخاله سلسلة فضية في عنق «الجبة» الحسناء، وترى أنابيب كهرباء قاديشا كأنها الحية التي خدعت أمنا حواء، هذا إذا كانت سوداء، فكل لاهوتي يكسوها لونا من مخيلته، أما الماء فمثلوج أبدا، وهو مريء هدام لما تبنيه المطابخ.
وصلت بشري عصر الاثنين 12 آب، وقرب الغروب زرت جبران في بيته الموحش، في دير مار سركيس المخبأ في عب غابة تجري من تحتها الأنهار كأنها الفردوس المحكي عنه، يذكرنا هذا الدير بالآية القائلة:
ينحتون من الجبال بيوتا ، وهذا شأن سكان لبنان القدماء وخصوصا النساك والحبساء، الدير رهيب لا جميل، كان ملعبا لجبران في صباه فأخذ عنه أشباح الليل ومواكب النهار، تحيد من السكة وتمشي في لحف الجبل قليلا فتبلغ الكنيسة، وهي خارج سور الدير كعادة رهبان لبنان في ديورتهم، فالنساء لا يدخلنها أبدا، تلج الكنيسة - وهي كهف غائر في صدر الجبل - فيواجهك تابوت جبران المسطح في مغارة، كأنها حنية كنيسة مارونية، شرقية لا غربية، مزينة برفرف من متحجرات مغارة قديشا التي اكتشفها الخوري الناهض طانيوس جعجع، ومرتبة التابوت مفروشة بخشب زيتون عتيق كأنه مأخوذ من البستان الذي صلى فيه يسوع، حبيب جبران.
كتب بول بورجه يوم زار بيت غوته شاعر الألمان مقالا جاء فيه: إن صورة الأشياء التي يعيش بينها كاتب عظيم تتحد بآثاره لتكملها وتوضحها، إن هذا ما شعرت به ثلاث مرات: الأولى في أورشليم والجليل، والثانية في المعرة، والثالثة في بشري.
نمت الليلة متأثرا وأصبحت ناسيا، فزرت صديقي الأستاذ خليل صادق ثم اجتمعنا برئيس لجنة جبران المنصرف إلى تكميل فندق جميل أحدثه في قلب بشري، وطوفت في بشري يرافقني أمين صندوق اللجنة السيد لدوس، فأراني أعمال لجنة جبران التي أنفقت في هذا العام على ترميم بشري نحو عشرة آلاف ليرة فحمدت المسعى.
وبلغنا بيت جبران حيث تمت رواية وع وع وع، التي أتحفنا بها ميخائيل نعيمة، فأجفلت كمن رأى أفعى، إنه أشبه بمزرب حمير، لا سقف له ولا جدران، وأدرك ذلك مرافقي الأمين فأنبأني بالمشروع الخطير الذي سيتم في العام القادم، وقد وافق عليها غبطة البطريرك أنطون، وهو هدم كنيسة مار سابا التي يعاد بنيانها على حافة الجبل.
يرى البشراويون جبران غير ما نراه نحن الأدباء، يرون فيه مسيحيا مخلصا حتى للطقسيات؛ ولذلك يقدسون لراحة نفسه كل أحد على مذبح مار سركيس، أما الترحم عليه فلا ينقطع.
وانتقلنا من بيت جبران إلى متحفه فمررنا على ساحة جديدة في وسطها ينبوع يتدفق من أشداق الأسود، ولا عجب أن أوحى إليهم هذا المشهد فهم أسود تلك الغابة.
استقبلنا محافظ المتحف الشجاع وعرفنا فرحب بنا ترحيبا «شوقيا» ينم عن وفاء ورحابة صدر ينسيان الضيف وحشته، وما اكتفى الرجل بالترحيب بنا حتى رحب أكثر من مرة بالسيارة التي حملتنا إلى بشري، وأخذنا توا إلى غرفة جبران فرأينا تخته البسيط وعليه فراش ذكرني بالفراش الذي للأب أغناطيوس التنوري، منتثرة فوقه وسائد ومخدات، والصليب معلق فوق رأسه، وفي الناحية الأخرى شماعدين دهرية أظنها عمل بيت شباب، فخلت أنني في مار روحانا عين كفاع، وهناك أيضا شماعدين ذات سبعة أنوار وجبران مولع بهذا العدد، وتحت الرف القائمة عليه الشماعدين مطبخ جبران الزاهد، من المقلي إلى القصعة والملعقة الخشبية، وقد مدت في أرض الغرفة صورة جبران التي أهداها ميشال العبد إلى بشري، وهي من بلاط صيني كالتي في بكركي تمثل البطريرك عريضة بتاجه وصولجانه وبرفيره، وضعت هذه الصور هناك مؤقتا وستنقل إلى بيت جبران مع متحفه.
ومضينا إلى قاعة ثانية فإذا هناك أيضا أشياء جبران الكثيرة، منها عصاه التي رفعها مرة كما أخبرنا الأستاذ نعيمة في رده على الريحاني، وفيها ساعات جبران وكلها عادية، وأقلام وتحف وطرف، وتماثيل صغيرة بينها صورة ماري هسكل وكل عدة مصنع جبران التصويري، وخرجنا إلى الدار نطوف على الصور المعلقة على جدرانه، وأكثرها رمزية توحي حيرة وخشوعا وعجبا، ذكرني متحف جبران بقول نشيد الإنشاد: «هو ذا سرير سليمان حوله ستون جبارا ... كبرج داود المبني للسلاح علق فيه ألف مجن.» وفي الدار مكتبة جبران أكثرها إنكليزية، أما كتبها العربية فالأغاني وبعض كتب نحو وبيان، وكتب عديدة مهداة إليه.
فتشتها فلفت نظري رواية ميخائيل نعيمة «الآباء والبنون»، التي يقول في إهدائها إلى جبران إنها أول آثاره يهديها إلى عزيزه جبران وهو ذاهب إلى الحرب، وقد تكون الأخيرة، الحمد لله أنها لم تكن الأخيرة، ولو كانت لخسر الأدب العربي كثيرا.
واستوقفني أكثر كتاب للآنسة مي، قدمته لجبران بهذه العبارة: إلى «النبي» مع الرعب، وهناك كتاب آخر منها نسيت عبارة إهدائه.
وأخذت أتأمل الصور المجموعة في جلود من الكرتون وكلها بالقلم الرصاصي، فعثرت بينها على واحدة مقدمة لميشلين سنة 1908 وهي صورة جبران الشاب بقلمه، وفي المتحف صورتان كبيرة وصغيرة عليهما مخايل القدم لم أفهم سرهما، ولكني متكل على الصديق الفنان الشيخ قيصر الجميل الذي سيدرس متحف جبران بدعوة من اللجنة.
وخرجنا من المتحف مشيعين بنظرات محافظه الباسل السيد حنا مارون، الذي ينام على مسدس كاد يذهب ضحيته ليلة لولا لطف الله به وبعائلته.
وعدت إلى الفندق أتمتع بلطف صاحبه بربر بك الضاهر وإيناسه، وقبل الغروب جاءني السيد لدوس لنذهب إلى اجتماع لجنة جبران في هذه السنة الضيقة، وفي النادي تعرفنا بوجوه بشري أعضاء اللجنة، وبحثنا شئونا تتعلق بجبران الخالد لو كانت وافقت اللجنة لانتعش الأدب العربي كما أراد جبران وفعل، وسرنا خطوة ثابتة إلى الأمام، والكحل خير من العمى.
لا تتعجب إن قلت لك كنا نخال جبران معنا، فصورته بريشه الجميل في صدر القاعة التي اجتمعنا بها، إن جبران أول أديب عربي له متحف آثار وبيت يزار ومدفن فخم ، وسيكون له أشياء غير هذه وهو يستحق، وعلى ذكر يستحق أخبرك أنه استحق شكر لبنان، بعد الموت - من الدرجة الثانية - والبراءة معلقة على جدار متحفه.
إن جبران في تآليفه العربية لبناني محض بل إقليمي حتى في سماء بعض أبطال قصصه وأماكنها، ولا بد للراغب في فهم جبران فهما تاما من زيارة الإقليم الذي نشأ فيه ودرسه؛ إذ يلمحه في كل مقال كتبه جبران في هذه الكتب العربية من أعظم مفاخر لبنان الأدبية، أما في كتبه الإنكليزية فإنساني شامل وهو فيها مفخرة الشرق كله، حمل إلى العالم عطر الشرق وبخوره وأنوار شموعه.
هرب جبران من ظل الإكليروس ووقف بعين الشمس، ولكنه اليوم ينام بينهم، فهم الذين يصلون عليه كل أحد كما قلت لك، ثابت عندي أن الذين كرههم جبران من رجال الدين هم غير كهنة بشري الودعاء النقية قلوبهم، فكهنة بشري كما رأيت ديمقراطيون لا يعرفون أرستقراطية الإكليروس، ولا يرون لأنفسهم سيادة إلا تحت القبة وجناح الهيكل.
في بشري نحو ثلاثين كاهنا! لا تتعجب، فأنا أذكر أنه كان في عين كفاع تسعة خوارنة، وعين كفاع أربعون بيتا، كلهم من طراز: الكبير فيكم فليكن لكم خادما.
وأخيرا لا تتعجب من صوفية جبران، فموقع بشري مدرسة يعلم الصوفية بلا أستاذ، فحيا الله بشري وأهلها، وحيا لجنتها الجبرانية العاملة بلا ملل، ووفقها إلى إحياء ذكراه وإن كان في غنى عني وعنها وعن منهاج البكالوريا. (7) من أجل الأدب
إلى الرئيس إده: مجمع جبران وجائزته
سيدي الرئيس
أذاعت الصحف إنذارا يمنع رعيتك القلمية أن تذكرك، فهل يمنعنا هذا أن نتذكرك ونذكرك؟
إننا نباهي بثقافتك العميقة الواسعة، ونعلم أنك حفيد شاعر لبناني جريء،
2
كان قذى في عين الجزار وقد أرخ وفاته التأريخ الرائع.
ولا نزال نذكر بالفخر موقفك النبيل عبر البحر المتوسط، غير ناسين أنك باهيت بثقافة هذا البحر، الحق معك يا سيدي ، أترى دول أوروبا العظمى تحوم حول هذا الحوض تدعيه، وتنسى أنت أيامنا الغر على شاطئيه الشرقي والغربي؟ ألا تذود عن حوضنا ولو بالكلام؟
أراني فهمت كلمتك الشهيرة على غير الوجه الذي فهمه بعضنا، أدركت أنك تقول للغرب: ولئن كنا اليوم أمة صغيرة نحضر هذا المعرض بتواضع عميق، فلا تنسوا أننا كنا السابقين في هذا الميدان، فاستعمرنا الدنيا وعمرناها، كنا معرضا جوالا فتنت العالم محصولاته، وكسا ملوك الشرق الغرب برفيرا وأرجوانا.
نعلم وتعلم أنك قلت لأوروبا: لئن فاتنا الغاز الخانق ولم يكن لنا طائرات ومدرعات وغواصات فما فاتتنا الثقافة، ولم ينقصنا الاختراع، فصيرنا البحر طرقا معبدة فذل لنا وخضع.
ما وجدت مجالا للفخر بالسلاح المدمر فطاولت بنبوغ أمتك، الذي عجز الدهر عن طمسه بعد ألوف السنين، وكيف لا تطاول بهؤلاء النوابغ وأنت واحد منهم إن شاء الله.
فكرت بهذا يا سيدي ورجعت لنفسي في الخلاء ألومها! لقد أفلست يا نفسي، أما سفهك قومك بأفراد وجماعات، فلا غني فتح كيسه ولا جماعة اهتزت لما دعوت إليه، وبعد ألف جهد ظفرت بمائة ليرة ورقا، جائزة لأحفاد أولئك الذين افتخر بهم فخامة الرئيس في باريز فلماذا لا تقرعين بابه؟
أتفتح لنا يا سيد؟ أنت تعلم أنه ليس في مكنتنا بنيان دولة عظمى كبريطانيا مثلا، ولكنه في اليد إنشاء دولة أدبية تمتد حدودها إلى حيث تشاء تخومها كما تروم، فقل كلمتك وهات يدك.
تذكر جيدا كلمة بطرس ليسوع: «يا سيد قد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئا، ولكننا لأجل كلمتك نلقي الشبكة»، أتقول هذه الكلمة لأطرح الصوت فيأتي الناس ويعينوني على إخراج شبكتي من بحرك الطامي؟
أتكون الفقيه المثقف ويشقى في عهدك الأدباء؟ إن أشقى الجمهورية اللبنانية أدباؤها، وهم الذين يبنون مجدها الخالد مسخرين غير مأجورين، لست أطمع من فخامتك بشيء، فعندي من خير الله وخيرك خبز وكسوة، ولكني أسألك العون على هذا الأدب، ذخيرتنا الباقية وسلاحنا الفرد، فالأدباء أيتام في مأدبة الجمهورية، لا يذكرهم أحد بكسرة يسندون بها قلبهم، فما يمنع أن تكون لهم «جائزة إده» يتسابقون إلى نيلها واحدا إثر واحد، تشحذ العقول وينبه بين أمم الأرض ذكر الجمهورية التي أحببتها.
قلت لك - عفوا إذا تركت الميم - إنني لا أتمنى شيئا غير هذا، فوالله وبالله وتالله (بكسر الهاء) بل لا أتمنى الحياة إلا للعمل الدائم في بنيان هذه الدولة التي نحن بها مستهزئون.
إننا في أنفسنا قوة ولكننا - ويا للأسف - عن إظهارها عاجزون، ما نفع «الاستحقاق اللبناني» يعلق على التوابيت؟ وهل تروق دفينا جودة الكفن؟ إذا استعرضنا التواريخ تخبرنا أن الأدب لا يعيش إلا في ظل دولة، فابسط عليه ظلك، ورفه عن رجاله تسمع الأناشيد الخالدة، إننا نريحك من الأنغام السمجة، ونسمعك ما ترتاح إليه نفسك، خذنا حصتك وأنت الرابح.
جعلت في الربيع الفائت جائزة ضخمة للخيول الأصيلة، فجرب أجعلها العام القادم للبشر، لهؤلاء الذين يصاولون بأيديهم وأرجلهم ليخلقوا اللون اللبناني الذي لا يحققه لك غيرهم، لهؤلاء الذين يجرون كل يوم شوطا وعليقهم غير مضمون في المساء.
ضع لنا هذه الجائزة وخطيئتك في رقبتي إن ندمت، إنك سترى كل مهر وقارح يجري في هذا الميدان الخالد، سترى بينهم ألف عبدو،
3
وبهذا تبني دولة ثابتة لا يغزوها فاتح ولا تؤخذ عنوة، ولا ينتدب عليها يوما من الأيام، وإن صح زعمي فهي مفرق طريق الاستقلال التي شققتها لنا، ولا شك أن التاريخ سيقدر جهادك، ويذكر البطل الأعزل المظفر في أنصع صفحاته بياضا، وللتاريخ يحيا الرجال وهو جنتهم التي يخلدون فيها. •••
أما الآن فلنؤد الحساب لإخواننا الأدباء، إن سعينا المستمر لم يذهب سدى، ولم تعد يدنا فارغة، فلجنة جبران الوطنية ما خاست بعهدها، وإن نفرح الآن فبالنواة التي نسوسها لتمسي دوحة إذا أنعشها الهواء وواتاها الماء والغذاء، وهذه قطعة من رسالة رئيس لجنة جبران توضح ما نقول:
قياما بما قطعناه من العهد أمامكم بجعل جائزة أدبية لجبران عقدت جلسة خصوصية للبحث بهذا الموضوع، فعلقت اللجنة النتيجة على استشارة رئيسها الفخري غبطة البطريرك عريضة، وفي موعد آخر تقرر أن تكون الجائزة مائة ليرة لبنانية تدفع للفائز نقدا ، وأرصد ستمائة ليرة أخرى لنفقات مجمع جبران الأدبي، فتكون الجائزة بظاهرها مائتين، ولم نتوفق إلى أكثر.
وإن شاء الله تعلمنا التجربة الأولى وتفهمنا نتائجها وفوائدها فنجعل الجائزة التالية أضعافا، وقد اتخذ قرار يعهد إليكم بتأليف مجمع جبران من خيار أدبائنا بنظام رسمي معترف به، وتعطى النتيجة - الحكم بالجائزة - في بشري خلال حفلات ذكرى رجوع جبران إلى بلدته كما اقترحتم في الاجتماع.
سليم رحمة
رئيس لجنة جبران الوطنية
يقول المثل العربي: أول الغيث قطر، ويقول المثل اللبناني: مص القصب عقدة عقدة، وطلوع السلم درجة درجة، أما المجمع فنحن ساعون إلى تأليفه ووضع قانونه، أما عدد أعضائه فسبعة، ينضم إليهم عند الحكم رئيس لجنة جبران وعضو آخر تنتخبه اللجنة، أما جائزة جبران لعام 1938 فستكون للقصة الطويلة يحكم بها المجمع في بشري، وفقا للشروط التي تذاع قريبا مع أسماء الأعضاء ليبعث إليهم الأدباء بقصصهم.
إننا نثني أطيب الثناء على لجنة جبران الوطنية، فلعملها تتهلل روح جبران، وهو عندي أقرب أعمالها إلى نية الواهب كل ما يملك لبلدته، فجبران سعى جهده في حياته، بل وقفها كلها على هذه الفكرة، فأنشأ الرابطة القلمية التي مرضت بمرضه وماتت بموته، فعسى أن يكون هذا المجمع الجديد من أبناء الحياة فتفرح به روح جبران فرح الجد بحفيده، وعسى أن نبشر الأدباء بجائزة الرئيس إده التي ستكون سنية إن شاء الله.
حاشية: إذا متع الله هذا الأدب اليتيم بجائزة إده فلتكن محرمة علي منذ الآن ما عاشت وعشت، وكذلك جائزة جبران التي تحققت، أقول هذا دفعا لسوء الظن، رب يسر ولا تعسر.
عاليه
أخي الشيخ فؤاد حبيش
قرأت كلمتك الآن عن مجمع جبران وجائزته، ورأيتك «تود» - وودك في محله - أن يكون للشعراء والمصورين نصيب من جائزة جبران.
سيكون ذلك يا شيخ، فالجائزة القادمة عام 1938 للقصة الطويلة، وجائزة 1939 للشعر، وجائزة 1940 للتصوير، هذا إذا بقيت الجائزة قزمة ولم تكبر، أما إذا نمت فسنجعلها للفنون الثلاثة في كل عام، صل معي للقديسة تيريز من كل قلبك.
شكرت لك ثناءك علي، وتقنفشت ثم اقعنسست، لا تتعجب يا فؤاد فالشاعر صادق:
يهوى الثناء مبرز ومقصر
حب الثناء طبيعة الإنسان
ساعدونا يا أخي، طوفوا معنا حول الصناديق وانفخوا في الأبواق، فلعلها تسقط أمامنا كما سقطت أسوار أريحا عند أقدام البطل يشوع بن نون عدونا الألد.
ليس فينا من يستطيع أن يحدق إلى الشمس دقيقة، إنما نحن أبناء الليل تطربنا موسيقى الزوابع وترجفنا الصواعق ولا تخيفنا، إننا نرقب وجه الصباح لننام في الضحى كصاحبة امرئ القيس رحمها الله.
اليوم قرعت باب رئيس الجمهورية، كما قرأت أو تقرأ في صوت الأحرار، أتقول إنه يصرفني؟ لا تنس يا فؤاد أن مارون لا ينصرف، والرئيس غير شاعر، عفوا الرئيس شاعر أعمال، والصرف وعدمه بضاعة كلام، فسترى أن رجائي لن يخيب، وقد رفعت إليه الآن كتابا خاصا، أحسن الله الجواب والمآب.
أصافحك مشتاقا إلى أحماضك الحبيشية التي تغني عن «معكرونكم»، فأسأل الستار أن يكشف عني هذه الكربة، وينبت المرعى فلا تبقى حزازات النفوس كما هي.
أخوكم مارون
ولبراءة الذمة أقول للقارئ الكريم إنه لم يتحقق شيء من آمالي. (8) خطبة بشري
جئت وفي نيتي ألا أتكلم، ولكنني فعلت إذ بلغني، والعهد على المخبرين أنكم سيدات وسادات، مشتاقون جدا إلى طلعتي البهية، أشكركم جدا، فقد جبرتم خاطري المكسور، وفهمتموني أن الله لا يبلو حتى يعين، فهو إن تكرم علي ببطن كافوري يتقدمني بلا حياء إلى كل محضر، فقد رزقني من يقبلني على علاتي.
سيداتي وساداتي
لست اليوم خطيبا، ولكنني محش، أعلق على الهوامش، وبكلمة أبرع: رجل يقطع من كل واد عصا، فانعتوه ما شئتم.
جئنا لتعظيم جبران ولا بد لكل زعيم في الدنيا والدين من ناس تؤيده، فحاكم لا تشد ظهره رعية لا يهابه الناس وأمره يكون رخوا، وقديس لا يطلب شفاعته أحد ولا تقرع له صدور العجائز يعيش بلا شأن في عالم الإيمان، فالقديس برلام مثلا، زبائنه قلائل جدا، ولا يعرف أحد باب بيته مع أنه اختصاصي بحب الصبا والنمش، وله رأي مفيد يشفي من المغص، وإن قلتم: من أين جئت بهذا القديس الذي لم يسمع به حتى الخوارنة العتاق منا؟ أقول لكم: راجعوا السنكسار فاسمه مدرج فيه كبقية الآباء القديسين.
إذن لا بد من تعظيم جبران، وتمجيد أورفليس مدينة المصطفى، فهنا أروع أودية الدنيا، كان وادي الحبساء والقديسين، وصار اليوم وادي النوابغ وأبطال الدنيا والدين.
يقولون إن الله موجود في كل مكان، وفي ملتي واعتقادي أنه - لاسمه السجود - يمضي أغلب أوقاته في الجبة، فجبة بشري جبة الله، والله في الجبة كما قال الحلاج المتصوف المتهوس، فلا عجب أن يصيف سبحانه وتعالى بين الأرز والديمان، فهذا الماء يطول العمر، وهذا الهواء يصفي الأرواح وينقي الأبدان.
وإذا كانت السماء يا أخي عمر فاخوري، جنات تجري من تحتها الأنهار كما وصفها الله في كتابه العزيز، فهي - علم الله - هنا أو هنا ملحق لها كما هي الحال في لوكندات المصايف، وكأني بالجبة من الحدث إلى إهدن قد خلقها الله مقرا لعباده الصالحين، الذين يصابون بالضغط العالي وتصلب الشرايين ولا يستطيعون الإقامة عنده في أعلى عليين.
وإذا كان في بيت أبي يسوع منازل كثيرة، كما حدثنا إنجيله الطاهر عن مساحة السماء، فهنا أحد هذه الأمكنة، اجعل اللهم نصيبي من جنتك في بقعة خيرة كهذه، وما يضرك لو تخلدني بشحمي ولحمي فألاقيك في السحب مع الجدين الجليلين: إيليا وأخنوخ، وإن لم تعد كما وعدت، فخير وبركة، فالإقامة هنا لا بأس بها.
سامحوني إن تفلسفت اليوم قليلا، فقد فعلت دفعا لتوهم الناس أنني مع هذه الشيبة الطاهرة لا أعرف أتفلسف، الخير فضلتي يا جماعة، وأنا كالمتفلسفين من معاصري، والفرق بيننا أنهم يتفلسفون «رسميا» وبكثرة تقطع الرزق، وأنا أتفلسف ضاحكا ومضحكا، تلبس فلسفتي - غصبا عن رقبتي - ثوب المرافع القليل الحشمة، وما حيلتي فيها؟ إنها تحب الرقص، فاعذروها إذا لم تترصن.
هنيئا لبشري أرزها الخالد، وبطركها الشيخ الفتي، وواديها الرهيب، وجبرانها العبقري، ومغارتها العجيبة، كاتدرائية الله - لا تنسوا أنه يصيف هنا - ما أعظم حظ بشري! أعطاها الله وكثر، وهي تستاهل.
وإذا ذكرنا مغارة قاديشا تمثل لنا الخوري طانيوس جعجع : كولومب الجبة أو القائد المتنكر بثوب خوري، كما سماه الجنرال غورو، فعسى أن تشمله الحكومة الكريمة بنظرة فابتسامة، فكلام تأويله استحقاق شكر لبنان.
في لبنان أعياد صيفية أكثر من أعياد الطائفة المارونية، فعيد كبير للشجرة نتمنى أن تثمر طحينا وبرغلا، وعيد أزهار نتمنى أن تضفر إكليل حمد لحكومتنا الساهرة، وفيه محاضرات في عواصم الاصطياف أحدثها وزير التربية والاقتصاد الوطنيين، فشكرا لما يبذل معاليه من جهود جبارة في سبيل الإنعاش، أخذ الله بيده.
أف! لعنة الله على الشيطان، نسيت أعياد ملكات الجمال، ليتهم يجعلون جائزة للجمال المعتدل، ولو مرة، فأريحها وأستريح قليلا، فلا راحة لي ما دامت غلة الأدب: سلم بوزك.
إذن لا عيد أدبي في الصيف الذي يضيع اللبن، إلا عيد جبران نبي لبنان، لست أريد النبي بمعناه الديني، فالأنبياء قد ختموا، ولكن عنيت جبران النبي بأسلوبه وتفكيره وخياله، إن جبران وسام رفيع، لا كالأوسمة، علقه الدهر أبو العجائب، على صدر لبنان، مصدر البرفير والأرجوان.
واليوم يحدثكم عنه أديبان خطيران يفهمان سر الأدب، ولا شك أن حبيبنا جبران سيغتبط جدا؛ إذ يسمع ما يقال فيه من الأستاذين عمر فاخوري وخليل تقي الدين، ولما سيكتبه الحبيشي غدا في «مكشوفه» ساتر عورات الكرام.
فلحفلة هذه السنة معان كثيرة يستنتجها اللبيب، ففيها المراعاة للمادة 6 و6 مكررة، ومنها يعلم أن في لبنان كنيسة أدبية جامعة من أمرائها جبران وفرح أنطون والشدياق، ودفتر العماد في دار المكشوف، كثر الله هذا النسل المبارك، فبه لا بغيره تمتاز الجمهورية اللبنانية.
إن في لبنان اليوم بنائين جددا يزيدون على هذا الهيكل قببا شامخة تسر العيون، وأجراسا عبودية تشرح وترعد، فكاتب «الباب المرصود» أديب بكل حواسه، بل هو الرصد الذي ينشر أمامك ذهبه، ثم يحوله حجارة إن جهلت قيمته، فحذار فكل ما يحققه العقل يخلقه خيال الأديب أولا.
هلم أيها الأستاذ واركب المنبر في هذا الزمن العصيب، فمهما يكن شموسا فإن ظهره سيلين لك. •••
قد سمعتم عمر فاسألوا الله أن يقلل من كسله، وألا يشغله السجل العقاري عن تسجيل قطع أدبية واسعة الأطراف مغلال يملكها أبناؤنا وينعمون بخيراتها.
أما السيد حليم كنعان الذي أقدمه لكم الآن فهو كاتب فتي جديد يتأهب بإخلاص واجتهاد للمعامع الأدبية، وإنني أتوسم فيه خيرا، وإن زججناه اليوم بين الفحول فليتعود أن يسد المكان الذي سدوا، والآتي قريب. •••
والآن جاءت نوبة الأستاذ تقي الدين، والشيخ خليل من رجال الحكومة كصاحبه عمر أفندي، عمر يقيد صكوك البيع وخليل يراقب تدوين الحكي؛ أي ما يقال في مجلس النواب، ولكن هناك إلى جانب الحكي كتاب «عشر قصص»، وهي حكايات بلدية طيبة كعرائس المروج والأرواح المتمردة، إنما بصورة أخرى ولو كان خليل أصغر سنا لقلت جبران قد تقمص «القضية ثابتة» يا شيخ، وجبران يؤمن أن امرأة أخرى ستلده.
إننا ننتظر من خليل تصوير «الخلوة» وما فيها، كما صور جبران الصوامع والديورة، فأدبنا مفتقر جدا إلى تصوير الخبايا والزوايا والتكايا، وبدون هذا لا يصير عالميا.
المنبر يدعوك يا شيخ، فانس ثرثرة مارون، فللعمر حق، وللسن حصة كبيرة، أسمع جبران صوتك، فبيته قريب منا، وإن شككت مرة فبطرس شك ثلاث مرات، وبولس أكل كفا سخنا على طريق الشام.
لو كنت على رأس الدولة لعزلت خليل تقي الدين - لا تخافي يا ست، مع المعاش وحبة مسك - وما فعلت إلا لأصرفه إلى الأدب الخالص، فيخلق أبطاله قصصه وأحاديثهم كما يشاء، لا كما تقتضي الجريدة الرسمية. •••
يظهر أن الحال اقتضت أن يتكلم الأستاذ الشهير فؤاد إفرام البستاني، فأكثركم إن لم أقل كلكم، يعرف صاحب الروائع، ومن جهله فستعرفه به محاضراته المتتابعة كقافلة ابن العاص إلى ابن الخطاب، إن كلمته استغاثة كما سماها لي، فعسى ألا تكون من «الأعماق». •••
أما كلمة الختام فلا ترعبكم، فليس هناك خطيب آخر، إنها كلمة: شكرا، شرفتم، قوموا إلى المأدبة. (9) الحداد وجبران
الخوري يوسف الحداد هو ابن عمتي، وابن ضيعتي ذات الطريق المشهورة، وهو أيضا أحد شيوخي الذين أخذت عنهم، وكثيرا ما حاولت أن أظهر عبوديتي لهذا الذي علمني حروفا وأمسكت قلمي، خفت أن تتهم حكومتي فيه وأن يقرئني «مادح نفسه» سلاما أنا مستغن عنه.
ظهرت «النجوى» كتاب ابن عمتي الحي بتفكيره وتعبيره، فقرأت أقوال المنصفين ولم أحرك ساكنا كما يقولون، وما لهذا الخوري ذنب إلا أن أباه منذ مائة سنة اختار عمتي من بين الصبايا.
وعام أول، أو هذا العام - لا أذكر - أذاع معهد الحكمة الخطير أسماء الذين حرثوا كرمه، ونسي الحداد مع أنه ذكر الجميع حتى فاعل الساعة الحادية عشرة، فعتبت وجاء العذر مقبولا، فكان العتاب صابون القلوب.
واليوم وقعت عيني على كلمة الأستاذ إلياس أبي شبكة، مقدرا الأستاذ الكبير منوها به بعد ما تناساه كثير ممن أحبهم حبا جما، شاركه فيه الكير والمطرقة والسندان، عدة الحداد.
أرى أن عقل الأستاذ أبي شبكة وقلبه قد اشتركا في المقادرة بين الخوري يوسف الحداد ورجال زمانه، عده الأسبق في الطبقة الأولى من أدباء الجيل السابق، وهذا حق ننفق في سبيل تأييده عن سعة، أما العاطفة ففي قول الأستاذ: «ولا أذكر أنني هففت إلى رجل قطع هذه المرحلة من العمر كما أهف إلى الخوري يوسف الحداد.»
لقد صدق الأستاذ، فكل من عرف شيخنا الجليل يهفو إليه، فتحت جبته السوداء قلب كالذي تمنى داود أن يخلقه الله فيه، ونفس ذكية لا تحتاج إلى الغسل بالثلج، ذهبي الفم على المذبح، كناري الفم في المجالس، وهبه الله إحدى خصال أمه بلغه الله عمرها، فهو يحبو إلى الثمانين ولا يزال كإيوان كسرى الذي يقول فيه البحتري:
وكأن اللقاء أول من أمس
ووشك الفراق أول أمس
فشكرا لأبي شبكة عن سيدي الرائح الجائي كل مساء بين ساعدي شط جونيه اللازوردي كأنه الرمح دارجا، مشغولا في جسده عن متاعب القلم، ولكنه - كما وصفه أبو شبكة - «ما برح أخضر الذوق، طري التفكير، طلي الحديث.»
كتبت إليه عام 1936 أسأله عما ترك جبران في ذهنه من أثر، فأجاب غير عابئ بتقطع النبض وأدرجت مكتوبه في ظرف «وثائق جبران» فنام مع النائمين فيه ينتظرون الساعة، ولكن كلمة الأستاذ أبي شبكة أيقظت كتاب ابن العمة في تلميذه جبران، وهذا رأيه فيه مكتوبا يؤيد الحديث المردي:
ابن الخال الحبيب
السلام عليك، وعلى شق الطريق إلى عجوز ابن الخطاب.
كتبت إلي تستفسرني عن جبران، وهل كان من تلاميذي في مدرسة الحكمة، ثم تشعرني بتوفيقك إلى شق الطريق.
أما جبران فهاك عنه ما يعلق بذاكرة أستاذه، درس علي جبران سنة واحدة فيها كنت له لسانا وقلما، وكان أذنا تعي ما عناها، وقلبا تابعا لهوى متبوع، ونفسا وثابة، وعقلا متمردا، وعينا هازئة بكل ما تقع عليه، مقلا من الإخوان، يزرع حقله في عقله وفي يوسف سعد الله الحويك، مجتزئا به بين سائر الرفاق، كثير الانتقاد، شديد التمسك برأيه، مفكرا قلما ترتسم الابتسامة على ثغره، طموحا تحت مهماز لا رفق معه، يجد ليجد ناظرا في أفق بعيد.
وفي قص خبر اتصاله بي ما يفتح لدرسه منفذا يطل عليه، وكثيرا ما يقاس الحاضر على الماضي (والطبخة الطيبة تعرف من العصر)، اسمع: في أواخر تشرين أول سنة قرع علي باب غرفتي، وعلى كلمة «تفضل» دخل شاب ربعة ذو وجه حنطي مشرب حمرة، وعينين ناعستين ما بين أجفان ذابلة كزهرة تطل من أكمامها، ترسلان نظرات طويلة مثبتة، وله شعر مرسل يلامس أذنيه. - الاسم الكريم، وهل أصلح لخدمتك في شيء؟ - أنا جبران خليل جبران من بشري، أنهيت دروسي في الإنكليزية، نائل شهادة الفلسفة، أتيت لبنان لأدرس آداب لغة وطني وأبدي فيها أفكاري، فكان نصيبي الصف الابتدائي. - ماذا تعرف من مبادئ العربية؟ - أحسن القراءة فقط. - أفلا تعلم أن السلم يرقى درجة درجة! - وهل يجهل الأستاذ أن الطائر لا ينتظر السلم في طيرانه؟ - إنني لم أرك قبل الساعة فمن دلك علي؟ - عيني رأتك وقلبي دلني.
اقشعر بدني من الجوابين وشعرت أن أمامي عقلية بارزة في فتى له حكمة الشيوخ، وذكرت للمتنبي: «ليس الحداثة من حلم بمانعة.» - والآن ماذا تريد مني؟ - رأيتك مرارا فسألت تلميذك يوسف الحويك من يكون هذا الخوري؟ فقال: هذا أستاذنا الحداد وله رفق بتلاميذه وعطف، وكلمته مسموعة عند الرئيس، فجئتك في أمري، دعني أحضر عندك لا أسأل ولا أسأل، وإني دافع مرتب المدرسة كله حالا، وأنا المسئول عن نفسي، لا أمي ولا أبي، وإن لم أنل مطلوبي فتشت عن غير هذه المدرسة التي تتعلق بحرفية القانون ولا تفهم تلاميذها. - مهلا وأعود، وما زلت بالرئيس حتى قال كلمته «التاريخية»: النتيجة يا حبيبي أنت المسئول، وأين راتب المدرسة؟ - حاضر.
وعدت إلى جبران، وما رآني حتى أقمر ليله وابتدرني قائلا: انقضى غرضي يا أستاذي. - ومن أين عرفت؟ - من وجهك الضاحك وعينيك.
وثاني يوم كان جبران بين تلاميذي على مقعد التدريس، وقدامي على المكتب كتابة منه: قبل مرور ثلاثة أشهر لا تسألني عن شيء وبعد ذلك سل ما تشاء.
لم يكن جبران وقت اللقاء الأمثولة يفتح كتابه بل كان آذنا وعينا، وتلك الأذن العطشى لا ترتوي وتلك العين لا تشبع، وكان يختلف إلي حينا إثر حين، يلقي علي أسئلة ويستشيرني في انتقاء كتب المطالعة فحولته على كليلة ودمنة والأغاني، ومقدمة ابن خلدون، ونهج البلاغة، ورسائل بديع الزمان، والدرر لأديب إسحاق، والمتنبي والبهاء زهير، والتوراة، ودرس الطبيعة وطبائع البشر وأخلاقهم وعاداتهم والتواريخ.
وكان يأتيني بمقالات من عندياته يستقل بها، فأرى منها جسما متناسق الأعضاء عليه مسحة من الجمال تحت ثوب من اللفظ لا يشاكل المعنى، فأمشي معه في ثقافته مشية من يرى تلميذه أكبر من تلميذ، وضعت له هذه القاعدة: «فكر طويلا واكتب قليلا، تكتسب كثيرا إلى أن تفيض القريحة فيضا.»
ومن أول مقال له أدركت ما هو جبران وقلت له: إنك صائر شاعرا مطبوعا، وكاتبا خياليا فاتق الله، إلى الأمام.
وكان جبران ينمو في أسلوبه نمو الحورة وينبثق انبثاق الحوض، ومعه تقوى الروح الوثابة العابثة المتمردة.
وفي آخر السنة تركت المدرسة ولم أعد أذكر إلى أين أتجه، إلى أن أهدى إليه كتابه وعليه العبارة: «أنت أولى بأولى بواكيري»، فكتبت إليه في بعض نقط فقطع الحبل، وكل ما أقوله: لا تتعجل بنشر نقد جبران قبل أن تلم به من كل ناحية، وجبران كان يحذق فن التصوير وهو في المدرسة.
لا أقدر أن أبدي رأيي في جبران؛ لأني لم أطالع تآليفه كناقد، ولا جلد لي اليوم، بل أعتقد أنك بدرسك له الدقيق تجد الغث والسمين، وعسى نقدك أن يكون نظير عصا موسى وراء عصي سحرة مصر، إن شاء الله الذي لا توفيق إلا منه.
ابن عمتك الخوري
9 آذار سنة 1936 (10) شيء عن مي
يا حبذاه!
هكذا أجابتني مي إذ دعوتها إلى الكلام في حفلة جبران التذكارية، كانت يومئذ مجاورة بالفريكة بعد محنتها، وقد صحبنا إلى زيارتها صديقنا وصديقها الريحاني.
تلك أول مرة رأيت فيها وجه مي الذي أطراه الناس نعتا، رأيتها فخلتني أمام كنيسة مهجورة، في عتمتها روعة وجلال، وفي شقوق جدرانها رائحة الفن والدهر، من أين جاءت إلى ذهني في تلك الساعة، صورة ابن الفارض كما رسمها جبران؟ لست أدري، رأيت في محياها ظل الشباب مسفوحا على الهرم، قعدت على «طراحة» كعادتنا اللبنانية، وجلست هي على كرسي بالقرب مني، فاعتراني اضطراب القاعد قرب جدار متداع، أدركت فورا أنني أمام امرأة لبنانية لم تمح مصر ولا مدنية الغرب خطا واحدا من خطوطها الجميلة.
يا حبذاه! تلك عبارتنا الإقليمية عند الحسرة الممزوجة بالألم، فهي بنت قرية من قرانا المتواضعة، وهي ما برحت تحتفظ بلحن عذب تحدث به لبنانيا عتيقا لا يتمطق ولا يلوك لسانه، قابلته ماري زيادة بالمثل، وهي بنت الجبل مثله، لا تعرف مضغ الكلام ولا صبغ الأحاجيب كبدويات المتنبي.
كم كنت غليظ القلب في إلحاحي عليها، فوا عجباه ثم وا عجبا! كيف لم أفهم أن هذه الهاء هي هاء السكت والندبة، كيف لم أدرك ما احتوت عليه «يا حبذاه» من تفجع يعتلج في صدر تلك المسكينة، فرحت أزيد الطين بلة ولا أحس، كانت مي تلك الساعة:
كعصفورة في كف طفل يهينها
تقاسي عذاب الموت والطفل يلعب
قد - والله - كنت أقل من طفل، وإني لأذكر ذلك وضميري يؤنبني، فمغفرة يا روح بنتنا العزيزة.
كنت أتأمل مي وأنا في حضرتها، كأنني غيلان أطوف بربعها الخرب، كانت تحدثنا بصوت في قرارته حسرة تحاول إخفاءها فلا تختفي، رأيتها تأبى الجلوس بين الصديق الشيخ فؤاد حبيش والسيدة عقيلته، عملا بتقليدنا اللبناني الذي تلقته في مدرسة البيت، لم تبدر منها بادرة لا عهد لي بها، فباتت في عيني مثال المرأة اللبنانية، لا تجود بأكثر من ابتسامة لما كان نقهقه من نكات شاردة حضرتنا في تلك الساعة، أسمعت بقولهم: بنت مقهورة، لقد رأيتها تلك الليلة بشخص مي فاستغنيت عن البحث والتفتيش.
قرأت أن الدكتور فهمي ختم خطبته، وموضوعها «نزعات مي في حياتها»، بهذه الكلمات التي يقال أنها كتبتها قبل موتها: «هذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصات، لقد عاشت وأحبت، وتعذبت وجاهدت ثم قضت.»
من نكد الحظ أن تبتدئ حياة مي بالمقلوب، فبعد ما أمست الكاتبة الأولى أحبت الكاتب الأول فمضى لسبيله، وكان الكبت وكان الانفجار، ولم تفز مي بالتصعيد الفرويدي المزعوم لتتسامى بفنها وتستولي على الأمد، فلو أحبت في فجر طلعتها الأدبية لظلت أمامها رقعة الأمل واسعة، ولكنها ابتدأت حيث ينتهي الناس فلم تتحول غريزتها الجنسية إلى أسمى من الهوى، إلى حب الجمال والموسيقى فذهبت ضحية «الفكرة الثابتة». «الفكرة الثابتة» شر من التنين الذي رآه يوحنا، فإذا احتلت ساحة الشعور سيطرت عليها واستعمرتها، وكيف لا تفترس حملا وديعا لا حاجب على حظيرته ولا بواب، مات الأب ولحقت به الأم، وأمست البنت وحدها، وجهها والحيط كما يقولون، وجبرانها أمسى عريس البلى.
قد يقال ما هذا الحب وبينهما بحور أقل أمواجها جبل؟ فنجيب أن بشار بن برد قد انبرى لحل هذه العقدة فاستفتوا شعره، وإذا كان علم النفس يعلل الحب العياني زاعما أن المرء لا يحب شخصا حقيقيا، بل يعشق شخصا خياليا فينتزع من نفسه أشياء يسبغها على معشوقه، حتى يخال أنه اكتشف بذلك أسرار النهاية وحقيقة الوجود، فكيف بمي المفتونة بسحر جبران حتى ترى فيه شخصا أسمى من البشر؟
إن التقاليد التي شن عليها جبران ألف غارة، هي التي ختمت مأساة من أحبته حبا جما هذا الختام الفاجع، أبت الفتاة أن تخفف رأسها وتذهب إلى لقاء الشاب، فعلى الشاب أن يسعى، وقبل أن يلهما حلا ملائما مات جبران وعاشت مي بعده كراحيل لا تريد أن تتعزى، استبدت بها «الفكرة الثابتة» فأبغضت الناس وتحامتهم؛ لأنهم سعدوا دونها، حتى أبت أن تستقبل الدكتور طه حسين الذي سعى إليها، بل أنبأته - كما روي - بأن ليس بينها وبين غيرها من الناس اتصال، ولا خطاب ولا حديث إلا من طريق الكتابة، فإن كانت لك كتب لم أقرأها فأرسلها إلي، وأما شخصك فلا أراه ولا يراني.
أقيمت لمي في العالم العربي أعراس تليق بالعروسة الخالدة، ولا بدع أن كان خيرها عرس مصر، فقد أسدت إلى الكنانة خير الأيادي، وجددت عهد الأندلس في ذلك الوادي البهيج، فهذا إسماعيل صبري باشا يتلهف بشعره الرصين إلى يوم الثلاثاء - يوم صالون مي - ليرى مي وإلا فلا كان يوم الثلاثاء، وهذا أمير المنبر الدكتور نقولا فياض يهتف من على منبر الجامعة الأميركية:
يا مي هذي ساعة الميعاد
فسلي فؤادك عن خفوق فؤادي
وهذا الدكتور طه حسين يقول في ناديها: «وحسبكم أنني استطعت أن أصل إليه حين لم أكن أكثر من طالب بالجامعة القديمة.»
وهذا الدكتور شميل يخاطبها بقصيدة لتلين ويفرخ روعها بعد ما دخل خدرها محتشما فأفزعها:
إذا ما قمت أطري الحب يوما
ألا تدرين أنك في خيالي
ومي ترصد هذا الحساب الضخم بما أوتيت من فصاحة ولسن وشدة عارضة، كانت في ذلك المعترك - معترك العقول الكبيرة لا الأحداق والمهج - كما يقول المثل اللبناني: يا بحر ما يهزك ريح، وظلت شامخة كأنها سنديانة الكنيسة حتى اقتلعتها العاصفة الشمالية.
ليس بين يدي من كتب مي إلا كتاب واحد عنوانه بين «المد والجزر» كأني به عنوان حياتها، ولكنه لا يكفيني لرسم صورتها كاملة، بيد أنني أستعين بذاكرتي فأتخيلها وأرسمها ببضعة خطوط قد تبدي للأذهان صورتها المصغرة.
مي غربية شرقية في تفكيرها، تفاعلت في قلمها الثقافتان فكان من نتاجها تعبير رصين لم تظفر بمثله أنثى قبلها، فمي الكاتبة خير أنثى عرفها الشرق العربي، وهي في أسلوبها المتين تبز الكثيرين من الفحول كما قيل في بنت عمها الخنساء.
نفست الخنساء كربتها بما قالته في رثاء أخيها صخر، واعتصمت مي بالحياء فماتت بدائها، ولها عذرها فالأم غير البنت، والشقيقة غير الحبيبة.
في منثورها رائحة شعر ذكية، وفي تعبيرها موسيقى بعيدة الأثر، كان أدب المقالة مسيطرا في عهد صباها، فتأثرت كغيرها بأسلوب الشدياق والحداد وإسحاق وغيرهم من كتاب القرن التاسع عشر، ثم ضمت إلى قسماتها الفنية بعض ملامح جبرانية ريحانية.
الكثير من أدب مي يؤثر بقارئه؛ لأنه ابن الانفعال، والانفعال كما يقول ريبو خميرة الإبداع الفني.
يحس قارئ مي أنها قرأت كثيرا، وتمثلت ما قرأته فأخرجته متسما بطابعها الشخصي، وإن لم يكن في هذا الطابع نتوء يدلك عليه فتعرفه أنى وجدته، والذي عندي أن مي ليست ممن يرسلون المقال عفو الخاطر بل تنقح وتحكك، فإذا كان الحطيئة عبد الشعر، فمي أمة النثر، أما أثرها في بنات جنسها فبعيد جدا، إنها ربة البند والعلم، وبحق يعقد لها اللواء في أدبنا النسائي الحاضر والغابر، وحسبها هذا.
رحم الله فتاة نابغة هي إحدى حلقات سلسلتنا الذهبية، وفي ذمة الله حياة ضاعت «بين الجزر والمد»، «إن المطرة ظلت وحدها تشيع السفينة - سفينة نبي جبران - بنظرها حتى توارت بالضباب».
أشارت إليها المحبة فاتبعتها، فدرستها على بيدرها، وغربلتها لتحررها من قشورها، وطحنتها لتجعلها نقية كالثلج، وعجنتها بدموعها حتى تلين، وأعدتها لنارها المقدسة، فكانت خبزا طاهرا ومحرقة نقية.
أمد الله في حياة أخواتها الكاتبات وأبقى لهن رداء الشباب. (11) ما بين مي وجبران: رسالة تكشف الغطاء وتزيل الستر، نعيمة وكتابه «جبران خليل جبران»
يا صديقي
لا تتعجب أن أخاطبك بيا صديقي، فقد كنا وما زلنا أصدقاء وإن ضرب الدهر بيننا، وفرقنا أيدي سبأ.
تذكر أيام المدرسة، وقد شبت وشبنا، وحينما - تمرون الديار ولم تعوجوا - أنظر إلى حركاتك وسكناتك فأتذكر مارون المرح كالبرذون الفارة، لا تسعه الأرض التي يحلها أو يحتلها، وعندما أسمع حديثك أو أقرأك أتذكر لواذع نكاتك التي كنت ترمينا بها فنفرنقع عنك بعد تكأكئنا عليك نتحرش بك، أتذكر «عاصي » و«الناكوزي» وغيرهما؟!
تلك أيام «وهيدي بدالها» يا مارون.
سمعت حديثك في راديو الشرق فعرفتك، أرشدني إليك ما في صوتك من بحة وصحل لا أزال أذكرهما - ماركة مسجلة - فبقيت أسمع حتى انتهت كلمتك عن مي - الله يساعدها - وأعلن المذيع أنك أنت هو، ذلك المارون الذي كنا نحب قوارص كلامه كالنساء اللواتي يستطيبن اللطم والضرب، أسمعت بهن؟ يظهر مما أقرأ لك أنك بكل شيء عليم، الحمد لله على هذه النعمة.
قد طال الحديث وأتصورك كعادتك سئمت، وقلت: أيش بدك يا خيي! قل وحل عني.
ألومك يا مارون؛ لأنك نبشت قبر مي، وشرحت تلك المستورة على قارعة الطريق، أليس الراديو مثل قارعة الطريق وأكثر؟ ما كنت ألومك لو لم تأت ما نهيت عنه، أما لمت الكاتب الكبير ميخائيل نعيمة حين تحدث عن حب جبران لميشلين، وما كان بينهما من علاقات؟ أليست هذه كتلك؟ ماذا تهم الأدب هذه النواحي، أليست عيوبا يجب أن تغطى، فالإنسان ضعيف، وما خلق إلها كاملا منزها عن كل عيب وضعف.
الإمضاء «ب. ع» «ب. ع» نصف بعبع، من هذا؟ لست أدري، جمعت قوى ذاكرتي واستعنت بدفاتري، وانتظرت الفرصة انتظار القارم اللحم والصائم بيضة العيد، فقرأت كتابي الجوائز لسنتي 905 و906 من الجلد إلى الجلد، فلم أوفق إلى شخص عرفته وعرفني في مدرسة الحكمة يبتدئ اسمه واسم أسرته بهذين الحرفين.
ذكرني هذا الرفيق بأيام «البنوتية» التي لا أنساها، وأحس أنني أحياها وأنا أزاحم الستين، فلم أبلغ بعد الساعة التي أقول فيها مع أبي نواس: «وأراني أموت عضوا فعضوا»، وأظنني لا أبلغها.
اسمع أيها الصديق «الحشري»، أتألم ألم الأستاذ ميخائيل نعيمة؛ لأنه قال: إن جبران بشري أحب كما يحب الناس، ويشرب كما يشرب عبيد الله، وجمع من حطام الدنيا مثلما يجمع معظم الخلق. وهل أنا مجنون لأعتقد أن جبران لا يعيش باللحم والدم كسائر الناس؟
لا أشك أبدا في أن دم جبران حار جدا، وإن زعمت غير ذلك فرسومه تكذبني، إن تياراته الفكرية في أدبه وفنه تتجه دائما صوب الحب الذي يراه الحياة كلها، ومن قرأ أول حرف وآخر حرف مما كتبه جبران - حتى يسوع ابن الإنسان - رأى «الحب» كنجمة القطب وإليها تتجه سفينة جبران.
ولست أشك أيضا في أن حياة الأديب الفيلسوف ميخائيل نعيمة أقرب إلى الصالحين المتعففين، وإن حياة جبران أقرب إلى الوثنية اللبنانية العريقة منها إلى المسيحية الطارئة، ولكن هذا لا يدعو إلى تلك «الزحمة» الكبيرة التي صرف إليها نعيمة همه، بدلا من أن يدرس أدب جبران درسا جامدا وعلى ضوء لا يترجرج ولا يتذبذب.
أنا لم أكتب حرفا بعد عن كتاب نعيمة في جبران، وإن كان في نظري على علاته خير ما كتب عن جبران، ما أبطأت عن ذلك إلا لأنني سأتكلم عن مدرسة جبران وأثرها في أدبنا الحديث حين تتجمع لدي الوثائق الكافية فلا باس علينا من قول كلمة عابرة.
بين كلامي وكلام نعيمة فرق واضح. إن الأستاذ نعيمة تحدث عن «فضائح»، وأنا لم أتحدث إلا عن حب طاهر، أين منه الحب العذري؟ قد رأى جميل بثينة، والمجنون ليلى، أما مي فوا لهف قلبي عليها، إن نعيمة يروي حديثا يعجز عن إثباته بالوثائق التي هي مقطع الحق الأول، أما أنا فسأريك - أمهلني قليلا - ما يزيل كل شك يخامرك ولا يمس مي وجبران بضر، إن حبهما كحب أبي وأمي، وأبيك وأمك يا صديقي «ب. ع»، أما ما ذكره الأستاذ ميخائيل - ولا أستبعد وقوعه؛ إذ ليس جبران أعظم من داود - ففيه جموح وتعد يؤاخذ عليه من قال فيه نابغتنا الدكتور فيليب حتى: إن ملايين الدولارات التي كسبناها في هجرتنا لا تساوي جبران خليل جبران.
ليست «ميشلين» شخصا وهميا في حياة جبران، فهناك صورة لها بريشة جبران محفوظة في متحفه، وأذكر أن تاريخها سنة 1908 إن ميشيلين شخص من لحم ودم مر في طريق جبران، ولكنه أصبح - كما أظن - تحت قلم الأستاذ نعيمة شخصا روائيا.
فكتاب نعيمة في جبران وإن كان ذا قيمة فنية رفيعة، فهو كروايات ديماس يختلط فيها حابل التاريخ بنابله، أخرجه الأديب الكبير بشكل رواية بدأها بوع وع، وختمها بغر غر، أي من المهد إلى اللحد، وهدف نعيمة في كتابه إعلامنا أن جبران بشر مثلنا - آمنا وصدقنا.
وما رأيت نعيمة يملك وثيقة تؤيد ما زعم، ولا هو شاهد عيان، بل لا يملك آخر مقطع من مقاطع الحق وهو «التواتر»، فأكثر الذين خالطوا جبران ولابسوه ردوا على نعيمة بعنف وقسوة.
خاف نعيمة كما ظهر من مقدمة كتابه، أن يصير صديقه جبران أسطورة أو نبيا، فأرانا أن جبران إنسان لا غير، وإلا فما هذه الحكايات عن فلانة وفلانة، والأوروبيون يذكرون المرأة التي أحبها الأديب ليبينوا أثرها في فنه وأدبه، ولم نر شيئا من هذا في كتاب نعيمة، فميشيلين وفلانة أشباح لا علاقة لها قط في الأدب الجبراني، وقد يكون لهن علاقة ولكن شيئا من هذا لم يذكر، فكأن الغاية القصوى من سرد الحوادث بيان أن جبران أحب حبا خسيسا وإعلان أن جبران «نبأ كاذب».
يقول ذلك نعيمة في (ص179) ويروي أن جبران قال ذلك عن نفسه، أراد أن يعترف لصديقه في البرية، ولكن تواضع ميخائيل حال دون سماع ذلك الاعتراف القاسي «هالني أن يمضي في اعترافه أمامي فيجلد نفسه العاتية المتمردة أمام عيني، وينزع عنها دروعها العديدة، ويتركها عريانة وبلا سلاح، ومن ثم فمن أنا لأتقبل اعتراف نفس وإن تكن أختا لنفسي؟! وقد تكون نفسي أحوج إلى الاعتراف منها» ص190.
ليته سمع ذلك الاعتراف وحل جبران من خطاياه بعد التثبت من توبته وندامته، وجاءنا بالتفاصيل ولم يتركنا فيما تركنا من حيرة، فأنا أجل الأستاذ ميخائيل وأحترم أخلاقه النبيلة، وأصدقه إذا قال سمعت بأذني، وبعد فهذا الاعتراف يذكرني باعتراف دوستويفسكي لتورغنيف، ولكن نعيمة كان أرحب صدرا.
لقد وفق الأستاذ نعيمة كل التوفيق في إخراج قصة جبران، فهي خير ما كتب، وخير ما أذاع وما أذيع له، شاء الدكتور طه حسين والأستاذ توفيق الحكيم أن يكونا بطلي قصة، فكتبا في سالنش قصة «القصر المسحور»، ولكنهما قصرا جدا عن الأستاذ نعيمة في كتابه جبران خليل جبران، الذي هو ابن عم المثل السائر لحا، فكثيرا ما يلتقي نعيمة بابن الأثير فيدعي أبو الفتح ويتواضع ميخائيل والمطلوب واحد.
ولنعد الآن إلى حب مي المسكينة، فقد كان له أعظم أثر في توجيه حياتها ، فختمت تلك المأساة، كما علمنا وعلمت أيها القارئ العزيز، فمي بين المحبين كداود بين التائبين، توبة داود متقدة صارمة ومحبة مي مؤلمة عارمة، وفي كلتيهما لذة كالقشعريرة التي تأخذنا عند فجر أيلول في الخيمة، وإذا صح ما زعم علماء النفس في تولد الهوى كان الجاني على مي خيالها القوي.
يعلمنا مبحث اللاشعور أن ميول الناس واعتقاداتهم تتبدل، من حيث لا يدرون، إذا خابت آمالهم وكبت خيول أمانيهم في ميادين الحب، والخبر عن مي كما روى أدباء مصر الذين خالطوها بعد محنتها وقبل أن يلفها الغسق، أن عاطفتها الدينية نمت وتضخمت في طورها الأخير، إن طور اليأس والغم والقنوط - ومنبعه الكبت - يوجه الضعاف إلى هذا الملجأ المنيع، فكل عمود من أعمدة قصر العواطف الدينية يرتكز على قمة هرم قطعت حجارته من مقلع ميول وأهواء مكبوتة.
تلك حالة المغلوب إذا كان رجلا فكيف به وهو امرأة بل بنت «مقطوعة» منبتة، فكم أدى الفشل الحبي إلى ظلمة الديورة، وما الفرق بين فتاة تدفن حبها المقهور في قرنة، وبين مي التي جعلت من بيتها ديرا قبرت حبها في زاويته، وصلت عليه صباح مساء، إن عزلة مي لمفزعة، فقد عادت طفلة في دنيا الحب والهوى إذا اعتبرنا الحب كما سماه برغسون «طفولة جديدة»، وقد انتهت مي في طفولتها الجديدة إلى نسيان «الأنا» فصارت ميولها «غيرية» وعالية، كأنها أدركت أن سفينة آمالها الأنانية قد تحطمت على صخور جزيرة الحب، فكتمت داءها واستعلت على حبها بينها وبين الناس، أما بينها وبين نفسها فظلت متمسكة بذلك الخيط الواهي تجد لذتها في ألمها، وفي الألم لذة لا تخفى على الخبراء.
ولا بدع في أن تلجأ مي إلى دينها في تلك العزلة الموحشة، فالحياة الدينية ينبوع العواطف العذبة والأحلام اللذيذة: طوبى للحزانى فإنهم يعزون.
والعاطفة الدينية تنمو غالبا في تربة الحرمان، وتمتد جذورها حتى الطبقة التي يعيش فيها الكبت، وهي الطبقة القريبة من النار في قلب العالم الأكبر الأصغر «الإنسان».
وكأني أسمعك يا صاحبي «ب. ع» تقول: قتلتنا يا هو ! هات البرهان ودعنا من اللت والمط، فاقرأ إذا يا صاحبي المجهول هذا الكتاب من مي إلى جبران.
15 يناير سنة 1924
مصطفى
ماذا جرى للبريد، لقد كان يصل سابقا في ثلاثة أسابيع أو أقل أحيانا، وها مكتوبك يصل بعد أربعين يوما، ومعه تذكرتا بريد في غلاف خاص تمثلان الوجهين اليونانيين البديعين تناسقا ومعنى، ما أبطأ الرسائل في انتقالها! أتراها تجيء من أقاصي الدنيا، من أميركا، لتصرف كل هذه الأيام في الطريق؟
عيد ميلاد يسوع - يوم رأس السنة - عيد معمودية يسوع وميلاد جبران في يوم واحد، أتتصور كم في هذه المواسم من فراغ ووحشة؟ لا سيما عندما تمر أمامنا وجوه، ثم وجوه إلا ذاك الوجه الذي نشوق إليه، ونسمع أصواتا ثم أصواتا إلا ذلك الصوت الذي نطلبه ونناديه فيلبي منه الصدى «المفترض»، حتى نسيت أن تعايدني يا كثير النسيان! في حين أن بعض أصحابنا يغتنمون هذه «الفرصة» ليهنئوني «كثيرا» أو على الأقل ليتحفوني بزركشة كهذه: يا مي عيدك يوم وأنت عيد الزمان ... إلخ.
لقد كنت يوم 6 يناير بطوله موضوع تفكيري، وكنت ماثلا أمامي بصورة طفل، نونو نونو، تتحرك يداه الصغيرتان في الهواء بإشارة الباحث عن أدوات قدر له أن يحملها ويعالجها، وتيسر لي أن أتفرغ للتفكر والتأمل في المولود النونو؛ لأني كنت مصابة بنزلة طفيفة علمت من رسالتك أنها جاءتني منك «كيف ذلك؟» تستفهم أنت؟ ذلك أنك اجتزت كما تقول، مسافة طويلة ليلا وفي سيارة مكشوفة فكنت معرضا نفسك للبرد، فظهرت نتيجة ذلك البرد في، مفهوم؟ فلتوفر علي في المستقبل جميع صنوف النزلات والوافدات وما شاكلهن، لا تعرض نفسك للبرد واتق كل ما يؤذيك، مفهوم؟ وهل يوافق مصطفى على هذا الاقتراح؟
كأنك تلومني لأني أسألك عن صحتك! وهل يمكن ألا أسأل؟ إنك مدين لي بأن تقول عنها ما قلته في هذه الرسالة، فتسعدني بعد أن كنت تطعنني في الرسائل السابقة كلما قلت إنك مريض، وبدلا من أن أشكرك على هذه البشرى أراني مسوقة إلى العتاب؛ لأن في نفسي لك قسطا وافرا من العتاب على ما يلوح.
لماذا لم تخبرني بشفائك قبل اليوم، قبل أن أسالك؟ قبل أن نعود إلى التراسل؟ لماذا لم تقل لي أنك شفيت منذ أن شفيت؟ لست مغرمة بحكاية أبريق الزيت إلا إلى حد محدود، ولكن كيف استطعت أن تهمل تطميني وأنت تعلم أن ليس من يطمني غيرك؟ كيف استطعت ألا تفكر في كل هذه الشهور ولا مرة واحدة؟ «علامة الاستقلال هذه» قد تقول أنت «النسيان بعض أشكال الحرية» قد يدل كذلك على شيء آخر في بعض الظروف. «إذا تخاصمنا في المستقبل فيجب ألا نفترق مثلما كنا نفعل في الماضي، بل أن نبقى تحت سقف بيت واحد حتى نمل الخصام ... إلخ.»
سمعا وطاعة ... يجيب أهل إهدن، ولكن الرجاء إلى سيدي الأستاذ أن يذكر أنه لا بد من اثنين للخصومة، فيجعل لأهل بشري نصيبا من النصيحة الحكيمة التي نفح بها جيرانهم ومناوئيهم، وأن يذكرهم - هم يعني أهل بشري - بأن نصائحه ومشوراته أثمن من أن يفرط فيها، كم فعلوا - هم أهل بشري الذين فعلوا - يوم أن نسوا - هم أهل بشري الذين نسوا - صندوق الذهب الحلو المليح الذي كان يصلح الأمور ويحل المشاكل، أفدني - أجارك الله من غضبات أهل بشري - أيجوز لجيراننا هؤلاء أن ينسوا ذلك الصندوق الواجب الوجود؟
أما من جهتي فلدي من خطير المشاغل ما يبعدني حينا عن كل تنازع وضوضاء، إني عاكفة على تفهم هذه الأعجوبة: أعجوبة ابيضاض الشعر بفودي تلك الجبهة التي أعرفها، يا للتفصيل الحلو الحلو الفتان! إنه يستحق لفرط لطافته أن يدمج في صف واحد هو والذقن المطبوعة.
وعلى ذكر نقرة الذقن لا تحسب أني سأخاصمك لأجل اللحية التي تهددني بها، بل بكل حصافة وهدوء أتشرف بأن أحيط مولانا علما بأن من الشئون ما لا شأن فيه لمولانا، وإن ذقن مولانا من الشئون التي لا شأن فيها لمولانا، فليتفضل إذن - بلا مؤاخذة - فيقف عند حده.
انتهيت من الكلام الرسمي الحصيف، وإذا شئت أن أترجمه لك بلغتي العامية قلت: إنني لا أريدك بلحية، وإذا أبيت إلا أن يكون لك لحية توليت أنا أمر حرقها ... ها! «هذه الابنة - يحتد مولانا - هذه الابنة تصل منها الجرأة بل الوقاحة إلى إخطاري بأنها ستحرق لحيتي المنوي إرسالها!»
الأمر كما تفضلت يا مولانا، سأحرق لحيتك ضاحكة كما أضحك الآن، ولا أحتاج للقيام بذلك خير قيام إلى أكثر من سيجارة أقدمها لك، وعود كبريت «أتلطف» بإشعاله، وهناك يكون ما أريد، فتظل الذقن على ما أرادتها الطبيعة تحمل بين هضاب «الجمود والنقمة» صورة مصغرة للوادي المشحون بشتى المعاني، وصورة من عطف الزهرة التي وضعت عليها علامتها ...
أما «الشروط» التي تتعهد بتتميمها بعد الاطلاع عليها، فحسبي أن أقول إن هذا كلام يليق بقائله، فاعلم إذن أن البند الأول من هذه الشروط هو أن يهتدي إليها «المغلوب» من تلقاء نفسه، أما البنود الأخرى فتأتي بالتبع، فهات أرنا مثالا جديدا من ذكائك الفريد! واحذر خصوصا أن تخطئ في معرفة ذلك البند لئلا تزعج حسن ظني بفراستك وصدق نظرك!
ما أحلى رسالتك في قلبي يا مصطفى، ما أحلى كلامك بين تافه الكلام وركيكه! إن ألفاظك وسطورك جدول نور وندى وتشعع وحرارة ولطافة وإنشاد، ومع ذلك فقل ما أخبرتني به عنك، لم تقل شيئا عن كتاب «نحو الله» وعن تلك الرسوم الزيتية، وعما يشغلك الآن من كتابة أو تصوير أو هجس، ولا نصف خبر عن الوادي! أيصدق أني أشعر بأسف كلما فكرت في الرسوم التي تنقشها ولا أراها؟ فأستعيض عنها بالنظر إلى الرسوم المنشورة في كتبك وأكتشف فيها كل مرة شيئا جديدا، هي خاصة فنك الأولى أن يكون زاخرا بالأسرار والمعاني، متفلتا من كل تعريف، هازئا بكل حصر وتقييد.
جبران، كتبت كل هذه الصفحات ضاحكة لأتحايد قول أنك محبوبي، لأتحايد كلمة الحب، إن الذين لا يتاجرون بمظاهر الحب ودعواه في السهرات والمراقص والاجتماعات ينمو الحب في أعماقهم قوة ديناميتية رهيبة، قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألاء السطحي؛ لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل قلوبهم عن ودائعها والتلهي بما لا علاقة له بالقلب والعاطفة، يفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاء وغربة في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب، إني أنتظر من الحب كثيرا فأخاف أن لا يأتيني بكل ما أنتظر، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، ولكن القليل في الحب لا يرضيني، الجفاف والقحط واللاشيء خير من النزر اليسير.
كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه! لا أدري، الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضرا بالجسد لهربت خجلا بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمنا طويلا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى، حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانا؛ لأني بها حرة كل هذه الحرية، أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إنه خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب؟ ها قد صح علي ارتيابهم وصدق في سوء ظنهم، لا تقل إن القديس توما يظهر هنا، وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هي شيء أبعد من الوراثة، ما هو؟
قل لي أنت ما هو هذا؟ وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو على هدى، فإني أثق بك وأصدق بالبداهة كل ما تقول، وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة، فإن قلبي يسير إليك وخير ما في يظل جاثما حواليك يحرسك ويحنو عليك.
غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة، نجمة واحدة هي الزهرة، إلاهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويشوقون؟ ربما وجد فيها من هي مثلي، لها واحد جبران، حلو بعيد بعيد، هو القريب القريب، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة، قبل أن ترى الذي تحبه، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانبا لتحتمي من الوحشة في اسم واحد: جبران!
ماري
لم أتناول بحث حب مي لجبران إشفاقا من أن تصير مي نبية مثل صفورة، وجبران كموسى أو أحد الأنبياء، ولكنها نواة درس نبدأ به على أن يتمه غيرنا إن لم نتمه نحن.
عد بنا إلى الوراء، إلى أول كتاب مي ففيه كلمة جبران النونو، إن الطفل يا صديقي يشغل حيزا كبيرا من دماغ مي، وجبرانها النونو يذكرني بأحلام الصبا، فكم عرس كاذب أقمناه، وكم بنية رأيناها تحتضن دميتها وتحنو عليها حنو المرضعات على الفطيم، اقرأ لمي في «ظلمات وأشعة» «أنا والطفل» تعرف حب مي للأطفال، طالع أولا قراءتها ما خطته يد الأقدار في كف روبرت من خطوط الحياة والعقل والقلب، وكيف رأت تل المريخ يرتفع في تلك الكف الصغيرة متهددا متوعدا (ص7).
إن مي انقلبت مع روبرت - اسم هذاك الطفل - «بصارة براجة»، وهذا ما يثبت ما يؤكده علم النفس من أن صاحب الميل والهوى يتعلق بحبال الهوا ويصدق السفاسف، وإذا بلغت «ص34» وقعت على مقالة «بكاء الطفل» فتقرأ فيها: «فدنوت منه متوسلة وضممته إلي بذراعي التي لم تضم يوما أخا أو أختا صغيرة، وأجلسته على ركبتي حيث لا يجلس سوى أطفال الغرباء.» «صمت الطفل حائرا؛ لأنه شعر بأن روحا تناجي روحه، صمت هنيهة ثم حدق في سائلا عن أعز عزيز لديه، وقال بصوت هادئ كأصوات الحكماء: ماما، ماما.» «صغيرك يناديك فلماذا لا تجيبين، يا أم الصغير! لست بالعليلة؛ لأني رأيتك منذ حين تميسين بقدك تحت برنيطتك، والجواهر تطوق العنق منك، أنت صحيحة الجسم فلماذا لا تسرعين؟» «عودي من نزهاتك الطويلة، وزياراتك العديدة، وأحاديثك السخيفة، عودي واركعي أمام الصغير واستميحه عفوا، لقد خلقت امرأة قبل أن تكوني حسناء، وكيفتك الطبيعة أما قبل أن يجعلك الاجتماع زائرة.» «تعالي اسجدي أمام السرير، سرير الصغير، اسجدي أمام هذا المهد الذي لعبت بين ستائره طفلة، وحلمت به فتاة، وانتظرته زوجة، فما خجلت أن تهمليه أما.»
هذه هي أحلام مي، هذا هو الشوق الكمين في سجاياها، والحنين الدفين في لا شعورها، هذه أحلام الفتاة الكامنة في كتلتها كمون الحياة في البرعم تحت برد كانون، وعواصف شباط وصواعق آذار، تنتظر نيسان لتبرز، ولكن نيسان مزق سجوف أحلام مي ومات جبران فيه، ولاح لها غدها الأشمط.
إن أدب مي نوعان: أدب منبري، وأدب شعري، وفي أدبيها كليهما تسود عاطفة الشفقة والحنان والرحمة، وهذه كلها وليدة الألم، فمي تألمت جدا وأنكى آلامها الحرمان، حرمت الزوج والأمومة وهي ترى أن المرأة ما خلقت إلا لتكون أما.
يلوح من مكتوب مي أنها البادئة في إعلان حبها، وأن جبران كان كعادته يطوف حول الموضوع ولا يلجه، إن بين سطور «مكتوبها» مشاهد وآلاما وشجونا فيه حب مي وأطواره كلها، وفيه ارتياع من مستقبل هذا الحب، وفيه شروط وبنود لا يوضحها لنا إلا المفقود من رسائلهما، فرسائل مي لجبران ورسائل جبران لمي - الموجودة مسودتها - لم تسعفني على البت في حل عقدة مصير هذا الحب.
قرأت في كتاب «حياة مي» للأستاذ محمد عبد الغني حسن أن مي أعادت رسائل الأدباء إلى أصحابها، فإلى من أعادت رسائل جبران يا ترى؟ فهل من يرشدنا إليها وله الشكر.
لسنا نسأل عنها لنتثبت أمر هذا الحب، فهو لا يحتاج إلى إثبات، وقد حالت تقاليدنا الشرقية دون تحقيق هذه الأمنية، فجبران لم يستطع المجيء أو لم يجئ، والبنت لا تذهب، وهذه هي البنود والشروط المومأ إليها في رسالة مي.
وإن زالت مي من دنيا الحب والهوى فهي باقية في دنيا الأدب بقرب حبيبها جبران، وقد تكون صارت إليه أقرب، إذا اعتقدنا كما يعتقد أصحابنا تلاميذ جبران.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، بل ما أقل عقل الإنسان، إن العقل في المعنويات كالبطنة في الذاتيات أصل كل بلاء، فيا ويل الإنسان من عقله. (12) إلى شكر الله الجر
أخي شكر الله
يخلق الشعر كل يوم عروسا
مثلما تخلق الخمور الحبابا
تتجلى لنا العذارى فنكسو
عريها من بياننا جلبابا
لا تقولوا شبنا فما الشيب عيب
إن في الشيب من يبز الشبابا
رب شيخ قضى الحياة فتيا
وغلام في موعة العمر شابا
رب شيخ يظل عارض رمح
يتصابى لو استحال ترابا
لو أتتنا الحياة تسترزق العزم
خلعنا على الحياة شبابا
هكذا أنا يا عزيزي شكر الله، فما زلت كما فارقتني على مقعد التدريس في جبيل، أراني كما كنت تسمع مني من على ذلك المنبر:
يفنى الزمان وصبوتي تتجدد
فكأنني في كل يوم أولد
لقد صدق الحوراني، فما يأخذ الدهر مني مثقال ذرة عزما، ولم ينل الزمان من همتي قدر «حبة الخردل»، وفي من الإيمان بالحياة أكثر من مقدارها؛ ولهذا أحس أنني أستطيع أن أقول للجبل انتقل من ها هنا إلى هنالك فينتقل.
تطلب صورة «معلمك» لترى تلك الكهولة الصالحة، ولا تقول الشيخوخة لئلا ... فإليك أحدث صورة في مكتبه بعاليه، وإليك أيضا صورة أخرى وهي صورة تلك «الدابة» التي تتصورني أركبها منتصبا من فوقها كالرمح، وهي من تحتي تغني الميجانا والعتابا وتدق موسيقى.
لا تسلني أين ذهبت شوارب الزناتي خليفة! فقد سددت بهما منذ زمان فم الدهر ليراني الناس جديدا أو أقل سنين، فأطلب أن يطول الله عمري لأؤدي رسالة ندبت نفسي، أو لا أدري من ندبني إليها، وإنني لأتخيل أنني استأجرت الدنيا من الذي نفسي بيده، فآجرنيها عشرين سنة، وعسى أن نجدد العقد بعد انقضاء مدته، ومن الشروط بيننا وبينه أن يظل «الطابق العالي» عامرا، أبشر بطول سلامة يا مربع، إن لم يجد ما يفسخ الإيجار، وإلا فأقول أنا:
وما مات من عاشت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلى و«فحول»
لا إخالك ناسيا أيام جبيل، مسقط رأس جدك وجدتك لأمك، وملعب صباك، ولا يوم كنت تجلس قبالتي على مقعد التلمذة، كأنك «الحركة الدائمة» التي اخترعها أبوك وحده، تدندن كالنحلة في القفير، وتحاول نظم الشعر الذي أفلحت فيه، فكنت تلميذا طاهرا كبطرس، وحبيبا كيوحنا.
أي يا بني في الأمس ، وأخي اليوم، نق الكلمة التي تريدها، لا تهب الشيخوخة فتشيخ قبل الأوان، هات أصبعك من وراء البحار والمس فؤادي إن كنت لم تصدقني، وكن مؤمنا لا غير مؤمن، أسمعت يا توما؟
أقرأ السلام عني جميع أخوتك، رسل الأدب العربي المبشرين بعهده الجديد، وليكن شعاركم - وهو كذلك - ما قاله سيد الشعراء: ما جئت لأحل الناموس بل لأكمل.
كملوا رسالة القدماء ولا تنقضوها كلها، ففي ذلك القديم جديد رائع، إن شعر الحياة يبقى جديدا إلى الأبد، وهذا ما يجب أن يعلمه الأدباء وأخص الناشئين منهم، إن أدبنا كبيت قديم راسخ بنيانه، ولكن أبوابه شبابيك، وشبابيكه نوافذ، فعلينا أن نوسعها لتدخله الشمس، ويصح البدن.
الحياة عندنا - عنيت الأدبية ولا يعنيني غيرها - في نشاط، والشباب المثقف يسعى إلى مقعده وسيجلس عليه أو كاد، ويا ويل من لا يماشي الزمان ويظل قاعدا أمام دكانه يكش الذبان عن «الحلاوي» المحمضة.
إن مملكة لبنان الأدبية، كمملكة إنكلترة، لا تغرب الشمس عن أرضها، والفضل لكم أيها المجاهدون، وللغزاة الفاتحين وزعيمهم جبران وأركان حربه الذين شيدوا وأسسوا قبلكم فلا تنسوهم، لا نكن كأولئك الملوك الذين كان يمحو الخلف منهم اسم السلف ويكتب اسمه موضعه، فليضع كل منا مدماكا في هذا الهيكل العظيم كما يفعل القرويون حين يبنون كنيسة لتمجيد ربهم، واكتساب رضى قديسهم.
إن من يفعل هكذا فقد وفى نذره، أما من يفعل كذلك الملك فهو ديوث منافق.
كتبت إليك اليوم من مكتب عاليه، وأوراق تلاميذي أمامي تنظر إلي بألف عين، وسأكتب إليك غدا من «أبرشيتي» الصغيرة - عين كفاع - صفحة من ذكريات الماضي، وما أكثرها وما أحلاها، أما الآن فأعانقك، وأعانق كل أخ لنا بالأدب، وراء البحار في إمبراطوريتنا الواسعة.
عاليه، الجامعة الوطنية
17 / 5 / 1937
الشدياق والجاحظ والمتنبي
(1) ضريح الشدياق
يظهر هذا الكتاب ويكون قد مر على ميلاد أحمد فارس الشدياق مائة وخمسون سنة، فهل يفوز الشدياق اليوم بما لم يفز به في ذكرى مرور خمسين سنة على وفاته؟
أيكون لبنان المستقل برا بنوابغه العرب أكثر من لبنان الانتداب؟
أتقوم «جمعية أهل القلم» بهذا القسط وتحيي ذكرى أبي النهضة اللبنانية، وطليعة أدبائها؟
قد يقال: أتظل تتحدث عن شدياقك؟ أما كتبت كتابا عنه وسميته صقر لبنان؟
بلى يا أخي، ولكن لا يزال عندي شيء لا بد منه؛ لقد أحبطوا مساعينا هناك، فنرجو أن نقوم هنا ببعض ما يجب نحو الرجل، فكثيرون لم يفهموه بعد.
أما عده الأستاذ محمود تيمور في محاضرة «القصة العربية»، التي ألقاها في مؤتمر الدراسات العربية في الجامعة الأميركية، بين كتاب المقامات، وهو لم يكتب الأربع مقامات في «الفارياق» إلا ليستهزئ بكاتبيها ويضحك منهم.
وذاك الضريح الذي ثرنا على مكانه الشائن، حتى قضت هندسة طريق الشام بنقله، ها هو يغرق اليوم بين البيوت التي أحدثت حوله، حتى خشينا على الشدياق أن يفطس.
لقد أمست قبور حكام لبنان في غمرة لا تنجلي، ولكن جبار القرن التاسع عشر يظل في قبره الحالي أرفه منه في قبره القديم، الذي قلنا في وصفه منذ بضعة عشر عاما ما يلي:
قبر أحمد فارس الشدياق مثل عين كفاع، بلا درب، يعترضك الشريط الشائك إن حاولت الدنو منه، فعليك أن تنط نطا، أو تحلق - إن تقدر - كما حلق شعراؤنا الكبار في «مناسبات» شتى! أما إذا كنت أكرش مثلي، فعليك أن تترقى الشريط لئلا يعلق بشيء منك، فيغضب لك الشيخ في قبره.
القبر في الحازمية عبر طريق الشام، يمر به الناس غير دارين أنه مرقد الذي ملأ مشارق الأرض ومغاربها، وانفتحت لنبوغه أبواب ملوك عصره وسلاطين زمانه، شكل الضريخ الخارجي مثمن مقبب كأنه فانوس هرقلي، أو قفص شك في رأس قبته هلال، باهت كالدرويش في مفرق الطرق، داخله أفخم من ظاهره وأبدع، كالكتب التي أبدعها الراقد فيه.
زرته أول مرة منذ سنوات، فرأيت درابزين صفته ساجدا، وبابه مفتوحا للزائرين من ذوي الحاجات، والوسخ للزنار، فتألمت وغضبت للنبوغ الممتهن. لم أدر من أسب، فالتقطت «الدهر» سبة الضعفاء، وأشبعته سبا وشتما فانفشت كربتي، ومضيت في طريقي، ثم عدت بعد أشهر فرأيت الحال قد تحسنت؛ القبر مكنوس، والباب مقفل، أما الدرابزين فمقلوع، كأنهم استصعبوا إعادته كما كان فحذفوه، وفي الحذف بلاغة. سلمت يد من فعل، ففي تسكير الباب إحسان وأي إحسان، وحسبنا استراحة الفقيد من زيارة الأوباش، وآثارهم الظربانية. •••
ثم انقضت سنوات ولم أعرج عليه حتى جئته منذ ثلاث جمع، فكدت أتفسخ قبل أن أتخطى الشريط، وما بلغت القبر حتى طفت حوله أطلع على ما فيه من شبابيكه، فرأيته قد أمن غزوات الفاتحين القليلي الحياء. وبينا أنا واقف إذا بعجوز صعلاء، شمطاء، هركولة، تقبل علي متخصرة، فسبقتها إلى التحية بقولي: الله معك يا ستي.
فأجابت: الله يجيرك يا عمي.
ظننتها تقول: يا ابني، فقالت: يا عمي، رأتني أعجز منها، فتألمت جدا، وترحمت على الأخطل الأصيل، وأين من مصيبتي؟ فالتي دعتني «عمها» عجوز محطمة. وفيما أنا أفكر ببقية شباب نعتها إلي هذا العجوز الدردبيس، إذا بها تشق الحديث قائلة: الميت من قرايبك؟
قلت: رجل هو أم مرأة؟
قالت: يقولون رجل تركي.
قالت: وماذا رأيت في يا خالتي من ملامح الترك، أوجهي الأبيض الحلو؟!
فابتسمت وقالت: هكذا حسبتك، ما تعودنا نرى أحدا يزوره، لا تؤاخذني.
قلت: حاشاك يا ... وابتلعت المنادى لئلا تبالغ في توقيري فتجعلني جدها، وتذكرت في تلك اللمحة يوم حبسني تخرب دواليب سيارتي في خان بمعرة النعمان، ما عرفوا أني أتيت خصيصى لزيارة قبر أبي العلاء حتى أخذوا يتساءلون: منو أبو العلاء؟ فقال واحد منهم: هذا رجل من عندنا كان مثل الزير وعنتر وأكثر.
وقال آخر: وله شعر كالزناتي، ومعارك تشيب الأطفال. فتجلى لي حينئذ سبب تبرم أبي العلاء، وتركت الخان كئيبا، أوثر عليه قارعة الطريق وعين شمس المعرة التي تشوي العصفور.
وأمس أصابني هكذا في الحازمية، فالمرأة القاعدة ببيت على كتف قبر الشدياق، لا تعرف جارها وتحسبه تركيا. وما انتبهت من غفلتي حتى رأيتها توليني ظهرها، فقلت لها: كلمة واحدة يا عمتي، أمس كانت هذه الأرض بورا! فكيف زرعتم وغرستم حول القبر؟
فقالت: فلانة الحاج اشترت الأرض من المير، الأرض ملكها، أما القبر فلا.
فضحكت وقلت: كنتم اشتريتم القبر أيضا! أين المفتاح؟
فأجابت: مع الحكومة. وكأنها شعرت باستيائي وظنتني شيئا، فقالت بتلطف: ماذا ضروا القبر يا شيخ، كان العليق آكله عندما اشتروا.
قلت: بارك الله فيك. فتمتمت: وفيك يا أخي. فسري عني قليلا؛ لأنها صغرتني، وشعرت أنها ردت إلي شبابي مثلما كان، وطابت نفسي وأردت العبث فقلت: إياكم وزراعة البطاطة، فالمرحوم كان يبغضها لكثرة ما أكل منها في بلاد الإنكليز.
فنظرت إلي مشدوهة ثم قالت: مليح، لا نزرع بطاطة. قلت: ولا الفجل ولا الرشاد، فهو يعير الإنكليز أنهم أرادوا أن يسقوه القهوة، ويطعموه معها الفجل والرشاد.
فقهقهت وقالت: يا تقبرها أكلة، الحق معه، من يشرب القهوة ويأكل معها الفجل والرشاد!
قلت: الإنكليز، كما يقول هذا المقبور هنا.
فاقتربت صوبي وقالت لي: بحياتك يا ابني تقول لي أيش كان دينه، وأيش كان يحب.
وحملقت بي تتوقع الجواب، فقلت لها: النساء فقط، هن دينه ومعبوده.
فصفقت بكفيها وعلى فخذيها وقالت: يه، يه، يه، يا صباح الشوم.
قلت: نحن عند المساء يا ست، لا تقولي يا صباح الشوم.
فأجابت بتواضع: ستك العضرا يا عيوني، هذه كلمة تقال.
قلت: لا تخافي منه، هو يحب الفتيات لا العجائز مثلي ومثلك، ولا أدري إذا كان فعل كداود في مرضه الأخير.
فقالت: وماذا فعل داود؟ فقلت لها: اسألي معلم ذمتك (الخوري في لغة العتاق).
فتأوهت وقالت: يا حسرتي، راح ساقنا وسماقنا، أيش بقي منا؟! ثم تأملتني وقالت: أراك تحب الضحك.
فأجبتها: وجارك هذا كان يضحك أكثر مني.
فقالت: الحق معك، اضحك، كل حياتنا مضحكة، ولكن بشبابك تقول لي اسمه.
فتعنفصت وقلت: أحمد فارس الشدياق.
فصكت وجهها وقالت: أقبر عمري! أنا خرفت، عرفته، عرفته، هذا فارس ابن الشيخ يوسف، هذا ابن ضيعتنا.
قلت: نعم، من الحدث أنت؟
قالت: نعم نعم، كثر الله خيرك يا عم - فأعادتنا إلى أنحس من ذي قبل - ولكنني كتمتها وقلت: وخيرك، وخير هذه الأمة التي لا تكلف نفسها إرشاد الناس إلى صاحب القبر.
وتركتني ومشت صوب الشمس، وهناك قرفصت تسند الحائط كأنها تخصر في العشي كعمر بن أبي ربيعة، فقلت في قلبي: لو أفاق أحمد فارس ورأى هذه الجارة الفرفورة ماذا كان يعمل؟ وأية نكتة يكتب؟ وحضرت النكتة ولكنني أرجعتها بسلام كأبي تمام ، فالحقوق محفوظة للشدياق، ومعاذ الله أن نكون من المقلدين والمفترين.
وفيما أنا أفكر إذا بأنثى أخرى تطل من فوق سائلة: من الذي عندك؟ فقالت عجوز الخير همسا: رجل غريب مطحول، كثير الحكي.
فقالت تلك: من هو؟ فأجابت العجوز بنبرة: تعالي اسأليه، أنا ما سألته، وما عرفته.
فلاوصت لأرى أهي كالتي حدثتها، فإذا العصا من العصية، والفرق بينهما زهيد جدا، فأسرعت إلى السيارة، وقلت للسائق: إلى عالية. ••• - جان تذهب بكرة إلى الحازمية ومعك آلة التصوير. - شو بيروخ يامل (يعمل). - تصور لي قبرا. - كبر مين هادا؟ (قبر من هذا؟) - قبر أحمد فارس الشدياق.
فردد: كبر أهماد فاريس الشد... وظل يشد نصف ساعة وما استطاع أن يخرج ال «ياق» من فمه.
فأخذت أدله عليه فلم يفهم، وأخيرا قلت له: يا جان، أتعرف قبر الباشا؟
فقال: كبر والي. قلت: أي نعم، اسمع، تحت قبور الباشاوات قبر وحيد لا سرو حوله ولا شربين، حوله شريط شائك يصون المغروسات الجديدة من الحمير والبقر والمعزى.
قال: ما بيعرف. فقلت: يا جان، تعرف الهلال؟
قال: وف، كيف ما بيهرف الهلال.
قلت: تصور القبر الذي عليه هلال.
قال: كبر موسلم؟ قلت: نعم مسلم.
فقال: شو بيريد أنتي من كبر موسلم هتيك (عتيق).
قلت: هذا لا يعنيك، صوره وخذ أجرتك!
قال: والمسروف (المصروف)؟! قلت: أنا أدفع المصروف، وثمن الصور، ولك مني علاوة إعلان عن فصاحتك.
وبعد يومين عاد جان يحمل إلي صورة الضريح، وخبرني أحاديث شتى جرت بينه وبين جيرة القبر، فقد تركناهم حيارى ولا سيما أنهم رأوا زوارا عديدين في هذه الأيام - من أساتذة الجامعة الوطنية وطلابها - حتى ظنوا أن انقلابا عظيما يحدث في الجمهورية، أو أن قديسا ظهر هناك عندهم ولم يعرفوه.
فهل لي أن أقترح على بلدية بعبدا أو الحدث، أو على الحكومة اللبنانية الجليلة وضع بلاطة فوق باب ذلك القبر الفخم، أو على دكة أمامه للدلالة عليه، فيعلم المتمشرقون والعلماء والمشايخ والأدباء والشعراء والصحافيون أنهم مارون بضريح الشدياق، العالم والأديب، والشاعر والكاتب، وأول صحافي شرقي عربي من الطراز الأول؟ أيكون أنبغ رجالنا ومؤسس نهضتنا الحديثة نكرة بيننا، فنمر بمثواه كأننا نقطع واديا كجوف العير؟
وهل تفكر الحكومة الجليلة بل الدولة الفتية بعمل هامش لهذا الكتاب الخالد المطروح في الحازمية، فتعلق عليه الحواشي والشروح الدالة على يقظتنا الروحية، لتعظيم أخلص أبنائنا للغة الفصحى، وأعظم العرب إدراكا لأسرارها؟
قد يكون الناس مشغولين بأحاديث المعاهدة والاستقلال والتظاهرات، ولا تلذ لهم قراءة هذه السخافات - الأدبية - أما أنا فأقول لهم، وسواء عندي أسمعوا أم لم يسمعوا، إن لبنان دولة أدبية يعز بنيان مثلها على أضخم الدول، فعلينا أن نخلد زعماءها، الدولة السياسية تضيق وتتسع، وقد تكتسح، أما دولتنا الأدبية فخالدة أبدية، لا يكتسحها فاتح، ولا يدخلها غاز عنوة، فأبوابها مشرعة لعابري السبيل، والفضل لمن يدخل، ولا يزيدها هذا إلا مناعة وقوة، فهبوا إلى إحياء رجالها، فهم ميراثنا الخالد.
سئل أمير الجبل الأسود مرة: ما هي حاصلات بلادك؟ فأجاب بأبهة الملوك وغطرستهم: الأميرات؛ لأن أكثر الملوك - قبل الحرب الكبرى - كانوا أصهارا له.
أما لبنان فلو سئل مثل هذا السؤال لأجاب: الأدمغة الكبيرة، والتاريخ يشهد له. (2) الشدياق بين مصر ولبنان
استولت مصر العزيزة على مبادرتين كان من واجب لبنان أن يستولي عليهما: الأولى يوم مجدت ذكرى مارون النقاش، أبي المسرح العربي، والثانية حين خصص مجمع فؤاد الأول جائزة لأدباء مصر، قدرها ألفا ليرة لبنانية يعطاها من يكتب أحسن بحث موضوعه: أحمد فارس الشدياق وأثره في اللغة والأدب، ووضع المصطلحات الحديثة.
هذا نبأ أذاعته أول من أمس وزارة التربية والتعليم عندنا، ترى هل فكر من يعنيهم الأمر فيها أن يدرجوا في منهاج البكالوريا العتيد اسم من أقرت له مصر بالفضل! حييت يا مصر، لكأنك تقولين لنا، هذا رجل النهضة لا غيره، لقد ظن المتعمدون طمس ذكره أنهم أحيوا غيره وأماتوه، فما حاق المكر إلا بأهله، لا بد لإحياء الموتى من مسيح جديد، ومن أين!
ما كنت لأعرف من عدل ذاك المنهاج لو لم أر «في كل واد أثرا من ثعلبه»، كنت أسائل دائما: أما نزلت طبخة عجوز ابن الخطاب؟ فيجيبني الصديق جوزف شمعون رئيس الديوان في ذلك الزمان: منهاج يرضيك ويعجبك، ولما فرض علينا ما أنكرت منه، ما كنت أعرف أنها شنشنة أعرفها من «أخزم».
عجيب غريب! ألا يكون لرب البيت مكان يسند إليه رأسه، ألا يذكر الشدياق في منهاج وطنه وهو امرؤ القيس، وجاحظه، وخليله؟ أيمكن أن تبنى نهضتنا على أساس إن لم يكن الشدياق حجر الزاوية؟ ترى، بماذا كنا نباهي لو لم تك آثاره؟ حقا، لا يكرم نبي في وطنه!
هل من يقول لي - وأجره على الله - أي عمل للخلاصة اللاهوتية في منهاج البكالوريا؟ أنحن نعد إكليريكيين، وبعد فهل يعرف ذلك «الذكي» من الخلاصة اللاهوتية غير اسمها، أما ألهمه شيطانه حين جعل فلانا وفلانا «فرضا»، يجعل الشدياق «نافلة» مثل جبران! أتقر سوريا جبران في «متن» منهاجها ونضعه نحن على «الهامش».
لماذا طرد الشدياق خارجا؟ ألأنه انتصر لأخيه الذي قتل صبرا؟ أما حمل فولتير قبله حملات غواشم، وهو يدرس في مدارسنا ومدارس من لم يهادنهم قط؟ قد يقولون: في كتب الشدياق أحماض، فهل في كتب أبي نواس والجاحظ وعمر وروسو ولافونتين كنافة بجبن وعسل بشهده؟!
ماذا يريد «رتيلاء» وزارة التربية أن ندرس أبناءنا من آثار من أقروهم في عصر النهضة! فواحد - أجزل الله ثوابه - جمع ولم كثيرا، ولكنه لم ينشئ شيئا، وآخران ما كانا إلا مقلدين للقدماء، ومقدمة سليمان ليست مقدمة ابن خلدون ولا سفر الجامعة كان لها شأن قبل أن وجدت كتب الأدب المختصة، أما اليوم؟
إننا نفهم منهج البكالوريا معرضا لإنتاج نوابغ الأمة، لا مأوى عجز، إن لبنان موطن الحرية الأممية، فلنعمل له منهاجا بريئا من كل ميل، فكم هي مضحكة تلك الخلاصة اللاهوتية في منهاج أدبي، فمتى كان المنهاج نوفيسيا
Noviciat
يا جماعة الخير! ومتى كان يأوي المنهاج غير بلغاء الكتاب والمبدعين؟!
تعد وزارة التربية الوطنية بمنهج سوي فأين غربالها؟ عفوا، أين الددت.
إن الغرض الأعمى ونعراتنا القومية والطائفية تحول دون التطهير، فلا بد لنا من مكنسة لا شعور لها لتقذف الأقذار، مكنسة كهربائية لا تحس بما تعمل فلا تشفق على أحد.
إن لهذا المنهاج التربوي قصصا أطول من قصص الحيات، ففي عام 1932 التأم ما كانوا يسمونه مجلس المعارف الأعلى، فكان كسفينة نوح، دار البحث فيه حول الفطاحل فرفعت الطائفية أذنيها وكان الشدياق كبش المحرقة، أما كتب أحمد فارس «الفارياق» فكيف تطلب من رجال الدين وربيبتهم أن يؤيدوه؟! لا أعيد عليك قصة جبران فقد سبق ذكرها بالتفصيل، ولكنني أريد هنا أن أريك ما حصل بعد حين لتعرف مقدار التعصب البشع.
في عام 1948 ائتمرت دول منظمة الأونسكو في لبنان، فكانوا أربعا وأربعين دولة، وشاء لبنان أن يريهم وجهه الأدبي فاختاروا منتقيات لأعلام أدباء النهضة وشعرائها، فكانت المقدمة وتراجم أدباء هذه المجموعة من نصيب الأستاذ فؤاد إفرام البستاني، المقيم العام «الدائم» في وزارة التربية، فهو الضيف الخفيف الظل الذي لا يحول ولا يزول من تلك الوزارة، كتب تلك المقدمة - أعزه الله - ببلاغته المعهودة، فقال في المقطع الأخير منها: «فأتت المجموعة إنسانية المرمى، وافرة التنوع فكرا وتعبيرا، جامعة بين الرصانة التقليدية والجرأة الظافرة، تتدرج شعرا من تامر الملاط وداود عمون إلى فوزي المعلوف وإلياس أبو شبكة، ونثرا من إبراهيم اليازجي إلى عمر الفاخوري، ومن بطرس البستاني إلى شبلي الشميل، وهي على أي حال، تحمل ذلك الطابع من العمق والشمول الذي ماز الأدب اللبناني على مختلف العصور.»
انتهى «الفرمان الشاهاني» ولكن أين أبو النهضة الحديثة أحمد فارس الشدياق؟ إنك تجده في طليعة المنتقيات في الصفحة الخامسة والسبعين من كتابهم «أعلام اللبنانيين في نهضة الآداب العربية» أما كيف أبعده الأستاذ فؤاد إفرام في مقدمته السابقة الذكر، فهذا دهاء اقتبسه الأستاذ وتدرب عليه.
إنه أراد - إذ لم يستطع حذفه بالمرة - ألا يذكره في مقدمته، وإلا فكيف يستطيع أن يذكره قبل المعلم بطرس البستاني كما جاء في ترتيب الكتاب.
وأبى قلم فؤاد إفرام إلا أن يغمز من قناة أحمد فارس، فقال حين ترجم له في الصفحة السادسة والسبعين:
ولم يبد أن ضاق به دينه لينتقل إلى آخر فآخر ، ذلك أنه ليس في الكثير الذي يقرأ للشدياق ما يدل على أزمة ضمير.
وانتقلت إلى ترجمة المعلم بطرس لأقرأ ما قيل في دينه، فما وجدت أقل إشارة إلى ذلك، مع أن الرجلين رحمهما الله عافا مارونيتهما.
أظنك أدركت الآن أين هو حجر العثرة في طريق المنهاج التربوي اللبناني.
تعصب قومي طائفي، ورجال هم هم يولجون أصبعهم في المنهاج. ويأبون إلا أن يكون حسب ميولهم وأهوائهم، تلصق تصرفاتهم التعصب بالمارونية، والمارونية قومية قبل أن تكون طائفية، والبرهان على ذلك صراعها المستمر مع رومية محافظة على «المجمع اللبناني» دستور استقلالها، كانت ولا تزال في نضال دائم لتحفظ هذا الدستور، وكان الغربيون يحاولون دائما هدمه، وأخيرا تم لهم النصر «ليتنوا» الكثيرين من كهنة الموارنة، فتبرنطوا وعافوا «الإكليل والقاووق»، ومات «المجمع اللبناني» ولم يدفن دفنة مكرمة، فأصبحت الأساقفة تعين كما يعين «الضابط» وينقلون كما ينقل.
رحم الله البطرك إلياس الذي قال لي حين كتبت محتجا على أنه ليس منا كردينال:
اسكت يا صبي، تريد أن تجعل بطرك الموارنة موظفا عند الفاتيكان، ينقله حين يريد إلى حيث يريد.
بطركك مستقل أكثر من البابا، والأول في لبنان أفضل كثيرا من الثاني في رومية، ألا تعرف هذا المثل؟
فقلت: وكيف؟!
فقال: فإذن اسكت، سد بوزك.
الحاذق يفهم. (3) يوبيل مئوي لكلمة تحققت بعد قرن
غدا تبتلع هاوية الزمان هذه الضجة الصاخبة حول مرة البطرك الماروني على بيروت، بطريقه إلى رومة المدينة الأزلية.
وبعد غد تفتح اللجة حنجرتها، وتزدرد الشئون والشجون هذا القيل والقال، فتنام الألسنة في مضاجعها وتسكت المحاضر سكوت الأرض بعد العاصفة، وترمح السنونو في الأفق مباشرة بربيع جديد.
وبعد سنوات معدودات ينسى المؤرخ ما أصيبت به الجسوم من حكاك.
ولا يسجل التاريخ إلا ثلاث كلمات ستكون فاتحة عيد جديد، وكما يحمل الفجر بين أنامله الوردية قرصة برد، هكذا يبتدئ هذا العهد، فليطمئن المخلصون المصلحون، فما بعد الفجر إلا النهار، والنهار لا يكون ليلا مهما تلبدت في سمائه الغيوم.
سينسى التاريخ طقطقة خيول الحرس الجمهوري، وزفيف الدراجات ، وتحيات العسكر، وارتعاشات الموسيقى، ورنين الكئوس، وكياسة المرحبين، وبلاغة الخطباء، إنه سينسى كل هذه ولا يحفظ في ذاكرته إلا ثلاث كلمات فقط.
إن المؤرخ كالناقد، لا يبالي إلا بالروائع، وروائع زيارة صاحب الغبطة في بيروت ثلاثة أسطر، فلا تلك المآدب ولا الحفلات، ولا السيارة ولا العلم، ولا الألوف المؤلفة من جماهير النظارة ما يصفه المؤرخ الذي يماشي الدهور، إنه سيسجل هذه السطور الثلاثة:
زار البطرك أنطون مفتي المسلمين.
زار البطرك أنطون حاخام اليهود.
زار البطرك أنطون المرسلين الأميركان.
وإن لم تأت الزيارة الأولى بالحب المروم فمتى ثنيناها وثلثناها يكفل الزمان عقد الخطبة، ستثمر هذه الزيارات في الزمان الآتي، وتبنج الأعصاب المتوترة، وتنسى عناصر البلاد - وما أكثرها - (رقم 6 و6 مكرر) كما محت أنامل الدهر البطيئة غيرها من مواد.
الله كريم.
كثيرا ما تخرب الصحف ما يعمره الأدباء، الصحف تنظر إلى حوادث اليوم، أما الأديب الملهم فيرى ما وراء القرون، يحلم الأديب فيضحك قومه من أحلامه، أما الأيام فتحققها بعد حين، قد يضطهد الأديب المصلح حتى يموت لأجل اطمئنان الخلق، فيضحك الناس خلف جنازته - إن مشوا خلفها - وتمتزج قهقهتهم بقضقضة عظامه، ولكن دمه يسقي نواة الحق وينميها حتى تصير دوحة يتفيأ ظلالها الهازئون، ولا يذكرون الفارس والساقي.
قد يكون أعداء المرء أهل بيته كما فعل طنوس الشدياق - صاحب تاريخ أعيان لبنان - شقيق أسعد الشدياق حين تنصل من تبعة ضلاله، والتمس له المغفرة من البطريرك، أما أخوه فارس - أحمد فارس الشدياق - فتمرد، وهاجر متمردا، وعاش متمردا، ومات متمردا، وإليك الخبر: في مطلع القرن التاسع عشر قدم مرسلون بيبليشيون؛ أي إنجيليون
1
قصد الإنذار في لبنان في شيعتهم ومعتقدهم، فتصدى البطريرك يوسف حبيش لمقاومتهم بأشد غيرة، وأبرز ضدهم «منشورين» بهما ينبه ويحرض ويحتم على أبناء طائفته ليكونوا محترصين من خداعهم (كذا).
ففي المنشور الأول يحظر البطرك الحبيشي على الإكليروس والعلمانيين الموارنة ألا يقننوا كتب البروتستان، وألا يبيعوها أو يشتروها، أو يأخذوها هبة، وألا يطالعوها لأي سبب كان، أما هذه الكتب فهي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب صلوات ومواعظ وجدل ديني، وعلى كل من عنده شيء منها أن يحرقها أو يرسلها إلى الكرسي البطريركي، وألا يتعلموا في مدارسهم، وألا يطالعوا مؤلفاتهم، وإن خالف ذلك إكليركي كان «مربوطا» أو علماني كان «محروما».
وجاء المنشور الثاني في 4 كانون الثاني سنة 1826 فكان أشد لهجة، أمر فيه البطرك الحبيشي أبناء ملته أن يتجنبوا البروتستان التجنب التام دينيا ومدنيا، فلا بيع ولا شراء، ولا قرض ولا استقراض، ولا مؤاكلة ولا محادثة، وبالاختصار لا سلام ولا كلام، ومن يخالف ذلك يسقط في «الحرم الكبير» المحفوظ حله للسلطان البطريركي.
هكذا أمر البطريرك، وهكذا كان، فأصبح الماروني يهرب من البروتستاني هربه من الجدري والطاعون، وإن يخالف فالويل له، فالبطرك الحبيشي بطرك تقي صارم لا يحابي ولا يهاود، كان يحكم لبنان دينيا حكم الأمير بشير مدنيا، وهما معاصران شهيران يعرفهما تاريخ لبنان.
في ذلك الزمن العصيب نهض شاب ماروني يحبو إلى الثلاثين، هو أسعد الشدياق فعصى أوامر البطرك الخطيرة، ولم يبال بظهيرة أمير الجبل الرهيب، وناصر البروتستان علانية، فاستدعاه البطرك إليه ووبخه، ويئس من ردعه فسلمه إلى الحاشية ليرشدوه فتناوبوا الأمر ولم يفلحوا، فصدر أمر البطرك بسجنه في قنوبين - الكرسي البطريركي - وهناك مات سنة 1830.
أحفظت الأرقام جيدا؟ إني أراجع: أصدر الحبيشي منشوريه ضد البروتستان سنة 1826، ومات أسعد الشدياق في سبيلهم سنة 1830.
ووقف فارس الشدياق - أحمد - في جانب أخيه أسعد، ولكنه لم يسجن في قنوبين بل هرب إلى مصر ينادي بحق أخيه أسعد في الحرية، وينتصر له ويشكو إلى الدنيا ظلامته، ويخطئ في «فارياقه» مضطهدي أخيه، ونادى منذ قرن بما نكبر من يتفوه به اليوم: الدين لله والوطن للجميع.
وفي سنة 1837 جاء أحمد فارس الشدياق إلى لبنان سرا ومما قاله لجماعته: إن رأس الفقير ليس بأضيق ولا أصغر من رأس الأمير، وإن يكن أكبر عمامة منه وأغلظ قذالا، ارفعوا فرق المذاهب من بينكم فذلك أدعى لكم إلى الحظ والسرور، واعلموا - هداكم الله - أن فرق الآراء في الأديان لا يمنع من الألفة والمخالة.
2
هذا ما قاله في ذلك الزمن الأسود أحمد فارس أخو أسعد الذي نام في كهوف قنوبين نومة الأبد.
لم أنشر هذه الصفحة المطوية من تاريخ الحبيشي البطرك الماروني (1823-1845) لأقبح عمل ذلك الراعي الصالح، فنحن نعلم أنه لم يفعل في زمانه إلا واجبا دينيا نام بعده مستريحا على رجاء القيامة بالرب، والفوز بالأجر الجزيل، ولكن لنفهم إخواننا «اليائسين» مما يحدث غالبا فيؤخر التقدم المنشود، فلا تقنطوا يا أخوتي من رحمة ربكم، واصبروا فالزمان بطيء السير، وأقدامه تمحو حتى النقش في الحجر، إن تطلبوا مني برهانا، فزيارة البطرك أنطون للمرسلين الأميركان بشخص زعيمهم الدكتور بيار ضودج رئيس الجامعة الأميركية برهاني.
ففي سنة 1826 حرمهم الحبيشي مرتين كما قرأتم، وفي سنة 1830 ذاق أسعد الشدياق غب انضمامه إليهم فمات فتيا، وفي سنة 1837 قال أخوه أحمد فارس: ارفعوا من بينكم فرق المذاهب فذلك أدعى إلى الحظ والسرور ... إلخ، فلم يصدقه أحد.
وفي سنة 1937 أي بعد قرن، زار البطرك أنطون المرسلين الأميركان وشرب الشاي مريئا، لم تنقل الصحف ما قيل هناك، ولكنها نقلت ما قاله الجالس اليوم على الكرسي الذي جلس عليه الحبيشي ربع قرن، وهذا هو كما سمع في بيت سماحة المفتي الجليل الشيخ توفيق أفندي خالد:
الخادم منا السيد، والكبير الصغير، والصغير كبير، وكلنا أخوة، يجب أن يحب بعضنا بعضا حبا صادقا، نحن البشر جميعا انحدرنا من أب واحد، إذن نحن جميعنا إخوان مهما اختلفت مشاربنا ووجهاتنا في الحياة، فكل فرد منا يسعى لتمجيد الله، والله ينظر إلى نفوسنا، علينا أن نحسن أعمالنا وتكون رابطتنا أخوية.
وعدت في مساء ذلك النهار (21 نيسان) إلى عاليه فنظرت إلى قبر أحمد فارس المعزول فرشقته بوردة، أما ضريح أخيه أسعد فلا وصول إليه؛ لأنه في وادي قنوبين. •••
سألني ويسألني كثيرون ماذا عند أحمد فارس حتى تطنب في الثناء عليه هذا الإطناب وتنادي به أبا وزعيما للنهضة، فجوابي إلى هؤلاء كلهم: طالعوا كتب أحمد فارس فهي لا تقرأ من عنوانها، إن في كتب الشدياق لأدبا وعلما وسياسة، ويقولون: والأحماض؟ فأهز برأسي وأعجب من هؤلاء، وفيهم من يدعي سعة الاطلاع، فكأنهم لم يقرءوا من كتب أدباء العرب غير مختاراتها، فلو قرءوها كلها لعلموا أن أحماض أحمد فارس أقل من التي عند «المؤلفين» العرب الذين اتفقت جميع المناهج العربية على تدريسهم.
ما كان أحمد فارس منشئا مقلدا، بل كان كاتبا عمليا مجددا، جريئا إلى أقصى حد، يخطئ الدول العظمى ويعنفها، ويلوم الملوك والسلاطين، ويعالج المجتمع معالجة النطاسي.
إن في كتبه لخيرات كثيرة، وعلى مائدته طعام مختلفة ألوانه يوافق كل ذوق ومزاج حتى أصحاب الحمية منكم.
لا تسألوا المغامر من أية الطرق وصل إلى القمة فهذا لا يعنيكم، كبروا الجرأة والجسارة والجهاد، فليس الفنان من يحمل البركار والزاوية، والذراع والهندازة، الفنان لا يبالي بالمقاييس؛ لأنه هو يخلقها ويتركها بعده للذرية، ليت شعري من علم أيوب وداود وسليمان وأشعيا وأرميا ويوحنا مقاييس الفن.
اقرءوا كتب نابغتكم تعلموا عظمته، ففيه كل سمات الأديب الذي يستحق الدرس والتعظيم، يرحم الله بودلير الشاعر الفرنسي القائل: لا يكون للأمم رجال عظام إلا على كره منها. (4) الشدياق وهيغو
إذا وضعت الكتبة الإنكليز، سكيث، وإمرسون، وداوردروث، وبلوز، في شخصية واحدة، أمكنك أن تتصور جيدا عظمة الشدياق، ولو ولد هذا الرجل في أوروبا لدفن مع نخبة العظماء، ولنصبت له التماثيل في أكثر مدن بلاده.
الإجبشيان غازت
خففوا من عتبكم أيها الإخوان فما مت وما أفلست كما ظن أحدكم، وما أنا خصم أحد من الناس فأصالحه وتكون الغرامة سكوتي، لا أسكت حتى تقوم ناقة صالح، ولكني أخشى أن أفضح شبابي الغض إن بحت بما عاقني، فعذرا أيها المراسلون، ولتكن كلمتي هذه جوابا لكل منكم.
ثم أليس من الصقاعة والبلاهة أن نبحث الأدب، والحبلى على الكرسي تتمخض وتملأ البلاد طحيرا وزحيرا؟
أليس من الخفة والسخف أن نغني النهاوند والرصد للغوغاء والضوضاء؟
فوالله لو فعلت وحدثتكم عن الأدب في موسم الانتخابات لقلتم ما أبلده وما أبرده، الدولة تعلم الحياة الدستورية وهو غارق إلى أذنيه في الكتب الصفراء، صدقتم يا بشر، ولكن دستوركم المسخ يكلفنا كثيرا، وما لنا منه إلا الاسم، فهو - وحياتكم - مخلوق غريب عجيب، كثير الرءوس كتنين يوحنا الحبيب، وعديد الأيدي والأصابع كالأخطبوط، يأكل ولا يعمل، فلا أبوه فرح بميلاده ولا عين أمه قرت به، بل جفلت منه تنظر إليه كناقة عمر المجنونة.
عفوا، ما لنا وللسياسة، قد اشتط القلم والشدياق في الحازمية ينتظرنا، مرت على رأسه ثلاث وزارات: أبو شهلا، وبللمع، وثابت، فلعل الثالثة ثابتة كما يقول المثل اللبناني، فيعمل صاحب المعالي الجديد جورج بك ثابت شيئا يبيض وجوه الأدب، أبو شهلا نوى واستعد، وبللمع قامت قيامة الانتخابات في عهده وغطست الوزارة على دررها، ففزنا بعد تلك الزوبعة بعقد أطول من «العقد الفريد» فيه ثلاث وستون خرزة من خيرة المعادن؟
لعن الله هذا القلم فهو شموس جموح لا يخاف الملوي المحصد من القد كناقة ابن العبد، إن أخذت من لجامه قنطر كأنما سرت إليه العدوى من أحاديث الناس، فماذا أفعل به؟
أما الوزير الثالث في عهد ذكرى الشدياق، فالله نسأل أن يبسط السكينة فوق كرسيه في عهد الائتلاف؛ ليعيرنا أذنا صاغية، وينجز ما وعد به زميله الأسبق.
واخجلتنا من جريدة «البورس إجبسيان» الإفرنسية، التي كتبت ما يلي تحت عنوان: فارس الشدياق شاعر الشرق الأدنى الكبير.
ما بين سنة 1802 و1887 نشأ رجلان إن اختلفا موطنا ولغة فقد اتفقا في الاتجاه والمثل الأعلى، من المفيد جدا أن نعلم أن هذين الرجلين اللذين لم يتعارفا أبدا قد جريا لغاية واحدة طول حياتهما، فهذان الرجلان المعلمان المطلقان للغتهما قد تصرفا بها كما شاءا بسهولة عجيبة، أسخطهما محيطهما فعاشا يهجوان، شعرا ونثرا، المتسلطين في عصرهما، مقبحين الإساءة والجور.
هاجم فكتور هيغو الهيئة الاجتماعية من الجهة المدنية، فهجا العظماء ونابليون فأرسله إلى المنفى، أما الشدياق فانتقد في معظم كتبه رجال الدين الذين تتألم منهم بلاده وهم الذين سببوا موت أخيه أسعد الشاعر المعروف في الثانية والثلاثين؛ لأنه بشر بالمذهب البروتستاني، ثم انتهى أمر الشدياق باعتناق الدين الإسلامي.
أما هيغو فأقامت له فرنسا التماثيل وتغنت بذكراه، وأما الشدياق فلم تذكره شعوب الشرق الأدنى إلا هذه السنة؛ أي بعد مرور خمسين عاما على وفاته؛ إذ شعروا أنهم لم يفعلوا شيئا حتى الآن لنقادتهم الأكبر، وسيد فقهاء لغتهم في القرن التاسع عشر، أدركوا أن منشئ أول وأشهر جريدة عربية الجوانب أمسى نسيا منسيا، وأن مؤسس الصحافة العربية لم يعرفه الشعب في احتفال وطني.
ففي تشرين أول ستقام ببيروت أعظم حفلة عرفتها تلك البلاد، يترأسها فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية وتمثل فيها أمم الشرق الأدنى لتكريم ذكر لبناني كان أجرأ وأعظم نقادة، بل أعظم علماء القرن الثامن والتاسع عشر.
فنتمنى للنابغة العظيم الذي دافع طويلا عن مصر وخديويها في جريدته الشهيرة أن تكون حفلة ذكراه لائقة بمقامه السامي.
قلت: يا ليت ...
إن حكومتنا تقدر لو شاءت، أن تناصرنا على إحياء ذكرى مفخرة من أسمى مفاخرنا، ودرة نفيسة من درر تاريخنا الخالد.
هذا غوبلز وزير الدعاية الألمانية أعلن أمس، في «أسبوع الكتاب» فقال: إن السياسة القومية التي تمثل الأمة تتجلى في الكتاب، والثورات قامت على أكتاف الخطباء والمفكرين، والانقلابات تقوم على المبادئ لا السلاح.
ثم أعلن في آخر خطابه الذي نقله إلينا البرق أن حكومته خصصت مائتي ألف مارك لمساعدة الأدباء والشعراء والفقراء.
قلنا: أما والميزانية اليوم تحت الدرس فهل تفكر حكومتنا بتخصيص شيء لنابغتها الأكبر؟ إنها تفكر ببث الدعوة للاصطياف، فلماذا لا تكون ذكرى الشدياق إحدى هذه الدعوات؟
يا ليت شعري أية ذخيرة تفاخر بها هذه الجمهورية؟ أهناك غير الأدمغة الكبيرة، وإذا كانت حكومة ألمانيا، وهي من أعظم الدول سلاحا، ترى الكتاب مبعث قومية، فلماذا لا نعنى نحن بكتب الشدياق الفريدة؟
عسى أن يحقق وزير معارفنا الجديد هذه الآمال، فقد طال الانتظار ويبس الكمون. (5) أبو الأدب العربي
أبو عثمان، عمرو بن بحر الكناني، عصامي الأدباء، كان بياع خبز وسمك بسيحان ثم استحال زعيما أدبيا، بل أبا الكتاب العربي فجعل النثر يقف تجاه الشعر وقفة الند أمام الند، أراد أولا كما فعل المتنبي بعده، أن يقيد اسمه في التاريخ «إماما دينيا» فوضع «الجاحظية» وكان نصيبه السجن، ولكنه ارعوى فصار إمام الأدب العربي، قضى التسعين عاما كاتبا باحثا فأمست كتبه مستودع المعرفة، يرجع إليها الناطقون بالضاد حتى عصرنا هذا، وهكذا خلد ذكره في تآليفه التي صورت الحياة في عصره أصدق تصوير، وكانت لنا ذخيرة لا تنفد مادتها مهما استطالت المدة.
وظل ذلك الرجل يعالج الكتب ويحشدها حتى تحينت منه غرة، فانقضت عليه وفطس تحتها كما زعموا، عجز الفالج عن وقف قلمه السيال، وحار عزرائيل في قبض روحه فحاربه أخيرا بسلاحه، فحق للجاحظ أن يقول: اتق شر من أحسنت إليه، مات الجاحظ بياع الخبز والسمك، فاضرب قصر الخلافة وقال المعتز بالله لوزيره: «يا يزيد، ورد الخبر بموت الجاحظ!» فأجاب يزيد معزيا الخليفة الكئيب: «لأمير المؤمنين البقاء ودوام النعماء.»
يقولون: لا يصدر عن القبح شيء مليح، وأنا لم أر أحلى وأظرف وأجمل مما كتبه هذا الرجل، هجاه الشاعر بقوله:
لو يخلق الخنزير خلقا ثانيا
ما كان إلا دون قبح الجاحظ
فإذا عدت الأمم كتابها وقيل للعرب بمن تعتدون، فهل نستطيع أن نقدم أحدا على ابن بحر؟ لقد كان بحرا حقا، وما زلنا على بعد عهدنا به نغرف من خضمه، إذا جلسنا إليه خلنا أننا نعيش معه في ذلك الزمان؛ إذ يعرض علينا رجال عصره - من ملوك وأمراء وسوقة - عرضا غريبا عجيبا، فمن منا لا يعرف باب بيته، ومضيفته وسفرته الممدودة التي «لا تنقشع سماؤها لكثافة غيمها»، لقد شق للعرب طريق الثقافة وعبدها، ومهد عقاب العلوم فسارت الذرية في شعابها باسمة ضاحكة، لا تلهث ولا تكل، وعى صدره علوم ومعارف البشر أجمع في زمانه، فكان وحده جامعة تلقى المباحث عن منبره، فتتلقاها الأمصار معجبة ومكبرة.
فمن يقاس بأبي عثمان الذي ناقش أرسطو كالأعرابي وجعل عقله حكما يرشده إلى نجمة القطب، فكم فك من عقد، وكم حل من طلاسم أكبرها غش النظر، فزخرت الحياة حيث مر قلمه، أرانا عوالم جديدة منها المكتشف ومنها المبتدع، ومن رأى قبل ابن بحر أن في غير القصور حياة، بل من راز أدب عوام الناس قبله فصف الأمراء والسوقة في معسكره، فكانوا جميعا أبطاله الخالدين، إن أدب الدهماء الذي يعارض به أدباء العالم اليوم أدب الطبقات العالمية، أنشأه منذ اثني عشر قرنا، مولانا أبو الكريمتين البيضاويتين، فلئن فخر الفرنج بموليرهم فهذا موليرنا في بخلائه.
هنيئا لمن تهكم به الجاحظ فقد أبقاه، فما الأصبهاني والهمذاني والمعري وابن العميد القائل: كل من جاءوا بعد الجاحظ عيال عليه، إلا مقلدون له وآكلون عن طبقه حتى البشم.
قد يعجب من لم يقرأ كتب الجاحظ إن قلنا له: الجاحظ عالم يدرس طبائع الحيوان والنبات والمعادن، ولاهوتي يقضي عن الله في الأرض فيجعل بعضنا لجهنم وقودا، ويجلس البعض على سرر متقابلين، حكم عقله في القضايا السماوية، وعينه في المشاكل الأرضية، فبنى بيته على البصيرة والبصر، يوم كان الناس لا يفكرون، رحل في سبيل تمحيص العلم إلى الأقطار حتى شرفنا بزورة يوم كان يقال: السفر قطعة من العذاب.
لم يعرف العرب قبل هذا الرجل المظلم الملامح أدبا نيرا ضاحكا، أدبا يترقرق فيه طيب الحياة فتقرأه كأنك في مجلسه الراقص، كان معلما صادقا فأفاد الأدباء، أما المقلدون فرجعوا من عنده رجعة الحمار من العرس.
ما رأيت لعظيمنا شبيها إلا فولتير، أديب أوروبا الأعظم، فكأنهما جبلان من طينة واحدة حتى اتفقا في ابن الأخت، صبهما الباري في قالب واحد ثم كسره وهيهات أن يبدع ثالثا، من يجعل من الحبة قبة غير الجاحظ، فلله بشاعته ما أحلاها، وما أكثر خير دمامة خلعت على أدبنا العربي جمالا وظرفا، فهل لنا ببشع آخر يملأ عالمنا الأدبي حقا ونورا بعد ما ملئ مواء وهريرا.
لقد كبر عقل الجاحظ عن السفاسف، فما هال امتداد الظل ذلك الذي يحدق إلى الشمس ويراعيها، لقد حطم النطار الذي يفزع ثعالب الحقول ومشى بحرية الفكر خطوات، ما عاق رجله القيد الذي كسره جد الإنسانية الطالع ولا خنق عنقه الغل، فلم يكن والحمد لله «ثاني اثنين إذ هما في التنور»، بل عاش للعلم والحق والحياة والأدب الحي، فلولا بقية وجدان في صدر القاضي ابن أبي دؤاد لانحدر النور، وطمر كنز الثقافة في القبور إلى يوم يبعثون، وكان العرب بلا جاحظ، قيل إن إنكلترة قد تتنازل عن أحد مستعمراتها ولا تتنازل عن شكسبير، أفلا يصح هذا في الجاحظ؟
ليس الجاحظ إلا تلك النبعة التي تخيلها الأخطل في مدح أصحابه الأمويين، بل تفوقها الشجرة الجاحظية سموا، ففي كل فرع منها جمال، وفي كل ثمرة طعم خلقه فيها كوثر الجاحظ.
إن إكسير «الحدقي» حقق أحلام العرب وحول أتفه المعادن ذهبا إبريزا، ونفخ من روحه فيما كتب فأرانا في كل كلمة عرقا ينبض، وفي كل جملة دما حارا يحترق ويحرق، إن ذاك المركب الشنيع مستودع جمال لا ينضب، ظل حتى مضى لسبيله في موعة الشباب، ولا تزال جدته القديمة تهزأ حتى الساعة بظرف هذه الأيام، أليس بيننا وبينه ألف ومائة عام؟ اجلس إليه لترى كيف أنك تحدث ابن اليوم لسانا ومعرفة، وتعلم أن لغة العرب تصلح لكل عصر لو أحسن التفكير ولكنهم قليلو المروءة.
أبى الجاحظ أن يكون تعبير العربي كعباءته، تصلح لكل شخص ولا تلائم أحدا، فعبر بلسان فصيح يتصل بالحياة والأحياء، فحرك القلوب وأنعص النفوس، وأبى إلا العمل ب
كلوا من طيبات ما رزقناكم ، فأكل أكل غير محتشم، ممتع بالحياة استمتاعا عريضا، وشاء بخته فكان طويلا، وعاش للأدب قرنا كاملا كتب في أخرياته بشق واحد، فحقق أسطورة العرب في كاهنيهما سطيح وشق أنمار.
ليت شعري، هل عندنا رجل يحد من الجهات الأربع غير الجاحظ! والغريب أننا نرى - كيف التفتنا - رجلا كاملا متين العضلات، هو البحر من أي النواحي أتيته.
يعجز القلم عن تصوير الجاحظ في كتاب ضخم، وأشهد أني ما رسمت لأعظم شخصية أدبية إلا صورة شمطاء كلحية الأشيب المحناة.
هذا الغرب الذي نقلده في الملبوس والمأكول وكل أساليب العيش، يكرم كبار أدبائه ويحيي ذكراهم من السنة إلى آخر الأرقام، إنه يحتفل بميلادهم وبذكرى تصانيفهم الخطيرة، فهل خطر لنا أن نذكر أديبنا الأعظم ولو بعد مرور ألف ومائة عام!
يسمع الناس أن للجاحظ كتاب الحيوان، أما من قرأه فيعلم أنه كتاب الإنسان، فهو مستودع كل ما عرفه الإنسان في ذلك الزمان، يسرد الجاحظ كل ذلك بأسلوب قصصي واقعي، وهو لا يلقي سلاح الجدل والمنطق في جميع جولاته، ميزانه منصوب دائما على منصة العقل، وهو لا يقبل إلا ما يسلم به تفكيره الصحيح.
كان الزمان أكبر مثقف لذلك الرجل، فحياته تاريخ قرن كامل، بل تاريخ زهرة العصور العباسية، فقد شهدت عيناه الكبيرتان أعظم صراع سياسي وفكري، وخرج هو من ذلك المعترك بنتائج باهرة، لم يظفر بمثلها أولئك الذين نعدهم فلاسفة وعلماء.
كان مولانا أقدر الناس حجة، تبرز لك شخصيته من وراء كل عبارة خطها قلمه، لا ترتيب ولا نظام عنده، ولا تبويب لما يكتب، مزج العلم بالأدب، والشعر بالفلسفة والحديث، فهو كرخ ألف ليلة وليلة، ينقلك من واد إلى جبل، ومن جبل إلى بطحاء، ثم يعيدك إلى حيث كنت، ولا تدري إلا أنك تقرأ الجاحظ، يتخير أجمل الألفاظ وأحسن التعابير ويفر سريعا من الأسلوب العلمي إلى مناحي الأدب حيث يتنفس بملء رئتيه.
وإذا سألتني تحديدا للأسلوب الجاحظي قلت لك ما قاله ديكارت لخادمه: لا «تخربط» عدم نظام مكتبي.
إن أسلوب الجاحظ هو عدم الأسلوب، فلا تحاول تقليده إلا إذا كنت ذا شخصية كشخصيته. (6) ليلة جاحظية
كنت أفكر في إحدى أمسيات تشرين بموضوع أكتبه بمناسبة انعقاد الأونسكو في لبنان فنمت مهموما، وكأنما الأحلام بائتة تحت مخدتي، فما أسندت رأسي إليها حتى سحت في دنيا الله الواسعة، وبعد طواف أضناني رأيتني في بيتي في عين كفاع، أنشر على مكتبي كتابا دهريا فيه نخاريب وأنفاق، وبينما كنت أتبين كلمة أكل أكثرها سمك المكاتب، إذا ببابي يدق دقا غريبا فقلت: من؟ فلم يجبني غير قلقلة المفتاح في القفل، كأن فاعلها لا عهد له بالأقفال الحديثة.
وطال الدق والقرع، فنهضت أرجف غضبا ورعبا وفهت بما يدور على لسان كل غضبان، وفتحت الباب بنزق فانشق عن رجل ما رأيت قط أبشع منه وجها بعينين مثل الكلوتين وشفة كقطعة من طحال، مربوع بدين، كل ما فيه راعب حتى الابتسامة ، فصحت من هلعي: اسم الصليب وذكر الصلبان.
فما راعني إلا زائري الجميل يرد علي بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
فصرخت به لما انكشف عن أنسي: وأنت تبسمل أيضا يا حلو!
فضحك وقال لي: لأمك الهبل، أوحسبتني شيطانا، أين الذنب والقرون يا ذكي!
ولم يمهل حتى أدعوه للجلوس بل استوى على الكرسي ثم قال: اجلس، جئناك، قل ما تريد منا، فسكت، ثم حاولت الأخذ بالحديث فما قدرت، وفيما أنا أتفرس فيه رفع يده وحركها في وجهي قائلا: لماذا تعوذت بأقانيمك الثلاثة؟
قلت: لأخزيك، هكذا علمتني أمي، رعبني جمالك الفتان يا شيخ، وأنت لماذا بسملت؟
فمجمح في حديثه ثم أفصح قائلا: أتراك أجمل مني؟ أحقا خلتني شيطانا؟
قلت: نعم، ومن يدريني.
قال: لعن الله تلك اليهودية.
قلت: من الشيخ، ومن أين مقدمه السعيد؟
قال: لولا عرفتني لانفرج شدقاك، وامتلأ فمك فرحا.
فقلت: هلا تقول وتريحني؟
فأجاب بعد قليل: إنا نبلوك ليكشفك الامتحان، كيف لا تعرف من تمنيت زورته، وقلت ليته يعود إلينا ساعة فنراه، قد أدرك مالك شهوتك هذه فأشر لي إذنا بالمجيء إليك.
فاستغربت حديثه وقلت له: منو مالك؟
فأجاب بلا اكتراث: خازن النار.
قلت: إذن لا بد من جواز سفر حتى في مملكة جهنم.
قال: لا يكون شيء إلا من بعد إذنه.
ورأى ارتباكي وتعسر معرفته علي فأشار بمدراه وقال: إنك لا تفلح، وما في الناس عبقري كشيخ النار.
فعرفته بها وعلمت أنه الجاحظ لا شك فيه، فقمت إليه أصافحه قائلا: أهلا برجل ينوب عن الجحيم بنفسه، ليتك أسقطت عن نفسك هذه المئونة، كنت أمرت فذهبت إليك.
فكركر في الضحك قائلا: كل آت قريب، طرقتك زائرا الليلة وستردها لي، إن بي لشوقا إلى رؤية جهنمكم، وتقبيل وجنتيك.
قلت: أبهاتين الشفتين القرمزيتين الرقيقتين؟
فقال مشيرا إلي: ليس أليق منهما بهذا الجمال الساحر، والشباب الغض، والجسم البض، وكان يعض على الضاد فتخرج من فمه عريضة ضخمة كأنه لم يبرأ من الفالج كل البرء.
وامتد بنا السخر والتهكم والمزاح حتى تجرأت عليه، وقمت أعلق في جيبه منديلا يقي صدره من اللعاب السائل، فضحك وقال: ذاك كان في دنياكم، أو ما تراني غير ما سمعت بي؟ فضحكنا وقعدت استعط، فما رأى علبتي حتى انقض عليها بمخالبه الخمس كأنه يأخذ ملحا لقدر هريسة، ثم غيب العاطوس في أنفه ولم يعطس ولكنه تجلى وفرح، ثم فرك أنفه وقال إن عاطوسنا أفعل من هذا، وستفرح كثيرا يوم تصير إلى جنتنا ذات اللهب، فنظراؤك كثر هناك، إن حققهم الذهبية ملأى من العطوس الروماني، إنه أطيب من هذا.
قلت: ويحك ما أمر نكتتك، ألا تتركها حتى في النار، فكيف حال من فارقت؟
قال: بخير يسلمون عليك.
قلت: بحياتك تقول لي أين موقع جهنم؟
فأجاب: في الدرجة الثالثة والثلاثين من عقلك، وما يهمك هذا الأمر، إن طريقها معلمة، والمجاز غير قلق.
قلت: والزبانية أهم على كيدهم لنا؟ وكيف حال لوسيفورس؟
قال: نعم، ولكنهم سيحتفلون بمقدمك احتفالا لا تنساه.
قلت: ما بال هؤلاء الشياطين حاقدين علينا؟ أنحن من وسدهم تلك المهاد، ونحن وقفناهم على النار؟ عليهم بميخائيل وجنوده من كل ذي جناح في الجنة.
قال: هو كذلك في دين النصارى، أما في ديننا فلولا سجدوا لآدم دخلوها، وسكت بغتة ثم قال: قريتني كلاما يا هذا.
قلت: عفوا يا عمرو، الفرح ينسي، ناهيك بأني تائق لأخباركم.
فاستبشر لما دعوته بأحب الأسماء عليه، وقال: إني لم أطعم منذ يوم وليلة، فقد الزاد في الطريق، ونفضت الجراب على رصافة هشام قدام كنيسة مار جرجس.
قلت: وهل رأيت الأخطل هناك؟
قال: لا أخطل ولا مخطل، أين العشاء؟
قلت: ليتك نفضت جرابك على هذا المكتب فكنت أرى طعامكم.
قال: سوف تراه وتشبع منه إن شاء الله.
وسكت وسرت لأقول على عادتنا: أهلا وسهلا بالضيف، شرفتني بأن جعلت راحتك عندي الليلة.
فصاح: أف، أف، حقا إنك بليد، حط الطبق ثم ثرثر ما شئت.
قلت: حقا إنك جوعان و...
فقال: هفوان، أين العشاء وما هو؟
قلت: هو مضيرة وسمك، ورز بارد.
فضحك وقال : يمسخك الله مثل رزك، هات السمك والمضيرة ومرحبا بالفالج.
فقلت: وكيف حال ابن ماسويه، فقال: رفعه الله إلى أسفل، فصار طبيب خازن النار الذي سميته أنت، ماذا سميته يا ربي.
قلت: لوسيفوروس.
قال: أي نعم، ورأى الطبق مقبلا فتحرك ليحكم قعدته، فسقط بضعة مجلدات عن الرف فأجفل وانتصب.
فقلت: لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين، فأجاب وعيناه في الطبق: ولا كافر مثلك.
قلت: لولا تموت بها يا شيخ مرة ثانية فترتاح من عذاب النار، فتبسم وقال بعد أن بلغ اللقمة: أصدقت هذه الرواية، فلو أهوى على جبل عبود، وأطبق فوقي أحد لما فطست.
وانقض على الطعام بالسكين والشوكة فقلت: كأنك ابن زماننا يا أبا عثمان!
قال: نعم ولا فخر، قد علمني فولتير آداب سفرتكم.
وتذاكرنا الشعراء على الطعام فأثنيت على جديد بشار، فغص الجاحظ ومصمص لسانه، فغمزت الخادمة فصبت له الخمر في كأس نواسية وتمثلت:
تدار علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
فأنسته حلاوة أبي نواس مرارة بشار، فاستزاد من الخمرة المعتقة حتى كرع ثلاثا أخطليات وقال: إن شرابك المفلفل لخليق بذاك الظريف الديوث.
فقلت له: لقد أجدت يا أستاذ العرب وسيد الأدباء.
قال: وبماذا؟
قلت: بقولك في أبياته هذه بلسان أحدهم وهو جزار: هذا شعر لو نقر لطن.
قال: حزرت، وماذا يهجس في صدر الزجاجة.
وجاءت الجارية لترفع الطبق، فصوب الجاحظ نظره فيها وصعده فقلت له: لا تخف إن عدت إلينا مرة أخرى، فهي ليست سندية فتقول «الجاحد» أو «الحلقي» بالباب، فبدهني بقوله: ولكنها تقول المسيو جاهز، أو المستر هدكي.
وأدركت حقارتي إزاءه فتوقيته، ورفعت الحديث وقلت: ما أدري كيف أغفلك أبو الفرج الأصفهاني ولم يترجم لك.
قال: لأنه مثلكم يعنى بالشعراء، ويبخس الكتاب أشياءهم.
قلت: الحق معك يا أستاذنا الأعظم، إن العرب ليباهون بك ، وما هذا الإنسان، وإن أنا ذكرتك دونهم فلأنني أتدارسك مع تلاميذي فأنت أحد الثلاثين «الخالدين» في منهاج البكالوريا اللبنانية.
وردد كلمة بكالوريا حتى استقام له لفظها وسألني: ما البكالوريا؟ فخبرته فاستضحك وأثنى ثم قال: وهل سألوهم عني؟ قلت: نعم، وكنت ميمون الطالع عليهم يا أبا عثمان.
أما الاحتفال بذكراك فهذا مجد للعرب، بل هو قسط من دين لك عندهم مستحق منذ ألف ومائة عام، أما هززت «العصا» في بيانك وتبيينك دفاعا عنهم، فلله أنت من ابن بار.
فتناول الكلام وقال: ولله أنت، ولله أبوك، ولله جدك، يا أديب الأدباء وسيد البلغاء، وإمام الفصاحة واللسن، ونبراس الزمن و...
فصحت: وي وي وي وي، أيش هذا، حقا إنك ابن بحر، أخرفت يا شيخ؟
فقال: لا والله، عشت مائة وخمس سنين بعقل كامل، ولكنني سررتني بكلام ففرحتك بمثله، أتريدني على الصمت وقد أطربتني حتى فلقتني.
قلت: أنا لم أعد القيام بالواجب لك.
قال: ومن قال لك إني لئيم؟ فأنا رجل لي بصر بالكلام، وإنشاؤه صناعتي.
قلت: لقد صدق ابن أبي دؤاد؛ إذ وثق بظرفك ولم يثق بدينك.
قال: عليه لعنة الله، فهو كسفود النابغة في سقر.
قلت: أتتشفى، وأنت كيف؟
قال: في نعيم، في نعيم مقيم، ثم مسح فمه بكمه وقال: قم بنا فنزور الأونسكو ونرى ما عندكم من علم وأدب.
فقلت: أما وقعت على غيري.
فأجاب: إن الطيور على أشكالها تقع، إن سيري معك أستر لي، مجنون أنا حتى أنتقي غيرك خريتا.
فصحت: يا ويلاه، أما وجدت غير كلمة خريت يا أبا عثمان؟!
فضحك وقال: لكل مقام مقال.
وبلغنا بوابة مدينة الأونسكو فرأى الأعلام منصوبة على الركائز فعدها، وقال وهو يقهقه: أم أربع وأربعين، وما دخلنا قاعة المحاضرات حتى سمعته يقول: كأنها دارة جلجل.
فقلت: أتراها صالحة لإحدى اللذات الأربع المنقوصة، فأجاب: لو كان فيها ماء.
وشاع الاستغراب والرعب في وجوه النظارة والهيئات حين دخولنا ظنونا من عالم آخر، أما المحاضر فكان يتحدث بحرارة عن السلام والمحبة، وأفاض في الكلام فمال علي الجاحظ، وقال: دعنا من سحر الكلام، فهو ألهية لا غير.
ودق جرس التلفون فانقطع الحلم، كان المتكلم الأستاذ بهيج عثمان يطلب مقالا للأونسكو، فقلت له: الليلة يكون عندك، ولكنني كتبت موضوعا آخر يطابق مقتضى الحال. (7) أبو عثمان وأبو علي
هذا رغيف عتيق جدا، من كعب الجراب، بالغ من العمر سبعة عشر ربيعا، العمر كله إن شاء الله، وهذا غير بعيد ما دام الأدب عندنا عنوان بؤس، وحسبك برهانا على هذا كلمتنا المرددة من أيام ابن المعتز: أدركته حرفة الأدب.
سبحان مقسم الحظوظ! فبينما نرى العراق يدعو رجال الفكر في أقطار المسكونة ليحتفل بذكرى أبي علي ابن سينا إذا بإيران تدعيه، وكذلك تركيا.
أما الجاحظ الأديب، العالم العربي الأصيل، فرجونا بشأن ذكراه الألفية وزيرين عراقيين السيدين صادق البصام ويوسف عز الدين وما عملا له شيئا.
كان ذلك عام 1936 فجاء جواب البصام كما نقرأ: نشكركم جدا على ما أبديتم من عواطف سامية في كتابكم المؤرخ 21 / 6 / 1936، راجين لكم اضطراد التقدم والنجاح في خدمة العلم والأدب، وفقكم الله لما فيه خير البلاد وصلاح الأمة، ودمتم بخير.
صادق البصام
وزير المعارف
وراح البصام بعد أشهر وجاء عز الدين، فكتبت إليه فكان أكثر اهتماما من سلفه، وذهب الجاحظ بلا ذكرى وإن كان الخالد بدونها.
إن ما حدث اليوم بين دولتي العراق وفارس، هو وفق لما يحدث في كل بلد، يختلف «ملاكان» على شبر أرض ويهملان أملاكهما الواسعة، ويتركانها بورا بلا حرث ولا غرس.
قرأت في جريدة تلغراف: «إن الإيرانيين يعتبرون ابن سينا مواطنا لهم، بسبب ولادته في إحدى مناطق بلاد العجم» هذا ما ظهر اليوم، أما الحقيقة فهي أن الإيرانيين لا يعتبرون ابن سينا وحده عجيبا، بل يحصون في تاريخ الأدب الفارسي الكثيرين من كبار رجالات الأدب العربي كابن المقفع، وبشار بن برد، وبديع الزمان، وغيرهم، لقد طالعت هذا المؤلف منذ أعوام فقلت في نفسي: لم يبق لنا غير أبي عثمان، ولما وقع حول أبي علي هذا التنافس تذكرت هذه الصفحة مطوية، فبعثتها من مرقدها.
إن الشيخ الرئيس ابن سينا عظيم حقا، ولكن هذا لا ينسي العراق ابنها الأصيل، إن الرجل الذي دق إسفينا في كل صخرة من صخور الفلسفات والمذاهب، ولم يسلم من غمزاته أحد حتى أرسطو ، ليستحق أن يحتفل وطنه ولسانه بذكراه.
ليت شعري، أيفاخر العرب الموالي، فخرا لا غبار عليه، بغير الجاحظ والمتنبي والمعري؟ لقد قضت الشام واجب الاثنين وما بقي غير هذا، فهل تهتم العراق بابنها العبقري، ولو بعد فوات الأوان؟
التقى الجاحظ وابن سينا في حرم العقل، وأحب كلاهما الحياة وملاذها، وإذا كان الشيخ الرئيس ابن سينا قد عالج الجسد، فالجاحظ هو أول من طبب العقل وفك عقاله، وإني لا أستطيع القول، ولا ينكر علي أحد ما أقول: إن الجاحظ هو أول عربي دق باب الإيمان المصفح بيد الفكر الحر، ففتح أمام الفارابي وابن سينا والمتنبي والمعري وغيرهم باب الشك في «جاحظيته» ثم في كتبه، فجرأ ابن سينا على القول فيما بعد:
دخولي باليقين كما تراه
وكل الشك في أمر الخروج
كانت حياة ابن سينا «عريضة قصيرة» كما كان يقول إنه يريدها، وكانت حياة الجاحظ طويلة عريضة، وكلاهما خلف لنا تراثا ضاديا خالدا، فمن الإنصاف أن يسوي العراق بينهما في التكريم والإجلال.
أليس الأقربون أولى بالمعروف! (8) زيارة شاعر
صافحته مرحبا ونفسي تقول لي إنه المتنبي، فصعدت نظري فيه وصوبته، وقلت له: كن أبا محسد، فأجاب: أنا ذاك، وأجال نظره في مكتبي ثم استوى على أمثل كرسي.
قلت: منذ شهر وأنا أتلفن إلى الجنة ثلاثا كل يوم، فلم يجبني أحد لا رضوان ولا بطرس، وتلفنت إلى الجحيم فأجاب مالك ليس عندنا من اسمه أبو الطيب ولا المتنبي، ولا أحمد بن الحسين، فضربت لك الكائنات كلها ولم يأتني نبأك، فمن أين هببت؟ بحياتك تقول لي!
فأجاب بصوت يكاد لا يسمع:
وهذه الأرواح من جوه
وهذه الأجسام من تربه
قلت: إذن لا جحيم ولا نعيم، وأنت بين بين.
فبسم كالساخر وقال: أما فرغتم بعد من هذه المعضلة؟ عد عن ذا.
فقلت بعد صمت يسير : كيف نجدك بعد ألف عام؟
قال: لا أحمد الله على شيء.
قلت: ولا تقول إن شاء الله.
ففطن لها واستضحك قائلا: وكيف أنتم؟
قلت: كما وصفتنا منذ عشرة أجيال بقصيدتك، «أحق عاف بدمعك الهمم ...» وجعلت أنشدها حتى أتيت على خامس بيت، فزفر وأمسكت، وخفت أن يبرح بغتة فقلت له: من غرائب الاتفاق أن تحتفل بيروت وباريس بيوم واحد في ذكرى شاعرين كلاهما شغل الناس.
فكشر عن أسنانه وأجاب: ولا فرق بين الذكريين، ذاك تحت قبة المجد، وأنا تحت المصابيح الحمراء.
فظننته يهزل فقلت: وأين تريد أن يضعوك وأنت القائل:
كم قتيل كما قتلت شهيد
لبياض الطلى وورد الخدود
يترشفن من فمي رشفات
هن فيه أحلى من التوحيد
كل خمصانة أرق من الخمر
بقلب أقسى من الجلمود
أوتطمع بعد هذا أن تكون بين الكنيسة والجامع!
فنظر إلي نظرة كادت تقتلني، وكان سكوت.
وحضرت القهوة فحساها بعد امتناع فاستعطاف، ورأيت الأجمل أن نكب عن هذا الحديث فقلت: أترى أعمى المعرة في جوكم؟
فأجاب: نحن الشعراء لا نعرف إلا من تقدم، أما من تأخر فيعرفنا ولا نعرفه.
قلت: تعني أن المعري استضاء بنورك، وفصل ما أجملت.
قال: وأقول إني لا أزال نهبا مقسما للشاعر والشويعر والشعرور منكم.
قلت: إن في لسانك أثرا من كل مصر.
قال: ألا تذكر قولي: أبدا أقطع البلاد ...
قلت: واليوم، أين بيتك أزرك في ديوانك؟
قال: أما منزلي فكما علمت، وأما ديواني ففي دواوين شعرائكم.
قلت: ما عنيت هذا يا أحمد.
فامتعض؛ لأنني لم أكنه، إلا أنه ابتلعها وقال: بلى وأكثر من هذا تعني.
فأنجز الحديث وقلت له: حقا يا أبا الطيب لقد نهجت نهجا جديدا في الشعر العربي، وقلت كلمات لا تفنى أبصرها العميان وأسمعت الصم.
فانتفش وطابت نفسه، فقلت: ولكن - وحدقت إليه فإذا الغمامة تنشر مطارفها - ولكن لو ... لو نظمت لنا ملحمة عربية كشاهنامة الفردوسي لتم أدبنا كما يزعمون.
فحك صلعته واتسعت حدقته، وانتظرت الجواب فقال بعد إطراق: ما عرفت شاعرا اسمه الفردوسي.
قلت: ولا أبا القاسم ؟
قال: أعرف كثيرين ولكن بلا شاهنامة، ثم زحزح كرسيه وأقبل علي وتوكأ على الطاولة حتى واجهني وقال: الشعر يا أخا العرب، عسجد يضرب نقودا على السكة الرائجة، فلو قامت لكم سوقنا فعلتم فعلنا.
قلت: ولكنها دنانير تفر من البنان.
فتعالى وقال: أقرأتها جيدا؟
قلت: مرات.
قال: إذن أنت تدرك أننا نبز الشعراء لو قلنا مثلهم.
قلت: نعم يا سيد المتقدمين والمتأخرين، ويا عظيم شعراء الأرض قاطبة.
قال: كنت تحدثنا بهذه اللهجة من قبل، فتطيب نفسنا، فومن نفسي بيده كنت ظننتك الصاحب بن عباد.
قلت: لا أحكم فيه شططا، فوالله العظيم لولا أنك تستحقها لما سمعتها مني وأنت المتنبي.
قال: إنك تغيظ الناس وتحفظهم عليك، يريدون الثناء من فم قربة وأنت تقطره تقطيرا.
فقطعت عليه الكلام وقلت: أما سمعت حسين هيكل يغفر لك بلسان مصر هجوك اللاذع؟
فانتفض وقال: وما ذنب الأمة فأهجوها، فوالله ما كنت إلا محرضا لها على ذاك العبد المخصي.
قلت: فلندع ذا، أعرفت لبنان قبل العام؟
قال: عهدي به بعيد، وكان ذلك في الشتاء.
قلت: إذن أنت تستحق شكر لبنان.
قال: وعلى ماذا؟
قلت: على هذا، أما ذكرته؟ وحقك لو دروا بوجودك لمنحوك وسام الاستحقاق اللبناني الأسمى.
قال: وما الوسام؟
قلت: سبيكة صغيرة من النحاس أو الفضة أو الذهب.
فهش - يا سبحان الله - عندما ذكر الذهب.
وكركر في الضحك إذ درى أن الوسام يشك في الصدر.
وخرج التلاميذ للتنفس ربع ساعة، وكان من دروس يومهم: «لا افتخار إلا لمن لا يضام» إحدى فاتنات المتنبي، معشوقة الملك فيصل رحمه الله، فأخذوا ينشدونها أجواقا، بصوت جهوري لتعلق في أذهانهم، فانتهض المتنبي فجأة وبرز لهم من الشرفة.
فما أبصرنا التلاميذ حتى صاحوا بملء أفواههم: يعيش الشاعر العربي، يعيش يعيش يعيش، وهم يظنونه معروفا الرصافي، كما صورته الصحف في عباءته وكوفيته وعقاله.
أما المتنبي فأخذ يختفي - كظل صموئيل من وجه شاول بعدما أحضرته عرافة عين دور - وسمعناه يردد في الفضاء:
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
قادة ذهبوا
(1) الأب هنري لامنس: المستشرق البلجيكي اليسوعي
لا حاجة إلى أن نبين لقرائنا ما ينجم من الفوائد الجمة من تشكيل جمعية تاريخية في سورية كما وصفها الأب لامنس، بل يأخذنا العجب من عدم إنشائها حتى الآن، لا سيما أن بلاد الشام من الأقطار التي توفرت فيها الآثار التاريخية، ونحن الأوروبيون نبني آمالا طيبة على جمعية تاريخية يكون أعضاؤها شرقيين؛ لأن أبناء البلاد ينالون بزمن قليل ما لم ينله الغرباء بعد الجهد الجهيد، وإذا تشكلت هذه الجمعية بادرت الجمعيات الأوروبية إلى مكاتبتها، فتقوى بذلك على إتمام مشروعات علمية ذات شأن خطير.
الدكتور ج. كمبفماير
متمشرق ألماني
توارى وجه الأب هنري لامنس في ظلمة القبر، فانطوت صفحة مجيدة من محققي تاريخنا المجيد، وآثارنا الدالة على من سلكوا هذه الطرق قبلنا.
كان لامنس لا يصيح ولا يماحك ولا يطفي سراجا مشعلا، حياة كلها عمل لا تعرف الملل، وعزم لا يفله الكلل، لقد ترك فيما كتبه هذا العلامة المفكر منارة للتائهين في مجاهل التاريخ، يقرءون على ضوئها الوهاج سطور المعضلات المبهمة، ويفكون أختام الأمس، عاش الرجل مجردا عن الأهواء، وكتب منزها عن الغرض لا يتعثر علمه بدينه، فمات بريء الذمة.
حرث كرم ربه من الصبح إلى المساء، واشتغل من الفجر إلى العتمة، فاستحق دينار ربه حلالا زلالا، لقد ترك آثارا تدل عليه فلننظر إليها باحترام وإجلال.
لقد أحيا الأب لامنس آثار لبنان، فعلى لبنان أن يمجده.
لقد أحيا لامنس صفحات مجيدة من تاريخنا العربي، فلنكتب اسمه في أمثل صفحة من هذا التاريخ.
كان لامنس ضيفنا، ولكنه ضيف فعل ما عجز عنه رب البيت، فلنتعاون على تكريم ذكرى هذا الضيف الذي لم يحسب قط أنه غريب، فمنذ أربعين عاما كتب «هيا بنا على درس تاريخنا»، ثم درسه فأحياه.
أرأيت هذه «النا» في تاريخنا ما أعذبها وأحلاها في ذلك الفم الطاهر، لقد أنطق لامنس خرائب لبنان المبعثرة، وخلق من صخورنا الأرملة لسانا فصيحا يخبر بأعمال السلف، وجعل من قلمه دعامة تقيها الانهيار، ولكن يد الجهل محت كثيرا مما أبقت يد الدهر منها؛ إذ لم تتحقق فكرة الأب لامنس بتأسيس جمعية وطنية تصونها (راجع كلمة الدكتور كمبفماير).
إن لبنان يا لامنس، بقلاعه وحصونه، ومعاقله وكهوفه، بكنائسه المسيحية، وهياكله الوثنية ، من قرن رأسه إلى كعب رجليه، من الشمال إلى الجنوب، يذكر وجهك الصابر على معارجه وأوديته، وجباله وقممه، وهو يقف اليوم حيال قبرك يرثي ذلك الجهاد الصامت والثبات الباش.
حدثتنا في ما كتبت عن آثارنا كأنك ابن عمنا، وواحد منا، وقمت تحثنا على حفظ آثارنا، وتقرئنا سطور أمجادنا بالمدل، فليشاركنا اليوم في تمجيد ذكرك من أرخت معابدهم، وانتزعت ذكراهم من فم العوادي.
إن ابني بلدي، أدونيس والزهرة، يمشيان معي في موكب مجدك، فهل تقبل تمجيدهما لك؟ لست أشك في ذلك، فأنت عشت للتاريخ، والتاريخ لا دين له، وهما من أبطاله الخالدين، هما بطلا الأساطير اللبنانية العالمية، أنعشت سيرتهما الحياة العقلية زمنا في هذا الجبل الذي سرحت بصرك في آثاره، ثم شاء ربك أن تنام على ساحله الضحوك تناجيك نجومه الساهرة وشمسه المتجردة، فنم بأمان الله يا لامنس.
لو مات لامنس في غير لبنان لتولت الحكومة دفنه ولو كان راهبا، ما كان لامنس للآباء اليسوعيين وحدهم، بل كان للبنان وللعرب أجمعين، فمن لنا بأمة تعيده تمثالا يذكرنا بأياديه البيضاء على تاريخها المجيد، إن لامنس أحيا الأمة وآثارها، فلتحتفل الأمة على الأقل بذكراه.
أين أنتم يا هواة الأدب! ألم تعينوا بعد تلك الساعة التي نجتمع فيها لتعظيم رجل خلق العظمة من صخورنا، والمجد ما نمر به ولا نشعر بفخامته! ففي مفرق كل قمة من قممكم تاريخ شعب هداكم إليه لامنس.
لست أدرس الآن ما تركه هذا الكاهن من آثار، ولست أنقد وأحلل، فأنا لم أقرأ من آثاره إلا ما نشر في بيروت، ولكن هذا يكفيني لأكتب مقرا بفضل رجل على أمة منثورة تحت سماء الله الواسعة، فهل يضيع فضل رجل في أمة شيمتها عرفان الجميل؟ اللهم لا.
إننا لا ننصف الأب لامنس إذا لم نعرف عن شعورنا نحوه بأثر فخم يذكرنا بفضله علينا، وهذا أقل ما يجب نحو هذا الراحل الجبار، فهلموا يا أصحابنا إلى إحياء ذكرى علامة جليل، أيموت رخيصا من أنفق أغلى ما يملك على درس بلادنا دراسة عميقة هي ذخيرة لنا؟ فهذا الفقيد العظيم متمشرق فاهم، وليجز الله عنا العلماء الفهماء، فهم سرج الأزمنة.
عرفت لامنس في وادي عين كفاع الرهيب، عرفته يوم كان نشيطا يفر مثل الطوير، ويتسلق جبلنا «العاصي» ليصعد إلى الكهف الأشدق، ليكتب عن «دير القطين» ويصف «سيدة البزاز» (تسريح الأبصار، ج1، ص92).
كنت يومذاك فتى لا أعرف عن لامنس إلا أنه «بادري» كما قال لي معاز الضيعة، ولامنس لم يلتفت إلي إلا مرة ليأخذ عني اسم الدير والكنيسة كما يعرفان، وأنا ما كنت أطمع منه إلا «بصليب وأيقونة ومسبحة»، ولكنني لم أظفر بشيء غير تخزق ثيابي، فعدت إلى الضيعة ليضحك مني رفاقي، وأنعت أنا هذا البادري بالبخل، ومنذ تلك الساعة لم أر وجهه قط، ولم أعرفه فيما بعد إلا من صورته المطبوعة لا أذكر أين.
وجاء بعده بادري يحمل مطرقة يكسر بها الصخور، فلم أذهب إليه بعد خيبتي الأولى، وأظنه زموفن الجيولوجي.
فهل حمل لامنس على صعود جبالنا ودخول كهوفنا المخيفة غير خدمة العلم؟ فلننهض إذا جميعنا لتكريم العلم والعلماء المخلصين بشخص هذا الفقيد الغالي.
إنني أوجه كلمتي إلى الذين عرفوا لامنس، ومن منا لم يعرفه! من منا لم يقرأ شيئا من فصوله الرصينة، وكتبه الثمينة التي تلقي الأشعة الثاقبة على ظلمات تاريخنا، إنني أوجه كلمتي خصوصا إلى أدباء الشباب الذين سيرون معينا أصفى من عين الديك في آثار لامنس، فقد عبد لنا الطرق القلقة المجاز، فلنتذكر جميعا هذا الغريب الذي أحب بلادنا حبا جما، ومات تحت سمائها، فلنجعل ذكره ممجدا.
أنا عالم أن شعار لامنس كشعار رهبانيته «المجد لله الأعظم»، فالله نسأل أولا أن يجزي من عمل لمجده، ثم نسأل الناس أن يحملوا قسطهم من الجزاء «الفاني» تشجيعا للأحياء واعترافا بفضل المحسنين. (2) عمر في يومه الأسود
لا أظنني أمنح عمر فاخوري وساما بعد الموت؛ إذ أكتب عنه هذه الكلمة المغمومة، لقد تناولت عمر في ما مضى جملة وتفاريق، والعهد بآخر كلمة غير بعيد، كنت فيها مصورا ومقارنا وباحثا جهد الطاقة.
لست آسف على سنوات عجاف يعيشها عمر ويمشي فيه أدبه مشية السرطان في بدنه، لقد أحسن القضاء صنعا إذ جذب ثنيي الطوال المرخى، وأراح عمر من بقاء هو فيه:
عليل في مكانين
من الأسقام والدين
كما قال الجاحظ عن نفسه في آخر العمر.
عدت عمر أول مرة فخلتني أمام مومياء تحدثني، فارتعت ثم تجلدت لئلا أريعه، ولعله قد رأى ذلك في وجهي حتى قال لي: وجهك أصفر!
فأجبته: الدرب طويل، والسلم عال، وأنا ابن ستين، فاصبر علي قليلا يعد جمالي الهارب!
فابتسم ابتسامة دميمة جدا وقال: تتهكم عليك إذا لم تجد واحدا غيرك.
فقلت: ما وجدت ترياقا لسم الحياة أشفى من الهزء بها وبناسها. •••
رأيت اليرقان قد خلع على عمر كل ما عنده من زعفران، فسألته عما به، فأجاب بعد سكوت لا أجد له نعتا: قلة العافية، وعناء الحمية، الغمرة انجلت، ولكن ...
قلت: دعنا من لكن، السلامة غنيمة يا أخي.
فأطرق ولم يجب، وأطرقت مثله ألوم نفسي، وطال السكوت فقلت له: متى تعود إلى عشك؟
فأجاب بهز شفتيه، فعلمت أن لليرقان أحلافا تشد أزره في حرب عمر، ثم مشى بيننا حديث متقطع موجع، انصرفت على أثره بأمل قصير الخطى.
وبلغني أن عمر عاد من عند أمه، فهرعت لأهنئه بالسلامة فقالت لي الخادمة: معلمي في السبيتال.
فقلت: والست؟
فأجابت: معه، فكملت طريقي إلى المستشفى الأميركي فلم أستطع مقابلته، وتلفنت مرارا أسأل عن صحته، فكان الجواب بردا وسلاما.
ثم فصل بيني وبينه الصيف، فما ضيعت اللبن فيه، وعاد عمر إلى بيته فجئته مستكشفا، فرأيته لا حيا يرجى ولا ميتا فيسلى، وتسقطت رأيه في نفسه فوجدته عريض الأمل، كبير الرجاء، وقعدنا حيث اعتدنا أن نجلس فلم يشك عمر الداء بل شكا سوء الحال وقلة الوفاء.
رجونا أن يكون سفيرا أحمر فإذا به يمسي شهيدا أخضر ، وتباحثنا الغد، فإذا بصاحبي متبرم ساخط، تعاون عسره ومرضه على هيكله الواهي، عاف عمله في الإذاعة انتصارا لوطنه فذاعت القلة في كيسه، وخسر موردين: الإذاعة وكلية الآداب، وأثقل دينه ظهره، لم يبق له غير جراية وظيفته الحكومية وهي لا تسد ثغرة العقاقير، فاضطر إلى بيع أعز المقتنى، وكانت مكتبته كبش المحرقة.
قال لي: غدا - وغدا بمعناها اللبناني الواسع - أدع كل هذا وانصرف إلى العمل حرا.
فقلت: وما نويت أن تعمل؟
قال: أعود إلى المحاماة، وأعلم معك إذا اقتضت الحال.
وحدقت إليه لعلي أدرك عمق يأسه ومدى ألمه، فرأيت بريق زجاجتيه قد تضاءل، وزيت قنديله قد شح، فقلت له: يا قليل العقل، تعود إلى المحاماة والتعليم بعدما خيمت في الشاطئ يا أبا منذر؟
فانفرجت شفتاه زهاء ميليمتر ولم يجب، فقلت له: كفاك الله شرهما يا عزيزي، فالذي لم يسهل عليك عمله شابا يعتاص عليك كهلا، أما سمعت قول المثل اللبناني: بعد ما كبر وشاب حطوه في الكتاب؟
قال: ولم لا تقول شيخا؟
قلت: لكيلا أصير أنا هرما.
فضحك ضحكة فزعتني، ليس بينها وبين ضحكة الهيكل العظمي فرق كبير.
كان عمر قليل الكلام معافى، فكيف به وقد هد حيله اليرقان، وله كبد مقروحة، لا يبيعه أحد بها كبدا ليست بذات قروح، كان يعاني مرضا كالنعاس يهد ولا يؤلم.
وثنيت عنان الحديث صوب النوادر والفكاهة فوجدته لا ينشط لها، فعدت إلى دار المكشوف أحدث صديقنا الشيخ فؤاد حبيش عن الخطر العتيد. •••
وفي خطرة ثانية سألت الشيخ الحبيشي عن حال عمر فقال لي: بخير، كان هنا، فقلت في قلبي: إذن ما أبعد الموت عنك يا مارون، إن صح عمر وسلم.
وذهبت إليه لأهنئه بالسلامة فوجدتني أقول: عفوا، لا تخدع نفسك، توق ما استطعت، ما أراك كما أشتهي.
فأجاب، ما كنت يوما في حياتي كما تروم أنت، أحس أنني أتحسن، ولا أدري إذا كنت أبلغ المرتبة التي أجلس فيها أمام قدح من عرقك المثلث، وخمرتك الدهرية.
فقلت: الله كريم.
ونظرت إليه فخلتني أرى ملامح رجل من وراء برقع، وأنني أمام شبح يمثل عمر، وقرأت أن أحدهم حمل إلى عمر وسام الاستحقاق اللبناني فقلت: ولم هذه العجلة؟ خامرني ريب فيها فسألت أصحابنا فقالوا: لا، ولكنني رجعت إلى نفسي وقلت: إنه فأل غير مليح.
وعدت من «فرصة الربيع» ومعي لأخي عمر شيء من تلك التي شبه بها سليمان حب الشولمية في نشيد إنشاده، وما وضعت الأثقال لأفعل كما قال الأخطل عن قطار فلسطين، حتى حمل إلي الأثير صوت الأستاذ رئيف خوري يؤبن صديقنا عمر، فضربت المكتب بجمع يدي وهجم الدمع إلى الخدود، ولكنه لم يتجاوزها، كعادته في المصائب الجلى.
إن حصة عمر محفوظة وستبقى مختومة على «السدة»، ولا ترى النور إلا حين نشربها في عين كفاع مع إخوان عمر وأصدقائه، صانعين هذا لذكر كاتب عظيم مات.
سنصنع هذا الذكر ركن من أركان هذه النهضة، لذكر موظف عاش نظيف اليد والجيب، ما مد يده قط، ولا اشتهى مقتنى غيره، عاش لا يفصل بينه وبين الناس ذاك التعنقص الذي يتنكر به بعض الأدباء والمتأدبين لأصحابهم متى وظفوا.
كان لا طائفيا، ولكنه لم يتشدق يوما بذم الطائفية كأصحابنا الأشد تعصبا من الكهان، ثم يتفانون غيرة على الأوطان، كان عمر لا يصيح ولا يماحك ولا يداهن ولا يصانع، فظل حيث هو لأنه لا يحسن المداجاة والمصانعة والمداهنة؛ لأنه أبي ثابت يزدري المنافقين والزنادقة الذين يكرون مع كل خيل مغيرة.
ترك ما ترك من موارد رزق تعصبا لبلاده وانتصارا لها، ولم يشعر أحد بما صنع، ولو فعل ذلك غيره لأقام الدنيا وأقعدها.
عاف موارد رزقه وعاش مكثورا عليه ليتضامن مع بلاده، فعل كل ذلك صامتا؛ لأنه ليس من الذين يجعلون من الحبة قبة ومن القبة جبة؛ لأنه من غير الذين يجمزون كالقبابيط في حقل المراتب، ويدعسون على جثث أصدقائهم ليرتقوا درجة ويكسبوا ليرة ورقا.
إن هذا الاستطراد يجرني إلى الكلام عن شخصيته، لم يكن عمر حسودا ولا حقودا، كان على ما فيه من شمم وإباء لا يزهى ولا يتكبر، كان محبا وإذا أبغض أعرض وازدرى، وخرج بالصمت عن لا ونعم كصاحبه بشار.
كان فمه نظيفا لا يتبذل حتى في المجالس الخاصة التي كنا نعطي فيها المرح حقه، فكان يقابل تلك النكات الصارخة بربع ابتسامة، ويشارك بكلمات كان يستعد لتأديتها استعداد طالب غير واثق من ذاكرته.
ولم يكن عمر عدوا في ثياب صديق، ولم يكن من الذين يقتلون الرجل ويمشون في جنازته شاقين الجيوب حزنا على الفقيد الغالي، أما في الأدب فكان مؤمنا ولكنه غير ممارس الطقوس المنظمة، يصلي لآلهة الفن بما يدور على لسانه، لم يكن أديبا محترفا بل كان أديبا هاويا، كان كسميه الشاعر عمر - غفر الله لهما - موكلا بالجمال يتبعه، كان لعمر بن أبي ربيعة لذة النظر كما زعم، وكانت لعمر فاخوري لذة العمل الفني، وما معشوقاته غير الكلمات اللواتي يؤلف بينهن ولا يجعلهن ضرائر، أولع بالجديد ولم يتنكر للقديم فكان من خير من كتبوا بلسان العرب من المحدثين.
وأخيرا مات هذا النسر وعينه إلى القمة، لم ينظر قط إلى الأوحال التي يتمرغ بها بعض زرازير الأدب.
لا أقول أن خسارة الأدب العربي لا تقدر أو لا تعوض، فحسب الذرية ما تركه لها عمر من نماذج، وقد لا يصنع أجمل منها لو عمر كمتوشالح. (3) في ذكرى عمر
1
لقد أشبعت عمر درسا في حياته وبعد مماته، أما الآن فسأتحدث إليكم كما يطيب لي أن أتحدث، ولعله يطيب لكم.
أفلا يعنينا من الأديب غير تعبيره وتفكيره؟ فأين نحن من أخلاقه؟ ألسنا أحوج إلى هذا منا إلى غيره من الخصال؟!
مساكين أهل «الفن» حتى قبورهم
عليها تراب الذل دون الخلائق
أسرجوا الخيول، واقرعوا الطبول، أي خيول يا سادة؟ خيول الفكر لتجلي في ميادين الورق، وطبول الخطب لتقرع في حفلات التكريم والذكرى، مسكين الأديب يعيش على الكلام ويموت على الكلام، فكل ما يعمل للأدباء عندنا هو من بضاعتهم تلك: «حكي بحكي»، والذي مات بداء الحكي غما نحاول أن نحييه بالحكي، ثم نعد هذا خلودا.
خلود، نعم، قال جبران: يقولون لن تعرف قدرك حتى تموت ، لقد أصابوا، فمن يا ترى يعرف طبيعة البذور التي تطرح في الأرض قبل أن تنبت؟
هذي غير تلك يا جبران، وأنا لست على رأيك في هذا القول، لا أريد أن أموت ليعرف الناس قدري ، فيوم حلو جميل، وأمسية أو عشية نتمتع بها بمثل هذا الاجتماع بكم يا سادة، يسوى ألف خلود أدبي بعد الموت، وما هذه الآمال والأماني إلا تعلة البائسين، وجلهم من الأدباء.
هذه علكة كالتي يلهون بها الأولاد عن أكل لباب اللوز حين يستأجرونهم لتكسيره، ما لنا ولهذا الخلود الكاذب، أنعيش فقراء منكوبين بجيوبنا؟ أينعم بخيرات الأرض لننعم نحن فيما بعد بحفلة تكريم؟ أليس كل راحل عظيما؟ أليس كل ميت عبقريا؟
أنا لا أقول ما قاله الحجاج: والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، يظهر أن عمامته تلك كانت أرث وأعتق من عمامة نقولا الترك التي سأل الأمير بشيرا أن يعتقها مع ذلك الشروال.
وبعد فلنفرض أن أديبا عظيما مات، فمن يشعر بموت هذا الأديب غير المصابين مثله بداء الكلام؟ يموت رجل وارم الكيس، منتفخ الصندوق، فتهتز الأرض بالطول والعرض، حكومة وشعبا، ويموت الأديب الألمعي فلا يشيعه غير جيرانه وإخوانه.
وبعد هذا، ماذا؟ اسمعوا، علينا أن نقيم لنوابغنا آثارا مشهودة لنحث شبابنا على اقتفاء آثارهم، فقد كادت لحية لبنان أن تنصل، علينا أن نعزز الأديب حيا ليقتدي به النشء ويكون للوطن غيره، وإلا انقطع النسل الأدبي، فهذا الأديب العظيم الذي اجتمعنا لإحياء ذكراه الليلة، أتعرفون ماذا حل به قبل لفظ روحه؟ لقد مات معوزا وكفى، وما يوم حليمة بسر، فلننتقل إلى أدبه.
قرأت بعد موته صفحة من إنشائه فكدت أنكرها لو لم يثبت لي ذلك خطه، تسمعون، ولا شك بالعملية القيصرية، هكذا كان عمر يضع مواليده، اثنان كانا مقلين مجيدين: جبران وعمر، وكلاهما كان صائغا متأنقا، وقد عرفت ذلك أثناء اطلاعي على مخلفاتهما التي لم تبع كمخلفات الجيش.
كان عمر صريحا لا يواري ولا يوارب، وحسبك منه قوله: «فإذا بما يفيض من عبقرية جبران يروي بطاح المستقبل، بينما عبقرية شوقي مسفوحة على هضاب الماضي، وشوقي من الشرق وجبران من الغرب، فلا يلتقيان إلى يوم القيامة، ويغلب على الظن أن الشرق سيظل كامرأة لوط، في موكب الزمان، ناظرا إلى ورائه فيمسخه الله صنما من ملح؛ أي من دموع جوامد، على حد قول أندره جيد الذي يزعم أن لوط ضاجع ابنتيه في إحدى منعطفات التاريخ، وهو ناظر إلى المستقبل.»
أجل، كان لعمر فصول ولكنها روائع حقا؛ لأنها ملك صاحبها وعليها ماركته المسجلة.
أما وقد انتهيت من عمر، فلا بد من كلمة دعت إليها الحال، أما حان للأدباء أن يدعوا الشكوى؟ فأصحاب أرميا كفوا البكاء.
الأدباء من المواطنين، ولهم على الدولة ما يطالب به كل مواطن منكوب بزلزال، ولهم أسوة بمن ذهبت الثلوج والعواصف بموزه وليمونه.
الأدباء دعاة الأمة ولهم على الدولة ما له عليها كل رجل من رجالها، فأناشد الله من يعنيهم الأمر أن لا يتركوا الأديب حتى يموت ليتبرعوا بتجهيزه.
إن يوما هانئا على وجه الأرض لخير من كل ما يعمل له وهو في بطنها، إذا ذهبت النفس فلا أسف على الجيفة.
وأنتم أيها المحتفون بذكرى عمر، هلموا بنا نعمل أثرا يحيي ذكرى عمر في غير هذه القاعة أيضا، أخرجوا «الأديب إلى السوق» فينعم بمشاهدة أبطاله، لقد كثرت ضيوف المكتبة الوطنية، وإنني لأخاف أن تضيق صدورهم يوما فتعلو صيحتهم، ويتكلم كل منهم على هواه، فما يفهم الحداث إلا التراجم، فهبوا بنا نخرج الخالدين إلى الهواء الطلق.
رحم الله من سمع ووعى، والسلام عليكم. (4) المونسينيور فغالي
في مدرسة أكثر من متواضعة نشأ المونسينيور ميخائيل الفغالي؛ حيث نشأ قبله أخوه المطران بطرس، تلك المدرسة الصغيرة الجاثمة على كتف جسر المدفون، في مزرعة اسمها كفر شخي كانت ملعب صبانا، كان نخلة يوسف - أي المونسينيور فغالي - أكبر مني قليلا، فكنا صديقين صغيرين، وعشنا كذلك كبيرين، والرأي مختلف.
لا تبارح مخيلتي صورة صديريته الديما - من حياكة فغال - ذات صفين من الأزرار الزجاجية الرخيصة، ولست أنسى شراويلنا البيض المصنوعة من المقصور ، وكانت بذلة الأحد والعيد غنبازا من الجوخ الرصاصي شتاء، ومن الحرير المحاك في بيت شباب أو الستي كروزا صيفا، أما اللباس الفرنجي فلم يكن له أثر.
كان يرعانا ويعلمنا كاهن جليل اسمه الخوري مارون شكور، وهو ابن كفر عبيدا ضيعة نخلة يوسف، كان معلمنا رحمه الله عارفا بأصول العربية معرفة دقيقة، وبارعا في «الليشيات» أي لماذا رفعوا اسم كان، ونصبوا اسم إن مثلا، فكان يحملنا من تلك الأثقال ما استطاع لا ما نستطيع.
وكان نخلة يوسف في الصف الأعلى، فكنت أستفتيه فيما يشكل علي من مسائل، وما يفوتني من «درر» الليشيات، وكان صديقي كريم الأخلاق لا يستثقل أن يجيب على أسئلة طالب في الثالثة عشرة، لم أكن في ذلك العهد أحسن درس الأخلاق ومع ذلك كنت أعجب بهدوء نخلة يوسف ورزانته، وأحاول أن أترصن مثله ولا أقدر.
كانت ابتسامته حائرة ولكنها صافية خالية من كل معنى إلا معنى المحبة، وكان قدوتنا في اجتهاده، فلا يخلو من كتاب، إن لم يكن في يده، فهو تحت إبطه أو في جيبه.
ومات في تلك السنة - 1899 - البطرك يوحنا الحاج، فهب شعراء المدرسة يرثونه ويتفجعون عليه، خائفين على الطائفة بعده، وانتخب المطران إلياس الحويك بطركا، وكان هوى رئيس المدرسة - الخوري بطرس بوصعب - مع المطران أبي نجم، فغمرت المدرسة موجة يأس وخسرنا «الفادوس»، ثم كان الرضى والتسليم فاقترح معلمنا وراعينا على الشعراء من كبار التلامذة، أن يهنئوا صاحب الغبطة الجديد، فقال الكثيرون منهم شعرا، قال معلمي الأول طنوس حنا إلياس من عين كفاع:
قد سدت يا بدر السعادة والهدى
وبدا ضياك لكل مغو فاهتدى
وقال الخوري مارون شكور، مدرس البيان في مدرسة مار ساسين فغال:
أحن إلى النظم الرقيق توددا
وقلبي بحب الغيد لن يتقيدا
وقال نخلة يوسف كفر عبيدا:
ألا أيها النشوان من خمرة الذعر
أفق لا تخف أمنت من نوب الدهر
2
هذا هو المونسينيور فغالي في مار ساسين فغال، وافترقنا سنة ثم اجتمعنا في مدرسة مار يوحنا مارون الإكليريكية، وهناك في الغابة التي تلف دير كفر حي التاريخي، جددت مع صديقي نخلة يوسف ذكرى سنديانات مدرسة مار ساسين فغال، كنت كبرت قليلا وأصبحت أقدر على إدراك معاني الحياة فصارت عشرتي ألذ، كانت لنا حركات تستفز الأساتذة وتضحك التلامذة ، فكان المرحوم نخلة يفوز من حركاتي بالغنم وأفوز أنا بالغرم.
لم أكن أبالي بما عند جبابرة الأساتذة من بطش في سبيل توطيد عرشهم، خاطروني مرة في مدرسة مار ساسين على التدخين في قاعة الدرس فدخنت، وكان الجالس سعيدا على عرش «المناظرة» حنا الخور حاقل - الخوري ميخائيل الخوري، كاهن رعية مار مارون، في بيروت سابقا - فأنزلوا بي عقابا شديدا، أطعمت الخبز اليابس راكعا في المائدة مدة أسبوعين فقط، ومع ذلك لم أثب فتركت في مار يوحنا مارون قصصا خالدة.
وأخيرا صح الصحيح ولبى صديقي نخلة دعوة نعمة روح القدس التي لم تحل علي، فبعثوه إلى فرنسا حيث أتم دروسه الإكليريكية، وهكذا حدت عن ذلك الدرب وافترقنا، ثم اجتمعت به بعد الكهنوت أكثر من مرة، وتبادلنا «النظريات» في حياتنا، وكان آخر اجتماع في مكتبي بعاليه، جلسنا ساعات نتذاكر الماضي ونستعرض شريط حياتنا الماضية، فعشنا بها هنيهة.
كان صديقي غير مغرور، فرأيته بحلاه الذهبية من سلسلة وصليب وخاتم وأزرار حمراء، أكثر منه تواضعا في صديرية الديما، وشروال المقصور، لم يتغير فيه شيء غير علمه العميق وثقافته الواسعة، قد زودت طلابا كثيرين أموا فرنسا ببطاقات توصية فكان يحسن استقبالهم في باريس، ويمد لهم يد المعونة غير مدخر شيئا من وسعه، فيمهد العقبات التي تقف في وجوههم، كان يقابل كل لبناني وسوري، على اختلاف الملل والنحل، ببشاشة وعناية، فكان كما قال مار بولس: صرت للكل حتى أربح الكل.
لندع الآن نخلة يوسف ولنقل كلمتنا في المونسينيور فغالي، كان هذا الكاهن الفاضل نموذج البساطة اللبنانية في حركاته وسكناته وفي أساليب حياته، لم ينصل لونه اللبناني في الغرب، فرغما عن تزييه بالسمت الأوروبي كنت ترى سيماء كهنة لبنان في القرن التاسع عشر بادية على وجهه النقي، وهو أحد الذين شرفوا لبنان في الغرب ، وبنوا مدماكا بارزا في صرحنا العلمي العالمي، فالمونسينيور فغالي ظل لبنانيا حتى في لهجته وحديثه، رأى منه الغرب لونا لبنانيا لم يعرفه من قبل، عرفهم بلغتنا اللبنانية العامية الفصيحة، المنفوخة فيها الروح اللبنانية، وحسبك كتابه المعنون لهجة كفر عبيدا.
كان رحمه الله عالما بالآداب المشرقية والمغربية، عارفا لها كل المعرفة، علم لغة العرب وآدابها في كلية الآداب ببوردو، وفي مدرسة باريز الوطنية للغات الشرقية الحية، فأحيا ذكر نوابغنا الذين كانوا أساتذة لغة الضاد ينشرونها في أربعة أقطار المسكونة.
قد أريتك في مطلع كلمتي أنه قال الشعر عربيا، لتعلم أنه رجل خدم وطنه ولغته، فإذا ذكر القروم منا كان كالسمعاني والتولاوي والحاقلاني وغانم وغيرهم، حق لنا أن نضيف الخوري ميخائيل إلى ذلك الفهرست الطويل، وإلى عمله في حقل العلم يمكننا أن نضيف عمله الخصيب في القضية اللبنانية، فقد عهد إليه بأمور جسام فحل معضلاتها.
قلت له في عاليه: أعرفك يا خوري ميخائيل رجل علم وأخلاق وفضيلة، فأريتنا أنك تصلح أيضا للسياسة، فأجاب بالتفاتة إلى فوق، وكثيرا ما كان يعبر بهذه الالتفاتة البليغة، ويستغني عن الكلام الفارغ.
لست أعدد ما كتبه المونسينيور فغالي من تآليف فهذا لا يعنيني الآن، فالذي يهمني أن أتحدث عنه هو ما قلته، وإني أختمه بقولي: كان صديقي رحمه الله، على علمه الواسع، كما قال الإنجيل عن يوحنا: قصبة مرضوضة، لا يصيح ولا يماحك ولا يطفي سراجا مشعلا. (5) فؤاد سليمان الأديب والشاعر
فؤاد سليمان في نظري وحدة شعرية لا تتجزأ، هو شاعر في كل ما خطه قلمه من منظور ومنثور، قد يكون شعره كشعر غيره، أما نثره فذو طابع خاص، وكتابه «درب القمر» ديوان شعر له مقوماته وخواصه التي لا تجدها عند غيره، وربما كان هذا الكتاب على صغره، خير ما أنتجه شبابنا في الفترة التي عاش فيها فؤاد سليمان، كأني بهذا الأديب الشاعر نظام مستقل في كون الأدب، له شمسه وكواكبه ونجومه، وكل في فلك يسبحون، فحيثما تصادفه تنبئك عنه خصلتان: عاطفة من نار آكلة، وكلمة من حديد محمى.
هو شاعر الألم وكاتبه، فكل ما نراه على موائد الآلام يتجسد في جمل كتبها قلمه الناري، ما رأيته مرة إلا تخيلت الزئبق الرجراج، لا يستقر على حال من القلق، هو دائما متحفز للقفز، فكأن في داخله لولبا يدور أفقيا، نصف ابتسامة بل ابتسامة كالجهشة، وضحكة لا تفتح لك بابا للانطلاق، ما نسيت يوم عرفته في دار المكشوف فقلت له: كيف يكون سوط النار الذي يسوق أبو شبكة به الشعراء كما قلت؟
فأطرق إطراقة من يتهيأ للوثوب ثم قال: مثل السوط الذي تستعمله أنت في نقدك لهم.
ما أسرع ما أمسى فؤاد سليمان، وا أسفاه، كلمات نرددها، وأكبر هم الأديب هو أن يستحيل في الغد كلمات تجد لها رواة ومرددين، أجل هذا هو ملكوت الأدب الذي يموت العباقرة على رجائه ويعدون به أنفسهم، كان فؤاد من المؤمنين بألوهة الحرف، وكان يقول الصحيح ولو حرقت الكلمة فمه كما يقول المثل اللبناني، والكلمة دعامة الحياة وركيزة صرح الإنسانية، بل هي قوة غير منظورة تلقنها الحياة من يستطيعون تأدية رسالة الحق.
إن تلك الكتلة البشرية التي كان اسمها فؤاد سليمان قد كانت ثورة قائمة برأسها، كانت عاصفة تخبئ تحت جناحيها ابتسامة البرق وقهقهة الرعد، فهو وصاحبه أبو شبكة توأمان، وإن ابتعدا نسبا يجمع بينهما الشكل والمزاج والعاطفة، كلاهما غنيا قلبيهما أولا، وهذه المنعطفات والقمم ثانيا، كلاهما ربيبا القرية اللبنانية، فكان لها من شعرهما ونثرهما نصيب، انفتحت أذنا فؤاد سليمان على رنين الجرس المتأرجح في القبة، وكان ملعب صباه تلك البيادر المنبسطة حد بيته في فيع، تلك البلدة الجاثمة على صلعة الجبل، لعب الشاعر ومرح في تلك المطارح الحلوة فانطبعت صورها في نفسه لتستحيل فيما بعد شعرا طليا، كما تستحيل قبلات النحلة لثغور الزهر شهدا.
لفؤاد سليمان ثلاثة آثار: ديوان شعر، ودرب القمر، وما كتبه بتوقيع تموز، وهذه الآثار وإن اختلفت موضوعا، هي واحدة من حيث الروح والمحبة والبغض، لقد بكر فؤاد في الحنين إلى أيام الطفولة ومراتع الصبا، فكأنه كان شاعرا بقرب وفود ذلك الضيف الثقيل عليه.
كان هذا الأديب مناضلا في درب القمر وفي تموزياته، كان يغضبه كل شذوذ حتى شذوذه هو، فيحتدم غيظه وتخرج الكلمة من تحت قلمه كأنها حديدة خارجة من الكير تقطر دما وتشع نورا ونارا، فإذا تصفحنا ديوانه رأيناه يبكر في التوبة، ففي عام واحد، عام 1934، نشر أولى قصائده «إلى أين» وختمها بهذا البيت:
يصفق الوادي لأعراسنا
إذ يسمع الوادي صدى القبلتين
وفي العام نفسه نظم «مزمور الخلاص» الذي يقول فيه:
أتوب عن الماضي المجمر باللظى
وأغسل أدراني بقارورة العطر
فكأنه ما شب حتى شاب، ولكنه رغم توبته في شعره ظل حاد الشهوات فتخيل الزنبق، وهو رمز الطهر عند البشر، كأنه يحس ما نحس من شهوات لحمية، فقال في ابتسامة الزنابق البريئة:
ما للزنابق فوق النبع خالعة
عذارها وشباب النبع يغويها
أظنها صورة لم تمر في خاطر شاعر، وما أكثر مواليد قرائح الشعراء.
أما ألفاظ فؤاد وصوره الشعرية فأرى الكثير منها منتزعا من محيطه، وهذا أثر المربى فينا، فاسمع كيف يخاطب واحدة في قصيدة «عابرة طريق»:
ليس من عجنتي ولا من خميري
فاتركيني أسر وحيدا وسيري
أما الموت أبعده الله، فكنت أراه في شعره أني اتجهت في ديوانه، كقوله:
إذا تلقين في عيني هما
وفي وجهي اصفرارات المغيب
وكما يقول في قصيدة عنوانها «مقبرة»:
أنا وجه القبر تلقين على
جبهتي الصفراء أشباح المنايا
غلغلت في كل ضلع غصة
وجنازات تهادت في الحنايا
أرأيت هذا الشعر الزوالي؟ حقا إن خاطر الإنسان دليله.
وبعد فلنطو صفحة الفناء لنرى بعض نماذج من ألوان الحب الجارف، ففي قصيدة «الهوى المكتوم» يخاطب حبيبة بشأن ثغر لها، خاف أن تجعله وقف ذرية فقال لها:
خليه لي وحدي على طهره
أنا اللظى، والناس ماء وطين
وفي قصيدة «عذراء» يقول:
إن في صوتك الحنون جراحا
ألف آه تموج فيه وآه
أنا أهوى على شفاهك شيئا
غل في فتحة الشفاه وناه
أنظرت إلى ألفاظه؟ فلفظة غل، وفتحة، وعجيني، وخميري قروية لبنانية مائة بالمائة، وما أكثر الفصيح في لهجتنا، فليته لم يستعمل إلا الفصيح الخالص.
ليس شعر فؤاد سليمان ألفاظا منمقة مرصوفة، ولكنه كلام يحيا بما في قلب قائله من حرارة محييه، ليس هو من أصحاب الرموز وإن قال في قصيدة «العرس الأسود»:
يا حلمي الأشقر يا رفة
طافت بقلب أخرس معتم
وإذا ما تصفحنا درب القمر رأينا أن نثره فيه كديوانه شاعرية؛ ولذلك عددته ديوان شعر، فإذا واجهت «مرايا لم تعد تضيء» اقشعر بدنك لتلك التعابير التي تصف البيت في غياب ربه، لقد أظلم كل شيء في عيني الابن البر، ثم ما لبث ذلك الظلام أن انقشع حين عاد الولد إلى عشه وملأت الخيرات البيت.
أما مقال «طفولتي» فأقول ولا أحسب أني أغالي، إنه أروع مقال قرأته في هذا الموضوع، فهذا التجريد الذي وفق إليه فؤاد جعل الطفولة كائنا حيا وكأنه من لحم ودم.
قلت إن فؤاد سليمان ابن بر بوالديه، وهل يعبر كما عبر إلا من كانت له محبته؟ اسمع ما يقول في وصف وجه أمه: «أمي ... من ألوان عود الصليب وجه أمي، وكأن الذي حاكه مرة، حاكه وقطع يده لئلا يحوك مثله.»
وفي «مطارف من أرجوان» منتهى حرية الفكر، وقد استحال فيها فؤاد الأديب، عالما نفسيا حين حلل نفسية الشاعر وحاجاتها.
أما مقال «درب القمر» فنشيد أناشيد شولميته القرية اللبنانية، وفي «مرايا لم تعد تضيء» نفحة طاغورية.
اقرأ تصويره فيها للبيت والأم المهجورين، هناك تجد صورة البيت اللبناني العتيق تامة الخطوط، فكأنك ترى بعينيك ما يحدثك عنه هذا الأديب الشاعر.
واقرأ «حبة رمل» وقابل بين ما قاله في النبي محمد الرسول الأعظم، وبين ما كتبه غوت شاعر ألمانيا العظيم، لترى أن الموت يقطع الأوتار ولا يرحم، إنها «حبة رمل» ولكنها جبل من شعر.
وفي مقال «في موكب التائهين»: تسمع شاعرا بوهيميا يقول: «أنا هنا في سكرة معربدة محمومة طائشة، حيوان يمشي مع حيوانات، بهيمة تعيش مع بهائم، ملعون من ملاعين الدنيا، أجر جناحي المنتف ورائي على الدروب وفي الشوارع، أنا هنا لم أطلق بعد ، متى أتمكن يا صديقي من أن أنفلت من قيود المرأة والتراب، وأوهام اللحم والدم ومقاييس الزمن، فأصبح إنسانا كاملا؟»
لقد أخطأت يا فؤاد، فلو صار كما تمنيت لكنت لا شيء، فلولا اللحم والدم، وما على المائدة من مغريات ومقبلات، ما كان لنا فؤاد سليمان.
وبكلمة عابرة أقول: إن درب القمر أنشودة لبنانية أصيلة، كتب الله لها الخلود، وشاعرها يجلي حين يصوب قلمه نحو الينابيع والكروم، وكل ما يمت إلى القرية بصلة.
أما ما كتبه هذا الأديب بتوقيع تموز فقد تصفحته من أوله إلى آخره، حتى وصلت إلى أوراق بيضاء لم يمهل الموت تموز ليسودها ويبيض وجه الأدب، لا أدري لماذا عرتني رعشة عندما وقعت عيني على تلك الوريقات البيضاء، أحسست أن دمعة رقصت بين أهدابي مع أن دمعي في الحوادث غال.
أجل، لم يبق لنا من فؤاد سليمان غير هذه الجزازات من تلك الصحيفة وهاتيك المجلة، ولكنها جزازات تتضمن روحا كانت تتردد في لحم فؤاد ودمه، فأبقت للذرية هذا التراث الحي.
ففي «التموزيات» يثور فؤاد على كل اعوجاج وقع تحت عينيه، يثور للإنسانية المعذبة كما في الكلمة التي عنوانها «إنسان مدود»، وهو في كل ما كتب في الواقع ما تخلى عن بيانه ولا تجرد من خياله، يخاطب الناس من عل مهما علوا، ويقذفهم بكلام كأنه القنابل، ويزدريهم ولا يبالي، وقد يتفق له تهكم مر يأتيه عفوا، فيبدو جميلا كقوله: «صرنا نخشى على البيت اللبناني أن ينهار، فالمرأة مشغولة بقضيتها، أعطوها حقها وخلصونا، جربوها فقد تصلح ما أفسدناه نحن.»
وما أبلغ كلمته، بل ما أصدق قائلها حين تحدث عن لص سرق الشاعر ميشال طراد صاحب جلنار، قال: «ما كنا نعلم أن الشاعر الجميل الذي لم يبق شاعر في لبنان إلا وسرق منه لفظا وطيبا ولونا.»
إنها كلمة لها ما بعدها، ذكرتها قصدا، وموعدنا في التفصيل حين ندرس الشعر العامي اللبناني.
وأخيرا هذه صورة الشاعر والأديب الذي كانت النار تندلع من عينيه، والكهرباء ترعد أعصابه، هذه صورة ذاك الذي كنا ندعوه فؤاد سليمان يوم كان بيننا، أما اليوم فلا أجد له لقبا؛ لأن الأسماء والألقاب مبتذلة كلها، فعلى بنات الشعر اللبنانيات أن يجددن عهد النواح على «تموز». (6) خمسة في عام واحد: الحداد، المطران، المازني، محمود طه ، البعيني
لم يفجع الأدب العربي في تاريخه المديد - كما فجع في عام واحد - بجمهرة خيرة من أدبائه وشعرائه وكتابه، فبعد موت جرير والفرزدق ثم شوقي وحافظ في عام واحد، لم يصب الأدب العربي بما أصيب به هذا العام - 1950 - قد توارت خمسة وجوه من دنيا الأدب: خليل مطران، عبد القادر المازني، محمود علي طه، يوسف البعيني، والخوري يوسف الحداد، عمل كل من هؤلاء الخمسة جهده بل فوق مجهوده، فازدادت اللغة العربية ثروة ضمت إلى تراثها القديم.
الخوري يوسف الحداد
مشى الخوري يوسف الحداد في طليعة موكب الأبد، كما عاش أربعة وثمانين عاما معلما ومربيا، لم يسأم الحياة كزهير، فظل يكتب وينظم رغم ما كف الدهر من بصره، ترك مئات من رجال هذا الزمان الذين علمهم وهذبهم، وترك مسرحيات منها المترجم ومنها الموضوع، وكتب قصة طويلة - المروءة - وحبر مقالات رائعة في كتابيه: اللبنانية، والنجوى.
كان هذا الكاهن وقفا على أمرين: ثوبه وعلمه، كان ثوبه يزجيه دائما نحو الكمال، وكان علمه يحثه دائما على بلوغ المدى الأبعد، والعلم من توابع وزوابع الإكليريكي الحق، لا يعني هذا أن الخور أسقف يوسف الحداد تبتل فعاف كل مسئولية عيلية، فكان كراهب امرئ القيس لا شغل له إلا إمالة السليط بالذبال المفتل، كان الرجل معلما وأبا ومربيا، حملته الأقدار عبء وصاية بني أخيه، فربى وعلم كما يفعل الأب المستطيع، فهذا الكاتب الذي نراه في كتاب النجوى يحث على الادخار كان عدو كيسه، وعظ الآخرين وما اتعظ هو، لم يجعل مخزنه عبه بل جعله في العقول والقلوب، كان في القول معلم اقتصاد من الطراز الأول، أما في العمل فاتكل على قول معلمه: لا تهتموا بما للغد ... وكان ربه عند ظنه فمات مكفيا كما عاش عزيزا.
لا يعرف الخوري يوسف الحداد الأب إلا أقرب الناس إليه، ضحى بكل ما يملك ولم يترك خلفه غير فضله وتلاميذه، كان مربيا حقا، كان للمعارف والتربية يوم لم تكن لهما وزارة في لبنان.
قالوا عن الأخطل ضيق عليه دينه، وابن عمتي هذا ضيق عليه ثوبه في دنياه وأدبه، فعسى أن يوسع عليه في آخرته، وعلى ذكر الآخرة أقول: كنت أجده لما بلغ الثمانين خائفا من الرحلة العتيدة، على قلة الزاد لها، كما كان يقول تواضعا، قلت له مرة: شد حيلك يا بيه ... أنت قادم على كريم، ولسانك طيب، وقلبك تقي، والله لا يحب غير هذين.
كثيرا ما كنا نتفلسف ضاحكين لنخفي الذعر، وكنت أشجعه كلما التقينا حتى قلت له مرة: تتذكر هذا البيت؟
كلما قلت متى ميعادنا
ضحكت هند وقالت: بعد غد
فأجاب: وكيف! أتظنني خرفت؟ هذا لعمر.
فقلت له: هذا لسان حال الدنيا معك، لا تخف.
فضحك ضحكته المعهودة، وكنا كلما التقينا بعد ذلك يقول لي: كيف حال هند من صوبك؟
وأجيبه: ما زالت تضحك وتقول بعد غد.
وتطيب نفسه ويقول: سبحان مقسم الأرزاق! الذي لم يوافق عمر وافقنا نحن.
خليل مطران
هذا هو الكاهن الأديب الذي سبق القافلة المجيدة إلى واحة الموت، وتلاه في هذا المضمار غير المرغوب فيه الشاعر العظيم خليل مطران، الذي أعده - كما عد القدماء بشار بن برد - جسرا يصل القديم بالحديث، فمطران مجدد في تصوره وتفكيره وخطته الشعرية، قلد مخيلته الصور الرائعة الطريفة التي قلما خلت منها قصيدة من روائعه المشهورة، إنه أحد أقانيم الثالوث الشعري في القرن العشرين، كان هؤلاء الثلاثة شوقي وحافظ ومطران يتبارون عند كل حدث خطير يحدث في الشرق، وإن توسعنا قلنا عند كل نكبة عالمية، فكان حافظ يأتي ثالثا، إلا في عهد شبابه فقد جلى مرات، أما مطران فأستطيع أن أعده مجليا - عند الحاجة - في شبابه وكهولته، وقد سكت في شيخوخته، بينما ظل أخوه شوقي يرسل الصرخة أثر الصرخة حتى قضى، وقضي له بالزعامة ولم ينازعه فيها منازع.
ولمطران أيد بيضاء ليس على الشعر وتجديده، بل على النثر أيضا وخصوصا المترجم منه، فقد عمل الرجل كثيرا وأفاد كثيرا، وصلى خلفه في هيكل الشعر خلق كثير، فهو حقا فجر مدرسة جديدة، إنه الشاعر الإبداعي كما عده الدكتور إسماعيل أدهم، ولئن قصر عن شوقي في التعبير فقد فاته في التصوير والتفكير.
عبد القادر المازني
ثم كانت الخسارة الجلى بالمازني الأديب الكبير المحبوب، البعيد عن العنجهية والادعاء، كان هذا الأديب الظريف يعمل ساكنا ويكتب صامتا.
حاول في فجر شبابه أن يكون شاعرا فما أعجبه شعره، فانصرف أولا إلى دراسات في الشعراء القدماء، فكان أول من اهتدى إلى ابن الرومي، فكتب عنه فصولا رائعة شائقة دلت على ذوق فني رفيع، ثم تناول بشارا فكان الأسبق إلى دراسة هذين الشاعرين دراسة أصولية.
وأخيرا اهتدى المازني إلى نفسه، وعثر حين طوف في دنيا الثقافة على أسلوبه الذي عرف به فكان أسلوبا خاصا نقرؤه مسرورين مغتبطين، قلما مر أسبوع لم يكتب فيه المازني فصولا مختلفة، ولكن بدون ضجة وقعقعة، فهو بمقدار كاتب نضال؛ لأنه كتب ليعيش، فكان يجلي في الميدان ولا يترك خلفه غبارا يؤذي العيون، ولا صهيلا وصليلا يصم الآذان، بل كانت طعناته صامتة، لا أجد أصدق وصفا لها من قول عنترة:
برحيبة الفرغين يهدي جرسها
بالليل معتس الذئاب الضرم
مسكين المازني إذا صدق الخبر الذي قرأت، وأن أولاده في حاجة بعد أن ألقي كاسبهم في قعر مظلمة، كما قال الحطيئة مسترحما عمر بن الخطاب، ولكن أين ظلمة البئر من ظلمة القبر! إن هذا حيف، فعلى الأمم أن تراعي أدباءها كما تراعي جنودها الذين يموتون في ساحة الجهاد، أليس هذا جهادا؟ أليس حامل القلم أخا حامل السيف في ساحة النضال عن الأمم؟
أذكر أنني قرأت بعد موت ولي الدين، أن ابنه كان يلم أعقاب السكاير في شوارع العاصمة وسككها وليس من يأبه له ويذكر فضل أبيه، رحم الله عبد القادر المازني وجبر خاطر الأمة المكسورة وأعاضها مازنيا آخر، ولعل مازنينا لو بعث ساعة لقال لنا: لو كنت من مازن.
محمود علي طه
أما الفقيد الرابع، وهو المهندس محمود علي طه، فشاعر مجدد ينحو نحو شعراء الوقت في لبنان، وله قصائد غراء، يحق لنا أن نقول في هذا الشاعر ما قيل في أبي تمام: إنه مات ولم يستمتع بخاطره .
كان له شعر رائق طريف يطبع على غرار الشعر الحديث، وإن لم تنقطع الصلة كل الانقطاع بينه وبين القديم، وإن نهج شعراء الفرنجة في أساليب الكلام، لقد انطفأ خبر هذا الشاعر كأنه لم ينظم دواوينه «الملاح التائه» و«أشباح وأرواح» و«ليالي الملاح» فما أرخص موت الأدباء والشعراء.
يوسف البعيني
أما الخامس فهو الأديب يوسف البعيني أحد أعضاء العصبة الأندلسية في البرازيل، شاء هذا الكاتب الأديب أخيرا أن يكون ناقد العصبة فكتب في النقد فصولا، ولكن الموت عجل عليه قبل أن نستطيع الحكم على ما كان يرجى منه من خير أدبي، بيد أن ناقد العصبة كفي ووفي على قلة ما كتب.
إنني أنظر إلى الغد نظرة خشية، فعسى أن يحل أدباء الشباب محل هؤلاء الجهابذة الذين تواروا في عام واحد، والحبل على الجرار، أرجو أن يقدر الشباب المسئولية الملقاة على عاتقهم، فهم خلفاء هؤلاء الأدباء الذين ذهبوا، فليعدوا العدة.
على الجيل الطالع أن يتعمق في دراسة الأصول، وأن يتبحر في متون اللغة وهوامشها، وأن يعب من ينابيع الثقافة الحديثة، وإذا لم يجد دلوا فليعب بيديه من نهر العلوم والآداب العالية، وإلا فإني أخشى أن يصح فينا قول الحجاج في إحدى خطبه: ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون؟ إن العلم أوشك أن يرفع، ورفعه ذهاب العلماء، أما أنا فلا أزعم زعم الحجاج المتشائم، بل أتجلد وأقول مع السموأل:
وما قل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلى وكهول (7) إبراهيم عبد القادر المازني
المازني كاتب متفرد، هام حينا في أودية الشعر، ثم اهتدى إلى شخصيته فعرف ذاته، أدرك أنه لن يصير شاعرا محلقا فمال عن القول المنظوم إلى الكلام المنثور فخلد بنثره في دنيا الأدب، انفصل المازني عن أقرانه - حسين والعقاد والرافعي والزيات وهيكل - بأسلوبه الشخصي المستملح، فكان نسيج وحده كما عبر أسلافنا القدماء، تعرفه حين تقرأ مقالا له، وإن كان غير ممهور، وتلك سمة الكاتب الفذ.
ليست معرفتي به على قدر إعجابي بما تفرد به من حلو الكلام ومره ، فأنا لم أره غير مرة في الحياة، التقينا عند المصور الشهير أسعد دقوني، وكان مرافقه الخاص يوم جاء لبنان الصحافي العصامي المرحوم جبران التويني، فتعارفنا على يده، وكان تسليمنا وداعا كما قال الشاعر.
رأيت فيه يومئذ رجلا أعرج قليل الظل، ذا عينين كأنهما محاجر مسك ركبت فوق زئبق، ثم كنت أقرأه بإمعان وأستقري أخلاق من خلال ما يكتب، فإذا بي أراه جبارا ولا ذا عنجهية وإن كان ذا عاهة، فهو في نظري إن صدقت تلك اللحظة العابرة، حمل كتاب عصره الوديع، لا يتنفش ولا يتفرعن، لم يغرق في السياسة لأذنيه، لم يكن أهوج الحزبية، فظل حيث هو لم يته في مجاهل السياسة، فعاش أديبا ومات أديبا.
كان «أمن» عبد القادر كما كان يسميه ذاك الناظر الأخن، مثال الأديب العربي المثقف، وإن زعم لنا أنه لم يعرف من النحو غير اسمه، لم يقطع المازني الصرة بينه وبين القديم، ولم يتنكر للجديد، فجاءت عبارته حلوة ذات ألوان طريفة حديثة، ليست بالقديمة الغريبة ولا هي بالجديدة المبتذلة، تلمع شخصيته في خلال سطوره، حتى في المواضيع الجافة التي لا تجد فيها الشخصية منفدا تبرز منه.
لم يرفض المازني الألفاظ العامية الفصيحة، ثم استكفى بروحه الفنية عن الالتجاء إلى الفصاحة والبلاغة؟ فكان له من ظرفه وخفة روحه أكبر عون على نفخ الحياة في كتابته التي تستحلى وتستملح، ناهيك بأنه الكاتب اللبق الذي لا يتعالى ولا يطرق المواضيع التي تظهره بمظهر العلماء الكبار، بل يعالج - وخصوصا حين شيخ - المواضيع المتصلة بالحياة اليومية، قلما عناه أن يناقش فيلسوفا كبيرا عالميا ليريك أنه من أقرانه أو أعظم منه، كما يهم من يخطئ بالأقلام الحسابية الأربعة أن يناقش أينشتين، وقد يخطئه ولا يستحي، إن المازني يفعل غير ذلك فاسمع كيف يحدثنا عن نفسه في مقال عنوانه «في الكتب»:
وتمنيت وأنا أدير عيني في كتبي على رفوفها، لو أن هؤلاء الألمان الذين يتفلسفون علينا بما لا نفهم، بينوا لنا أو لي أنا على الأقل، ماذا يريدون أن يقولوا: عجيب أمرهم والله! قرأت مرة لأحدهم وأظنه «هجل» كتابا في فلسفة التاريخ فخرجت منه كما دخلت، وقلت لنفسي: إما أني حمار، وإما أن هذا الرجل لا يحسن العبارة عما في رأسه، ولكنني أفهم عن غيره، فلماذا أراني لا أفهم عنه!
ودارت الأيام ووقع في يدي كتاب لرجل أميركي اسمه دريبر، يكتب كما يكتب خلق الله، لا الألمان، فإذا فيه فصل طويل عن العرب يعد تطبيقا لنظرية هجل التي لم أفهمها، فسألت نفسي: لماذا لم يكتب «هجل» كما يكتب هذا الرجل؟ ثم عدت أسألها وأتعجب: لماذا فهم «دريبر» عن «هجل» ولم أفهم أنا عنه؟
وأسأت الظن بنفسي، واعتقدت أن بي نقصا في التدريب العقلي، وراجعت هجل وكررت إلى هؤلاء الألمان المعوصين كرة المصمم المستميت، ولكن مضغ الجلاميد أعياني، فنفضت يدي منهم ومن نفسي يائسا، وقلت: يا هذا، لقد صدق القائل: كل ميسر لما خلق له، وأنت لم تخلق لتقرأ فلاسفة الألمان، فارجع عنهم وانج بنفسك منهم.
ألا ترى معي أن أستاذا غير المازني لا يعترف هذا الاعتراف، بل يعد ألف هجل حمارا.
والمازني قرض الشعر أولا كما سبق القول، ولكنه لم يصر على النظم مغالطا نفسه، بل أدرك ما في شعره من سماجة، فعدى عن النظم الذي كان يجيء فيه بالغث، ويحسب أنه صنع شيئا، ولم يكتف المازني بإرشاد نفسه، بل كثيرا ما نصح غيره ليعدي عما لا يجيد فيه، تراه مثلا في آخر عبارة من كتابه «قبض الريح» ينصح أحد رفاقه في الشوط الأدبي الأول، قائلا له: إن «الأستاذ» - أي الدكتور طه حسين - ليحسن جدا إلى نفسه إذا تحاشى الخروج من النقد العام الذي يسهل مع التحصيل، إلى النقد التطبيقي أو الدراسات الفردية.
أجل لم تطب نفس المازني بشعره فارعوى حين ضل، وانصرف إلى النثر فأحسن صنعا؛ لأنه لم يبل الأدب العربي بمنظومه بل أسكره بمنثوره، فكان نثره هذا مرقاة له فعرج إلى سماوات الفن، فهو ولا شك واحد من أعاظم كتابنا الفكهين الساخرين.
لست أحدثك عن كتبه المشهورة؛ لأنك تعرفها، «فحصاد الهشيم» وهو أشهر ما يقرأ من كتبه، يقبل عليه النشء لما فيه من دراسات أدبية دقيقة لابن الرومي وبشار، فالمازني كان أسبق أدباء جيله إلى التعرف إلى هذين الشاعرين الكبيرين، فكتب عنهما فصولا تغني من شاء التعرف إليهما عن المجلدات الضخمة، وقد يكون حبه العبث باللحى الكبيرة صغيرا هو الذي هداه إلى شاعرية ابن الرومي الفذة فكتب عنها دراسته القيمة.
فإبراهيم المازني كما يعترف في مذكراته «قصة حياة» يقول: «لا أعرف ما سر حبي للحى في وجوه الناس، ولكني أعترف أني ما رأيت قط لحية طويلة تتدلى كالمخلاة، إلا نازعتني نفسي أن أجعل لها من أصابعي مشطا، وقلما أرى الآن لحية تستحق أن أعبث بها، فإن الناس في زمننا يحلقونها أو يقصرونها ولا يرسلونها، اكتفاء بالمظهر واستغناء به عن الحقيقة الخشنة أو الشائكة.»
ولا أحدثك عن كتابه «صندوق الدنيا» - فهذا أيضا في متناول الناس، وقد أقبلوا عليه أيما إقبال - ولا عن كتابه «قبض الريح» الذي مر ذكره سابقا، فهذه الكتب اشتهر بها المازني، وهي معروفة من دنيا القلم، ولم يسود وجهه من كتبه الأولى غير قصته «إبراهيم الكاتب»، شاء أديبنا الكبير أن يكتب قصة فكتبها، فكانت قصتها قصة تطول، كما عبر قبلنا صاحبه ابن الرومي.
إخالك أدركت ما في عناوين كتب المازني من طرافة وغرابة، وهذه سجية الناقد الأصيل، فالمازني ناقد في جميع ما يكتب، وقصصي في كل فصل حبره، وأكثر قصصه طرافة وأحلاها هي تلك الأقاصيص التي تتصل بذاته اتصالا وثيقا، وخصوصا في الفصول التي كتبها في مجلة «الرسالة» وغيرها بعد ظهور تلك الكتب، ففي مقالة: «عجوة ببيض» وغيرها يذكرني بقصص الجاحظ وأخباره، وإن كانت هذه من نوع آخر.
لقد حلت بالأستاذ نكبة البرامكة حين صبحه أولاده وزوجه بطلب الفلوس، ولكن «العجوة بالبيض» هونت عليه الكارثة التي حلت به، وتعزى الكاتب الفارغ الجيب بالكلمة المأثورة التي خاطب بها زوجه مسليا نفسه: «أنفقي ما في الجيب يأت ما في الغيب، لا بأس، لا بأس، سيرزقنا الله.»
بيد أن الكاتب لم يرزق، فعاش غير ميسور، ومات مكثورا عليه، ولولا صرخة رفيق الرحلة الأولى لتاه بنوه في الأزقة، كما تاه من قبل ابن ولي الدين لاما أعقاب السكاير عن أرصفة شوارع القاهرة.
قلت لك فيما مر إن المازني «كاتب جامع»، ولكنه متئد السير في كل ما يكتب، يهز هزا لا يلوي، ولا يفرض آراءه وأفكاره على الناس فرضا، أسمعه يحدثنا في عام 1935 عما أسميناه منذ أعوام «الجامعة العربية»، وقد سماه هو في ذلك الوقت «القومية العربية»، ومما قال فيها: «لقد أحطنا قوميتنا بمثل سور الصين، ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهما لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ لوجب أن نخلقها خلقا، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة مأمونة، وما خير مليون من الناس، مثلا؟ إن أية دولة تتاح لها الفرصة، تستطيع أن تثب عليهم وتأكلهم أكلا بلحمهم وعظمهم، ولكن مليون فلسطين إذا أضيف إليه مليونا الشام، وملايين مصر والعراق، مثلا يصبحون شيئا له بأس يتقى.»
قد يقال: ولكن هذا ليس إلا حلما، فنقول: نعم إنه الآن حلم لا أكثر، ولعله لا يتراءى إلا لآحاد يعدون على الأصابع في كل بلد، ولكنه على كونه حلما، ليس أعز ولا أبعد منالا مما تحلم به أمم أخرى في هذا العصر، وبالأمم حاجة إلى أحلام، والأحلام ضرورة من ضرورات الحياة للأفراد والجماعات، ومن لا حلم له لا أمل له ولا مستقبل، فلماذا يعيش إذن؟!
هذه بعض خطوط من صورة أديبنا المازني، وإذا أردنا أن نرسم لكاتب عظيم مثله صورة تامة الخطوط، فمثل هذا الإطار لا يتسع لمثل هذه المادة الغريرة، فكتاب بكامله يكاد لا يفي بالمازني، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فشكرا لمحطة الشرق الأدنى التي تذكرنا في كل مناسبة بإخواننا الذين طواهم الموت، وكم في التذكر من منافع وعبر.
رحم الله المازني، وما أحوج الأدب العربي إلى بضعة كتاب من طرازه، فينتعش لسان الضاد وتدب الحياة في كتبه، فالرجل كان غني النفس على بؤسه، كريما معطاء على خصاصته ، وربما كان البؤس مصدر هذه الثروة الأدبية. من يدري! (8) المنفلوطي ورسالة الغفران
ليتك تترك الأموات يرقدون في قبورهم مطمئنين فمالك ولهم ... إلخ.
من رسالة كاهن
أبت وأستاذي.
لا إخالك ناسيا ما كنت تقوله لنا، ونحن صغار لم تطرر شواربنا بعد، عن وقفتنا أمام ربنا حفاة عراة، حين لا يشفع بنا غير أعمالنا الصالحة، وسيدتنا مريم العذراء، ولست أنسى تغنيك بهذا النشيد: إن قلبي في هوى مريم ... من كان للعذراء عبدا فلن يدركه الهلاك أبدا ...
أما الأديب فيدان مرتين؛ مرة: بحسب ناموس دينه، وأخرى: بحسب ناموس الأدب، فلا تجزع ولا تخف، فقبور الأدباء معرضة للنبش كل ساعة، ولا يقام على نابشها حد زياد في «البتراء»، فهنيئا لمن ينبش النقاد قبره وينقل آثاره الثمينة إلى متحف الفن، ويا ويله إذا لم يكن فيه غير عظام نخرة.
وبعد، فإن معضلة الأسلوب أو القالب أو المنوال قد شغلت العقل العربي أجيالا، فاحتال لها جماعة في كل عصر بأخذ الحبل من طرفيه، لم يعافوا القديم جملة اتقاء ثورة غوغاء الأدب وهم أكثر من السوقة وأشد خطرا، وأخذوا من الجديد بمقدار إرضاء لنفوسهم الظامئة إلى ورد غير الحياض المطحلبة، أما المجددون الذين تمردوا وخاطبوا الناس بلسانهم فأنكرهم جيلهم وكان كأورشليم، قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، فعاشوا في أمتهم كالدجاجة الغريبة لا تصادف إلا مناقير من فولاذ تغرز في رقبتها.
أمامي الآن مقدمة ابن خلدون فاسمع ما يقول في هذا الشأن:
فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب - أي أساليب القدماء - فلا يكون شعرا، وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء؛ لأنهما لم يجريا على أسلوب العرب.
فهل من حرج علي إن وقفت من هذه الشهادة التي ينقلها إلينا ابن خلدون موقف المرتاب الشاك! فإما أنه يشهد بالزور، أو أن شيوخه هؤلاء شيوخ حقا لم تبق منهم الأيام قوة تميز بين شعراء المتنبي والمعري، ومهما يكن من أمر هذه الشهادة فهي دليل على تمسك العرب بالقالب حتى صيروا التعابير العربية كحصى «الدومنو» وحجارة النرد يسوقها الزهر، وينزلها منازل لا يشتهيها اللاعب، أما الفنان فينظر إلى ألفاظه ككائن حي يستمد الحياة مما حوله، وإن كان للصينيين قوالب حديدية يحصرون فيها أرجل بناتهم فلا تنمو ولا تكبر، فالقالب العربي فعل أكثر من هذا بعقولنا، فما أفقر أديبا لا أداة له من الكلام إلا ما قاله آباؤه وجدوده، وإن لم يعبر كما عبروا فقد كفر.
إننا نعجز عن خلق تعبير جديد فنحتج لضعفنا بتقديس الأسلوب، ومن استعرض آثار العرب رأى ثورات الزعماء في كل جيل، ونحاة وبلغاء يقمعونها، أما الجبار الذي خرج على أساليب القدماء وأغراضهم وتعابيرهم فهو المتنبي وقد سمعت ما يقوله فيه ابن خلدون ويسنده إلى شيوخه.
ولكن ما نعاه فيلسوف المؤرخين على أبي الطيب أصبح اليوم دعامة خلوده، فكأن هذا الشاعر الأعظم قد نظم شعره لهذا الجيل الكفاحي، ففيه مرعى لكل نفس غير بلهاء كأشياخ ابن خلدون الذين يجاريهم طه حسين، فقد سمعته يختتم كلمته في حفلة الجامعة المصرية للمتنبي بقوله: إن فن المتنبي لا يعجبه، وهذا ما توقعته من طه بك فلا بد للدكتور من مخالفة ليقال: قال، وطه كما أراه يعتق شيئا فشيئا، ولا يبعد أن تستهويه الماوية والسجنجل، فهو يمشي الوراب كالسرطان ولا نعلم أي وكر يملأ.
مسكين أدبنا المريض بسل الأسلوب وسرطان القالب، إنه لا يؤمن إلا بتعازيم الكهان ورقى الحواة ولا يعرف من الطب إلا الكي، وهو خير دواء لكثيرين من هواته، يخدعك طلاء هذا الأدب حتى إذا رزته عرفت أنه دنانير ولكنها من «شوكلاته»!
سقنا هذه الكلمة لحديثنا عن المنفلوطي، والمنفلوطي جدول يخرخر ونهر ثرثار تقطعه غير خالع نعليك ولا تشمر بكرم فضاح كالتي حدثنا عنها الريحاني في ملوك العرب، المنفلوطي من مناجذ الأدب الذين لا يهنأ لهم عيش إلا في قرض الجذور، ونحن إلى من يغرس جديدا أحوج منا إلى من يقرض، فالقارضون عندنا لا يحصون، وقلما ينامون قبل أن يكسبوا بيتا .
لا أدري لماذا صرت أرى المنفلوطي رخوا مترهلا كالمرأة الهركولة التي تعتمد على يديها ورجليها لتنهض، وتكاد تقعد لولا التشدد كهريرة الأعشى، فأدب المنفلوطي أدب مفلطح منتفش اغترت الصحف بخرزاته وودعاته، فلقبته «أمير البيان» فتطوح في حقول الأقدمين كلاقطي السنابل «العفارين» وتاه في الجادات كجامعي لفافات التبغ، ولن أعدل عن رأيي هذا فيه حتى تستبدل مقاييس الأدب وعباراته بغيرها فيصير الرطل كيلو والذراع مترا.
ما خدع المنفلوطي عن نفسه حتى جاء بهذه المفرقعات، إلا كذب بعضنا على بعض، وإننا ما فتئنا نفعل هكذا بالأحياء الذين يبعطون في جهلهم ولا يتأدبون حاسبين النبوغ في اجترار التعابير كالعنزة القائلة.
لقد فتشت آثار المنفلوطي كلها فما عثرت بتعبير شخصي لهذا النابغة، فهل بين الناطقين بالضاد من يدلني على واحد، ثم لا يثنيه هذا الضعف أن يجترئ على المعري ويلخص رسالة الغفران بأسلوب منفلوطي، فتنكرت لنا كالذين يتلبسون بقبع المرفع والبربارة، ولو لم يقل المنفلوطي إنها رسالة الغفران لجهلناها، فقد استحال فيها أدب المعري معرة، واستناب المنفلوطي نفسه عن علي بن منصور.
رحم الله «ع. م» أحد رسامينا القدماء، فقد خبرونا أنه كان يصور الغزال ويكتب اسمه تحته ليعرف الناظر أنه يرى صورة غزال لا صورة ضبع، إن «ع. م» في الرسامين كالمنفلوطي في المنشئين، ولم تعدم البلاد ممن يعدون «ع. م» مصورا بارعا، وكأني بمنفلوطينا قد استضعف خيال المعري فبدأ رسالة الغفران - غفر الله له - حيث أراد، وأخذ يروح فيها ويجيء كسيارة يدورها سائق عكش في كوع ضيق.
قد بدأها كما شاء هو فرأى نفسه في صحراء مد البصر، وما أكثر ما يرى المنفلوطي نفسه في الصحارى؛ حيث لا حارس ولا ناطور، بل ما أكثر أحلام هذا الرجل وأقرب إعفاءاته، وما أطول نومه فكأنه اليربوع أو الغرير، عفوا أين الغرير منه وقد نام ألف سنة في رسالة الغفران، تحرش المنفلوطي بالمعري، ثم بجبران في قصة «صراخ القبور» فكان كولد يخربش على الحيطان قبالة فنانين حاذقين، وجاء عمله في رسالة الغفران كعمل صيقل أبله يذهب بجوهر السيف ليجعله لماعا أبيض، وإن شئت فقل ليعيده حديدة، أو كحراث عثر وهو ينقب أرضه على قطعة أثرية فجلاها بسحوق كسر الجرار ليزيل زنجارها، فخمشها وعراها من هيبة الدهور وجلال الأجيال، وهكذا فات البصير - أمير البيان - ما أدركه الأعمى الذي لم يعجب شعره ابن خلدون وأشياخه.
لقد مسخ المنفلوطي رسالة الغفران مسخا لا يغتفر لصبية الكتاب، فكان كالقصاص، بل من أين للمنفلوطي براعة ذاك، فالقصاص لا يهمل الخطوط التي تريك ملامح أبطاله، أما المنفلوطي ففاته هذا، اقرأ تر كيف غاب عنه ما فيها من جمال فبدل التعابير الأثرية بكلام مزيف مصقول، ولم يعجبه، يا سبحان الله، من كلام المعري إلا «فبعلت بالأمر» التي لا تدل إلا على ذوق المنفلوطي، فأبقاها.
هل من معترض إذا سمينا المنفلوطي محيي الموءودات، فقد أحيا لنا الكثيرات منهن مثل: فثأته عنه، والفينة بعد الفينة، وعين ثرة، ثجاجة، وقليب أي بئر ... عدا عن الصحراء التي حل فيها محل ابن القارح، ثم خلق أيضا في الجنة دهليزا - كالذي كان يأكل فيه المعري - وهذا شيء غريب عجيب لا يلهمني إلا أن المنفلوطي كان يسكن بيتا ذا دهليز، فالمعري الذي عاش في دهليز أبدي ما خطر بباله قط أن يجعل في جنة الله حتى ولا في الجحيم دهليزا كهذا الذي خلقه المنفلوطي.
قال المتمشرق جيب في مجلة الدروس الشرقية الإنكليزية (ص316، سطر 22، مجلد 5): إن المنفلوطي كان متأثرا بالأدباء السوريين، وأيد كلامه بتلخيصه رسالة الغفران التي لخصها زيدان قبله، ولم يتعرض الأستاذ جيب لهذا التلخيص المشوه بكلمة. نعم إن المنفلوطي حذا حذو زيدان كما قال جيب، ولكن زيدان لخص هذه الرسالة تلخيصا أمينا، ولم يستضعف المعري، فقدم لنا خلاصة ترينا هيكل رسالة الغفران فقرة فقرة وعظما عظما، أما تلخيص المنفلوطي فلا يظفر منه إلا بفقاعات منفلوطية، كالتي يعجب بها بعضنا ويخالها الأدب كله، أما صاحبهم ففشل فشلا مخزيا في تلخيص رسالة الغفران، وفي قصة العقاب التي كتبها على نسق قصة «صراخ القبور» كما سترى، فكان فيهما - كما هو في كل ما كتب - رصاف ألفاظ يلهو بها لهو الوليد بالقطع الخشبية، يبني منها قصرا أو قبة، حتى إذا وفق إلى رصف تلك القطع في مواقعها صفق له أبوه، وقبلته أمه بين عينيه إعجابا بذكائه وإكبارا لنبوغه.
إن تعابير المنفلوطي في كل ما يكتب هي هي بعينها، شاحبة صفراء كقوس الشنفرى، أو كبني يربوع الأخطل، أما سياق تفكيره فواحد، كل ليلة غدافية الإهاب، وكل حقل مد البصر، وكل وقت تمضى إلا أقله، وكل رؤيا يبدؤها بقوله: رأيت فيما يرى النائم ... وقد يكتب صفحات فلا تدري ماذا يريد، فتأتي معانيه كحبة قمح في عدل تبن، ولا أتخيله إلا كأولئك الواعظين الذين يعيدون مواعظهم على الناس بشحمها ولحمها وعجرها وبجرها.
فكرت كثيرا بما أشبه به آثار المنفلوطي وأسلوبه وتعابيره، وطلبت فلم أجد له مثلا إلا الروبل الروسي والمارك الألماني، وإن أردت مثلا تراه بعينيك فانظر إلى الظرف والزكرة المنفوخين وترحم على نحاة العرب، فلحكمة سامية خلقوا حرف التنفيس، واذكر بالخير صاحبنا بشارا وقل لعشيقته عبدة: عجلي فقد كاد صاحبك ينفزر ...
لقد ضاق التفكير بالمنفلوطي فلجأ إلى قوالبه المعلومة وأخذ يرجعها، كساعة «الكوكو» التي تقلقك زمنا قبل أن تعد الثانية عشرة، أليس عجيبا أن نسعى إلى التجديد بكل ما فينا من قوة ورغبة، ثم ننصر هذا العتيق ونسميه جسرا وهو قنطرة نافرة الغلق.
وأخيرا إن شئت إدراك فهم المنفلوطي لرسالة الغفران، فاقرأ كلام إبليس وبشار في الرسالة وقابله بتلخيص المنفلوطي، ثم قل سبحان من يخلق لكل جمل عبقريا كالمنفلوطي.
إني أفرح كثيرا بما أقرأ من محاولات شبابنا في التجديد، وسأجعل همي الإخلاص لهم وللفن فأعرض عليهم ما أفهم وأدرك، ولا غرض لي إلا تحسين نسل الأدب، وأسعد أيامي يوم أزيل فيه من أدمغتهم عقيدة الأسلوب والقالب، لينظروا إلى التعبير ككائن حي ينفخ فيه الأديب الفنان من روحه، ففي قوالب العرب ما بطل، وفيها الصالح لهذا الزمان، فلنميز بين الاثنين، إذا كان الناس يحسنون نسل القطط، والسكاف يجدد قوالبه كل عام، فكيف بالأديب وهو الخالق المبدع!
إني لا أحترم ولا أقدس إلا الأدب الصحيح، وسيان عندي قديمه وجديده، وسواء عندي أجاء من غلام مغرور أم صدر عن شيخ وقور.
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، فإن استمرأتم زادنا زدناكم منه، وإلا فارفعوا أيديكم عن قدورنا، فلا بد لهذا الفول من كيال. (9) أبو الفضل الوليد
كان اسمه إلياس طعمة حين كنا في مدرسة الحكمة رفيقين في الصف العربي، يعلمنا بيانها وقواعدها الخوري يوسف بو صعب، ثم انقضى ذلك العام الدراسي عام 1905، فترك إلياس المدرسة إلى غير رجعة وكان آخر عهدي به.
قضى في بيته ثلاثة أعوام كانت من أطيب العمر كما قال، ألف خلالها مسرحيات عديدة: شعرية ونثرية، منها: ما وضعها ومنها ما عربها، حتى إنه نظم نشيد الأناشيد وصدره بمقدمة، ويزعم إلياس أنه لما هاجر عام 1908 أضاع تلك الدفاتر في إحدى رحلاته؛ ولذلك لم نضع نحن الوقت في سرد أسمائها، وفي 15 نيسان سنة 1913 أصدر في المهجر جريدته «الحمراء» تيمنا باسم حمراء الأندلس وقريته اللبنانية «قرنة الحمراء»، فعاشت تلك الجريدة أربع سنوات خلقت في أثنائها روحا قومية عربية قلما تجدها، وإذا وجدتها فلا تجد تلك الحماسة والعصبية حتى الهوس.
قلت: كان اسمه إلياس طعمة، ولكنه «في تشرين الأول من عام 1916 اتخذ كنية أبي الفضل واسم الوليد، وقيدهما في سجل الحكومة البرازيلية فأصبحا رسميين شرعيين يعرف ويعامل بهما.»
يقول أبو الفضل الوليد «إنه لم يغير اسمه؛ لأنه غير عربي، بل لأنه ابتذال وقصد به علم النبي اليهودي، فهذا الاسم حمله أحد أجداد العرب وهو إلياس بن مضر بن نزار».
إن جنون إلياس بحب العروبة وكرهه اليهودية أنساه أن الكتاب المنزل تدين به العروبة التي يقدسها قد جاء فيه:
وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (سورة الأنعام: 85)،
وإن إلياس لمن المرسلين (سورة الصافات: 123).
ومن الصدف الغريبة أن يهاجر إلياس في نيسان، وأن ينشئ جريدته «الحمراء» في نيسان، وأن يعود إلى وطنه في نيسان، وأن تبارحنا نفسه الكبيرة في 29 نيسان يوم الثلاثاء سنة 1941.
أما هدف الأديب الشاعر في الحياة فقد عبر عنه بما يلي: «لولا بياض أمله لما شهد الملأ سواد ورقه، ولولا حبه لقومه ووطنه لما أضاع في الكتابة أحسن العمر، فليس هو إلا صاحب دعوة له عقيدة ملية وطريقة سياسية، حمل القلم لإظفارهما ولإظهارهما فكتب للعزم والعمل لا للعب والكسل، فكان نثره ونظمه مبديين لشعوره وإيمانه ورجائه.»
إنه مجاهد قديم، حارب حتى تكسر سلاحه، وبعد ما قام بالفرض ووفى بالعهد هجر الدواة وسائر الأدوات، ولم يعتزل إلا لتيقنه أنه لم يبق للقدم مفزع وللسهم منزع، فحكى قائدا رومانيا كان يعود من بقاع الحرب إلى بقاع الحرث، وما كان ناثرا وناظما ليعد كاتبا وشاعرا، وما اتخذ الأدب حرفة ليدارمه لكن بلاغا ورسالة، فلا يصح إلا به وبأمثاله قول الرسول في حديثه الشريف: «يوزن مداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة فلا يفضل أحدهما الآخر.»
وينتقل أبو الفضل الوليد إلى وصف خلقه ليعرفه الآتون بعده، فكأنه رحمه الله قد أدرك أنه سيهمل وينسى، فدون بقلمه تذكرة نفوسه فقال: «إنه طويل القامة، قوي البنية، متناسب الأعضاء حنطي اللون، كبير الرأس، كثيف الشعر، واسع الجبهة، أزج الحاجبين، أنجل العينين، عسلي الحدقتين، ضخم الأنف، غليظ الفم، عريض الذقن والصدر، طلق المحيا، حسن المقابلة، لين الجانب، حلو الحديث، لطيف الحس، شديد الطرب، صبور جليد، محب للحلم والرحمة والإحسان، ذو أنفة وعفة، ونزاهة وشهامة، مترفع في العزلة، متواضع في العشرة، حافظ للعهد، وفي بالوعد، غضوب للحق، ولوع بالعدل.»
أما في وصف أدبه فيقول: «ما كان التهاب فكري إلا من اضطراب نفسي واضطرام قلبي، فالفضل في إلهامي لروح العروبة التي لاحت لي من ورائها روح عليين.
إني أموت كما عشت عربيا آملا مشوقا، وأود أن تضم جسماني تربة دمشق الطيبة. هناك تهيم روحي في البادية، وتنشق نفحاتها الطاهرة، وتطرب لهدير الوادي. تلك رقدة أشتهيها وأعلل نفسي بها، وأراها خير مكافأة لي إذا كنت مستحقا.»
ومشى إلياس الخطى التي كتبت عليه حتى استولى على أمد العروبة فقال: «وإذا لم تكن عروبة إلا بالإسلام فإنني عربي مسلم مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.»
هذا ما كتبه أبو الفضل الوليد معرفا الذرية بشخصيته ونفسيته، أما ما ذيل به أكثر كتبه فهاك بعضه، آملا أن تصدق ما تقرأ، فرفيقي وصديقي إلياس كان غريب الأطوار كما ستعلم حين أتحدث أنا عنه كما أعرفه، أما الآن فلنر رأيه هو في نفسه، قال تحت عنوان «شهادة عدل وكلمة حق»:
أبو الفضل الوليد عبقري نابغة متفرد مندر، أشهر من أن يعرف وأكبر من أن ينعت ويوصف، إن هو إلا الحكيم الأعظم والشاعر الأنظم، وكل ما كتبه يعد من نفائس الأدب العال، وعليه طابع ممتاز من الإجادة والابتكار، ألف في اللغة والتاريخ والأدب والشعر والتمثيل والغناء والنقد والاجتماع والرواية والسياسة والفلسفة، فكان عقله من العقول المحيطة التي لا يخفى عنها شيء ولا يفوتها أمر، فأصبح رب الصناعتين وحامل الرايتين، الحكيم الأخير والفيلسوف الأكبر، وشاعر العرب الأمثل ونجي الملأ الأعلى.
إنه الشاعر الملي، والفيلسوف ذو البصيرة النيرة والسياسي المطلع الخبير، كل بيت من شعره قصيدة، وكل جملة من نثره مقالة، وله في الإنشاء ميزة يفطن لها الأريب فيقر بأنها معجزة.
لقد برز بما ابتكره واحتكره على المتقدمين والمتأخرين، ما كان التهاب فكره وقلبه ونفسه إلا من شعلة سماوية، وليس لهذا الجيل بل للأجيال الآتية أن تفيه حقه وتعرف فضله وقدره، فقد كان ظهوره قبل أوانه، وعلى غير استعداد من أهل زمانه.
إن هذه الشهادة تقرأها في آخر كتبه جميعها، ما عدا «رياحين الأرواح» و«أحاديث المجد والوجد»، وعندما طبع أول ديوان كتب على جلده ما يلي:
رياحين الأرواح الرقين الأول من قصائد الملهم الذي نظم الشعر عقودا، والحكيم الذي ضرب النثر نقودا، صاحب الطرب الأعلى والوطر الأمدي، أشعر من شعر وأكتب من كتب، ملك النثر والنظم، المبداع المجواد السيد أبي الفضل الوليد.
أما جلود دواوين شعره الأخرى فاكتفى لها بوشم شاعر العرب فقط.
لقد انتهى بعض ما قاله أبو الفضل الوليد، وجاء دوري الآن لأقول أنا فيه ما أعرفه، رافقته في مدرسة الحكماء فتصادقنا، ولكني كنت أرى فيه صديقا تخشى بوادره، كان ذا عنجهية، أرستقراطي الطلعة في غنبازه الحريري الذي كان يتفرد بلبسه دوننا، فكأن العروبية فيه طبع لا تطبع، كان أستاذنا الخوري يوسف بو صعب يداوره ولا يجابهه، حتى قال مرة على إثر خروج إلياس من الصف غاضبا: أبوه من بيت طعمة، وأمه من بيت طوبيا، وجدها الشنتيري وكيف تريده لينا مطيعا.
كان يجلس وحيدا لا يأخذ ولا يعطي، فكأنه صف مستقل عن الصف، وكذلك كان في الخارج، فكأنه لا يعنيه من المدرسة شيء كما يريد أن يعنيها منه شيء؛ ولهذا تركها دون أن يتم دروسه.
كان مستبدا برأيه حتى في التعليم، فإذا سيره الأستاذ على غير هواه تنفس كالهر وتأهب للنزال، لم يكن يهمه من الدروس إلا نظم الشعر، ينظمه في الصف وفي قاعة الدرس، وفي الكنيسة حتى، ورآه المناظر الخوري يوسف الخوري يخربش على ورقة في الكنيسة وقت القداس فقال له: هذا بيت الله!
فأجابه إلياس: وأنا أنظم له ترنيمة ليس فيها ركاكة ترانيم حنا بو صعب.
وبلغت الكلمة أستاذنا الصعبي، وكان يحب إلياس ويراعيه كثيرا فسأله: أية قصيدة تعني من قصائد حنا بك بو صعب؟
فأجابه إلياس: أعني يا خالق الأكوان يا باري الورى.
فقال الخوري: وما الذي لا يعجبك فيها؟
فقال إلياس: إنه يخاطب الله بلغة النحاة فيقول فيها: يا عالما، هل إن حنا ينصرف.
فقال الخوري: هذا حلو، كيف لم يعجبك!
فقال إلياس: لم يعجبني لأن الله وعبيده لا يستعملون مثل هذه اللغة في الابتهال.
وأخيرا سكت الخوري، وكانت دائما الكلمة الأخيرة لتلميذه الطاهر إلياس.
كانت ذاكرة إلياس قوية جدا، وكان شديد الميل إلى الغريب من المفردات فيحفظ منها الكثير، وكان يترنح طربا حين يسمع الوحشي منها في الشعر الجاهلي وغيره، فتلتقطه ذاكرته فلا يفلت منها فيما بعد.
وكان إلياس يعيش على هواه، يركب رأسه ساعة يشاء فيجمح ثم يثوب ويسلس قياده لمعلميه ورفاقه، تراه وديعا كالحمل، وفي جلسة واحدة يلبس جلد النمر وينقلب شموسا لا يؤتى من قبل ولا من دبر، بدوي في ثوب حضري، غريب الأطوار، ولعل هذه الغرابة كانت من أول أسباب هجرته التي كان في غنى عنها، أما حبه السياسة فكان فيه ككل ابن بيت لبناني عتيق، إن الفريكة التي شهرها الريحاني لا تخوم بينها وبين قرنة الحمرا، وبين الريحاني وأبي الفضل الوليد قرابة لعل للنسب والمكان يدا فيها، فأم أمين من بنات عم إلياس طعمة، وهكذا كانت العروبة عندهما فوق الجميع، ولأجلها فاه إلياس بكلمة الشهادتين وهذا ما لم يفعله أمين.
هذه هي الفكرة الجارفة فيما خطته يد أبي الفضل، ولا أعد ما نقلته عنه في مدح نفسه إلا من غرور العبقرية ولا بدع، فالعبقرية والجنون يمشيان في صعيد واحد.
لم يمدح إلياس كما يشتهي فتولى هو بنفسه مدح نفسه، فأطنب وغالى وأغرق، كان أبيا لا يستجدي التقريظ من أحد، ورأى أنه مغموط الحق فحك جلده بظفره، وإلى هذا أشار في كتابه «التسريح والتصريح» فقال: «أعرف كثيرين من الشعراء والكتاب يكتبون بأيديهم تراجمهم وتقاريظهم فينشرها لهم أصحاب الجرائد على علاتها لصداقة أو قرابة أو شفاعة أو طماعة، وبعض صحافتنا اتخذها محترفوها مهنة للخداع والكذب، فقد تحيي بالريحان من يرجمه الناس، وتجعل الجاهل عالما والسارق محسنا، فرب صحافي برشوة أو أكلة أو سكرة صير الفدم فريد عصره والفسل وحيد مصره، وبورقة عملة يملأ ورقة جريدة من صورة الراشي وشماريخ الألقاب والنعوت، فالذي يشاء يصبح أمير البلاد وزعيم العباد، وعميد الكتاب وسيد الشعراء.»
وكأني بإلياس قد أخذ حقه بيده بعد ما رأى ما لحق به من حيف، فما كان كغيره - كما قال - شاعر نهر ولا بحر، ولا شعب ولا قطر، ولا فيلسوف شرق ولا علامة غرب، ولا أمير شعراء ولا رئيس كتاب ، بل نصب نفسه ملك الشعر والنثر وكفى.
أبو الفضل الشاعر
شاعر مطبوع، خلق ليقول شعرا، كان يحكي شعرا إذا شاء، وظل يقول الشعر حكيا معربا، فهو في هذا ضريب عبد المحسن الكاظمي وإن لم تكن له الديباجة الكاظمية، يعني أبو الفضل الوليد أن يؤدي فكرة لا أن يبدع فنا، وإن ادعى الخلق والإبداع، فقلما تقع في دواوينه الأربعة على صورة بيانية، ولكن نفسه تحن كثيرا إلى الخلق الذي يزعم أنه سبق إليه المتقدمين والمتأخرين، فهو في ديوانه الأول «رياحين الأرواح» يناجي «العصفور» سائلا إياه أن يجود عليه بشيء من إبداعه:
أيها العصفور قل لي
أتغني أم تصلي
هذه تغريدة قد
طيرت قلبي وعقلي
أبت بالإنشاد فوقي
أن تكن بالنظم مثلي
زادك الله جمالا
في التغني والتفلي
أعطني وزنا جديدا
لم يكن للشعر قبلي
أرأيت هذا التوق وهذا الوجد! فهو يتمنى أن تكون له لغة العصافير وأناشيدها، أدرك أبو الفضل المدرسة الجديدة ولم يتأثر بها، بل نستطيع القول إنه ازدراها، كان يزرع حقله بعقله كما يقولون؛ ولهذا يقول لنا: «في شعري هذا لهجة صادقة، وطريقة جديدة، وقد فتحت فيه أبوابا لم تطرق، ومهدت للشعراء سبلا، فما نظمت قط مسترزقا أو متملقا، وما طمعت بنظم ذليل في مال قليل، فما أسقطه متاعا إذا طرح في الإعدام على الأقدام، وشر البلية من ذي رأس خفيف وكيس ثقيل.»
إن صدق اللهجة والإباء وعزة النفس ملء دواوينه الأربعة، أما الطريقة الجديدة والأبواب التي فتحها فما هبت علي منها نسمة، إلا إذا كان التجديد فيما قال: «وأحببت الشعر مصفى منقى لا جوازات فيه، ولا قواف مكررة، ولم أستعمل كلمة أعجمية ولو راسخة في التعريب غيرة على الأصيل من الدخيل.»
أشهد أنه في هذا صادق، وصادق أيضا حين يقول: «كثيرا ما لا يكون الشعر لصاحبه، أما أنا فصاحب شعري، تناثر من قلبي زهرا عن غصن وريشا من جناح، فعلى طريق الحياة نثرت شعوري ثم نظمته في شعري، فما شعري إلا تذكار لمروري في هذه الدنيا، وكنت أود أن لا أترك أثرا ولا أبقي خبرا، فأكون كعصفور يلقي غردة ويمر وهو غير مكترث لما تردد في الفضاء.»
إن في هذا المنثور شعرا كثيرا لا نجد مثله في منظوم الوليد، الذي يرى الشعر سليقة وفطرة لا صناعة وفكرة، فأبو الفضل سليقي يقول فيعرب كما قال ذاك الشاعر عن نفسه، طويل النفس كابن الرومي وإن لم تكن له معانيه الغريبة، قد يتفقان في وحدة القصيدة ويختلفان في أن الوليد لا حشو عنده ولا ركاكة، تمنى أبو الفضل لو وضع أوزانا جديدة ليكون ذا بدعة وإبداع كما قال، ولكنه لم يفعل شيئا من هذا، وما عبر في قريضه إلا عن آماله وأمانيه بعريان الكلام، البعيد عن الخيال الشعري المنمق العبارة.
والشعر في نظر رفيقي إلياس نبوءة حقا؛ ولهذا قال في مقدمة الرياحين: «كان اليهود يقولون تنبأ؛ أي قال الشعر، فالنبي في عرفهم هو الشاعر، وقد كانوا - وأيم الحق - مصيبين، فما الزبور والأسفار والنبوءات إلا قصائد، وما داود وسليمان وسائر الأنبياء إلا شعراء، وكفى بنشيد الأناشيد شعرا غزليا يخلب القلوب ويسلب الألباب، إن التوراة رقن - دواوين - شعر مجموعة، وهي كتاب اليهود، ولكل أمة كتاب هو كتاب شعرها، تذكر به ما كان وتأمل أن يكون.»
ويعرفنا أبو الفضل الوليد بديوان «رياحين الأرواح» فيقول إنه مظهر الروح المتأثرة، وكذا يكون شعر الصبا والفتوة، فهذا كتاب الوليد حقا ولا أسميه عبثا كما سمى المعري ديوان البحتري؛ إذ لا يحق لي ولا لغيري أن نعبث بالشاعر الصادق الذي يكشف لنا خبايا نفسه.
هذا الديوان غزل كأكثر الغزل، ولكن فيه وثبات كما في قصيدة مداعبة عذراء:
مجلسها صمت وإيجاز
ولحظها للقلب مهماز
ما لي على عفتها طاقة
تلك على المجروح إجهاز
من لي بها والدين دون الهوى
وفي يد القسيس عكاز
وصورة العذراء في خدرها
والسبحة البيضاء إيعاز
قسيسها ينهى ولا ينتهي
وهي عجين وهو خباز
إن قلت مولاتي عديني وفي
فالقلب من عينيك قفاز
قالت وقد عضت على كفها
لم أدر ما وعد وإنجاز
أرشده يا يسوع واغفر له
من أجلنا جرحك نزاز
أظن أنها قصيدة فريدة، وهي في نظري ريحانة دواوين إلياس الأربعة، لا ديوان رياحين الأرواح وحده.
وفي قصيدة «إلى فتاة ترهبت» رأيت هذا البيت في المحل الأرفع من سماوات الشعر، قال يذكر تلك الفتاة التي عاذت بالدير من شياطين العاشقين:
ولم أنس يوما فيه جئتك زائرا
فقلت «ألا هبي» فقلت «قفا نبك»
أجل هذه لقطات ترميها الآلهة في طرق أبنائها الشعراء، وهنيئا لمن يقع على مثل هذه الكنوز.
أما ديوانه الثاني أو الرقين الثاني في لغته هو، فمصدر بصفحة كتبها الشاعر بخط يمينه، ليثبت إيمانه ويقينه بسمو العرب وحق العرب بسلطان لا يزول، إن قصائد هذا الديوان يدل عليها عنوان «أغاريد في عواصف» وهي قصائد أنين وحنين، وغزل ونسيب، وذكريات أوحتها إلى الشاعر هجرته، فكان من أمه قعيدة بيته في الحمراء، كأبي فراس من عجوز منبج، في هذا الديوان تتفجر عواطف إلياس بسبب ما أدرك من خيبة في هجرته، أصابه ما أصاب النعامة كما قالت العرب: ذهبت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين، وذهب هو في طلب الطريف فأضاع التليد، وذاك حظ كل من تدركه حرفة الأدب، فكم من معاز أو عتال هاجر فاغتنى، وكم من أديب لبيب لم يعط خبزه كفاف يومه، فاسمع كيف يخاطب نفسه:
أنطمع كالضليل بالوطر العالي
وأنت قليل الحظ والصبر والمال
أطرفة في العشرين فاجأك الردى
ويا ابن زريق مت من طول إهمال
وفي قصيدة خاصة بابن زريق يخاطبه فيها:
شفينا كلانا فمت وكدت
أموت، فجسمي براه السقام
فمثلك خضت بحارا وجبت
قفارا وشبت لفرط اهتمام
ويقول في قصيدة أخرى:
والحظ لما طلبت المجد أرجعني
صفر اليدين إذا فتشت لم أجد
ثم يختم هذه القصيدة موجها كلامه إلى والدته:
ماذا تقولين أو ماذا أقول إذا
عاد البنون إلى المأوى ولم أعد
لهفي على ولد يقضي الحياة بلا
أم، ولهفي على أم بلا ولد
وإذا شئت أن تتذكر أبا فراس فاسمع:
هناك وراء البحر أم حزينة
تكابد آلام الشهيدات من أجلي
أبيت أناجي طيفها قائلا لها
رويدك إني كالألى فعلوا فعلي
لقد مات «دنتي» يائسا في جهاده
وقد مات في المنفى «امرؤ القيس» من قبلي
وإني لأدعو كل ذي محنة أخي
فللشبل حنات إلى زأرة الشبل
وييأس إلياس فيرى الكون من وراء نظارة سوداء فيقول:
من يعط لا يوهب ومن يمنع ينل
كن مؤمنا بالله واشبع دينا
ثم يرى سبب شقاء هذا البلد في طوائفه، وإلى رجال الدين يعزو فقر البلاد فيقول فيهم:
متى ينتهي كهاننا وشيوخنا
فنخلص من حياتهم والعقارب
شقينا لنعماهم وراحتهم فهم
يسوقوننا كالعيس نحو المعاطب
يقولون صلوا واصبروا وتقشفوا
وتوبوا وصوموا واثبتوا في التجارب
وهم بين عواد وزق وقينة
لها عبثات باللحى والشوارب
يجوع ويعرى في الكهوف فقيرنا
ويشقى ويبكي صابرا غير عاتب
وقد أكثروا ديباجهم ودجاجهم
وقالوا لشعب الله عش بالعجائب
فكم أكلوا القربان بعد فظيعة
وكم جحدوا الإيمان عند المكاسب
خلاصي، وما أغلاه لست أريده
إذا كان من خوري وقس وراهب
متى يهزم الغربان نسر محلق
وتبطش آساد الشرى بالثعالب
هذه هي «أغاريد في عواصف»، وسترى إلى أين سار هذا المتمرد مع العاصفة.
والديوان الثالث «الأنفاس الملتهبة» نظم في الحرب الكبرى الأولى، فجاء صورة للزمن الذي نظم فيه، طافحا بحب الاستقلال الذي حنت إليه الأمة العربية وحاربت من أجله، فالشاعر في هجرته يحلم بالمجد العتيد ويتألم ويحن إلى أرض هجرها:
ذكرت بلادي والكواكب تسطع
ونفسي بما فوق الكواكب تطمع
وجدت لكي أرعى نجوما كثيرة
ولكن نجمي بينها ليس يطلع
فهو في هذا ينظر إلى قول المتنبي:
فلا تقنع بما دون النجوم
أبدا أقطع البلاد ونجمي
ويرى الشاعر أن البلاد لا تنهض إلا بالسيف والقلم متعاضدين فيهتف:
صليل الظبى وصرير القلم
لفك القيود وشق الظلم
بدونهما لا حياة لنا
فهذا وذاك حياة الأمم
وشمرت الحرب عن ساقها فشمر إلياس معها، وأطربه زئير الحديد فصاح:
السيف يخطب فاسكت أيها القلم
لا خير في الحبر حيث الدمع ينسجم
السيف منه صلاح فاضربن به
إن النبي لنصر الله قد ضربا
إن أخفق الحق والإيمان في أحد
فيوم بدر أزال الكفر والشغبا
أما تراجع محروسا ومحترسا
فالليث يرتد أحيانا لكي يثبا
ويذكر مسقط رأسه في لبنان في تلك الأيام السوداء فيهتف:
لي أمة شطرت شطرين شطر نوى
وشطر موت فكيف الشمل يلتئم
قد مات أبناؤها حتف الأنوف على
مرأى الألوف فلم تنهض بها الهمم
وتوقهم بوعود العجم ضيعهم
فذمة العجم ألا تحفظ الذمم
يا ليت أعلامهم أكفانهم فلهم
منها حياة وللأبناء معتصم
لكنهم تحت رايات العدى سقطوا
صرعى، وفي أرضهم من قوتهم حرموا
حقا إنها صفحة طواها الشعراء وما أتوا على ذكرها إلا قليلا، إني أضحك حين أقرأ اليوم هذه العبارة: الحرب الباردة، فأين برودة حرب اليوم من صقيع تلك؟! فما مرت حرب باردة في دنيا الله كتلك التي مرت على لبنان في حرب سنة 1914، ماتت الناس بعد ما أكلت الفئران والجرذان والحمير، والشعير من روث خيول العربات، أجل لقد أكلت الناس هذا وماتت ولم تطلق بارودة ولم تهز عصا.
وكأن إلياس حين سمى ديوانه الأخير «نفخات الصور» قد تخيل أمته راقدة، وهو رافائيل ينفخ في الصور ليبعث من في القبور، لا تستغرب هذا القول، فها هو الشاعر يصدر ديوانه هذا بما يلي:
لقد كان هذا الكتاب من الشعر وحيا وتنزيلا للعرفان والهدى، فالعواطف والأفكار التي تجيش في أبياته لا تكون إلا من نفحات علوية تنعش السماء بها الأرض، كيف لا وناظمها أبو الفضل الوليد قد نشأ مارونيا لبنانيا، وتخرج من مدارس نصرانية كهنوتية فكان معلموه قسيسين ورهبانا، وتغرب في بلاد إفرنجية وأميركية أهلوها لاتين بحورهم تغرق الشرقيين، فمن يصدق أن من هذه تربيته يشعر ويفكر بما لا يدور في خلد عربي مسلم في مكة، إن هذا إلا دليل على أن شعره موحى به إليه ومنزل عليه، فليس هو مسئولا عنه، إنما الله وليه فيما كتبت يده لخير العرب والمسلمين، وقد تدرج حسه حتى حببت العروبة إليه الإسلام وهو روحها وجوهرها.
ثم يختم هذه الصفحة من تاريخ حياته بهذه الكلمة: «فإذا لم يكن نبيا - أي أبو الفضل الشاعر - لا شك بأنه ملهم من خاتم النبيين.»
أما النبوءة فلا، أما الإلهام فهذا فيض من النفس، ونفس إلياس تهدر في أعماقها العروبة ثم تجري أنهارا جارفة في «نفخات الصور»، وليس أصدق من عناوين قصائد هذا الديوان في الدلالة عليه، وهذه هي أولا: «الرؤيا النبوية» وفيها يقول أبو الفضل:
تشوقت حتى زارني الطيف مؤنسا
وأشرق نور الطلعة النبوية
ويبلغ الوليد الجنة فيرى على بابها رضوان لابسا من الإضريج أفخر حلة، ويدخل الجنة ويشرب من رحيق الحور والولدان بأكواب من در وقوارير من فضة، حتى إذا ما توغل في الجنة بلغ حضرة من على العرش استوى، فرأى:
غمامة عليين تستر نوره
ترفع رب العرش عن كل هيئة
ويتحير إلياس في ذلك الموقف ويعجز عن الوصف كما عجز مار بولس من قبل، فيسمع صوتا يناديه: دعوتك فاسمع أنت صاحب دعوة.
وكن منذرا بين الورى ومبشرا
وبلغ جميع المسلمين وصيتي
فشعرك وحي منزل في جهالة
كما نزل القرآن في الجاهلية
تشجع وآمن يا وليد فأنت لي
رسول وفي الإبلاغ فضل الرسالة
أنا المصطفى المبعوث للحق والهدى
وقد صحفوا في مصحفي كل آية
وقل لجميع المسلمين تجمعوا
وصونوا وقار الأمة العربية
ويمضي إلياس في البلاغ المبين الذي تجلى له في تلك الرؤيا، فيسدي إلى العرب نصحا جزيلا صادقا لقنه إياه الرسول - عليه الصلاة والسلام - كما زعم.
وينقطع الهاتف فيجفل مرتاعا من الصمت، ويأسف لانقطاع الرؤيا وما أشمه من حسنات عدن من نفحات طيبة، ويختم هذه الكلمة بقوله:
وفي الشعر ريحان وراح وكوثر
فما في من ري وريا لأمتي
أما المطولات الآخر فهذا بعض عناوينها: «المشرقية، المغربية، المقدسية، الشامية، العراقية، المصرية، الأموية، الأندلسية»، وكأنها معارضة لنونية ابن زيدون، وفيها ينحي على جماعة الغرب باللوم والشجب فيقول:
المريمات مذلات فواطمنا
كما تذل الأناجيل الفراقينا
وللقلانس هزء من عمائمنا
وهي التي صغرت في عين قاضينا
فما لنا قوة إلا بسيدنا
محمد، فهو يرعانا ويحمينا
ثم تلى هذه القصيدة «الدمشقية والصحابية والجندية»، وفيها يحيي الراية العربية بقوله:
بروحي وأهلي راية عربية
لها النصر في سود المعارك باسم
حماها النبي المصطفى واستحبها
وناسجها جبريل والله راسم
ثم يذهب في حسن تعليل ألوانها الأربعة مذهبا موفقا، وبعد رفع هذا العلم لا بد من أن يأتي الجهاد، ففي القصيدة الجهادية يتغنى ما شاء، ثم تليها قصيدة «الشهادية» وهي من مطولات الديوان وقد ختمها بقوله:
تمنيت مع فتيان قومي شهادتي
ولكنني أهوى الحياة لأثأرا
ويختم الشاعر رقينه الرابع برباعيات وسباعيات بنى قوافيها على حروف الهجاء.
أما رأي الشاعر في ديوانه هذا فهو: «إنها من نوع الأيبوبة - الملاحم - عند الإفرنج، فهي ملحمة العرب الكبرى، وتفوق الملاحم التي نظمها اليونان واللاتين والإفرنج بعظمة المعاني، ومتانة المباني.»
ولأبي الفضل الوليد غير هذه الدواوين الشعرية الأربعة «منغمة غافر ولبانة» التي لم تقع في يدي، ولكني تعرفت إليها وعرفت مكانتها في الشعر مما كتبه أبو الفضل الوليد في آخر دواوينه، قال كعادته في تعريفها:
هي منغمة شعرية نظمها أبو الفضل الوليد من أجل مصر، وضعت على أسلوب جديد وطريقة مبتكرة جمعا محاسن الأدب الرفيع، ولا بدع فناظمها قد تفرد بإبداعه وإنذاره في النظم والنثر، وجاء بالعجب العجاب.
قال خبير مطلع على المناغم عند الإفرنج إن «منغمة غافر ولبانة» أجمل المناغم التي تلوتها وشهدتها، فهي تحفة هذا الفن وكان نظمها على نسق مبتكر، فشبهها أحد قارئيها بواجهة جوهري معروضة فيها الجواهر على اختلاف أنواعها وألوانها، والخبير يظنها تأليف موسيقي لا تأليف شاعر لما حوته من الصناعة الموسيقية، ولما تلاها أحد الموسيقيين قال: «هذا تنزيل لا تلحين.»
قلت: وعنا لأمر الأستاذ سعيد تقي الدين.
أبو الفضل الثائر
لأبي الفضل الوليد أربعة كتب نثرا: «أحاديث المجد والوجد»، وهو حكايات مستوحاة من التاريخ العربي في الشرق والغرب، وهذا الكتاب ككل كتبه ودواوينه لحمته وسداه العروبة والقومية، وفي نهاية ستة فصول سماها رسائل بها ينتهي إلى كتابة ما سماه «الفاتحة الوطنية»، وفيها يقول: «يا مالك السماوات والأرض وقابض الدول والسلاطين، خلص الشرق من الغربيين ، ونجنا من مكايد الأجنبيين، واجعلنا متدينين غير مغالين، أحرارا مستقلين، غير مسيطر عليهم ولا متفرنجين، فنعيش ونموت عربا سوريين.»
ولا يكتفي بهذا بل يكتب «تعليما» جديدا على نسق التعليم المسيحي الذي يتلقنه الناشئون على هذا الدين فيقول:
س:
أعربي أنت؟
ج:
نعم أنا عربي بنعمة الله وذمة العرب.
س:
من هو العربي؟
ج:
هو المنحدر من السلالة العربية أو المولود في الأرض العربية.
س:
ما هي الأرض العربية؟
ج:
هي كل أرض أهلها عرب ومستعربون.
س:
هل سورية منها؟
ج:
نعم وهي من صميمها، فأنا عربي سوري.
إلى أن يسأل:
س:
ماذا يريد العربي المخلص للعرب؟
ج:
يريد لهم دولة عامة، وراية جامعة، ولغة واسعة.
وأخيرا:
س:
أتحافظ على هذا المذهب؟
ج:
نعم، به أعيش وعليه أموت.
أما كتاب «القضيتين» فموضوعه يدور حول السياستين الشرقية والغربية، ومما يسديه فيه لقومه من النصح قوله: «ليعمل للتوفيق أهل العصبية من المسلمين والنصارى فيكونوا خير العاملين، فمن الكبائر أن يخجل العرب والنصارى أمام العرب المسلمين، فما أجمل تعاون المسلمين والنصارى على الأجانب والخوارج.»
إن كرام العرب والنصارى مخلصون لأمتهم، متعلقون بعروبتهم، يفضلون حكم بدوي على حكم أجنبي، ويرون المنقصة أن ينوب عنهم ويكون كهان لهم منهم زعماء، إلى أن يقول: «لا أوطان في الوطن ولا طوائف في الأمة.»
وفي كتاب «المآلك» أي الرسائل يكتب في العلم والفن والاجتماع والفلسفة، فلا يدع شيئا من الشئون والشجون إلا ألم به، وكأن المعاملة وخصوصا المالية منها قد نغصت عيشه، فقال: «ثلاثة لا تفتحها إلا عند اللزوم بابك وكيسك وفمك، وأشد الخطر في فتح الكيس الذي يغلق القلب، فتحصيل الدين أشبه شيء بقلع الأضراس ونتف الشعر، ومجاولة الدائنين للمديونين كمجاولة السباع ومزاولة الأفاعي.»
ويختم هذا الكتاب برأي في الأدب فيقول: «الأدب حتى الرفيع منه كان منه إضرار وإضلال وليس إلا نوعا من الملاهي، ولم ينفع الناس في كل أطوارهم إلا العلم الثابت الصحيح.»
وفي كتابه «التسريح والتصريح» ولعله آخر ما ألف يتعرض للغة، فينظر فيها نظرة فاهم ، ويتشدد كثيرا حتى يصفي اللغة من كل عجمة، فينصح لمن يريد أن يتخلص منها بتاتا أن يقول في الجلنجين ورسل؛ لأنه مصنوع من الورد والعسل، وفي الفالوذج دمعسل لأنه معمول من دقيق وماء وعسل!
وهذه أيضا تذكرنا بما نحته سعيد تقي الدين من مفردات خالدة.
ويتعرض أبو الفضل للكتابة فيثني على الخط العربي، ويقرع دعاة العامية تقريعا عنيفا، ويدعو إلى التكلم بالفصحى.
ثم يتعرض للركالة في الكتب الدينية، كما فعل الشدياق من قبل، ويدعو العلماء من الكهان إلى تهذيب لغتها، ويرى «في قصص التوراة ما يخجل من تلاوته الخليع، ناهيك أنه يعلم الفاسق ما يجهل، فحول وجهك عما فيها من دعارة بني إسرائيل بل بني عزرائيل».
أما الآن وقد انتهينا من هذه الدارسة، فهل كنت تحلم يا أخي إلياس، أن رفيقك مارون الذي كانت نكتته توجعك سوف يكتب عنك هذا الفصل؟ لقد كنت بك رفيقا كما كنت لك صديقا، وأنا قبل وبعد مولع بإحياء الموءودين من أعلامنا.
في المضمار
(1) ديوان الملاط
يعذرني أصحاب الدواوين والكتب إذا ما قدمت ديوان أستاذي شبلي الملاط، ولم أراع النوبة التي يراعيها جميع الناس حتى أصحاب المطاحن، أما هكذا أدبنا الشاعر القديم حين فضل الأستاذ على الوالد.
إننا أمام حقبة لا بد من تدوين كلمة شاهد رأى معاركها وخاض غبارها؛ فشبلي زعيم من المحاربين القدماء عركه النضال عرك الرحى بثفالها، هو سيف غساني لا عيب فيه غير أن به فلولا من قراع الكتائب، ناطح وساور في مجال الأدب والسياسة، وأظنه لم يلق سيفه وترسه بعد، ما زال على شيخوخته في عرنينه شمم منتصب كبرج لبنان الناظر إلى دمشق، لا يحبو إلى الثمانين كما عبر القدماء، بل يقفز ويجمز نحوها غير منحن تحت أثقالها، سبقت ساعته ساعة سواه خمس دقائق فأحرز في زمانه لقب الشاعر العصري، فكان في ديوان العرب - فترة من الزمن - كثبير امرئ القيس: «كبير أناس في بجاد مزمل».
إذا عتق شبلي اليوم في نظر الجيل الطالع، فهذه سنة الوجود، ولنحمد الله على أمرين ، على أن لنا جديدا وعتيقا، والمثل يقول: احفظ عتيقك فجديدك لا يبقى لك.
لست تأمن غضب شبلي، فرب كلمة تخرج من فمك، وأنت لا تقيم لها وزنا، ترجح كفة ميزان غضبه وتقوم القيامة، يقعنسس ويشمخر ، ولكنها عاصفة تمر، وقيد شوك وبلان ترتفع ألسنة لهيبه حتى تلاقي السقف، ثم تهمد النار وتخمد، فإذا خفت غضبه فلا تيأس من رضاه القريب جدا.
شبلي تاريخ حقبة لبنانية، وليس يستطاع تأريخ حقبة في مثل هذا المقام، ولكن لا بد مما يقال، أو لا بد مما له علاقة بشعر الرجل وأدبه، فالمعركة الأدبية التي نشبت حوله في فجر هذا القرن أشبه بمعركة قروم القرن التاسع عشر: الشدياق وأعوانه، واليازجي وأنصاره. وإذا كانت هذه المعركة محلية ودون هاتيك ديمومة وحدة، فقد انجلت عن غنائم أدبية وكانت لنا مدرسة ثانية.
كنت يومئذ في مدرسة الحكمة، وكان يوم أحد، فدعانا أستاذنا الملاط ليمرننا على تمثيل روايته «الذخيرة»، فغادرنا قاعة الدرس مبتهجين؛ لأننا استرحنا من رؤية وجه الراعي الحامض، وما توسطنا «الليوان» حتى رأينا النمر غضبان، ورأينا الأستاذ بشارة عبد الله الخوري يصفر ويخضر، والشيخ إبراهيم المنذر يشير بيديه وعلى فمه ابتسامة حائرة، وهتف الملاط بنا: امشوا. ومشى ومشينا، وراح المنذر وبشارة الخوري، وكانت دقيقة لها ما بعدها في تاريخ نهضتنا.
تجمع ثلاثة على شبلي: المنذر، وبولس زين، ويوسف مراد، وكل واحد من هؤلاء عارف بأسرار اللغة، وإن لم تكن له شاعرية شبلي وترسله، فراحوا ينتقدونه لغويا، على طريقة الشيخ إبراهيم اليازجي في لغة الجرائد؛ ابتدءوا بمسرحيته «الفرد الكبير»، فوقعوا فيها على أخطاء كثيرة، فكان لنا من مطالعة نقدهم فوائد جمة.
قد تقول وما علاقة بولس زين؟ وكيف دخل في القضية «شخص ثالث»؟
كان بولس زين محاميا، وكان تامر الملاط شقيق شبلي قاضيا في كسروان، فكان إذا جاء زين ليرافع، ومن عادته التطويل الممل، ضاق به صدر الملاط، وكان ضيقا بلا سبب، وأسكته بهذه العبارة: صه يا رجل.
ودارت الأيام دورتها، فعزل مظفر باشا تامر الملاط، وعين بولس زين قاضيا لمحاكمته، فكان إذا حاول تامر أن يتكلم أسكته زين بقوله: صه يا رجل ... أي اسكت أبدا.
هذا ما حمل بولس زين على المساهمة في نقد أستاذنا، وانفتح لهم صدر جريدة لبنان لإبراهيم الأسود عدو بيت الملاط، كان الأسود مقربا من مظفر باشا متصرف لبنان، وإليه يعزى تعيين بولس زين قاضيا، وهكذا اتفقت الأغراض وكانت تلك المعركة، ولكن النقد ينفع ولا يضر، ولو كان من العدو، أما قال الشاعر:
عداتي لهم فضل علي ومنة
فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
هم كشفوا عن زلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
فكما تتعلم كيف يكون الدينار الزيف حين يعيده إليك الصيرفي، كذلك يفيدك نقد الكلام، فلا تلعن أبا الناقد ولا تحرق دينه، فليس للناقد دين ولا مركع.
قد يقال: نراك استعجلت هذه المرة، فمن عادتك أن تبقي الكتب عندك شهورا وأحيانا سنة وأكثر. قلت: وهناك سبب آخر غير الذي تقدم ذكره، وهو أنني أعرف أكثر شعر الملاط على غزارته وكثرته، فاللهم زد وبارك. هذا هو الجزء الثاني منه المتضمن الألوف من الأبيات، وهو لو جعله دواوين لكان له بضعة عشر ديوانا من طراز دواوين هذا الزمان. إن هذا الديوان الضخم الفخم لأشبه بفساطين وسراويل السيدات القديمة، التي لو فصلت قصيرة مزمكة لكسا الفسطان الواحد منها بضع نساء، ولكن أستاذنا أراد تعبئة أكبر كمية ممكنة في عدل واحد.
لقد أساء أستاذنا إلى نفسه العتيدة في تاريخ الأدب، فسوف يقال - بعد العمر الطويل - له ثلاث مسرحيات، ورواية مترجمة، وديوان شعر ضخم.
فلو فصلنا ديوانه - فسطان الملكة فكتوريا - على الطراز الدارج اليوم لكان لنا منه على الأقل عشرة دواوين، كل واحد منها قائم برأسه وفيه وحدة، فالقصائد التي عنوانها وقفاتي في بلاد العرب، ديوان كبير لو صفف على طريقة علب الشوكولاطا، أي في كل صفحة بيتان ثلاثة، وقصائده القصصية ديوان آخر لا يقل عنه حجما، ويهوديت مسرحية شعرية تعبئ كتابا، وغزله ديوان، واجتماعياته ديوان.
لقد ظلم الأستاذ نفسه؛ لأنه لم يرتب مخزنه الكبير على طريقة ال «أ، ب، ت»، بل كوم هذا الشعر فكان لنا منه بيدر كثير الغلة، فإذا سقط منه تحت الغربال مقدار تبقى مقادير تملأ بهوا لا ديوانا.
فيا معلمي العزيز، إذا عجزنا عن إقامة يوبيلك الذهبي، فديوانك هذا يقيم لك الآن، وفي كل أوان، يوبيلا ألماسيا، إن فيه منه ما يقاس بالدرهم لا بالقيراط.
ولا يتوهمن أحد أن ما قلته يعفيك من النقد، فالناس لا ينقدون إلا الذهب، أما النحاس فمن يقيم له وزنا. أنت تراثنا الغالي والموعد الغد، ومعاذ الله أن يلقيك العقوق من البنين، فعلى كبر سني - «وشيبي بحمد الله غير وقار»، كما قال أبو نواس - ما زلت أسعد وأعتز يوم أراك، وأبوس يدك الطاهرة كلما التقينا.
ولكن كل هذا الحب والإجلال لا يغل قلمي ولا يشل فكري أمام مهابتك.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
جاء في رسائل رسول الأمم: على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كلمة. وفي عنق هذا الديوان الأغر تميمتان نفث في عقدهما شاعران قارحان: شكيب أرسلان وخليل مطران، فديوان الملاط إذن أصيل مطهم، حجته برقبته كما يقول الفرسان.
ولكن هل تحول هذه التعويذة دون قول كلمتنا فيه؟ لا، وما دمنا لم نقف بعد على حقيقة الجمال ولم نعلم إذا كان موجودا في نفس الناظر أم في نفس المنظور، فالمجال أمامنا واسع؛ ولذلك قال الأولون: لولا اختلاف النظر ما نفقت السلعات.
ما هذه أول مرة أتجاسر فيها وأدخل قبة العهد وقدس الأقداس، ففي «على المحك» و«مجددون ومجترون» و«دمقس وأرجوان» كلام عن شاعر الأرز، وإني لأخشى أن أكرر ما قلت حين أتحدث عن هذا الجزء من ديوان شاعرنا الكبير شبلي بك ملاط، فالملاط مثل لبنان في الأقطار الشقيقة أمثل تمثيل، فكان كما قال الفرزدق في المرحومين جدوده: «برزوا كأنهم الجبال المثل»، إن شبلي نموذج لبناني قح، ففي عتوه وشموخه مثال صادق للجبل الأشم، وكأنه قد أحس ذلك في أعماق نفسه فقال:
أنا فلذة صخرية مقطوعة
من ذلك الجبل الأشم الراقي
أنا جذع لبنان القديم فما ذوى
ورقي ولا لوت الشدائد ساقي
أشهد أنك لست تقول معي - إن رأيته والنفس خضرا - إنه في الثمانين ربيعا.
وفي مكان آخر، بعدما حمد فخامة الرئيس وأثنى عليه، راح يطرح الصوت ويعرض رمحه هاتفا:
قل للألى شادوا المطار بخلدة
أنا قبلهم بالأرز كان مطاري
لا قمة لا أيكة إلا على
شجراتها غنى وطار هزاري
ولئن شملت ولاية شوقي الشرق كله حين قال: «كان شعري الغناء في فرح الشرق» ... إلخ، فشبلي أراد أن يحصر إمارته في هذا الجبل مع مراعاة العلاقات الطيبة وحسن الجوار، لم يشأ أن تتسع رقعة ملكه، فما خسر ولا ضعف قريضه؛ لأنه ما تكلف ولا طمع، والطمع قلما نفع.
والآن فلنقل كلمة عامة في شعر أستاذنا الجليل: في شاعرنا كثير من ملامح البحتري، فهو مثله لا يفصل الكلام على قد المعنى، بل يدع معانيه تخرج من نظامه؛ بحتري في ألفاظه السهلة المنتقاة، بحتري في تقطيع أبياته أجزاء متساوية، فكأن كل قافية من قوافيه «قرار» العواد، حين ينطح برأسه اللاشيء وتجهز ريشته على النغم، فتصعد روحه وتتعالى الآهات.
في شعر شبلي سرعة النهر المنحدر، أما على المنبر فهو مكر مفر، ينصب وينقض كجلمود صخره حطه السيل من عل، لا يترك لك شبلي مجالا متى أنشد، فأنت مسير لا مخير، تجرفك «حامولة» النهر فقد تصفق للاشيء، ومع ذلك تصفق بشدة تشبه الهوس.
وإذا عدت إلى ذلك الشعر الذي أرقصك وأسكرك إنشاد قائله، شككت في بعضه، وعجبت لضعيف شعر شبلي الذي يغلب قوي غيره في الميدان، إن هذا هو الذي يدلك على أن الشعر موسيقى، ويجلو لك سر قول العرب: أنشد فلان قصيدة.
وشعر شبلي قليل الظلال كثير الأنوار، ترتاح العين حين تقع على صوره، ولكنها قلما تكتشف فيه شيئا فيما بعد، وهذا ما يجعل صوره على قلتها باهتة، فإذا أردت مثلا للشعر المطبوع في هذا الزمان، فاقرأ شعر شبلي. ليس شبلي من الشعراء المحككين المتصنعين، فبنات أفكاره لا يعرفن البودرة والحمرة والمانيكير، هن أشبه بظباء فلاة المتنبي، أما خاصته المثلى فهي تلك السهولة النادرة الوجود، ولكني لا أحمدها كثيرا متى جمعت كل موزون.
إن هذه السهولة محمودة جدا في شعره القصصي، فهو لو فكر في نظم ملحمة لما سبقه شاعر من الناطقين بالضاد. إنه ومعروف الرصافي خير من قص، فشبلي هين لين، ضرب برأسه ورفس برجليه عمود الشعر منذ خمسين عاما، أما الرصافي فشديد الأسر وما تنكب عن طريق السلف المعبدة.
إن عبد الله البستاني معلم شكيب أرسلان والملاط ووديع عقل وأمين تقي الدين وغيرهم من شعراء الطراز الأول - المخضرمين - كان أول من نقد الحبة أمام تلاميذه، وعلمهم ذلك كما تعلم الدجاجة فراخها. نظم المعلم عبد الله حكاية شعرية عنوانها «الفرصاد» ومطلعها:
وذات صيانة عقدت يمينا
على حب امرئ عقدا متينا
فاقتدى به تلميذه شبلي ونظم أقاصيصه الشعرية التي أولها:
طفلة فوق سرير من خشب
في زوايا بيت صياد قديم
وهنا أريد أن أسأل معلمي: كيف راح ذاك الشطر الذي حفظته منذ نصف قرن هتفوا طوبى لثدي أرضعك؟! أخفت يا أستاذي من الخليل وسيبويه؟ أم نهاك «معلم ذمتك» فحذفته، وهو تلك الماسة الرائعة!
لقد جليت في أغراض الشاعر الكثيرة ولكنك كنت الشاعر الأوحد في القصص، فقريحتك السيالة - وهي أقوى من خيالك - هي التي سيرتك في هذه الطريق.
وإذا قرأنا مقدمة هذا الديوان الضخم، رأينا الشاعر العظيم يتأسف في «الصفحة 24» على ضياع ترجمته لقصيدة بحيرة لامرتين، حتى إذا بلغ «الصفحة 497» نشرها برمتها ونسي ما قال. فعلى كل، الحمد لله على السلامة، ضاعت ولقيناها. إنها قصيدة موفقة يؤسف عليها، وكم كنت أتمنى أن يضيع غيرها من ديوان أستاذي، ما أعني إلا بعض شعر المناسبات الذي هو أشبه بالحكي منه بالشعر، رحم الله أبا تمام الذي قال: «موقف الشاعر من شعره موقف الأب من بنيه، فهو لا يتمنى هلاك أحد منهم.»
وبعد، فقلما خلا ديوان شاعر من الشعر المتخلف عن رفاقه، أما قال فيكتور هيغو - الترجمة لحافظ إبراهيم:
أنا كالمنجم تبر وحصى
فاطرحوا تربي وصونوا ذهبي
فلنصن ذهب الأستاذ، وأما التراب فإلى التراب يعود.
إن لشاعرنا أسوة بالشعراء الكبار، أما قالوا قبلنا: إن رذل المتنبي ليس تحته تحت. ومع ذلك سمعناه يقول:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
ومثله قال الملاط:
من كل قافية ترن كأنها
أوتار عود في بنان الموصلي
يغضي جرير والفرزدق دونها
ويذوب من حسد فؤاد الأخطل
طبعا يريد أستاذنا أخطل الأمس لا غيره.
وقد عجبت لأستاذي وقد كان مديرا في إهدن، كيف يقول دير مار قزحيا، وقزحيا اسم المكان لا القديس، إن هذا القديس اختصاصي بإخراج الشياطين وطردها، وأظنه طرد شيطان شبلي فقال فيه تلك الأبيات الباردة. أظن أن موقف الشاعر من الدير ورئيسه قد كان كموقف بشار من «ربابة ربة البيت» ... احتفى قدس رئيس دير قزحيا بالقايمقام شبلي فقال فيه ما قال ... «فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر».
وقف شاعر الأرز أمام أروع منظر لبناني؛ النهر تحت قدميه، والجبال تحدق به وتحدق إليه بأعين كهوفها، والقمم منتصبة كالجبابرة لتحمي ذلك المعقل الحصين، ومع ذلك لم يقل شاعرنا شيئا، ما شغل باله إلا معجزات «مار قزحيا»، وترميم - المحترم - السر علي للدير ...
وهنا جاءتني كلمة أكره رجعتها خائبة، ألا وهي أن معلمي شاعر بشر أكثر منه شاعر طبيعة، فما ألهمته هذه إلا كلاما عاديا، وإني أعزو ذلك إلى نشأته الأولى، قد درج وشب في زمن كان الشعر فيه يقال في الناس فقط، وما شعره القصصي الذي فاق فيه معاصريه إلا من ذاك، وإن لم يكن هو هو، ولكنه يجيد حين يعرض لوصف مشهد اقتضته القصة أن يصفه، مثل وصف البحر مثلا، في الجمال والكبرياء، والعجيب فيه أنه إذا شرع يقص يخلص شعره من تلك الزنمات التي تتعلق به في أغراضه الأخرى فتشوه محاسنه.
وبكلمة مختصرة وأخيرة أراني مضطرا إلى أن أقول، وآمل أن لا أغضب الملاط كما أغضبت الفياض من قبل: إن شعره أشبه بحقل من الزهور المختلفة، الوردة حد القويسة، والأقحوان حد بخور مريم، وشقائق النعمان بين الأعشاب المختلفة، واللزان بجوار القندول، ولكليهما زهر وعطر وجمال.
إنك لتظفر من كل قصيدة من قصائده الطوال - وهي كثيرة - بما يظفر به المؤمن من الحقل يوم الجمعة العظيمة، فيعود حاملا إلى يسوع، عريس الأحلام والآلام، بإضمامة زهر طريفة، وإكليل شوك إذا شاء.
بارك الله في عمر معلمي، وحسبي رضاه. (2) جعبة الصياد
في جعبة سعيد فريحة سهام ولكنها أخف من ريش النعام، وصاحبها صياد أي صياد، ولست أرى من صوره على جلدة كتابه في تلك الانحناءة العميقة إلا ظالما له، فهو لا يحتاج إلى مثلها إلا في صيد الفيلة والتماسيح، أما ضرباته الأخرى فيرسلها على الهينة ومن تحت إبطه.
لقد سئمنا المقلدين ومومياءاتهم، بل تلك الأحذية الجاهزة، كانوا يقولون فيما مضى: فلان شاعر مطبوع، وهم يريدون أنه يقول الشعر عفو طبعه، إن هذه الكلمة تصح في سعيد الذي يعترف أن الأستاذ كنيدر، صاحب جريدة التقدم الحلبية، هو من علمه كتابة التاء وغيرها، فغير قليل أن تؤدي تلك البداية إلى هذه النهاية، ويصير سعيد فريحة كاتبا نسيج وحده؛ أي صاحب أسلوب هين لين، يفهمه العامي ويرضى عنه الفصيح المتنطع، قد يكون سعيد كشمشون الذي لم يمر على رأسه موسى؛ أي لم يعل رأسه سقف مدرسة ولا غصن سنديانة، ومع ذلك فاق الكثيرين ممن تتلمذوا للأئمة، وقتلوا الكتب الصفراء درسا حتى اصفرت وجوههم فوجوه قرائهم.
أقول هذا بعد مطالعتي لكتابه «جعبة الصياد»، التي أخرجتها دار المعارف المصرية مطرزة مدبجة، كتلك الجعاب التي كانت تنسجها عذارى لبنان لمن تيمهن من الشباب السمر وفتنهن كما فتن قلم سعيد قراءه، إن قلم سعيد لا يؤلم ولو نفذ إلى الصميم، وضربته الخاطفة لا توجع لأنه لا يثني، وكل من يذوقون طعمها لا يستثقلون تلك اليد التي تسددها.
أطلت جعبة الصياد على ديوان الأدب وعليها تعويذتان، وفي تعبيرنا اللبناني خرزتا عين.
المقدمة للشيخ خليل تقي الدين، والختام للدكتور سهيل إدريس، أما الذي عندي فهو أن سعيد فريحة «حاف» غني عن التعريف؛ لأن قراءه لا يعدون ولا يحصون ، ما أظن أن هذا الجواد الأصيل كان يحتاج إلى هذه الناصية وذلك الذيل، لولا دخوله جديدا إلى كاتدرائية الأدب الأرستقراطي، بينما هو ما اعتاد الجلوس إلا في قرنة كنيسة قروية.
لا أرانا محتاجين إلى ذاكرة سيبويه والفراء والخليل وابن منظور حين نقرظ أو ننتقد جعبة سعيد فريحة، فما فيها غير ألفاظ لبنانية فصيحة عامية، ولو لم يقل الدكتور إدريس في هداب الجعبة ما يلي: «لست أرى في جعبة الصياد سيئات لسببين: أولهما أن صاحبه وكل إلي أن أزيل منه السيئات قبل دفعه للطبع، فلا يعقل أن أبقي على شيء منها» لما خطر لي أن أقول فيها شيئا.
أجل إن الاختيار جيد، والغربال غير واسع العينات، وكل ما يقصه الأستاذ فريحة - خالعا عليه طيلسان ظرفه وبرنس أنسه - جميل، وطيب، وحلو يؤكل بالعيون، ولكن إلى الصديق الأديب المرتجى الدكتور إدريس أقول: كنت تقيد ألفاظا فصيحة عامية بين خطين، وكنت تترك ألفاظا عامية تسرح وتمرح، فحرت في الأمر ولم أفهم السر، وهناك شيء آخر كثيرا ما وجدته مثل: قلت: لم لا، ثم بعد أسطر في آخر الصفحة تأتي هذه العبارة: بتسلم عليك خالتي، وبتترجاك، فإذا كانت هذه من كلام الولد، فليست «لم» من كلام سعيد.
وقال سعيد في مقدمته: «أما إذا وجدت فيه ما يستحق الهجاء فأرجو أن تخص به الدكتور إدريس وحده؛ لأنه هو صاحب الغربال»، وأنا بناء على هذا التوجيه أسأل الدكتور عن كلمة واحدة فقط، وهي «أهل» في هذه العبارة: لا أدري أهل كانت لي وحدي، أم كانت موزعة ... إلخ، ترى ألا يرى معي الدكتور سهيل أن كلمة أهل لا هي من كلام سعيد ولا من كلام الجدود رحمهم الله؛ لأن أداة الاستفهام لا تدخل على أداة استفهام، ومن يأكل خبزا بكعك!
وبعد فما لنا ولهذه التوافه، فليس سعيد نحويا يلوك لسانه ولا من علماء البلاغة واللغة، فما أيسر وجود هؤلاء، فأينما أجلت يدك تقبض على نواصي من يعرفون هذا على حقه، ولكن ليس من السهل أن تجد سعيد فريحة آخر يسد ما سد من فراغ.
عبثا نتعب في تكوين رأي جديد في هذا الجني، فالرأي مكون، فلا النقد يجدي ولا التقريظ يزيده، فكل صورة من تلك التي يوحي بها ذهنه وتخرجها مجلته تغني عن أبلغ الأقوال وأثقبها.
فكلنا معجبون بظرفه في فني الكتابة وإيحاء الصور والتزاويق البليغة، فالرجل كذا خلق ولا حيلة لنا فيما خلق الله، حقا إن الله كريم.
قرأت الجعبة كلها ولم أخرم منها حرفا، بل كببتها كما كب عبد الملك بن مروان كنانته، ووجد الحجاج أصلبها عودا وأشدها مكسرا، وقد أعجبتني جدا غمزاته ولمزاته في سياحة إنكلترا، ذكرني بكشف المخبأ، فأخونا سعيد وشيخنا الشدياق تشغل رأسهما المرأة دائما، وكما تذكر الشدياق الطبيخ في لندن كذلك فعل أخونا سعيد، ومن يقول بعد هذا، أن ليس في الدنيا توارد خواطر! فكلاهما مشغولان بالبطن وما يليه.
التهكم والالتفاتات العابرة، والاستطرادات والقرصات الموجعة، هي زينة كتابة صاحب الصياد، فهنيئا له ولقرائه بها، رأيت سعيدا أو سهيلا يسمي مقال «آخر العنقود» قصة. إنها قصة ولكن أروع قصة فنية في الجعبة هي «ليلة الميلاد»، فمتى حذفنا من ختامها بضعة أسطر صارت في طليعة أقاصيصنا الحديثة، فسعيد قصصي طبعا ويتفوق في الحوار، أما سلاح هذا القنفذ الفني فهو تلك التعابير الخاصة التي يلقنه إياها شيطانه المريد.
كل شيء في الجعبة لذ لي إلا فصل القمار، والمرء عدو ما جهل، إني لا أفهم الألفاظ التكتيكية، ولا أعرف المحيط لأتصوره، بل ما رأيت اللعب قط، والحمد لله. كنت أسر حين أفهم، أما حين أصطدم باللون المحلي، فكان يقصر حماري في العقبة، قد كنت أحدث نفسي بالصعود إلى السماء كإيليا، ولكني بعد ما قرأت وصف سعيد لأهوال الطيران ورعباته طلقت الفكرة ثلاثا، وترحمت على بديع الزمان الذي قال بلسان بشر عوانة يخاطب حصانه:
أنل قدمي ظهر الأرض إني
رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
ما حسدت سعيدا على شيء مما ظفر به من صيد غزالات وحمام ويمام ... ولكني حسدته على رفقته لتلميذي الطاهر الأستاذ إميل البستاني الذي شهدت فجر نهاره، ولم أمتع قط بضحاه وظهره الرائعين، كنت أسمي إميل الزئبق؛ لأنه لم يكن يستقر قط، وإميل من نوابغ تلاميذي ويزيد عليهم أنه كان حركة دائمة، وهذه الحركة كانت تبشرني بالنجاح والفلاح، كما كانت تتعبني أحيانا، كان - وفقه الله - عرق «الجمعيات» النابض كما هو اليوم وريد المعارضة، وسبحان من يغير ولا يتغير.
وبعد فلنعد إلى سعيد، إن سعيد فريحة سيبقى بين كتاب الظرف والنكتة الخاصة بصاحبها دون غيره، وهذا يكفيه، ولو وزعنا ظرفه على عشرات من ثقلاء الأقلام لأنعشتها روحه، وما ضره أن يكون حظه من الفصحى كحظه من «محاسن» بطلة «آخر العنقود». (3) معجم العلايلي
أعرني طرف زرقاء اليمامة
لأبصر ما ورا تلك العمامة
حقا إن وراء عمامة الشيخ عبد الله العلايلي لعلما جما وتفكيرا فذا يوغل صاحبه في الغابات البكر، ليكتشف الكنوز المرصودة في المجاهل، لقد حطم الشيخ عبد الله العلايلي ذرة الكلمة وأرانا القوى الكامنة في الحروف، وأي شيء في الكون أقوى من الكلمة التي قالت العوام فيها: من وطا كلمة وطا جبلا.
وقد قال أحد الإنجيليين أيضا: في البدء كان الكلمة، إذ لم يجدوا له نعتا أقوى من هذا النعت.
فبعد أن كانت كلماتنا مبعثرة لا تدل على شيء، وتدل على كل شيء، جاء هذا العلامة وخص كل لفظة بما تدل عليه، وهكذا صار عندنا معجم، كمعاجم أمم الأرض منظما منسقا، كان معجمنا كدكاكين السمانة والعطارين، الأكياس مكدسة: السكر حد الكبريت، والرز إلى جانب الشعير وو ... أما اليوم فقد أصبح لكل مادة عندنا مكان، كنا نقرأ مثلا في المعاجم: شقي ضد سعد، حتى إذا ما رحنا نفتش عن معنى سعد رأيناه هكذا: سعد ضد شقي، وفسر الماء بعد الجهد بالماء.
أجل فجر العلايلي الذرة اللغوية ولم يكلفنا معمله قرشا واحدا، حمل على عاتقه أثقل الأعباء حين هدم صروح المعاجم ليشيدها من جديد بحجارة فيها النحت والقلب والإبدال، فجاءت خدمته من أجل الخدمات وأسناها؛ لأن اللغة هي العروة الوثقى.
عشرين عاما قضاها هذا العلامة الأكبر معتكفا في بيته: سميره كتابه، ونديمه قلمه، يفكر ويدون ويستنبط وأجرته أجره، لم يطلب معونة أحد غير ربه وعقله - عفوا نسينا سعيد عقل المنوه به في مقدمة المعجم - حتى إذا ما فرغ من التفتيش عاد إلى الوضع، والعلماء يترقبون انبثاق هذا المعين، فأطلت علينا هذه الدفقة من ذلك الينبوع الغزير فمحت وصمة دمغنا بها ابن منظور، حين كتب معجمه لسان العرب وقال لنا: خذوا لغتكم من أعجمي.
والآن يحق لعلامتنا الشيخ عبد الله العلايلي أن يخاطب أمته قائلا: خذي لغتك وأرقى لغات المسكونة في كتاب واحد.
وليس على الله بمستكبر
أن يجمع العالم في واحد
منذ قرن بالضبط ظهر «سر الليال» لأحمد فارس الشدياق فأحدث انقلابا كبيرا في مفهوم لغة الضاد، فهلل الناطقون بها لعلمه الجبار، وكأن الله جلت حكمته وقدرته، لا ينسانا فيجود علينا في كل قرن برجل وها هو ذاك الرجل.
فحين يتحدث الدارسون غدا عن الاكتشافات اللغوية في القرن العشرين، سوف لا يذكرون المجامع وجهودها و«اجتهاداتها» التي نجلها ونقدرها، بل يذكرون عبد الله العلايلي الذي عمل منفردا ما لم يعمله العلماء مجتمعين.
وإن عدت رجال العلم يوما
فهذا واحد بمقام ألف
قلت يا إمام اللغة المعاصر، إنك أشبهت الشدياق، وكيف لا تشبهه وأنت من طرازه جسما وعقلا وبادرة! فأنت تريد أن تطلق لفظة الأراضة على علم الجيولوجيا، وتقول إن الإبزيم عربية من بزم، والشدياق قال: إن الكنيسة عربية مأخوذة من الكناس حيث تختبئ الغزالة، وكذلك كان النصارى في أول عهدهم يختبئون في الكهوف من وجه مضطهديهم.
إنه ليسر لغة العرب أن يخلق لها في كل عصر أحمد فارس جديد، وكما أوضح العلايلي الوحدة المعنوية في كل جذر، كذلك حاول الشدياق أن يخص كل حرف من حروف الألفباء بمعنى عام لا يحيد عنه إلا نادرا، والثنائية التي كثر الكلام عليها اليوم، واتجهت الأبصار نحوها قد نشأت في ظل ذاك الدماغ الجبار.
والآن يقوم عندنا رجل يعمل موسوعة يحتاج إليها كل ناطق بالضاد من أصيل ومستعرب، ففي هذه الموسوعة موسوعة العلايلي: اللغة وفقهها، والعلم وتحديداته ومسمياته، والفلسفة والتاريخ، وإذا قال العلايلي إنه يفضل شرح غوامض تاريخ الأمة بكلامها فهو على حق، فالكلمة لم تخلق إلا لموجود يعرف بها، كما يخلق الاسم للطفل الجديد.
الكلمة كائن حي خالد؛ لأنها تبقى حية بعد الحي لتدل على أنه وجد، وما وجدت إلا لتصور كائنا حقيقيا أو ترهيا، كما عبر الشيخ عن الميثولوجيا.
كنا نشكو من معاجمنا خلطها الحقيقة بالمجاز، فجاء من نظم ورتب وكلف الكلمة جهدها، وبعد ما كانت اللفظة «مشاعا» حددت ملكيتها، فجاء معجمه موسوعة حقا لا ينقصها إلا الأعلام، ولعله يخصها بجزء فيكون كتابه معجم القرن العشرين.
فحسبك منه أنه ذكر الإبركسيس أو الإبركساس، وسيذكر - إن شاء الله - في الأجزاء الآتية: النافور، والشحيمة، والجليان، والسنكسار، والريش قريان، والزياح والجناز، وغيرها وغيرها، فيسهل فهمي أنا، خاصة على القارئ العربي في كل قطر، ويعرف كل جار منا ما عند جاره.
قلت إن هذه الموسوعة رحيبة الجوانب ضمت القديم والحديث وشبهتها بالمخزن، ولعلي ظلمتها في ذلك التشبيه الضيق، فهي أصبح تشبيها بالفبارك العظمى مثل معمل سانت إتيان مثلا الذي تجد فيه كل حوائجك.
ليس المجال الآن مجال مناقشة ولكنه لا بد من الإشارة إلى شيء، وهو أن الشيخ - متع الله العربية بطول بقائه - قد تمادى في الخلق حتى شاء أن يضع ألفاظا عربية موضع ألفاظ صقلتها الألسنة واستعملتها الأقلام، فمن يستعمل مثلا كلمة الأجيلة بدلا من الكمبيالة أو السند؟ والأبادية للسريالية، والمصفق للبورصة، والترهية للأساطير - الميثولوجيا - والنهجية الكلاسيكية، والأجد للباتون، والأبير للجراح الماهر جدا، ثم ما حاجتنا إلى اشتقاق فعل من أبريل - نيسان - لتقول أبرل أبرلة وأبرولة؛ أي كذبة نيسانية! أظنك اهتممت بها يا شيخنا الكبير؛ لأن كل الأيام عند أكثرنا أول نيسان.
و«الأبريغونية» التي نشكر لك تعريفنا بها وبغيرها من الشئون والشجون الممتعة، ما حاجتنا إلى اشتقاق فعل من لفظتها لنقول: أبرغ؛ أي أخذ بتقاليد أبريغون، إن رهبانياتنا - وأبناؤها من قومنا عرب أقحاح - يعتبون علينا إذا لم نشتق لهم فعلا.
وأقول بلا محاباة: إني أؤثر أن نعرب كما عرب العباسيون، أي أن نفعل كما يفعل المهندس حسين يخطط طريق ضيعة، فهو أول ما يتعرف إلى طريق القدم والحافر، ثم يماشيها ويحورها طبقا لفنه.
إني أؤثر التعريب والنحت، وإن قال علامتنا الشيخ عبد الله إن اللغة العربية لا تبيح النحت «جنوحا وراء ما في طبيعتها من رغبة في التجسيد الكامل».
أليس عند الفرنسيين كلمات بمعنى مسكين ودرويش وبرنس! فلماذا فرنسوها هكذا؟ فلنفعل مثلهم.
كنت أتوقع من الشيخ الذي أجل علمه أكبر إجلال أن ينحو نحوهم في المسميات، وهو قد فعل، ولكنه في أماكن قد أبعد اللفظة عن مدلولها المعاصر، وفتش لها عن اسم في مخلفات جيش المحاربين القدماء.
فأنا أوافقه على «تأصيل» أبرل وأبرغ لو كنا في حاجة إليها، إني أحب جدا أن يقال: تلفن يتلفن تلفنة، بدلا من هتف المتلبسة.
ولكن كيفما دارت بهذه الموسوعة الحال، وكيفما كان حظ بعض ألفاظها من الاستعمال، فقد دلت على فهم لسر اللغة منقطع النظير، وستكون موسوعة الشيخ العلايلي كتاب القرن العشرين في إحياء اللغة العربية ومعرفة أسرارها، إنه عمل تعجز عنه الجبابرة والعمالقة، ولكن الأمثال تصدق دائما: الرجال لا تقاس بالذراع.
فهنيئا لنا وللعلايلي كتابه الذي هو نسيج وحده، وعسى أن يتحرك أحد من رجال هذا العصر، حكومة وشعبا، كما تحرك ذاك الأمير الهندي - لست في مكتبتي لأذكر اسمه - وطبع كتاب سر الليال. (4) حول حديث القصة
أي لون من ألوان القصة كان أوفى نصيبا من النجاح في البلاد العربية؟
1 - إذا كانت تعني بالنجاح الرواج، فروايات زيدان كانت تقرأ منذ عشرات السنين وما زالت تقرأ، أما إذا كنت تقصد الفن فعندنا قصص أنجح منها، وهنا لا بد من القول: إن القصة أنواع، وإن القصة المتمسكة بأذيال الفن لا تروج كثيرا عندنا؛ لأن جمهورنا لا يدرك ذلك المجهود كل الإدراك، تهمه الحكاية والعقدة الغريبة. - في أي البلاد العربية كانت القصة أكثر رواجا؟ - وهل هنالك سوق غير مصر؟ هناك البندر يا أخي محمدا، اكتب على كتابك طبع في مصر تكفل له قراء، وإذا كنت تقصد بأين راجت، أين نشأت، أو أين أقبل على تأليفها، فجوابه: إن القصص الأولى من عمل سليم البستاني وزيدان وصروف وأنطون وغيرهم وغيرهم، أما الأقصوصة فمن عمل جبران ثم أحمد تيمور، وهؤلاء هم رواد القصة والأقصوصة، ثم جاء غيرهم يحذو حذوهم فصار عندنا قصصيون، أنا متفائل لا متشائم، نعم عندنا قصص وأقاصيص وجل من لا عيب فيه وعلا. - هل استكملت القصة العربية كامل شروط القصة الحديثة؟ - هنالك قصصيون كفوا ووفوا، وقبل وبعد فأنا لا أؤمن بالهندازة ليصير القص عليها، دون أن نحيد عنها قيد شعرة، فعلى الفنان أن يخلق هندازته، بشرط أن لا يتعدى المبادئ العامة المتفق عليها، وهذه المبادئ لم تكن لتوضع، لولا أنها نسخة عن الطبيعة، فالشرع - كما تقول المعتزلة - لم يجعل الشيء حسنا بأمره به، فالقصة إذن يجب أن تكون طبيعية، وعندنا قصص كثيرة مستوفاة هذه الشروط، لا أسمي لئلا أنسى أحدا منهم، والأدباء كما تعلم وأعلم يغضبون، فما لنا وسخطهم، أما اعتقاد بعضنا أننا متأخرون جدا فهذا تطرف، نعم لم نبلغ القمة بعد، ولكننا على الأقل صرنا على أكتاف الجبل، وهذا كاف، فالقصة عندنا صغيرة السن، ومع ذلك صارت تشتهى. - هل ترى أن يكون للقصة هدف اجتماعي؟ - وأي عمل فني بلا هدف يا أستاذي، إن القصة الرائعة لا تكون بلا هدف اجتماعي، فهي صورة عن المجتمع، أما الذي لا يصح فهو أن يكون القصصي واعظا، يجب أن يختفي القصصي وراء شخوصهم ويسيرهم دون أن يرى، لا تنس دون أن يرى، فموقف القصاص من أبطاله كموقف الملقن من الممثل، عليه أن يلقن وعليه أن لا يسمع صوته الناس، وكذلك على القصصي أن يوجه بطله إلى الهدف دون أن يدرك قصده، لئلا يعرقل سير القصة، فعيب مسرحيات شوقي، وروايات فرح أنطون هو أن المؤلفين لا يختفيان وراء أبطالهم، كثيرا ما يقف فرح أنطون ليطرح الصوت ويوبخ الإنسانية، وهذا عيب قصص فرح الأكبر بالنظر للفن، وعيب مسرحيات شوقي هو أنه فكر بالشعر أكثر من تفكيره بالمسرح، كان ينظم ويفكر بعبد الوهاب لا بالمسرح والنظارة. - ما هي الأسباب التي يمكن أن نرجع إليها إهمال الأدب العربي القديم للقصة؟ - الأدب العربي أهمل القصة، ومن قال ذلك؟ الأدب العربي أبو القصة في العالم، فهذا كتاب الأدب المقارن للدكتور بول فان تياجم لا يذكر أدب العرب إلا بسبب ألف ليلة وليلة، ففي ألف ليلة وليلة دخل الأدب العربي في الآداب العالمية واحتل الصدر.
وهذا المتمشرق الإنكليزي جب، عضو المجمع الملكي العربي المصري، هذا الأستاذ المختص بدراسة القصة يقول: إن الغرب لم يعرف القصة قبل اطلاعه على ألف ليلة وليلة، وهذا الأديب العظيم أندره حيد يرى ألف وليلة بمقام التوراة.
الآن ألف ليلة وليلة ليست على نسق القصة اليوم، نقول إن العرب أهملوا القصة؟ هل لي أن أطلب من جد جدي أن يلبس مثلي! وهل إذا لم يلبس مثلي أعده عاريا أو أهمل اللبس، جدي لم يكن من العراة، ولكنه ماشى زمانه ولكل زمان زي. - هل عرف العرب المسرحية، وما هو أثر أحمد شوقي في هذا الميدان؟ - المسرحية، لا، لم يؤلفوا في المسرح، ولو كان لهم مسرح لكان الجاحظ موليرنا في بخلائه، أما شوقي فجزاه الله خيرا، وقد وفى قسطه للمسرح ونام، وعلى الذرية أن تسير بالعمل إلى التمام، شاء أن يكون شاعرا جامعا فكان. - من هو القصاص الأول في أدبنا الحديث؟ وهل يستحق أن يجلس في صف القصاص العالميين؟ - هو، هو، زدتها يا شيخ، أنا رجل ميسور أمري أعسر، كما قالت نعم لصاحبها عمر، ولكن بما أن أسهم الدكتور طه حسين في صعود وهو مرشح لجائزة نوبل كما يقولون، وهذا فخر لنا نحن العرب، فلا بأس أن يجلس مع القصصين العالميين، يجب أن نثق بأنفسنا يا أستاذ. - أية قصة عربية تختار لتكون من القصص العالمية؟ - أية قصة عربية اختار لتكون من القصص العالمية، لا جواب على هذا السؤال، بلى كان بوسعي أن أختار واحدة من قصص طه حسين لولا خروجه على قوانين القصة وإعلانه العصيان المدني في «المعذبون في الأرض».
وكما حرم هو المتنبي من الشعر الملحمي لأنه فكر بذاته، فأنا أحتج على قصص طه للسبب عينه. - هل يعتبر طه حسين قصاصا، وما منزلة كتابه الأيام في عالم القصة؟ - معلوم! ألم تسمع ما قلنا، معلوم، معلوم، طه حسين قصاص، وعنصر القص سائد في جميع ما كتب ويكتب معالي الوزير طه حسين، فهو يقص دائما حين يكتب، وإذا لم يكن موضوعه يحتمل القص جرد طه منه ومني ومنك شخصا يقص عليه، لطه حسين دعاء الكروان وشجرة البؤس، قصتان جيدتان، أما كتابه «الأيام» فسيرة حياة أو مذكرات، ولكن عنصر القص سائد فيه وإن لم يكن قصة. - أنت أين تضع نفسك في عالم القصة، وأي قصة تفضل قصصك؟ - آه يا لاللي ... هذا سؤال، أين أضع نفسي؟ من يكون الدفتر بيده ويجعل نفسه من الأشقياء، أسال الناس أين يضعوني، الناس تقرر لا أنا، المسيح سأل حواريه بطرس: من يقول الناس أني أنا.
إن مقدرات صاحب القلم في أحناك الناس يا أستاذ، هم الذين يقررون، اليوم وغدا وفي الدهر العتيد، وسألتني أية قصة أفضل، وهذه العصا من تلك العصية، اسأل نفسك، فكل فتاة بأبيها معجبة. - هل تتوقع مستقبلا زاهرا للقصة العربية؟ - وكيف! القصة عندنا راكضة نحو الكمال الفني، بارك الله في الشباب وفي المطالعة، فلو تجلدوا وقرءوا وتأملوا لعملوا قصصا تعيش، أنا لست متشائما، يزعم غيري أنهم يقلدون قصصي الغرب وهذا لا يضيرهم، فتولستوي استمد من موباسان وفلوبير، وأنا كارنين بنت عم مدام بوفاري، ولكنها ليست هي، فمستقبل القصة يكون باهرا إذا عمل شبابنا قصصا تستمد عناصرها من محيطهم، فالغرب إذا اطلع على قصة يصح أن تحدث في كل مكان، أو تشبه محيط بلاده، يقول كما قال الصاحب بن عباد: هذه بضاعتنا ردت إلينا.
يخيل للبعض منا أن القصة لا تكون عالمية إذا كانت ذات لون إقليمي، أما أنا فأرى العكس، فالناس هم هم في كل مكان، وهل جرت قصص دوستوفسكي في اليمن! وهل صور بها غير روسيين. - ما هي نصيحتك لكل من يعالج القصة؟ - طلبك نصيحتي لكل من يعالج القصة، معناه نصيحتي للشباب؛ لأن الكبار أكبر من النصيحة، أو بالأحرى الحصان القارح يصعب تطبيعه وترويضه، وعلى كل فنصيحتي لمعالجي القصة: أن يعنوا أولا بالمحيط، فللقصة مسرح يجب أن ينقل القارئ إليه، والقصة الرائعة هي تلك التي تنقلك إلى الساحة التي تحدث فيها.
هذه واحدة، وواحدة ثانية أن يعنوا بأبطالهم ليعرفهم القارئ، بطل الرواية مثلي ومثلك يا أخي محمدا، وقد يحيا عمرا أطول من أعمار أبطال حقيقيين إذا كان خالقه قادرا، لا بد لبطل القصة من بطاقة هوية، والعلامة الفارقة مهمة جدا في الهوية.
وواحدة ثالثة أن ينطق أشخاص القصة بما يمكن أن يحكوه أو يصدر عن مثلهم، وهذا رأي شيخنا الجاحظ.
فالحوار عنصر أساسي في القصة.
وهناك أمر يجب الانتباه إليه وهو أن تكون الحوادث ممكنة الوقوع.
وأخيرا العنصر الشعري في إنشاء القصة، فالقصة محتاجة إليه جدا.
القصة قطعة فنية، ومعظم قصصي العالم شعراء.
إن إقدام المتأدبين على القصة قبل أن تكتمل لهم آلاتها يضيعهم، ليست القصة بالأمر الهين، لا أذكر أين قرأت أن الثلاثين وما دون هو سن الشعر، وما فوق الثلاثين هو زمن القصة، أما وقت المذكرات أو الذكريات فمن الخمسين فصاعدا، ما عدا مذكراتك الطريفة، فأنت مثلي لا تزال تحت الثلاثين طبعا، وإن كتبت مذكرات طريفة.
أكثر منها يا أستاذ ولا تسلني أكثر، فقد عييت وأعييت. (5) سعيد تقي الدين الدرامائي
افتتح سعيد مقدمة «نخب العدو» بما يلي: إنني أدفع إلى المسرح العربي برائعة يفتخر بها أي درامائي كان، في أي لغة وأي زمان، ولئن دار في خلدك أنه قد تدحرجت من فمي كلمة ادعاء ضخمة، فأنا أدعوك إلى المقابلة، فأت بأية رائعة إفرنجية وقابلها «بنخب العدو» حادثة ومواقف ونكات، وأشخاصا ومفاجآت، وحركة وتضادا، وشبكة فنية وسلاسة، تجد نخب العدو تضاهي أجملهن في كل شيء، وقد تكون دون بعضهن في روعة المأزق، ولكني واثق من أن نهايتها هي أجمل نهاية رواية تعرفها بدون استثناء وعلى الإطلاق. «انتهى التبجح .»
ربما تصدق ما تقرأ، بلى صدق، فما نقلته لك ليس من مخطوطات وعاديات رأس شمرا وحجر رشيد، إنه من كتاب تستطيع أن تتناوله بسهولة، قد يكون سعيد مبالغا فيما كتب، ولكنه قادر على عمل كوكتيل عجيب من الجد والهزل حتى لا تدري إن كان يهزل أو يجد، ولكنه كما قال موليير الذي تبنى سعيد مواقف من مسرحياته: لا هزل بدون حقيقة، فسعيد في أسلوبه وسرده كلاعب السيف والترس - الحكم - رشاقة وخفة يد، وحركة دائمة، فما عليك إلا أن تشد حذاءك جيدا وتشمر وتلحقه.
قد يكون سعيد مبالغا ولكنه خير من ألف مسرحيات ناجحة، بل هو الدرامائي الأول عندنا في هذه الفترة، وإن شئت فكما كتب على قفا غابة الكافور، والكلام للشاعر نزار قباني:
هو إله صغير سقط من شبابيك نجمة متلألئة فشربته أرض لبنان.
لم تدلنا كلمة «صغير» على حجم هذا الإله، وعلى كل فأقل جرم إلهي يكون عظيما جدا بالنسبة إلينا نحن الترابيين، إذن فلأقل «النومن» قبل أن أبدأ عملي.
أؤمن بسعيد تقي الدين، الخالق الضابط الكل ما يرى وما لا يرى ... إلخ، أجل أنا أؤمن بعبقرية سعيد وبمخيلته الوثابة، وبعبارته المصنوعة حديثا، وأؤيد رأيه في نفسه، فهو درامائينا في هذه الفترة، ولو كان عندنا مسرح لكان يجلس سعيد في لوج الشرف وينظر إلى الجماهير من عل ويقول للنظارة: فكروا يا ذبان، افهموا الفن!
وحق ربنا يا سعيد أنا في هذا جاد لا أمزح، أما إله صغير فهذا كلام هراء، إن «لولا المحامي» التي تزدريها أنت و«نخب العدو» و«حفنة ريح» تحف نادرة، ومع هذا لا بد من النقد، فلنفرض أن هذا العبقري إله لا نصف إله فلا بد له من نقد، فالله جل جلاله انتقد، ولا يزال ينقد، وأول ثورة كانت عليه:
خلقتني من نار وخلقته من طين .
قد يقول القارئ أنت لم تعودنا هذا اللف والدوران، فما بالك اليوم تغير عادتك ولا تقول كلمتك وتمشي؟! فإلى هذا القارئ أقول: يجب قبل كل حساب أن نصفي الحساب ، حساب الناقد، فسعيد ليس له عدو على الأرض إلا الناقد، أما في العالم الذي سقط منه إلينا فهذا علمه عند نزار قباني.
نرى سعيد تقي الدين يزدري الناقد ويحتقر ما يقول «فالنقد فن زائف ومهنة طفيلية، النقد يوهم صاحبه - ولو ضمنا - بالتفوق على المنقود، أنا أنقدك، إذا أنا أفضل منك، زد على ذلك أن النقد يضع بين يدي الأديب أو المتأدب موضوعا جاهزا، فلا حاجة إلى حك الرأس والتنقيب عن موضوع، كذلك ليس من إنتاج مهما عظم إلا وفيه نواح ضعيفة يسهل اكتشافها، فتسري نشوة الظفر في عروق الناقد مكتشفها، كذلك التطرف يولد التطرف، والمديح بلا وزن سبب النقد الأعمى.»
ترى من أي وزن هو قول نزار قباني الذي زينت به قفا غابة الكافور؟
ذاك رأي سعيد في الناقد، كما أثبته في الصفحة الثامنة من نخب العدو، وأما ما في ذيل «حفنة ريح»، فيقول سعيد حين قرأ نقد الدكتور سهيل إدريس لنخب العدو: «شعرت بقربى تربطني بك بعد قراءة نقدك الرائع في جريدة بيروت لنخب العدو، ولو أنه أعطي لي قبل اليوم أن أطلع على مثل هذا النقد لترددت في قول: النقد فن زائف ومهنة طفيلية.»
اسمح لي يا سعيد أن أعود بك إلى البدء، إلى ما قبل الخليقة عندما بدأ الله في تأليف كتابه الأعظم؛ أي تكوين الكون، أما قال: ليكن نور، فكان النور، ورأى أن النور حسن، ومضى في الخلق والتساؤل، فيرى أن ما خلقه حسن حتى اليوم الأخير، أظن أن هذا التساؤل يدلك كما يدلني على أنه - تعالى - كان ينظر إلى عمله كناقد، حتى إذا ما رآه حسنا راح يتم تأليف كتاب الخلق المؤلف من ستة أقسام، وفي القسم الأخير خلق الإنسان، ولو لم يكن الله جل جلاله ناقدا لما وجه إلى أعماله هذه النظرة.
فالناقد الأول كان الله، وهو في الوقت نفسه المؤلف الأعظم - وإن لم يؤلف مثل نخب العدو! وإنه أطرى عمله كما أطريت أنت مسرحيتك، ولو لم يكن الله ناقدا ملهما لما عرف ولا قال إن ما خلقه حسن.
قلت: إن الناقد يجد موضوعا جاهزا، وأنا أقول لك: نعم، ولكن المواضيع جاهزة كلها، والذكي مثلك من يفصلها ويضعها في واجهة دكانه، ثم يبيعها كأنها «استعمال».
النقد فن يا سعيد ، أما أنت فكبطل صديقك موليير تسب الناقد وأنت ذاك، ففي جميع مسرحياتك: لولا المحامي، ونخب العدو، وحفنة ريح، أنت ناقد وسأريك، أما الفرق ما بيننا فهو أنك تفتش عن بطلك بين الناس، وأنأ أفتش عنه بين الكتب، أظنك قرأت مسرحية موليير «البورجوازي»، استغرب ذاك البورجوازي جدا حين قال له معلم الفلسفة: إن النثر هو ما يحكيه، فقال لمعلمه: إذن أنا أتكلم النثر منذ أربعين عاما دون أن أعرف ذلك، كثر الله خيرك؛ لأنك خبرتني ذلك.
فهل تستغرب أنت أيضا إذا قلت لك: إنك ناقد أدبي، ثم لا تخرج من الجو الأدبي إلا لتكون ناقدا من نوع آخر؟ فأنت إذن ناقد مهما أغرتك أنانيتك وحملتك على ازدراء النقد.
إن الناقد هو الذي يدل الناس على مواهب المؤلف كما سأدل على مواهبك، وأنت ناقد يا بطل موليير، وناقد لا يرحم يتكلم من الأعالي وعلينا أن نضع على وجوهنا برقعا، كما كان يفعل موسى حين يتحدث إلى ربه، وإذا لم تصدقني فراجع نقدك لقصص صديقك الذي اكتشفته، الدكتور سهيل إدريس. لقد تشكيت في مقدمة «نخب العدو» كثرة المديح المتفشي عندنا، وكذلك تألمت من النقد، فحيرتني والله، وأخيرا اهتديت إلى حل لهذه المعضلة، وهو أن نمدح حيث يجب المدح ونقدح حيث نجد مدخلا ل «الخربر». فلنبدأ عملنا.
المسرح عندنا صغير السن حديث الميلاد، نشأت مسرحياتنا الأولى لا هي عامية ولا هي فصيحة، ثم صارت فصيحة حتى التقعر في أواخر القرن التاسع عشر، شعرية مع عبد الله البستاني، وشعرية نثرية مع أديب إسحاق، وأخيرا مع نجيب الحداد كانت مواضيعها مختلفة ولكنها كلها تمثل الطبقات العليا أو ما أشبهها من حوادث قديمة، إلى أن جاء شوقي ونظمها شعرا رائعا في مواضيع تاريخية أدبية، ونهض فرح أنطون بالمسرحية فجعلها شعبية استقى مواضيعها من الحياة العامة، وقفز سعيد تقي الدين من مقعد المدرسة إلى المسرح وهو العتليت بلغته، والعتعيت بلغتنا العامية، فكانت قفزة موفقة جدا، وحسبك الدليل على هذا التوفيق أن يسمع مؤلفها سعيد، في مخزن أمين أبي ياغي كلمة: أهلا بالنابغة، من أمين الريحاني، فنام سعيد على إكليل الغار منذ عام 1924 ولم يستيقظ من تلك النومة الذهيبة الأحلام إلا في جزائر الفيليبين الشرق الأقصى عام 1937، وليسمح لي أن أحرف ما قال: ناخ نوخة جمل، وقام قومة سبع، فمسرحيتنا طليانية فرنسية مع أبي المرسح اللبناني مارون النقاش، وفرنسية إنكليزية مع الذين جاءوا بعده.
كانت تعتمد أولا على البيان الاصطناعي؛ لأن الذين ترجموا أو ألفوا في هذا الفن كانوا يكتبونها للقارئ ولا يفكرون بالمسرح؛ ولذلك جاءت شخوصهم جامدة لا تدل على أنها بشر تحيا وتتكلم كما تحيا وتتكلم، وتروح وتجيء وتجيء وتروح، كان مؤلفوها متزمتين حتى لا ترى على المسرح وجها ضاحكا هازلا، وإذ كان لا بد من الضحك أو الإضحاك ألفوا فصولا مضحكة تمثل بين الفصول.
أما الهزل والدعاية والنقد والهجاء والاجتماعي، فلا نكون مبالغين إذا قلنا إن سعيد تقي الدين هو الذي أشاعها في المسرحية، فالهزل يسيطر حتى على درامته، فكأن ليس بين أبطاله واحد يحبه، أو كأنه لم يخلق بطلا، أو لم يستعر من المجتمع بطلا إلا ليضحك من الناس، أو يضحك الناس منه، وإذا كانت أبطال مهازله قومية بلدية فلا يعني هذا أنه خلقها، ولا أنه استعارها من روائي آخر «كمسطرة» يعمل مثلها، بل أنها نماذج عايشها ورآها بعيني رأسه، كما عبروا، فهو في «لولا المحامي» مثله في نخب العدو وحفنة ريح، يمثل أشخاصها عايشها وآكلها وشاربها وتأمل حركاتها وسكناتها، وراح يخلق منها قصة بعد ما أنطقها بما يلائمها من ألفاظ وتعابير تضحك المفلس، وتعابير يتعمدها ويعتمد عليها في إخراج روايته، وهو لم يبدعها كلها ولكنه جلاها وصقلها جميعا حتى لاءمت مذهبه الفني، وهذه العبارات هي من صميم حياة أبطاله فكأنهم هم قالوا حقا، ليست عبارة مسرحيات سعيد من المصنوعات البيانية، وهذا سر نجاحها، ففي فم كل شخص كلمات وعبارات لا تصدر إلا عنه، وإذا لم ترض أحيانا هذه العبارات البيانية فلسعيد بيان خاص به، وليدق البيانيون رأسهم بالحيط.
تدل مسرحيات سعيد تقي الدين على عين لاقطة كعدسة المصور، ولا عجب إذا ظهرت أبطاله بهذا الوضوح فهو قد تأملهم كثيرا، وربما أن بينهم من حمله مرضعا وماشاه صبيا، وهو لم ينقطع عنهم إلا حين شعر بأرستقراطيته.
إنه يعول كثيرا على استحسان الجماهير وضحكهم وتصفيقهم، ومن كان كذلك عليه أن يفتش عن مثل ما يفتش عليه سعيد، ومن هنا جاءت حملات سعيد الغواشم على الناقد حتى عده طفيليا يعيش على الهامش، يجد موضوعه جاهزا فيتهالك عليه كجوعان لم ير الخبز منذ أسبوع لخمس وعطشان.
إن ضحك الجماهير وتصفيق النظارة هو عند سعيد الفوز الأعظم، أما الخاصة ففي فمهم التراب وليقولوا ما شاءوا، أما صفق الجمهور وضحك، ولهذا يتعمد العبارة الطريفة والنكتة البارعة.
أما قال سعيد للمخرج: ازرع بين النظارة من يصفقون، وهل في الدنيا كاتب غير سعيد يصرح بهذا، وإن كان الفن الدرامي هو في إثارة الضحك وإشاعة الاستحسان، فالخراج الاصطناعي لا يعمله إلا نطس الأطباء.
أما إنشاء سعيد فهو معمول في مسرحياته ليحكى لا ليقرأ، وسنعود إلى هذا في الكلام التفصيلي على مسرحياته وقصصه.
يحاول سعيد أن يقول الحقيقة دائما، ولو كانت تمس أقرب الناس إليه بل ذاته، وهو دائما يخرج من هزله حقيقة عملا بقول موليير أيضا: لا حقيقة بدون هزل، ولا هزل بدون حقيقة، إنه كالصيدلي الذي يعطيك ملبسة فيها الدواء المر، وسيموه سماجة الطعم بالحلاوة، السر في أن تقبلها وتزدردها، والله الشافي فيما بعد.
يريد أن يضحك الجمهور ويهذب أخلاقهم، وهذا ما يعمله كل من كانت له طباع سعيد وقريحة سعيد، ومواهب سعيد واطلاعه الواسع على الروائع العالمية، التي يريد من كل قلبه أن يعمل مثلها وقد عمل، أما هذا الهزل في الادعاء فمن بضاعة سعيد، إنه مؤمن بما يقول هازلا فيورده لك بهذا القالب المضحك، حتى إذا لم تصدقه عده هزلا وكفى الله المؤمنين القتال.
وسعيد يخرج مقاله أحيانا بشكل تمثيلي، وهذا يدلك على أنه خلق كاتبا مسرحيا، اقرأ حديثه مع المخرج، بل سيرة حياته تر كيف مثلها تمثيلا لا ينقصه إلا المسرح والمخرج.
أما المرسح فيعنيه أن يكون سهل الوجود، فبدلا من الموبيليا لا بأس بالسحارة؛ لأنه يهدف إلى أن يكون كل شيء طبيعيا.
ليس سعيد من ذوي الانبساط والمرح وليس من ذوي الضحكة الداوية، ومواضيع مسرحياته ليست كذلك، فمن أين ينبثق إذا هذا الضحك؟ في الغالب يكون التعبير مصدر ذلك، أو التكوين الذي خلقه لأشخاصه، أو الموقف الذي يراه صاحبه جديا كل الجد، بينما الآخرون يهزءون به ويضحكون من عقل صاحبه، إن تكبير الأشياء الهزيلة الحقيرة هو عنصر هام عنده، بل هو وسيلته إلى إبراز هؤلاء الأشخاص الذين عرفهم صغيرا وابتعد عنهم كبيرا، إنه شيخ وإنهم عوام، فصار يسلم عليهم برءوس أصابعه، ولكن صورتهم كانت قد انطبعت في مخيلته، وهو يستعيدها بتفاصيلها ساعة يشاء، ويؤلف منها مشهده متى أراد فيأتي كل شيء طبق الأصل.
إن مشيخته جعلته يستهزئ بهم، فيجعلهم يقتتلون على لا شيء تقريبا، على «عصا النوطرة» صحيح أن هذا أمر واقعي، ولكن المؤلف يحتقر تلك الحفنة من البشر، وحسبك استهزاء بهم، عند عقد الصلح، تقديم تلك العصا إلى بيت الحمصي كأنها صولجان ملك، لا عصا ناطور.
أما الرواية الثانية فاسمها يدل على تقدير المؤلف لأبطالها «حفنة ريح» ازدراء وأيما ازدراء، جل هذه المسرحيات نقدية فلا يفلت من قلم المؤلف شيء ولا يسلم من لسانه أحد، فهو ينتقد حتى أقرب الناس إليه ويجعله مثلا لبطل من أبطاله.
ينتحل سعيد كلام ومشاهد غيره كما في ختام رواية لولا المحامي؛ حيث يشن الغارة على موليير، فوحدة الحال بينه وبين موليير تبرئ الموقف، فدستور سعيد الفني دستور موليري، قاعدة القواعد هي أن ترضي وتعجب.
كل حياة سعيد قفز وجمز، فمن مدرسة مارونية إكليريكية أرستقراطية محافظة، إلى جامعة أميركية ديمقراطية لا تعبأ بالتقاليد الموروثة. ومن لبنان - بل من الشوف الدرزي المحافظ - إلى المهجر من لبنان أرض الثرثرة والانطواء على الذات إلى أرض العمل حيث لا ذات إلا للدرهم والدينار، ولا حديث غير حديث الجمع والقسمة والطرح والضرب.
شاب نشأ في بيت عتيق ، زرع في رأسه أبوه محبة هذا البيت ودعمه بكل ما له من قوى، فراح يفتش عن الدعامة المثلى - المال - وهناك رأى هموم الناس الكبرى فراح يضحك في مسرحياته من هموم القرية الصغرى، وانتزع من اختباراته العالمية فوائد شتى، وصور أبطال لمها إلى الساعة التي استيقظت فيها قريحته الهاجعة على إكليل الغار، فكانت مواد مسرحياته وأقاصيصه.
تنظر إليه فتحسبه جبارا عنيدا، ولكنه يبدو لي مما قرأت أنه رجل طيب العنصر، وفي إذا أحب، دمث الأخلاق على تمام ألواحه وعرض كتفيه، فذلك الهيكل الضخم الذي يبديه كمصارع أو ملاكم من الطراز الأول، فيه نفس طيبة تنم عنها تلك التعابير التي يخلقها، وإن لم يكن من العدم، فله فيها فضل التطبيق، الرجل ملهم بدون شك.
سعيد في نظر بعضهم يعتمد النكتة تعمدا، أما أنا فأرى أن التعمد هو عمل إرادي، لا بد منه لكل من يريد أن لا يكون مقلدا، يقول هؤلاء إنه متطرف في هذا، وأنا لا أقول لهم أكثر من هذا، أي إن سعيد تقي الدين إذا لم يوفق إلى مثل هذه العبارات في مسرحياته وأقاصيصه ومقالاته يمزق أوراقه، فغايته الأولى هي أن يستولي على الجماهير ويجرفهم في التيار الذي يصطنعه لجرفهم إلى حيث يشاء.
مسرحيات سعيد تصوير للحقائق بشكل مضحك، أما عقدة «نخب العدو» التي كلفته اجتراح العجائب كالمسيح، فهذه في نظري ليست بالعنصر الهام في مسرحياته؛ لأن دراماته ومهازله تقوم على نماذجه وشخوصه المعمولة على قالب «استعمال» لا جاهز، بل على ذلك الحوار الرائع.
أما عيب هذا الحوار فهو أن عبارته تكون أحيانا عامية حتى يسقط الخليل وسيبويه وابن عقيل تحت الردم، وفي لحظة يستحيل التعبير فصيحا حتى التقعر، بينما يكون المتكلم واحدا بل في حوار واحد.
فهذه أم وسيم تخاطب خادمتها زليخة قائلة لها: أدجاجة أنت فتنامين قبل المغيب؟ أخطأ هنا سعيد من جهتين أولا؛ لأنه قال: فتنامين، وهي فتنامي، وهو لو قالها على حقها لدنت جملته قليلا من واقع الحوار.
وفي حوار واحد أيضا، تقول زليخة: دخلك يا معلمتي، لا أريد الذهاب إلى العين، إني كلما التقيت على العين بنساء عائلة الحمصي يهزأن بي، والبارحة قالت لي وردة الحمصي ساخرة: إننا نوصد الأبواب في النهار.
فبعد دخلك يا معلمتي تجيء كلمة: إني، ونوصد.
وبعد قول أم وسيم أيضا: يا تقبر أمك، تأتي كلمة: لماذا تأخرتم؟
قد يقول سعيد: وكيف تقول؟ وأنا أجيبه: نقول: ليتك تقبر أمك، بدلا من «يا تقبر أمك»، والخادمة تقول: نغلق الأبواب، بدلا من «إننا نوصد» التي لا ينطق بها لبناني.
وهنا يلذ لي أن أذكر عبارة لأفهم كل مسرحي وقصصي كيف يدني حواره من طبيعة الحكي، جاءت هذه العبارة على لسان أحد شخوص مسرحيات سعيد قال: يكفي خمسون، بينما العوام لا يقولون إلا خمسين، فكيف نعمل حتى نقربها من الواقع؟ أنا في مثل هذه المواقف أفتش عن تعبير عامي فصيح، فأقول مثلا: نكتفي بخمسين.
ولا يكتفي سعيد بحشر «أن، وقد» في كل مكان، بل يدخل لام المزحلقة على خبر إن فيقول راجي: إن ابنك يا خالتي أم وسيم لولد عجيب.
وتقول أم وسيم لراجي: سأتركك ووسيم في دعابتكم، لا نطالب بنصب وسيم بعد واو المعية، فما لنا وللنصب، إن أم وسيم ككل لبنانية تستعمل «مع» في مثل هذا الحديث، فيقول: أتركك مع وسيم، أو أنت ووسيم.
وبينا نراه يتشدد في استعمال هل والهمزة إذا به ينزل إلى حضيض العامية، يقول وجيه في حفنة ريح: ما هذا بعذر، ثم يتبعها بقوله: القهوة سعرها بالجو، وبينما يقول: تشكرات، إذا به يتبعها بالقول: هل أعددت اللحن، هل اقتضبته، وفي موضع آخر: هل عايدة بخير.
أما سين الاستقبال فترد كثيرا على لسان قلم سعيد، وهي ليست من بضاعة الحوار الواقعي، ومثلها لقد: لقد هرم وطالت لحيته وابيضت، فآه من لقد في الحوار يا سعيد، إنها تستاهل مسبة دين فخمة.
وإذا اعترضنا على حوار شخوص سعيد، فإننا لا نعترض على شخصياته الذين نجدهم في كل ضيعة، بل في كل مزرعة مكونة من بيتين وتنور.
لم يخرج سعيد من قمعه حين وضع شخوص مسرحياته، ففي نخب العدو، ولولا المحامي، والمنبوذ، قد لا يكون تجاوز خراج بعقلين كما لم يتجاوز محيط بيروت في حفنة ريح.
أما خواص سعيد العامة فهي أنه غير كلاسيكي، مبدع في التعابير الخاصة، خلق قصصا، يتعمد النكتة ويحبها موجعة مرة، وتعمده إياها أحيانا يفقدها الخفة المطلوبة، لا تعرف هزله من جده، فهو في الأدب عتليت، كما عبر هو، وعتعيت كما نعبر نحن في منطقتنا. (6) وحي الحرمان: ديوان الأمير عبد الله الفيصل «يا صاحب السمو الملكي، ويا معالي الوزير الخطير
أيها البطل ابن البطل، يا حفيد أسد الجزيرة
يا طويل العمر»
أما وقد دعتك آلهة الفن إلى دخول هيكلها المقدس، فاسمح لنا أن نضع جانبا ألقابك الزمنية، وثيابك القصبية المزركشة، وخنجرك الذهبي المرصع، وسيفك العدناني الموروث من أيام حليمة، ونلبسك الثوب الذي زركشته أصابع الآلهة العلوية لتخلعه عليك في هيكل قدسها.
اسمح لي أن أخاطبك، بعد الآن - في هذا المقام فقط - باسمك «حاف»، غير محوط بجيوش جرارة من الألقاب الأميرية الملوكية، أنت آثرت أن تكون أمير بيان فكنت، لقد شرفت الشعر بعد ما تأبى عليه الأشراف القدماء، وقالوا في خليفة يوم وليلة: أدركته حرفة الأدب، وبهم تشبه العلماء والفقهاء، حتى قال أبو حنيفة:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد
لقد استحققت بتشريفك ساحتنا أجمل الترحيب منا، فاسمح لي إذن أن أخاطبك بشاعر الأمراء، وأسلم عليك بهذه الإمارة الأدبية.
كانوا فيما مضى يقولون ذو الوزارتين، فأي بأس علينا إذا ما قلنا: ذو الإمارتين؟ إن إمارتك الجديدة هبة من الله كإمارتك القديمة، والله يعطي من يشاء بغير حساب.
زعمت يا شاعر الأمراء، أنك محروم، تحس بالحرمان «لأن المركز الخطير والنفوذ الكبير، والمال الوفير مدعاة لتغيير أسلوب الناس في معاملتك»، ثم تقول : «إنك لا تدري هل ما تحس به من معاملة خاصة أو عامة هو لأنك إنسان يستحق هذا عن جدارة، أو لأنك تتمتع بهذه الميزات الثلاث؟»
إنني أتعهد لك أن أكون صريحا معك إلى أبعد مدى الصراحة، وإن كنت لا أحب أن أشفيك من شعورك بالحرمان الذي هو في الفن خير وبركة، بل ربما كان سبب تساميك في حبك وفنك، أو لست أنت القائل لذاك الحبيب المتمرد:
ولولا الحب في الأعناق رق
ملكتك باليمين وباليماني
ليت كل قارئ يفهم ما هو ملك اليمين، فأين قول عنترة:
إن تغدفي دوني القناع فإنني
طب بأخذ الفارس المستلئم
من هذا القول؟ إن عنترة محروم حقا يا عبد الله؛ ولذلك لم يلطف القول ولم يعلله مثلك، صعب عليه ككل ذي عاهة، أن يذكر عاهته - العبودية - ولو في الحب؛ لأنه معتوق من رقه حديثا.
نعم سأكون صريحا جدا فلا تبهر عيني هالة المجد التي تحيط بك، فأنا وإن كنت أحبو إلى السبعين فلي عين لا تطرف، عين لا تزال حادة جدا حتى إنها تنظر إلى عين الشمس صلاة الظهر، ولا بأس عليها.
أجل هذا ما ستراه مني ولو كنت أميرا ووزيرا وحفيد أعظم ملوك هذا العصر، وابن أخي ملك هو قبلة أبصار العرب.
إن للملوك والأمراء قلوبا يا عبد الله؛ ولهذا كان ويكون وسوف يكون منهم شعراء، فأي بأس عليك إذا لم ترد أن تدفن موهبتك الخالدة فأقدمت على ما لم يقدم عليه سواك من أبناء القصور، نشرت على الملأ ديوانا رفعت به مقام الشعر فطار بجناحين عظيمين، بعد ما كان يحجل بخطى قصيرة عند بابك، لم تحل عظمتك دون البوح بأسرار قلبك البشري، فلم تنتحل الأعذار لحبك كأبي فراس الذي قال وكأنه يستحي بالحب: «إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ...» إن الحب يخاطبنا بلسان المسيح: الذي يستحي بي قدام الناس أستحي به قدام أبي الذي في السماء.
لقد بسطت يدك «العليا» الأبية على قارعة طريق الفن، والفن نار آكلة تطهر وتنقي.
ثق أن الصراحة التي وعدتك بها لا تباع ولا تشرى، فأنا لا أبيع مدحا ولا قدحا، وإنما أقول ما عندي غير راج شيئا مما عندك، وإن كان «بلوطك» ينفعني، كما قال الجاحظ لذلك الأموي حينما زاره وهو مفلوج يتداوى ببرادة الحديد.
إن لهيكل الفن حرمة هيكل الدين، ولذلك أتورع وأخشى حين تطأ رجلي عتبة بابه. قد كان المتوجون - ولا يزالون - يخلعون تيجانهم عندما يدخلون بيت الله، ليعلموا أمام المعبود أنهم بشر، «فأكسية الإضريج فوق المشاجب»، كما قال نابغة بني ذبيان في بني غسان الملوك والإخوان.
سوف نحييك مثلهم بالريحان لا لأنك صاحب سمو ملكي فقط، بل لأنك شاعر مخلص كبير باح واستراح، إن الاعتراف في كل مقام يزيح الكابوس الرابض على باب الوجدان، والاعتراف هو أن أقول إني أحببت وأحب، وأي ضير على الأمير إذا صاغ اعترافه شعرا؟
وهنا يلذ لي أن أروي قصة صديق لي، وربما كان من أترابي أو يكبرني بالسن أربع خمس سنين، أعجبته أنثى من نساء «شركائه»، كان يدخن في بيتها النارجيلة فانطفأت الجمرة فهبت بمجمرتها - لا بصحنها كما قال ابن كلثوم - وأحلت محلها واحدة متقدة، فاضطرمت الناران، وباس «البيك» شاكرا يد شريكته بوسة كقصائد ابن الرومي طول نفس.
أخجل الشريكة تواضع «معلمها» فاستحت، وقالت له بكل بساطة: حاشا قدرك يا معلمي!
فتنهد البيك وقال لها: الحب ما فيه معلم ولا شريكة، الحب رب لا شريك له، هاتي خدك ...
إنها فلسفة ارتجالية نطق بها صاحبنا بأسلوبه الخاص، فلا أمير ولا سوقة في دنيا المحبة، وما دام الله محبة هو - كما علمونا - فما قولتك بنا نحن المخلوقين على صورته ومثاله؟! وإذا قال زهير:
وإن أصدق بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
فشعرك يا عبد الله الفيصل «هو الشعر» كما قلت في ختام مقدمة ديوانك «وحي الحرمان»، إن شعرك قوامه الصدق، وملاكه الاعتراف الواضح الذي يريح وينقي ويطهر، وسمو شعرك هو في تلك اللمعات الخاطفة والوثبات العالية، التي تدل على الشاعرية كما تدل الخضرة على الينبوع المكبوت في قلب الأرض .
فلا تحسن بالحرمان لأنك خامس الأسماء الخمسة - ذو مال - فليس لأجل هذا المال تمدح وتوقر، فكم من ذي مال يبخل عليه باللعنة، أنسيت أن الخلفاء مدحوا، والأمراء مدحوا؟ إن المتنبي مدح سيف الدولة وكان يأخذ من ماله، ومع ذلك ما رأينا أحدا من هؤلاء أحس بما أحسست أنت به من حرمان، ربما أنك كنت تحس بالحرمان قبل أن نفحت الأدب بهذا الديوان، أما الآن فما بالك؟!
نحن نعجب بالرجل إذا كان ذا موهبة، ولكنه إذا كان محروما من المواهب وعنده مال قارون، وملك هامان، وسلطان فرعون، فهذا هو المحروم حقا، وماذا نعمل له؟ هب أننا استطعنا أن نعمل الأبيض أسود أفنستطيع أن نصير الأسود أبيض؟
لقد حاولت أن أنتقدك نقدا مرا ولكني لم أستطع؛ لأني لم أجد المرعى الذي يدر عليه قلمي، إنك شاعر مطبوع، ومن لا يتعمل ويخالف الطبع فليس لنقدي في جلده نصيب.
إن حبك الشعب الذي ينضح به ديوانك جرأني على مخاطبتك بيا عبد الله، وكيف لا أسميك وأنت قد خاطبت الشعب، شباب بلادك، بمثل هذا القول:
مرحى، فقد وضح الصواب
وهفا إلى المجد الشباب
عجلان ينتهب الخطى
هيمان يستدني السحاب
في روحه أمل يضيء
وفي شبيبته غلاب
وأي نور أهدى من نور الأمل وأوضح، وأي عزم أمضى وأغلب من الشباب، بل أي صرخة ديمقراطية أروع من ختام قصيدتك هذه: «فلكم حياتي يا شباب.»
إن كلمة «دائما» في صدر هذا البيت، بيت الختام لم تعجبني؛ ولذلك اكتفيت بالعجز، ورب عجز كان خيرا من ألف صدر، يظهر أنكم يا آل سعود، تحرصون على الديمقراطية في كل مقام، وحسبكم أنكم رفعتم السجف التي كادت تفصل بين العبد والمعبود، فقضيتم على «الواسطة» في دينكم ودنياكم.
فيا طويل العمر، دع الفكرة التي حدثتنا عنها في مقدمة ديوانك، انس المركز والنفوذ والمال، ولا تظنن أننا نحابيك ونمالئك لأجل ذلك، ثق أنك قد عملت في ديوانك بقول فرلين الشاعر الفرنسي الخالد: خذ الفصاحة وفك رقبتها، فديوانك إذا لم يعج بزخرف الفصاحة وبهرجتها وزبرجها ، فهو حافل بالشعر الصحيح الفصيح، ولا غبار على بيانه.
قال كاتب عظيم أحدث عهدا من فرلين: عندما تعوزنا الأفكار نلجأ إلى الفصاحة، وأنت والحمد لله، قد أغناك تفكيرك عن تزويق تعبيرك.
قال شاعرنا الأستاذ صلاح لبكي في تقديمه ديوانك: فمحروم بعيد جد البعد عن شعراء الصحراء الأقدمين والمحدثين معا، وهو أقرب ما يكون إلى شعراء لبنان، وإلى الشعراء الوجدانيين منهم.
أما أنا فأزعم أنه ليس في الدنيا شاعر صحراء ولا شاعر غوطة ولا قديم ولا جديد، إنما هناك نفوس وطباع، ونجد مهد الشعر العربي وسريره، والليونة - اللهم في الشعر - من سمات قولهم، ولعل طبيعة المحيط التي تشبه لبنان هي التي قربت بين محروم وبيننا، وها هو محروم شاعر الأمراء، يدلنا على عمل المحيط حيث يقول في أولى قصائد ديوانه:
هل تذكرين بوادي «وج» وقفتنا
وقد أفاضت علينا الطهر عيناك
أرأيت هذه السلاسة والسهولة، أما فك عبد الله الفيصل رقبة الفصاحة، كما أوصى فرلين! أما قال شعرا يصح أن يقال فيه ما قيل في شعر ابن أبي ربيعة: كأنه الفستق المقشر؟ إن عبد الله ربيب وادي وج الذي قال فيه عروة بن حزام:
أحقا يا حمامة بطن وج
بهذا النوح أنك تصدقينا
غلبتك بالبكاء لأن ليلي
أواصله وأنك تهجعينا
وإني إن بكيت بكيت حقا
وإنك في بكائك تكذبينا
ترى أنقول في هذا الشعر إنه لبناني لأنه سهل؟ إنه نجدي، وعرق الأصل نزاز، أما قال جرير النجدي في أول شعر سمعه لعمر بن أبي ربيعة: شعر حجازي تحس فيه البرد في تموز.
أما كلمة «وداعينا» في مطلع هذه القصيدة فما أراها طبيعية، وكيف تكون ونحن في حديثنا نقول: وداعنا، لا نثني ولا نجمع، إنها أخت قول شوقي: «واحمر من خفريهما خداك»، وأما وقد وعدنا شاعر الأمراء بالصراحة كلها فلنقل أيضا: إن كلمة رؤياك، وهي إحدى قوافي هذه القصيدة، يجب أن تحل محلها كلمة مرآك، ولكننا ننسى هذه الهنات الهينات حين نبلغ مثل هذا الشعر الصافي من القصيدة:
ففيك للقلب أهواء مجمعة
وفي لقائك دنيا الشاعر الشاكي
دنياي نار من الهجران محرقة
إذا نأيت وروض حين ألقاك
أما البداوة في ديوان «وحي والحرمان»، فلا يدل عليها شيء غير تلك الصور الفنية الرائعة التي زين بها الكتاب، وهذا البيت مثلا:
أزمعوا بينا وشدوا رحلهم
فتوارى طيف أحلامي الجميل
ولعل هذا هو الذي عناه «محروم» في ختام مقدمته، أريد أن يكون شعري «صورة طبق الأصل» لحياتي، وصدى حقيقا لشعوري وعواطفي وآمالي وخيالاتي وانفعالاتي النفسية.
نعم لقد طبق الشاعر على نفسه ما اشترع، وها هو بدلا من أن يتهيأ على عادة الشعراء، ليبرز لنا فكرته في إيجاد الفصاحة، نراه يقول واصفا جموح عيون العاشقين:
نحن صرعى لفتات ورؤى
وأمان ما إليهن سبيل
وفي قصيدة «ثورة وخيال» نحس شوقا كاويا في قلب تغلي مراجله فتقطر شعرا يذوب قائله وجدا، فيذوب شعره رقة:
قلت أهواك وعن دنياك بالحب شغلت
وبودي لو تحدثت إلى الدنيا بحبي وأطلت
وتأملت الذي يوحي إلى قلبي وقلت •••
هل سمعت اللحن من قلبي ينساب لتلبي
ثم يرتد فيروي لك ما قصة حبي
ويناديك إلى عش هوانا المستحب
وفي قصيدة «توأم الروح» تفوز عاطفة الشاعر العربي الأصيل ويطغى عليها اللون المحلي، فيسبق إلى قلم الشاعر وينطقه بكناية لا يفكر بها إلا عبد الله الفيصل سليل الذين قالوا: السفر قطعة من العذاب:
يا توأم الروح ونور البصر
ضاقت مني الروح بهذا السفر
وغشت الوحدة عيني فما
يؤنس عيني كل هذا البشر
فهنا تبدو للمتأمل صورة العربي أخي الحب النبيل، لست أدري لماذا أعجبت العجب كله بقوله: ضاقت مني الروح بهذا السفر، حقا إن سفرة المحب طويلة كليلة النابغة، وإذا كان محروما حقا فهي أطول وأطول، كان الله في عونه.
وإذا مضينا قدما حتى نبلغ آخر هذه القصيدة سمعنا الشاعر يتغنى بهذا الحبيب ويشبه صباه الغض بالبرعم، فلندع التحليل الذي يسقط موضع التعجب من الشعر، كما قال الجاحظ أستاذ الدهر، اسمع النص بحروفه:
لا أوحش الله خيالي من الحب
ولا تلك الليالي الأخر
حيث صباك البرعم الغض في
أوراقه يشتاقه من نظر
إنه يخاف عليه حتى من النظر، خطيئة الفكر، ثم يمضي الشاعر إلى أبعد مدى الظن، وهناك تهبط عليه هذه الصورة الرائعة:
يوحي إلى الدنيا أهازيجه
مبتدعا من كل قلب وتر
إنك تخال شعر عبد الله الفيصل بسيطا جدا، إذا قرأته قراءة عابرة فلا كاف، ولا كأن، ولا مثل وشبه، وهذه هي البساطة التي تضرع فرلين إلى ربه طالبا منه أن يهبها له.
وفي قصيدة «منى غدي» يتغنى الشاعر بآلامه، ويشبه كما شبه السلف بعيني المهاة وبالعقد المنضود، ولا بدع إذا رأيناه لم يقطع السرة بينه وبين القديم، فهذه سمة الشاعر الذي يمثل عرقه، فعبد الله الفيصل يصح فيه قول الثعالبي في البحتري: أعاد الشعر سيرته الأولى، ولنا نحن أن نزيد على هذا فنقول: أعاد عبد الله الفيصل الشعر إلى مهده الأول، إلى مرقص الأحلام امرئ القيس، إلى حلاوة كلام جرير في الغزل.
لقد عبر الشاعر عن آلامه وآماله ولم يلجأ إلى التخيل؛ لأنه يصف بكل صدق خلجات نفسه، أفلا يكون صادقا كل الصدق من مخاطب نفسه الكبيرة، يعللها بالآمال من حبيب عرف مقامه فتدلل:
وكلما رمت وعدا
بهجره يتوعد
وإن خلوت بنفسي
وجدتها تتمرد
أقول يا نفس صبرا
فبابه غير موصد
هكذا يصور لنا الصراع النفساني متى سيطر الحب على الأمير، وأبت نفسه الأمارة بالمجد والعزة، إنه يصبح بين ويلين، كما قالت هريرة الأعشى:
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
كل هذا حسن، ولكن الشاعر إرضاء لنفسه الأمارة بإمارتها قال:
إني وحيد القوافي
وأنت بالحسن أوحد
إنها كلمة مقولة يا مولاي، ولا وحيد قط إلا في دنيا الأساطير.
والشاعر يتخلص من قيود القافية في الكثير من قصائد ديوانه، ويترك نفسه على سجيتها في القول، وها هو في قصيدة «عواصف حائرة» يفاجئنا بمطلع ينطح السماء بروقيه، والمفاجأة من العناصر الجوهرية للصورة الشعرية، كما يقول جورج ديهامل:
أكاد أشك في نفسي لأني
أكاد أشك فيك وأنت مني
أرأيت ما أعمق هذا الحب وأخلصه؟ إن الحب يلقي برقعا كثيفا على وجه المحب فيرى ولا يصدق، إن الروعة في هذه القصيدة شاملة، وهي من الشعر الجدير بأن يغنى في أسمى المقامات، ويا ليت مواطن امرئ القيس ضرب صفحا عن هذا البيت:
على أني أغالط فيك سمعي
وتبصر فيك غير الشك عيني
إن معناه جميل جدا، ولكن هذه «العلى أني» من بضاعة النثر، وفي «القافية» سناد كنا في غنى عنه.
وفي قصيدة «كنا وكان» صرخة عبقرية قلما نسمع بمثلها في شعرنا المعاصر، وهي درس عميق في الهوى:
يا حبيبي كيف ذاك الحب مات
عندما دبت به روح الحياة
إذا كان هذا قد حير علماء النفس، فكيف لا يحير شاعرا لا يضاهيه شاعر في مثل هذا الحب العنيف، وهذه الحاسة التي تنفذ إلى الأعماق.
وفي قصيدة «حلم الهوى العذري» نقع على كلام رائع في وصف الحبيبة:
وبالوجنات فيها الضوء
يلهب لونها الخمري
فتحسب أنها شفق
تلفع هالة البدر
حتى الآن أكاد أقول إن شاعرنا كجميع شعراء العرب قديمهم وحديثهم، ليس للجمال المعنوي أي وزن في ميزانهم، إن هذه خاصة أصيلة فالحسن متى ملأ القلب كان الفيض، اسمع ما ختم به قصيدته «على ضفاف النيل» مناجيا الحبيب:
ارع حبي ذاكرا أيامنا
فعلى ذكراك للعهد اتكالي
وكأني بذاك الحبيب يجيب كما نجيب نحن: التكلة على الله.
أما في قصيدة «أطيلي الوقوف» فيقشعر البدن لما توحيه هذه القصيدة:
هو الداء يعبث في أضلعي
إذا ما نعيت فلا تفزعي
ولا تبعثي صرخة في الفضاء
ولا ترسلي مدمع الموجع
ولكن عليك بحفظ الوداد
وصوني عهود الفتى الألمعي
وعيشي مدى العمر بالذكريات
وطوفي بمغنى الهوى واخشعي
وزوري ثراي إذا ما السكون
أطل وعند الثرى فاركعي
لئن ضم جسمي ذاك الثرى
لقد ضم عهدي وحبي معي
أطال الله بقاءك يا طويل العمر، ولا خلا قلبك من هذا الحب العنيف لتسمعنا الكثير من هذه الروائع التي تقطر دما.
وإني هنا أوافق شاعرنا الأستاذ صلاح لبكي القائل في مقدمة الديوان: «ومحروم في أول الطريق لم يعط بعد كل عطائه، على سخاء ما أعطى، ولم يفرغ غير الحرف الأول من الكلمة التي تختلج في صدره وتضج بين ضلوعه.»
وفي قصيدة «هل تناسيت» هذا المطلع الصارخ:
ليته يعرف الملل
دائم الخفق لم يزل
هده الهجر فانبرى
يقتل اليأس بالأمل
هل تناسيت ليلنا
إذ دفناه في القبل
ما على قلبنا شر، ما دام يخفق، وإذا عرف العلل يا أمير، فعلى الدنيا مليون سلام، ألا تذكر قول أبي الطيب:
آلة العيش صحة وشباب
وإذا وليا عن المرء ولى
وإذا الشيخ قال أف فما مل
حياة ولكن الضعف ملا
فلا زال قلبك خافقا إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، آمين.
أما دفن الليل في القبل فصورة جميلة جدا، ولعلي لم أقع على أروع منها، وإن كان الخبراء الصحيون يزعمون أن كل قبلة تذهب بدقيقة من العمر، فأنا أشتريها بساعة بل بيوم، وربما بشهر إذا وافقت الهوى وحمي الوطيس، وحسبي صديقي الشاعر بشارة الخوري الذي حرق نفسه ونفس حبيبه في جحيم من القبل، ومع ذلك لا يزال بألف خير يهجم على طابور.
إذن فليخفق هذا القلب، وليقرع هذا الجرس فرحا حتى يقلق أربعة أقطار المسكونة، إن دقات الحزن - أبعدها الله - آتية ولا ريب، واليوم خمر وغدا أمر.
إن قصائد «وحي الحرمان» كلها مطبوعة على غرار واحد، شعر نقي الديباجة، حديث قلب بطل يتجلد، تأبى عليه عزته أن يتذلل، فهو يخبر بجلاء ووضوح عما فعل به الحب، وعن لوعته المحرقة في قصيدة «لوعة» حين يسر إلى حبيبه:
فلو زعم العواذل بي سلوا
فكل حديثهم محض اختلاق
وما أبدي لهم غير التأسي
وإن كانت ضلوعي في احتراق
وأخشى أن يقال صريع شوق
يلاقي في المحبة ما يلاقي
وأغرق في ظلام الليل يأسي
فأغرق في اصطباحي واغتباقي
المثل عندنا يقول: جاء الليل وجاء الويل، ولا أدري كيف استطاع شاعرنا أن يغرق في ظلمة الليل ما اعتاد أن يطفو.
وفي قصيدة «ردوا سهام الجفون» يذكرني الشاعر بعهد مضى يوم كان شعراء القرن التاسع عشر يردون العجز على الصدر، فهو يختم هذه القصيدة بالشطر الذي افتتحها به، فيقول:
ردوا سهام الجفون
عن قلبي المسكين
لا توقظوها جراحا
أغفى عليها حنيني
ألا تذكرك هذه الغفوة بغفوة الأطفال الملائكية ولكن بدون هذا الألم! حقا إن المحب ولو أميرا لطفل كبير:
فقد بذلت شبابي
ضحية للعيون
أما رحمتم حطاما
ناداكم بالأنين
أظن أن القارئ يشاركني في الزعم بأن في كلمة حطام - هنا - حلاوة شعرية، وأخيرا يختم كما ابتدأ:
فإن أردتم بقائي
ردوا سهام الجفون
الله الله، كيف يستغيث البطل في الحب! ألا تسلم يا طويل العمر، بقول صاحبي: ليس في الحب معلم ولا شريكة، هاتي خدك.
أما ذكر المدام والراح والكأس فلم يرد إلا في قصيدة «إلى ذات الوشاح» ذات هذا المطلع:
تسائلني العواذل ما اقتراحي
وأنت على الزمان مدى اقتراحي
بيد أن هذه المدام والكأس هنا مجازية كالتي عند ابن الفارض، ولكنها من نوع آخر.
وفي قصيدة «أمل المحروم» وإن كانت قوية العاطفة حادة الشعور، صور غير جديدة كالبان والعناب، إلا أن الشاعر أخرجها بأسلوب مستملح جدا فقال:
وقوام يتهادى في الربى
فيقول البان ما أهيفه
وفم لو قال من ينعته
هو كالعناب ما عرفه
أما بيت الردف، وإن كان قد مضى يوم كانت فيه الأرداف تستحلى مقنطرة، فقد أخرجه الشاعر إلى معرض الفن جميلا طريفا، حافلا بلون محلي صارخ، حين قال:
وبأردافك حاد صلف
مثقل خطوك ما أصلفه
فجميل منك بعد الظلم يا
أمل المحروم أن تنصفه
أما نونية «يا ناعس الطرف» فلا تقل عاطفة وجمالا فنيا عن نونية ابن زيدون، ففيها تلك السهولة الرائعة وذاك السياق المستعجل، فكأنها نهر لبناني ينصب متراكضا نحو البحر، حتى تختتم بهذه الأبيات:
إنا وإياكم نجمان في فلك
يديره الحب في آفاق ماضينا
مهما اختصمنا فإن الشوق يجمعنا
أو افترقنا فإن الحب يدنينا
فما ترى اليوم من صبر ومن جلد
فللكرامة فضل من تأسينا
إنه في أحرج المآزق لا ينسى من هو، بيد أنه يغلب على أمره ويعود إلى تواضعه، والحب إله قدير لا يزهى أمامه أحد ولا يتكبر، فيقول في مطلع قصيدة «عتاب»:
لما نظرت إلي أمس مشيحة
بين الجموع بلحظك المرتاب
وجرت على شفتيك بسمة حائر
ما بين شبه رضا وشبه عتاب
أبصرت في عينيك عمري كله
وعرفت أني قد أضعت شبابي
حقا إنها أبيات من أمثل الشعر وأرقاه، وهكذا يختم هذا الديوان كما ابتدأ: تحرق دائم، وشكوى مستمرة، وظمأ إلى الجمال شديد، وثلاثة في الدنيا لا يشبع منها: الجمال والعلم والمجد، وإن قال الشاعر: «ولا مجد في الدنيا لمن قل ماله.»
وبعد فاثنان في ديوان «الحرمان» يتصارعان: قلب الشاعر ونفسه، فقلبه يهوى الجمال ونفسه يشوقها العز والمجد، وهو بينهما كما يقول المثل: ساعة لك وساعة لربك.
هو شاعر غنائي رومنتيكي يقول الشعر في حاجات قلبه ونفسه، عربي جلود، محافظ لا يريد الخروج بالشعر العربي عن طريقه المثلى: الصراحة، الوضوح، الموسيقى، لا يتغنى بوصف الطبيعة، ولكنه يهيم بسيدها الذي خلقه الله في أحسن تقويم، على صورته ومثاله.
والحرمان عند الأمير موجود حقا، فهو إذا لم يجد من يحرمه حرم هو نفسه، والمحروم وحارم نفسه سيان في الحرمان، لا يضحي بالعزة والكرامة في سبيل حب أي كان، وقد تكون مصيبته أنه يبتلى بمن لا يرخص لنفسه الانحدار إليه؛ ولذلك يصح فيه قول الشاعر:
أرى ماء وبي عطش شديد
ولكن لا سبيل إلى الورود
الحبل والدلو موجودان، ولكن الشمم العربي وإباء الإمارة يصيحان به: لا.
ولهذا لا نسمع إلا ترانيم عذبة هي صدى طبيعي لأغوار نفس يسدها حب الجمال، أو تنهدة نفس متألمة لا أدري من ماذا.
إن ما سماه شاعر الأمراء حرمانا هو ما يسميه علماء اليوم كبتا، وهذا الحرمان أو الكبت يرهف حساسية الشعراء، فلا حرم الله الأمير هذا الحرمان.
أما ثقافة شاعرنا فعربية صرف، وما أحسبه استلهم غير الشعر العربي، فهو في قوله الذي أعجب الشاعر الأستاذ صلاح لبكي:
أرى الصبر أوشك أن ينفدا
وأوشكت في القرب أن أبعدا
يدنو ويبتعد في وقت معا من قول الشاعر القديم وقد عدوه مخالفا لفصاحة المركب لغموضه :
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
إن الوطن الذي كان لنا منه أمير الشعراء امرؤ القيس وجرير وغيرهما، ها هو القرن العشرين يستعيد مجده الأدبي بإنجابه عبد الله الفيصل، وإذا لم يكن للروح والجمال المعنوي إلا أثر يكاد يلمس في ديوانه، فاعلم أن هذا هو الدليل القاطع على النفسية العربية التي لا تعجبها الصوفية، وإذا رأينا شاعرنا لم يتخيل كثيرا فلأن شعره وصف خوالج نفسية، والبوح لا يتطلب إمعانا في الخيال، ناهيك أن الإغراب في الشعر ليس من طباع العرب.
فشاعرنا أوتي البساطة التي سأل فرلين السماء أن يعطاها، قد أعطيها عبد الله الفيصل فرأى الحبيبة إنسانة من لحم ودم، لا من نور وألحان، وورق ورد، وضياء ونور، وأغاني حمراء وصفراء، وأحلام بيضاء وخضراء، وأشعة قوس قزح، كما يراها أصحابنا - بعض شعراء اليوم - ويخاطبونها بلغة لا تفهمها هي، ولا الإنس والجن أيضا.
فهذا الشاعر، وهو نموذج للرأس العربي، وقد اجتمعت فيه جميع خواصه وخصائصه، لا ترى في ديوانه رمزية ولا سريالية، ولكنك ترى شعرا عربيا صافيا تفكيرا وتعبيرا، شعرا لا تحمل الكلمة فيه فوق طاقتها ولا تكلف إلا وسعها.
فكأني بديوان محروم قد جاء ردا، في الوقت المناسب، على البدعة الجديدة التي يحاولونها في العراق، كما نرى في قصيدة «النهر العاشق» للآنسة الشاعرة نازك الملائكة، عدت نازك تلك القصيدة «أنشودة عزاء لبغداد التي تغرق» وما هي في نظري إلا «جناز» لشعر نازك الذي غرق في بركة التجديد ومحاولة الإبداع.
بعد ظهور ديوان نازك «شظايا ورماد» نصحت لها أن تعود إلى حبيبها الأول، إلى عشق الليل، وإذا بي أقرأ في هذه الأيام عشق النهر، وأتبعها نفر من شعراء أحببناهم كبلند الحيدري وفلان وفلان.
فيا إخواني، إنكم بهذا تعتقون ولا تصيرون جددا، فليست آفة شعرنا في وزنه وقوافيه، وإنما آفة بيت الشعر العربي في تعبئة وزنه، وإحكام بنيان زواياه، أعني قوافيه، إنكم بهذا تقلدون الغرب، ولو استطاع شعراء الغرب أن يجدوا لهم أوزانا كأوزاننا، وقوافي كقوافينا لما تخلوا عنها كما تتخلون، ولما فعلوا غير ما فعل قدامى العرب، أحكموا بنيان البيت الشعري ولا تهربوا من الساحة.
لقد استطردنا ولكننا لم نبتعد عن الموضوع كثيرا، وحسبنا من محروم ابتعاده عن تلك التعابير الموروثة مع أنه ابن المحيط الذي أبصرت النور فيه، فأنت لا تجد في وحي الحرمان تعبيرا كلاسيكيا، والتعبير الكلاسيكي المنقول هو أخطر سلاح يحمله الشاعر والناثر في معركة أدبية.
أسمعت ما قالوا عن السلاح المصري الذي كان في حرب فلسطين يقتل صاحبه لا العدو؟ كذلك هو التعبير القديم، إنه يقتل صاحبه.
فالشعر قبل كل شيء هو صدى النفس، ولا يمكن أن يعبر عن هذا الصدى إلا بلسان صاحبه، إن هذه لحسنة كبرى لعبد الله الفيصل الذي خاطب الأحباب، وهم من ناس هذا العصر، بلغة هذا الزمان والعصر، ناسيا أو متناسيا ما ترك مواطنوه من ميراث تعبيري باق، فعبر هو كما شاء، ولم يبال بعمود الشعر بل حطمه تحطيما.
بقي علينا أن نقول كلمة في وحدة هذا الديوان، فكأنه ملحمة حب وهيام، وغير قليل أن يكون لشاعر ديوان كامل في موضوع واحد، ويجيد قائله كما أجاد محروم.
فلا حرم الله شاعر الأمراء ذاك الحرمان ليطيل الغناء، ومتى كانت لك نفس تحب، وقريحة تسعد وتسعف على القول فأنت شاعر، وتظل شاعرا في التسعين، فسر ولا تبال «بحد الأربعين» فليس للعبقرية نهاية ولا حد.
يا صاحب السمو الملكي
أما الآن وقد خرجنا من الهيكل فاسمح لي أن أعود إلى «البروتوكول»، وأرجو من سمو شاعر الأمراء، ذي الوزارتين الأمير عبد الله الفيصل، أن يقبل مني الهدية الأدبية، أما قال شاعرنا:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له
بتاتا ... ... ...
فأنت أيها الأمير النبيل، لك في تأييد الأدب يدان: يد بذلت بسخاء، ويد عملت بكد وجد، فكان من ثمرها اليانع هذا الأثر الفني.
ألا بارك الله في يديك الثنتين.
يقظة ونهضة
(1) الخيال اللبناني
ليس للبنان اليوم أساطيل ماء وهواء، ولكن له في دولة الفكر فضلا يعرفه ذوو الألباب.
وبعد، فعندما نظم الله قصيدته الفريدة في ستة أيام، كان أشد إعجابا بالبيت السادس؛ الإنسان، لأنه نفخ فيه شيئا من روحه، وبعد أيام - واليوم في عين الله كألف جيل في عيوننا اللوزية - بدا لذي الجلال أن يجود البيت الذي رآه حسنا جدا، فاستودع فكرته سفينة نوح حرصا عليها، ومحا بطوفان عرمرم قصيدته العصماء ليعيدها أحسن سبكا.
وبعد لحظة من تقويم الخلود، استنشق الأب القديم الأجيال قتار ذبائح نوح ومحرقاته، فطاب نفسا وقر عينا، وقال: «لا أعود إلى لعنة الأرض من أجل الإنسان؛ لأن تصور قلبه شرير منذ حداثته.»
وحانت منه التفاتة فرأى جبل أرارط ينظر بغطرسة إلى سهول الشرق، والكبرياء عدوة الله الغيور، فغمز بعينه ابنته المجنونة فأخرجت أثقالها، فاصطفت جبال لبنان كمعسكر من العماليق في جبهة الوجود.
وشفى الرب نفسه من ركاكة ثانية، فالمثول والنتوء ملاك الفن الرفيع:
لبنان والخلد اختراع الله لم
يوسم بأزين منهما ملكوته
هكذا زعم شوقي، ولكن أيهما نسخ عن الآخر يا ترى؟ لبنان أم جنة الخلد؟! هذه مسألة تشغل حيزا من دماغي ولا أقول كبيرا لئلا أتهم بالمبالغة.
وتمرد الخيال اللبناني فحقق ظن الله بالإنسان، خلق الآلهة وسرحهم قطعانا تتصارع وتتناطح في بطاحه وعلى روابيه، وكانت بينهم حروب كالتي نشبت بين الملائكة في البدء، وكان من شروط هدنتها استعمار الشياطين للأرض.
الخيال خلعة الله السنية على من خلقه على صورته ومثاله، وهودج تنسينا زركشة سجوفه هول الطريق والمركب الوعر. إذا جردنا الإنسان من خياله أنكر ما يحيط به وأمسى كالمنبت، لا يذكر الأمس ولا يحلم بالغد.
والخيال ينمو في بقعة كلبنان، فولولة رياحه وعربدة شلالاته، وهمس ينابيعه وأنهاره، وهدير بحره، ووشوشة أشجاره، وقصف رعوده، وومض بروقه، وعواء سباعه، وصرصرة بئزانه، وصفير نسوره، وتغريد طيوره؛ تنصب وفودا وفودا في حناجر أوديته وأشداق كهوفه، فتؤلف موسيقى داخلية لا تجدها في غيره.
فمن لا يرتعش متى استيقظ مع الفجر ورأى بقية نور القرص الفضي تنسكب على ربى لبنان الحالمة، فتخلق ظلالا كئيبة وأشباحا حائرة، سينماء الله الأزلية تتزين بألف لون وتنطق بألف لسان قبل بزوغ القرص الذهبي وعند غروبه.
وما ظنك بجبار نسجت عمامته عوانس كانون، وحاك آذار عباءته المفوقة، وطرز نيسان قميصه، ونمنمت طيلسانه عرائس نوار، والبحر يغني عند قدميه، والضباب يؤزره ليحلم ، أفلا يلد خياله أساطير كانت أم الثقافة العالمية؟!
لبنان هو الأولمب الأول، وقد فاق جوفانس لما جعله الصوفيون مقرا لأبدالهم، إنه آدم الخيال الإنساني وحواؤه، فمن قممه المتمردة رفع بنوه عرشا لهركيل، ومسرحا لأدونيس، وخدرا للزهرة، ومن طيوبه صنعوا عشا لفينيق رمز القيامة والحياة المتجددة؛ رموز عبقرية أفرغها الخيال اللبناني على الحقيقة فنعم بها الإنسان زمنا.
منى إن تكن حقا فتلك هي المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
للثقافة منبعان: دين حافل بالرموز والأسرار، وخيال يحلم بالجمال فيخلقه، وكلاهما انبثقا من لبنان فعما البحار وما وراءها، أبصر اللبناني جبلا قلق المجاز وبحرا مكارا لا يؤخذ بالعنف، فشرع يحتال للنفوذ في ذلك المضيق.
وتحرك الخيال اللبناني الأول فكانت فتنة بين أبناء الهواء وبنات الماء، صرعت فأس اللبناني عمالقة الأرز وجعلها مراكب فدان له البحر، ورأى المستقبل مظلما فتحرك خياله أيضا فخلق الأبطال والآلهة، وتحرك أيضا وأيضا فكان البناء والأرجوان والزجاج والطرف والتحف.
وتحرك أخيرا خيال الطموح فمشى البحارة أبناء الشمس فاستعمروا الشرق والغرب، وفتحوا الدنيا سوقا لحضارتهم وفنونهم، فحق لهم أن يرددوا قول ابن عمهم عمرو بن كلثوم ولا ابتهار:
كأنا والجواري منشآت
ولدنا الناس طرا أجمعينا
ملأنا البحر حتى ضاق عنا
وظهر البحر نملؤه سفينا
وأبى الخيال اللبناني أن يستريح فأنشأ سفر التكوين الأول، وعلم أفلاطون حقيقة «الوجود الفاهم» وافترض «الجواهر الفردة» لحل عقدة الهيولى، ووضع «أبجديته» مستودع الثقافة الحاضرة، ولا يزال بعضها كما رتبوه هم منذ خمسة آلاف سنة أبجد
ABCD
كلمن
KLMN
قرشت
QRST .
فليست الثقافة اللبنانية وهما من الأوهام، ولكنها حقيقة تقدم كل الكائنات حديثها، ولا قبلها قبل كخمرة ابن الفارض.
تقدمت موسى وحمورابي، وألهمت هومير وماريني وشكسبير، ولا يزال بعضها حيا في أقدس أمانينا، فمن هذه المزرعة المنتشرة على سيف بحرنا، من هذا المليمتر من مصور الدنيا الضخم، خرج خيال جبار كسا العراة برفيرا وأرجوانا، وبدل بالكهوف القصور والهياكل الرفيعة العماد، وصار معلم القرون الأولى.
فمن يصدق أن شعبا عبقريا كشف أسرار الكون لا يدرك سر احمرار مياه نهر إبراهيم؟ إن منطق المعتقدات يجتاح دنيا العقول ويكتسحها، هنيئا لهم مجدهم الفذ، فلا يشوب فخرنا بهم شيء إلا أنهم لم يعشوا إلى ضوء نار الهدى مثلنا، فضلوا وتاهوا، وأنهم يعذبون اليوم في جنهم، وا أسفاه!
أتقولون إن إحسانهم إلى الإنسانية لم يشفع لهم عند ربهم؟ فلولا أبجديتهم ما قرأنا كتبه المنزلة، ناهيك أن جهنم عرفت بعدهم، والقانون لا يشمل ما قبله مدنيا ولاهوتيا، الجاهل معذور، وأخيرا أقول: ما لنا وللجدل العقيم! فلنسلم مشاطرين الأب مرتين اليسوعي - صاحب تاريخ لبنان - أسفه العميق لهلاك نفوس أوائل اللبنانيين، ممدني البشرية.
كلما بلغت نهر إبراهيم أتخيل نساء بلادي باكيات على تموز، وكلما دخلت جبيل أتمثل الكهنة يندبونه في الشوارع، حتى إذا بلغت عين كفاع ومررت بكنيستها البعلبكية الأساس أقول في نفسي: من هنا طرد زين الآلهة أدونيس ليحل محله ابن أراراط؛ أي مار روحانا، الجالس سعيدا فوق مذبح كنيستنا.
وتتداعى الأفكار فتنبري كلمة الأخطل: هو الدين يا أخا العرب، فاصمت.
غريب إيحاء بلادي، كل حجر من حجارتها سفر جليل، وإن قيل: أبهذه الخرافات تفتخر؟! أجبت: من منا بلا خطيئة فليرجمها بحجر.
خلقت العين البشرية جمالا قيل له كن فكان، أما العين واليد اللبنانيتان فاستلهمتا خيالا لا يضل كالحك الذي اخترعوه، فأبدعتا كونا جديدا حافلا بطرف الفن وروائع الفكر.
وأراهم خيالهم السامي أن التطور سنة الحياة وأقدس نواميسها، فداروا مع الزمن محتفظين بخواصهم الاكتسابية والغريزية، فعدوا عن لغتهم الهرمة، وخطبوا لغة بني عمهم الجميلة، نصروها عزيزة وأحبوها مقهورة، فبينا كانت كتبها تتدهور في دجلة والفرات وتحمى بها الأفران والحمامات، كانوا يخبئونها في أحشاء كهوفهم - وهل كانت الديورة إلا كهوفا! - وتنكر لها الناس حتى بنوها الخلصاء، فآووها هم ونصروها، وأفرغوها حلة قشيبة على كتابهم المقدس، فاحتبت ناعمة البال عن يمين المذبح، وأمست لغة خيالهم وأحلامهم.
تصوروا راهبا لبنانيا - المطران جرمانوس فرحات - ينتقل في أواخر القرن السادس عشر، بين أعمدة جامع قرطبة ومحرابه، يتأمل بإعجاب وإجلال آثار ذلك الفردوس المفقود. أما مات ذلك الراهب عشر موتات قبل بلوغ الأندلس؟
وتحرك الخيال اللبناني بعد حين، فرأينا كاهنا آخر يركب البحر بينما كان شاعرنا العربي يقول:
لا أركب البحر أخشى
علي منه المعاطب
طين أنا وهو ماء
والطين في الماء ذائب
إلى رومة أبحر السمعاني حاملا على سفن أجداده حاصلاتنا الثقافية، وفي مكتبة الفاتيكان هدأ روع العربية الملهوفة، وهناك خلدت ذكر السمعاني كما خلد السمعاني ذكر العرب بما ترجم للبابا إكليمنضوس الحادي عشر. هذا حديث البحر، وقد أحتاج إلى معجم كلاروس إذا عمدت إلى ذكر الأعلام، فلنختصر.
اللبناني قديما وحديثا، مطبوع على الأخذ والعطاء، وفلسفة النفس الحديثة تثبت أن للوراثة والجنس تأثيرا في العبقرية، فإذا ورث الرجل عن أبويه تخيلا شديدا، هيأه هذا الاستعداد للشعر أو للتجارة أو المالية. وصورة العبقرية تختلف بحسب المحيط، وهذا ما عملته العبقرية اللبنانية، تعلم اللبناني لغات الغرب، وعلم الغرب لغات الشرق فكان تبادل الثقافات - كتبادل البضائع - ينعش الأسواق، وهكذا انتعشت اللغة العربية ووجد المتمشرقون.
ثابت علميا أن التطعيم خير الوسائل وأجداها لترقية الأنواع، وهذا ما عمله الخيال اللبناني المعاصر في الأدب العربي، طعمه بالثقافات الأخرى فأتم ما بدأ به العباسيون الأوائل. والثقافة كالمتجر تنمو وتزداد بالتبادل والعمل المنتج، واللبناني تاجر عبقري، وصورة الثقافة كما قالوا تختلف باختلاف المحيط والزمان.
اعترى لغتنا الجميلة شلل كاد يذهب بحياتها وجمالها، فتحرك الخيال اللبناني فإذا باليازجي يقف بإزاء الحريري.
ثم تحرك الخيال اللبناني وانتفض ذلك العرق الأصيل في أحمد فارس الشدياق، فخلق الأدب الجديد في الفارياق وكشف المخبأ، وأخرج لسان العرب من سراديب الحريري ودهاليز القاضي الفاضل.
وتحرك الخيال أيضا فكان الكشف والإشراق على عقل الشدياق النير فأبدع سر الليال، ثم نفخ في الصحافة نفخة أحيتها وكان من ذريته النبيلة إسحاق والحداد وعبده وصروف وزيدان وتقلا وغيرهم ممن أعجز عن عدهم .
وأبى اللبناني أن يستقر فعاد مارون النقاش من أوروبا يحمل إلينا المسرح، وكان بيته أول مسرح عربي.
وهب المعلم بطرس البستاني يطعم ويلقح، فأخرج من «جنانه» ثمارا جديدة شهية، وجاءنا بالمحيط «الهادئ» و«الدائرة» التي جعلت منه جماعة في رجل.
ثم ضاقت بالخيال اللبناني أرضه، كما ضاقت من قبل، فكانت الهجرة الثانية إلى الأقطار التي اكتشفها اللبناني الأول، فحمل لغته في قلبه ولسانه، وهب ينشرها في قارات الدنيا الخمس.
للأديان رسل ومبشرون، واللبناني رسول لغته لا دينه، ينقل منها وإليها، وكما نشر اللبناني الأول أبجديته واختراعاته في دنيا الأمس، فها هو ذا لبناني اليوم ينشر لسانه العربي مبشرا برسالته الخالدة.
وأبى الخيال اللبناني أن يهدأ فكانت المدرسة الرومنطيكية الرمزية، فخلقت القصة والشعر والنثر الجديدين.
إنه لدم جديد لقحت به مدرسة جبران والريحاني أدبنا العربي الحديث فوهبته مناعة ووقاية.
وأبى الخيال اللبناني أن يستقر فكانت في لبنان مدرسة شعر جديدة، فيها ازرقاق البحر، واخضرار الأرز، وابيضاض الثلج، واحمرار الشفق، ووحي الغسق، والموسيقى البعيدة القرار.
ولا يزال الخيال اللبناني عاملا لا يستقر ولن يستقر، فالسديم يصير نجما، والنجم يمسي كوكبا، ثم ينطفئ ليشع غيره. لا يتوارى نظام شمسي حتى يظهر وراءه نظام آخر، إن الأرض لا تظلم ما دام الخيال ساطعا.
وكأني بالقارئ ينتفض قائلا: هات لنا مثالا لخيال لا وجود له إلا في خيالك. وأنا أجيب: على رأسي ثم عيني.
إن جبران خير مثال للعرق والبيئة اللبنانيين، قديما وحديثا، فالشوق والضباب الجبرانيان من عمل الخيال اللبناني الأول؛ فسفر التكوين اللبناني، وهو أقدم الأسفار عهدا، افترض الشوق فاعلا والضباب منفعلا، فجبران في خلقه وخلقه لبناني أصيل، يدين بالروح والحب، ولكنهما ماديان كما تخيلهما اللبنانيون الأول، فما المطرة نبي جبران غير ميترا روح النور الإلهي، وكأني بالعرق اللبناني قد تجمع كله في هذا الرجل ليجعله مثالا لثقافته وخياله في عهديهما، ويرى الناس تطورهما في مسالك العصور.
عندما خطر لي هذا الموضوع خفت جماح العاطفة، فاقترضت عدة ديكارت هنيهة وقلت: ماذا يحدث لو امحى لبنان من سفر الوجود؟
فرأيت السهول أقفرت، والجنان صارت هشيما، والقرى والمدن والمدارس أمست خرابا، فقلت: حقا إن لبنان خزان الله العظيم.
ثم وثب الخيال وثبة أخرى فافترضت أن نسور هذا الجبل الملهم لم تطر أفواجا أفواجا إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا، فرأيت ظل العربية يتقلص بعد انتشاره، وخلت الدهر يمشي القهقرى، فارتعت كمن دهمه الغروب صلاة الظهر، فقلت: إذن والله نحن موجودون وليس ما أزعم تبجحا وابتهارا.
فإلى التفكير والتأمل أدعو الشباب المثقف والكهول العاملين، والشيوخ الذين لم يعدموا طراوة النفس، إن الخلق يقتضيكم تأملا عميقا، ونقاشا صارما وانتقادا مرا، وسعيا متصلا. العبقرية هبة اجتهاد وثقافة، والإشراق لا يدركه إلا المتأملون.
قال ريبو: المصادفات السعيدة لا تعرض إلا لمستحقيها. ففكروا لكي تستحقوها وتنتجوا ثمارا شهية تضعونها بكل فخر على مائدة أدبنا العربي الخالد، وإلا فإنكم تقطعون الجاه الطويل العريض الذي خلعه الخيال اللبناني على لساننا العربي المبين.
Unknown page