Haqiqa
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
Genres
وكما في الحيوان كذلك في النبات أيضا؛ فإن كثيرا من الطائفة الثعلبية يلد ألوفا من الجراثيم، وهو مع ذلك قليل جدا حال كون بعض المشععة من الطائفة المركبة كثيرا جدا، مع أن بذوره قليلة، فعدد الأشخاص التي تحيا لا يتوقف ضرورة على عدد الجراثيم، بل على أحوال مختلفة غالبا على نسبة متبادلة بين الحي والأشياء التي من خارج، فما كان من الأحياء أنسب من غيره سلم وبالعكس، وقس على ذلك سائر الأحياء مع سائر الأحوال الطبيعية الحيوية، فهذا ما يسمى في مذهب التحول «تنازع البقاء»، فهل يشك الآن في أن تنازع البقاء حقيقة وجودية كحقيقة الاختلاف؟
ثم إذا سلمت بهذا التنازع بين الأحياء، وجب عليك ضرورة أن تسلم ببقاء البعض وفناء البعض للأسباب المار ذكرها، وهذا ما يراد «بالانتخاب»، ويسمى «طبيعيا» إذا كان بين الأشياء التي من خارج وبين الأحياء، أو بينها بعضها مع بعض، و«صناعيا» إذا كان بواسطة الإنسان، كما في الزراعة وتربية المواشي كما مر، فالانتخاب الطبيعي ليس فرضا بدون إثبات، أو رأيا من صور الوهم كما قدمت، وكما يدعي خصوم دارون؛ لأن دارون - كما رأيت - لا يقول في تحول الأحياء بأسباب طبيعية مجهولة حتى يكون الانتخاب فرضا؛ بل يجعله نتيجة لازمة لأعمال حيوية معروفة كالمطابقة التي هي نتيجة التغذية، والاختلاف الذي هو نتيجة المطابقة، والتنازع الذي هو نتيجة الاختلاف. فالانتخاب الطبيعي نتيجة لازمة للتنازع، ولا يصح في قياس عاقل أن يجعل الانتخاب الطبيعي بعد ذلك فرضا، ولا سيما إذا كان عنده أقل إلمام بمبادئ الفسيولوجية.
وربما سلم خصوم دارون بالاختلافات المذكورة، ولكنهم لم يسلموا بصيرورتها جوهرية بحيث تتكون عنها الأنواع، فقالوا: إن الاختلافات لا تتناول إلا الأعراض فقط، فنقول لهم: إنه لا يلزم لإثبات مذهب الانتقال غير التسليم بحصول الاختلاف لاختلاف الأحوال، فالاختلاف الذي يكون بين الأحياء يجعل الأولاد تختلف فيما بينها، وتختلف عن الأصل المتولدة منه، وبتنازع البقاء والانتخاب الطبيعي يهلك بعض الأولاد، ويبقى البعض الآخر، فهذا الباقي مختلف عن أصله - كما رأيت - ومختلف فيما بينه.
ولا يخفى أن في البيولوجية ناموسا معلوما كثير الاعتبار جدا هو ناموس «الوراثة»، فهذا الباقي المختلف والمتميز ببعض صفات مناسبة لأحوال المكان والزمان تنتقل صفاته المتميز بها في بذارته أو نسله، وتتوضح أكثر وتتكيف بكيفيات أخر تختلف عنها في الأصل، وقل مثل ذلك أيضا عن بذارة هذا الباقي، وهكذا عن بذارة بذارته. وانظر إلى ذلك بتلسكوب الزمان في ألوف الأجيال، بل ربواتها، ثم قل لي إذا كان يمكن بعد ذلك أن تبقى الأبناء كالآباء، وإن لم تستطع فاهمس لي في أذني، فإني أقبل عذرك؛ فليس جميع الناس سواء في التصريح عن آرائهم، وأكثرهم على ما وصف الإمام الغزالي في بعض كتبه حيث قال: «إن الآراء ثلاثة أقسام، رأي يشارك فيه جمهور فيما هم عليه، ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد، ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده.» ا.ه.
قال ابن خلدون متكلما في التاريخ: «وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة فلا بد وأن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم، ويأخذوا الكثير منها، ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك، فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول، فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم، ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة، ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة.» ا.ه.
وهذا القول إذا أطلق على أثر الطبيعة وأطوارها في الأحياء لم يلزم أن يضاف إليه شيء لتعليل المباينة في مذهب دارون.
قلنا: وإذا لم يكن بعد قطع هذه المسافات الطويلة أن تبقى الأبناء كالآباء، أفلا يصير الاختلاف بعيدا جدا، وإذا بعد أفلا يصير جوهريا - لا تنس ربوات الأجيال - أولا تكون نتيجته تكون التباينات والأنواع وما شاكل. مثال ذلك: لو نمت نباتات مختلفة في أرض يابسة لاقتضى أن تتنازع أولا مع اليبوسة، وثانيا بعضها مع بعض، ولما كان الوبر الدقيق الذي يكسو الورق يفيد لامتصاص الرطوبة من الهواء، كان من الضروري أن يفوز في هذا التنازع ما كان هذا الوبر في ورقه كثيرا، ويهلك ما سواه.
ثم يقوى هذا الوبر في الجيل الثاني بالوراثة والانتخاب والتنازع، ويتميز جيلا عن جيل حتى يتكون منه نوع جديد، ثم إن نتائج الاختلاف لا تقتصر على عضو واحد، بل تمتد إلى سائر الأعضاء، فيحصل عن زيادة نمو وبر الورق نقصان في نمو أعضاء أخرى، كالزهر مثلا؛ لانصراف جزء من غذائه في نمو الأوراق، فيكون لتنازع البقاء نتيجة أخرى غير الانتخاب الطبيعي، وهي «التحويل» أيضا.
وهذا كل ما يلزم لتحول الأحياء، وتكون الأنواع، فكان الأولى بهؤلاء الخصوم الحريصين على الموروث أن يقصروا تشبثهم على مبدأ الحياة لا على فعلها في تحويل الأنواع؛ لأن الاتفاق على الحياة - أقوة طبيعية هي أم قوة فائقة الطبيعة؟ - ربما كان أبعد من الاتفاق على تحول الأحياء، ولا يخفى أنه كلما بعد الاتفاق كان ذلك أنسب لهم.
الفصل الثالث
Unknown page