[2.25]
{ وبشر } خبر وأصل البشارة إظهار السرور فى بشرة الوجه وهى جلدته، فإن النفس إذا فرحت انتشر الدم كما ينتشر الماء فى الشجرة. فاستعملت فى الخبر الذى يسر من سمعه، كأنه قيل أظهر أثر الفرح فى وجوه المؤمنين بإخبارك إياهم أن لهم جنات. وإنما يظهر كمال ظهور بالخبر الأول. فمن قال لعبيده من بشرنى بقدوم ولدى فهو حر، فأخبروه فرادى، أعتق أولهم. وقد قيل إن البشارة هو الخبر الأول وإن قال من أخبرنى، فأخبروه واحدا بعد واحد عتقوا جميعا. إلا أن نوى غير ذلك فله نيته. واستعمال البشارة فى الخبر حقيقة، وفى الشر مجاز على طريق التهكم بالاستعارة التبعية لعلاقة التضاد، أو على طريقة قوله تحية بينهم ضرب وجيع، من حيث إنه خبر غير سار وإن لم يكن فيه تهكم والخطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - أو لعالم كل عصر من زمانه - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر الدهر، فشمل النبى - صلى الله عليه وسلم - وخلائقه، وهم العلماء، أو لكل من يتأهل أن يبشر المؤمنين ويقدر عليه، والمتبادر هو الوجه الأول. والثالث أوكد وأبلغ. لأنه يشعر بأنه ثبوت الجنات لهم حقيق بأن يبشرهم به كل من قدر على التبشير به، لعظم شأنه لكن الوجه الأول مع مبادرته قد تضمن هذا، لأن الحكم الذى خوطب به النبى صلى الله عليه وسلم حكم لأمته تبعا له شرعا، فقد أشعر شرعا أن الأمة حقيق لهم أن يبشر به بعضهم بعضا. والثانى أظهر فى المراد، غير أن العلماء أيضا يتبعهم غيرهم فى التبشير، كما اتبعوا هم النبى - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل أبشروا يا أيها الذين آمنوا إن لكم جنات تفخيما لشأنهم، وإشعارا بأنهم احقاء أن يبشروا أو يهنئوا بما أعد الله لهم، والحملة مستأنفة، متصلة فى المعنى، بقوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار } لأن كلا منهما وصف لحال فريق وجزاؤه. فالأولى وصف لحال من كفر بالقرآن وكيفية عاقبته. والثانية وصف لحال من أمن به وكيفية ثوابه، وزادت الجملتان اتصالا إذا كان الإيمان والكفر جميعا بشىء واحد، وهو القرآن. وقد جرت سنة الله فى كتابه أن يعقب الترهيب بالترغيب. والترغيب بالترهيب. زجرا عما يردى عن الله وإعزاء بما ينجى أو مستأنفة متصلة فى المعنى بقوله { فاتقوا النار } للمشاكلة بالتضاد بالإنذار والتبشير، لأنهم إذا لم يأتوا بمثل سورة منه بعد التحدى ظهر إعجازه، وإذا ظهر فمن كفر استوجب العقاب بالنار، ومن آمن استوجب الجزاء بالجنة، وذلك يستدعى أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء وقرأ زيد بن على وبشر - بالبناء للمفعول - على أن الجملة مستأنفة متصلة فى المعنى بأعدت.
ويجوز عطفها على أعدت إذا جعلنا أعدت مستأنفة. والمعنى أن النار أعدت للكافرين، والجنات للمؤمنين. لا إذا جعلناها حالا أو صلة بعد صلة، لأن المعطوف على الحال أو الصلة حال أو صلة، فيحتاج لرابط ولا رابط فى بشر. { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ترى الإنسان يقيد كلامه مرة واحدة بقيد، فيحمل سائر كلامه المطلق على هذا القيد، فكيف يسوغ لقومنا أن يلغوا تقييد الله عز وجل الإيمان بالعمل الصالح مع أنه لا يكاد يذكر الفعل من الإيمان إلا مقرونا بالعمل الصالح، بل الإيمان نفسه مفروض لعبادة من يجب الإيمان به، وهو الله تعالى، إذ لا يخدم الإنسان مثل سلطانا لا يعتقد بوجوده وبثبوت سلطنته، فالعمل الصالح كالبناء النافع المظلل، المانع للحر والبرد والمضرات، والإيمان أس فلا ينفع الأس بلا بناء عليه، ولو بنى الإنسان ألوفا من الأسوس ولم يبن عليها، لهلك باللصوص والحر والبرد، وغير ذلك. فإذا ذكر الإيمان مفردا قيد بالعمل الصالح، وإذا ذكر العمل الصالح فما هو إلا فرع الإيمان، إذ لا تعمل لمن لا تقر بوجوده، وفى عطف الأعمال الصالحات على الإيمان دليل على أن كلا منهما غير الآخر، لأن الأصل فى العطف المغايرة بين المتعاطفين. ففى عطف الأعمال الصالحات على الإيمان إيذان بأن البشارة بالجنات، إنما يستحقها من جمع بين الأعمال الصالحات والإيمان، لكن الأعمال الصالحات تشمل الفرض والنفل. والمشروط الفرض وأما النفى فزيادة خير، قلت العمل الصالح ما أمر به الشرع استحبابا أو إيجابا، وقال بعضهم العمل الصالح ما كان فيه أربعة أشياء العلم والنية والصبر والإخلاص. وقال عثمان بن عفان وعملوا الصالحات أخلصوا الأعمال عن الرياء وغيره مما يفسدها، لأن العمل الذى لم يخلص غير صالح، والصالحات جمع صالحة، اسم فاعل فى الأصل، تغلبت عليه الاسمية. ولا مانع من بقائه على الأصل. والتقدير الفعلة الصالحة - بفتح الفاء وإسكان العين - أو العملة الصالحة - بفتح العين وإسكان الميم - أو الخصلة الصالحة أو الخلة الصالحة، ومما يحتمل تغلب الاسمية والبقاء على الأصل قول الحطيئة
كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتينى
قال زكرياء دعا النعمان بحلة من حلل الملوك، وقال للوفود وفيهم أوس بن حارثة بن لام الطائى احضروا غدا فإنى ملبس هذه الحلة أكرمكم، فلما كان الغد حضروا إلا أوسا، فقيل له فى ذلك قال إن كان المراد غيرى فأجمل الأشياء بى ألا أحضر وإن كنت المراد فسأطلب. فلما جلس النعمان فلم ير أوسا طلب وقيل احضر آمنا مما خفت، فحضر وألبس الحلة، فحسده قوم من أهله وقالوا للحطيئة اهجه ولك ثلاث مائة بعير. وروى مائة بعير، فقل كيف الهجاء وما تنفك صالحة البيت وتنفك تزال، ويظهر الغيب حال.
أى ملتبسا بالغيب أى غائبا. والظهر مقحم للتأكيد. معنى الغيب. وتأتينى خبر تنفك. وأل فى الصالحات للاستغراق. على أن المراد به الفروض وإن قلنا الفرض والنقل فللحقيقة الصادقة بالفرض، ولا بد وبالنفل غير مشروط لا للاستغراق إذ لا يكاد مؤمن يأتى بجميع الأعمال الصالحات فرضها ونفلها. { أن لهم } أى بأن لهم. { جنات } الجنة الأشجار المظلة سميت لأنها تستر ما تحتها بالتفاف أغصانها مبالغة أو تحقيقا. قال زهير بن أبى سلمى
كأن عينى فى غربى مقتلة من النواضح تسقى جنة سحقا
فسمى النخل جنة لأنها تستر ما تحتها إذا كانت صغيرة أو تستره عما يعلوها من طائر أو سماء أو غيرهما، والسحق الطوال، والغرب الدلو العظيمة الممتلئة ماء، وهو فى البيت مثنى. والمقتلة الناقة المذللة للسقى، والنواضح جمع ناضح وهو البعير الذى يسقى عليه. وخص المقتلة لأنها تخرج الدلو مليئا بخلاف الناقة الصعبة فإنها تنفر فيسيل الماء من الدلو. وخص النخل لأنه أحوج الشجر إلى الماء وخص النخل الطوال لأنها أحوج النخل. وجعل عينيه فى الغربين ولم يجعلهما غربين. كناية لطيفة، كأنما ينصب من الغربين ينصب من العينين. وتسمى الأرض التى فيها الأشجار جنة أيضا، لأن ما فيها الأشجار ليستر ما تحته لالتفافه. وسمى الله دار ثوابه جنة، لأن فيها أجنة ملتفة ساترة. قال ابن عباس وجرير بن عبد الله وغيرهما سميت الجنة جنة لأنها تجن من دخلها أى تستره، وكل جنان جنة، وجمعها جنت. كما فى الآية. وأصل ذلك كله من جنه أى ستره. ومن ذلك سمى القلب جنانا، وما فى بطن الحامل جنينا، وسترة القتال جنة وضد الإنس جنا وجنة، وقيل سمى دار ثوابه الجنة، لأنه ستر فى الدنيا ما أعد فيها للبشر من أنواع النعم. كما قال الله تعالى
فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين
وقيل الجنات الحدائق ذات أشجار ومساكن. واعلم أن الجنة مشتملة على سبع أنواع كما ذكره ابن عباس جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليين، وكل واحدة من هذه الأنواع السبعة مشتملة على جنات كثيرة متفاوتة، بحسب قوة الأعمال وكثرتها والمبالغة فى الإخلاص وغير ذلك. ولذلك جمعت فى الآية ونكرت، قيل الجنة ما فيه شجرة ونخل. والفردوس ما فيه عنب. واللام فى قوله لهم، لام استحقاق. والمراد أن المؤمنين استحقوا الجنات لأجل الإيمان والعمل الصالح، من حيث ترتب عليهما الاستحقاق، لا لذاتهما، فإنهما لا يكافئان النعم السابقة، ولا يعاد لان الذنوب الصادرة، بل لا لنعمة واحدة ولا ذنبا واحدا، فضلا عن أن يقتضيا ثوابا. ولا سيما ثواب هو الجنة، كيف وهما نعمتان يجب عليهما الشكر، وكل شكر صدر استحق شكرا آخر عليه، لأنه نعمة، ولا يوهمك خلاف ذلك ما ورد فى الآثار أن ثواب العمل كذا وثواب العمل الآخر كذا، لأن معناه أن الله - تبارك وتعالى - جعل من فضله ورحمته أن عمل كذا له كذا من الخير، وليس المراد أن ذلك ثواب يوجبه العمل، ويكون عديلا له مستويا معه استواء ربع الربا له مع خياطة الجبة، وسقى القربة مع مد شعير، ويدل لذلك أنه - تعالى - غنى على الإطلاق، لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية، وأن كل عمل صالح عمله الإنسان أو غيره، فهو نعمة من الله عليه، ثم إن المؤمنين يستحقون الجنات إن ماتوا على الإيمان غير مرتدين ولا مصرين لقوله تعالى
Unknown page