[1 - سورة الفاتحة]

[1.1-7]

{ الحمد لله } - أل فى الحمد للاستغراق، وكأنه قيل كل فرد من أفراد الحمد لله. وإن قلت فالاسم بعده نكرة، إذا قلت بل معرفة فإن أل لتعريف الجنس، بغير كونه مراد به استغراق أفراده، تلك هى الحقيقة، واختصاص الجنس على هذا الوجه لا يستلزم اختصاص جمع الأفراد، فيظهر أن الحمل على الجنس محافظة على الجنس محافظة على مذهبه، إلا أن يقال إنه يمكن اختيار الاستغراق، بناء على تنزيل ما عدا محامده - تعالى - منزلة العدم، إذ لا يعتد بمحامد غيره - تعالى - بالقياس إلى محامده. فلا فرق إذا بين اختصاص الجنس والاستغراق، فى أنهما ينافيان ظاهرا طريقة الاعتزال فيه قاعدة خلق الأعمال وأن منافاتهم تندفع بأحد الجوابين المذكورين فلا ترجيح لاختيار أحدهما على الآخر من هذا الوجه. وقال ابن عبد السلام هى للعهد أى لتعريف الشىء المعهود. وأجازه الواحدى على معنى أن الحمد الذى حمد الله - سبحانه وتعالى - به نفسه، وحمده به أنبياؤه مختص به تعالى. وبحث بأن الحمد الذى حمد به نفسه وحمده به من ذكر من لازمه أنه مختص به، فلا حاجة إلى دلالة الجملة عليه ولا فائدة فيه، إذ لا يتصور إضافته لغيره. وأجيب بأن الذى هو من لازمه الاختصاص الوقوعى، والمقصود الدلالة على الاختصاص الاستحقاقى تأمل والعبرة بحمد من ذكر، فلا فرد من الحمد لغير الله تعالى وأولى الأقوال أنها للجنس لأن فيه سلوك طريق البرهان ويزيد بالنسبة للثالث. إن العهد لا يفيد اختصاص الحمد مطلقا. وكما يقال للام التعريف إنها للجنس، يقال إنها للحقيقة وللطبيعة وللماهية المطلقة، والماهية تارة تعتبر بشرط لا شئ، وتارة لا بشرط شئ، والأولى مقيدة بالعدم. وقد تسمى مطلقة كتسمية الماء المقيد بعدم التغير بالماء المطلق. والمراد هذا المطلقة بالمعنى الثانى. واعلم أن أل إذا دخلت اسم جنس فإما أن يشار بها إلى حصة معينة من مسماه فردا كانت أو أفرادا، مذكورة تحقيقا أو تقديرا. وتسمى لام العهد الخارجى، ونظيره العلم الشخصى. وإما أن يشار بها إلى مسماه من حيث هو كما فى التعاريف. ونحو قولك الرجل خير من المرأة، وتسمى لام الحقيقة والطبيعة، ونظيره العلم الجنسى. وإما أن يقصد المسمى من حيث هو موجود فى ضمن الأفراد بقرينة الأحكام الجارية عليه الثابتة له فى ضمنها. فأما فى جميعها كما فى المقام الخطابى لعلة إيهام فىأن القصد إلى بعضها دون بعض، ترجيح لأحد المتساويين على الآخر. وتسمى لام الاستغراق. ونظيره كلمة كل مضافة إلى نكرة، وأما فى بعضها كقولك ادخل السوق حيث لا عهد، ويسمى معهود ذهنيا، ومؤداه مؤدى النكرة.

وأدرج المعاينون العهد الذهنى مع العهد الذكرى، تحت قولهم العهد الخارجى. وجعلوا الذهنى أن تكون الإشارة باللام إلى الحقيقة، ومن حيث وجودها فى ضمن الأفراد كقولك ادخل السوق واشتر اللحم، حيث لا عهد فى سوق أو اللحم. ومعنى أل مطلقا التعريف، ولام الاستغراق جنسية أيضا فيما ذكر المحققون.. والله أعلم. والحمد هو الثناء على الجميل الذي ليس باضطرارى من نعمة أو غيرها على جهة التعظيم، وإنما قلت الذى ليس باضطرارى ليشتمل ما هو اختيارى وما لا يصدق عليه أنه ضرورى، والاختيارى كصفات الله الذاتية فإن إطلاق الضرورة عليها محال لاقتضاء أنه مغلوب مقهور، تعالى عن ذلك وعن كل نقص، ولاقتضائه حدوثها فإن المقهور به حادث أحل فى المقهور وإطلاق الاختيار عليها محال أيضا لاقتضائه حدوثها، وأنه أحدثها بعد أن لم تكن ولا يصح إطلاقه عليها إلا بمعنى مجرد نفى الضرورة أو بتنزيلها منزلة الاختيارية إذا انتفى عنها الاضطرار. وإن قلت الثناء يكون باللفظ فلا حمد مما لا يوصف باللفظ، ونحن لا نشك فى أن الله عز وجل حمد نفسه، ولا فى قوله وإن من شئ إلا يسبح بحمده. قلت المراد إنما هو تعريف الحمد اللفظى، بل لا مانع من جعل حمد الله اللفظى مثل أن يخلق اللفظ فى الهواء، أو فى لسان جبريل، أو زيد مثلا، أو حيث شاء، وأن يخلق اللفظ مستقلا كالذات. والفرق بين الحمد المخلوق على لسان جبريل مثلا، وبين حمده هو لله، أن الأول يجرى على لسانه من غير قصد إليه وإلى تأليفه المخصوص. وأيضا الغالب فى الحمد أن يكون باللفظ ويبحث بقوله تعالى

ما نفدت كلمات ربى

ويجاب بأن المراد الغالبية فى القول الحمدى، وأيضا يصح أن يقال أريد بالثناء ما عدا ما يكون بالجنان والأركان. وعبرنا بالثناء لأن الغالب حمد باللفظ، وحاصل التعريف أنه ثناء يكون باللسان غالبا، ولا يرد عليه أنه يلزم دخول ما بالجنان والأركان فى الجملة. لأن المراد أن الحمد هو الثناء على وجه يكون ذلك الوجه غالبا باللسان، أو الحاصل أنه الثناء بغير الجنان والأركان. والمراد بالثناء الإتيان بما يدل على الجميل من قول ونحوه، وإن لم يكن باللسان فيكون حمد الله تعالى نفسه مثلا الدلاله على الاتصاف وإثبات القول اللفظى قائما بذاته منزها به عن الترتيب والحدوث والزوال والكلام النفسى، أى المعنى لا اللفظى يفضى إلى التشبيه بجعله محلا. وإذا أوجد الله سبحانه لفظا فى محل أو فى الهواء، فقد صح صدور القول وما يدل على الاتصاف من غير الجنان والأركان، فيكون حامدا وليس من شرط إطلاق كل مشتق حقيقة لن يقوم المبدأ بمن أطلق عليه حقيقة. ألا تراهم يقولون حداد ولبان وتمار، ولابن وتامر، وليس الحديد واللبن والتمر حادثة منه حدوث أفعاله منه، فيجوز كون الحمد من هذا القبيل، فيكون حمد الله لنفسه حقيقة، وهو حامد حق ويدل لذلك أن كل كمال يجب ثبوته له، ومن الكمال أن يكون محمودا حق الحمد، وغيره لا يقدر على حق الحمد.

وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم

" سبحانك ما عرفناك حق معرفتك "

وورد عنه صلى الله عليه وسلم

" لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "

وإن قلت من الكمال أن يعبد حق عبادته، ولبس معبودا حقها، قلت الفرق ظاهر، لأن عبادة الشئ نفسه غير معقول، بخلاف حمد نفسه، فلا يكون هذا نقضا. وأما قوله تعالى

وإن من شئ إلا يسبح بحمده

فمجاز، ولكل شئ كلام إذا أراد الله أسمعه من شاء، كما سلم الحجر والشجر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولك أن تقول ما فى الكتاب والسنة مما يخالف التعريف السابق. ما أول مصروف عن الظاهر، فقول الله تعالى { الحمد لله } إخبار باستحقاق الحمد، أو رجوع المحامد، أو ثبوت كماله، أو اختصاص الحمد، أو أمر بالحمد أو الإخبار، أو مجاز عن إظهار صفة الكمال. وهو بالفعل أقوى، أو هو حمد شرعى، وهو أعم من اللغوى المراد بالتعريف فلا يلزم ما فى المجاز المحض من البعد والمنقول الشرعى أكثر من أن يحصى، والنقل والاصطلاح لا يثبتان بالاحتمال، لكن ثبت الدليل الظنى من الثقات أن الحمد اللغوى إنما يكون بالآلة. وقد ثبت فى الشرع الحمد ممن تنزه عن الآلة. وكلام الشارع محمول على الحقيقة بحسب الإمكان. فالظاهر أن له فيه اصطلاحا، والحمد حينئذ حقيقة عرفية. وهذا القدر بل دونه يكتفى به فى الظنيات، أما ترى أن الوضع الشرعى غالبا لم يثبت إلا بالإمارات، واحتمال شهرة المجاز موجود فى الكل أو الحل، ورجح بعض من خشى على المطول أن الحمد مما ليس له لسان مجاز، وقال لما ثبت النقل الصريح أن الحمد فى اللغة لا يكون إلا فى اللسان، تعين أن يكون الحمد إذا أطلق على ما لا يكون باللسان مجاز. انتهى. ويبحث بأن النقل إنما يوجب الجزم واليقين لو لم يكن قابلا للتأويل لما جاز التأويل بالصرف عن الظاهر وبأنه حقيقة شرعية لم يتعين المجاز أصلا، وإن أراد بالتعيين كما للترجيح والأولوية مبالغة لأن المسامحة فى التعريف بعيدة جدا، ففيه أن حمل نص الكتاب والسنة على المجاز فى مواضع عديدة أبعد، وقد تقرر أن الحمل على المجاز لا يجوز إلا عند المانع من الحقيقة والمسامحة فى التعريف، ولا سيما فى العلوم النقلية والمعانى اللغوية عند قيام القرينة شائعة وإطلاق الحمد والثناء فى كلام الله تعالى ورسوله والبلغاء والعرب العرباء على ما ليس باللسان قرينة تامة والأرجح حمل مثل ذلك التعريف على المسامحة بالتأويل فى كلام الله ورسوله والبلغاء، وأما ما مر من كونه حمدا شرعنا فلا يدفع البعد بالكلية، والمسامحة فى التعريف أولى وأقرب من ترك الظاهر والحقيقة اللغوية من غير داع، إذ قل ما يوجد تعريف تام خال من المسامحة والتكليف بالكلية على أنه إذا دار الأمر بين الوضع الجديد والمسامحة فى التعريف، فلعل الثانى أولى لما اشتهر من أن المجاز خير من الاشتراك، وما نحن فيه يشبه ذلك.

ومعنى قولنا على الجميل لأجل الجميل بأن يكون الثناء بالجميل بإزائه ومقابله، بمعنى أن المحمود لما كان له ذلك الشىء ذكر جميله وأظهر كماله فهو لأجل حصوله له، ولولاه لم يوصف أى لم يتحقق ذلك الوصف، فهو كالعلة الباعثة للواصف على الوصف، كما فى حمد الله تعالى، إذ لا باعث فى حقه تعالى. أو هو العلة كما فى حمد الخلق، وإنما وجب فى المحمود عليه أن يكون جميلا، وكمالا لأنه لا يكون غير الكمال سببا لإظهار الكمال والتعظيم. ويحتمل أن يكون أعم من الكمال فى ذاته، أو فى زعم الحامد أو المحمود كما فى المحمود به، إذ لا فرق بين المحمود عليه والمحمود به فى ذلك، وقد يفرق بأن الباعث على التعظيم لا بد أن يكون أمرا عظيما عند المعظم، وكون الشىء عظيما عند غيره مع نقصه عنده، لا يصير سببا للتعظيم بخلاف المحمود به، فإنه فى الحقيقة ما يظهر بإجرائه على الموصوف إذ الواصف يعظمه. ولا يبعد أن يظهر ذلك بما هو عظيم عند من يظهر له، وهو المحمود بأيه يفهم منه فى الجملة الكمال وقصد التعظيم. ومن هنا تحقق أن المحمود عليه يجب أن يكون جميلا فى اعتقاد الحامد. وإنما قلت على الجميل يشمل ما هو فعل الفاعل وما ليسه.. وقال الفخر والسعد والدوانى الفعل الجميل يعنى أن فعلا صادرا عن المحمود، كما صرح به الفخر فقال لا يحمد إلا الفاعل المختار على ما صدر عنه بالاختيار، فلا يكفى أن يكون للمحمود دخل فى صدوره عن الغير على وجه الفاعلية، لأن التعظيم حينئذ من جهة تعلق الفعل به لا من جهة كونه فعلا، فيضيع اشتراط كونه فعلا. فإن قلت من الجائز أن يكون للذات اختيار فى حصول صفة، ولا يكون فاعلا لها، فلا يلزم من التقييد بالاختيار أن يكون المحمود فاعلا، قلت هذا لو جاز عقلا لكن النقل يخالفه. وأما الجواب بأن المراد أنه يلزم أن يكون فعلا، وإن لم يكن ذلك محمودا عليه، وذلك لازم من التقييد فهو بعيد عن التحقيق، لأن المحمود عليه يجب أن يكون فعلا للمحمود. فان قلت كثيرا ما يحمد على العلم والكرم والأخلاق العلية النفسانية. قلت المدح يجوز على صفات الذات كالعلم وصفات الفعل كالعطاء.

والحمد لا يجوز إلا على صفات الفعل كالخلق والرزق، ولكن ظاهر تحقيقات المتأخرين أن المراد الفعل عرفا، والعرف يعد ذلك أفعالا، تقول علمت وحلمت، كما يقال أكرمت وأعطيت، وهو كلام النحاة. وقد صرح السيد الشريف وغيره، بكون الكيفيات النفسانية تعد أفعالا، فالحمد حقيقة على الإنعام لا النعمة، إذا النعمة ليست فعلا حقيقة ولا فعلا بالعرف. ولذا قال التفتازانى النعمة بمعنى الإنعام، ولكن قوله فى المطول الحمد على الإنعام أمكن من الحمد على النعمة، يدل على جواز الحمد على النعمة، وهى غير فعل لا تحقيقا ولا عرفا. فلعله أراد جواز الحمد عليها من حيث تعلقها بالمحمود بالصدور عنه لا لذاتها. فيرجع ذلك إلى الحمد على الإنعام والحمد على الإنعام لذاته فكان أمكن. فلا شبهة لعاقل فى أن المحمود عليه يجب أن يكون أمرا فى المحمود، فإن الأمر الأجنبى عن شخص لا يكون سببا لثناء ذلك الشخص وتعظيمه، وإلا كان ممكنا أن يحمد زيد على ما لم يتعلق به من فعل بكر وغيره. وقولى على جهة التعظيم، معناه على جهة التعظيم ظاهرا وباطنا، فيندفع ما قد يقال الكون على جهة التعظيم لا يقتضى حتما أن يكون التعظيم موجودا، لأن الأعم لا يستلزم الصدق بأخص المعين. وتعلم من إطلاقى أنه لا يلزم أن يكون الحمد فى مقابلة إحسان إلى الحامد، وخرج بذكر التعظيم الثناء على الجميل استهزاء أو تقريعا على زعم الموصوف، نحو

ذق إنك أنت العزيز الكريم

وتمليحا أن إتيانا بالشئ المليح للإضحاك أو غيره، أو إخبارا بالواقع. هكذا يقال فى مثل ذلك التعريف، وقد يقال لا حاجة فى خروج الاستهزاء والتقريع إلى ذكر التعظيم، لخروجه بقولهم على الجميل، لأن المحمود عليه. فإن المعنى أن الجميل الاختيارى باعث على الثناء وسبب فيه. ولا يكون الجميل الاختيارى باعثا على الثناء وسببا فيه، إلا على جهة التعظيم. ولا يتصور ثناء متسبب من جميل اختيارى حقيقة على وجه الاستهزاء أو التقريع، إلا أن يقال قولهم على الجميل يشمل ما كان لأجله، بحسب ما يدل عليه اللفظ أو السياق، وإن لم يكن بحسب الحقيقية. وقد يقال يتصور ذلك كما فى إعطاء شئ حقير وإن قلت المستهزئ لم يرد الوصف بالجميل بل بنقيضه، قلت إن إريد الجميل حينئذ مستعمل فى غير ما وضع له تجوزا. فهو ممنوع، فإن القائل بمنزلة من يعلم كذب كلامه، وإلا فقد وجب قيد آخر على أنه لا يجرى فى التقريع. والإيضاح مقصود فى التعريف والتعظيم قسمان ظاهر وباطن، فالظاهر يشعر به اللفظ على أن يكون فى قوله أو فعله مد يدل على التحقير والهزء، والباطن مطابقة الاعتقاد، فإن كان ما يدل على ذلك أو لم يطابق الاعتقاد اللفظ لم يكن حمدا، وكذا إذا قصد مجرد الإخبار، وقد يبحث فيه بأنه لا يعد فى أن يكون الدلالة على التعظيم كافية فإن الوصف الحسن إذا لم يقترن بالمخالف يعد حسنا عرفا، ولا يعد الواصف مستهزئا غير أنه قد صرح الثقات كأبى سليمان داود رحمه الله باشتراط التعظيم، وإن قلت اشتراط كون المحمود عليه جميلا دال على اشتراط قصد التعظيم إذا الجميل لا يكون سببا لغيره.

قلت إن سلمنا ذلك فليكن ذكره للإيضاح وبيان الواقع، فإن المأتى به فى الحدود لا يخلو من ثلاثة أحوال إما الإدخال، وإما الإخراج، وإما بيان الواقع. وليس ذكر الشئ فى التعريف لبيان الواقع حشوا، مع أنا لا نسلم ما قلت وإنما الظاهر أنه لا يكون سببا للاستهزاء والتحقير، وإن نوقش فيه أيضا كما فى إعطاء شئ حقير. وإما أن يستلزم قصد التعظيم فلا لجواز قصد الإخبار أو التخييل أو التصوير أو الحكاية، أو رعاية خاطر الموصوف، أو غيره من المقاصد الحسنة سوى التعظيم. فلم يظهر قول كثيرين أن تقييد المحمود عليه بالجميل يغنى عن ذكر التعظيم، وأن بعضا حذفه لذلك، إلا أن يريدوا أنه يشعر به إشعارا لا يكتفى به فى التعاريف، وكأنهم ظنوا أن ذكر التعظيم لمجرد الاحتراز عن الهزء، وهو لا يصح، فالحذف إنما هو للاعتماد على الشهرة، مع ذلك الإشعار، ولا يخفى أن مدار استحسان الوصف على التعظيم ودلالته عليه، فلم نجعل مجرد الدلالة على التعظيم بدون قصده معتبرا، وإنما نعتبر ما يتحقق معه التعظيم الباطن، وهو مدلول اللفظ، وما عداه ملحق بالهزء فى عدم الاعتداد، وعدم العد من الحمد، وإن لم يكن هزءا حقيقة ولا عرفا، وإن قلت فإن قصد التعظيم بالقصد مع أن الإثناء بما لا يعتقده المعظم المثنى فهل يكون ذلك حمدا، قلت هو حمد عند الجمهور، وذلك كالقصائد المشتملة على وصف الممدوح بما يعلم انتفاؤه. وإن قلت لا نسلم أن الوصف عند مخالفة الاعتقاد لما يدل عليه اللفظ من التعظيم، أو عند مخالفة الجوارح استهزاء، بل الاستهزاء فعل الأركان، إلا إذا علم أن الواصف قصد بفعل الأركان صرفه عن التعظيم، إلا إذا لم يعلم ذلك، ولا سيما إذا كان فعل الأركان لمصلحة فلا يتم الإطباق. قلت لا شك أن بيان الكمال دال على التعظيم، والعظمة والتعظيم وبيان العظمة أمران مستحسنان فاستحسنوهما، ولو علم أنه لم يرد بوصفه وبيانه تعظيمه، بل أراد تحقيره، لصار مذموما وعد هزءا، وكذا ما لم يعرف وإن كان فى نفس الأمر كذلك، لأنه لم يكن فى الحقيقة حسنا، فإذا خلا الوصف عن موانع التعظيم، حمل على ظاهره وعد حسنا. وإذا اقترن بما ينافى التعظيم فحينئذ جاز عقلا أن يعد كل من الوصف والفعل بما يقتضيه.

فيعد الوصف حمدا وتعظيما والفعل تحقيرا وهزءا، لأنهم لم يعتبروا ذلك الوصف وعدوه أيضا هزءا، لأن اللفظ قد يكون للهزء والتحقير، فهو ذا محلين فحيث وجدت قرينة صارفة للفعل على المحل الآخر جمعا بين مدلولى القول والفعل، ولم يعكس لأن الفعل المذكور لا يحتلم التعظيم، وكونه لمصلحة غير التحقير بعيد عن الفهم، فكذا لا يتبادر إلى الفهم إلا التحقير، وإذا لم يتبادر منه إلا ذلك فكأنه نص فى التحقير، فحمد المحتمل على ما هو كالمقطوع به، على أنه يكفى فى ترجيح مدلول الفعل على القول أن هذا الفعل لا يكون للتعظيم قطعا ويتبادر منه التحقير، وهذا اللفظ كثيرا ما يكون للهزء لا للتعظيم، ولم يحمل كل منهما على مدلوله، لأن التعظيم والتحقير من شخص واحد فى آن واحد لا يجتمعان، ولو اجتمعا فى التعظيم فى غاية الضعف، فلم يعتبرا ولأن الهزء والتحقير فى القبح والذم إثم، وأشد من الحمد والتعظيم فى الحسن والقبول والكمال، ولذا ترى أن أدنى ما يوهم الهزء يترتب عليه الذم والنكال. وقد لا يترتب على الحمد والذم الصريحين ما يناسبهما. ولما كان كذلك أسقطت الدلالة على الهزء وذلك الحسن الضعيف الذى فى مجرد الوصف عن درجة الاعتبار. والحاصل أن قولهم إذا اقترن الوصف بالجميل لمخالفة الجوارح صار استهزاء معناه أنه صار ذلك عندهم وفى اعتبارهم، فإن العرب وأهل اللغة يعدون ذلك الوصف مستهزءا محقرا، لا حامدا معظما تغليبا لجانب الهزء ولما مر فلا بد من قصد التعظيم. قال السيد وإنما اشترط كون الوصف على جهة التعظيم ظاهرا وباطنا، لأنه عرى عن مطابقة الاعتقاد أو خالفه أفعال الجوارح لم يكن حمدا حقيقة بل استهزاء وسخرية، والظاهر أن المراد بالمطابقة أن يعتقد الواصف اتصاف المحمود بالمحمودية، فيطابق اعتقاد ما يفهم من الوصف من اتصافه به، سواء كان إنشاء أو خبرا أو نعتا نحويا، ويؤيد ذلك قول بعض المتقدمين لو لم يطابق لكان كذبا واستهزاء على ما قررناه ولا يرد أن مطابقة الاعتقاد والكذب لا يصح ولا يحتمل إذا لم يكن الوصف على وجه الإخبار وذلك لما مر من أنه يفهم منه على التقادير أن المحمود متصف بالجميل المذكور ، ويتجه على ما مر عن السيد وغيره أمران الأول أن السلاطين وغيرهم كثيرا ما يحمدون ويوصفون بأوصاف بعلم قطعا عدم اتصافهم بها فى الواقع، بل فى زعم الواصف، وقد أراد بها تعظيمهم، وهم يقبلون ذلك ويجزونهم جميلا، ولا توهموا فيها أدنى شائبة هزء لعاقبوه أشد العقاب، فلا يكون استهزاء ولا معدودا منه عرفا. فما مر عن السيد من أنه لو لم يطابق فهو استهزاء يقدح فيه سواء أراد الهزء حقيقة أو عرفا بل اشتراط تلك المطابقة فى حيز المنع كما سيجئ تفصيله، وإنه يستلزم خروج تلك الأوصاف مع قصد التعظيم وأجيب بجوابين الأول أن الواصف يعتقد اتصاف المحمود بما ذكر ويرده أن مما يوصف به المحمود ما يعلم كل عاقل أن اتصاف المحمود به ممتنع أو غير واقع فكيف يعتقده فحول الشعراء والأذكياء وذلك كما يقال زيد فرسه من الفلك وهو أظهر من الشمس.

الثانى أن الواصف يريد معانى مجازية واعتقد اتصاف الموصوف بها ورد الدوانى الجوابين بأن الأول خلاف البديهة والثانى خلاف الواقع، واعترض بمصدر الأفاضل بأن الأول لو كان خلاف البديهة لم تقصد العقلاء إفادته فلم يكن اللفظ فى معناه الحقيقى مستعملا. والثانى لو كان خلاف الواقع لم يكن اللفظ مستعملا فى معناه المجازى فيلزم ألا يكون اللفظ حقيقة ولا مجازا، ثم إنه يبحث بأن حاصل الرد الأول إنما ذكره من اعتقد الاتصاف بديهى البطلان، إذ يعلم كل عاقل أن عاقلا لا يعتقد اتصاف أحد بما تذكر الواصفون المبالغون، بل هم معترفون به عند السؤال فمقتضى الجواب فاسد قطعا، فحينئذ لا يتجه ما ذكر إذ لا يلزم من عدم الاعتقاد عدم الإفادة، كما أن المتكلم قد يعتقد أن الخبر كاذب، وهو يعيده ويذكره، وكأنه حمل التضعيف على أن مضمون الوصف خلاف البديهة، فلا يحمل حال العقلاء على اعتقاده فأورد عليه ما ذكره، ثم إنه لو سلم أن المراد ذلك فالملازمة التى ذكرها بقوله لو كان خلاف البديهة لم يقصد العقلاء إفادته ممنوعة بل فاسدة، ألا ترى أن المخيلات الشعرية مع أن أحسنها أكذبها مستحسنة مقصودة بالإفادة عند البلغاء؟ ومضمونها الحقيقى ربما يكون خلاف البديهة؟ فمن الجائز أن يكتفوا بالقصائد والأثنية يمثل ذلك أى الوصف الحسن على سبيل التخييل أو ادعاء المبالغة، وتحقيق ذلك المقام أن اللفظ قد يقصد به إفادة الحكم أى الوقوع أو لا وقوع اعتقادا. وقد يقصد به تخييل المعنى وتصويره. ومنه المجاز العقلى، وبعض الاستعارات عند الجمهور، فلا يكون كذبا لأنه إنما يريد به التصوير لا الحكم، ومنه الأخبار الواقعة فى الأشعار، لما علم عرفا انه لم يقصد بها إيقاع السامع فى الغلط. وإفادة التصديق بأن الأمر كما ذكره فى نفس الأمر، بل أريد بها تخييل ذلك وترتيبه على الوجه المقرر بينهم. فهى ليست بكذب مذموم فى العرف، بل مستحسنة مقبولة، لما اعتبر فيها من جهة حسن النظم والتخييل واللفظ مستعمل فى الموضوع له لتخييله. وإذا كان ذلك جائزا بل واقعا على ما صرحوا به فى المجاز العقلى، فليجز أن يكون المقصود بأوصاف السلاطين. والمحبوب فى القصائد ويغرها كما فى سائر الأشعار، إفادة المعانى الوضعية منها لأجل التخييل والتعظيم، وإن كان تحققها فى نفس الأمر بديهى البطلان، وجرى العرف على ذلك واستحسنها وقد علم أنها أريد بذلك التعظيم والوصف الحسن صارت مطبوعة مقبولة، وجوزيت بالجميل، وقوبلت بالجزيل، فظهر أنه لا يلزم من بداهة عدم تحقق الحكم أو الوصف ألا يقصدها العقلاء أصلا.

وإن أراد أنه لا يقصد حينئذ إفادتها على وجه الحكم والتصديق فمسلم. ولكن لا يلزم منه ألا يكون اللفظ مستعملا فى معناه الحقيقى، وإن قلت الكلام موضوع لإفادة الحكم فلو لم يرد به ذلك لم يكن مستعملا فى المعنى الحقيقى. قلت إفادة الحكم أعم من أن تكون لأجل التخييل أو الاعتقاد والإيقاع والانتزاع، على أنه لا يجرى في الإنشاء والأوصاف، وإن علم، فمن الجائز أن يكتفى فى الحامد فى السلاطين بادعاء الأمر والمبالغة فيكون حقيقة، وإن كان المعنى بديهى البطلان. وأما الجواب عن احتمال كونها مجازات، فتوضيحه أنه خلاف الواقع والمعلوم بالتتبع، فإنا لو تصفحنا عن القائلين، علمنا أنهم لم يقصدوا معنى مجازيا صحيحا بحسب ما اعترفوا به، ولأنهم ربما يذكرون أمورا لم يقدروا على أن يحصلوا لها معانى صحيحة يفهمونها بعد التأمل والتدبر، فضلا عن أن يقصد من اللفظ ذلك بادئ الرأى عند التكلم، وإذا كان الجواب خلاف الواقع والتحقيق، فلا ينبغى أن يعتمد عليه، وإن كان محتملا عند العقل على أنه يبقى الكلام حينئذ فيما إذا لم يقصد به معنى مجازى صحيح. بل أرادوا الادعاء والتخييل، فيلزم خروجه عن الحمد، وأن يكون استهزاء وفيه ما فيه، ثم مدائح السلاطين إن وردت على وجه النقص والاعتراض، فيمكن أن يدفع بأنا لا نسلم أنها جمل، وإن كانت أثنية مقبولة كالوصف على غير الاختيارى. ولعل معنى قول السيد وغيره لو لم يطابق الاعتقاد كان استهزاء أنه لما شابه الاستهزاء فى عدم الاعتقاد وقصد إفادته أخرج عن الحمد كالاستهزاء فى كثير من المواضع أو الأكثر لم يتعبروا فى الحمد إلا الوجه الكامل. وإن وردت سندا لمنع الاشتراط أو لأجل تحقيق المقام، وأنه لا دليل على خروجها من الحمد، مع أنها من مستحسن مقبول، متضمن للتعظيم فى العرف الخاص والعام، غير معدود من الاستهزاء عرفا وعقلا، فهو كلام قوى مقبول، إن لم يضعفه نقل صريح صحيح. الأمر الثانى أنه اعتقد الواصف اتصاف المحمود، ولكن لم يقصد بالكلام تعظيمه، بل محض الإخبار أو الحكاية أو نحوها فليس بحمد. وإن سلم ذلك فلا شك فى أنه مع ذلك الاعتقاد يجوز أن يقصد بالكلام الهزء، عنادا ومكابرة، كما كان لبعض الكفرة الفجرة، وذلك الكلام ليس بحمد قطعا، فلا يكفى فى الحمد والتعظيم الباطنى المعتبر فيه مجرد ما ذكر من مطابقة الاعتقاد، بل لا بد من اعتبار أمر آخر هو قصد التعظيم. اللهم إلا أن يقال عدم قصد الهزء، فهم من باعثيه الجميل كما مر، وذلك مع استلزام لاكتفاء بالدلالة الالتزامية فى التعريف.

وألا يكون قيد التعظيم الباطنى لإخراج الاستهزاء. والله أعلم. وذكر السيد وغيره أن اللازم فى الحمد قصد التعظيم بالوصف لا الاعتقاد، فلو أريد بالثناء تعظيم الموصوف بشرطه، صار حمدا وإن لم يعتقد أنه موصوف بما يذكر ولا يعد فيه كما توهم. ويبحث فى اشتراط التعظيم بعض من حشى على المختصر للسعد بأن التعريف إن كان للحمد اللغوى، فالتعظيم الظاهرى غير معتبر فيه، فضلا عن قصد التعظيم، ألا ترى أن الحمد فى كتب اللغة الفارسية إنما فسروه بستودون وإن كان للحمد العرفى فكذلك أيضا لأن مدح الأكابر يعد حمدا عرفا وإن لم يكن للحامد تعظيما إلا أن صدر منه تحقير لم يعد حمدا. ويرده أن الثقات نقلوا أنه لا يصح الحمد إلا بتعظيم، فكأنهم نقلوه عن اللغويين، فقوله لم يعتبر فيه التعظيم لا يقبل، لأنه شهادة نفى، وقد علم أن شهادة الإثبات ولا سيما من المحققين. مقدمة على شهادة النفى، مع أنه لا ينبغى أن يصدر ذلك النفى إلا بعد الاستقراء التام لنصوصهم، وأما منع صحة وطلب تصحيح النقل منهم، فله وجه مقبول عن أرباب النقول وأصحاب العقول. أما ترى الفقهاء والمحدثين والنحاة وغيرهم، إذا نقل جلهم وجليل منهم عن إمام، فلا اعتبار عندهم لمنع عدم صحة النقل وطلب التصحيح؟ ولو فتح ذلك الباب لم يبق اعتماد على ما فى الكتب، ولم يصح التعويل عليهم، ولا ينبغى التعرض لذلك إلا لموجب يعارض المنقول، وإلا فلا يفيده فائدة، وأما الإسناد لما فى بعض الكتب الفارسية بل العربية، فلا تأييد فيه على وجه يعتد به. لأنه إن سلم أنه أعم فثبوت الأعم لا ينافى ثبوت الأخص، لجواز الاشتراك والنقل والتعريف بالأعم، ومن تتبع كتب اللغة علم أن كلا من هذه الأقسام فى غاية الشيوع، ولا يكاد يوجد كتاب يستوعب معانى الألفاظ، ولهذا لو فسر ثقة لفظا بغير ما فسر به آخر لجمع بينهما بأحد الأمور الثلاثة، ولا يحكم بالفساد فهؤلاء العلماء الأعلام، لم يكونوا فى مرتبة واحدة من مصنفى كتب اللغة، على أن شأن كتب اللغة الإجمال والتعبير بلفظ أشهر بالحد والرسم، فمن أين لا يعتبر فى ستودون فى أصل الوضع أو فى عرف التعظيم ومجرد الاحتمال لا يعبأ به فى القدح فى التعاريف كما حقق فى محله، مع أن بعض العلماء استدل بذلك التفصيل عن قصد التعظيم، وهو دليل على أنه يفهم منه التعظيم ولو فى عرف، ثم إنه إن سلم التنافى بين النقلين، فحمل القصور على مصنف أو مصنفين فى اللغة أخرى من جمل الخطأ على العلماء المحققين المشهورين. ومما ذكرنا علم أن حال ما ذكره فى العرف، وانتقاده بحمد السلاطين، لا قوة له أصلا، فإن الغالب أنهم يريدون به تعظيمهم، فمن أين علم بهم لا يقصدون التعظيم الباطنى ولا الظاهرى، بمعنى عدم مخالفة الجوارح.

مع أنه اعترف بأنه إذا صدر منه التحقير لم يعد حمدا، فيلزم اشتراط التعظيم الظاهرى بالمعنى المراد فى المقام. والله أعلم. وخرج بالثناء الحمد النفسى، وهو اعتقادك أن المحمود متصف بصفات الكمال، وخرج به أيضا الذكر بغير الجميل، بناء على الصحيح من أن الثناء الذكر باللسان بالجميل لا غير، واستعماله فى غير اللسان وفى غير الجميل مجاز، ولذلك لم أذكر قولك باللسان ولا قولك بالجميل، وأما قولنا على الجميل فلا يغنى عنه لفظ الثناء، لأن الثناء إنما يغنى عن الجميل المحمود به لا الجميل المحمود عليه. وقال الجوهرى الثناء حقيقة فى الخير والشر، وعليه فلا بد من ذكر قولك بالجميل، إلا أن يقال ذكر قولك على الجميل يغنى عنه، لأن الذكر على الجميل لا يتصور إلا بالجميل فى العادة الجارية فى لغة العرب وغيرهم. وإن قلت فما بال بعضهم يذكر قولك باللسان؟ قلت يذكره بناء على أن الثناء قد يكون بغير اللسان كالاعتقاد، وقد تكلمت عليه فى حاشية أبى مسألة أو بيانا للواقع والحد، ولو كان يصان عن الحشو والتطويل، وما كان لبيان الواقع ليس حشوا وتطويلا، وإنما الحشو والتطويل ما جئ به للإدخال ولا للإخراج ولا لبيان الواقع، لكن يجب فى المأتى به لبيان الواقع فى الحد أن يكون له نوع تعلق بنفس الحد، كما فى ذكر قولك باللسان ولا سيما أنه قد قيل إن الثناء يكون أيضا بغير اللسان، فيدفع بذكر اللسان، ثم إن القيود لا يجب أن يقصد بها الإخراج، بل القصد الأصلى بها شرح الحقيقة، إذا كانت تلك القيود من أجزاء الحقيقة، وأما ما كان من عوارضها كما هنا، فإن المقصود بها الانتقال منها إلى الحقيقة وإذا كفى بالبعض فى الانتقال إليها، كان الباقى زائدا وإن لم يكن لبيان الواقع وإيضاحه. ويجوز أيضا أن يكون ذكر باللسان دفعا لتوهم الجمع بين الحقيقة والمجاز عند مجيزه كالشافعى، فإن إطلاق الثناء على غير اللسان مجاز على القول بأنه حقيقة فى اللسان. ووجه من منع الجمع بينهما أنه يكون جمعا بين المتنافيين، حيث أريد باللفظ الموضوع له وغير الموضوع له، ويجاب بأنه لا منافاة فى ذلك. وإن قلت توهم الجمع المذكور غير ممكن، فلا يجوز عنه لأنه إذا أريد المجاز مع الحقيقة فلا بد من قرينة للمجاز. قلت قد تكون القر ينة خفية أو حالية، لم يطلع عليها المخاطب أو غيره، وأيضا عدم القرينة يوجب عدم الإرادة، لا عدم احتمال الإرادة وصلاحيتها. وخرج بالاختيارى المدح، فإن المدح يعم الثناء الذى على الجميل الاختيارى وغير الاختيارى، فالثناء عل الجميل الاختيارى كما يسمى حمدا يسمى مدحا، والذى على غير الاختيارى لا يسمى حمدا، بل مدحا، فيمتنع أن تقول حمدت اللؤلؤة على حسنها، وحمدت زيدا على رشاقة قده، إذا أردت الحمد على الحسن والرشاقة، لأنهما غير اختياريين.

ويجوز مدحهما على ذلك. وقال بعض المدح مرادف للحمد فلا يقال إلا على الاختيارى، وإن قولك مدحت اللؤلؤة على حسنها لم تتكلم به العرب. ومدحت زيدا على رشاقة قده باطل غير صواب. فان صح عن العرب فانما يكون مدحا بسبب أنه يدل على فعل اختيارى، كما يقال حسن الصورة يدل على حسن السيرة، لا من حيث كونه رشيق القد. وهذا القول ظاهر قول علمائنا - رحمهم الله - لو صح مذهب المجبرة لبطل المدح والذم والثواب والعقاب. وعلى هذا فذكر الاختيارى البيان الماهية لا للاحتراز عن المدح، لأنه مراد دخوله . وقيل إن الاختيارى لا يشترط فى الحمد ولا فى المدح، بدليل قوله تعالى

عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا

وفى الحديث المأثور عنه صلى الله عليه وسلم

" وابعثه المقام المحمود "

وقول الشاعر

أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب

وقول الآخر

والصبر يحمد فى المواطن كلها

وقيل الجود فى ذلك بمعنى الرضا، فإنه يأتى فى اللغة كذلك، وإن قلت الحمد فى ذلك إنما هو على الوصف المجازى وصفا له بوصف صاحبه، كالكتاب الكريم، والأسلوب الحكيم، قلت ذلك صرف عن الظاهر، بل لفظ الكريم يطلق لغة على كل حسن فى صنعه، حتى الشجاعة، تقول زيد كريم فى الحرب والعلم، تريد أنه شجاع. علامة على أن من يقول يكون الجميل مأخوذا فى الحمد، إنما ينزل بكونه مأخوذا فيه بحسب العقل. ولا فرق فى ذلك بين الحمد والمدح. وإن قلت قد اعتبر فى الحمد فعل الجنان والجوارح فينا فى ما مر من اعتبار كونه باللسان، وما تقرر من كون مورده اللسان، قلت ما تقدم من تناول الظاهر والباطن، ومن أنه إذا تجرد الثناء على الجميل عن مطابقة الاعتقاد، أو خالفه أفعال الجوارح لم يكن حمدا بل استهزاء أو تمليحا، لا يستلزم دخول الجوارح والجنان فى التعريف، لأنهما اعتبرا فيه شرطا، وهو خارج عن الماهية لا شطرا وهو داخل فيها وأيضا لنا جواب آخر سلمنا أنه جزء الحمد لاعتباره جزءا من المعرفة، فتعريفه يتوقف عليه وإن لم يكن جزءا من حقيقته، وهذا كما فى تعريف العمى بأنه عدم البصر عما من شأنه البصر، فقد وقع البصر جزءا من مفهوم العمى لاعتباره جزءا من معرفة، إذ العمى ليس العدم مطلقا، ولا بد من البصر فى تعريفه، وإن لم يكن جزءا من حقيقة العمى وذاته، وكما فى تعريف الضحاك بأنه ذات له الضحك. فان الضحك قد وقع جزءا من المفهوم، مع أنه ليس جزءا من حقيقة الضاحك وذاته، وهو الحيوان الناطق.

وحاصل الجوابين أنه إذا كان شرطا للحقيقة خارجا عنها فهو جزء من المفهوم. قال السيد المضاف إذا أخذ من حيث إنه مضاف، كانت الإضافة داخلة فيه، والمضاف إليه خارجا عنه، وإذا أخذ من حيث ذاته كانت الإضافة خارجة عنه أيضا. ومفهوم العمى هو العدم المضاف إلى البصر، من حيث هو مضاف، فتكون الإضافة إلى البصر داخلة فى مفهوم العمى، ويكون البصر خارجا عنه. والله أعلم. ثم إن المحمود به يكون اختياريا وغير اختيارى، بخلاف المحمود عليه فإنه يكون اختياريا على ما مر وتقدم الكلام على الحمد على صفات الذات، وتفسير الاختيار فى حقها. وذكر زكريا والشنوانى أن صفات الذات واردة على من اشترط الاختيار فإنها غير اختيارية، أما ما تتوقف الإرادة عليه كالعلم والحياة فظاهر، وأما ما لا تتوقف عليه فلأن المسبوق الإرادة حادث، والحادث لا يقوم بذاته، والصفات السلبية كعدم الشريك، يمتنع أن تكون حاصلة بالإرادة والاختيار، فيلزم ألا يكون الثناء على صفات الذات حمدا مع أنه حمد، وأجيب بأنا لا نسلم ثبوت الحمد عليها، وإنما الثابت الحمد بها. ورد بأن الثعلبى وغيره صرحوا بثبوت الحمد عليها. والأظهر أنه يجوز أن يعظم الله ويثنى عليه ثناء على الذاتيات، ولا جهة لإخراجه من الحمد بحسب ولا نص بحسب النقل فلعله ليس حمدا لغة، فيكون حمده منحصرا فى صفات الأفعال، ولا مانع عقلا من الحمد على الصفة الذاتية. ويرده أن المنع إنما أخذوه من منع حمد اللؤلؤة ونحوها، وليس منصوصا عليه مع أن بين اللؤلؤة وبين ذات الله تعالى فى الصفات، ولو كان ممنوعا لزم ألا يكون ثناء الله بإزاء الذات الكاملة، مع قطع النظر عن الصفات حمدا وهو بعيد، فإنه كما يجوز أن تعبد الله - جل وعلا - لذاته لا لجهة يتبادر أن يجوز أن نحمده لذاته بل الحمد من جملة العبادة وهو عبادة لسانية، ويدل له قول السعد فى المطول تعرض - يعنى القزوينى - للإنعام بعد الدلالة على استحقاق الذات، تنبيها على تحقيق الاستحقاقين. وإن قلت لا معنى لكمال الذات إلا أنه إن له صفات كاملة قلت لا شك أن صفات الكمال فى حد ذاتها كالعلم شريعة كاملة ، بخلاف صفات النقص كالجهل لا لصفة لها. وإلا لزم التسلسل، وصفات الذات اقتضاؤها كمال الذات، وليست شيئا زائدا على الذات حالا فيها، سبحانه عن ذلك. هذا ما عند الموفقين الإباضية الوهبية، وذكر الفخر أن ذاته لم تحتج إلى شيء من صفاته الذاتية الموجودة وإنما اقتضاؤها كمال الذات، وتحقيقه أن كمال الصفات الكاملة دون الأخرى وإذا كنت الصفات دليلا على كمال الذات ولولا أن للذات كمالا فى ذاتها، دون الذات المتصفة بصفات النقص، لاتصفت تلك بالصفات الكاملة دون الأخرى.

وإذا كانت الصفات مقتضى الذات فالأمر أجلى. فلولا أن ذاته منحث هى أكمل من غيره لما اقتضت تلك الصفات. واقتضتها الذوات الناقصة، وليس اقتضاء الكمال عين كمال الذات، وإن كان ذلك من كمالها فهو دليل على كمالها، وذكر بعض الروم - أعنى الترك - أنه اعتبر فى مفهوم الحمد مقابلة الجميل لم يستقم ما اشتهر من أنه تعالى يستحق الحمد لذاته وأجاب ذلك الرومى بأن معنى استحقاقه لذاته استحقاقه لصفاته الذاتية، فإنها لكونها ليست غير الذات. ويبحث فى ذلك بأن الجميل إن ترك على الظاهر شمل الذات أيضا، لأنها من حيث هى فى غاية الجمال وقد نص اللغويون على أنه يطلق على الذوات، وإن أريد به الفعل الجميل أو قيد بالاختيارى، فعما تخرج منه الذات تخرج الصفات الذاتية، وإذا عمم بالحقيقة والحكم، فكما تدخل فيه الصفات تدخل فيه الذات، وإن أراد بالحكم معنى لا يشمل إلا الصفات فهو حكم لا سند له، وكلام غير مقبول ولا منقول، ويبحث أيضا بأن معنى الاستحقاق ليس ما ذكره عند المحققين، وإنما يناسب لو لم يكن للكمال الذاتى معنى صحيح غير كمال الصفات. وأما إذا ثبت له معنى صحيح فلا جهة لما ذكره، إذ هو كما يستحق الحمد لكمال الصفات يستحق لكمال الذات. وإن قلت ينفصل بجعل الثناء على الذات، والصفات الذاتيات غير حمد، قلت قيل لا سند لذلك ولا دليل إلا القياس على اللؤلؤة، ورشاقة القد، وصباحة الخد، والفرق واضح. وعلى اشتراط الاختيار أجاب بعض أيضا بأن الاختيارى يتناول الصفات الذاتية تبعا، ويبحث فيه بأن الصفات الذاتية إذا وقع الوصف عليها تبعا، هل الوصف عليها من الإفراد حقيقة أو لا، وهل يشملها لفظ الاختيارى أو لا؟. فإن قال من الإفراد حقيقة ولا يشملها لفظ الاختيارى، فالحمد عليها وارد على التعريف. وإن قال يشملها، فهو ممنوع. وإن قال ليس الوصف عليها من أفراد الحمد، فلا ورود. وقضية ذلك الجواب امتناع الحمد عليها استدلالا، وأجيب كما مر أيضا بأن الصفات الذاتية مختارة له تعالى حكما، لا بمعنى إيجاده لها، لأن المراد بالاختيارى ما يكون حاصلا بالاختيار حقيقة، أو يكون فى حكمه. وعلى هذا فكل منهما حمد حقيقة، لأن مفهومه الحقيقى يشملهما. وليس كما قيل إن الثناء على الاختيارى حكما حمد حكما. ومعنى كونه مختارة له أن ذاته اقتضت وجودها، ولا أول لذلك ولا سابق للذات عليها، ولا حلول ولا زيادة لها فى الذات - تعالى الله - بل بمعنى أن ذاته يستحيل عليه عدم تلك الصفة الموجودة، على ما هى عليه فى الواقع. ومعنى قولى فى كتبى فى الواقع، أو فى نفس الأمر، واحد، وهو علم الله. وإن شئت ذكرته، وعنيت به اللوح المحفوظ، أو المبادىء أو ما يجده العقل لضرورة أو دليل أو نفس الشىء.

وعليه اقتصر السيد إذ قال وأما نفس الأمر فهو نفس الشىء ومعنى كون الشىء موجودا فى نفس الأمر أنه موجود فى حد ذاته ليس وجوده وتحققه وثبوته بفرض فارض أو اعتبار معتبر. وأجيب أيضا بأن الصفات الذاتية مبدأ أفعال اختيارية، بمعنى أنه يترتب عليها أفعال اختيارية، فالشىء إذا حصل منه آثار اختيارية، جعل فى حكم الاختيارى، وذكر بعضهم أن المراد فى كلامهم بالاختيارى أن يكون منسوبا إلى من يفعل فى الحملة باختياره وإن لم يكن المحمود عليه مما حصل بالاختيارى، ويبحث فيه بأن الأمر الاختيارى بهذا المعنى غير مستعمل، ومع كونه فى كمال البعد عن الفهم لم تقم عليه قرينة تدل عليه، فلا يجوز استعماله فى التعريف. وقد علم أن المراد للفعل ولو جعل الاختيارى أعم من الحكمى، وأراد بالحكمى ما كان الموصوف مختارا فى الجملة لكان له وجه قريب، وإن كان هو أيضا بعيدا، ويبحث أيضا بأنهم اختلفوا فى أن المحمود به يجب أن يكون اختياريا أولا كما مر، ولو أريد بالاختيارى ما ذكره لم يبق للخلاف معنى أو فائدة معتد بها، فان المحمود عليه إذا كان صفة لمن له اختيار، فالمحمود به أيضا كذلك ضرورة أنهما متعلقان بشىء واحد، فمع اختياره المحمود عليه لا يمكن ان يكون المحمود به غير اختيارى بالمعنى المذكور. ويبحث أيضا بأنه إن أراد حمل كلام القوم الذين قيدوا الجميل بالاختيارى على ذلك فقد مر عن الفخر والسيد التصريح بخلافه. وإن أراد حمل كلام اللغوين وتخطئة من خالفه، فلا يخفى أن العدول فى النقليات عما ذكره الثقات المحققون بمجرد احتمال عقلى لا يعبأ به، ويبحث أيضا بأن السعد صرح فى حاشية الكشاف بأن منهم من قيد المحمود عليه بالاختيارى، لأنه يقال مدحته على صباحه خدمة، ولا يقال حمدته، وفى تفسير القاضى تقول حمدت زيدا على كرمه، ولا تقول حمدته على حسنه، ولو كفى ما ذكره لصح المثالان فافهم. وإذا ثبت أنه صح الحمد على الصفات الذاتية لأنها مبدأ أفعال اختيارية، فالمحمود عليه اختيارى فى المآل، وأجيب أيضا بأنه تعريف بالأخص بناء على صحة التعريف به على ما صوبه السيد، إذ قال والصواب أن المعتبر فى العرف كونه موصلا إلى تصور الشئ، إما باللكنة أو بوجه ما، سواء كان مع التصور الذى يميزه عن جميع ما عداه أو عن بعض ما عداه. انتهى. ثم إنه لا يقال الجمع بين لام الحمد وتعريفه يستلزم تعريف المعرف واللازم باطل، فكذا الملزوم لأنا نقول اللام تدل على تعيينه فى ذهن المتكلم والتعريف يصور ماهيته فى ذلك السامع فأيها أحدهما من الآخر. ولا يقال بل اللام للدلالة على تعينها الحاصل فى ذهن السامع، معناه أن اللام لا يجوز إدخالها إلا على لفظ حصل معناه فى ذهن السامع، لأنا نقول على تسليم هذا لا يلزم المحذور لجواز كونه معلوما له من وجه، مجهولا من آخر، فاللام للأول والتعريف للثانى، بل ذلك فى لام العهد وهذه للجنس، ولئن سلمنا أنها للعهد لنمنعن أن إدخالها لا يجوز إلا على الحاصل فى ذهن السامع، لجواز إدخالها على المظنون حصول معناه فى ذهنه، ولا يكون ذلك الظن مطابقا للواقع، ولئن سلمناه لنقولن لا يجوز أن يكون دخول اللام عليه لتعيين اللفظ فقط، ويكون معناه هذا اللفظ معناه ذلك الشىء، فإن قيل المراد اللام فى الحمد إما للاستغراق فالمعنى كل فرد ولا شئ من كل فرد صادق على فرد، فلا شىء من الحمد صادقا على فرد، وتعريفه صادق على فرد، فتبطل المساواة بينهما، وإما للجنس فهى لتعيين الماهية فى ذهن المتكلم، وقد ضاع لأن كل حال فيه معين او لتعيينها فى ذهن السامع، وقد حصلت فيه، فيضيع أو لم تحصل فيكون معينا فى ذهنه ما لا حصول له وهو محال، لا يقال لم لا يجوز أن يكون هو المحصل والمعين وهو محال؟ لأنا نقول ما لم يحصل فى ذهن السامع لو أدخل فى لفظ أل لم يحصل وهو بين، ولأنه يبطل تعريفه إذا لصدقه على غير المعرف، لأن كل فرد مغاير للجنس من حيث هو، وإما للعهد فهو للإشارة إلى فرد ذهنى أو خارجى، ولا يجوز أن يكون المراد من الحمد الفرد وإن ذهبت إلى أن المعهود نفس الماهية، يرجعك ما ذكرناه آنفا قهقرا، فالجواب أنها للجنس، ونقول لام الجنس دال على تعيين الماهية الحاصلة فى ذهن المتكلم مطابقة، والثناء على الماهية والثناء إن دل على ذلك دل بالالتزام، ونقول صدق التعريف على غير المعرف، إنما يضر لو لم يصدق على ذلك الغير وهو ممنوع، لأنه تعريف للماهية لا بشرط شئ إلا للماهية بشرط لا شىء، فلا يرد ما ذكرنا من أنه بطل تعريفه لصدقه على غير المعرف، وإن قلت الحمد مبتدأ والثناء خبر فهى قضية مهملة فى قوة الجزية، والمراد الكلية لأن المهملة حمل ثناء باللسان إلى آخره وإلا لم يكن التعريف جامعا.

قلت لا نسلم أنها مهملة فان المهملة على ما هو الحق هى التى حكم فيها على أفراد موضوعها بدون أن يتعرض لكميتها، وهى ليست كذلك فان التعريف للحقيقة لا للأفراد سلمناه، لكن لا نسلم أنها لو لم تكن كلية لم يكن التعريف جامعا لجواز كونها طبيعية مستلزمة للكلية، فان قيل الحمد محكوم عليه، والثناء باللسان محكوم به، فلا شئ من الحمد بثناء باللسان آخره وهذا باطل، فالجواب أن مغايرة الشىء للشىء باعتبار ما، ووضع ما غير مناف لكونه إياه من حيث الحقيقة، فإن الحيوان الناطق يغاير الإنسان من حيث الإجمال والتفصيل، وليس غيره من حيث الحقيقة.

وقولك الإنسان حيوان ناطق لا يقتضى مغايرة الثانى للأول من حيث الحقيقة مع تغايرهما من حيث الوضع والحمل. والله أعلم. والمدح لغة الثناء على الجميل اختياريا أو غير اختيارى على جهة التعظيم، وعرفا ما يدل على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل، والشكر لغة فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعما على الشكر وغيره سواء باللسان أم بالجنان أم بالأركان، وذلك هو الحمد عرفا، وقيل هما مقابلة النعمة قولا أو عملا أو اعتقادا، والشكر عرفا صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من سمع وبصر، إلى ما خلق لأجله، وقد أطلت الكلام على ذلك فى حاشية أبى مسألة، وذكرت بحثا فى استدلالهم أو تمثيلهم بقوله

أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدى ولسانى والضمير المحجبا

وعنه صلى الله عليه وسلم

" الحمد رأس الشكر "

يعنى الحمد اللفظى، لأن حقيقة الشكر إشاعة النعمة وإظهارها، وفى إشاعتها وإظهارها دعاء إلى المشكور وجلب إليه، فيعرف ويذعن لأحكامه وهو المقصود، فمن لم يثن بلسانه فليس بشاكر شكرا حقيقيا، ولو أتى بالعمل والاعتقاد، وذلك أن الحمد أظهر إشاعة للنعمة وأدل على مكانها، لخفاء الاعتقاد واحتمال إتعاب الجوارج أن يكون شكرا وأن يكون حظا من حظوظ النفس أو غير ذلك. والحمد مبتدأ والله متعلق بمحذوف خبر لا بالحمد، والأصل نصب الحمد على المفعولية المطلقة واللفظ بعده معمول له، أو للفعل الناصب المحذوف، وقد قرئ بالنصب على ذلك فى غير السبع، بل فى غير العشر، أى أحمد لله الحمد، أو حمدت لله الحمد، حذف العامل وأخر لله واللام فيه للتبيين، وإنما أخر بعد أن أصله التقديم، لأنه لما حذف العامل قام الحمد مقامه، فكأنه العامل فى الله فأخر عنه، بل قال بعض إنه محمول للحمد واللام للتقوية، وإنما قدرنا الفعل لأن المصدر نسبة تتعلق بمحل، والأصل فى بيان النسب والتعلقات الأفعال، وإنما عدل عن النصب إلى الرفع فى قراءة الجمهور ليدل بالجملة الاسمية على الثبوت، بخلاف الفعلية فإنها للتجدد والحدوث، وأما عموم الحمد أو عهده أو حقيقته فتفيده أل، سواء فى المبتدأ وفى المفعول المطلق، ولا مانع من إدخالها في المفعول المطلق كما رأيت فى قراءة النصب، وقد قيل الأصل حمدت أو أحمد حمدا لله، فحذف الفعل اكتفاء بدلالة المصدر عليه، ثم عدل إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبوت، فصار حمد لله ثم أدخلت أل لقصد الاستغراق. وظاهر كلام كثير أن الجملة الاسمية مطلقا تفيد الثبوت وليس كذلك عندى، ولو كان محتملا بتكلف كما مر، بل إذا كان الخبر فعليا متصرف الفعل، أو وصفا يدل على المضى، أو الاستقبال أو على الحدوث فى الحال لا تدل على الثبوت، وإذا كان ظرفا احتمل تقدير الفعل والوصف، وأصالة الإفراد فى الخبر لا تقاولها أصالة الفعل فى العمل عندى، فتقدير الوصف أولى، وقد عينه السعد إذا قال فى أواخر باب المسند إن الاتصاف أن المفهوم من قولنا زيد فى الدار ثابت أو مستقر لا ثبت أو استقر، وأما الوصف الذى لا يدل على الحدوث وهو الصفة المشبهة واسم التفضيل فالجملة التى هو خبرها دالة على الثبوت.

وقال السيد اسم الفاعل إنما يدل على الثبوت دون التجدد، وأطلق، وعن السكاكى أن زيدا فى الدار يحتمل التجدد والثبوت بحسب تقدير حصل أو حاصل، فينضم إلى الثبوت الدوام بحسب معونة المقام، وليس دال على الثبوت فى الجملة الاسمية بمعونة المقام، ثم اعلم أن الذى يدل على التجدد هو المضارع بمعونة المقام لا مطلقا ولا بنفسه استقلالا، وأما الماضى والأمر فيدلان على الحدوث، ومرادى بالثبوت هو الدوام، وأما السعد فأراد به فى كلامه المذكور وغيره، ومعنى دلالة الاسمية على الثبوت عدم دلالتها وعلى الدوام بالعقل، إذ الأصل فى كل ثابت دوامه، ويبحث فى هذه العلة بأنه يلزم دلالة الفعل على الدوام، لأنه ثابت والأصل فى الثابت الدوام، ومرادهم بالثبوت وجود الإيجاب أو السلب، وقرأ الحسن البصرى الحمد لله بكسر الدال توفيقا بينه وبين اللام بعده، وإن شئت فقل إتباعا بمعنى توفيقا وتجنسا لها، وقرأ إبراهيم ابن أبى عبلة الحمد لله بضم اللام إتباعا للدال، وهى أولى من التى قبلها لأن الإعراب أشرف فهو أحق أن يتبعه غيره، وضمة الدال إعراب فاتبعت لها حركة اللام، ولأن الدال سابقة فحق لها أن تأخذ ما لها، فإن شاء المتكلم اتبع لها بعدها ولام لله للاختصاص، وليس معنى الاختصاص الذى تفيده اللام حصرا، فان اللام ليست أداة حصر، بل معناه التعلق الخاص، هذا ما ظهر لى، ثم رأيته للدوانى والحمد لله، ومرادى هنا بالاختصاص الملك، قال ولو كان قولك المال لزيد والمفتاح للدار إلا على قصر المال والمفتاح لكان قولك ما المال إلا لزيد وما المفتاح إلا للدار مفيدا لحصر المال والمفتاح فى صفة الانحصار لا لحصر المال فى زيد والمفتاح فى الدار، ولكان قولك لله الحمد مفيدا لقصر الحمد على الاختصاص بالله عز وجل لا لقصره على الله، وقد صرح جار الله بأن تقديم الحمد فى له الحمد للحصر وهو مفيد أن الحصر لم يكن فيه بدون التقديم، وإلا لم يكون التقديم مفيدا له، وإن قلت إن قولنا ما المال إلا لزيد وإنما كان لحصر المال فى زيد أيضا، لأن حصر الشىء فى الشىء يقتضى ثبوته له، ولو وجد المال لغير زيد لم يكن للمال صفة الاختصاص فلا يصح قولكم لا لحصر المال فى زيد، قلت لا يصح هذا لأن المراد أنه لو كان معناه الاختصاص الحصرى لكان معناه المطابقى ومفهومه الصريح المبادر منه ذلك الذى ذكرناه لا الآخر، وهو فاسد قطعا، وذلك فى غاية الصحة والظهور، ولسنا نريد أنه لا يفيد ذلك ولو التزاما فضلا عن أن يرد علينا ذلك مع أنه كلام على السند، وقد كان ظاهر كلام الدوانى دعوى واستدلالا، فتعرض بعض للجواب بالمنع وأنت تعمل أنه يمكن أن يكون مراده منعا فى صورة الدعوى مبالغة، فإنه طريقة معروفة بين المحققين، وما ذكره فى صورة الدليل فهو سند المنع فلا يفيد المنع ولا الإيراد على السند، فإن إبطال السند غير المساوى لا يفيد دفع المنع على ما حقق فى محله من الكتب الموضوعة فى أدب المناظرة، ثم إن هذا البعث منعا كان أو دعوى قد يقال فيه، وإنما يتجه لو كان المراد أن اللام إنما تدل على الاختصاص الحصرى بالوضع وهو غير متعين ولا ظاهر، بل يجوز أن يكون مرادهم أن اللام وإن وضعت للتعلق الخاص لكن الاختصاص والتعلق الذى على وجه الحصر هو الكامل، فحمل عليه اللام فى مقام الثناء والمبالغة، كما صرح بعضهم من أن اللام هنا للاختصاص، بمعنى أنه لا محمود إلا هو تحقيقا أو مبالغة، وأن أل للجنس أو الاستغراق وتفيد بمعونة لام الاختصاص اختصاص جميع المحامد به تعالى، فإن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص الأفراد، أو المراد اتحاد الجنس مع الثابت لله تعالى فتفيد الحصر بلا معونة لام الاختصاص، كأنه قال جنس الحمد هو الثابت لله تعالى، وفيه بعد ومن وادى الوجه الذى قبله حمل الباء على الملابسة على وجه التبرك لمناسبة التبرك للمقام، وقد ذكر السيد أنه دل بلامى الجنس والملكية على الاختصاص، فتراه أخذ الاختصاص من اللام الموضوعة للملك، ولم يجعل اللام موضوعة له، وأما نحو المال لزيد والمفتاح للدار فليبحث فيه بأن اللام فيه محمولة على مجرد معناها الوضعى، غاية الأمر أنه يجوز حملها على الاختصاص الحصرى عند مساعدة المقام، ولما كان التقديم أظهر إفادة للحصر إذ لم يحتج إلى تكلف، حمل الزمخشرى اللام على الأصل، وجعل التقديم للحصر ، ولا يقال لو كان المعنى حصر المحامد فلا معنى لقولهم الحمد لله على ما أنعم أو على التصنيف أو نحوه، إذ ليس جميع الأفراد أو الجنس المختص، لأنا نقول هو مختص بالمحمد المفهوم الحاصل من الحصر، كأنه قال حمدى هذا على ذلك، وأما اختصاص المحامد بالله تعالى فقد يقال إنه ادعائى وعلى سبيل المبالغة لصحة الحمد ووقوعه على أفعال الخلق من حيث كسبهم واتصافهم بها، ويكفى فيه انتسابها إليهم بالاختيار والإرادة وإن لم تكن مؤثرة، لكن جعل كالعدم فى جنب محامده تعالى، والذى كنت أقول به إن اختصاص المحامد به تعالى حقيق، لأن كل نعمة أو جميل، ولو جرى لك أو لغيرك على يد مخلوق فالله تعالى هو المجرى إياه إليك، والخالق له لك والميسر له والاختيار الحقيقى لله تعالى لقوله عز وعلا { ما كان لهم الخيرة } وإن اكتفيت بالانتساب فالاختصاص ادعائى.

والله أعلم. ثم إن الوصف فى مفهوم الحمد، هو الحمد وهو ذكر ما يدل على اتصاف المحمود بالمحمودية وهو قسمان الأول ذكر يفهم منه جميل مخصوص بخصوصه أو عمومه أو إطلاقه. الثانى ذكر يفهم منه الجميل المطلق من غير تعيين، كما إذا قيل أنت متصف بالجميل. وكل منهما إما أن يفهم منه صريحا أو التزاما لزوما قطعيا أو عرفيا أو ظنيا، كما إذا قيل كثير الرماد مراد به كثير الضيف، وهل يعتبر يزوم ظاهر وأعم منه ومن الخفى غاية الخفاء، والضعيف كل ضعف أو أعم منه، ومن الوسط فيه تردد. وبهذا التعميم السابق صار قولنا أحمد الله والحمد لله ونحوهما حمدا للدلالة على الاتصاف بالمحمودية المفهوم من ثبوت الحمد، ولما كان ذلك مجملا لم يعلم منه أن الله تعالى متصف بأى صفة من المطلق أو العام أو المخصوص، سموها دلالة إجمالية باعتبار أن المدلول مجمل، فالدلالة أعم من أن تكون إجمالية أو تفصيلية، ولك أن تقول حمد إجمالى فهو بمنزلة أنت متصف بالجميل المطلق لا يفيد الإطلاق فيساوى أحمد الله، وقد عرفت أن قولك الحمد لله وأحمد الله حمدا للدلالة على الاتصاف بالكمال، وقد يبحث بأنا لا نسلم دلالته على الاتصاف فلا يكون وصفا بالجميل، إذ الوصف لا يدل على الاتصاف، لأنه فعل الواصف، والواصف قد يصف الشئ بما ليس متصفا به، بخلاف الاتصاف فإنه قبول الوصف والمطاوعة بأن توجد الصفة، فقولك أنت متصف بالكمال لا يصدق إلا بوجود الصفة، فإن قولك الحمد لله أو أحمد الله إن ثبت مضمونه تلزم منه دعوى الاتصاف وذكره لا نفسه، وقولك أنت متصفا يلزم الاتصاف من ثبوت مضمونه، وقد يجاب بأن الحمد لا بد فيه من قصد التعظيم، فكأنه قيل أعظمك ذا كمال، وهو يدل عرفا على أن أنت متصف بالكمال، فإن الشخص لا يكذب نفسه، فكأنه قيل أنت متصف فيصدق المخاطب بمعونة الثقة بالمتكلم، فإنه إنما يصدق بمضمون أنت متصف بمعونة الثقة بالمتكلم، فإن اللفظ إنما يفيد تصوير المعنى والتصديق أمر حادث بمعونة القرائن كما صرح به أئمة الحكمة، وقد يجاب أيضا بأن هذه العبارة تطلق عرفا بمعنى أنه متصف، وقد يجاب أيضا بأن قولك نصفك يدل على صدور القول الدال على الاتصاف، وذلك القول يدل على الاتصاف فيكون دالا عليه، بالواسطة فتحصل أن الدلالة ليست وضعية صرفية ولا عقلية قطعية، بل إنما يفهم من ثبوت الحمد ثبوت الجميل بمعونة الوضع ومقدمات عقلية، أو العرف فإنه إذا قيل إنه محمود، فقد فهم الوصف بالجميل الذى كان أو يكون، ويلزم من صحته ثبوت المحمودية للمحمود، وإذا فهم الوصف فهم الاتصاف لأنه دعوى الاتصاف، فثبت أن الحمد لله لفظ دال على الاتصاف فى الجملة، فيكون حمدا، وما قيل من أن الوصف إنما يدل على مطلق القول الشامل للصادق والكاذب، وذلك لا يدل على الاتصاف ليس بشئ، لأن جنس الكلام أعنى الماهية من حيث هى دال على ثبوت مضمونه فى الواقع، فإذا سمعه المخاطب فهم منه الاتصاف، وأما التصديق بمضمونه فمن القرائن بل الخبر الكاذب أيضا دال بالوضع على ثبوت مضمونه، والكذب احتمال عقلى، وذكر الدوانى تلك الأجوبة وسمى الثانى جوابا بطى المسافة ، فيحتمل أن يريد بالطى أن قولك الحمد لله بمنزلة أنت متصف، وبمعناه وحينئذ يلزم أن يكون الحمد لله مجازا، مع أنه لا يجرى فى أحمد الله إلا بالتكلف التام، والأظهر أن المراد إن اعتقدك متصفا مستعمل فى دعوى الاتصاف، فالطى بمعنى ترك دعوى أن الأول دال على الاتصاف، والدليل عليه متنقل إلى دعوى نقلى وهو أنه مستعمل بمعنى أنت متصف عرفا.

ثم إنه لا يخفى أن ما ذكره من أن الشخص لا يكذب نفسه، إنما يجرى فى حمدت أو أحمد لا فيما إذا قيل أنت محمود أو لك الحمد مما لا يتضمن دعوى، اعتقادا لمتكلم وحمده إياه حتى يقال إن المرء لا يكذب نفسه، فلا يكون الجواب حاسما لمادة الشبهة، وإن أراد أن دعوى الحامد اعتقاد الكال بمنزلة دعوى كماله، فغاية ما يلزم من ذلك أن يكون القائل ناقلا دعوى الاتصاف وهو لا يدل على الاتصال، فتأمل جدا وإلا فى ثبوت دعوى ظهر الاعتقاد أن الحمد إنما يتحقق إذا تحقق المحمود عليه وهو الكمال الاختيارى للمحمود، فإذا قال أحمدك أو أنت محمود فكأنه قال أنت متصف بكمال الاختيارى، وصار منشئا للوصف، وإذا اكتفى فى المحمود عليه باعتقاد الحامد بثبوته له فقد تضمن دعوى اعتقاد ثبوت الجميل الاختيارى، والاختيارى كمال ولا يحتاج إلى دعوى أن التعظيم فرع اعتقاد الكمال، ثم قول اعتقاد العاقل ثبوت كمال الشخص بالاختيار فرع كمال فيه عرفا أو حقيقة، أقله صلوحة لأن يعتقد فيه جميل باختياره، وهذا نوع كمال أو مستلزم لكمال مفقود فى من لم يكن صالحا لأن يعتقد فيه كمال، بأن تكون الكمالات وصلاحية اتصافه بما منفية عنه، ولك أن تقول وصف المرء بالجميل وتعظيمه واعتقاده ثبوت الجميل له أمور جميلة عرفا بذاتها ولو فى الجملة. فإذا ادعى ثبوت جميل غير المحمود وبالجملة كون المرء محمودا أمر حسن بالنسبة إلى كونه محقرا غير معتقد فيه الكمال، فإثبات الحمد إثبات لكمالات ثلاثة، فتتم الدلالة من غير احتياج إلى كثرة دقة، ثم السؤال إنما يتوجه فى الحمد لله ونحوه إذا لم يلاحظ معنى اللامين، وأما إذا لوحظ اختصاص الجنس والإفراد أو الفرد الكامل وإلا كمل، فدلالته على الاتصاف بالكمال التام غير خفى، لأن اختصاص ذلك فرع غاية الكمال.

وقيل الحمد لله وأحمد الله ونحوه حمد شرعى لا لغوى، أعنى أنه وضع للإنشاء كما وضع بعت واشتريت لإنشاء العقد، فيترتب عليه فوائد الحمد اللغوى، وإن لم يصدق التعريف عليه، وهذا على الاحتمال غير بعيد، وأما على الاعتماد والظن فلا يكونان إلا عن دليل، والذى يعلم من الشرع أنه اكتفى به فى مقام الحمد، ومنهم من قال الحمد ها هنا بمعنى المحمود به، فكأنه قيل الكمال لله، ولا يخفى أن ذلك إنما يظهر فى الجملة الاسمية، وأما إذا قيل أحمد الله فمعناه أنسب الكمال إلى الله وأصفه به فلا يفيد إلا دعوى الفصل فيرد عليه الإشكال السابق، وجعل المصدر بمعنى المحمود به ما أشفى العليل ولا أروى الغليل إلا أن يكون لإنشاء النسبة، وقيل لم يرد بذلك إلا إظهار محمودية الله وحامدية العباد ولا يلزم أن يكون حمدا وهو المراد حيث أمر به الشارع وهو منسوب إلى الشيخ عبد القاهر، ويلزم من ذلك فى نحو أحمد وتحمد أن يكون هناك حمدا جزاء ويكون فى اللفظ تجوز بعيد. والله أعلم. وجملة الحمد خبرية لفظا إنشائية معنى، لأن الإنشاء ما قارن لفظه معناه أو تبقت الحرف الأخير منه على الخلاف فى ذلك، والقصد من هذه الجملة إنشاء الحمد، ولا شك أن المراد من الإتيان بجملة الحمد لم يكن موجودا قبل وجودها من الحامد حتى يكون مخبرا بذلك، ولهذا اشتق له اسم الحامد، ولو كان مجرد خبر لم يشتق له من متعلق إخباره اسم، إذ من لم يقم به الوصف لا يشتق له من لفظ ذلك الواصف وإن تلفظ به فلا يقال لنم قام زيد أو زيد له القائم قائم بخلاف الناطق بجملة الحمد فإنه قام به وصف الحمد المراد من تلك الجملة، وإن كان الأصل فى القصد بالخبر إعلام المخاطب بالحكم الذى هو مضمون الخبر، وقد يقصد به إعلام المخاطب بأن المخبر عالم بذلك والأول يسمى فائدة الخبر. والثانى لازمها كما فى علم المعانى، وكل مهنهما ليس مرادا بمجرده من جملة الحمد، وظاهر كلام المصنف أنه يتعين أن تكون إنشائية، ولكن تقدم أنه يجوز أن تكون خبرية لفظا ومعنى مع حصول الحمد بطريق اللزوم، إذ الإخبار عن الحمد بأنه مملوك أو مستحق لله يستلزم نسبة مالكية الحمد واستحقاقه إليه، وذلك جميل قطعا، فيكون الوصف به حمدا لا بطريق المطابقة ولعله مراد من دل كلامه على عدم حصول الحمد على تقدير الإخبار، وحينئذ يشكل تعليل شيخ الإسلام كون الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى بحصول الحمد بالتكلم بها مع الإذعان لمدلولها، لأنه لا ينتج الإنشائية معنى لحصوله مع الخبرية إلا أن يريد حصول الحمد لها بنفسها، وأما ما قيل من أنه لا بد فى تحقيق الحمد من الإذعان لمدلول الجملة والإخبار لا يستلزمه فلا يتحقق حمد على تقديره، ففى الغاية السقوط لأنه إنما يأتى على أن المراد بالتعظيم الباطنى الاعتقاد، ولأنه لا وجه للفرق فى عدم استلزام المذكور بين الإخبار والإنشاء، وقد علم تحقيق الإنشاء مع عدم الادعاء، بل مع إذعان العدم، ولأن اعتبار الإذعان وعدم لزومه للإخبار لا يسوغ إطلاق منع الإخبار وعدم حصول الحمد على تقديره، بل وزانه وزان سائر المعتبرات فى الحمد كالتعظيم ظاهرا، فغاية الأمر توقف تحقق الحمد على تحققه، وبالغ بعضهم فى إنكار كون الحمد لله إنشاء لما يلزم عليه من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه فى الوجود، وبحث فيه الكمال ابن الهمام بأن الحمد ثابت بلا شك والحامدون كذلك، وبأنه لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم، فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم، فلو كان الحمد إخبار معنى كما هو لفظ لم يقل لقائل الحمدلله حامد ولا انتفى الحامدون، واللازم من مقارنة معنى الإنشاء للفظة انتفاء وصف الواصف المعين لا الاتصاف، لأن الحمد إظهار الصفات لا ثبوتها، نعم قد يقال يلزم كون كل مخبر منشأ حيث كان واصفا للواقع ومظهرا له، لكن يدفع هذا بأن الحمد يؤخذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه ابتداء التعظيم، وهذا لس جزء ماهية الخبر، فاختلف الحقيقتان كظهر أن منشأ الغلط هو الغفلة عن اعتبار هذا القيد جزء ماهية الحمد، إذ بالغفلة عنه ظن أنه إخبار لوجود خارج يطابقه وهو الاتصاف بالجميل ولا خارج للإنشاء، وأنت علمت أن هذا خارج جزء المفهوم وهو الوصف بالجميل وتمامة وهو المركب معه من كونه على وجه ابتداء التعظيم لا خارج له بل هو ابتداء معنى لفظة علة له.

والله أعلم. وتقدم أن الحمد مختص بالله ومن حصر فيه تحقيقا أو مبالغة، لأن كل جميل فهو له ومنه، خلقا وتمكينا وتيسيرا، ويبحث بأن أفعال العباد ترجع إلى الله تعالى من جهة الخلق والإقدار وتحصيل الأسباب والتوفيق، ولكن ترجع إلى العبد أيضا من جهة المباشرة والكسب بعد الإرادة سواء قيل إنه غير مؤثرة، كما هو مذهب أبى الحسن الأشعرى والزاعمين أنهم أهل السنة لو قيل مؤثرة، وهذه الجهة وإن رجعت إلى الله تعالى لأنه خلق القدرة والإرادة وتحصيل الأسباب ورفع الموانع، لأنه ترجع إلى العبد أيضا لأنه شخص خلق الله تعالى فيه الجميل ومكنه من مباشرته بعد خلق الإرادة وبإرادته ومباشرته يمدح ويثاب ويذم ويعاقب، فيجث بالضرورة أن ترجع إلى العبد بوجه ما يخص به فيحمد باعتبار هذه الجهة، فرجوع الحمد إلى الله تعالى لا يقتضى حصر الحمد فيه.

وإن قلت لو رجع الحمد إلى الله تعالى باعتبار المذكور لرجع لمصالح وحكم ومنافع لا يرعف تفصيلها إلا العليم الحكيم، وهو وإن تضمن شرا بالنسبة إلى شخص فجهات خيريته أتم أكثر فهو خبر، وإنما المذموم مباشرة المكلف له وإرادته، قال صلى الله عليه وسلم

" والشر ليس إليك "

أى ليست شريته من جهة راجعة إليك بالله كالخلق والأقدار. وقيل المراد حصر الاستحقاق والسؤال بحاله والأشكال على منوال، لأنه إذا رجع إلى العبد بوجه فقد استحقه بالجملة ولو كان ضعيفا وأكثر المتأخرين الناظرين على أن الحصر مبالغة وادعاء. قال بعضهم وبه صرح السعد فى حاشية الكشاف، والمراد أن الأفعال لما رجعت إليه وكذا المحامد، أمكن ادعاء الحصر فيه، ويحتمل أن يكون فسر اختصاص الحمد فى الكشاف بأنه لا أحق منه، والمراد أنه أحق من غيره، فالمراد حصرا حقيقة الحمد، لكن القاضى لما قال ذلك أعقبه بقوله بل لا يستحق فى الحقيقة الحمد غيره، وقال فى له الحمد دل على اختصاصه به فى الحقيقة فعاد الإشكال، ثم إنه قال فى قوله الحمد فى الآخرة إن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها، وهو صريح فى أن العبد يستحق الحمد فى الدنيا، فقيل فى رفع المنافاة بين كلاميه أن المنفى الاستحقاق، وبمعنى أنه لازم له لو ترك يكون ظلما وتجاوزا عما يجب، فالعبد لا يستحق الحمد عند التحقيق، كما أنه لا يستحق الثواب بطاعته، وإنما ذلك من فضل الله الرحمن الرحيم، فإذا أثبتنا للعبد حمدا أو ثوابا وقلنا باستحقاقه، فعلى معنى تأهله لذلك بمقتضى وعد الله وكون الله - عز وجل - لا يضع الشئ فى غير موضعه، وليس استحقاقا واجب الأداء شرعا أو عقلا، بل مناسبة واستحسان، وزعمت المعتزلة أن الثواب لازم وكلا الاستحقاقين حقيقان، فلا حاجة إلى قول القاضى بالحقيقة، اللهم إلا إن أراد بها أن استحقاق العبد للحمد كعدمه، لأن الله هو مولى الخير والجميل، ويحتمل أن يكون قد حمل الاستحقاق فى الحقيقة على ما لم يكن للغير دخل فيه، وهذا ليس إلا لله، فإن كل حمد لغيره فلله الجهة العليا منه وفيه بعد، وتحصل من ذلك أنه يجوز أن يكون غير الله محمودا، لكن الله تعالى هو الكامل فى المحمودية، وقال الدوانى القصر على الحقيقة فلا محمود حقيقة إلا الله، والإشكال مندفع لأن الحمد مختص بالفعل الاختيارى ولا اختيار لغيره تعالى حقيق، وإنما العبد مضطر فى صورة مختار على ما صرح به السعد فى شرح المقاصد، فيلزم اختصاص الحمد اللغوى، إذ المحمود عليه يجب أن يكون بالاختيار ونسبة الفعل إلى العبد ولو كانت حقيقة، لكن يعتبر فيه الكسب لا التأثير والاختيار الذى هو أنه لا يقع إلا ما أراد، والمعتبر فى مفهوم الحمد الاختيار لا الكسب، فلا يلزم إطلاق الحمد على ما يتعلق بالعبد، والجميل فى قولهم على الجميل صفة للفعل، كيف والمحمود عليه يجب أن يكون وصفا للمحمود والقائم بالعبد كالصلاة مخلوق لله - عز وجل - لا فعل له ولا مخلوق للعبد، بل فعل للعبد وليس اختيارا له بمعنى أنه لما أراده استحال ألا يقع، لكنه لا يخفى أن الاختيار إما بمعنى أنه لا يصير إلا ما أراد المريد، من حيث إنه إرادة وهو مختص بالله عز وعلا، وإما بمعنى صدور الشئ بعد الإرادة وهو مستعمل فى العرف ومتبادر عند الإطلاق، إذ قيل فعل فلان باختياره أو فلان مختار، والمراد به نفى الخبر والاضطرار وليكن هذا هو المأخوذ فى تعريف الحمد وهو شائع فى اللغة، وشاع فيها حمد غير الله سبحانه، وليس الاختيار بذلك المعنى مجازا بل حقيقة لغوية وإلا فلا أقل من أن يقال عرفية، والتعريف للمتأخرين المستنبطين لا اللغويين، فلا يقال كيف يستعمل المجاز فى التعريف، بل لو كان مجازا لم يمتنع التعريف به لأنه مشهور أو لأنه حقيقة عرفية، فليس الحمد معتبرا فيه الاختيار المختص بالله تعالى.

وأما كون الجميل صفة للفعل، ففيه أن الفعل يجوز إطلاقه على ما ينافى الكسب، ولا يقتضى إلا المباشرة وهو المعنى بقوله تعالى

وعملوا الصالحات

وهو شائع فى عرف اللغويين وغيرهم، فلا بعد فى إرادته فى التعريف ولا سيما إن أريد الفعل عرفا، ثم إن الفعل كثيرا ما يطلق على الحاصل من الفعل فيحتمل أن يكون المراد الأعم بعموم المجاز يدل له ما ذكر السعد أن الحمد على الإنعام أمكن، وهو أيضا يدل على أن المحمود عليه لا يجب أن يكون وصفا حقيقيا، ثم إنهم صرحوا بأن الفعل الاختيارى أعم من أن يكون حقيقة أو حكما، وزعم الاختصاص مدع لكن يبقى النظر فى قوله تعالى

له الملك وله الحمد

والظاهر منه الاختصاص حقيقة، ولو لم يكن الاختيار بالمعنى الحقيقى لم يصح الحصر، إذ ليس فى التعريف شئ آخر يقتضى الاختصاص، كذا قيل. ولا يخفى أنه بعد تسليم أنه ليس هنا شئ آخر حقيقة، إنما يتم إذا كان اللام فى الحمد للجنس أو للاستغراق، وكان التقديم للحصر والاختصاص، وكل منهما ممنوع عند النزاع، وكون ذلك هو الأظهر الذى لا ينبغى أن يعدل عنه يحتاج إلى دليل وتفصيل، ولا سيما وقد اشتهر أن الشئ عند الإطلاق يصرف إلى الفرد الكامل، والتقديم ما يكون لتقوية الحكم والاتصاف أن المتبادر من السوق الحصر، وحيث لم يكن عهدا ظاهرا فالمتبادر الجنس أو الاستغراق، والحق أن لا جزم بأحد الوجهين ولا الترجيح التام، ولكل وجه وجهة، أما الحمل على المعنى الحقيقى الأصلى فلأنه المتبادر عند الإطلاق، أى إذا لم يطلق على المتعلق بالعبد، بل من حيث هى ويؤيده قيود التعريف محمولة على الظاهر، وأنه لا يعدل عن المتبادر الظاهر فيها ما لم يمنع عنه مانع، وحينئذ يظهر الاختصاص والاختيار، وإن كان أعم من الحكمى، إلا أنه لما فسر بأن يكون منشأ لفعل اختيارى يلزم ثبوت الاختيار، فلا يصح ممن ليس له اختيار أصلا، وهو الاختيار الذى لا محيد عن مقتضاه، والعبد ليس له هذا الاختيار.

وأما المعنى الثانى العرفى فلأنه الشائع الذائع بين أهل اللغة والعرف العام، ويؤيده أن التعاريف اللغوية يكتفى فى قيودها بما هو الشائع لا ينظر إلى التدقيقات الحكمية، وأنه قد شاع بين الجمهور حمد غيره تعالى، والمتبادر الحقيقة لا المجاز، وحينئذ لا يتم الاختصاص بمعنى الحصر الحقيقى. وأما ما قيل من الثانى فى قوة الخطأ ولا يحمل عليه إلا لضرورة، فهو مبالغة لا تعويل عليه، فإن قلنا بالاختصاص الحقيقى فالوجه فى دفع التناقض بين كلامى القاضى أن يقال الاستحقاق والحمد الحقيقيان، وإن اختصا بالله تعالى لكن فى الدنيا قد يرى للعبد أفعال يستحق أن يحمد عليها مجازا ظاهرا، أو يراد حمده مجازا، أو يراد حمد الله بسبب ما جرى على يده، وبالجملة لما كان له فى الجملة دخل ما فى ظهور المحمود عليه ناسب أن يكون له دخل فى الحمد، وأما فى الآخرة فيظهر أن لا دخل لغيره تعالى، فلا يستحق ذلك القدر العبد، و يقال لما اعتبر فى الحمد الاختيار وليس لغير الله تعالى اختيار حقيقة بل ظاهرا، هذا كله إذا أريد زيادة المناسبة وشدة الخصوصية، وهو الذى يقتضيه لام الاختصاص كما فى قولك الجل للفرس، فلا إشكال فى المقام، لأن الجنس للحمد وكذا لا إفراده خصوصية بالله تعالى لا تكون لغيره، إذا كل كمال أو جمال مضمحل فى جماله ويرجع إليه بوجوه عائدة، وكل اختيار لغيره يعود إلى اضطرار وظاهره يرجع إليه، وكل معظم هو مستحق لما فوقه وذلك يعود إليه، وله تعالى محامد يستقل بها، فللجنس والإفراد زيادة خصوصية، وتعلق به تعالى ولله الحمد أولا وآخرا ظاهرا وباطنا. { رب العالمين } أى مالكهم أو سيدهم أو مصلحهم أو مربيهم أو خالقهم أو معبودهم أو مدبرهم أو جابرهم أو صاحبهم أو ثابتهم، أى الثابت لهم وقريهم، أى القريب إليهم وجامعهم فى أنفسهم وآمرهم أو محيطهم كذلك، أو كثير الخير لهم أو مولى النعم لهم.

فهذه خمسة عشر معنى، كلها تدل على معنى الحفظ والتربية، وكلها صفات فعل، إلا المالك والسيد والثابت فصفات ذات، وليس لفظ رب مشتقا من التربية لكنه بمعناه كما علمت، فإن لامه باء موحدة ولامها ياء مثناة تحتية، وهى تبلغ الشئ إلى كماله شيئا فشيئا. وإن قلت كيف يدل المالك وما ذكر على التربية والحفظ؟ قلت التزاما لا مطابقة ولا تضمنا، فإن من شأن من يملك الشئ أن يسعى فى حفظه ونمائه وكذا ما ذكر، ولا يطلق رب على غير الله تعالى إلا مقيدا كقوله تعالى

ارجع إلى ربك

وقول الأندلسي

فسل ربهم أعنى العظيم برومة لماذا أجازوا الغدر بعد أمانة

ولا يقال الرب بأل لغير الله تعالى، ولو لم يكن لبس لقرينة تأدبا وحوطة، ولو جاز بالنظر إلى اللغة وجاز إطلاقه على غيره مجموعا ، كما تقول رب الأرباب، قال الله سبحانه وتعالى

أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار

ولفظ رب فى الأصل مصدر وصف به للمبالغة، كالصوم والعدل وهى مبالغة نحوية وهى الكثرة، وفى ذلك أيضا بلاغة، على ما مر، ولا تنافى المصدرية المعانى السابقة، لأنه استعمل فيها بعد إخراجه عن معنى مجرد ما وضع له، فوصف به حتى كأنه اسم فاعل أو صفة من الصفات، فهو محتمل للضمير، وقيل لا وكذا كل ما ليس صفة إذا جعل نعتا أو جريا مجرى النعت، فبطل ادعاء بعضهم المنافاة، وقيل صفة مشبهة من ربه يربه فهو رب كنم الحديث ينمه فهو نم، فوزنه لعل - بفتح الفاء وإسكان العين - يقال ربه بمعنى ساسه وقام بتدبيره، وهو من باب نصر ينصر، ومجئ الصفة المشبهة من هذا الباب عزيز، وإن قلت كيف تصاغ الصفة المشبهة منه وهو متعد؟ قلت صيغت منه بعد جعله لازما بنقله إلى فعل - بضم العين - أو بتنزيله منزلة اللازم، بقطبع النظر عن تعلقه بالمفعول وعدم ملاحظة له، لفظا ولا معنى، إذ لم يذكر ولا نوى حين قيل هو رب أو نحو ذلك، وقيل اسم فاعل أصله راب بالألف حذفت الألف لكثرة الاستعمال، كما يقال فى بار بر، لالتقاء الساكنين، لجواز التقائهما إذا كان الأول ألفا أو واوا أو ياء والآخر مدغما، وضعف لأنه خلاف الأصل ولا دليل عليه، واختيار بعضهم أن لفظ رب مشترك بين المصدر والصفة لجواز اشتراك اللفظ بين المصدر والصفة، فتحمل الآية ونحوها على المصدر أو على الصفة، فأحد وجهيها الصفة المشبهة أو اسم الفاعل. والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب، فيقال لما تنظر فيه المرأة حيضها عالم كما يقال لها علم، وكذا يقال لما يقاس عليه النعل ونحوها ثم غلب على ما يعلم به الصانع - سبحانه وتعالى - وهو ما سواه من جسم وعرض، فان الأجسام والأعراض تدل على وجوده لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته، ومعنى إمكانها أن وجودها جائز لذاتها، ولو وجب بمقتضى قضاء الله وقدره والصانع يعرف بصنعته، لأن الصنعة تدل على الصانع وكل شئ لله سبحانه وتعالى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" إن الله صانع كل صانع وصنعته "

والعالم مشتق من العلم - بكسر العين وإسكان اللام، لأن الصانع يعلم به وليس كما قال بعض العلماء مشتق من العلامة، من أن تلك الأشياء علامة على الله تعالى، لأن العلامة نفسها مشتقة من العلم - بكسر فسكون - اللهم إلا إن أريد التقرب للأفهام. وإن قلت إذا كان العالم اسما لما سوى الله تعالى فما فائدة جمعه؟ قلت يطلق العالم على كل فرد فرد وجزء جزء، فزيد عالم وبكر عالم، وكل جزء منهما وإن دق عالم فيجمع ليشمل كل الأفراد والأجزاء، ويطلق العالم على كل نوع نوع، فالناس عالم، والملائكة عالم، والجن عالم، والنمل عالم، والخيل عالم، والجبال عالم، والأرضون عالم، والسماوات عالم، وهكذا فيجمع ليشمل الأنواع، ويطلق ويراد به ما سوى الله عز وجل جميعا، فيجمع تنصيصا على الأنواع، فمعنى العالم ما سوى الله جميعا من غير تعرض للأنواع، ومعنى العالمين جميع الأنواع كالجلوس يدل عن النوع التزاما، والجلسة يدل عليها مطابقة وتصريحا، هذا ما تراه منى ولا تراه لغيرى والله أعلم. وإن قلت ليس علما لعاقل ولا صفة له، فكيف يجمع جمع سلامة لمذكر؟ قلت جمع شذوذا من حيث فقد العلمية والوصفية، وقد يقال اعتبر فيه معنى الدال، فكان كوصف فساغ جمعه قياسا بالتغليب، أو إذا كان العاقل، وأما جهة العقل فقد يقال فيها إنه جمع تغليبا للعاقل على غيره، أو يقال إنه جمع للعالم الذى هو عاقل كالملائكة والناس والجن، وأن أنواع العقلاء هى المرادة فقط، فهذه كما يطلق قائم على العقال ويطلق على غير العاقل، ولا يجمع على قائمين إلا المطلق على العاقل، أو المطلق عليه والمطلق على غيره معا تغلبيا، هذا ما يظهر لى. وذكر أبو حيان أن أل للاستغراق وأنه جمع سلامة لعالم الذى هو اسم جنس، وقياسه ألا يجمع وشذ جمعه جمع السلامة المذكور، لأنه ليس علما ولا صفة ولم يناف ما ذكرته، وقال وذكر ابن مالك فى شرح التسهيل إلى أن عالمين اسم جمع لمن يعقل وليس جمع عالم، لأن العالم عام للعقلاء وغيرهم، والعالمين خاص بهم، ويعنى الجمع يجب أن يكون أعم من مفرده لا أخص ولا مساويا. قلت يرده أن عموم العالم كعموم قائم فى العقل وغيره، والمأخوذ فى الجمع هو المستعمل فى العاقل أو فيه مع المستعمل فى غيره معا تغليبا، كما وعمومه بدلى وعموم العالمين كعموم الرجال شمولى، والعموم الشمولى هو المعتبر فى الجمع، فإذا أخذت العالم فى العاقل وجمعته كان العقلاء الذين شملهم الجمع أكثر من الذين شملهم العالم، وكذا فى التغليب بل أعظم، فاذا فهمت عنى ظهر لك أنه لا حاجة إلى جواب بعض بأن كون الجمع أعم أغلبى، وبأنه يجوز كونه مساويا، بل ذلك باطل والحق كونه أعم أبدا، وقد قيل المراد فى الآية ذووا العلم فقط الملائكة والإنس والجن، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع، وقيل المراد فيها الإنس فقط، لأن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر فى العالم الكبير من الأجسام والأعراض يعلم به الصانع كما يعلم بما أبدعه فى العالم، ولذلك سوى بين النظر فى الإنس والعالم الكبير، إذ قال

وفى أنفسكم أفلا تبصرون

ووجه ذلك أن الإنسان يشتمل على ما فى غيره من الكمال ويزيد عليه بالتمكن والاستنباط والإمداد بالمعارف، واكتساب الخصال الحميدة، وإنما جميع العالم بالياء والنون مع أن الجمع بذلك جمع قلة تنبيها على أن الأجناس والأنواع وإن كثرت قليلة فى جنب عظمة الله وكبريائه ومراعاة لأنواع العقلاء وأجناسهم، لأنها قليلة ولو كثرت أفرادهم. واختلف فى العوالم فقيل ألف عالم أربعمائة فى البر وستمائة فى البحر، وقيل ثمانية عشر ألف عالم، عالم الدنيا كلها عالم واحد، وقيل أربعون ألف عالم، الدنيا واحد منها، وقيل ثلثمائة وستون عالما، ثلثمائة حفاة عراة لا يعرفون خالقهم، وستون يلبسون الثياب والريش، وقيل ثمانون ألف عالم، أربعون فى البر وأربعون فى البحر. وقال كعب الأحبار لا يحصى عدد العالم إلا الله تعالى

وما يعلم جنود ربك إلا هو

وقيل المراد فى الآية كل ذى روح دب على الأرض. وقيل المراد سكان أرض بيضاء مثل الدنيا ثلاثون مرة مملوءة بخلق الله سبحانه، لا يعرفون آدم ولا إبليس. وقيل المراد ملائكة الأرض وهم ثمانية عشر ألف ملك فى كل ناحية منها أربعة آلاف وخمسمائة، مع كل واحد منهم عدد من إنس وجن، وبهم رفع الله سبحانه العذاب عن أهل الأرض، وقيل رهط من الملائكة فى الجهات الأربع مع كل منهم من الأعوان ما لا يعلم عدتهم إلا الله سبحانه وتعالى، ومن وراء تلك الجهات أرض بيضاء كالرخام، عرضها مسيرة الشمس أربعين يوما مملوءة بملائكة الله، يقال لهم الروحانيون، لهم زجل بالتسبيح والتهليل، لو كشف عن صورة أحدهم لهلك أهل الأرض من صورته، ومنتهاهم إلى حملة العرش. وذكر بعض فى الأخبار أن بنى آدم عشر الجن، وبنى آدم والجن عشر حيوانات البر، وحيوانات البر عشر الطير، والطير عشر حيوانات البحر، وحيوانات البحر عشر ملائكة الأرض، وملائكة الأرض عشر ملائكة السماء الدنيا، وهكذا كل سماء عشر ما فوقها، وملائكة السابعة عشرة ملائكة سرادق واحد من سرادقات العرش التى عددها مائة ألف طول كل منها كعرض السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، وما مقدار شبر من ذلك إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لله تعالى، له زجل بأنواع التسبيح والتهليل والتقديس، وكلهم فى الذين يحومون حول العرش كقطرة فى بحر، والعالم الكبير إما ظاهر محسوس وهو ما ظهر للحواس، ويقال له عالم الملك، وهو يكون بعضه من بعض، وإما باطن معقول كعالم الملكوت، وهو ما أوجده الله بالأمر الأزلى بلا تدريج، وبقى على حال واحدة بلا زيادة ولا نقصان، وإما عالم الجبروت، وهو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون فى الظاهر من عالم الملك، فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت، والإنسان ينقسم إلى ظاهر محسوس كالعلم، وإلى باطن كالروح والعقل والإرادة، وإلى ما هو مشابه، وإلى مشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس والقوى الموجودة بأجزاء البدن.

ورب نعت للفظ الجلالة أو بدل، وليس البدل أبدا هو المقصود بالحكم، بل هذا غالب، والآية من غير الغالب، بل معنى كونه المقصود بالحكم عندى أنه يقصد تارة بوجه من الوجوه، كقصده هنا ليناسب الحمد، لأن دلالته لبادئ الرأى على الجميل أظهر من دلالة لفظ الجلالة، ويقصد تارة بالحكم وحده بحيث لا يكون الأول إلا تمهيدا له، وليست الآية من هذا، ويجوز كونه عطف بيان للمدح، وقرأه زيد بن على بالنصب على المدح، كذا قال القاضى عطف بيان للمدح، وقرأه زيد بن على بالنصب على المدح، كذا قال القاضى وجار الله، ومثلهما من المحققين، والذى يظهر أن مرادهم أنه منصوب بأمدح محذوف أو بأعنى أو بأخص، وأن وجه المدح على تقدير أعنى إثبات العناية والإعلام بها ولو محذوفة، ولكن المعنى عظيما يعلم ما وصف به وأعلق باسمه، ولو حذف ذلك الذى كان وصفا أو علق به أو على النداء، أى يا رب العالمين على طريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، أو فعل محذوف دل عليه الحمد، أى أحمد رب العالمين. وفى قوله { رب العالمين } دليل على أن الأشياء محتاجة إلى إبقائه إياها بعد حدوثها، كما احتاجت إلى إحداثها قبل وجودها، فلولاه لم تبق بعد حدوثها، كما أنه لولاه لم تكن، ووجه الدلالة أن الرب بمعنى المربى، أو غير ذلك من معانيه، هو القائم بإبقاء الشئ وإصلاحه حال بقائه. { الرحمن الرحيم } إنما كررها لتعليل استحقاق الحمد، كما وصف برب العالمين لذلك. وكما وصف لذلك بقوله { مالك يوم الدين } كأنه قيل إن الله حقيق بالحمد لا أحد أحق به منه، ولا يستحقه على الحقيقة سواه، لكونه موجدا للعالمين، مبقيا لهم حال بقائهم، منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها، عاجلها وآجلها، ملكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب، فإن ترتيب الوصف على الحكم يشعر بكون الوصف علة للحكم، فالوصف بالربوبية والرحمة والملك بعد الحمد يشعر بأنها علة الحمد فيفهم، ذلك أن من لا يتصف بتلك الصفات لا يكون أهلا للحمد، فضلا عن أن يثبت له الحكم بالعبادة والاستعانة به المذكورين بعد، فالوصف بالربوبية بعد ذكر الحمد لبيان ما أوجب الحمد وهو الإيجاد والتربية والإبقاء، وبالرحمة للدلالة على أنه متفضل بالإيجاد والتربية والإبقاء، مختار فى ذلك لا مضطر ولا موجب عليه ذلك بالذات، ولا يعارض كأعمال الخلق، بل فضل يستحق عليه الحمد.

وعن سليمان أن الله تبارك وتعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة منها طبقاها السماوات والأرض، فأنزل منها رحمة واحدة فيها يتراحم الخلائق حتى ترحم البهيمة بيهمتها، والوالدة ولدها، فإذا كان يوم القيامة جاء بتلك التسعة والتسعين، ونزع تلك الرحمة من قلوب الخلائق، فأكملها مائة رحمة، ثم يصبها على خلقه، فالخائب من خاب من تلك المائة. وعن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" " والذى نفسى بيده لا يدخل الجنة إلا رحيم " قالوا يا رسول الله كلنا رحيم، يرحم الرجل نفسه وولده ويرحم أهله. قال " لا حتى يرحم الناس جميعا " "

، والوصف بملك يوم الدين لتحقيق الاختصاص، فإنه لا يشاركه أحد بوجه ما من الوجوه فى كونه ملك يوم الدين، ولتضمين الوعد للحامد والوعيد للكافر المعرض عن، الحمد، وقيل كرر الرحمن الرحيم لأنه لم يذكر فى البسملة من أنعم عليه، وهنا قد ذكره وهو العالمون فى قوله { رب العالمين } ، وقوله { الذين أنعمت عليهم } وليس هذا منافيا لما ذكرته أولا من أنه كررها لتعليل استحقاق الحمد وخصهما بالتكرير تنبها، على غلبة رحمته غضبه، وعلى أن العناية الرحمة أكثر منها بسائر الأمور، فلذلك كررهما دون لفظ الجلالة ولفظ رب ولفظ ملك، وذلك خمسة أسماء مذكورة فى السورة الله والرب والرحمن والرحيم والملك، كأنه قال خلقتك أولا فأنا إله، ثم ربيتك بإسباغ نعمتى فأنا رب، ثم عصيت فسترت فأنا رحمان، ثم تبت فغرت فأنا رحيم، ولا بد من إيصال الجزاء فأنا ملك يوم الدين، أى ملك يوم الجزاء كقوله تعالى فى بعض كتبه

" يا ابن آدم كما تدين تدان "

وصيرته العرب مثلا وورد فى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم فهو حديث قدسى. وقول الشاعر

واعلم وأيقن أن ملكك زائل واعلم بأنك كما تدين تدان

وقول الشاعر

ولم يبق سوى العدوا ن دناهم كما دانوا

يقال دانهم الله بفعلهم دينا بكسر الدال وفتحها، وإضافة ملك على ظاهرها يعنى أن يوم الجزاء وهو يوم البعث فى ملكه يحضره إذا شاء، ويجوز أن تكون من إضافة الوصف إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع بعد حذف المفعول، والأصل ملك الأمور يوم الدين، وهو يوم لما يحضر نزل منزلة الحاضر أو الماضى، كذا قيل.

والظاهر عندى أنه لا حاجة إلى هذا التنزيل، لأن ملك صفة مبالغة للاستقبال، أو لأن المعنى ثبت له من الأزل أو من اليوم، كما من الأزل أنه ملك يوم الدين، فإنه قد ملك ما سيخلقه كما يملك الإنسان ما غاب عنه تعالى الله، وقيل إنه نزل يوم الدين لتحقق وقوعه منزلة الواقع فتستمر مالكيته فى جميع الأزمنة، فتكون الإضافة حقيقة تسيغ نعت المعرفة بملك، فان إضافة الوصف الاستمرارية حقيقة بالنسبة إلى ما مضى ولفظية بالنسبة إلى ما حضر وما استقبل، ونعت المعرفة قرينة على اعتبار جانب المضى، وقيل الدين الشريعة وقيل الطاعة، ويقدر مضاف فيهما أى يوم جزاء الشريعة أو يوم جزاء الطاعة، والمعنى الجزاء عليهما وقيل الدين القهر، يقال دنته فدان أى قهرته فذل، وقال ابن عباس الدين الحساب، وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب مالك بالألف، ويعضده قوله تعالى

يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله

فإنه لا مبالغة فى مالك، كما أنها لم تكن فى تملك، وإنما اختلفا فى إثبات أن الله مالك وغيره غير مالك فى ذلك اليوم، والمختار ملك بدون ألف، لأنها هى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغالب، وقراءة أهل الحرمين، وقيل لقوله تعالى

لمن الملك

لأن المراد فيه باليوم يوم الدين، وقد ذكر فيه الملك بضم فإسكان المأخوذ منه الملك بفتح فكسر، وهذا التعليل مبنى على أنه ليس ملك بفتح فكسر صفة مبالغة، بل صفة للمتصرف بالأمر والنهى فى المأمورين، بل هو بمنزلة قولك سلطان ولو كانت فى الأصل صفة مبالغة، واختيرت هذه القراءة أيضا لما فيها من التعظيم، والمالك بالألف هو المتصرف فى الأعيان المملوكة كيف يشاء، فبين المالك والملك عموم وخصوص من وجه، لأن الملك بدون ألف هو المتصرف فى الأعيان المأمورة مملوكة أو غير مملوكة، والمالك بالألف هو المتصرف فى الأعيان المملوكة مأمورة أو غير مأمورة كذا قيل، والأوجه أن بينهما عموما مطلقا، فكل مالك بالألف ملك بدون الألف ولا عكس، لعموم ولاية الملك بدون ألف، وإن اعترض بأنه يقال مالك الدواب والأنعام والوحوش والطيور بالألف، ولا يقال ملكها بدون ألف، أجيب بأن ذلك ليس من جهة عدم شمول حياطته لذلك، بل من جهة أنه إنما يضاف عرفا إلى ما فيه انقياد وامتثال، وينفذ فيه التصرف بالأمر والنهى، وقيل المالك بالألف أعم، فكل ملك دون ألف مالك بألف ولا عكس، وهو قول من يعترض بذلك الاعتراض المذكور، وحجته ما ذكرته مما اعترض به، وقد مر الجواب.

وقيل ملك يوم الدين بدون ألف صاحب ذلك اليوم الذى يكون فيه الجزاء، وقيل هو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود، ولا يقدر على ذلك غير الله عز وجل، ويرده استعماله فى غير الله إلا أن يدعى أنه مجاز بحسب الأصل، وقيل القراءتان بمعنى واحد، وقرئ ملك بإسكان اللام تخفيفا، وقرأ أبو حنيفة ملك بفتحها وفتح الكاف على أنه فعل ماض، ونصب اليوم على المفعولية، أى ملك نفس ذلك اليوم أو على الظرفية، وحذف المفعول أى ملك الأمر فى ذلك اليوم، وقرأ مالكا بالألف والنصب والتنوين، ونصب يوم على المفعولية أو الظرفية على ما مر آنفا، ومالكا فى هذه القراءة حال أو مفعول لمحذوف تقديره أمدح أو أخص أو أعنى، قيل أو منادى بمحذوف على أنه متصل بما بعده، أى يا مالك يوم الدين إياك نعبد، كأنه قيل إياك نعبد يا مالك يوم الدين، وقرأ مالك بالألف والرفع والتنوين ونصب اليوم على ما مر، ومالك بالألف والرفع والإضافة لليوم، وملك بدون ألف وبالرفع والإضافة، وهاتان القراءتان خبر لمحذوف، أى هو مالك أو ملك، وقرأ أبو هريرة مالك بالألف والنصب والإضافة، وقرأ بدون ألف وبالنصب على ما مر فيه والإضافة وجملة ملك فى قراءة الفعل محلها نصب على الحال، وقال أبو حيان لا محل لها لأنها مستأنفة، ويدل للأول فيما قيل قراءة النصب على الحال، ويرده أن النصب لا ينحصر فى الحالية بجواز المفعولية لمحذوف كما مر، أو النداء على ما قيل، بل قراءة الرفع تدل قيل على ما قال أبو حيان، لأنه لمحذوف ولا دليل فيه لإمكان فعل الابتداء، والخبر حال، فذلك كله محتمل جائز والإضافة إلى اليوم فى قراءات الإضافة كلها بمعنى اللام، وقيل بمعنى فى على ما مر من أن المعنى ملك نفس اليوم، أو ملك الأمور فيه، واختير الأول، وخص الإضافة إلى اليوم أو نصبه بمالك، مع أنه مالك كل شئ لتعظيم ذلك اليوم أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه، لأن ملك الأملاك يومئذ زائل، فلا ملك يومئذ ولا آمر إلا الله تعالى كما قال

والأمر يومئذ لله

وقال

لمن الملك اليوم لله الواحد القهار

وقال

الملك يومئذ الحق للرحمن

وخص يوم الدين من سائر أسماء ذلك اليوم كيوم القيامة من ابتداء النشور إلى ما بعده مما لا نهاية له، ولعظم ذلك اليوم كثرت أسماؤه كيوم الدين ويوم القيامة للفواصل، وللتنبيه على الجزاء ترغيبا فى الخير وزجرا عن الشر، ولبيان العموم لأن الجزاء يشتمل على جميع أحوال يوم القيامة و

يوم لا ينفع مال ولا بنون

و

يوم ينفع الصادقين صدقهم

يوم تشخص فيه الأبصار

يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا

يوم لا تملك نفس لنفس شيئا

لمن الملك اليوم

يوم هم على النار يفتنون

ويوم يحشر أعداء الله إلى النار

يوم يقوم الناس لرب العالمين

يوم يتذكر الإنسان ما سعى

يوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل

يوم يقوم الروح والملائكة صفا

يوم ترجف الراجفة

يوما يجعل الولدان شيبا

يوم يخرجون من الأجداث سراعا

يوم يكشف عن ساق

يوم لا يخزى الله النبى والذين آمنوا معه

يوم يبعثهم الله جميعا

يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد

يوم ترى المؤمنين والمؤمنات

فاليوم لا يؤخذ منكم فدية

يوم يدع الداعى

يوم يسحبون فى النار على وجوههم

يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا

يوم يدعون إلى نار جهنم دعا

يوم تمور السماء مورا

يوم نطوى السماء

يوم ينادى المنادى من مكان قريب

يوم يسمعون الصيحة بالحق

يوم تشقق الأرض عنهم سراعا

يوم تشهد عليهم ألسنتهم

يوم نبطش البطشة الكبرى

يوم يعرض الذين كفروا على النار

يوم تقوم الساعة

يوم يلقونه سلام

يوم الحساب

وغير ذلك مما يستخرج بتتبع القرآن والآخبار، وقد ذكرت أكثر من ذلك حاشية شرح الأجرومية، وسمى يوم الدين ويوم الجزاء لأنه يجازى فيه بالجنة والنار وعذاب الموقف، فإن فى الموقف عذابا على قدر المعاصى والغفلة ويأتى ولو على السعيد. { إياك نعبد وإياك نستعين } أى ما نعبد إلا إياك، وما نستعين إلا إياك، فالتقديم للحصر والاهتمام والتعظيم، وزاد إياك نستعين بأن التقديم فيه للمفاصلة أيضا إذ لا تختم بالنون لو قال ونستعينك لكن يلزم أيضا أن يقال فى إياك نعبد زيادة على ما مر وهو المناسبة لإياك نستعين المستحق للتقديم. قال ابن عباس نعبدك لا نعبد غيرك، ونستعينك لا نستعين غيرك، وليكون أول الكلام ما هو مقدم فى الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى وللتنبيه على أن العابد ينبغى أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات، ومنه إلى العبادة ثانيا وبعرض، وإنما ينظر إليها من حيث إنها نسبة شريفة إليه، ووصلة بينه وبين الحق جل وعلا، لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه، فإن العارف بالله سبحانه وتعالى إنما يحق وصوله إذا استغرق فى ملاحظة جناب القدس، وغاب عما عداه حتى لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها، لا من حيث إنها ملاحظة لجناب القدس، أعنى حق عظمة الله وتنزهه عما لا يليق من حيث إنها منتسبة إلى ذلك الجناب، ولذلك كان قوله صلى الله عليه وسلم كما حكاه مولانا جل وعلا

لا تحزن إن الله معنا

أفضل مما حكى عن موسى عليه السلام

إن معى ربى سيهدين

إذ قدم فى الأول ذكر الله على المعية، وقدم المعية فى الثانى وشمل الأول الهداية وغيرها، وظهر فيه حصول الهداية وغيرها فى الحال بظاهر العبارة، والثانى ليس فيه إلا الهداية وطلب حصولها فى المستقبل كذا قيل، ويبحث فيه بأنه شامل لغير الهداية، وهى الحفظ، وأما الطلب فليس المراد أنه أفادته السين، بل أفادته عبارته بقرينة الحال، وما ذكرت من أن التقديم للحصر ولما ذكر هو الحق كما اشتهر فى علم البيان، وليس كما قال السبكى إن التقديم لا يدل على الحصر، وإنه إنما يدل على الاختصاص الذى تفيده لام الجر، ثم لا مانع عندى أن يراد أوجه الحصر كلها فى الآية وحيث أمكن حصر القلب وحصر التعيين وحصر الإفراد، وكأنه قيل نعبدك وحدك ونستعينك وحدك، مخالفين لمن جهل من يعبده ومن يستعينه وتردد، ولا نعبد غيرك ولا نستعينه، كما اقتصر بعض المشركين على عبادة غيرك واستعانته، وإيا ضمير منفصل مشترك بين المذكر والمفرد والمخاطب، وضد ذلك، فهو بالنظر إلى ذلك كالأسماء الظاهرة المشتركة كالعين والقرء فيما يظهر لى، واللواحق تميز المراد من إفراد وتثنية وجمع، وتذكير وتأنيث، وغيبة وخطاب وتكلم، ومن حروف، فالكاف المفتوحة تدل على أن المراد ما ليس مؤنثا، وأن المراد ما ليس غائبا ولا متكلما، وهو ما يسمى فى الجملة مخاطبا، ولو صرح بعض أصحابنا بأنه لا يقال خاطبت الله والواضح عندى الجواز لأنه ظاهر اللغة، ولا مانع لأن معنى خاطبته ناجيته، ولقوله تعالى

ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا

فإن مفهومه أنه يجوز لك يا نوح أن تخاطبنى فى غير الظالمين، وإذا جاز هذا جاز أن يقال خاطبته إلا أن يقال المعنى لا تكلمنى فى الذين ظلموا بما تسمونه فى كلامكم خطابا، والخطاب فى اللغة إلقاء الكلام إلى أحد ولو بصيغة الغيبة، فإذا قلت لك قام زيد فقد خاطبتك، وما يلحق الكاف يدل على التثنية والجمع، فالكاف حرف يدل على معنى فى الضمير قبله، وما يلحقها حرف يدل على معنى فى الحرف قبله وهو الكاف، والهاء كالكاف ولواحقها كلواحق الكاف، إلا أنها للغيبة، وقال الخليل إيا ضمير مضاف إضافة عام لخاص إلى ضمير بعده وهو الكاف أو الهاء إضافة تبينه لما حكاه عن العرب، إذ بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب بإضافة إيا إلى الشواب، ويرده أن هذا شاذ لا يعتمد عليه، وأنه لم نر ضميرا مضافا، وأنه لا إضافة عام لخاص لازمة، وأن الإضافة توجب الإعراب ولا ضمير مفرد، والمعنى إذا بلغ الستين فيلحذر التعرض للشابات وليحذرنه، فيتميز المنفصل من المتصل، وقيل الضمير هو المجموع، وقيل إيا اسم ظاهر معرب بالتقدير على الألف مضاف لما بعده إضافة عام لخاص لازمة، ويرده أنه لا إضافة عام لخاص لازمة وينسب هذا القول أيضا للخليل. وقرئ أياك بفتح الهمزة وهياك بقلبها هاء مكسورة ومفتوحة، وقرئ بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وإذا تقرر أن الكاف للخطاب وقد صح أن الأسماء الظاهرة من قبيل الغيبة فتلك الأسماء هنا اسم، اسم الله ورب والرحمن والرحيم وملك، ظهر لك أن فى إياك نعبد التفات من الغيبة إلى الخطاب، ويكون الالتفات أيضا من الخطاب للغيبة، ومن المتكلم لأحدهما، ومن الالتفات عند السكاكى التعبير بواحد من ذلك، مع أن مقتضى الظاهر التعبير بغيره ولم يتقدم غيره، ومن الالتفات تعقيب الكلام بجملة مستقلة ملاقية له فى المعنى، على طريق المثل أو الدعاء أو نحوهما، كما فى قوله تعالى

وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا

وقوله

انصرفوا صرف الله قلوبهم

ونحو قصم الفقر ظهره، والفقر من مقصمات الظهر، وقول جرير

متى كان الخيام بذى طلوح سقيت الغيث أيتها الخيام أتنسى يوم تصقل عارضيها بفرع بشامة سقى البشام

ومن الالتفات أن تذكر معنى فتتوهم أن السامع اختلجه شئ، فتلتفت إلى كلام تزيل به اختلاجه، ثم ترجع إلى مقصودك، كقول ابن ميادة

فلا صرمه يبدو وفى اليأس راحة ولا وصله يصفو لنا فنكارمه

كأنه لما قال فلا صرمه يبدو قيل له ما تصنع به؟ فأجاب بقوله وفى اليأس راحة، ذكر السعد ذلك، والواضح عندى إنما ذكر بعد التفات السكاكى يختص بالبديع، وليس من التفات فن المعانى ولو ذكره بعد، وفائدة الالتفات التفنن فى الكلام والنظرية له وتنشيط السامع وإيقاظه للإصغاء إليه، وذلك موجود فى كل التفات، وقد يختص مواقعه بلطائف أخر، كما فى هذه السورة الكريمة فاتحة الكتاب، فإن العبد إذا ذكر الحقيق بالحمد عن قلب حاضر، يجد من نفسه محركا للإقبال على ذلك الحقيق بالحمد سبحانه، وكلما أجرى عليه صفة من تلك الصفات العظام قوى ذلك المحرك إلى أن يؤول الأمر إلى خاتمتها، وهى قوله { مالك يوم الدين } المفيدة أن ذلك الحقيق بالحمد مالك للأمر كله فى يوم الجزاء أو لنفس اليوم، فحينئذ يوجب ذلك المحرك لتناهيه فى القوة والإقبال على ذلك الحقيق بالحمد، والخطاب بتخصيصه لغاية الخضوع والاستعانة فى المهمات. ذكر الخطيب القزوينى ذلك، قال السعد فى شرحه المطول والمعنى يوجب ذلك المحرك أن يخاطب العبد ذلك الحقيق بالحمد بما يدل على تخصيصه، بأن العبادة وهى غاية الخضوع والتذلل له لا لغيره، وبأن الاستعانة فى جميع المهمات منه لا من غيره وتعميم المهمات مستفاد من إطلاق الاستعانة، والأحسن أن تراد الاستعانة على أداء العبادة، ويكون اهدنا بيانا للمعونة ليلتئم الكلام، وتكون العبادة له لذاته لا وسيلة إلى طلب الجوانح والاستعانة فى المهمات، فاللطيفة المختص بها موقع هذا الالتفات، هو أن فيه تنبيها على أن العبد إذا أخذ فى القراءة يجب أن تكون قراءته على وجه يجد ذلك المحرك من نفسه، هذا الذى ذكره المصنف - يعنى القزوينى - جار على طريقة المفتاح، وطريقة الكشاف هى أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالثناء والعبادة، فالتفت وخوطب المعلوم المتميز، فقيل إياك يا من هذه صفاته نعبد، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لأجل ذلك التمييز الذى لا تحق العبادة إلا به ، لأن المخاطب أدخل فى التمييز وأعرق فيه، فكان تعليق العبادة له تعليق بلفظ المتميز ليشعر بالعلية، ويمكن أن يقال إن ازدياد ذكر لوازم الشئ وخواصه يوجب ازدياد وضوحه وتميزه والعلم به، فلما ذكر الله - جل وعلا - توجه النفس إلى الذات الحقيق بالحمد، وكلما أجرى عليه صفة من تلك الصفات العظام ازداد ذلك، وقد وصف أولا بأنه المدبر للعالم وأهله، وثانيا بأنه المنعم بأنواع النعم الدنيوية والأخروية، لتنظم لهم أمر المعاش، ويستعد والأمر المعاد، وثالثا بأنه المالك لعالم الغيب وإليه معاد العباد، فانصرفت النفس بالكلية إليه لتناهى وضوحه وتميزه بسبب هذه الصفات، فخوطب تنبها على أن من هذه صفاته يجب أن يكون معلوم التحقق عند العبد متميزا عن سائر الذوات حاضر فى قلبه، بحيث يراه ويشاهده حال العبادة، وفيه تعظيم لأمر العبادة، وأنها ينبغى أن تكون عن قلب حاضر كأنه يشاهد ربه ويراه ولا يلتفت إلى ما سواه.

وذكر القاضى أن الله - جل وعلا - بنى أول الكلام على ما هو مبادئ حال العارف من الذكر بالبسملة والحمدلة، ومن الفكر بقوله { رب العالمين } ومن التأمل فى أسمائه والنظر فى نعمه بقوله { الرحمن الرحيم } والاستدلال بصنائعه المشار إليه بقوله { مالك يوم الدين } على عظم شأنه وباهر سلطانه، ثم اتبع ذلك بما هو منتهى أمره وهو أن تخوض لحة الوصول إلى حقيقة معرفته انتهى بالمعنى. قال والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق معبد أى مذلل، وثوب ذو عبدة بفتح العين والباء إذا كان فيه غاية الصفاقة، ولذلك لا تستعمل إلا فى الخضوع لله تعالى، والاستعانة طلب المعونة، وهى إما ضرورية أو غيرها، والضرورة ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة أو مادة يفعل بها فيها، وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل وغير الضرورة تحصل ما تيسر به الفعل، ويسهل كالراحلة فى السفر للقادر على المشى أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه، وهذا القسم لا تتوقف عليه صحة التكليف، يعنى الصحة العقلية، وإلا فالصحة الشرعية قد تتوقف على تلك القدرة، فأكثر الواجبات المالية، وقوله ومادة يفعل بها فيها.. إلخ، ليس بضرورى فى مطلق الفعل، وإنما هو فى فعل يكون فى مادة والضمير بها للآلة وفى فيها للمادة والعبادة قسمان عبادة تسخير كما فى قوله تعالى

تسبح له السماوات السبع والأرض

وعبادة بالاختيار كقوله تعالى

ومن فيهن

باعتبار ما شملته من من العقلاء، فهذه الآية شاملة للقسمين فما تقدم هو للقسم الأول، وقوله

ومن فيهن

لهما، وذلك لأن من هذه مستعملة فى العاقل وغيره، وإن قلنا إنها استعملت هنا فى العاقل فقط فالآية أيضا شاملة لهما، وكما فى قوله

اعبدوا ربكم

، وقوله { إياك نعبد } وقيل العبادة الفعل الذى يؤدى به الفرض لتعظيم الله تعالى، وتختص بالله سبحانه على التفسير الأول والثانى، لأنه مولى أعظم النعم، وهى إيجاد العبد من العدم إلى الوجود، ثم هدايته إلى دينه أعنى دلالته عليه، سواء أقبل أم أعرض، وأخر الاستعانة مع أنها مقدمة على الفعل للفاصلة، ولأنها ولو كانت مقدمة لكنها مستصحبة أيضا، فهى أيضا مع الفعل كالتوفيق والاستطاعة، ولأنها من العبادة فذكرها تخصيص بعد تعميم تعظيما لها، ولأن العبد يشرع فى العبادة ويستعين بالله تعالى على إتمامها، ولأنه إذا نسب العبادة إلى نفسه بقوله { إياك نعبد } أوهم تبجحا واعتدادا بما يصدر منه، فيؤديه إلى الفخر، أو يورثه ذلك رياء أو عجبا، لأنها منزلة عظيمة، فأزال ذلك بقوله { وإياك نستعين } لأن الاستعانة تدل على العجز وعدم الاستقلال، وتصرح بأن العبادة مما لا تتم إلا بعونه تعالى، ولأن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة، وليعلم من الآية ذلك بإشارة، وذلك كله على أن الواو عاطفة، وأما على أنها للحال فلا إشكال، لأن المعنى نعبدك مستعينين بك، وهذا على قول بعضهم بجواز أن تقرن الجملة الحالية المضارعية المجردة من النفى، وقد والسين وسوف بواو الحال، وعلى المنع فليقدر المبتدأ، أى ونحن نستعينك، أو قد التحقيقية، وقد نستعينك، وإن قلت كيف تقدر قد مفصوله عن الفعل بإياك مع أنه قيل فصلها بغير القسم؟ قلت تقدر بعد إياك بناء على جواز تقديم معمول مدخولها عليها، بل لو منع هذا لم يضر هنا لأنها محذوفة فإنما تنوى على تأخير المفعول متصلا كأنه قيل وقد نستعينك والضمير المستتر فى تعبد، ونستعين للمتكلم ومن معه من الحفظة وحاضرى صلاة الجماعة او القراءة أو للمتكلم. وسائر الموحدين أدرج عبادته فى عبادتهم، واستعانته باستعانتهم، لعله يقبل عنه ذلك ببركتهم، ويجاب إليها، ولهذا شرعت الجماعة فى الصلاة، وكرر إياك للتنصيص على أنه المستعان لا غيره، وقرأ ابن حبيش بكسر نون نعبد ونستعين، وهى لغة تميم يكسرون حرف المضارعة فى الثلاثى والخماسى والسداسى المبنيات للفاعل غير الياء على ما ذكرته فى شرح اللامية. { اهدنا الصراط المستقيم } أى اعطناه وثبته فى قلوبنا ووفقنا إليه، أو بينه لنا، وذلك دعاء يصح ممن قد هدى، فيكون بمعنى طلب التثبيت والزيادة مطلقا،أو طلب المراتب المرتبة على ما حصل له من الهداية، ويصح ممن لم يكن على هداية فيكون تحصيلا للثبوت والزيادة، ولا يلزم من ذلك جميع بين الحقيقة والمجاز، أو بين معنين، لأن المراد المعنى الموجود فى جنب كل من الوجهين وهو طلب الكون على الصراط المستقيم بقطع النظر عن كون ذلك الكون طبقا للتثبيت على ما وجد، أو طلبا لوجود ما لم يوجد.

هذا ما ظهر لى فى تفسير الآية، قيل ويأتى الهدى بمعنى الدعاء كقوله تعالى

ولكل قوم هاد

أى داع، وقوله تعالى

وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم

وبمعنى الإلهام كقوله تعالى

أعطى كل شىء خلقه ثم هدى

أى ألهم الحيوانات إلى منافعها، وبمعنى البيان كقوله تعالى

وأما ثمود فهديناهم

أى بينا لهم. وقال أبو المعالى دعوناهم. وقوله تعالى

إن علينا للهدى

أى التبيين، وبمعنى الإرشاد، قلت ذلك كله بمعنى الإرشاد، وإن شئت فقل بمعنى التبيين، والمعنى واحد وذلك أن للهدى معنيين أحدهما ذلك، والآخر هو الإيصال إلى المقصود وهو المراد فى { اهدنا الصراط المستقيم } وكلا المعنيين إنما يكون بلطف، ولذلك لا نستعمل الهداية إلا فى الخير، وأما

فاهدوهم إلى صراط الجحيم

فعلى إلهكم، وأنواع الهداية لا تنحصر بعد لكنها تنحصر فى أجناس الأول إفاضة القوى التى يتمكن بها المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية، قيل والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة، أعنى أن يفيض الله القوات على الإنسان حتى يتمكن بها من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة التى تكون فى القلب يعقل بها، وكالحواس الباطنة، على أن فى الباطن خمس حواس، كما أن فى الظاهر خمسا كذا قيل، وليس كذلك، بل الحواس الظاهرة هى باطنه من حيث إدراكها الأشياء. الثانى نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد كقوله تعالى

وهديناه النجدين

أى طريق الخير والشر، وقوله جل وعلا

وأما ثمود فهديناهم

ولذلك جاز بعده،

فاستحبوا العمى على الهدى

فإن المكلف قد يعمل بالدليل فيصل وقد يعرض فيعمى. الثالث الهداية لإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله

وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا

وقوله

إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم

الرابع أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء، كما هى بالوحى أو الإلهام والمنامات الصادقة، وهذا يختص به الأنبياء والأولياء، وإياه عنى بقوله

أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده

وقوله

والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا

إذا قال العارف اهدنا الصراط المستقيم، عنى به طلب الإرشاد لطريق السير فى الله ليمحو عنه ظلمات الأحوال الواردة عليه فتزداد معرفته، فيكون بمنزلة من يرى الشئ عيانا، واهدنا دعاء وهو والأمر والالتماس مشتركات لفظا ومعنى، فلفظ قولك قم إذا كان أمرا وإذا كان دعاء أو التماسا واحد، وكذا معناه وهو الطلب الجازم الفعلى لا التركى، ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل والالتماس، فإنه إذا كان من الأعلى أمرا ومن الأسفل دعاء أو من المساوى التماس، سواء كان ذلك العلو والتسفل والمساواة حقيقة أو ادعاء، وقيل تتفاوت بالرتبة الحقيقية، فإذا كان ممن هو فى الحقيقة أعلى فأمر، ولو كان متسفلا أو مساويا دعاء، وإذا كان من متسفل حقيقة فدعاء، ولو كان عليا أو مساويا دعاء، وإذا كان متساو حقيقة فالتماس، ولو كان عليا أو متسفلا دعاء، والصحيح أنه أمر، مطلقا سواء كان من عل أو متسفل أو مساو، تخفيفا أو ادعاء، وأنه يجوز تسميته مطلقا كذلك دعاء والتماسا.

والصراط مفعول به تعدى إليه - اهد - كما تعدى - اختار - فى قوله تعالى

واختار موسى قومه

وإلا فالأصل أن يتعدى باللام أو إلى، كما أن أصل اختار أن يتعدى إلى القوم فى الآية بمن على أحد أوجه فى الآية، وقال السعد قد يفرق بأن - هدى - المتعدى بنفسه بمعنى الإيصال، ولهذا يسند إلى الله تعالى خاصة، والمتعدى بإلى أو باللام بمعنى الدلالة، والصراط لغة قريش وهو الثابت فى الإمام، وهو الطريق يذكر ويؤنث، وجمعه صرط - بضم الصاد والراء - وأصله السراط بالسين من سرط الطعام إذا ابتلعه، كأنه يبلع من يمر به أو يبلعه من يمر به، كما سمى لقما - بفتح اللام والقاف - لأنه كأنه يلتقمهم أو يلتقم المار، وإنما قلبت السين صادا لتطابق الطاء فى الإطباق والاستعلاء، وقد يشم الصاد صوت الزاى ليكون أقرب إلى المبدل عنه، وقرأ ابن كثير قيل ويعقوب بالسين، وحمزة بإشمام الصاد السين، ذكر أبو عمرو الدانى أن خلفا يقرأ الصراط وصراط باشمام الصاد الزاى حيث وقعا، وخلاد بإشمامها الزاى فى قوله { الصراط المستقيم } هنا خاصة، وقيل بالسين حيث وقعا، وقرأ بالزاى حيث وقعا، وقرأ الحسن اهدنا صراطا مستقيما، وقيل الطريق هو ما يطرقه طارق مطلقا، ولو لم يكن طريقا قبل، والسبيل ما يطرقه وهو معتاد السلوك، والصراط كالسبيل إلا أنه مستقيم غالبا، فهو أخص الثلاثة، والسبيل أخص من الطريق، وعلى كل حال فالمراد طريق الحق، وقيل ملة الإسلام وهو قول ابن عباس وجابر بن عبد الله، وقيل القرآن هو قول على روى عنه - صلى الله عليه وسلم - الصراط المستقيم القرآن، ومعنى هدايته تسهيله للحفظ والعمل به، وقيل ما هو عليه جماعة الصحابة من السنة والوحى، وقيل طريق المستحقين للجنة. وعن ابن مسعود وابن عمر ترك النبى - صلى الله عليه وسلم - طرف الصراط عندنا وطرفه فى الجنة، ومرجع هذه الأقوال كلها واحد، وقال أبو العالية الصراط المستقيم محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر، ويقدر مضاف، أى اهدنا اتباعهم، وفيه تكلف بعيد وتجوز بتسمية أشخاصهم طريقا، ووجهه أنهم واسطة إلى الجنة لمن اقتدى بهم ممن أنعم الله عليه، وعلى هذا الأخير يكون الخطاب لغيره - صلى الله عليه وسلم - وغير أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، قيل وهو قوى فى المعنى، والمستقيم المستوى الذى لا عوج به ولا زيغ، وذلك صفة دين الله تعالى، وجملة { اهدنا الصراط المستقيم } بيان للمعونة المطلوبة، فكأنه قال كيف أعينكم فقالوا اهدنا الصراط المستقيم وإفراد لما هو المقصود الأعظم فى الاستعانة، فهى من ذكر الخاص بعد العام لتعظيم ذلك الخاص، وأفضل ما يهدى إليه الإنسان معرفة الله - عز وجل - قال الله عز وجل

" يا داود اعرفنى واعرف نفسك، ففكر عليه السلام ساعة فقال إلهى عرفتك بالفردانية والقدرة والبقاء، وعرفت نفسى بالضعف والعجز والفناء، فقال له تعالى الآن عرفتنى حق المعرفة "

ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

" من عرف نفسه عرف ربه "

على معنى أن صفات نفسك على الضد من صفات ربك، فمن عرف نفسه بالعبودية عرف ربه بالربوبية، ومن عرفها بالفناء عرفه بالبقاء، ومن عرفها بالجفاء عرفه بالوفاء، ومن عرفها بالعجز عرفه بالعز، ومن عرفها بالخطأ عرفه بالعطاء، وسئل أبو بكر الصديق رضى الله عنه، بماذا عرفت ربك؟ فقال عرفت ربى بربى فلولا ربى ما عرفت ربى. فقثيل له فهل يتألى لأحد إدراكه؟ فقال له العجز عن إدراكه إدراك، والخوض فى ذات الله سبحانه إشراك. { صراط الذين أنعمت عليهم } صراط بدل من الصراط بدل مطابق، ولا يخلو البدل من تأكيد، لأن المبدل منه كالتمهيد للبدل، ولأن البدل على نية تكرار العامل، على المشهور، والتمهيد للشئ، زيادة اعتناء به، والتكرير توكيد، والبدل هو المقصود بالنسبة، وفائدته هنا توكيد كون المطلوب بالهداية زيادة إليه هو صراط الذين أنعم الله عليهم، والتنصيص بأن الصراط المستقيم هو صراط المسلمين، الذين أنعم الله الرحمن الرحيم عليهم مطلقا، وبه قال ابن عباس والجمهور، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى

ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم

إلى قوله

رفيقا

روى ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والصديقون والشهداء، ومن أطاعه وعبده، وعن ابن عباس أيضا هم قوم موسى وعيسى الذين سبقوا لم يبدلوا ولم يغيروا، وقيل هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، وهو قول غير صحيح أو غير جائز، لأنه يؤدى إلى أن الخطاب موجه إلى من عداهم فقط من أهل زمانهم ومن بعدهم، وقرئ صراط لذين بلام واحد مخففة بلا همز قبلها، وهو لغة فى الذين، وقرأ ابن مسعود صراط من أنعمت عليهم، والإنعام إيصال النعمة، وهى فى الأصل الحالة التى يستلذها الإنسان، فأطلقت على الذين لأنه أحق بالاستلذاذ، ولأن الموفق يستلذه، وقد يستلذه الإنسان مطلقا، والمعنى صراط من رضيت عنه وغفرت ذنوبه وقبلت أعماله وأنزلته فى أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين، وتزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية، وهذه النعم المختصة بالمؤمن ويشاركه الكافر فيما عداها، وهى إن كانت لا تحصى لكن تنحصر فى جنسين دنيوية وأخروية، والدنيوية كسبية وغير كسبية، وغير الكسبية إما روحانية كالروح والعقل والفهم والفكر والنطق، وإما جسمانية كالبدن والقوى الحالة فيه، والهيئات العارضة له كالصحة وكمال الأعضاء.

الكسبية تزكية النفس وتحليتها المذكورتان. وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة والمال والجاه، ويجوز أن يراد فى الآية جميع النعم المذكورة لاستثناء المغضوب عليهم والضالين بعد، كما يأتى. { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } أخرج أحمد والترمذى وحسنه وابن حيان فى صحيحه عن عدى بن حاتم عنه - صلى الله عليه وسلم - أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى، وأخرج ابن مردويه عن أبى ذر

" سألت النبى - صلى الله عليه وسلم - عن المغضوب عليهم قال " اليهود " ، وعن الضالين قال " النصارى "

وكذلك فسر ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والسدى وابن زيد والحسن، وذلك واضح من كتاب الله، لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فى كتاب الله كقوله عز وعلا

وباءوا بغضب من الله

وقوله

قل أؤنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله

الآية، وأما النصارى فمذكورون فى الضلال كقوله تعالى

ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

وكان محققوهم على هدى حتى ورد شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكروه وضلوا وأضلوا، وأما غير محققيهم فضلالتهم متقررة منذ تفرقت أقوالهم فى عيسى عليه السلام، والمشركون كلهم مغضوب عليهم وكلهم ضالون، لكن اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل، ويزعمون أنهم يدينون بهما وقد حرفوهما وهم على غير هدى، قيل ذكر كلا بما يغلب عليه، وقيل المعنى غير المغضوب عليهم بالبدعة ولا الضالين عن السنة وذلك أعم، فالنبى صلى الله عليه وسلم ينوى التحرز عن البدعة عما أمر الله وعن سنن الأنبياء من قبله التى لم تنسخ، والصحابة ينوون ذلك، والتحرز عن الخروج عما فى القرآن وعما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وحى وغيره، وغير الصحابة ينوون ذلك كله، والتحرز عن الخروج عما عليه الصحابة، ويجوز أن يقال المغضوب عليهم العصاة والضالون الجاهلون، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق تعالى لذاته والخير للعمل به، فكان المقابل له من اختلت معرفته أو عمله، والمخل بالمعرفة جاهل ضال وهو مشرك أيضا. قال الله تعالى

فماذا بعد الحق إلا الضلال

والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه منافق أيضا. قال تعالى فى القاتل عمدا

وغضب الله عليه

وغير هو بدل من الذين بدل مطابق نظرا إلى معنى أن المغضوب عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال، وذكر ابن هشام أن البدل بالمشتق ضعيف، ولكن لفظة غير ليست مشتقة، وتأويلها بالمشتق مثل المخالف ومغاير لا يمنع إبدالها ولا يضعفه، فإن الإسمية غالبة عليه وتأويلها فرع ويجوز أن تكون نعتا للذين مبينا إن أريد بالذين المؤمنون فقط، ومقيدا إن أريد به كل من أنعم الله عليه بنعمته، ودنيوية أو أخروية، أو بمطلق الإيمان، وعلى كل من الإبدال والنعت بوجهيه يكون المعنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهى نعمة الإيمان، وبين السلامة من غضب الله والضلال، وإن قلت الذين معرفة وغير لا يتعرف بإضافة، فكيف تنعت المعرفة بالنكرة؟ قلت التحقيق أنها تتعرف بالإضافة إذا وقعت بين المتضادين، كما هنا، وذلك إن كان الضد له ضد واحد كما هنا، فإنه ليس فى المكلفين إلا المغضوب عليهم والمنعم عليهم، وكما فى قولك الحركة غير السكون، وأما الضدان اللذان لهما أجزاء وأكثر، فلا تتعرف بالوقوع بينهما، نحو البياض غير السواد، فإن هناك صفرة وحمرة وغير ذلك، والتعريف فى ذلك والتعريف فى الآية للجنس، فإن المنعم عليه ليس شخصا واحدا وكذا المغضوب عليه كما نصت عليه الآية بصيغ الجمع، وأيضا إذا تقرر أن المراد بالذين الجنس جاز نعته بغير، ولو قلنا إن غير أهو نكرة لجواز نعت المعرفة بأل الجنسية والموصول الجنسى بالنكرة نحو قوله * فى أنيابها السم ناقع * فنعت السم بناقع ومقتضى الظاهر أن يقوم سم ناقع أو السم ناقع، وبسطت الكلام على هذه النحو، وقد أجازوا فى الجملة بعد ذلك أن يكون نعتا حالا.

وعن ابن كثير فى رواية شاذة عنه { غير المغضوب عليهم } بنصب غير وهى قيل قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر، فيكون حالا من هاء أنعمت عليهم وعامله هو فعل أنعمت، لأن العامل فى الهاء النصب، ولو توصل إليها بالجار أو مفعولا لمحذوف، أى أعنى غير المغضوب عليهم، قيل أو منصوبا على الاستثناء إن فسرنا النعم بما يعم المؤمنين والكافرين، فيكون الاستثناء متصلا، وإن فسرناه بما يخص المؤمنين فمنقطع، ويبحث فى جعل النصب على الاستثناء قسما على حدة بأن غيرا إذا نصب على الاستثناء فقد اختلفوا فيه، فقيل نصبه على الحال، وقيل على التشبيه بظرف المكان، ويجاب بأن ذلك بناء على قول ضعيف، وهو أنه منصوب على الاستثناء انتصاب الاسم بعد إلا، فيكون ناصبه ما قبلها من فعل أو شبهه على الاستثناء، وعليهم نائب عن فاعل المغضوب، وقرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم بضم الهاء فى موضعى الفاتحة، وجميع القرآن، والباقون بكسرها، وابن كثير وقالون بخلاف عنه يضمان ميم الجمع ويصلانها بواو مع الهمزة وغيرها، وورش يضمها ويصلها مع الهمزة فقط، والباقون يسكنونها وحمزة والكسائى يضمان الهاء والميم، اذا كان قبل الهاء كسرة أو ياء ساكنة، أو أتى بعد الميم ألف وصل نحو يهديهم الله، وإذا وقفا كسرا الهاء وسكنا الميم، وحمزة على أصله فى الكلم الثلاث المتقدمة يضم الهاء منهن على كل حال، وأبو عمرو يكسر الهاء والميم فى ذلك كله وصلا أيضا، والباقون يكسرون الهاء ويضمون الميم فيه، أو اتفقوا على إسكانها فى الوقف، لكن بعضهم يخلصه، وبعض يشير إلى الضمة والنصب هيجان النفس إرادة الانتقام، وعبارة بعضهم تغير يحصل عند غليان دم القلب لإرادة الانتقام، وقيل هيجان دم القلب لإرادة الانتقام، وذلك كله فى حق المخلوق، وإذا كان مسندا إلى الله تعالى كما هو المراد فى الآية، فالمقصود لازم ذلك ومسببه وهما الانتقام، وإن شئت فقل العقاب، هذا ما ظهر لى ولا صلة للتأكيد، لأن النفى قد أفادته غير، فمجيئها بعد غير كمجيئها بعد حرف نفى آخر، مثل ما قام عمرو ولا هند، فكأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين.

ولكون غير بمعنى لا، جاز تقديم مفعول اسم الفاعل الذى أضيفت إليه غير على غير تشبيها بلا، وامتنع ذلك فيما أضيف إليه مثل، قال السعد يجوز تقديم ما فى حيز ما بعد غير ولا ولم ولن دون ما وإن، لأن ما وإن يدخلان على الاسم والفعل فأشبهتا الاستفهام ولم ولن يختصان بالفعل، ويكونان كالجزء منه، فكأنه لم يكن هناك إلا الفعل فجاز تقديم معموله، ولا حرف متصرف فيه بإعمال ما قبله فيما بعده نحو أريد أن لا تقصد، وجاء عمرو بلا زاد، فجاز عمل ما بعدها فيما قبلها، انتهى بزيادة منى وإيضاح. وقرأ بعضهم { غير الضالين } بجر غير والضلال العدول عن الطريق السوى عمدا أو خطأ، والجهل فى الدين عمد، فمن خرج عنه جهلا وتقصيرا فقد ضل، فقرأ بضعهم ولا الضالين بهمزة مفتوحة بعد الضاد على لغة من جد فى الهرب من التقاء الساكنين، ولو كان الأول حرف مد والثانى مدغم فيقول دابة ودواب ومضار ونحو ذلك، بهمزة فى موضع الألف، وهى قراءة أيوب السجستانى. وليس آمين من الفاتحة بعد قوله { ولا الضآلين } بالإجماع، ثم إن أهل الصواب منعوا التكلم به فى الصلاة وغيرها بعد الفاتحة، لأنه يوهم اعتقاد أنه منها، ولأنه من كلام الآدميين، وكلامهم فى الصلاة يفسدها، ولا يخفى أنه يجوز التكلم به بعد الفاتحة فى غير الصلاة من غير اعتقاد أنه مها، حيث لا يتوهم السامع أنه منها ولا يسئ الظن بالمتكلم، وقد قيل يسئ ختم الفاتحة به، وإن قلت فقد روى البيهقى وغيره أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" علمنى جبريل آمين عند فراغى من قراءة الفاتحة "

وروى أبو داود فى سننه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كالختم على الكتاب، أى يمنع الدعاء من فساد الخيبة، كما يمنع الطابع على الكتاب فساد ظهور ما فيه، كما قال على آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عنده، وروى الدارقطنى وابن حبان وصححاه عن وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته، قلت ذلك فى غير الصلاة لحديث

" إن الله حرم الكلام فى الصلاة "

، وحديث

" صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام الآدميين "

، وحيث لا يتوهم أنه من القرآن لحديث

" لعن الله من زاد فى القرآن "

، وإذا كانت الزيادة فيه محرمة كان إبهام ما ليس منه أنه منه محرما، وإن قلت فقد روى عنه صلى الله عليه وسلم

" إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين، ورفع بها صوته، فإن الملائكة تقول آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه "

رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة يعنى الصغائر، زاد الجرجانى فى أماليه وما تأخر. قال عبد الرزاق عن عكرمة صفوف أهل الأرض تلى صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين فى الأرض آمين فى السماء غفر للعبد، وقيل وافقه فى الخشوع والإخلاص، وقيل فى الإجابة، والصحيح الأول عندهم، أعنى فى الوقت، وقيل الموافقة فى أن يدعو لنفسه وللمؤمنين كما تفعل الملائكة، وقيل فى أن يدعو لأخراه فقط لا للدنيا، كما لا تدعو الملائكة للدنيا، وقيل هؤلاء الملائكة، وقيل الحاضرون للصلاة، ويجمع بأنه يقول الحفظة، فالحاضرون فمن فوقهم على مراتب مقاعدهم إلى أن تسمع ملائكة السماء ويقولوه، وخرج مسلم وأبو داود والنسائى عن أبى موسى عنه صلى الله عليه وسلم.

" إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله "

قلت ذلك قبل تحريم الكلام فى الصلاة، وقد قال صلى الله عليه وسلم

" إن لله أن يحدث ما شاء وإن مما أحدث ألا يتكلموا فى الصلاة "

، وأيضا لا نسلم صحة سند تلك الأحاديث الدالة على ثبوته، وإذا ثبت على التأويل المذكور قالوا صح أنه كان يقوله قبل نسخ الكلام فى الصلاة سرا كما رواه عبد الله بن معقل وأنس، وقد كان أبو حنيفة لا يقوله، وروى أنه كان يخفيه، وعلة إخفائه صلى الله عليه وسلم الحذر من إيهام أنه من الفاتحة، روى الطبرانى فى كبيره عن أبى وائل أن عليا وابن مسعود لا يجهران به، ولم يصح عنهما ذلك بعد نسخ الكلام فيها، وأخطأ من زعم عدم نسخ آمين فيها، وزعم بعض أن الراجح أنه - صلى الله عليه وسلم - يجهر به لرواية الدارقطنى وابن حيان عن وائل بن حجر السابقة، إذ قال فيها ورفع بها صوته، ولا دليل فيه لجواز أن يكون رفع صوته غير داخل فى الأمر، فإن كثيرا من الأمور المسرور بها يأمرهم بها جهرا برفع صوت.

والله أعلم. وإذا ختمت السورة فلك وصل آخرها بالبسملة، والبسملة بأول السورة الأخرى المتصلة بها أو المنفصلة عنها، أو الأولى بنفسها إن أردت العود فيها، ولك أن تقف على آخرها وعلى البسملة، ولك أن تقف على آخرها وتصل البسملة، وليس لك أن تصل آخرها بالبسملة وتقف على البسملة، ويجوز فى مذهب ورش أن تصل السورة بسورة من غير قطع، ويتبين الإعراب، وأن تسكت بين السورتين سكتة خفيفة تمييزا بين السورتين، لأنه لا يبسمل بين السورتين فى جميع القرآن، وإنما يبسمل إذا ابتدأ بسورة فقط غير براءة، وهو خطأ لا يتابعه عليه إلا جاهل مقلد. والله أعلم. وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

[2 - سورة البقرة]

[2.1]

بسم الله الرحمن الرحيم { الم } كان الحسن يقول ما أدرى ما تفسير الم والر والمص وما أشبه ذلك، غير أن قوما من المسلمين يقولون أسماء السورة ومفاتحها، ونقله الماوردى وغيره عن زيد بن أسلم، ونسبه فى الكشاف إلى الأكثر، سميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب، فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لن تتساقط مقدرتهم عن معارضتها، واختاره الخليل وسيبويه، ونسبه بعض إلى أكثر المتكلمين، ورده الفخر بأنها لو كانت أسماء السور لوجب اشتهارها بها، وقد اشتهرت بغيرها، كسورة البقرة وآل عمران، وعن على الر وحم ونون اسم الله الرحمن قيل ذلك ونحوه أسماء الله مقطعة، لو علم الناس تأليفها كلها لعلموا اسم الله الأعظم، وكذا نقله ابن عطية وهو مروى عن على وابن عباس، فإنهم ولو علموا جمع الرحمن لكنهم لا يعلمون سائر الأسماء، وقيل كل حرف مقطوع من أول اسم من أسماء الله، فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسم لطيف، والميم مفتاح اسم مجيد، واختاره الزجاج، وقيل الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه أو مجده، والعرب تشير إلى الكلمة أو الكلام، أى الحروف بذكر بعض، كما يقال تعلمت ا ب ت ث، وتريد حروف التهجى كلها، وكما قال الراجز

قلت لها قفى فقالت لى قاف لا تسحبى إنا نسينا الإيجاف

أى الإسراع، والأصل فقالت لى وقفت فاقتصر على ذكر القاف ولك كتبه هكذا، فقال لى ق ويقرأ قاف، كما نكتب { ق والقرآن } ونقرؤه قاف والقرآن، وكقوله

بالخير خيرات وإن شرافا ولا ما أريد الشر إلا أن تا

أراد وإن شرا فشر وإلا أن تشا، فاقتصر على التاء والفاء وأشبعهما، وكقوله

ناداهم ألا الجموا إلاتا قالوا جميعا كلهم ألافا

أراد ألا فاركبوا، كذلك وعن ابن عباس الم أنا الله أعلم، وقيل أسماء السور، وبه قال جماعة من المحققين، وعن ابن عباس أقسام أقسم الله بها، وخص تلك الحروف لشرفها وفضلها، لأنها مبانى كتبه المنزلة، وأسماؤه الحسنى، والمراد كل الحروف وإن اقتصر على بعضها، وجواب القسم ما بعدهن، قلت يعترض ذلك بأن منها ما لا يصلح ما بعده جوابا لقسم فلا يكون قسما، كقوله تعالى

الم أحسب الناس

كما قال الكرمانى فى غرائبه الاستفهام هنا يدل على انقطاع الحروف عما بعدها فى هذه السورة وغيرها، إلا أن يقال إنه يقدر الجواب حيث لا يصلح أن يكون ما بعدهن جوابا، ويرد قول القسم أن القسم فى لغة العرب إنما هو بحرف من حروف القسم، أو بنحو حلفت أو لعمرك أو نحو ذلك، وإن قدر حرف القسم هكذا أو الألف كان فيه إضمار حرف القسم، وهو لا يجوز إلا مع لفظ الجلالة، ولو ادعى بعضهم جوازه هنا وجعل المقسم به منصوبا على نزع حرف القسم، أو مجرورا كما جاز فى لفظ الجلالة مع احتياج تقدير العاطف فى قوله لام وقوله راء وتقدير الجواب فى بعضها، وأخرج ابن جرير الطبرى عن ابن مسعود أن ذلك اسم الله الأعظم، وأخرج بن أبى حاتم من طريق السدى أنه بلغه عن ابن عباس أنه قال الم الاسم الأعظم من أسماء الله، وهكذا أمثاله، وأخرج ابن جرير وغيره من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس الم وطسم وص وأشباهها قسم، أقسم الله به، وهو من أسماء الله، وأخرج ابن ماجه فى تفسيره من طريق نافع بن أبى نعيم القارئ، عن فاطمة بنت على بن أبى طالب، أنها سمعت من على يقول يا كهيعص اغفر لى، ويقول يا حم عسق، ويبحث بأن المراد يا منزل كهيعص يا منزل حم عسق، وأخرج ابن أبى حاتم عن الربيع بن أنس فى قوله كهيعص يا من يجير ولا يجار عليه.

وأخرج عن أشهب سألت ابن مالك بن أنس أينبغى لأحد أن يتشكى بيس؟ قال ما أراه ينبغى لقول الله

يس والقرآن الحكيم

يقول هذا اسمى تسميت به، وقيل أهى أسماء للقرآن كالفرقان والذكر، أخرجه عبد الرزاق عن قتادة، وأخرجه ابن أبى حاتم بلفظ كل هجاء فى القرآن فهو اسم من أسماء القرآن، وإن قلت كيف تجعل أسماء من أسماء السور أو من أسماء القرآن، والاسم لا يتركب من ثلاثة أشياء؟ قلت إنما يمتنع إذا ركبت أما إذا أسردت كأسماء العدد فلا امتناع، والمسمى هو مجموع السورة أو القرآن، والاسم جزء ذلك فلا اتحاد، والاسم مقدم من حيث ذاته، ومؤخر باعتبار كونه اسما فلا دور، وإنما قلت لا اتحاد، لأن الجزء ليس عين الكل ولا جزءه. وأخرج ابن جرير من طريق الثورى عن ابن أبى نجيح عن مجاهد الم وحم والمص وص ونحوها، فواتح افتتح الله تبارك وتعالى بها القرآن. وأخرج أبو الشيخ من طريق ابن جريج عن مجاهد الم الر المر فواتح يفتتح الله بها القرآن، قلت ألم يكن يقول هى أسماء؟ قال لا. وأخرج ابن أبى حاتم وغيره من طريق أبى الضحاك عن ابن عباس فى قوله تعالى { الم } قال أنا الله أعلم، وفى قوله { المص } أنا الله أفصل، وفى قوله تعالى { الر } أنا الله أرى، وقيل المص معانه المصور، وقيل المر معناه الله أعلم وأرى، حكاهما الكرمانى فى غرائبه. وأخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله الم وحم ون اسم مقطع، وأخرج من طريق عكرمة عن ابن عباس قال الر وحم ون حروف الرحمن معرفة.

وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظى الر من الرحمن، وأخرج عنه أيضا المص الألف من الله، والميم من الرحمن، والصاد من الصمد، وأخرج أيضا عن الضحاك فى قوله عز وعلا فى { المص } أنا الله الصادق، وأخرج الحاكم وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فى { كهيعص } قال الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق. وأخرج الحاكم أيضا من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله جل وعلا { كهيعص } قال كاف هاد أمين عزيز صادق، وأخرج عن ابن أبى حاتم من طريق السدى عن أبى مالك، وعن أبى صالح عن ابن عباس، وعن عروة عن ابن مسعود وناس من الصحابة فى { كهيعص } قاله مجاهد مقطع الكاف من الملك، والهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصور، وأخرج عن محمد بن كعب مثله إلا أنه قال والصاد من الصمد. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه وجها آخر عن سعيد عن ابن عباس فى قوله { كهيعص } قال كبير هاد أمين عزيز صادق، وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال الكاف الكافى، والهاء الهادى، والعين العالم، والصاد الصادق. وأخرج من طريق يوسف قال سئل الكلبى عن { كهيعص } فحدث عن أبى صالح عن أم هانئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

" كاف هاد أمين عليم صادق "

وأخرج ابن أبى حاتم عن عكرمة فى قوله { كهيعص } قال يقول أنا الكبير أنا الهادى العلى الأمين الصادق، وأخرج محمد بن كعب فى قوله { طه } الطاء من ذى الطول. وأخرج عنه أيضا فى قوله { طسم } الطاء من ذى الطول، والسين من قدوس، والميم من الرحمن، وأخرج عن سعيد بن جبير فى قوله { حم } قال الحاء اشتقت من الرحمن وميم اشتقت من الرحيم، وأخرج عن محمد بن كعب فى قوله { حم عسق } قال الحاء والميم من الرحمن، والعين من عليم، والسين من القدوس، والقاف من القاهر، وأخرج عن مجاهد قال فواتح السور كلها هجاء مقطوع، وأخرج عن سالم بن عبد الله قال الم وحم ون اسم الله مقطعة، وأخرج عن السدى قال فواتح السور أسماء من أسماء الرب، فرقت فى القرآن وحكى الكرمانى فى قوله قاف إنه حرف من اسمه قادر وقاهر، وحكى غيره فى قوله { ن } مفاتح اسمه تعالى نور وناصر. وهذه الأقوال راجعة إلى قول واحد هو أنها حروف مأخوذة من أسمائه تعالى، وقيل فى طه ويس يا رجل أو يا محمد أو يا إنسان، وقيل هما اسمان من أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله الكرمانى فى غرائبه ويقويه فى يس قراءة يس بفتح النون، وقوله آل يس، وقيل طه طا الأرض أو اطمئن، فيكون فعل أمر، وها مفعول أو للسكت أو بدل من الهمزة.

وأخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله { طه } قال هو قولك افعل، وقيل { طه } يا بدر، لأن الطاء بتسعة، والهاء بخمسة، فذلك أربعة عشر، أشار إلى البدر لأنه يتم فيها، ذكره الكرمانى فى غرائبه، وقال فى قوله { يس } يا سيد المرسلين، وفى قوله { ص } معناه صدق الله، وقيل أقسم بالصمد الصانع الصادق، وقيل معناه صاد يا محمد علمك بالقرآن، أى عارضه به فهو أمر من المصادات، أخرج ابن أبى حاتم فى قوله { ص } قال صاد القرآن بعملك واتبعه علمك، وأخرج عن الحسن { ص } حادث فى القرآن يعنى انظر فيه، يقال صاداه يصاديه، أى حادثه يحادثه، وكان يقرؤها { صاد والقرآن } أى عارض القرآن

والقرآن ذى الذكر

وقيل صاد اسم بحر عليه عرش الرحمن، وقيل اسم بحر تحيى به الموتى، وهو الماء الذى يمطر على الموتى كالمنى فيحيون ويبعثون، وقيل معناه صاد محمد قلوب العباد، حكاها الكرمانى فى قوله { المص } ، وقال معناه ألم نشرح لك صدرك، وفى { حم } أنه محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل معناه أنه { حم } ما هو كائن، وقيل { ق } جبل محيط بالأرض، أخرجه عبد الرزاق عن مجاهد، وقيل أقسم بقوة قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل القاف من قوله { قضى الأمر } دلت عليه بقية الكلمة، وقيل قف يا محمد على أداء الرسالة والعمل بما أمرت به، حكاهما الكرمانى، وقيل نون هو الحوت، أخرج الطبرانى عن ابن عباس مرفوعا أول ما خلق الله القلم والحوت، قال اكتب، قال ما أكتب؟ قال كل شىء كائن إلى يوم القيامة، ثم قرأ { ن والقلم } فالنون الحوت، والقلم القلم، وقيل اللوح المحفوظ، أخرجه ابن أبى جرير عن ابن برقرة مرفوعا. وقيل القلم حكاه الكرمانى عن الجاحظ، وقيل اسم من أسماء النبى صلى الله عليه وسلم، حكاه ابن عساكر فى مبهماته، وفى المحتسب لابن جنى، فى هذه القراءة دليل على أن الفواتح فواصل بين السور، ولو كانت أسماء الله لم يجز تحريف شىء منها، لأنها تكون حينئذ أعلاما، والأعلام تؤدى بأعيانها، ولا يحرف شىء منها، وعن ابن عباس الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد، أى القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام، واستدل بعض للقول بأنها أسماء للسور، بأنها لو لم تكن مفهومة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل، والتكلم بالزنجى مع العربى، ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى، ولم يكن التحدى به ممكنا لخروج بعضه حينئذ من مقام التحدى، حاشاه، وإن كانت مفهمة فإما أن يراد بها السور التى هى أولها على أنها أسماؤها أو غير ذلك، وكون المراد بها غير ذلك باطل، لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له فى لغة العرب أو غيره، ولا يخفى أن ليس المراد ما وضعت له فى لغة العرب، ولا يخفى أيضا أنه ليس المراد بها غير ما وضعت له فى لغة العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، فلا يحمل على ما ليس فيها، فتعين أنها أسماء للسور، وذلك الاستدلال يجرى أيضا فى الرد على القائل إنها مبهمة، قال أبو بكر بن العربى فى فوائد رحلته، الذى أقوله لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا عندهم لكانوا أول من أنكرها على النبى - صلى الله عليه وسلم - بلا تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما، فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له فى البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى غيره وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار فيه.

انتهى. والمختار عندهم أنها من الأسرار التى لا يعلمها إلا الله جل وعلا، أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال إن لكل كتاب سرا، وإن سر القرآن فواتح السور، ومثله عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، وعثمان بن عفان وعلى، قلت ويحتمل أن يريدوا بالسور الأمر الكريم العزيز، فإنه يسمى سرا تشبيها له بالكنز العظيم المصون المسرور به ونحوه، وإنها سر بين الله ورسوله، ورموز إذا لم يقصد بها إفهام غيره، وذكر بعض إنها من المتشابه فيكون فيها الخلاف، هل يعرفها الراسخون فى العلم أم لا يعرفها أحد على اختلافهم فى المتشابه، فتراهم خاضوا فيها بأقوال وأخبار. وإن قلت إذا كانت سرا لا يعلمه غير الله عز وعلا فما فائدة ذكرها؟ قلت فائدة ذكرها الإيمان بها، وقال قطرب تلميذ سيبويه هى حروف مزيدة للتنبيه والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر، واعترض القاضى، بأن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع، ولا يخفى ان الاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور، ولا يقتضى ذلك ألا يكون لها معنى فى حيزها، وعندى أن قول قطرب حسن، وكنت أشبه المقام بمقام من أراد أن يتكلم لمن استغرق قله فى شىء، فيقدم إليه ما يصغى به إلى الكلام كأن يجيده أو يغمز بدنه أو يقرعه بالحصى، ومن ذلك الوادى أن تشير إلى من كان فى كلام دنيوى بالبسملة تنبيها على أن يقر، ثم رأيت عن الجوينى ما يناسبه إذ قال القول بأنها تنبيه جيد، لأن القرآن كلام عزيز، وفوائدة عزيزة، فينبغى أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم فى بعض الأوقات كون النبى صلى الله عليه وسلم فى عالم البشر مشغولا فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله آلم آلم حم، ليسمع النبى صلى الله عليه وسلم صوت جبريل فيقبل عليه ويصغى إليه، وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة فى التنبيه كألا وأما، لأنها من الألفاظ التى تعارفها الناس فى كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد لتكون أبلغ فى قرع سمعه.

انتهى . وقيل إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن ألغوا فيه، فأنزل تبارك وتعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم سببا لاستماعهم، واستماعهم له سبب لاستماع ما بعده، فترق القلوب، وتلين الأفئدة، عد هذا جماعة قولا مسقلا، والظاهر خلافه، وإنما يصلح هذا مناسبة لبعض الأقوال لا قولا فى معناها، إذ ليس فيه بيان معنى، واعترض القاضى قول بعضهم إنها حروف متقطعة من كلمات، بأنها لم تستعمل للاختصاص، ومن كلمات معينة فى كلامهم، وأما الأشعار الوارد فيها الاقتطاع فشاذة، لا يخرج القرآن عليها، وإن قلت قد ثبت هذا عن ابن عباس ونحوه، فلم يبق بحث، قلت إنما لا يبقى بحث لو كان حديثا صحيحا عنه - صلى الله عليه وسلم -، وأما إذا كان من كلام ابن عباس فيقبل البحث، مع أن تفسيره بذلك محتمل لأن يكون تمثيلا بأمثلة حسنه، وتنبيها على أن الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينات، فلم يرد تفسيرا حتما معينا مخصوصا بهذه المعانى الذى ذكرها دون غيرها، إذ لا مخصص لفظا ومعنى، وقيل إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التى هى أ ب ت ث، فجاء بعضها مقطعا، وجاء تماما مؤلفا ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم التى يعرفونها ويبنون كلامهم منها، وقيل فرقت تلك الحروف على السور ولم تعد بأجمعها فى أول القرآن، لإعادة التحدى وتكرير التنبيه والمبالغة فيه، والمعنى هذا التحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف، والمؤلف منها وللإيقاظ لمن تحدى بالقرآن، وللتنبيه على أن المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون إليه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما جرءوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز، فان النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس، فأما من الأمى الذى لم يخالط الكتاب، فمستبعد مستغرب، خارق للعادة كالكتابة والتلاوة، ولا سيما وقد راعى فى ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق فى فنه، وهو أنه أورد فى هذه الفواتح أربعة عشر اسما هى نصف أسامى حروف المعجم، إن لم يعد فيها الألف حرفا برأسه فى تسع وعشرين سورة بعددها، إذا عد فيها الألف مشتملة على أنصاف أنواعها، قال القاضى هذا القول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل، وأسلم من لزوم النقل إلى العلمية ووقوع الاشتراك فى الأعلام من واضع واحد من حيث إن { الم } علم لسور و { الر } علم لسور و { طسم } علم لسورتين و { حم } لسور، فإن الاشتراك يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية من تعيين المسمى بلا قيد، ووجه كونه أقرب إلى التحقيق أن فيه بقاء للألفاظ على أصل وضعها، فإن الحروف المكتوبة مثلا هكذى { آلم } تقرأ هكذا ألف لام ميم وقولك اسم للحرف المكتوب، هكذى، أو قولك لام اسم للحرف المكتوب هكذى، وقولك ميم اسم للحرف المكتوب هكذى م كما صرح به الخليل وأبو على لاعتوار خواص الاسم كالإضافة والجر والتنوين وأل والجمع، تقول الألف ورأت، وعن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال

" من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف، بل الألف حرف ولام حرف وميم حرف "

وأراد بقوله ألف حرف.. إلخ غير المعنى المصطلح عليه، فإن تخصيص الحرف بالمعنى المصطلح عليه عرف متجدد، بل المراد المعنى اللغوى، ولعله سماه باسم مدلوله كما قال الفخر سماه حرفا مجازا تسمية للاسم باسم المسمى لتلازمهما، ووجه كون ذلك القول أوفق للطائف التنزيل، أن الحمل على التحدى معنى لطيف دون التسمية فإنها أمر واضح ظاهر، وقيل حكمة الجمع بين الألف واللام والميم على كل الأقوال أن الألف أعنى الهمزة من أقصى الحلق، وهو مبدأ المخارج، واللام من طرف اللسان وهو وسطها، والميم من الشفه وهو آخرها، فجمع بينهن إيماء إلى أنه ينبغى أن يكون أول كلام العبد وأوسطه وآخره، ذكر الله تعالى، قويل هى حساب أبى جاد لتدل على مدة هذه الأمة، أخرجه ابن إسحاق عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد بن زيات.

" مر أبو ياسر بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فأتى أخاه حيى بن أخطب فى رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فى ما أنزل عليه { الم ذلك الكتاب } فقال أنت سمعت؟ قال نعم، فمشى حيى فى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك { الم ذلك الكتاب } ، فقال بلى، فقالوا لقد بعث الله أنبياء ما نعلم لنبى منهم مدة ملكه ولا أجل أمته، غير أن الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، ثم قال يا محمد وهل مع هذا غيره؟.. قال نعم { المص } قال هذه أطول وأثقل، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون، هل مع هذا غيره؟. قال نعم { الر } قال الألف واحدة واللام ثلاثون، والراء مائتان، هل مع هذا غيره؟ قال نعم { الم } قال هذه أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان لقد لبس علينا أمرك حتى لا ندرى أقليلا أعطيت أم كثيرا؟ ثم قال قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه ما يدريك لعله قد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره "

، وفى رواية حساب الصاد بتسعين، وفى رواية الشيخ هود قال الكلبى

" بلغنا أن رهطا من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيى بن أخطب وأبو ياسر دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن { الم ذلك الكتاب } قال حيى بلغنى أنك قرأت { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } نناشدك الله إنها أتتك من السماء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نعم والله لكذلك نزلت " وقال حيى إن كنت صادقا فإنى أعلم مدة هذه الأمة، ثم نظر إلى أصحابه فقال كيف ندخل فى دين رجل إنما ينتهى ملك أمته إلى إحدى وسبعين سنة، فقال له عمر وما يدريك إنها إحدى وسبعون؟ فقال هى فى الحساب الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حيى هل غير هذا؟ فقال نعم.. قال ما هو؟ قال { المص. كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين }. فقال هذا أكثر من الأول، هذه واحد وثلاثون ومائة سنة نأخذه من حساب الجمل، قال هل غيره؟ قال نعم قال ما هو؟ قال { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } قال حيى هذه أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد لأن كنت صادقا ما ملك أمتك إلا واحدة وثلاثون ومائتا سنة، فاتق الله ولا تقل إلا حقا فهل غير هذا؟ قال نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الر. تلك آيات الكتاب والذى أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } ، قال حى فأنا أشهد أنى من الذين لا يؤمنون بهذا القول، لأن هذه الآية أكثر، هذه واحد وسبعون ومائتا سنة، فلا أدرى بأى قولك نأخذ وأى ما أنزل الله عليك نتبع؟ قال أبو ياسر أما أنا فأشهد أنه ما أنزل الله على أنبيائه إلا الحق، وأنهم قد بينوا على ملك هذه الأمة ولم يوقنوا كم يكون ملكهم، فإن كان محمد صادقا فأراه سيجمع لأمته واحد وسبعون، وواحد وثلاثون ومائة، وواحد وثلاثون ومائتان، وواحد وسبعون ومائتان، وذلك سبعمائة وأربع سنين، فقالوا كلهم قد اشتبه علينا أمرك، فلا ندرى أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ فذلك قوله تعالى { هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } "

، قال الكلبى فواتح السر من المتشابه، وإن قلت كيف يعتبر كلام اليهود، ويجعل تفسيرا للقرآن الكريم؟ قلت زعم بعضهم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - تبسم، وفى رواية ضحك حين حسبوا { الم } بحساب الجمل، وأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم، وتلى عليهم الفواتح على ذلك الترتيب جوابا لغيرهم، هل غير ذلك، فدل ذلك منه على صحة حسابهم، ويبحث بجواز كون تبسمه وضحكه تعجبا من جهلهم وعدموا إنكاره عليهم لظهور بطلان ما قالوا، ولا سيما قد خلطوه بالكفر، مثل قولهم كيف ندخل فى دين من مدته كذا؟ وقولهم لا نؤمن به، وقولهم هذا تخبط، وقولهم لا ندرى بأى أمرك نأخذ. وأما زيادته التلاوة حين استزاده فطمع فى إيمانهم، لعلهم إن لم يهتدوا بهذه اهتدوا بأختها. قال الجوينى وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى

الم غلبت الروم

أن البيت المقدس يفتحه المسلمون سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، ووقع كما قال، وقال السهولى لعل عدد الحروف التى فى أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة. قال ابن حجر وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن أبى جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له فى الشريعة. انتهى. وقي فواتح السورة أمارة جعلها الله عز وجل لأهل الكتاب، بأنه سينزل على محمد كتابا فى أول سورة منه حروف مقطعة، وقد مر أن فواتح السور اشتملت على أربعة عشر حرفا نصف حروف المعجم، أعنى حروف التهجى، والتقدير حروف الخط المعجم، أو المعجم مصدر ميمى، أى حروف الإعجام، والفعل على الوجهين أعجم كأكرم وهمزته للسلب، أى لإزالة أعجميته أى إبهامه بالنقط، فإنك إذا نقطت حرفا تبين بالنقط وتبين ما يشابهه ويلتبس به بعدم النقط كالطاء والظاء والصاد والضاد، وإذا نقطت المتشابهين جميعا تبين كل بتخالف النقط كالتاء والثاء، والقاف والفاء، وإنما سميت حروف التهجى لأنها تهجى، أى تعد شيئا فشيئا، ومنه هجاه يهجوه إذا عد ما فيه من المعايب، وتلك الأربعة عشر منها خمسة من حروف الهمس الحاء المهملة، والهاء والصاد المهملة، والسين والكاف، وهن نصف حروف الهمس، ويجمع حروف الهمس حث شخصه فسكت، والحرف المهموس ما يضعف الاعتماد على مخرجه، وباقى الأربعة عشر حروف جهر، ويقال لحروف الجهر المجهورة، وهى ما عدا المهموسة من حروف التهجى، وهى ضد المهموسة، والذى شمل فواتح السور من المجهورة نصف المجهورة ، ويجمع هذا النصف قولك لن يقطع امرء ويجمع المجهورة كلها، قولك ظل قوريض إذ عزى حند مطيع، وهى ما ينحصر جرى النفس مع تحريكه، ومن تلك الأربعة عشر أربعة من الحروف الشديدة يجمعها قولك اقطك، ويجمع كل الحروف الشديدة قولك أجدت قطبك، وإن شئت فقل أجدت طبقك، والأقط ما يعمل من لبن الغنم، وإن شئت فقل أقطك أى أحسبك، يقال قطك هذا الشىء أى حسبك أى كافيك، والقطب ما يدور عليه الشىء، والطبق معروف وهو ما يصنع من سعف أو غيره واسعا قصير الأطراف المستديرة، وهى للطعام وغيره، والحرف الشديد ما ينحصر جرى الصوت عند إسكانه فى مخرجه فلا يجرى، ولا مانع من وصف الحرف بصفتين وأكثر إذا لم يتنافيا كالحروف المجهورة ككون الحرف همسيا شديدا وجهريا شديدا، ومن تلك الأربعة عشر عشرة حروف رخوة يجمعها قولك حمس على نصره بضم الحاء وإسكان الميم جمع أحمس وهو الشديد الصلب فى دينه وفى القتال، وكذلك باقى الحروف رخوة كذا قيل، والمعروف أن العين والميم والراء والنون واللام بين شدة ورخوة، ويجمعها قولك نل عمر.

واختلف فى حروف المد واللين هل هن من الرخوة؟ ومن تلك الأربعة عشر حرفان من حروف الإطباق الصاد والطاء، وبقى من حروفه الظاء والضاد، وحرف الإطباق هو ما ينطبق ما يحاذى اللسان من الحنك عليه عند خروجه، ومن تلك الأربعة عشر نصف الحروف المنفتحة الألف واللام والميم والراء، والكاف والهاء، والعين والسين، والحاء والقاف، والباء والنون، وقيل لا تعد الألف من الحروف، ومن تلك الأربعة عشر حرفان من حروف القلقلة القاف والطاء، وحروفها أربعة القاف والطاء والدال والباء الموحدة والجيم، يجمعهن قد طبج بالكسر أى فرج، وهى حروف تضطرب عند خروجها، لأنها مجهورة شديدة، فالجهر يمنع النفس عن الجريان معها، والشدة يمنع جريان صوتها، فلاجتماع الوصفين فيها اضطربت واحتاجت إلى التكلف فى بيانها، ومن تلك الأربعة عشر حرفان من حروف اللين الثلاثية الياء والألف، إذا عددنا الألف حرفا، من لم يذكره هنا فلأنه عنده غير حرف، أو لأنه ولو كان حرفا لكنه إما عن باء أو عن واو هنا، والثلاثة من حروف اللين الواو، وسمين بذلك لأنهن يخرجن فى لين بلا تكلف على اللسان لاتساع مخرجها الموجب لانتشار الصوت وامتداده، وإنما لم يذكر فى الأربعة عشر إلا الياء والألف، لأن الياء أقل ثقلا من الواو، وأما الألف فخفيفة، ولم يذكر من القلقلة إلا القاف والطاء. لأن القلقلة قليلة بالنسبة إلى ما يتركب منها لقلتها فى نفسها، ومن تلك الأربعة عشر النصف الأقل من حروف الاستعلاء، وذلك النصف القاف والصاد والطاء ومجموعها سبعة، الثلاثة الخاء والغين والظاء المعجمات بالنقض، وسمين بذلك، وبالحروف المستعلية لتصعد الصوت بها فى الحنك الأعلى، ومن تلك الأربعة عشر نصف البواقى المنخفضة، وهى التى يتسفل الصوت بها فى الحنك الأسفل، ومجموعها اثنان وعشرون، ومن تلك الأربعة عشر ستة من حروف الإبدال الألف والهاء والطاء والميم والياء والنون، يجمعهن اهطعين، وهما جبلان من الهضم وهو الكسر كالهضم، ويجمع حروف الإبدال اجد طويت، منها وهدات موطيا عند سيبوية، واختاره ابن جنى، وزاد بعضهم حروف الإبدال اللام نحو أصيلال، فلامه الأخيره بدل من نون أصيلان تصغير أصلان جمع أصيل، والصاد والزاى نحو صراط وزراط، فإنها بدل من السين، والفاء نحو جدف فإنها عن ثاء مثلثه، والجدث التبر ونحو فم أصله ثم، وهى حرف عطف والعين نحو أعجبنى عن نفعل، وأشهد عن محمدا رسول الله، الأصل أن تفعل وأن محمدا، أبدلت الهمزة عينا وتسمى عنعنة تميم، والثاء نحو ثروغ الدلو، والأصل فروغ أبدلت الفاء ثاء مثلثه، والفروغ جمع فرغ وهو مخرج الماء من الدلو من بين العراقى، والباء نحو بكة أى مكة، ونحو بااسمك بفتح الباء وضم الميم، الأصل ما اسمك وهى لغة مازن، فيكون حروف الإبدال ثمانية عشر فى الأربعة عشر منها تسعة الستة المجموعة فى اهطمين، وثلاثة أخرى اللام والصاد والعين، ومن تلك الأربعة عشر النصف الأقل مما يدغم فى مثله ولا يدغم فى المقارب، ومجموع ذلك الهاء والهمزة، والعين والصاد، والطاء والميم، والباء والخاء، والعين والضاد، والظاء، والشين، والزاى والواو، والفاء.

كذا قال القاضى واعترضه زكرياء بأن فى عده الضاد مما لا يدغم فى مقاربه نظر، أو أن فى القراءات السبع ما يخالفه، وكذا فى الميم والشين والفاء واعترض قوله النصف الأقل بأنه مبنى على عد الطاء والميم والشين والفاء مما يدغم فى مثله، ولا يدغم فى مقاربه وأن فيه نظرا، ومن تلك الأربعة عشر النصف الأكثر مما يدغم فى مثله ومقاربه ومجموعه الثلاثة عشر الباقية، وذلك الأكثر هو الحاء والقاف، والكاف والراء، والسين واللام، والنون، لما فى الإدغام من الخفة والفصاحة قاله القاصى، واعترض زكرياء قوله الثلاثة عشر الباقية، بأنه مبنى على عد الأربعة السابقة مما يدغم فى مثله ولا يدغم فى المقارب، قال وهو إن قرأ به فى السبع مخالف لزعمه فى آخر السورة إدغام الراء فى اللام لحن، وعليه فيقال نصفها الأقل ولا تعد الراء مما ذكر ولا يناسبه قوله لما فى الإدغام من الخفة والفصاحة. انتهى. وكتب على قوله والراء أنه الموافق لزعمه قال فى نسخة والزاى قال وهو وهم على قوله، واعترض قوله والفاء والسين بأنهما يدغمان فى مقاربهما كما يدغمان فى مثلهما، ومن تلك الأربعة عشر حرفان مما يدغم فيه مقاربه ولا يدغم فى مقاربه وهما الميم والراء، ومجموع ذلك أربعة هما والشين والفاء، من تلك الأربعة عشر ثلثا الحروف الحلقية والذلقية بإسكان اللام نسبة إلى ذلق اللسان، وهو طرفه ولم أقل ذلق اللسان والشفة، لأن اللسان هو العمدة فى خروج هذه الأحرف وإلا فالذلقية مخرجها طرف الشفتين، فإن ثلاثة منها شفهيتان الباء والفاء، والميم، والثلاثة الأخرى يقال لها ذلقية لا شفوية، وهى اللام والراء والنون، وذلك ستة يجمعها قولك رب منفل.

والحلقية الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة، وثلثا الحلقية والذلقية الراء واللام، والميم والنون، والهمزة والعين، والحاء، وإنما كان منها ثلثاهما الكثرة. وحرف الحلق والذلق فى الكلام، ومن الأربعة عشر سبعة حروف من الحروف التى تجوز زيادتها التى يجمعها قولك سألتمونيها، أو قولك أمان وتسهيل، أو قولك اليوم ننساه، والموجود منها فى الأربعة عشر الهمزة واللام، والميم والهاء، والياء والسين والنون، وفى ذلك تنبيه على أن أبنية الاسم المزيد فيه المركبة فى كلامهم لا تجاوز سبعة، وتلك الأربعة عشر أكثر ذكرا فى القرآن، وأيضا هى أن أنصاف أجناس الحروف وثلثاها، وباقى الحروف أنصاف وثلث فقط، على ما رأيت، وبعض تلك الأربعة عشر فى الفواتح مفردة وهى ص، ق، ن وبعضها ثنائية وهى طه، طس، يس، حم وبعضها ثلاثية وهى الم والر وطسم ورباعية وهى المص والمر وبعضها خماسية وهى كهيعص وحمعسق وفى ذلك تنبيه على أن منتهى الاسم المجرد عن الزوائد فى كلامهم خمسة أحرف، وأقله حرف، وأن المتحدى به مركب من كلماتهم التى أصولها كلمات مفردة ومركبة من حرفين فصاعدا إلى الخمسة، وذكر الثلاثة المفردة فى ثلاث صور، لأنها توجد فى الأقسام الثلاثة الاسم والفعل والحرف، وذكر أربع ثنائيات فى تسع سور، وذلك لأن الثنائى يكون حرفا بلا حذف كبل، وفى الفعل بحذف كقل، وفى الاسم بلا حذف كمن بفتح الميم، وبالحذف كأخ، وأول الثنائى مفتوح أو مكسور أو مضموم، وكل منهن فعل أو حرف أو اسم، فذلك تسعة من ضرب ثلاثة فى ثلاثة، فالاسم كمن وإذ وذو، والفعل كخف وبع وقل، والحرف كبل، ومن بكسر الميم، وهذا إذا جرت ما بعدها، وذكر ثلاث ثلاثيات، وهى الم والر وطسم لمجيئها فى الأقسام الثلاثة، الاسم والفعل والحرف فى ثلاث عشر سورة { الم } البقرة، و { الم } آل عمران، و { الم } العنكبوت، و { الم } الروم، و { الم } لقمان، و { الم } السجدة، و { الر } يونس، و { الر } هود، و { الر } يوسف، و { الر } إبراهيم، و { الر } الحجر، و { طسم } الشعراء، و { طسم } القصص، وفى ذلك تنبيه على أن أصول الأوزان المستعملة ثلاثة عشر، للأسماء عشرة وللأفعال ثلاثة، وذكر رباعيين وخماسيين تنبيها على أن لكل منها أصلا كجعفر وسفرجل، وملحقا كقردد وهو المكان الغليظ المرتفع، وجحنفل بجيم فحاء مهملة فنون ففاء فلام، وهو الغليظ الشفة، وتقدمت علة تفريقها فى السور وعدم جمعها فى أول القرآن، ويجوز أن تكون قد فرقت للفائدة المذكورة فى كل قسم من المفردة والثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية، ولا يقال ما ذكر من أوصاف الحروف وأقسام الأبنية، والكلمات وأحوالها اصطلاحات مستحدثة، فكيف يقال إنها مقصودة بالقرآن، لأنا نقول الاصطلاحات الأسامى لا المعانى المرادة بها وهى المقصودة، ولأن ما ذكرناه مناسبات يمكن أن تقصد بالقرآن والله أعلم.

ثم إن جعلت تلك الفواتح أبعاض كلمات أو أصواتا منزلة منزلة حرف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب، كالجمل المبدأة، والمفردات المعددة، وكذا قيل لامحل لها إذا قلنا لا يعلم معانيها إلا الله، وهو مشكل، لأنه يحتمل أن يكون معناها بحيث يكون لها محل، ولأنه يحتمل أن يكون المعنى أقل { الم } أو هذه { الم } مع تسليم عدم المعرفة بمعناه، فتكون معرفة، وإن جعلتها أسماء الله تعالى أو القرآن أو السورة فهى خبر أو مبتدأ أو مجرورة بحرف قسم مقدر أو منصوبة على نزعة، وجملة قولك ألف لام المشار إليها هذا المكتوب { الم } اسم واحد، إذا جعلناها اسما لله تعالى أو القرآن أو السورة. قال القاضى ويتأتى الإعراب لفظا والحكاية فيما إذا كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنه يقرأ بوزن هابيل، وتجب الحكاية فيما عدا ذلك، وأن بقيتها مع معانيها، فإن قدرت بالمؤلف من هذه احروف كانت مبتدأ أو خبرا، والمراد بالحكاية الإسكان، لأن السكون هو حال الكلمة قبل إدخال العامل عليها، ولا يعد فى جواز الحكاية والإظهار إذا وردا جميعا عن السلف فى ذلك، أو لم يتقين الوارد، أو لم يعلم، وإلا فالقرآن لا يغير عن وضعه والوقف على الفواتح وقف تام، إذا قدرت بحيث لا يحتاج إلى ما بعدها وليس شىء منها آية عند غير الكوفيين، وأما الكوفيون فالم عندهم آية وكذا { المص } و { كهيعص } و { طه } و { طسم } و { يس } و { حم } وفى { حمعيسق } آيتان { حم } آية و { عيسق } آية، والبواقى ليست بآيات، وظاهر كلام المرشد وهو اسم كتاب أن الفواتح كلها آيات عندهم، وذلك توقيف لا قياس ، فلا يحتاج إلى توجيه أو حجة أخرى غير التوفيق، ومن كتب { الم } إلى

وأولئك هم المفلحون

يوم الخميس أول النهار فى إناء جديد بزعفران، ومحاها بماء بير عذب، وشربها وأمسك عن الطعام ذلك اليوم، يفعل ذلك ثلاثة مرات، حمد الله تعالى على عاقبته وزاد حفظه، وثبت العلم فى قلبه وكان له يقين، وكان عونا. على الطاعة والمعرفة. والله أعلم.

[2.2]

{ ذلك الكتاب لا ريب فيه } اسم الإشارة مبتدأ و { الكتاب } نعته أو بدله أو عطف بيان له، وجملة { لا ريب فيه } من لا واسمها وخبرها خبر المبتدأ، او اسم الإشارة مبتدأ خبره { الكتاب } وجملة { لا ريب فيه } خبر ثان أو حال من الكتاب أو مستأنفة، أو اسم الإشارة مبتدأ خبره { هدى } و { الكتاب } نعت أو بيان أو بدل، وجملة { لا ريب فيه } معترضة أو { الكتاب } خبر و { هدى } خبر ثان والجملة بينهما معترضة أو الكتاب خبر والجملة خبر ثان وهدى خبر ثالث، أو هدى حال من الهاء أو من الكتاب إذا جعلنا الكتاب خبرا وهدى خبر لمحذوف، أى هو هدى، أو هدى خبر لمحذوف { لا ريب فيه هدى للمتقين } فحذف فيه الثانى لدلالة الأول أو فيه خبر لهدى، وحذف خبر لا أى لا ريب فيه، فحذف فيه الأول لدلالة فيه الثانى كما قال بعد أوقف على لا ريب فيه، قال ابن هشام يدل على خلاف ذلك قوله تعالى فى سورة السجدة

الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين

والجملة بعد { الم } جواب { الم } إن جعل قسما، وإن جعل اسما للقرآن أو السورة فمبتدأ خبره ذلك، أو خبر لمحذوف، وذلك خبر ثان أو بدل، وكذا الأعاريب بأوجهه إذا جعلنا { الم } بمعنى المؤلف من الحروف، وإنما صح الإخبار عنه على هذا مع أنه أعم بذلك الكتاب، مع أنه أخص، لأن المراد الكامل فى تأليفه البالغ غاية الفصاحة والبلاغة هو ذلك الكتاب، وإنما صح الإخبار بهدى عن القرآن وإتيانه حالا مع أنه مصدر لتأويله بالوصف، أى هاد أو تقدير مضاف، أى ذو هدى أو ذا هدى، أو للمبالغة، وإذا جعلنا خبر لا محذوفا وفيه نعت اسمها، فالوقف على فيه كما إذا جعل خبرا للا، وإذا جعلنا خبر لا محذوفا، وفيه خبر لهدى، والوقف على لا ريب، والإشارة عائدة إلى الم أن أول بالمؤلف من هذه الحروف الألف واللام والميم، وليس المراد خصوص الأحرف الثلاثة، بل هن وسائر حروف أب ت ث، وذلك كما تقول علمته أ ب ت ث، وتريد الحروف كلها، أى ذلك الكلام المؤلف من حروف التهجى، وهو القرآن كله، أو الإشارة عائدة إلى الم مفسرا بالقرآن أو مفسرا بالسورة سورة البقرة، وإنما صح على هذا الوجه كون السورة كتابا لأنها جزء الكتاب الذى هو القرآن، فعبر باسم الكل واسمه هو لفظ الكتاب عن البعض، وهو هذه السورة لمزيد اختصاص، وهو طولها وكثرة الأحكام فيها، أو صح كونها كتابا تأكيدا وتعظيما كأنها القرآن كله أو صح باعتبار المعنى اللغوى وهو المجموع والسورة مركبة من حروف وكلمات، وجمل وآيات، وأحكام وقصص، ووعد ووعيد، وأمر ونهى، وإنما أشار إلى السورة والقرآن أو المؤلف من الحروف وهو القرآن أيضا بإشارة البعيد، مع أن كل واحد من الثلاثة حاضر لعلو شأن كل من الثلاثة، حتى كأنه مرتفع فى الجو ارتفاعا حسيا.

قال السكاكى والخطيب القزوينى يعرف المسند إليه بالإشارة لتعظيمه بالبعد، نحو { الم ذلك الكتاب } قال السعد تنزيلا لبعد درجته ورفعة محله منزلة بعد المسافة ولفظ ذلك صالح للإشارة إلى كل غائب عينا كان أو معنى، بأن يحكى أولا، ثم يشار إليه نحو، جاءنى رجل فقال ذلك الرجل وضربنى زيد فهالنى ذلك الضرب، لأن المحكى عنه غائب، ويجوز على قلة لفظ الحاضر نحو فقال هذا الرجل وهالنى هذا الضرب، أى هذا المذكور عن قريب، فهو وإن كان غائبا لكن جرى ذكره عن قريب، فكأنه حاضر، وقد يذكر المعنى الحاضر المتقدم بلفظ البعيد نحو بالله، وذلك قسم عظيم لأفعلن، لأن المعنى غير مدرك حسا فكأنه بعيد، وكل ما فرغ المتكلم من التكلم به صح الحكم عليه بحكم الغائب البعيد، لأنه قد انقطع من اللسان، فلم يكن بعد انقطاعه مسموعا فى الحضرة، وجاء القرآن الكريم على ما تعرفه العرب، والله سبحانه وتعالى منزه عن اللسان والجوارح عن كل نقص ومثال. قال القاضى أو لما وصل من المرسل بكسر السين وهو الله سبحانه وتعالى، إلى المرسل إليه صلى الله عليه وسلم، صار متباعدا فأشير إليه بما يشار إلى البعيد، وإنما يعنى بوصوله من المرسل سبحانه وتعالى، وصوله من اللوح المحفوظ، أو من أيدى الملائكة الناقلين، أو من السماء الدنيا، وإنما صحت الإشارة بذا مع أنه للمذكر، وإلى آلم إذا فسر بالسورة، لأنه قد أخبر عنه بمذكر وهو الكتاب، أو هدى أو كلاهما أو لأنه قد نعت بمذكر وهو الكتاب، أو عطف به عليه عطف بيان، أو بدل منه وأل فى الكتاب للكمال، والحقيقة ففيه فصاحة التعريف كأنه قبل الكتاب المنعوت بغاية الكمال المتساهل أن يسمى كتابا، وهذا مما ينتجه قوله آلم أى المؤلف من حروف الهجاء، فاذا وقع التحدى بما ألف منها وكان من جنس كلامهم وعجزوا عنه، فلا بد أنه بالغ حد الكمال، ولا بد أن يتعلق به ريب، كما قال لا ريب فيه، لأنه لا نقص مما تعلق به ريب، وما كان كذلك لا بد أن يكون هدى للمتعقين، كما قال هدى للمتقين، فكل جملة مستتبعة لما بعدها استتباع الدليل للمدلول، وكل جملة مقررة لما قبلها، ويصح أن تكون الإشارة إليه، أعنى إلى الكتاب على أنه نعتها أو بيانها أو بدلها، أى ذلك الكتاب الكامل، أو خبرها، أى ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، ويجوز أن تكون أل فيه للعهد الذكرى، وإنما ذكر فيما نزل هذه الآية من القرآن، مثل قوله عز وجل

إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا

أو ذكر بلفظ { الم } على أنه قسم مراد به السورة أو القرآن أو للعهد الذهنى، فأن القرآن الكريم فى ذهن النبى صلى الله عليه وسلم، لا يخلو منه بتفكر فيما نزل منه وينتظر نزول الباقى، ولأنه معهود فى الكتب المتقدمة، راسخ ذكره فى أذهان من يقرؤها قد وصل ذهنه صلى الله عليه وسلم، أو للعهد الحضورى لحضور بعضه وهو ما نزل، فإن الشىء المتصل إذا حضر عندك بعضه وغاب عنك باقيه مثل حبل قربت لبعضه وتراه، وغاب عنك باقيه يصدق عليه أنه حاضر، قال ابن عصفور كل لام واقعة بعد الإشارة أو أى فى النداء إذا كان مدخولها تابعا لما قبله، أو واقعة بعد إذا الفجائية، فهى للعهد الحضورى، وقد قيل المراد بقوله ذلك الكتاب ما قد كان نزل من القرآن المشار إليه بإشارة الغائب تعظيما لعلو شأنه، وهو فى الحقيقة حاضر إذا اعتبر نزوله حضورا، ويناسب العهد الذهنى ما قيل إن الله تبارك وتعالى وعد نبيه صلى الله عليه وسلم فى منام أو إلهام أو بوحى فى أوائل البعثة قبل أن ينزل عليه شىء من القرآن أن ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، أى لا يبلى ولا يتغير ولا يندرس بكثرة التردد فيه، أى بكثرة تردده المؤدى إلى أن يمحى، فيترك فيندرس وانتفى بسبب كثرة التردد فيه بتكرار قراءته أن يكون باليا مندرسا، وانتفى أن يكون باليا متغيرا مع كثرة قراءته، صانه الله عن أن يغير مع كثرة من يتلوه، والحمد لله. ولما نزل بعضه قال الله تبارك وتعالى هذا هو ذلك الكتاب الذى وعدتك به أو وعده ذلك ببعض القرآن مثل

سنلقى عليك قولا ثقيلا

كأنه قيل هذا الموعود إنزاله بعد ما نزل بعضه، ويناسب العهد الذهنى أيضا ما قيل إن الله وعد بنى إسرائيل أن ينزل لهم كتابا على رسول إلى الناس كافة من ولد إسماعيل، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - صانها الله بفضله - وبها خلق كثير من اليهود نزلت الآية، أى هذا الكتاب الذى وعدت به على لسان موسى وعيسى، أن أنزله عليه فكفروا به وبما أنزل إليه

لا تكذب إن اليهود وقد زا غوا عن الحق معشر خبثاء

والكتاب لغة الضم والجمع، ومن ذلك يقال للجند كتيبة لاجتماعه، وكتبت المال جمعته، وهو مصدر سمى به المفعول مبالغة، وهو القرآن، لكثرة المعانى والألفاظ والحروف فيه، واجتماعها وانضمامها فى الألسنة والصحف واللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون اسما موضوعا لذلك غير مصدر، بل اسم كرجل ولباس، فكما أنه سمى اللباس لملابسته ومخالطته لمن لبسه، كذلك سمى القرآن، لأنه مما يجمع ويضم كما ذكر، ولسنا نحتاج أن نقول إن تسميته كتابا من مجاز الأول بمعنى أنه سيكتبه الناس أو أن نقول إنها باعتبار الإمكان والقوة بأنه قد جمع تحقيقا وبالفعل فى اللوح المحفوظ، نعم قد يقال سمى بذلك قبل أن يكتب فيه، لأن هذا الاسم من جملة القرآن مكتوب فى اللوح المحفوظ، فيحتاج أن نقول هى باعتبار الإمكان والقوة، ومن مجاز الأول أى يؤل إلى الكتابة، وقابل لأن يكتب فى اللوح المحفوظ وما بعده من أوراق وغيرها، أى يضم ويجمع فيها قيل إنه حقيقة فى ضم الحروف بعضها إلى بعض فى الخط، وقيل إنه حقيقة عرفته فى ضم بعضها إلى بعض فى التكلم بها وقرأ ابو عمرو بإدغام هاء فيه فى هاء هدى، وهكذا كل مثلين من كلمتين، ولو تحرك أولهما أو كان قبله ساكن إلا

فلا يحزنك كفره

وما كان تاء الخطاب أو التكلم أو منونا أو مشددا، ومعنى لا ريب فيه، أنه حق ليس أهلا للريب أى الشك، وليس فيه ما يوجب الشك فى لفظه ولا فى معناه لوضوح بيانه، وظهور برهانه كظهور الشمس، وكونه بالغا غاية الإعجاز عند من نظر فيه بعقله نظرا صحيحا، وليس المراد أنه لم يشك فيه أحد، فإنهم قد شكوا فيه، كما قال الله عز وجل

وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله

لكن أبطل ريبتهم لعجزهم عن أن يأتوا بمثله، أو بسورة مثل سورة منه، أو بعشر سور أو بآية، ولو اجتمعوا مع جميع بنى آدم الأموات، ومن سيوجد مما وجد، ومع الجن كذلك، وقيل المعنى أنه لا يشك فيه أحد من المتقين، بناء على أن للمتقين هو خبر لأمر قوله عز وجل { هدى للمتقين } أى لا ريب للمتقين فيه فيدخل قوله للمتقين فى أعاريب { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } المتقدمة فيكون فيه نعتا لريب، ويكون هدى حالا من الهاء أو خبرها محذوف، أى لا ريب فيه للمتقين هدى للمتقين، فحذف لدلالة قوله للمتقين عليه، والأولى ما تقدم فى قوله جل وعلا { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } والريب الشك، وكان ابن مسعود يقرؤه لا شك فيه، فيحتمل قراءة التلاوة، ويحتمل قراءة التفسير وهو فى الأصل مصدر، من رابك إذا حصل فيك الريبة، وهى قلق النفس واضطرابها، سمى به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة، ومنه ريب الزمان لنوائبه، وقوله صلى الله عليه وسلم

" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "

لأن الشك ريبة الصدق طمأنينة، ورواه الترمذى وصححه، وقدم الصدق طمأنينة على الشك ريبة، وذلك أن نوائب الزمان وهى حوادثه تقلق النفس وتزعجها، وكذا ما يشك فيه، لأن الشك تساوى الطرفين وتردد النفس بلا ترجيح، فيحصل لها قلق بذلك، والريب أخص من الشك، لأنه شك مع تهمة، والمراد هنا نفى كل من الريب والشك، وخص ذكر الريب نظرا لما عند المرتابين، ومعنى الحديث أترك ما فيه شك منتقلا إلى ما لا شك فيه، فإذا ارتابت نفسك فى شىء فاتركه، وإذا اطمأنت فى شىء فافعله، فإن نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب، وهذا مخصوص بذوى النفوس الشريفة القدسية الطاهرة، وقال الترمذى فى ذلك الحديث إنه حسن صحيح، ولكن فى سنده أبو الجوز وهو رواية عن الحسن، وتوقف فيه أحمد، وقال بعضهم إنه مجهول لا يعرف، وروى الحديث أيضا النسائى وابن حبان وقالا إن أبا الجوز ثقة، ولفظ ابن حبان فإن الخير طمأنينة والشر ريبة، ورواه الحاكم أيضا، والذى أراه للترمذى، وأن الكذب ريبة، وراوى الحديث هو الحسن بن على ابن أبى طالب، ورواه أحمد أيضا عن أنس، وروى الطبرانى مرفوعا عن ابن عمر، وليس كما قال الدارقطنى أن هذا من كلام ابن عمر، وأنه يروى أيضا من كلام مالك، وروى الدارقطنى بإسناد ضعيف عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لرجل

" " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " قال وكيف لى العلم بذلك؟، قال " إذا أردت أمرا فضع يدك على صدرك فإن القلب يضطرب للحرام ويسكن للحلال، وأن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة " "

زاد الطبرانى قيل له فمن الورع؟ قال الذى يقف عن الشبهة. والهدى الإرشاد والبيان، والدلالة، وخص المتقين به لأنهم المرتشدون بارشاده والمبينون ببيانه، بخلاف غيرهم، فإنه إرشاد وبيان ودلالة لهم أيضا، لكن لا يقتدون بإرشاده وبيانه ودلالته، ويجوز أن يكون المراد بالهدى الإيصال إلى المقصود والتوفيق إليه. لا مطلق الإرشاد والبيان والدلالة إليه، فإنه يرد فى كلام العرب على وجهين، ومن الثانى قوله عز وجل

إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء

وقوله عز وجل

لعلى هدى أو فى ضلال مبين

بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - يبين الحق لكل أحد، إنما نفى عنه أن يكون الإيصال إلى المقصود والتوفيق إليه لمن أحب بيده، وبدليل مقابلة الهدى بالضلال، ومن الأول

فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى

أى بينا لهم الحق وتركوه، ولم يرد التوفيق، لأن الموفق لا يمكن أن يترك الحق إلى العمى، وقوله { هدى للناس } أى إرشاد تجميعهم لكن من تدبره بعقله، ونظر فى المعجزات والآيات نفعه واشتفى به، ومن أعرض ازداد خسارا كما قال الله عز وجل

وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا

كالطعام والشراب الكريمين، فإنهما ينفعان الجسم الصحيح ويتضرر بهما المريض، لعلة فيه لا فيهما، وتخصيص بعضهم الهدى بالوجه الأول وبعضهم بالثانى مردود بورودهما جميعا، ولا نسلم أنه لا يقال مهدى إلا لمن اهتدى، بل يقال أيضا لمن هدى فلم يهتد، ولئن سلمناه لنقولن إنما قيل مهدى للمنفع بالهدى لانتفاعه دون غيره، ولا مدخل لذلك فى أن الهدى للدلالة، أو للدلالة الموصلة إلى البغية بتثليث الموحدة، أعنى إلى المطلوب.

وإن قلت كيف يكون هدى وفيه المجمل والمتشابه؟ قلت لزوال الإجمال بتبيينه صلى الله عليه وسلم، والمتشابه لا يضر بهم جهله، ويكفى الإيمان به، وأيضا قد يبينه راسخ فى العلم، والمتقى من يبالغ فى الحذر من شىء يعالج الحذر منه وينفر من أن يقع فى أقل قليل منه كمحاذرة السم، فقد يحذر ما لا يكون فيه ذلك المحذور بحسب ما ظهر مخافة أن يكون فيه وهو لا يعلم به، أو أن يؤدى إلى ما هو فيه، ويختص ذلك فى الشرع بشدة محاذرة المعصية والشبهة، وما يخاف أن تكون فيه إحداهما أو يؤدى إلى إحداهما فهو يترك كثيرا من الحلال لئلا يقع فى ذلك، وفى عرف الخواص من أهل الشرع أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق سبحانه وتعالى، وينقطع إليه بجملته ظاهره وباطنه، ويجوز تفسير التقوى به فى قوله تعالى

اتقوا الله حق تقاته

وهو التقوى الحقيقى المطلوب، وعن ابن عباس رضى الله عنهما المتقى من يترك الفواحش والكبائر والشرك، وفي معناه التارك ما حرم الله المؤدى ما افترض، فإن ترك أداء الفرض فاحشة أو كبيرة أو بشرك، وفى معناه أيضا من لا يراه الله حيث نهاه، وفى معناه المقتدى بالنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفى معناه تارك الاغترار بالطاعة والإصرار على المعصية، هذه العبارات كلها فى معنى عبارة ابن عباس، ويتولد من ذلك ألا يرى نفسه خيرا من أحد، وكل ذلك من الوقاية وهى الحجز بين الشيئين، فإن المتقى يحتجز من غضب الله عز وجل وعذابه، والتاء الأولى من المتبقى بدل من الواو، والثانية تاء المفتعل، وإن قلت كيف يكون القرآن أو بعضه هدى للمتقى؟.. بل هدى للضال وإلا لزم تحصيل الحاصل؟ قلت المعنى أنه يزيدهم الهدى أو أن الاتقاء الحاصل معهم، إنما حصل لهم بهدى القرآن، أو معنى المتقين المشارفون للاتقاء على الإيجاز والتشريف والتفخيم لهم، أو أريد بالهدى غايته، لأن غير المتقين يحصل لهم مبدأة، وقرأ أبو الشعثاء جابر بن زيد رحمه الله أو سليم بن أسود لا ريب بالرفع والتنوين على إعمال لا عمل ليس، أو على إهمالها، فعلى إعمالها عمل ليس الأحسن كون خبرها محذوفا، وفيه نعت اسمها، أو فيه خبر لهدى، وهدى مبتدأ، أى لا ريب فيه، فيه هدى للمتقين، وعلى كل قراءة وكل وجه نكر هذا التعظيم، وإنما لم يقدم لفظ فيه على لا ريب كما قدم فيها على قول، لأنه لم يقصد نفى الريب عن القرآن خاصة وإثباته لسائر الكتب المنزلة كما قصد إثبات القول لسائر الخمور، ونفيه عن خمر الجنة فقط، فلو قيل لا فيه ريب لأوهم الكلام أن فى سائر الكتب ريبا.

[2.3]

{ الذين } نعت للمتقين مقيد له، أعنى لمنعوته الذى هو بعض المتقين، إن فسرنا التقوى بترك ما لا ينبغى مترتبة عليه ترتب التحلية بالحاء المهملة، وهو التزيين بالأشياء الجميلة على التحلية، وهى التجريد من الأوساخ والأصداء، وترتب النفس فى الشئ على تصقيله، أو نعت للمتقين موضح له، إن فسرنا التقوى بما يعم فعل الطاعة وترك المعصية، لاشتمال التقوى على الإيمان والصلاة والزكاة، وهن أصل الأعمال والحسنات وأعمال القلب والبدن والمال، وعليهن يترتب سائر الطاعات وتجنب المعاصى غالبا، قال الله تبارك وتعالى

إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

وقال صلى الله عليه وسلم

" الصلاة عماد الدين "

قال

" والزكاة قنطرة الإسلام "

أخرج البيهقى فى شعب الإيمان مرفوعا بسند منقطع

" الصلاة عماد الدين "

، وأخرج أبونعيم شيخ البخارى عن بلال بن يحيى مرفوعا

" الصلاة عماد عمود الدين "

وهو مرسل، وقال إن رجاله ثقاة، وأخرج الطبرانى فى الكبير، والبيهقى فى شعبه مرفوعا بسند ضعيف

" الزكاة قنطرة الإسلام "

وأخرج عمروس ابن فتح رحمه الله عن على عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فى خطبته

" ألا إنه لا صلاة لمانع الزكاة، لا صلاة لمانع الزكاة، والمتعدى فيها كمانعها "

وروى الربيع عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال

" لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة ولا ضوء له، ولا صلاة ولا وضوء لمن لا صوم له، ولا صوم له إلا بالكف عن محارم الله ".

أو الذين نعت للمتقين على طريق المدح، فهو التقوى صلته مدح لما تضمنه بعض المتقين من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق مما رزقهم الله، وإنما يجعل الإنفاق الذى هو غير زكاة مما تضمنه بواسطة باعتبار أنها للمحاذرة عن النار بكل ما أمكن، ولأن التقوى تستتبع الأعمال الصالحة، ولك أن تقول التقوى الإيمان بالغيب، وتضمنت الصلاة والزكاة ونحوهما من الواجبات فقط، وخص ذلك بالذكر إظهارا لتفضيلها على سائر ما يدخل تحت التقوى، أو الذين مفعول لأمدح أو لأعنى، أو خبر لمحذوف، أى هم الذين، ويجوز أن يكون الذين مبتدأ خبره

أولئك على هدى من ربهم

وإذا جعلناه نعتا للمتقين، فالوقف على المتقين حسن، وكذا باقى الأوجه، إلا إذا جعلناه مبتدأ فالوقف على المتقين كاف، لأنه لو فصل عنه لفظا فقد وصل به معنى، قاله السعد، وقال القاضى تام، والأرجح أن يكون نعتا للمتقين، كأنه قيل المتقين المتصفين بأنهم { يؤمنون بالغيب } الإيمان فى اللغة التصديق، والماضى أمن بهمزة فألف فميم مفتوحة، فالهمزة للتعدية، والألف بدل من الهمزة التى هى فاء الفعل الثلاثى، بوزن أفعل كأكرم، لأن مصدره إفعال بكسر الهمزة لا بوزن فاعل بفتح العين، إذ لم يكن مصدره فعالا بالكسر كان المصدق بكسر الدال صير المصدق بفتحها أمنا من أن يكذبه أو يخالفه، فالأصل أن يقول آمنت الغيب وآمنت النبى محمدا صلى الله عليه وسلم، أى صيرتهما آمنين من أن أكذبهما أو أخالفهما، بالتعدية بالهمزة المزيدة، ولكن عدى بالباء لتضمنه معنى الاعتراف بالقلب واللسان، أو بالقلب، أو باللسان دون القلب، فى حالة الكذب، ولو كان المشهور عندنا معشر الإباضية الوهبية أنه لا يدخل الإنسان فى التوحيد إلا باعتقاد وإقرار باللسان جميعا، وقد يطلق بمعنى الوثوق، فالهمزة للصيرورة نحو أمنت زيدا أى صيرته ذا أمن من أن يكذبنى، يقول ناوى السفر ما آمنت أن أحد صحابة، أى ما أثق أن أظفر بمن أرافقه، وذلك إما على تضمين آمنت بالشىء بمعنى استوثقت، واطمأن قلبى إلى وجوده وصحته، وإما على أن الواثق صار ذا أمن به لم يدخله ريب من جانبه، وتلك الوجوه كلها حسنة فى الآية.

وإن قلت كيف يصح أن يقال صيرت الغيب آمنا، من أن أكذبه، وإنما الأمن يكمن فيمن يمكن منه الخوف؟ قلت يصح ذلك مجازا شبه التكذيب به بمنازعة إنسان ومعاداته بجانب المباعدة فى كل، أو لمنافرة المستلزم ذلك لخوفه، وإن قلت الإيمان التصديق حقيقة والاعتراف مجازا، فإذا عدى بالباء علمنا أنه ضمن معنى الاعتراف، فيلزم اجتماع الحقيقة والمجاز، قلت المشهور منعه، وأجازه الشافعى وغيره، مع أنه لا يتعين ذلك، لجواز أن نقول إنه مستعمل فى حقيقته دالا على محذوف مؤدى للمعنى المجاز، أى مصدقين حال كونهم معترفين بالغيب، كما يقال أحمد الله إليك، أى أحمده منهيا حمده إليك، فإن حقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقى مع معنى آخر يناسبه، من غير أن يقال إنه موضوع لهذا المعنى الآخر على ما يفيده كلام السعد، بل يشير الفعل إلى ذلك المعنى، بواسطة دلالة المقام على تقدير ما يؤدى ذلك المعنى، ولك أن تقول حقيقة التضمين استعماله فى ذلك المعنى الآخر مجازا، مع تلويح إلى المعنى الأصلى بواسطة التزام أو نحوه، هذا ما سمح به خاطرى ولى فى ذلك أبحاث. والإيمان فى الشرع تارة يطلق على التصديق، بما علم بالضرورة أنه من دين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كنفى الشركة عن الله سبحانه وتعالى، وإثبات النبوة والرسالة والبعث والجزاء. ومعنى كون ذلك معلوما بالضرورة أنه مشهور، حتى كأنه أمر ضرورى لا يحتاج إلى كسب، ثم ما لوحظ إجمالا كالملائكة والكتب والرسل، كنفى الإيمان به إجمالا، وما لوحظ تفصيلا كجبريل وموسى والإنجيل، اشترط الإيمان به تفصيلا، حتى إن من لم يصدق بمعين من ذلك فهو مشرك، كذا ذكر بعض الشافعية وهو حق كما نقول معشر الإباضية الوهبية، إلا أن جمهورنا يوجب معرفة جبريل وآدم، ولا يمهل المكلف إلى ورود معرفتهما عليه، كما لا نمهله نحن ولا قومنا فى معرفة النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، ولا يشرك الإنسان بإنكار نبى لم يتواة، وتارة يطلق على مجموع الاعتقاد والإقرار أو العمل بمقتضى ذلك فمن أخل بالاعتقاد وحده و به وبالعمل فهو مشرك، من حيث الإنكار منافق أيضا، من حيث إنه أظهر ما ليس في قلبه، ومن أخذ بالإقرار وحده، أو بالإقرار والعمل، فهو مشرك عند جمهورنا وجمهور قومنا، وقال القليل إنه إذا أخل بالإقرار وحده مسلم عند الله من أهل الجنة، وإن أخل به وبالعمل ففاسق كافر كفر نعمة، ونريد باسم آخر له وهو لفظ منافق، وإن أخل بالعمل فقط فمنافق عندنا فاسق ضال كافر كفرا دون شرك، غير مؤمن الإيمان التام، وقالت المعتزلة خارج عن الإيمان غير داخل فى اسم الكفر، سواء كفر الشرك وما دونه، وروى الإيمان إقرار باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، وقيل هو كلام من بعض السلف، واختلفوا - الخوارج - وهم الذين خرجوا عن ضلالة على، فقالت الإباضية الوهبية وسائر الإباضية فيمن أخل بواحد من الثلاثة ما تقدم من إشراكه بترك الاعتقاد أو بترك الإقرار، وينافق بترك العمل، ويثبتون الصغيرة، وقال الباقون كذلك وأنه لا صغيرة، ومذهب المحدثين أن انضمام العمل والإقرار إلى الاعتقاد على التكميل لا على أنه ركن، ونحن نقول انضمامهما إليه ركن وهما جزء ماهيته، وقيل شرط خارج عن الماهية لا ينتفع به بدونهما، وأن ماهيته هى التصديق بالقلب فقط، وأما الإقرار فلإشهار دين الله - تبارك وتعالى - وتعظيمه والدعاء إليه، ونفى أحكام المشركين عن نفسه، وأما العمل فلوجوب الصدق، فمن لم يعمل فقد كذب اعتقاده، وإقراره إن أقر وخرج عن عبادته من أقر له واعترف له، واعتقد أنه عبده، وعلى كلا القولين من أن الإقرار والعمل شرطان، أو شطران لماهية الإيمان يكفى إقراره وعمله فى خلوة عن حضور أحدى، وزعمت الكرامية أن الإيمان هو التلفظ بالشهادتين، سواء طابقه الاعتقاد أم لا، فإن طابقه نجا ولو لم يعمل، وإلا فهو مخلد فى الناس من غير أن يسموه مشركا، فعندهم التلفظ ينفى اسم الشرك باطنا كما ينفيه ظاهرا، ولا ينفى حكمه وهو الجزاء بالنار إن لم يطابقه الاعتقاد، ويبطل قولهم ما وردت به لغة العرب والقرآن والسنة أن الإيمان تصديق بالقلب وإذعانه، وقال أبو حنيفة وبعض الأشاعرة الإيمان تصديق بالحنان وإقرار باللسان، لأن التصديق لما اعتبر بكل من اللسان والحنان، كان كلا منهما جزءا من ماهية الإيمان، ولكن تصديق القلب ركن لا يحتمل السقوط، وتصديق اللسان يسقط لنحو خرس أو إكراه، وهو موافق لما نقوله معشر الإباضية الوهبية، غير أنا نقول إن العمل جزء من ماهية الإيمان، لكن لا يخفى أنه جزء من ماهية الإيمان التام لا من مطلق الإيمان، بدليل انه لا نحكم بالشرك على من ترك العمل، قال الإيمان باق فيمن ترك العمل، ولكنه لا ينفيه، فمطلق الإيمان تركت ماهيته عندنا بالاعتقاد والإقرار فقط، ورجح بأن الله - جل وعلا - ذم المعاند أكثر من الجاهل المقصر، ويجاب بأن الذم للإنكار والعناد لا لمجرد عدم الإقرار، وقيل الاعتقاد فقط، وأما الإقرار فلما مر من إشهار الدين والدعاء إليه ونفى أحكام الشرك ونحو ذلك، وللعبادة والثواب والتوكيد، ويدل له إضافة الإيمان إلى القلب مثل

وقلبه مطمئن بالإيمان

ولم يؤمن قلبه،

ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم

وعطف العمل الصالح عليه فى مواضع لا تحصى، ونطق اللسان من العمل الصالح وقرنه بالمعاصى كالاقتتال والقتل والظلم فى نحو

وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا

كتب عليكم القصاص فى القتلى

الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم

مع ما فى ذلك من قلة التغير عن معناه اللغوى، ومن قربه إليه وبدل لذلك تعديه بالباء، فإنه يتبادر منه التصديق، وبدله له إنا إذا رأينا من أحد أمارة المؤمنين حكمنا بإيمانه، وأزلنا عنه حكم الشرك، وكذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلم أن الإيمان فى القلب، وأنه بأى علامة كشف عنه حكمنا به، سواء كشف عنه اللسان أو غير اللسان، ولست فى ذلك قاصد لمخالفة أصحابنا رحمهم الله، ولكن ذكرت ما أدى إليه اجتهادى. وأما أحاديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا... إلخ " فقد يستدل بها على أن الإقرار جزء من ماهية الإيمان، لكن قد يقال إن النطق إنما هو شرط لإجراء أحكام الإسلام، بدليل أنه رتب عليه حقن الدماء والأموال إلا بحق دون النجاة فى الآخرة، بل وكل أمرهم إلى الله عز وجل، فإن خالف اعتقادهم نطقهم أو عملهم أو طابق فهو العالم بذلك المجازى عليه، وإن قلت لا يتصور لمعتقد ألا يقر، قلت يتصور لأنه يمكن أن يصلى بسورة ليس فيها تصريح بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، مع الفاتحة، وأن يسلم من التحيات قبل أن ينطق بذلك، بل لو لم يتصور له ذلك فى حال فالكلام عليه قبل تلك الحال، غير أن جمهورنا كما علمت إلا قليلا جدا، وجمهور قومنا أيضا يقولون لا إيمان بلا إقرار، ومن لم يشترط الإقرار فهل يحكم بإيمانه بدون أن يحكم بمعصيته بعد الإقرار أو لا يحكم بمعصيته؟ قولان لمن لا يشترط الإقرار، بل قال النووى تلميذ ابن مالك صاحب الألفية والتسهيل فى العربية، والحديث والتفسير فى شرح مسلم أن أهل السنة من المحدثين والفقهاء، والمتكلمين، اتفقوا على أن من آمن بقلبه ولم ينطق بلسانه مع قدرته أن مخلدا في النار، ولكن يرده ما ثبت أن لكل واحد من مالك وأحمد والشافعى وأبى حنيفة قولا بأنه مؤمن عاص بترك التلفظ، بل ذكر ابن حجر كالكمال بن الهمام وغيره أن جمهور الأشاعرة وبعض محققى الحنفية، أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا فحسب، حتى زعم بعضهم أنه لو أجريت عليه لنطقه بلسانه وهو كافر باطنا، كنكاح مسلمة، وأخذ ميراث قريب مسلم ثم زال كفره القلبى، احتمل حل الوطء وأخذ الإرث لقيام التلفظ به لإجراء الأحكام عليه، والصواب عدم حل النكاح إلا بعد تجديده، وإنما حلله بعد التجديد، مع أنه زان بها إذ جامعها وهو مشرك، للأثر الوارد المشرك الزانى بامرأة، إن أوله سفاح وآخره نكاح، غير أن المرأة هنا مسلمة، لكنها لم تدخل على نية الزانى بل غرها بتوحيد لسانه، فيجوز لها العود إليه بنكاح جديد، لأنها لا يصدق عليها أنها زانية، وإسلامه هو جب لما صدر منه فى شركه، والصواب أيضا عدم أخذه الإرث المذكور، وذلك لأنا إنما لم نؤاخذه بما فى باطنه أولا لعدم ظهوره لغيره، وأما بالنسبة له فهو كظاهره ونظيره الحكم بشاهدى زور فى النكاح، فإنه لا يحل لمن علم بالزور العمل بقضية ذلك الحكم عندنا وعند جمهور قومنا، وهو الصواب الموافق للكتاب والسنة، واتفق من لا يشترط الإقرار ولا يجعله شرطا، على أنه لا ينفعه اعتقاده إلا إن نوى أنه متى طولب بالإقرار أو حضر له أمر لازم متوقف على الإقرار أقر، فإن طولب أو حضر ذلك فامتنع أو اعتقد أنه لا يقر إذا طولب أو حضر ذلك، فهو مشرك كما لو سجد لصنم أو استخف بنبى أو بالكعبة، أو حضر ذلك فهو مشرك كما لو سجد لصنم أو استخف بنبى أو بالكعبة، أو نحو ذلك من المكفرات، واستشكل الحكم بكفره بأحد هذه المذكورات مع كونه مصدقا بقلبه لما يلزم عليه أن تعريف الإيمان بالتصديق غير مانع لصدقه على هذا، مع انتفاء الإيمان عنه، وجوابه يعلم من تقرير مهمات يتعين التفطن لها، وهى أنهم اختلفوا فى التصديق بالقلب الذى هو تمام مفهوم الإيمان عند الأشعرية، أعنى أنه ماهية الإيمان أو جزء مفهومه عند غيرهم كما هو عند أصحابنا، أعنى أنه جزء الماهية والجزء الآخر الإقرار، فقيل هو من باب العلوم والمعارف، ورد بأنا نقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقيقة رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، قال الله تبارك وتعالى

فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به

يعرفونه كما يعرفون أبناءهم

وبأن الإيمان مكلف به والتكليف إنما يقع بالأفعال الاختيارية، والعلم بصدق مدعى النبوة عن وجود سببه، وهو مشاهدة المعجزة حاصل قهرا عليه. وقال إمام الحرمين وأبو الحسن الأشعرى إنه كلام النفس، وإن المعرفة شرط فيه، إذ المراد بكلام النفس الاستسلام الباطن، والانقياد لقبول الأوامر والنواهى، وبالمعرفة إدراك مطابقة دعوى النبى - صلى الله عليه وسلم - للواقع، أى تجليها للقلب وانكشافها له، وذلك الاستسلام إنما يحصل بعد حصول هذه المعرفة، ويحتمل أن كلا من هذين المذكورين ركن، فلا بد من المعرفة إن جعلناها شرطا أو ركنا، ومن ضم الاستسلام لها لما من ثبوتها مع الكفر، وقهرا على النفس، وأما تعلق التكليف بها مع ثبوتها قهرا فى قوله تعالى

فاعلم أنه لا إله إلا الله

فانما أريد به تحصيل أسبابها من القصد إلى النظر فى آثار القدرة الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته، وتوجيه الحواس إليها، وترتيب المقدمات المأخوذة من ذلك على الوجه المؤدى إلى المقصود، وظاهر كلام شارح المقاصد أنه لا يكتفى بذلك العلم القهرى، بل لا بد من تحصيله بعد بطريق الاستدلال، ورد بأن حصول الاستسلام الباطن بعد حصول العلم القهرى حصول للمقصود إليه، فالوجه الاكتفاء بحصول القهرى المنضم إليه الاستسلام، والتكليف بتعاطى الأسباب مغن عن استحصاله بتعاطى أسبابه، إنما هو لمن لم يحصل له ذلك العلم القهرى، وأخذ بعضهم من أنه لا بد من ضم الاستسلام إلى المعرفة، أن مفهوم الإسلام لغة الذى هو هذا الاستسلام جزء من مفهوم الإيمان، وأطلق بعضهم اسم المرادف عليها. والأظهر كما قال بعض المحققين إنهما متلازمان مفهومان، فلا يعتبر شرعا فى الخارج إيمان بلا إسلام، ولا عكسه وأن التصديق قول للنفس مغاير للمعرفة وإن نشأ عنها، إذ هو لغة لنسبة الصدق بالقلب أو اللسان إلى القائل وهو فعل وهى ليست فعلا، بل من قبيل الكيف، فكل منها ومن الاستسلام خارج عن مفهوم التصديق لغة وإن اعتبر شرعا فى الإيمان، ثم اعتبارهما فيه شرعا إما على أنهما جزءان لمفهومه شرعا أو شرطان لاعتباره، وهو الراجح، لأن الأول يلزمه نقل الإيمان عن معناه اللغوى إلى معنى شرعى، والنقل خلاف الأصل فلا يصار إليه بغير دليل، بل الدليل على خلافه، لأنه كثير فى الكتاب والسنة طلبه من العرب، ولم يستفسر من أجاب إليه عن معناه اللغوى ووقوع استفساره عن بعضهم، إنما هو عن متعلقه بدليل أن جبريل عليه السلام لما سأل عنه أجابه - صلى الله عليه وسلم - بذكر المتعلق، إذ قال

" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره "

ففسره بما يتعلق به، ولم يفسر لفظه، بل أعاد لفظه بقلبه أن تؤمن لأنه كان معروفا عندهم لا نزاع فيه أنه لغة مطلق التصديق، وشرعا تصديق بأمور خاصة وهى المعلومة من الدين بالضرورة، فهو تصديق بها بمعنى اللغوى، ويدل لذلك حديث الشيخ عامر - رحمه الله - فى الإيضاح فى كتاب الكفارات فى

" الأمة التى أراد سيدها أن يعتقها عن دين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جاءتك فأت بها " فأتاه بها فقال لها " من ربك ومن أنا؟ " فقالت الله ربى وأنت محمد رسول الله، فقال " إنها مؤمنة " "

فإنه يتبادر أنه إذا أراد أن يختبر هل هى مؤمنة؟ فلما قالت ذلك أخبر أنها مؤمنة، أى أنها مؤمنة قبل نطقها من قبل أن تأتى مثلا، ولم يقل لها إنها قد آمنت الآن، بل أخبر بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت، فأفاد ذلك أنه قد حصل لها اسم مؤمنة بما فى قلبها بلا نطق، وما أفادنا نطقها إلا معرفة حالها وغير هذا محتمل، لكن غير متبادر. وانتفاء الإيمان بانتفاء المعرفة والاستسلام لا يستلزم جزئيتهما لمفهومه شرعا، لجواز كونهما شرطين له شرعا فظهر أنه يمكن ثبوت التصديق لغة بدونهما، وإن هذا الثبوت يمكن مجامعة الكفر له، إذ لا مانع عقلا أن يصدق جبار نبيا ويقتله، لنحو حمق أو غاية هوى، فقتله لا يدل على انتفاء التصديق به من أصله، كما ظنه بعض الأئمة من أصحابنا ومن قومنا، بل يدل على أن ما عنده من التصديق غير منج له شرعا من النار، ورأيت الله سبحانه وتعالى التلبس بالإيمان لازما لا ينفك عنه وهو سعادة الأبد، وعلى ضده شقاوته وهى لازم الكفر شرعا، وأنه اعتبر فى ترتيب لازم الإيمان وجود أمور بعدما يترتب لازم الكفر، فمنها تعظيمه - سبحانه وتعالى - وتعظيم أنبيائه وكتبه وملائكته، وترك السجود لنحو الصنم والاستسلام باطنا لقبول أوامره ونواهيه الذى هو معنى الإسلام لغة، فلو كان رجل مصدقا بوحدانية الله سبحانه وتعالى ورسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبكل ما يجب التصديق به مجملا أو مفصلا، ثم سجد لصنم فهو باق على ذلك التصديق فى قلبه لم ينقص منه شيئا، فبالظاهر نقول إنه غير مشرك، وسجوده للصنم منزل منزلة سائر الكبائر التى يفعلها تشهيا إذا اعتقد تحريم ذلك، وبالتحقيق نقول إنه مشرك ناقض لإيمانه وتصديقه، لأنه إذا سجد للصنم ورآه أهلا لأن يسجد له فقد جعل لله شريكا، ولو اعتقد تحريم الإشراك والسجود لغيره، وإن سجد له عبثا ففعله كبيرة نفاق، وقيل شرك، واتفق أهل الحق والأشاعرة والحنفية أنه لا يعتبر إيمان بلا إسلام ولا عكس ذلك، إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر إذا أخذ بالمعنى الحقيق لهما، ولكنا أهل الحق والحنفية خالفنا الأشاعرة، إذ حكمنا بتكفير بعض الناس بأقوال وأفعال، ووافقنا محققو الأشاعرة كتعمد صلاة بلا وضوء، ودوام ترك سنته استخفافا بها واستقباحها، كإحفاء الشارب وجعل طرف العمامة تحت الحلق، فمن قصد الاستخفاف بالسنة أشرك مطلقا، ومن فعل خلافها بلا استخفاف نافق وكفر كفر نفاق، وهو كفر نعمة إذا كانت غير واجبة، ومن أنكر ما هو من الدين وليس علمه ضروريا، بل فيه خفاء، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، فلا كفر لإنكاره عند الشافعية، وكفره الحنفية إن علم ثبوته قطعا، أو ذكر له أهل العلم أنه قطعى فاستمر على جحوده، وكفره أصحابنا مطلقا لأنه يعذر عندهم فى جهل ما هو موسع، ما لم يدخل فيه بخلاف الحق.

واعلم أن الإيمان والإسلام متلازمان مفهوما، فلا ينفك أحدهما عن الآخر، وإن اختلف المفهومان أو مترادفان فلا يوجد شرعا إيمان من غير إسلام ولا عكسه عند التحقيق، وأن الإسلام يطلق أيضا على الأعمال فى الشرع، كما يطلق على الانقياد لغة وشرعا، وأن الإيمان يطلق عليهما شرعا باعتبار أنه يتعلق بهما، فحيث ورد ما يدل على تغايرهما كما فى حديث

" إن جبريل قال يا محمد أخبرنى عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، ثم قال فاخبرنى عن الإيمان، قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره "

وكما فى قوله تعالى

قالت الأعراب آمنا

إلخ الآية، فهو باعتبار أصل مفهومهما، فأصح تفسير فى الآية قول ابن عباس وغيره إنهم آمنوا باطنا وظاهرا، ولكن كان إيمانهم ضعيفا، ويدل على هذا قوله تعالى

وإن تطيعوا الله ورسوله

إلى آخره الدال على أن معهم من الإيمان ما خرجوا به عن الشرك، فيؤخذ من الآية أنه يجوز نفى الإيمان عن ناقص الإيمان، باعتبار الكمال، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم

" لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن "

أى لا يزنى وهو مؤمن إيمانا كاملا، بل ناقصا فحينئذ يقال له آمن ولا يقال مؤمن، كما نفى عنه فى الحديث اسم مؤمن، لأنه يوهم كمال إيمانه إلا بقيد، فيجوز مؤمن ناقص الإيمان، ووافقنا على ذلك محققو المتسمين بأهل السنة، قال على بن محمد بن إبراهيم البغدادى الخازن المختار عند أهل السنة أن من لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان من الصلاة والزكاة والحج، ونحو ذلك من أركان الدين، لا يسمى مؤمنا لقوله صلى الله عليه وسلم

" لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن "

، فنفى عنه اسم الإيمان أو كمال الإيمان.. انتهى. بخلاف لفظ الإسلام فإنه لا يفنى بانتفاء ركن من أركانه وبانتفاء ما عدا الشهادتين، فترى أصحابنا بعدما ينفون اسم مسلم عن صاحب الكبيرة، قد يسمونه مسلما بمعنى موحد، لأن نفيه يتبادر منه إثبات الكفر مبادرة ظاهرة بخلاف نفى الإيمان، فحيث ورد نفيه يتبادر منه إثبات الكفر مبادرة ظاهرة بخلاف نفى الإيمان، فحيث ورد ما يدل على اتحادهما كقوله تعالى

فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين...

الآية، فباعتبار تلازم المفهومين أو ترادفهما، ولذلك قال كثير إن المؤمن والمسلم كالفقير والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، وإن قرن بينهما مغايرا كما قال أحمد بن حنبل خبرا مرفوعا الإسلام علانية والإيمان فى القلب، وإذا وقع تفسير الإيمان بالأعمال، فباعتبار إطلاقه على متعلقاته لما مر من أنه تصديق بأمور مخصوصة، ومنه

وما كان الله ليضيع إيمانكم

اتفقوا على أن المراد به هنا الصلاة. ومنه حديث وفد عبد القيس

" هل تدرون ما الإيمان؟ قالوا لا، قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمسا من المغنم "

ففسر فيه الإيمان بما فسر به الإسلام فى حديث جبريل السابق، فاستفدنا منهما إطلاق الإيمان والإسلام على الأعمال شرعا، باعتبار أنهما متعلق مفهوميهما المتلازمين، وهما التصديق والانقياد، وقد صح حديث

" الإيمان بضع وسبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان "

، رواه أصحابنا بإسقاط بضع، ورواه البخارى ومسلم، وقد يطلق الإسلام على التصديق والعمل معا كقوله تعالى

إن الدين عند الله الإسلام

وحديث مسند أحمد

" أى الإسلام أفضل؟ قال الإيمان "

وخبر ابن ماجه

" ما الإسلام؟ قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أنى رسول الله، وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها حلوها ومرها "

وقد أطلق الإيمان كذلك كما روى الإيمان اعتقاد بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وذلك توسع وتجوز، واتفقوا على أنه يستفاد من الأسماء الشرعية زيادة على أصل الوضع، فالإيمان لغة مطلق التصديق، وشرعا تصديق بأمور مخصوصة، فسمى الإيمان والإسلام لغة غيره شرعا، والراجع إثبات الحقائق الشرعية، فتلك الزيادة ضارب مع الأصل موضوعا شرعيا، ومن نفى ذلك قال هى لغات على وضعها اللغوى، وإنما الشرع تصرف فى شروطها وأحكامها، ثم إنه لا يخفى أن الحق معنا فى قولنا إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نفاق وهو كفر نعمة موحد إيمانه ناقص، لا كما زعمت المرجئة أنه مؤمن كامل الإيمان، ولا كما زعمت المعتزلة أنه لا كافر ولا مؤمن، فإن أرادوا لا مؤمن إيمانا كاملا ولا كافر كفر شرك، فقد صدقوا وإن أرادوا نفى اسم الكفر عنه مطلقا كذبتهم آثار وأحاديث جمعتها فى بعض ما من الله به على من التأليف، وذكر الشيخ يوسف بن إبراهيم - رحمه الله - فى ترتيب مسند الربيع بن حبيب - رحمه الله - كثيرا منها، ولا كما قالت المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية إنه لا يسمى باسم كافر أصلا، ووافقنا محققوهم على أنه يسمى به على معنى كفر النعمة، ولا كما زعمت الصفرية من أنه مشرك، ولا كما زعم بعض الصفرية أنه مشرك بالمعصية مطلقا، ولو لم تكن كبيرة.

واعلم أن الوحدانية وسائر صفاته تعالى الذاتية قديمة، والإيمان مخلوق قطعا، لأنه قول واعتقاد أو اعتقاد أو كلاهما وعمل، وإنما القديم وبعض متعلقاته وهو الصفات الذاتية وهى مراد من قال غير مخلوق، فالخلاف لفظى نسب الأول لجمع من الحنفية وأبى حنيفة، والثانى الآخرين منهم وأحمد وجماعة من المحدثين وأبى الحسن الأشعرى، والله أعلم. ومنع أبو حنيفة وأصحابه أنا مؤمن إن شاء الله، وإنما يقال أنا مؤمن حقا، وأجازه آخرون. قال السبكى هو وأكثر السلف من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم الشافعية والمالكية والحنابلة، ومن المتكلمين الأشعرية وسفيان الثورى، وذكر النووى فى شرح مسلم عن أكثر المتكلمين من الشافعية أنه لا يقال أنا مؤمن مقتصرا عليه، بل يضم إليه إن شاء الله، وعن الأوزاعى وغيره التخيير وهو حسن صحيح إذ من أطلقه نظر إلى أنه جازم فى الحال، ومن قال إن شاء الله قال إما للتبرك أو للجمل بالخاتمة، فإن من شك فى إيمانه كافر، وقد صرح بإن شاء الله فما هو قطعى، كقوله تعالى

لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله

تعليما وتأديبا للعباد فى صرف المشيئة إلى الله تعالى، ووجه بعضهم تقييده بإن شاء الله بأنه يوهم عدم الجزم بالإيمان، وعدم الجزم به كفر وبأنه قد تعتاد نفسه التردد فتميل إلى الشك، ويجاب بأنه لا إيهام مع القرائن ولا ميل إلى الشك، مع اعتقاده التبرك عند النطق بإن شاء الله ، وإن غفل عن اعتقاد التبرك ولم يعتقد شكا فهو باق على إيمانه، فإن الإيمان باق فى حال النوم والسكر والإغماء والجنون، والغفلة والنوم والموت، كبقاء نحو النكاح وسائر العقود فى هذه الأحوال. قال بعض أصحابنا الدين والإسلام والإيمان مختلفة المفهوم متحدة المعانى، فلا يوجد بالتحقيق أحدها دون الآخر، ويدل عليه حديث جبريل السابق، وفى الوضع والسؤالات أنها مترادفة، وقيل متباينة، وقيل متلازمة مرتبطة، والتحقيق أنها تستعمل تارة مترادفة وتارة متباينة، ويطلق كل على ما يطلق عليه الآخر، فإذا أطلق الدين على الأحكام الشرعية، مثل أن يحكم على كذا بالحل وعلى كذا بالتحريم، والإيمان على التصديق، والإسلام على الانقياد والامتثال، فقد تباين اللفظ والمعنى والمحل، واستعمل الإسلام عاما والإيمان خاصا فى قوله تعالى

فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين

فمعنى قوله من المؤمنين من المصدقين حقيقة التصديق والعمل لازمه ومرتب عليه لاجزاءه، ومعنى قوله من المسلمين من المصدقين العاملين، ففيهما تداخل أدخل الإيمان تحت الإسلام، وتحتمل الآية الترادف ومن ذلك قوله تعالى

إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين

يحتمل هذا أيضا التداخل المذكور، والترادف، ومن التداخل ما روى فى حديث سعيد

" أنه صلى الله عليه وسلم أنه أعطى رجلا ولم يعط الآخر، فقال له سعيد يا رسول الله تركت فلانا فلم تعطه وهو مؤمن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أومسلم؟ فقال سعيد هو مؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم أومسلم؟ "

يريد صلى الله عليه وسلم هل هو بعد كونه مؤمنا مسلم أم مؤمن غير مسلم؟ فأراد الإسلام العام للإيمان لمعنى التصديق والعمل، وأراد بالإيمان التصديق. وسعيد لم يفهم ذلك منه، ومن التداخل أيضا حديث

" " أى الأعمال أفضل؟ فقال الإسلام " أى أعمال القلب والجوارح فقيل " أى الإسلام أفضل؟ فقال الإيمان " "

أى التصديق، فجعل الإيمان جزءا من الإسلام داخل تحت عمومه، ومن التداخل بنى الإسلام على خمس على أن يوحد الله تعالى، الحديث، فالتوحيد اعتقاد الوحدة واعتقادها تصديق، فهو الإيمان ، وأما اللسان فترجمان، ففى الحديث جعل الإيمان داخلا تحت الإسلام خاصا تحت عمومه، واستعمل الإيمان مرادفا للإسلام العام المذكور أيضا، حين سئل عن الإيمان مرة أخرى. فأجاب بهذه الخمس، فإذا اعتبرت هذا الحديث الأخير مع الإسلام المستعمل خاصا فى العمل، وجدت الإيمان عاما والإسلام خاصا، ومن تخالفهما قوله تعالى

قالت الأعراب آمنا

.. الآية قيل أراد بالإيمان التصديق بالقلب، وأراد بالإسلام الاستسلام باللسان والجوارح، إنه ثم لا شك عندى أن الإيمان محله القلب، لأنه التصديق، ولقوله صلى الله عليه وسلم

" الإيمان ها هنا "

وأشار إلى صدره، وقوله تعالى

كتب فى قلوبهم الإيمان

ونحو ذلك مما مر غير أنه يختلف، هل يقبل منه ذلك ويثاب عليه أو لا؟ إلا إن أقر، وهل الإقرار شرط أو شطر فى الشرع، أو لا شرط ولا شطر؟.. وهل هو حقيقة عرفية شرعية فى الاعتقاد فقط، أو فيه مع الإقرار، أو فيهما مع العمل، أو هو موضوع بالاشتراك لكل من ذلك؟ والله أعلم. ومذهبنا أن الإيمان يزيد وينقص فى ذاته، ويزيد وينقص بزيادة ما يؤمن به، وعدم زيادته ونسيان ما أمن به، فكلما كثر إمعان النظر فى الأدلة والبراهين قوى الإيمان، وكلما قل ذلك ضعف، فإذا قوى كان كمن يشاهد محسوسا وصدق به، وإذا ضعف كان كمن يصدق بشىء غائب، وكلما عثر على شىء مما يؤمن به فآمن به قد زاد إيمان له بعد إيمان، وإذا نسيه فقد نقص عنه هذا الإيمان الذى زاد، ويدل لذلك قول ربنا تبارك وتعالى

فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا

وقول أبينا إبراهيم الخليل عليه السلام

ولكن ليطمئن قلبى

فقد تعرض شبهة لإنسان فيترك الإيمان ببعض ما آمن به مما يجب الإيمان به فيكفر. ووافقنا على ذلك بعض محققى قومنا، وقال بعض قومنا إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعى يزيد وينقص، وأنكر أكثر متكلميهم زيادته ونقصانه، وقالوا متى قيل الزيادة والنقص، كان شكا وكفرا، وكذا قال أبو حنيفة وأتباعه، واختاره إمام الحرمين صاحب الورقات فى أصول الفقه وغيره من الأشاعرة، قال النووى عليه أكثر المتكلمين وأثبتها جمهور الأشاعرة، قال النووى وهو مذهب السلف والمحدثين، قال الفخر الرازى وغيره الخلاف مبنى على أن الطاعة إن أخذت فى مفهوم الإيمان فإنه يقبل الزيادة والنقص وإلا فلا، لأنه اسم للتصديق الجازم مع الإذعان، وهذا لا يتغير بضم طاعة ولا معصية، ورد بأن القائلين بهما مصرحون بأنه مجرد التصديق أو التصديق والإقرار، وحملهم على ذلك ظواهر الكتاب والسنة، نحو

فزادتهم إيمانا

ليزدادوا إيمانا

ولا مانع من قبول التصديق لهما، لأن اليقين الأخص الذى هو أخص من التصديق متفاوت القوة، ألا ترى إلى ما بين أجلى البديهيات ككون الواحد نصف الاثنين، وأخفى النظريات القطعية ككون العالم حادثا عالم السماوات والأرض، ولا خلاف فى أن تصديقنا ليس كتصديق أبى بكر، وتصديقه ليس كتصديق الأنباه، ومانع الزيادة والنقص نقول لا تمنعها إلا بالنسبة لذات التصديق دون آثاره الخارجة، وتفاوت اليقين السابقة ليس تفاوتا فى شدة وضعف، بل فى ظهور الكشاف أو تقدم أو تأخر، ويقول زيادته فى الأدلة هى زيادة إشراقه فى القلب، وثمراته كدوام حضوره بتوالى أشخاصه، ويقول الإيمان عرض لا يبقى زمانين، بل يتجدد حضوره وتواليها الاستمرار شهود موجبة مع شهود الجلال والكمال، وهذا يخص كماله بالإنبياء، ويشاركهم أكابر المؤمنين فى نوع منه، فثبت لهم إعداد من الإيمان لا تثبت لغيرهم، وقضية ذلك أن استمرار حضور الجزم زيادة قوة فى ذاته، وليس كذلك عند المانع، ومن أثبتهما وأراد هذا فالخلاف لفظى لاتفاق الفريقين على ثبوت التفاوت فى الإيمان بهذا الأمر المعين، فبقى الخلف هل هذا المعين داخل فى ماهية التصديق أو خارج عنها ولا عبرة به، لأنه ليس خلافا فى نفس التفاوت، قال النووى قال محققو أصحابنا المتكلمين يعنى الشافعية نفس التصديق لا يقبلهما، والإيمان الشرعى يقبلهما يزيادة ثمراته وهى الأعمال ونقصها، قال وفى هذا توفيق بين ظواهر لنصوص التى جاءت بالزيادة واللغة وهو حسن ولكن الأظهر - والله أعلم - أن نفس التصديق يزيد لكثرة النظر، ويظاهر الأدلة إذ لا يمكن إنكار إن إيمان المصدقين أقوى من إيمان نحو المؤلفة. والله أعلم. قال ابن أبى مليكة أدركت ثلاثين صحابيا كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم من أحد يقول إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل، رواه البخارى وقد قال الله عز وعلا لإبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام

أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى

فهو كمن علم ببستان فى غاية النضرة والخضرة، فنازعته نفسه فى مشاهدته، فإنها لا تسكن ولا تطمئن إلا إن شاهدته، فطلب بذلك سكون قلبه عن المنازعة إلى رؤية تلك الكيفية التى طلب رؤيتها، وأنه طلب العلم البديهى بعد العلم الاستدلالى. والله أعلم. والغيب فى الأصل مصدر بمعنى الغيبوية والخفاء، وأخرج عن ذلك واستعمل بمعنى اسم الفاعل، كأنه قيل يؤمنون بالشىء الغائب، وهو البعث ورضا الله سبحانه وتعالى وسخطه، والجنة والنار والملائكة، والقضاء والقدر ونحو ذلك. فالباء للتعدية متعلقة بيؤمنون، ويجوز أن يكون فى الآية وما أشبهها وصفا من أول الأمر أصله، غيب بفتح الغين وكسر الياء مشددة، حذفت الياء المتحركة وبقيت المدغمة، فهو قبل التخفيف يوزن فيعل بفتح الفاء وإسكان الياء وكسر العين، أو بوزن فعيل بفتح فكسر وإسكان، ووقع القلب المكانى كما قيل فى سيد وميت ولين وهين ونحو ذلك، والمراد بالغائب الذى يؤمنون به ما لا يدركه حس كما مر التمثيل به أنفا، ولا تقتضيه بدلالة العقل، سواء كان عليه دليل كالأمثلة المذكورة أو لم يكن، وهو المراد بقوله تعالى

وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو

ويجوز كون الغيب باقيا على المصدرية، والباء بمعنى مع تتعلق بمحذوف حال، أى يؤمنون ملتبسين بالغيب، أى بالغيبة والخفاء، أو بمعنى فى تتعلق بيؤمنون، والمعنى على هذين الوجهين أنهم يؤمنون حال غيبة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، كما يؤمنون حال حضورهم، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، ويجوز على الوجهين كون الغيبة عما يؤمن به، بفتح الميم، قال ابن مسعود رضى الله عنه والذى لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية، رواه الحاكم وصححه، ويجوز كون أراد بالغيب الخفاء كما ذكر، والباء بمعنى فى كما ذكر، لكن المعنى يؤمنون فى قلوبهم لا فى ألسنتهم فقط، وهو بمعنى الغائب الذى هو القلب، أى يؤمنون بالقلب لا باللسان فقط، لكن يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم، فالباء للآلة، ويبعد أن تجعل الهمزة للتعدية والباء للسببية، أى يؤمن نفسه من عذاب الله بسبب الغيب، إذ صدق به وتفسير الغيب على العموم السابق هو ما ظهر لى، وبه قال ابن عباس وقيل الغيب الله تعالى، وقيل القرآن، وقيل الآخرة، وقيل الوحى، وقيل القدر، ويحتمل أن يريد أصحاب هذه الأقوال التمثيل، والقول بالقرآن صادق بالعموم، لاشتماله على جميع ما يؤمن به. { ويقيمون الصلاة } يأتون بالصلوات الخمس قائمة معتدلة، راغبين فيها كالإنسان الحسن الصورة المنتصب المعتدل، بأن تكون بطهارة وخشوع وإتمام وفى وقتها لا قبل ولا بعد، ولا فى وقتها الضرورى، ولا يأتون بها معوجة كالإنسان المعوج المنتكس، بأن تكون بلا طهر، أو بلا خشوع، أو بنقر أو التفات، أو فى غير وقتها، أو بتهاون بها، سواء صليت فى وقتها أو فى وسطه أو فى الجزء الضرورى منه، فإنما الحقيق بالمدح والثواب من يأتى بها قائمة معتدلة كما وصفت، لأنه هو الذى أتى بحدودها الظاهرة والباطنة.

فهو المخلص، وإنما يقبل من الأعمال ما كان مخلصا ومن يرائى بها لم يصدق عليه أنه خاشع، فهو غير مخلص، وكذا من كدرها بنو تهاون أو التفات أو عدم الطهر، فيكون قد شبهت الصلاة المحافظ عليها بإنسان منتصب القامة معتدلا حسنا مرغوبا فيه، قال الله تعالى

ولقد كرمنا بنى آدم

لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم

ورمز إلى ذلك التشبيه بإثبات لازم الإنسان لها وهو الإقامة، فإن الله جل وعلا قد جعل الإنسان معتدلا منتصبا مطلقا، وإنما زدت فى الشبه كونه حسنا مرغوبا فيه لقرينة المقام أنها لا تشبه بإنسان خسيس، فتلك استعارة مكنية، ويجوز أن يشبه الإتيان بالصلاة على وجهها يجعل الشىء من إنسان أو غيره قائما، فاستعير لذلك الإتيان لفظ الإقامة بمعنى الإتيان، فاشتق منهم مقيم بمعنى يأتى بها على وجهها، فتلك استعارة تبعية، وإنما خصصت المشبه به بقيام، لأن الشىء ينتفع به غالبا إذا كان قائما، وبالقيام يكون الانتفاع العظيم، ويجوز أن يكون يقيمون الصلاة بمعنى يديمونها من قولك أقمت السوق، أى جعلتها قائمة، أى نافقة فإنها إذا كانت نافقة طال مدتها، وإذا كسدت انقطعت وزالت، ففى ذلك استعارة بالكناية إذ شبه الصلاة بالسوق تشبيها غير مصرح ورمز إليه بذكر لازم السوق وهو الإقامة بمعنى التصيير نافقة أو استعارة تبعية إذ شبه الإتيان بالصلاة على وجهها بإنفاق السوق المسمى بالإقامة، فسمى ذلك بلفظ الإقامة، واشتق منه يقيم بمعنى يأتى بها على وجهها، وتسمية إنفاق السوق إقامة مجاز وقد أجيز بنا مجاز على مجاز أو هى حقيقة عرفية، والجامع بين الصلاة والسوق الرغبة فى كل لإيصاله إلى فائدة، ويجوز أن يكون يقيمون بمعنى يتشمرون لها من غير فتور ولا توان ولا تهاون ولا تقصير فى أمر من أمورها، يقال قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد، وضده قعد عن الأمر وتقاعد شبه التهيؤ لأداء الصلاة بالقيام بأمر من الأمور الدنيوية التى يجتهد فيها لا بأمر من الأمور مطلقا، لأن الصلاة من الأمور المطلقة، فلو كان كذلك لم تحتج إلى التشبيه، ويجوز أن يقال شبه الإتيان بالصلاة على وجهها بإقامة جسم ثقيل بعد امتداده على الأرض، أو بالقيام به فى الأرض على استواء القامة، ويجوز أن يكون يقيمون الصلاة بمعنى يؤدونها، فسميت تأديتها باسم بعض تأديتها، وذلك البعض هو الوقوف فيها كما تسمى الصلاة بالركوع أو بالسجود الذى هو بعضها، وإن قلت اشترط غير واحد فى البعض الذى يسمى الكل باسمه أن تكون له مزية اختصاص فى مقام الكلام، قلت نعم ولا مانع من أن يكون لمتعدد من أبعاضه مزية تقصد مزية هذا فى الكلام، ومزية ذلك فى كلام آخر، فيقصد للقيام فى الصلاة مزية للتعب فى القيام، وكونه على صورة المتهىء للخدمة، فتسمى تأديتها باسم القيام، ويقصد فى كلام آخر مزية للركوع وللسجود لما فيهما من ظهور الخضوع، فتسمى تأديتها باسم أحدهما، وقيد فى كلام آخر مزية للقراءة، لأن القرآن كلام الله جل وعلا، ولأنه المقيد للحلال والحرام والواجب وغيره، والمشعر بوجوب الصلاة فتسمى باسم القرآن، والله أعلم.

ويقصد فى كلام مزية الدعاء لتضمنه ما يشتهى الإنسان، فتسمى باسم القنوت والصلاة اسم للفظ التصلية الذى هو مصدر غير مستعمل، ويطلق لفظ الصلاة أيضا على المعنى الذى يحصل من المعنى المصدرى، ووزن صلاة فعلة بفتح الفاء والعين واللام، وأصل صلوة بفتح الصاد واللام والواو، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ولكون أصلها واوا كتبت واوا كما كتبت ألف الزكاة واوا لكون أصلها واوا، غير أنى أكتبه بالألف على أصل قاعدة الخط لأجل البيان، وهذا فى غير المصحف، وأما فيه فلا يجوز مخالفة مصاحف عثمان، وقد أذكرنى هذا المحل شأن فتح ما قبل تاء التأنيث غالبا تحقيقا أو تقديرا، حتى إن عامة العرب والأعراب وعامة من يتكلم بكلامهم بعد فساد لسانهم يكتفون بفتح ما قبل هاء التأنيث عنها، ويسقطونها، ويقولون فى النعجة نعج، وفى البقرة بقر، وفى النخلة نخل، بإسقاط تاء التأنيث وإثبات ما فتح قبلها أو بإبدالها هاء للوقف، أو فى الوصل الجارى مجراه بصوت ضعيف، ثم لما زاد لسانهم فسادا اضمحلت كلها، ويقولون فى فاطمة فاطم، وفى عائشة عيش بعين وياء وشين، وفى حنة حن بإسقاط التاء فى ذلك كله وإثبات فتح ما قبلها، وذلك فى لغتنا البربرية أيضا، فإذا كتب ذلك أحدا وكتب نحو فافه أو لاله، فليكتبه بهاء منقوطة نقطتين أو غير منقوطة، لأن ذلك الأصل. وقد أبقوا الفتحة دليلا عليها فلا إيهام بإثبات الهاء فى الخط، ومن لم يعرف أن الفتحة دليل عليها فكذلك يكتب له الكاتب بإثبات الهاء، لأن ذلك منه جهل بالمعنى عدم علمه بالهاء ودليلها، وقد جرى الكتب بها ولم يقع إيهام فى ذلك، ولا توهم من جاهل ولا من غيره، فذلك علة من تقدمنا فى كتب ذلك بالهاء، والله أعلم. وأيضا إذا لم يكتب نحو نعجة وبقرة بالتاء توهم القارئ والسامع أن المراد ثلاث فصاعدا، فيقع فى أكل أموال الناس بالباطل، وأيضا إذا كتبت قولهم عيش ونعج عائشة ونعجة كان حكاية بالمعنى والحكاية بالمعنى جائزة واردة فى القرآن والسنة.

قال ابن هشام والشيخ خالد فى الجملة يجوز حكايتها على المعنى، فتقول فى حكاية زيد قائم قائم زيد، وإن كانت الجملة ملحونة حكيت بلا لحن على الأصح صوتا عن ارتكاب اللحن، ولئلا يتوهم أن اللحن نشأ من الحاكى، فعلى هذا إذا قال شخص جاء زيد بالجر وأردت حكاية كلامه، قلت قال فلان جاء زيد بالرفع ولكنه خفض زيدا لتنبيه بالاستدراك على لحنه وإلا لتوهم أنه نطق به على الصواب، وعلى القول الثانى نقول قال فلان جاء زيد وتجر زيدا مراعاة للفظه. انتهى. قال بعض من حشا عليهما التصحيف فى ذلك كاللحن وهو تغيير الحروف، وإن زعم زاعم مكابر لعقله وجاحد للظاهر أن ذلك لفظ عجمى يحكى، كما يقال قلنا إن العجمى يجوز تعريبه كما نص عليه فى التصريح وغيره فبطل ادعاء بعض أن أصل أحد لا يجوز، لكن ذلك البعض من عامة الناس، مع أن ذلك ليس جله عجميا فبطل ادعاء ذلك العامى خطأ السلف الذين يكتبونه بالتاء ويصلحونه، وتعريب العجمى كثير فى القرآن والسنة وكلام العرب، بل نقول أيضا يدل على أنه ليس ذلك بربريا النطبق به بلا تاء تأنيث فى أوله وآخره، فإن لغة البربر يجتمع فيها فيما كان مؤنثا تاء تأنيث أوله وآخره، الأولى مفتوحة والأخيرة ساكنة، وذلك فى أسماء الأجناس، ولغة العرب لا تجتمع فيها علامتا تأنيث، فتبين أن نحو قولك نعج بقر عربى ملحون فجاز تعريبه. وسميت الصلاة الشرعية صلاة لاشتمالها على الصلوات اللغوية وهى الدعاء، كقول المصلى

اهدنا الصراط المستقيم

وقوله

ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

أو لتحريك الصلاة فيها وهو عرق فى أعلى الفخذ وفى المقعدة ، وفى الحيوان صلوان بفتح اللام تثنية صلاة سميت تلك العبادة صلاة لأن المصلى يحركهما فيها بالركوع والسجود، ولأن أول ما يعلم به القائم المصلى من القائم المطلق تحريك الصلوين بالركوع، أعنى أنه يتحرك بهما للركوع فيظهر ركوعه، ولانه أول ولو كان لا يريان والألف على الوجهين منقلبة واوا، ولذلك كتبت واو على لفظ المفخم، أعنى الناطق بالواو، فإن لفظ الواو ساكنة أو متحركة سكونا ميتا أو حيا، فأى حركة أغلظ من لفظ الألف، فإن نطقك بالواو أغلظ منه بالألف، هكذا أفهم كلام القاضى، وقرره، وقال الشيخ زكرياء مراده إمالة الألف إلى مخرج الواو فهو ضد الترقيق بمعنى ترك هذه الإمالة لا ضد الإمالة المطلقة وهو تركها، ولا ضد الترقيق بمعنى إخراج اللام من أسفل اللسان، فالتفخيم على ثلاثة أوجه، والجمهور على أن الصلاة الشرعية مأخوذة من الصلاة بمعنى الدعاء، وهو الصحيح، واختار الزمخشرى أنها من الصلاة وإن قلت اشتهر لفظ صلى فى الصلاة الشرعية لا فى الدعاء أو تحريك الصلوين فكيف ينقل من الدعاء أو تحريكهما؟ قلت لا مانع من كون المنقول إليه فوق المنقول منه فى الشهرة ولا سيما مع تخالفهما شرعا ولغة، وإن قلت معنى تحريك الصلوين أشهر من الدعاء المعبر عنه بلفظ الصلاة فكيف تنقل الصلاة الشرعية من الدعاء ما هو أشهر؟ قلت لا مانع من النقل ما هو غير أشهر وذلك لقصد مناسبة لها مزية، مع أنا لا نسلم أن الصلاة بمعنى تحريكهما أشهر من الصلاة بمعنى الدعاء، بل الأمر بالعكس، وإن قلت كيف يسمى الداعى مصليا مع أنه لا يحرك صلويه، قلت لا نسلم أن الصلاة بمعنى الدعاء منقولة من الصلاة بمعنى تحريك الصلوين، بل وضعت لفظة الصلاة للدعاء، كما وضعت لتحريكهما، ولئن سلمنا لنقولن سمى الداعى مصليا تشبيها له فى فى تخشعه بالراكع الساجد المحرك صلويه.

ومن أراد المحافظة على الصلاة فليكتب إحدى وستين آية يذكر فيها الصلاة أول ساعة الخميس والقمر بثلث المشترى، وإن كتبه فى شرفه أو بيته خاليا من النحوس فأجود بزعفران وماء ورد ومسك، ويمحوها بماء المطر ويصبه فى زجاجة، وكلما سمع الأذان نام وتوضأ وشرب منها يسرا وقرأ الآيات فى الطريق سرا فى نفسه حتى ينقضى الماء. ولا يكتب قوله تعالى

وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى

وقوله جل وعلا

فويل للمصلين

ونحو ذلك. { ومما رزقناهم ينفقون } ينفقون مما رزقهم الله النفقة الواجبة كالزكاة وإقراء الضيف الواجب، وتنجية المضطر ونفقة من لزمته نفقته، وأداء ما وجب من الكفارات ونحو ذلك، ونفقة التطوع فى وجوه الأجر، ويحتمل أن يريد النفقة الواجبة مطلقا ويدل له، إنما ذكر قبل ذلك وما ذكر بعده فى الآية كله واجب، ويحتمل أن يريد أداء الزكاة اقتصارا فى الذكر على أفضل أنواع الإنفاق، ويدل له اقترانه بالصلاة، وقد كان معلوما أن الصلاة والزكاة أختان، إلا أن يقال المراد بالصلاة الواجبة وغير الواجبة، قيل ويحتمل أن يراد الإنفاق من جميع ما رزقهم الله من أنواع الأموال، ومن العلم وقوة البدن والجاه وفصاحة اللسان، ينفعون بذلك عيال الله سبحانه وتعالى على الوجه الجائز، وقيل المعنى ومما خصصناهم به أنوار معرفة الله جل وعلا يفيضون، وهذا القول الذى قبله أظنهما للصوفية أو لمن يتوصف، وليس تفسير الصوفية عندى مقبولا إذا خالف الظاهر، وكان تكلفا أو خالف أسلوب العربية، ولا أعذر من يفسر به ولا أقبل شهادته وأتقرب إلى الله تعالى ببغضه والبراءة منه، فإنه لو كان فى نفسه حقا لكن جعله معنى للآية أو للحديث خطأ، لأنه خروج عن الظاهر وأساليب العرب الذين يتخاطبون بها وتكلف من التكلف الذى يبغضه الله، فإن القولين وإن ناسبهما قوله صلى الله عليه وسلم

" إن علما لا يقال به ككنز لا ينفق منه "

الذى رواه ابن أبى شيبة وقوله صلى الله عليه وسلم

" مثل الذى يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذى يكنز الكنز ثم لا ينفق منه "

الذى رواه الطبرانى فى الأوسط، لكن لا يصحان تفسيرا للآية، إذ لا يتبادر ذلك ولا يجرى على أسلوب العرب، والقول الأخير أبعد، وأنا أعد اعتقادى ذلك نورا ومعرفة أفاضها الله الرحمن الرحيم على، وقد أقبل القول الذى قبله لأنه قريب من أسلوب العرب، وقليل التكلف، والصحيح أن المراد النفقة الواجبة وغير الواجبة من المال، وقد أذكرنى هذا المحل بواقعة حال، هى خفاء معنى قوله صلى الله عليه وسلم

" ملعون من سئل بالله بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله ثم لم يعط ما لم يسأل هجرا "

رواه الطبرانى عن ابن موسى فى الكبير وهو مذكور فى صحيحى الذى من الله على الرحمن الرحيم بتأليفه، الذى ألفته بحول الله وقوته، لتتم به مع مسند الربيع بن حبيب - رحمه الله - الفائدة، وكثرة سؤال الطلبة عن معناه، وقد ألفت فى تفسيره تأليف تطول وستدلال. وأقول هنا بطريق الاختصار وترك الاستدلال المراد فيه بالمسائل والمسئول نوع من السائلين والمسئولين مخصوص. أما السائل فهو من يسأل بوجه الله ليعطيه من لا يسمح بالإعطاء فيعطيه كارها مقهورا فيكون السائل بمنزلة الغاصب، ومن جملة من يأكل أموال الناس بالباطل، أو من يسأل على صفة يعطى بها، وليست فيه كادعاء فقر أو نسب أو غرامة أو كتابة أو إرادة نكاح أو ادعاء عيال أو نحو ذلك مما ليس فيه، أو من يسأل تكاثرا عن ظهر غنى على القول بكفره، أو من يسأل معصية من العاصى أن يفعلها المسئول فى نفسه أو فى السائل أو فى غيرهما، أو فى ماله أو مال السائل أو غيرهما، كتعد فى زكاة كإعطائها غير أهلها أو فى عرض أحدهم، أو معنى لعنه شتمه بأن يقال ملح ملحف حريص يسألنا بالله فنعطيه أجبنا أو كرهنا، أو من سأل عن صفة من صفات الله فلم يجد جوابا بحق فإنه كافر كفر شرك على مشهور المذهب، والذى عندى أنه لا يكفر ولا يكفر من خطرت فى قلبه أو سمعها ولم نعلم حكمها، بل يعتقد أنه تعالى ليس كمثله شىء والباء بمعنى عن أو فى، أى فى شأن صفة من صفات الله ووجه الله أهو الله، وأما المسئول فهو من سأله مضطر محتاج فلم يعطه. وقد وجد أن يعطيه وجل الإعطاء أو سأله الإمام العدل أو نائبه الزكاة فمنع أو سئل الحق الواجب عليه فمنع كنفقة من تجب نفقته، وإقراء الضيف الواجب، أو سئل عن صفة من صفات الله فلم يعط الجواب لجهله، أو لكتم العلم فإنه يكفر عن المشهور كما مر كفر شرك، إذا جهل ما سئل عنه منها أو خطر فى قلبه أو سمعه، ولم يعلم حكمه ولا يكفر عندى.

والباء فى هذا الوجه بمعنى عن أو فى أى فى شأن صفة من صفات الله ووجه الله هو الله، أو معنى لعن السائل إبعاده عن ساحة الزهاد وإدخاله فى نوع الحريصين، إذا بذل وجه الله سبحانه فى شىء، ومعنى لعن المسئول كذلك إذا اختار غير الله على الله وإن قلت نجدهما ملعونين بأحد المعانى السابقة، سواء ذكر السائل اسم الله أو لم يذكر، قلت نعم لكن خص ذكر الله - جل وعلا - لأنه أشد أيقاعا فى اللعنة على أوجهها فى المعانى السابقة، وذلك كله ما لم يسأل هجرا لبناء يسأل للفاعل الذى هو السائل، أو المفعول الذى هو المسئول، فنفرض كل مسألة لا يجوز للسائل أن يسألها إنها هى الهجر، فلا يكون المسئول فيها ملعونا إذا رده، فمن الهجر السؤال عن ظهر غنى، والسؤال بصفة غير ثابتة للسائل، وسؤال المعصية ونحو ذلك فافهم، ومن الهجر أن يسأله ليلقيه فى مشقة العطاء أو الكفر تعنيتا، فإذا عرف منه هذا لم يجب عليه الإعطاء ولو اضطر السائل إذا عرف منه ذلك القصد، ومن أراد الإطالة فى ذلك فعليه بتأليفى الذى أفردته فيه. والله أعلم. وإن قلت الرزق عندنا معشر الإباضية الوهبية وعند غيرنا ما مكن الله جل وعلا الحيوان من الانتفاع به، سواء كان حلالا أو حراما، أو شبهة، وسواء كان مأكولا أو مشروبا أو غيرهما، وسواء كان الحيوان إنسانا أو غيره، فهل تقول إن الله - جلا وعلا - مدحهم على الإنفاق ولو من حرام؟ قلت لا نقول مدحهم على الإنفاق من حرام ، بل إنما ينفقون من حلال، وبه مدحهم، ويدل على هذا وصفه إياهم بالاتقاء، فهم ينفقون الحرام والشبهات، فكيف يتناولهما حتى ينفقوهما؟ فوصفه إياهم بالإيمان بما نزل إلى سيدنا محمد وغيره صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء، وقد حرم عليهم فى ذلك ما هو حرام من مال أو غيره، فكيف يتملكون الحرام وينفقونه، وقوله سبحانه وتعالى

ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون

ونحو ذلك من الأدلة النقلية أو العقلية، وخالفتنا المعتزلة فى ذلك فقالوا إن الحرام لا يسمى رزقا، قلت يبطل قولهم بأنه لا شك أن من غصب شيئا فأكله أما أكل رزقه وهو الصواب وإنما يعاقب على كسبه بالغصب، وما أكل رزق غيره فيلزمه أن يكون قد غلب قضاء الله، إذ قضاه رزقا لغيره فأكله هو، فإن قالوا بهذا كفروا، وإن قالوا قضاه الله رزقا لغيره ثم صيره رزقا لغيره فقط شبهوه بخلقه وقالوا إنه تبدو له البدوات فيكفروا، والحق أن الله جل وعلا قضاه رزقا لأكله وإن كان مالا انتفع به مالكه وغاصبه فقد قضاه جل وعلا رزقا لكل منهما فى مدة مخصوصة، ويبطل قولهم أيضا إنه قد يتقوت الإنسان طول عمره بحرام أو فى بعض عمره فيلزمهم أن يكون فى ذلك قد عاش بلا رزق من الله وهو خلاف قوله تعالى

وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها

ويبطله أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو ابن قرة

" لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله "

رواه ابن ماجه وغيره، من حديث صفوان بن أمية هكذا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

" فجاءه عمرو بن قرة فقال يا رسول الله إن الله قد كتب على الشقوة فلا أرانى أرزق إلا من دفر بكفى، فأذن لى فى الغنى من فاحشة. فقال " لا إذن لك ولا كرامة، كذبت أى عدو الله لقد رزقك الله حلالا طيبا... إلخ "

وحجة المعتزلة أن الله سبحانه يستحيل أن يمكن من الحرام ، إذ منع الناس من الانتفاع به، وأمر بالزجر عنه، وأسند الرزق هنا إلى نفسه إيذانا بأنهم منفقون الحلال الخالص، لأن إنفاق الحرام لا يوجب المدح. وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم لقوله

قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا

ويرد عليهم بما ذكرنا آنفا، وأن الله سبحانه وتعالى لم يمكنهم من الحرام رضا به، ولكن خلق الحرام وسبق القضاء بأكله وتناوله، ويؤخذ على كسبهم وتناولهم فى الأكل وغيره. ونقول إسناد الرزق إلى نفسه للتعظيم والتحريض على الإنفاق، والمراد تعظيم الرزق، والتحريض على الإنفاق من الحلال. واختصاص الرزق فى الآية بالحلال لقرينة أنه لا يمدح الإنفاق من الحرام. وليس إسناد الأشياء التى لا تجوز إلى الله تعالى بممنوع ولا بقبيح، إذا أسندت إليه على جهة أنه خالق لها، فإنه هو الخالق لها لحكمة. وإنما القبيح تناول المكلف لها. والله أعلم. وقد قدم قوله { وما رزقناهم } على قوله { ينفقون } مع أنه متعلق به للاهتمام، أعنى على طريق العرب فى الاهتمام. ولست أريد أن الله - جل وعلا - يوصف بالاهتمام. وأيضا قدمه لأن أواخر الآى نون قبلها مدة فلو أخره لكان هذه ميما، والميم لو قربت من النون قد تغنى عنها، لكن لا مدة قبلها. ومن للتبعيض ونكتتها الكف بسط اليد بالإنفاق كل البسط. وذلك إنما ينهى عنه الإنسان إذا أدى به إلى الانقطاع كبقاء بلا ثوب يصلى به ويستر عورته أو إلى طمع فى الناس أو سؤالهم أو تضرر عظيم بجوع أو عطش أو إلى الإعراض عن الورع عند حضور الطعام مثلا، لشدة الحاجة إليه، أو إلى تضييع من لزمته نفقته، أو إلى معصية ما، أو فى معصية أو بإهمال نية.

وقد تصدق أبو بكر وغيره من الصحابة بما عنده كله أجمع، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرزق فى اللغة الحظ، كقوله تعالى

وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون

والإنفاق الصرف أو الإخفاء بالإذهاب، ألا ترى نافقاء اليربوع؟ والنفق الذى هو السرب فى الأرض؟ ونفاق السوق وهو ذهاب ما فيها بشرائه؟ رغبة فيه بل غالب ما فيه دون وفاء دال على الذهاب، والخروج كالنفث فانه إخراد ريق قليل أو ريح قليلة، وكالنفل فإنه التبرع بما عندك وكالنفار والنفاد، فإنه الوصول من جانب لآخر والنفود وهو انقضاء الشىء ضد البقاء

ما عندكم ينفد وما عند الله باق

وكالنفف فانه السرب يذهب فيه الشىء ويخفى، وكالنفخ فإنه إخراج صوت وريح من فم أو أنف، وكالأنف من الشىء وهو التكبر عن الشىء والخروج عنه، وكالنفس فإنه خروج ريح من أنف. والنفس التوسع وهو خروج عن الضيق وكالنفظ والنقط وغير ذلك بل لو قيل كل لفظ فيه نون وفاء كذلك لصح، لكن بعض بظهور وبعض بتأويل.

[2.4]

{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك } يا محمد من القرآن والسنة والإيمان بما أنزل منهما يتضمن الإيمان بما أنزل منهما. أو المراد بما نزل إليك ما أنزله وما سينزل تغليبا لما نزل على ما ينزل تسمية للكل باسم البعض، أو تنزيلا لما ينزل منزلة ما نزل على الاستعارة والتشبيه، شبه ما لم يتحقق نزوله بما تحقق نزوله، وفى الوجهين جمع بين الحقيقة والمجاز. والتحقيق ما ذكرته قبلهما فافهمه، فلعلى لم أسبق به. والجمع بين الحقيقة والمجاز ولو أجازته جماعة منهم الشافعى، لكن خلاف الأصل فلا يتركب مع وجه صحيح لا تكلف فيه. { وما أنزل من قبلك } من التوراة والإنجيل وغيرهما. وهم أهل الكتاب الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار. وهذا فى مؤمنى أهل الكتاب. وقوله للمتقين فى مؤمنى العرب، أو فى مؤمنيهم ومؤمنى غير أهل الكتاب. وإن قلت فلم خص أهل الكتاب بذكر إيمانهم بما أنزل إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله؟.. قلت لتقدم عهدهم بالإيمان بما أنزل من قبله متضمنا الإيمان بما أنزل إليه، ولانتساب التوراة والإنجيل إليهم بخلاف غيرهم، فمن آمن بالقرآن فإن كتابهم القرآن فلم يذكر فى شأنهم غيره، مع أن بإيمانهم به إيمان بغيره متضمن له، ولأنه قد وصفهم بالاتقاء. ومن لم يؤمن بكتاب من كتب الله أو بحرف فليس بمتق. ويجوز أن يكون المراد بقوله للمتقين مؤمنو العرب، ومؤمنو أهل الكتاب، ومؤمنو غيرهم. والمراد بقوله { والذين يؤمنون بما أونزل إليك وما أنزل من قبلك } مؤمنو أهل الكتاب، خصصهم بالذكر بعد دخولهم فى عموم المتقين لمزيتهم المشار إليها بنحو قوله تبارك وتعالى

أولئك يؤتون أجرهم مرتين

فالعطف فى هذا الوجه عطف خاص على عام. كعطف الصلاة الوسطى على الصلوات. وجبريل على الملائكة، والنحل والرمان على الفاكهة، ويجوز أن يكون المراد بالمتقين كل متق من العرب، أو من أهل الكتاب، أو من غيرهم. والمراد بالذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك كل متق كذلك قالوا وعلى هذا الوجه عاطفة للصفة وهى لفظ الذين الثانية على الصفة الأخرى وهى لفظ الذين الأولى مثل قولك جاء زيد العالم الكريم، تريد جاء زيد العالم والكريم. وإن العلم والكرم كليهما صفتان لزيد، فذلك الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله. كل ذلك صفات للمتقين. ومن عطف الصفات لموصوف واحد كذلك قوله

إلى الملك القرم ابن الهمام وليث الكتبية فى المزدحم

فإن المراد بابن الهمام وليث الكتيبة هو المراد بالملك القرم، فقد وصف إنسانا واحدا بأنه قرم أى كفحل مكرم لا يحمل عليه وبأنه ابن الهمام أى ابن الملك، سمى الملك هماما لأنه يهتم بالمعالى، أو يفعل ما اهتم به، وبأنه أسد الجيش فى موضع الازدحام للقتال.

وقوله سلمة بن زيابة

يا لهف زيابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب

أى للحارث الذى يغير صبحا فيغنم فيرجع، وزيابة اسم أبيه وقيل اسم أمه، واسم أبيه ذهل حسر أباه وأمه من الحارث ابن همام الشيبانى مخافة أن يغير عليه فيغنم فيرجع وقد قتله أو أسره أو تهكم به أن يطبق الإغارة عليه وغنمه وقتله وأسره. ويجوز أن يراد بالمتقين مؤمنو العرب، وكذا بقوله { الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } فيكون مدحا لهم، وذما لمن لم يؤمن بالقرآن ولا بغيره، ولأهل الكتاب الذين آمنوا بغير القرآن وكفروا بالقرآن، وقالوا وأيضا على الوجه عاطفة لصفة على أخرى لموصوف واحد. ويجوز أن يراد بذلك كله أهل الكتاب، فيكون العطف كذلك. والله أعلم. والإنزال يختص بالذوات، وهو نقلها من أعلى إلى أسفل، وإنما يستعمل فى غير الذوات بواسطة الذوات بالملك ذات أنزل بالكلام وكذا النزول والتنزيل فنزول القرآن وغيره بنزول الملك بهما. { وبالآخرة } أى الدار المتأخرة عن هذه الدار المتقدمة الدنيا، والمتأخرة الجنة والنار. ويدل على بقاء وصفية الأخرى وكونه نعتا لمحذوف، وقوله تعالى

تلك الدار الآخرة

إلا أنها فى هذه الآية الجنة، وفى آي البقرة الجنة والنار، ويجوز أن يراد بها أيضا هنا الجنة، أى يوقنون أنها للمتقين المؤمنين بما ذكر الفاعلين لما ذكر. ويفهم أنها ليست لغيرهم وتفيد الآيات الأخرى والأحاديث أن لغيرهم النار. ويجوز كونها خارجة عن الوصفية متقلبة عليه الاسمية. وقرأ غير نافع بالآخرة بإسكان اللام وإثبات الهمزة مفتوحة ممدودة بالألف. وأما نافع فالذى نتلوا عن ورش عنه النقل فى جميع القرآن لحركة الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها ومد ما قبلها بما مدت به إن كانت لها مدة. وقدم الآخرة ليكون آخر الآية نونا. وللطريقة العربية فى الاهتمام، وفى ذلك تلويح إلى ذم من لم يوقن بالآخرة من أهل الكتاب وغيرهم حين لم يوقنوا بشىء يعظم شأنه مهول، يهتم به من استعمل نظره. { هم يوقنون } إنما ذكر قوله هم، وأخبر عنه بقوله يوقنون، للتلويح الذى ذكرته آنفا بأن اعتقاد غير من ذكر الله - عز وجل - فى أمر الآخرة غير مطابق لما هو عند الله فيه ولا صادر عن إيقان، كأنه قيل هم لا غيرهم يوقنون. أما غيرهم فنوعان منكر للآخرة أصلا، ومثبت لها على صفة ليست عليها، كوصف النار بأنها لا تمسهم إلا أياما معدودة، ووصف اليهود أن أهلها النصارى وكل من خالفهم. ووصف النصارى أن أهلها اليهود، ووصف اليهود أنها لا يدخلها إلا من كان هودا، ووصف النصارى أنها لا يدخلها إلا من كان نصارى.

وكتشبيه بعض الكفرة نعيم الآخرة بأنه كنعيم الدنيا، وكوصفهم الجنة والنار بأنهما ستفنيان بهما ومن فيهما. وكوصف بعضهم أن أصحاب النار لا يتألمون بها، كما لا يتأذى دود الكنيف أو الخل به. فوصف الله سبحانه وتعالى أولياءه بأنهم يوقنون إيقانا لا يشوبه شىء من هذا الضلالات، فإن اليقين أعلى درجات العلم، وهو إتقان العلم بنفى الشك والشبهة عنه نظرا واستدلالا. ولذلك لا يوصف به العلم القديم والعلم الضرورى، إذ هما ليس بنظر واستدلال، فلا يقال الله متيقين بكذا، فإن علمه قديم لا بنظر واستدلال، ولا يقال تيقنت أن الجزء أعظم من الكل، لأن علم هذا ضرورى لا بنظر واستدلال. وترى أقواما ينتسبون إلى الملة الحنيفة يضاهون اليهود فى قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. وترى أبعضا يقولون بأنه سيفنى أهل الجنة والنار. فما علمهم بالآخرة إلا كعلم من سردنا ذكرهم. والواو الأولى فى يوقنون بدل من ياء أيقن لسكونها بعد ضمة. وأما همزة أيقن فمحذوفة، لأن همزة أفعل تحذف فى المضارع، واسم الفاعل، واسم المفعول، فى الكلام الفصيح. وأما قراءة أبى حية النميرى يؤقنون - بهمزة ساكنة بعد الياء - فليست الهمزة فيها همزة أيقن، بل هى بدل من واو يوقنون المبدلة عن ياء أيقن، إجراء لضم ما قبل الواو مجرى ضم الواو. فأبدلت همزة، كما تبدل الواو المضمومة همزة، كقولك فى وجوه ووقتت ووقود أجوه وأقتت وأقود، كقول جرير

لحب الموقدان إلى موسى وجعدة إذ أضاءهما الوقود

بابدال واو الموقدان وموسى والوقود همزة الأول والثانى لانضمام ما قبلهما والثالث لانضمامه. واللام لام الابتداء وجب فعل ماض بوزن كرم نقلت ضمة بإئه للحاء فأدغمت فى الياء بعدها وحذفت ضمة الياء فأدغمت فتبقى الخاء على فتحها. وإنما دخلت عليه لام الابتداء، لأنه جامد بصيرورته من باب نعم. والموقدان فاعل. وإلى متعلق بحب. وموسى بدل أو بيان من الموقدان بواسطة عطف جعدة وهما أبناء. وإذا متعلق بحب. أو خارجه عن الظرفية بدل اشتمال من الموقدان، أو موسى وجعدة مدحهما بالكرم وإيقاد نار الضيافة، ومعنى إضاءة الوقود لهما إظهاره إياهما بالنور.

[2.5]

{ أولئك على هدى من ربهم } هذه الجملة مستأنفة استئنافا نحويا بيانيا هو نحوى بلا عكس فإن البيانى تكوين الجملة جواب لسؤال يقتضيه المقام كأنه قيل ما السبب فى اختصاص المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، والذين يؤمنون بما أنزل إلى سيدنا محمد ومن قبله - صلى الله عليه وسلم - ويوقنون بالآخرة، يكون القرآن هدى لهم؟ فأجاب بأن السبب فى اختصاصهم يكون القرآن هدى لهم التوفيق من الله واللطف عليهم بالهدى، ولا يقال هذا نفس قوله هدى للمتقين فيلزم تحصيل الحاصل لأنا نقول معنى قوله هدى للمتقين زيادة هدى لهم، أو صالح لأن يهتدوا به. ثم قال أولئك الموصوفون بتلك الصفات غير بعيد أن يختصموا بكون القرآن زيادة هدى لهم، أو بكونه هدى موصلا لهم إلى تلك الصفات. وإن شئت فقل إن جملة أولئك على هدى من ربهم، ليست بيانا للعلة، بل إخبار بأن الهدى الحاصل لهم من القرآن إنما جاءهم من فضل الله. وهذا على أن معنى هدى للمتقين أنه هداهم بالفعل، واهتدوا بالصلاحية والإمكان فقط. نقول أحسن زيد إلى شيخه، شيخه حقيق بالإحسان سواء أردت بيان العلة كأنك قلت لأن شيخه حقيق بالإحسان من أجل أنه شيخه، أو أردت مجرد الإخبار بأنه حقيق به ولكن تعليق الحكم بمشتق يؤذن تعليته. والشيخ فى معنى المشتق، والآية من هذا القبيل، فإن أولئك غير مشتق، لكنه إشارة إلى المتصفين بتلك الصفات. فهو فى معنى المشتق فكأنه قيل اتصافهم بالاتقاء والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وما بعد ذلك سبب لزيادة الهدى الحاصلة لهم من توفيق الله وتفضله عليهم، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة لمجرد الإخبار بأنهم أحقاء بالهدى، بأن تكون الإشارة إلى أنفسهم لا تفيد اعتبار صفة، فضلا عن أن تكون موذنة بالعلية، كقولك أكرم زيدا زيد أهل للإكرام، فإن قولك زيد أهل للإكرام غير متضمن لما هو علة لإكرامه، ولو جعلت العلة تعليلا. وإذا ذكرت الجملة الثانية بصفة ما بنى له الكلام الأول، كانت كمصرحة بالعلة نحو أكرم زيدا صديقك القديم أهل للإكرام، كأنه قيل أكرم زيدا لأنه صديقك الكريم، والصديق الكريم أولى بالإكرام وأهل له. وهذا النوع أحسن وأبلغ لانطوائه على بيان الموجب وهو العلة، وكيفية حمل الآية عليه أن تجعل الإشارة إلى المتصفين بتلك الصفات من حيث إنهم متصفون بها. كأنه قيل المؤمنون بالغيب.. إلخ، أهل لزيادة الهدى الكائن لهم من ربهم، أو أهل لأن يهتدوا بالقرآن ويتأثروا به، أى من علم الله أنهم سيتقون ويؤمنون بالغيب.. إلخ أهل لأن يهتدوا به ويتأثروا به. ويجوز أن يكون الذين الأول مبتدأ والثانى معطوفا عليه.

وأولئك على هدى من ربهم خبرا، والثانى مبتدأ خبره أولئك على هدى من ربهم. فيكون الذين وما بعده مسأنفا أيضا استئافا نحويا وبيانيا أيضا، كأنه قيل لم خص المتقون بكون القرآن زيادة هدى لهم أو بتأثره فيهم من أول؟ فأجيب بأنه كان زيادة لهم لإيمانهم بالغيب إلخ أو بأنه تأثروا به واهتدوا لعلم الله أنهم سيتقون ويؤمنون بالغيب... الخ. قبل أن يصدر منهم الاتقاء والإيمان.. إلخ، ولك فى أوجه الاستئناف كلها استئناف الذين أو استئناف أولئك على هدى من ربهم، أن تجعل جوابا لسؤال على هذه الكيفية أى لم خص المتقون المؤمنون بالغيب.. إلخ بذكر كون القرآن مرشدا لهم؟ مع أنه مرشد لكل مسلم وكل كافر، غير أن المسلم قد ارتشد، والكافر عصى وأعرض. فأجيب بأنه خص ذكر المتقين المؤمنين بالغيب، لأنهم المطاوعون لإرشاده المقتفون له. وإن قلت فهل ذلك التوفيق تخصيص لهم بلا موجب؟ قلت بل بموجب وهو تسببهم واكتسابهم. وإن قلت تسببهم واكتسابهم أيضا مخلوقان لله. فذلك تخصيص بلا موجب؟ قلت نعم مخلوقان لله تبارك وتعالى مجملين، وقد علم الله تعالى بلا أول أنهم سيتصفان بهما فافهم. فإنه جل وعلا خلق جزاء من استفراغ الكفر وإدامة النظر فيما نصب من الأدلة والمواظبة على محاسبة النفس فى العمل، وعلم أنه يكون فيهم. والاستعلاء فى هدى من الاستيلاء المجازى. وإيضاحه أنه شبه تلبس المتقين المؤمنين إلخ بالهدى وتشبهم به، بمن تلبس بدابة أو سفينة وكان عليها، ووجه الشبه التمكن والاستعلاء والنجاة من مكروه، فاستعار لذلك التلبس والتشبث الحرف الموضوع للتلبس والتشبث على نحو الدابة من المحسوسات، وهو لفظ على، فذلك إبراز للمعانى فى صورة الذوات زيادة فى البيان، ونكر هدى للتعظيم، أى أولئك على هدى عظيم لا يحصى غايته ولا يعلم قدره إلا الله الرحمن الرحيم، الذى كان هو من فضله وتوفيقه. ففى الوصف وصف هدى بقوله من ربهم، تأكيد لذلك التعظيم. وقرئ قوله من ربهم بثلاث قراءات الفك وإدغام النون فى الراء إدغاما صريحا بإبدالها راء صريحة وإدغامها فيها، والثالثة الإبدال غير الصريحة والإدغام مع إبقاء بعض النون فى الخيشوم. والجمهور على الثانية وبهذا نأخذ وهو قراءة نافع والكسائى وحمزة. وأما أبو عمرو، فعنه الثانية والثالثة، ورويت الثالثة والثانية عن ابن كثير وورش وكذا ما أشبه ذلك. { وأولئك هم المفلحون } وإشارة البعد هنا وفى الذى تقدم إنما هى لما مر فى قوله ذلك الكتاب. وإن قلت لم لم يكف لفظ أولئك الأول فيقال هنا وهم المفحلون؟ قلت لأن تكريره يفيد أنه كما ثبت لهم التخصيص بالهدى ثبت لهم بالفلاح. وأكد واحد من التخصيصيين فى تميزهم به من غيرهم بالمنزلة التى لو انفردت كفت مميزة وإن كلا من التخصيص يترتب على تلك الصفات كأنه قيل المتصفون بالاتقاء والإيمان إلخ مختصون بالإفلاح لتلك الصفات.

ولو قال وهم المفلحون لم يفد كل ذلك بل بعضه، وقرنت الجملة الثانية بالواو والعاطفة لمغايرة الإفلاح للهدى، فإن الإفلاح الفوز بالمطلوب من رضى الله - جل وعلا - ونعيم الجنة والنجاة من النار وهو فى الآخرة ومقصود على حدة والهدى الدلالة والتوفيق وهما فى الدنيا مقصودان على حدة بخلاف قوله تبارك وتعالى

أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون

فإن وصفهم بكونهم كالأنعام ووصفهم بالغفلة واحد فى الحقيقة. وأما الثانى أن لا مقرر للأول إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة فى الغفلة، وكونهم كالأنعام وغفلتهم كلاهما فى الدنيا. فلذلك الاتحاد فى المعنى والزمان لم يكن بالعطف لاقتضائه التغاير.. والله أعلم. والتحقيق عندى أن أولئك هم المفلحون يفيد الحصر وتأكيد نسبة الإفلاح إلى أولئك. وإيضاح كون المفلحون خبرا لا نعتا والترغيب فى اقتفاء أثرهم وإظهار قدرهم، سواء جعلنا قولهم هم ضمير فصل أو مبتدأ. وإذا عقلت هذا الحصر ظهر لك أن أصحاب الكبائر يخلدون فى النار، فإن المعنى لا يفلح إلا المتصفون بتلك الصفات. فمن لم يتصف بها غير مفلح، ومن يدخل النار غير مفلح. ولو فرضنا خروجه منها لكان مفلحا وغير مفلح، وهذا لا يصح. ولعل قومنا القائلين بالخروج يجعلون أل فى المفلحون للكمال، أى أولئك هم المتصفون بتلك الصفات هم أصحاب الفلاح الكامل وغيرهم ممن أقر وفسق مفلحون أيضا. لكن فلاحهم غير كامل. أم يقولون نزل فلاحهم منزلة العدم، فحصل الفلاح فى المتصفين بتلك الصفات، وإنما لم نسلم لهم هذين التأويلين لو لم يكونا خلاف الظاهر بلا داع موجب، ولا يعارضوننا بوصف الفاسق كغيره بالاصطفاء فى قوله عز وجل

ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا

فإنه مشروط بالموت على التوبة. وإن قلت لو قيل أولئك المفلحون على الابتداء والخبر لأفاد الحصر أيضا بدون ذكر قوله هم. قلت نعم لكن إذا ذكر قوله هم، كان هو المفيد للحصر بواسطة ما بعده، مع أنه قد يتوهم من عدم ذكره كون المفلحون نعتا لأولئك فلا يظهر تمام الإسناد فضلا عن الحصر. وأل فى المفلحون للعهد الذهنى، أى أولئك هم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون، أو للحقيقة حقيقة المفلحين، أو للعهد الذكرى إذا ذكر من يفلح فى غير هذه الآية فى السورة النازلة قبل هذه السورة، وإذا تتبعت الكلام وجدت كل كلمة أصلها الأول فاء. والثانى لام دالة على الشق بظهور أو تأويل. كفلق وفلذا وفلى، فكذلك المفلح قد انفتح له وجوه الظفر وانشقت له، وفلق شق، وفلذ قطع. وأفلاذ الكبد قطعها. وفلى رأس الكافر ضربه بالسيف، ويكون الفلاح أيضا فى لغة العرب بمعنى البقاء. فيصح تفسير الآية به، أى أولئك هم الباقون فى النعيم الدائم، الخالدون فيه، الذين لا ينقطعون عنه أبدا. قال الشاعر

لو أن حيا مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح

أى مدرك البقاء، غير أنه يحتمل أن يريد بالفلاح الفوز بالمطلوب وهو البقاء، فلم يخرج عن تفسير الفلاح بالفوز بالمطلوب. فافهم.

[2.6]

{ إن الذين كفروا } هذا شروع فى ذكر ضد المتقين الذين تأثروا بهداية القرآن والكفرة لا يتأثرون بها، ولم تعطف قصتهم على قصة المتقين، لأن قصة المتقين إنما سقاها الله - جل وعلا - لذكر الكتاب وبيان شأنه، لأنه حق وهدى لهم وتفخيم شأنه فى الانتفاع به. وقصة الكفرة ساقها الله - عز وجل - لشرح تمردهم وانهماكهم فى الضلال. وأما وصفهم بأن وجود الكتاب وعدمه سواء عليهم، فليس كون الكتاب كذلك غرضا مسوقا له الكلام، بل تفخيم شأنه، وفائدة أن تأكيد نسبة الخبر إلى المبتدأ سواء كانت إيجابية أو سلبية، سواء كانت فى جواب منكر، أو ظان أو شاك أو خالى الذهن أو موقن، بحسب غرض المتكلم فى إخباره من مبالغة أو عدمها. هذا ما ظهر لى لاما اشتهر فى كتب المعانى من أن الإتيان بها فى أخبارك من أن أيقن لا يجوز أو يخل بالبلاغة، والتعريف الحاصل فى الموصول للعهد الذكرى والحضورى أو الذهنى، والمراد ناس بأعيانهم كأبى لهب وأبى جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود، فإنه قد وقع لهم ذكر فيما نزل من الآيات قبل هذه، وصح لهم حضور محسوس للجدال وغيره، وثبوت فى ذهنه - صلى الله عليه وسلم - مهما بطريق إرشادهم وقلقا بما قالوا. وعن ابن عباس نزلت فى حيى بن أخطب وكعب ابن الأشرف ونظائرهما من اليهود. وقيل فى مشركى العرب كأبى جهل. وإما للجنس متناولا من أصر على الكفر كما قال سواء إلى... إلخ. ومن لم يصر وهو من استثناه بقوله إلا الذين تابوا ونحوه، من آيات استثناء والتائبين ولا تتناول من سيأتى بعده - صلى الله عليه وسلم - ومن تقدمه. وقيل تتناول من يأتى، لأن إنذار القرآن بعده إنذار منه. وقيل تتناول من سبق أيضا، على معنى أنك لو أنذرتهم لم يتأثروا به. والكفر لغة ستر النعمة. وأصله الكفرة بفتح وهو الستر. ومنه قيل للزارع كافر، لأنه يستر البذر، وكذا الليل لأنه ساتر بظلمته، وكذا البحر لأنه يستر ما فيه وما وقع فيه، وللطلع لأنه يستر الثمار. فهو فى أصل اللغة مطلق الستر. ثم اختص فى عرف أهلها بستر النعمة وهو عدم شكرها. وأما فى الشرع فله معنى عام وهو ستر النعمة، الذى هو عدم شكرها، فإن فعل كبيرة كالنفاق أو الشرك خرج عن شكر النعمة. فإن شكرها هو عدم فعل ذلك والتحرز عنه، ومعنيان خاصان أحدهما يسمى نفاقا عندنا، وهو فعل الكبيرة التى دون الشرك، والآخر كفر شرك سواء أظهر أو لم يظهر. وهما فعل كبيرة الشرك، وهما المراد فى الآية. ويخص أصحابنا ما لم يظهر منه باسم آخر هو لفظ النفاق أيضا، وحد كفر الشرك بنوعيه بأنه إنكار ما علم بالضرورة مجىء الرسل به وخرج بلفظ الإنكار الفعل فإنه ليس شركا فليس كهيئة المشرك، وإنما حرم لأنه يوهم أنه مشرك فيحكم من لم يعلمه مسلما أنه مشرك، ويظن من علمه بالتوحيد لأنه مرتد، ولا من التحرز عن هيئتهم من تمام بغضهم، فلو لبس الإنسان الزنار لدل على أنه نصرانى، أو مرتد إلى النصرانية ومن صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجترىء على لبسهم ظاهرا والزنار بضم الزاء خيط غليظ فيه ألوان يشد فى الوسط فوق الثياب.

وإنما أخرجت بالإنكار مع أنه جنس، لأن الجنس فى الحدود، كما يدل على الإدخال يدخل على الإخراج، ودخل فى الإنكار الإنكار بالقلب أو باللسان أو بهما، وإذا أنكر باللسان فقط حكم بشركه، لأنما فى قلبه غير. وفى كونه مشركا بذلك عند الله قولان. والصحيح نفى شركه، وكذا فى الحكم إذا علم أنه أشرك بلسانه فقط. وخرج بالضرورة إنكار ما ليس علمه ضروريا، فإنه ليس شركا، وفيه خلاف تقدم فى الكلام على الإيمان، فمن أنكر ما أجمعوا عليه إجماعا لفظيا مشرك، لأن معرفته ضرورية، ومن أنكر ما أجمعوا عليه إجماعا ليس لفظيا فهو غير مشرك، لأن معرفته غير ضرورية، وفيه خلاف، وإذا أخبره من يصدقه بما ليس ضروريا، مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مما أجمعوا عليه فأنكره، أشرك ودخل بالضرورة المجسمة فهم مشركون، فإن نفى الجسم عن الله سبحانه من حيز الضروريات لكثرة أدلته، ولثبوت كل نقص وكل شبه بإثبات الجسمية لله، تعالى عنها وعن كل نقص، فبالجسمية يثبت الحلول والتحييز والجهات وخلو الأماكن عنه، والجهل بالبعد وعدم المشاهدة، والتركيب والحدوث العجز، وغير ذلك - تعالى الله - وكذلك العرض. وأشرك الطاعن فى براءة عائشة - رضي الله عنها - لثبوتها بالقرآن لأنها ولو كانت بدلالة لفظية، والأدلة اللفظية لا توجب العلم، فلا تكون ضرورية، لكنها قد توجبه بالقرآن وهى موجودة فى براءة عائشة. والله أعلم. واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه من لفظ المضى مثل

إن الذين كفروا

و

إنا نحن نزلنا الذكر

و

إنا أرسلنا نوحا

لاستدعاء ما جاء بلفظ الماضى سابقة المخبر عنه بالكسر وهو القرآن، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقا بغيره، وأجاب الشافعية وغيرهم بأن ما جاء بلفظ الماضى يقتضيه تعلق الحكم بالمخبر عنه، وحدوث ما يقتضيه التعلق، لا يستلزم حدوث المخبر عنه فلا يستلزم حدوث كلام الله تعالى. كما أن علمه تعالى قديم. ومقتضى تعلقه بغيره حادث وحاصل الجواب أنه لا يلزم من حدوث مقتضى التعلق، وهو الكلام اللفظى، حدوث الكلام النفسى.

والجواب فى نفسه صحيح لإثبات الكلام النفسى فلا نسلمه فانتفى قدم القرآن، وثبت حدوثه، وذلك أنه لا يمكن لعاقل أن يقول إن ما نلفظ به قديم لحدوث التلفظ وفنائه، ولا أن نقول إن النقوش فى اللوح المحفوظ وألواحنا ونحو ذلك قديم لحدوثه وفنائه. وكل من اللفظ والنقش محدود متحيز مركب، فالقديم لا يكون كذلك. فلم يبق إلا أن يقول مرادنا بقدم القرآن أنه كلام نفسى لله تعالى، وهذا الكلام النفسى يستلزم الحلول والظرفية وتحيز الظرف وإثبات ذلك فى حقه تعالى محال، لأنه صفة محلوق حادث، وإن قالوا إن الكلام النفسى وصف قديم ناقص كلامهم، لأنما هو صفة مخلوق لا يكون قديما، وإن قالوا بقدمه لزم تعدد القديم، وإنما القديم علمه تعالى، وهو هو لا غيره، بمعنى أنه ليس صفة حالية فيه ولا بعضه بل انكشاف الكائنات كلها له. وإنما القديم علمه تعالى بما سيكون كله مما فى القرآن وغيره، وإنه سنخلق القرأن ونقوشه تلفظ الخلق به. { سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } سواء خبر لإن، وأنذر وتنذر فى تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية بسواء، لأن سواء مصدر بمعنى اسم الفاعل، أى مستو عليهم إنذارك وعدمه. أو خبر لهذا المصدر، والجملة خبر لإن. أى إنذارك وعدمه سواء، وذكروا أن الفعل فى باب التسوية يؤول بالمصدر بدون وجود حرف مصدر. وقيل إن الهمزة بعد سواء حرف مصدر. وقيل إن الفعل إذا أريد به مطلق الحدوث المدلول عليه ضما على الاتساع، عومل معاملة المصدر، لأن المقصود حينئذ بالذات هو مطلق الحدث المذكور، الذى هو معنى المصدر، فيصح الإسناد إليه بلا تأويل بمصدر، ويصح الإضافة كذلك، فمن الإسناد إليه أن يجعل مبتدأ مثل أن يجعل أنذر مبتدأ، لتضمينه معنى إنذار. فتقدر الضمة فى آخره. ومثل أن نجعل تسمع، مبتدأ لتضمينه معنى السماع فى قولهم تسمع بالمعيدى خير من أن تراه. فالرفع الذى فيه رفع المبتدأ أو من الإسناد إليه أن يجعل فاعلا. نحو أعجبنى تقوم فتقوم فاعل لتضمينه معنى قيام ومن الإضافة قوله تعالى

يوم ينفع الصادقين صدقهم

ونحوه مما المضاف ظرف، كما يصح الإسناد إليه إذا يريد لفظه، نحو ضرب فعل ماض. ونحو قوله تعالى

وإذا قيل لهم آمنوا

أى لفظ آمنوا. والمشهور فى باب التسوية وغيرها أن المبتدأ هو المصدر المقدر، وأن الحرف المصدرى مقدر، فى نحو تسمع بالمعيدى، ولا مانع من تقديره عندى فى باب التسوية، حذف وعوضت عنه فيه الهمزة وإن المضاف إليه أو المحكى هو الجملة لا الفعل وحده. وإن قلت إذا كان الفعل المطلق الحدث هنا كالمصدر فلم لم يؤت بالمصدر دونه؟ قلت لأن الفعل ولو قصد به مطلق الحدث لكنه مشعر بالتجدد، فقصدت الإشارة إليه بالفعل، ولو عبر بالمصدر لم يدل عليه.

والفعل ولو قصد به مطلق الحدث لا يدل على الثبات الصريح الخالص، بل مع تجدد ملوح إليه، وهو أصله. وإنما صح جعل ما بعد الهمزة مبتدأ لخبر قبله أو فاعلا لما قبله، لأنها خارجة عن الاستفهام إلى التسوية فلا يصدر لها. وصرح السعد بأن مجموع همزة التسوية والفعل فاعل لسواء أو مبتدأ له، وإنما دخلت همزة التسوية وأم بعد سواء لتقرير الاستواء وتأكيده، وخرجتا عن الاستفهام إلى مجرد الاستواء. والفرق بين الاستواءين لأن الاستواء الذى تفيده الهمزة وأم هو تردد المستفهم فإن من يستقهم عن شىء يستوى عنده ثبوته وعدمه فى أصل عدم الجزم بأحدهما. ولو كان قد يرجح أحدهما، مع أن لفظ الاستفهام لا يفيد الترجيح. والاستواء الذى تفيده لفظة سواء هو الاستواء فى الغرض المسوق له الكلام، فالهمزة وأم على صورة الاستفهام خارجتان عنه. كما أن باب الاختصاص على صورة النداء. والله أعلم. والإنذار التخويف بإخبار فهو إعلام مع تخويف. والمراد فى الآية التخويف من عقاب الله - عز وجل - على كفرهم، وإنما اقتصر على ذكر الإنذار ثبوتا وعدما. ولم يقل ءأنذرتهم أم بشرتهم، لأن الاقتصار عليه أوقع فى القلب، وأشد تأثيرا فى النفس من حيث إن دفع الضرر من جلبه النفع، فإذا لم يؤثر فيهم الإنذار فمن باب أولى ألا يؤثر فيهم التبشير، والأصل ءأنذرتهم بهمزتين مفتوحتين، أبدلت الثانية ألفا وهو قراءة نافع من طريق ورش عنه. وهو عربى فصيح وبه أخذ أهل مصر عن ورش وأبى يعقوب الأزرق وبه أخذت فى جميع نظائره فى القرآن ءأنتم أعلم، ءأقررتم، ءأسلمتم ءأنت قلت، ءألد، ءأرباب، ءأسجد، ءأنت فعلت، ءأنتم أضللتم، ءأشكر، ءأتخذ، ءأعجمى، ءأنتم تخلقونه، أءنتم تزرعونه، ءأنتم أنزلتموه، ءأنتم أنشأتم، ءأشفقتم، ءأمنتم من فى السماء، ءأنتم أشد خلقا؟ وروى البغداديون والشاميون عن عبد الصمد عن ورش أنه يسهل الثانية بين ألف وهمزة، لا همزة مخصوصة ولا ألفا محضة. والأشهر عنه الإبدال. وعليه أكبر الروايات عنه. والتسهيل أقيس فى العربية، لأنه ينبىء ما يدل عليه من بعض النطق بالهمزة، وسهلت الثانية لأن الثقل حصل بها. وإن قلت كيف صح إبدال الثانية ألفا مع أن المتحرك لا تبدل؟.. قلت لا نسلم أنها لا تبدل، بل يجب إبدالها. وقد قرأ بعضهم الثانية فى { يا سماء أقلعى } واوا مفتوحة وفى يشاء إلى ياء مكسورة، وقاس ذلك قياسا مطردا ولا سيما إن كان بعدها ساكن، نحو من السماءان وعلى البقاءان، فإن ورشا يقرؤها ياء ساكنة سكونا ميتا، فإن الفصل بين الساكنين بالإشباع الزائد على مقدرا الألف جائز، ولا سيما عند الهمزتين، فإنه يجوز عندهما التقاء الساكنين، وفيما إذا وقف مطلقا. وقيل لا يجوز إلا وقفا وفيما إذا كان الثانى ساكنا مدغما والأول حرف مدو أجاز الكوفيون التقاء الساكنين مطلقا وبطل ادعاء أن القراءة بالإبدال فى الآية لحن لما سردته لك، ولا يكفر مدعى ذلك.

ولو كان الطعن فى القراءات السبع كفرا لأنه إنما يكون كفرا فيما ليس من قبيل الأداء لأنه المتواتر، أما ما كان منه كالمد وتخفيف الهمزة، بالتسهيل أو الإبدال وتحقيقها فلا، بل قيل إن نسبة قراءة من السبع إلى اللحن الذى يغير المعنى لا يكون كفرا، وقرىء بحذف همزة التسوية، وقرأ بعض من يسكن ميم الجمع، ولو قيل همزة القطع تنقل فتحة الهمزة إليها، ولو كان يفهم من قوة الكلام أنها فى عدم الإيمان وحذفها وهى قراءة حمزة فى الوقف، وقال الطبرانى إنها شاذة، فيجمع بأنها شاذة فى الوصل، قال أبو عمر الدانى إذا اتفقت الهمزتان فى كلمة بالفتح نحو ءأنذرتهم فنافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام يسهلون الثانية منهما، وورش يبدلها ألفا، والقياس أن يكون بين بين. وابن كثير لا يدخل قبلها ألفا. وقالون وهشام وأبو عمرو يدخلونها. والباقون يحققون الهمزتين وإذا اختلفتا بالفتح والكسر نحو قوله عز وجل أإذا كنا، وأإله مع الله، فنافع وابن كثير وأبو عمرو ويسهلون الثانية، وقالون وأبو عمرو يدخلان بينهما ألفا، والباقون يخففونهما. وهشام من قراءتى على أبى الفتح يدخل بينهما ألفا، ومن قراءتى على أبى الحسن يدخلها فى الأعراف أإنكم، أإن لنا لأجرا. وفى مريم أإذا، وفى الشعراء أإن لنا لأجرا، وفى الصافات أإنك لمن المصدقين، وأإفكا، وفى فصلت أإنكم لتكفرون. ويسهل الثانية هنا خاصة وإذا اختلفتا بالفتح والضم وذلك فى قل أؤنبئكم، أؤنزل عليه الذكر، أؤلقى، فنافع وابن كثير وأبو عمرو، يسهلون الثانية وقالون يدخلها بينهما ألفا، والباقون يحققون الهمزتين وهشام من قراءتى على أبى الحسن يحققهما من غير ألف بينهما فى آل عمران، ويسهل الثانية ويدخل قبلهما ألفا فى الباقين كقالون ومن قراءتى على أبى الفتح يحققهما هشام، ويدخل بينهما ألفا وإذا اتفقتا بالكسر فى كلمتين نحو هؤلاء إن كنتم، فورش وقنبل يجعلان الثانية كالباء الساكنة. وقال ابن خاقان عن ورش فى هؤلاء إن كنتم وعلى البقاء إن أراد أن جعل فيهما فقط. الثانية ياء مكسورة وذلك مشهور عنه فى القراءة لا فى الكتابة، يعنى لأنه لا نجعل حركة لها فالضبط فى الآيتين، وقالون والبزى يجعلان الأولى كالباء المكسورة، وأبو عمرو يسقطها والباقون يحققونهما، وإذا اتفقتا بالفتح نحو

جاء أجلهم

فورش وقنبل يجعلان الثانية كالمدة. وقالون وأبو عمرو والبزى يسقطون الأولى، والباقون يحققونهما، وإذا اتفقتا بالضم، وذلك فى موضع واحد فى الأحقاف فى قوله عز وجل

أولياء أولئك

فورش وقنبل يجعلان الثانية كالواو الساكنة، وقالون والبزى يجعلان الأولى كالواو المضمومة، وأبو عمرو يسقطها، والباقون يحققونهما، وإذا اختلفتا نحو السفهاء إلا، ومن الماء أو مما، وشهداء إذ حضر، ومن يشاء إلى صراط مستقيم، وجاء أمة، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية والباقون يحققونها.

والتسهيل جعلها بين الهمزة والحرف الذى منه حركتها إلا إن فتحت بعد ضمة أو كسرة فتبدل مع الضمة واوا مفتوحة ومع الكسرة باء مفتوحة، وإلا إن كسرت بعد ضمة فإنها تبدل واوا مكسورة، أو تجعل بين الهمزة او الياء وتكسر، والأول مذهب القراء وهو أثر والثانى مذهب النحويين وهو أقيس. والله أعلم. وجملة { لا يؤمنون } جملة مفسرة لإجمال ما قبلها، فإن تسوية الإنذار وعدمه مجملة لا نص فيها على ما وقع فيه التسوية، فأزال الإجمال بقوله { لا يؤمنون } أى استوى إنذارك وعدمه، فى عدم وجود الإيمان، فكما لا يؤمنون إن لم تنذرهم لا يؤمنون إن أنذرتهم. فالجملة لا محل لها، ويجوز أن تكون حالا من هاء عليهم، مؤكدة لما يفهم من قوة الكلام إن التسوية فى عدم الإيمان، واستبعد أبو حيان كونها حالا. ولعله استبعده على أنها حال منتقلة، ويجوز أن تكون الجملة بدلا من قوله { سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، على أن سواء خبر مقدم، وهو من بدل الاشتمال، فإن عدم الإيمان من متعلقات تلك التسوية، لا هى ولا بعضهما، ويجوز أن يكون { سوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم } معترضا، فجملة لا يؤمنون خبر إن، وذلك إذا اعترض بما هو علة الحكم، فإن علة عدم إيمانهم مساواة الإنذار وعدمه يجوز أن يكون { سوآء عليهم أءنذرتهم } خبرا لأن، وجملة لا يؤمنون خبر ثان، ويجوز كون { لا يؤمنون } مستأنفا كأنه قيل هم لا يؤمنون. قال ابن هشام هذا أولى بدليل الآية الأخرى { سوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم } ليس فيها أن، والاعتراض أن يؤتى بجملة فصاعدا بين فردين أو جملتين، أو جملة وفرد متصلين إعرابا ومعنى، أو معنى فقط لنكتة سوى دفع الإيهام، ويجوز أن يكون لدفعه عن بعض وبه أقول، وأجاز بعضهم الاعتراض آخر الكلام وهو خارج عن اعتراض الاصطلاح والمعترضة مؤكدة وغير مؤكدة، والتأكيد بها تارة يكون كسائر التأكيد بالجمل، بأن تتضمن ما صرح به الكلام السابق أو الذى اكتنفها أو وما لوح إليه، وتارة يكون بمعنى المبالغة بذكر الجملة، وبمعنى الاهتمام بشأنها التى أتى بها قبل تمام ما قصد من الكلام، وهى كالمؤكدة، إلا أنها أحسن موقعا وألطف مسلكا، ودالة على زيادة الاهتمام. والله أعلم. واستدل بعضهم بالآية على جواز التكليف بما لا يطاق، فإن إيمانهم محال إذ قضى الله أنهم لا يؤمنون، كما أخبرنا بقوله لا يؤمنون، ومع ذلك أمرهم فى آيات كثيرة بالإيمان تصريحا وتضمينا، ويستحيل إيمانهم من جهة أخرى أيضا وهى استحالة الكذب على الله تعالى، فإنهم لو آمنوا انقلب خبره كذبا، وتدل الآية أيضا، عند هؤلاء، على التكليف بما لا يطاق من جهة أخرى وهى الجمع بين الضدين، لأن الإيمان يشمل إيمانهم لأنهم لا يؤمنون.

قلت التكليف بالإيمان ليس تكليفا بالمحال، وإلا لزم اتصافه بالظلم إذا عذبهم على عدم الإيمان مع أنه محال، بل إيمانهم من الجائزات التى لا تكون، لأنه تعالى جعل فيهم ما يتوصلون فيه إلى الإيمان، وجعل لهم أدلة فقصروا وأتاهم العقاب من حيث التقصير، وإنما يكون تكليفا بالمحال لو لم يجعل لهم عقولا ولم يجعل لهم أدلة، كما لو كلف الأصم السمع والأخرس الكلام، فهم قادرون على الإيمان بما ركب فيهم من عقل وما جعل لهم من الأدلة. و إخباره تعالى بأنهم لا يؤمنون لا ينافى القدرة على الإيمان، وإيمانهم لم يمتنع بالذات بل لغيره، وهو عدم تعلق علم لله تعالى به، وسمع الأصم وكلام الأخرس وإيمان ما لم يركب فيه تمييز يصل به إلى الإيمان، ونحو ذلك ممتنعات بالذات والتكليف بالممتنع لغير ذاته جائز واقع قطعا. ومنه تكليفهم بالإيمان. والممتنع إنما هو التكليف بالممتنع بالذات، وهو عندى غير جائز عقلا وغير واقع إذ لا فائدة فيه، فلا يكون من الحكمة. وقال القاضى جائز عقلا بناء منه على أنه لا يشترط فى الأمر والنهى حكمه وغرض ولا نعلم هذا بل نقول لا بد من الحكمة لأنه تعالى حكيم منزه عن العبث، فمنها ما يظهر لنا ومنها ما يخفى. وقال إنه غير واقع كما قلت. وعدم دليل وقوعه أنا لم نطلع عليه فى القرآن والسنة ولم يرو لنا عن كتاب من كتب الله عز وجل قبل القرآن وإنما قلت بامتناعه عقلا لأنه يؤدى إلى وصف الله بالنقص، وهو العبث أو الظلم وهو العقاب على ما لا طاقة عليه، والعابث لا يكون إلها، وكذا الظالم لأن ذلك عجز عن الحكمة والعدل، فبثبوتهما تنتفى الألوهية، وانتفاؤهما محال، لأن الكائنات لم تتكون بذاتها، لأن المعدوم لا يوجد نفسه ولا يحادث مثلها، لأنه يؤدى إلى التسلسل، هذا ما ظهر لى. وإنما أمرهم وأنذرهم، مع علمه بأنهم لا يأتمرون ليلزمهم الحجة. ويقطع عذرهم وليجوز الرسول ثواب التبليغ، والأمر والنهى، وليجوز من يأمر وينهى ثواب الأمر والنهى، ولتكون الآية إخبارا بالغيب على ما هو به على طريق المعجزة إن أريد بالذين كفروا اشخاص معينة. واستفدت من كلام القاضى أن التكليف بالمحال يجوز، سواء كان محالا للذات أم لغيره، لأنه إذا أثبت جواز الممتنع لذاته عقلا، فأولى أن يثبت جواز ما امتنع لغيره، وضابط المحال بالذات أنه الممتنع عقلا، وعادة كالجمع بين السواد والبياض والمحال لغيره ممكن فى نفسه لكن لا تتعلق به قدرة المخلوق، كحمل الجبل والطيران من الإنسان وهذا إما ممتنع عادة كالمثالين.

والمشى من المقعد بمرض أو غيره، أم ممتنع عقلا لإعادة كذا قال المحلى ومثله بإيمان من علم أنه لا يؤمن. قال زكرياء الأنصارى لأن العقل يحيل إيمانه لاستلزامه انقلاب العلم القديم جهلا، قال ولو سأل عنه أهل العلم لم يحيلوا إيمانه، كذا جرى عليه كثير. والذى عليه الغزالى وغيره من المحققين أن ذلك ليس محالا عقلا أيضا بل ممكن مقطوع بعدم وقوعه، ولا يخرج القطع به بذلك عن كونه ممكنا بحسب ذاته. قال السعد التفتازانى كل ممكن عادة ممكن عقلا ولا ينعكس. انتهى. وتمثيل المحلى مشكل، وكذا تجويزه أن يكون الشىء محالا عقلا جائز عادة. وقد يجاب بأن الاستحالة إنما هى باعتبار ملاحظة لزوم انقلاب العلم جهلا. وهذا الاعتبار عقلى لا مدخل للعادة فيه، لأنه إنما ينظر فيها لظاهر الحال، قال ابن القاسم وكنت أجيب به من تلقاء نفسى حتى رأيته له والحمد لله، ومعنى استحالة الشىء لذاته أن العقل إذا تصوره حكم بامتناع ثبوته، قال بعض إن جواز التكليف بالمحال عقلى وإن معناه أن يأخذ فى الأسباب لا أن يقع بالفعل إن كان لذاته، والتكليف المحال راجع للمأمور كمسألة تكليف الغافل والساقط من جبل، وقضية تعبيرهم بالتكليف اختصاص الخلاف بالوجوب ، ولا يبعد جريانه فى الندب أيضا وهو يتصور ذلك فى الحركة والكراهة، بأن يطلب منه ترك ما يستحيل تركه طلبا جازما أو غير جازم فيه نظر، ويمكن أن يتكلف تصويره بتحريم، نحو المكث تحت السماء. قاله الصبان ومنع أكثر المعتزلة وأبو حامد الإسفرانى والغزالى وابن دقيق العيد التكليف بالمحال. الذى ليس ممتنعا لتعلق العلم بعدم وقوعه. قاله فى جمع الجوامع. قال منع الموانع أى منعوا الممتنع لغير تعلق العلم، لأنه لظهور امتناعه للمكلفين لا فائدة فى طلبه منهم، فالذى لا يجوز التكليف به عندهم المحال لذاته والمحال عادة الذى هو أحد قسمى المحال لغيره، واعترض بأن انتفاء الفائدة فى طلبه لا يمنع. لأن أفعال الله تعالى لا لعله ولا لغرض وأجيب بأن المراد بالفائدة الحكمة، والمنفعة الراجعة إلى المخلوق، وبالنظر إلى قول الغزالى ومن معه، والعلة والباعث بالنظر إلى قول المعتزلة، لأنه بعد ما ينفى النافى العلة والغرض من أفعاله تعالى لا ينفى عنها الفوائد، بمعنى الحكم والمصالح الراجعة إلى الخلق، وأجيب عن قولهم لا فائدة. إلخ بأن فائدة اختيارهم هل تأخذون فى المقدمات فيترتب عليها الثواب أو لا؟.. فالعقاب إما الممتنع لتعلق علم الله بعدم وقوعه، فالتكليف به جائز وواقع اتفاقا، وما ذكر من الجواب بأن فائدته إخبارهم جواب بتسليم أنه لا بد من اشتمال فعله - تعالى - على فائدة، مع أنه لا يسأل عما يفعل. ولئن سلمنا لا نسلم أنه لا بد من ظهورها، إذ لا بد من الحكيم إطلاع من دونه على وجه الحكمة.

كما قاله القفال فى محاسن الشريعة، واعترض بأن هذه الفائدة ينميها قول المستدل لظهور امتناعه للمكلفين. وقد يجاب بأن الأخذ فى الأسباب باعتبار أن المكلف يجوز خرق العادة، فيأخذ فى المقدمات، ويبحث فى هذا بأنه إنما يتم فى المستحيل عادة لا فى المستحيل لذاته. والأحسن أن يجاب بأن المراد بالأخذ فى الأسباب ما يشمل طيب النفس وإذعاتها للتكليف بذلك. ولا شك أنه يتصور تعلقهما بالممتنعات، قاله ابن القاسم. قال ابن الصبان ولا يخفى ما فيه ومنع معتزلة بغداد والآمدى التكليف بالمحال لذاته دون المحال لغيره بقسميه، ومنع إمام الحرمين التكليف بما استحالته لغير تعلق العالم، فاستحالته عند مانعة من التكاليف به فإن طلب الشىء مع العلم باستحالته لا يتصور كونه طلبا حقيقة إذ طلب الشىء حقيقة فرع عن إمكان حصوله وإلا كان عبثا، وليست استحالته مانعة من طلبه فى قول الأسفرانى والغزالى، وابن دقيق العيد السابق، وهو مخالف لقول إمام الحرمين فى المأخذ لا فى الحكم، فإن مأخذ الإمام الاستحالة، ومأخذهم عدم الفائدة فى الطلب، ولم يمنع إمام الحرمين ولا غيره ورود صيغة الطلب له لغير طلبه. قال فى جمع الجوامع ومنع الموانع والمعنى أنهم لم يمنعوا أن ترد لغير طلب المحال كقوله تعالى

كونوا قردة خاسئين

قال ابن السبكى والمحلى والصبان الحق وقوع التكليف بالممتنع بالغير، وهو الممتنع عادة فقط، وبالممتنع عقلا فقط، وهو الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه، أما وقوع التكليف بالممتنع بالغير، فأنه تعالى كلف الثقلين بالإيمان وقال

وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين

فامتنع إيمان أكثرهم لعلمه تعالى بعدم وقوعه. وذلك من الممتنع لغيره. وأما عدم وقوع التكليف بالممتنع بالذات فاللاستقراء، إذ لم يوجد أن الله تعالى كلف أحدا أن يجمع بين الماء والنار مع بقائهما على حالهما أو نحو ذلك، وقيل يقع التكليف بما هو محال لذاته كما يقع المحال لغيره لأن من أنزل الله فيه أنه لا يؤمن بقوله مثلا { إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } كأبى جهل وأبى لهب وغيرهما، مكلف فى جملة المكلفين بتصديق النبى - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به جميعا عن الله. ومنه أنه لا يؤمن أى لا يصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى شىء مما جاء به عن الله، فيكون مكلفا بتصديقه فى خبره عن الله، بأنه لا يصدقه فى شىء ما جاء به عن الله، وفى هذا التصديق تناقض حيث اشتمل على إثبات التصديق فى شىء ونفيه فى كل شىء، فهو من الممتنع لذاته، وقد تقدم هذا. وإيضاحه أن من نزلت فيه هذه الآية المذكورة قد حكم عليه بأنه لا يصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى شىء مما جاء به، على السلب الكلى، لأن قوله لا يؤمنون أى لا يصدقون بشىء مما جئت به كما يفيد حذف المعمول فى قوة سالبة كلية قابلة لا تصديق لهم بشىء مما جئت به، وهم مكلفون من جملة المكلفين بتصديق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى جمع ما جاء به الذى من جملة مدلوله هذه السالبة الكلية، وهو عدم تصديقهم فى شىء مما جاء به وتصديقهم هذا الذى متعلقه عدم التصديق بشىء مما جاء به، فرد من أفراد التصديق المنفى الواقع موضوعا للسالبة الكلية المتقدمة، فهو إيجاب جزئى فى قوة قولنا هم يصدقونه فى أخباره بأنهم لا تصديق لهم بشىء مما جاء به.

وقد علم أن الإيجاب الجزئى يناقض السلب الكلى، فيكونون قد كلفوا بهذا التصديق الذى متعلقه عدم التصديق الكلى، مع كون ما كلفوا به من هذا التصديق الجزئى منتفيا، لكونه فردا من أفراد التصديق المنفى، الواقع موضوعا للسالبة المتقدمة، فقد لزم من تكليفهم بهذا التصديق اجتماع النقيضين، وهو اللازم على التكليف بالمحال لذاته، فيكون التكليف به من التكليف بالمحال لذاته، ويجاب بأن من أنزل فيه أنه لا يؤمن لم يقصد إبلاغه ذلك أنه لا يؤمن فلا يكون مكلفا بتصديقه فيه فلا يلزم التناقض، وإنما قصد إبلاغ أنه لا يؤمن لغير من أنزل فيه أنه لا يؤمن وإعلام النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه لييئس من إيمانه كما قيل لنوح عليه السلام

إنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن

فتكليفه بإيمان من التكليف بالممتنع لغيره، وهو الذى امتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه. وقال الجمهور لا يقع التكليف بالممتنع لغيره ولا لذاته إلا فى الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه لقوله تعالى

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها

والممتنع لتعلق العلم فى وسع المكلفين ظاهرا. واختاره ابن السبكى فى شرح المختصر، وصرح فى شرح المنهاج بأن مختار ابن السبكى مختص بالممتنع، لتعلق العلم بعدم وقوعه، وبأن المحال عادة كالمحال لذاته فى أنه جائز غير واقع. وصرح الغزالى بأن إيمان نحو أبى جهل لا يتصف بالاستحالة، بل ممكن مقطوع بعدم وقوعه، ولا يخرجه العلم بعد وقوعه عن كونه ممكنا فى حد ذاته، وهو ظاهر. والله أعلم.

[2.7]

{ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } هذه الجملة الفعلية ومتعلقاها اللذان هما على قلوبهم وعلى سمعهم، والجملة الاسمية بعد ذلك تعليل لاستواء الإنذار وعدمه عندهم ولعدم إيمانهم، فذلك من التعليل الجملى المستأنف كقولك لجائع كل إنك جائع، ويجوز كون ذلك مستأنفا لبيان ما يتولد عى استواء الإنذار وعدمه، وعلى عدم الإيمان من ختم الله عز وجل على قلوبهم وسمعهم. والختم على الشىء الإغلاق عليه وكتمه ويسمى الاستيثاق إذا كان بضرب الخاتم على الشىء ختما، لأنه كتم له. ويسمى أيضا بلوغ آخر الشىء ختما لأنه آخر ما يفعل فى إحراز ذلك الشىء وإن قلت إذا كان الله هو الذى ختم على قلوبهم، فكيف يعذبهم على كفرهم؟. قلت التحقيق أنه ليس ذلك الختم على طريق الجبر على الكفر بل أتوا الكفر باختيارهم، فعذبهم على كفرهم باختيارهم وإعراضهم عن الآيات، ولكن لما كان كفرهم مخلوقا لله - جل وعلا - سما ما يتولد منه من زيادة كفر ختما منه تعالى، وإن شئت فقل لما كان ما يتولد على غيهم وتقليدهم وإعراضهم عن الآيات من زيادة كفر واستحبابه، واستقباح الإيمان ومتعلقاته، ومن ملازمة ذلك والجرأة عليه مخلوقا لله تعالى، سماه ختما من الله - عز وجل - وإن شئت فقل لما كان حدوث ذلك خلقا من الله سماه ختما منه تعالى وفى التعبير بختم استعارة تصريحية تحقيقية تبيعة شبه خلق عدم نفود الحق فى القلوب وتحقق كلال الأسماع وامتناعها عن سماعه سماعا موصلا إلى القلوب، بالإغلاق على الشىء، والمنع من الوصول إليه، بجامع انتفاء التوصل من خارج إلى داخل، وعدم الانتفاع بداخل. فكما لا ينتفع بسمن مختوم عليه فى خابية ما دام مختوما عليه، كذلك لا ينتفع بقلب فى داخل الجسد فاسد، ولا يسمع داخل الأذن لا يوصل مسموعه إلى القلب أيضا لا نافعا، فكان خلق عدم النفوذ وتحقق الكلال من جنس الإغلاق على شىء، فسمى باسم الإغلاق على شىء واسمه الختم، فاشتق من الختم بمعنى الخلق لعدم النفوذ وتحقق الكلال ختم بمعنى خلق عدم النفوذ وتحقق الكلال. فاستعاره فى ختم تابعة لها فى الختم وليس المشبه مخيلا فكانت تحقيقية، وقد صرح بلفظ المشبه وهو ختم فكانت تصريحية، وإن شئت فقل فى قوله { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } استعارة تمثيلية، بأن تقول شبه القلوب وعدم نفوذ الحق فيها وخلق ذلك العدم والإسماع وكلالهما، وخلق ذلك الكلال بإناء وشىء فيه والإغلاق على ذلك الشىء بجامع مطلق وجود وعاء وشىء فيه، وعدم الوصول للشىء الذى فيه. بل حفظت عن بعض كتب عصام الدين فى الاستعارات وغيره أنه لا يعدل عن الاستعارة التمثيلية إلى المفردة ما وجدت التمثيلية، وهى المركبة.

ومثل الختم الطبع والأغفال والأقسار حيث ذكرنا ولا جبر فى شىء من ذلك بيل أسند إلى الله - جل وعلا - من حيث إنه خلقهن ووقعن بقدرته وأسنده إليهم لأنهم اكتسبوها باختيارهم، ووصفت بالقبح وذموا عليها لاختيارهم، فلا قبح فيها من حيث إنه تعالى خلقها، بل من حيث إنهم اكتسبوها، فلا إشكال فى إسنادها إلى الله - جل وعلا - من حيث خلقها. والمعتزلة لما منعوا إسناد القبيح إلى الله تعالى من أى وجه، أجابوا عن ذلك بأوجه ذكرها القاضى الأول أنه لما أعرض الكفار عن الحق وتمكن ذلك فى قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقى المجبول عليه. الثانى أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التى خلقها الله تعالى خالية من الفطن. وقد مر فى كلامى تخريج ذلك على الاستعارة المفردة والمركبة. الثالث أن ذلك فى الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، ولكن لما كان صدوره عنه بإقدار الله تعالى إياه، أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب. الرابع أن أعراقهم لما رسخت فى الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى القهر والجبر، ثم لم يقرهم ولم يجبرهم إبقاء على عرض التكليف، عبر عن ترك التحصيل بالختم فإنه سد لإيمانهم وفيه إشعار عن وقع أمرهم بالكلية فى الغى. ووصول انهماكهم غاية الضلال والبغى. الخامس أن يكون حكاية لما كانوا يقولونه مثل

قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب

تهكما واستهزاء بهم، كما تهكم بهم إذ قال

لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين

الآية كانوا يقولون لا ننفك عن ديننا حتى يأتى الرسول الموعود به فى التوراة والإنجيل، فتهكم بذكر ما قالوا، لأنهم لما جاء كفروا به، ولو كان غير تهكم لتحقق الانفكاك عند مجيئه لاستحالة تخلف أخباره. السادس أن ذلك فى الآخرة وإنما أخبر عنهم بالماضى لتحققه وتيقن وقوعه، ويشهد له قوله جل وعلا

ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما

والسابع أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسيما تعرفهم بها الملائكة فيبغضونهم وينفرون عنهم. والكلام على التعبير بحصول الغشاوة على أبصارهم، كالكلام على ما قبله فى المجاز والاستعارة، وفى نفى الجبر على ذلك، وكيفية التوصل إليه بالأوجه المذكورة وكرر على مع سمعهم ليكون أدل على شدة الختم فى القلب والسمع، وعلى استقلال كل منهما بالختم. وعطف قوله على سمعهم على قوله على قلوبهم، لأن القلب والبصر لما اشتركا بالإدراك من جميع الجوانب الست، جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما، الختم الذى يمنع من جميع الجهات، فإن الأذن تسمع الصوت من أى جهة كان من الجهات كما يدرك القلب الشىء فى أى جهة كان، ولذلك قلنا إنه معطوف على قلوب، ولم نقل إنه خبر لغشاوة، فتعطف عليه على أبصارهم، وأيضا يدل على أنه معطوف على قولهعلى قلوبهم لا خبر لغشاوة قوله تعالى

وختم على سمعه وقلبه

فجمع القلب والسمع فى الختم ويدل على ذلك أيضا الوفاق على الوقف عليه، والإضافة فى سمعهم للحقيقة أو للاستغراق فكأنه جمع كما جمع القلب ولو أفرد القلب على نية تلك الإضافة لجاز، ولكن خص السمع بالإفراد لأنه فى الأصل مصدر يستعمل فى مقام الأذن، والكلام فيها والمصدر يكفى بلفظ المفرد مع أنه لا يتوهم الإفراد فيه. والقلب ولو كان إفراده لا لبس فيه لكنه مصدرا مستعملا، فى مقام القلب الذى به يعقل، بخلاف السمع فإنه يقال سمع بأذنه سمعا، ولا يقال قلب بقلبه قلبا، ولو كان أيضا فى الأول مصدرا. والسمع بمعنى الأذن ويجوز إبقاؤه على المعنى المصدرى، فبقدر مضاف أى على حواس شمعهم أو آلات سمعهم أو نحو ذلك مثل أن تقول وعلى مواضع سمعهم وهى داخل الأذن الذى خلق الله سبحانه فيه إدراك الأصوات. ولفظ السمع يطلق على إدراك الصوت، وقد يطلق مجازا على القوة السامعة الموضوعة داخل الأذن، وعلى الأذن. ولعله المراد فى الآية، لأنه أشد مناسبة للختم فإن الذات مثل الإناء أشد مناسبة له من المعانى ولهذه العلة يختار تفسير القلب بالعضو المخصوص، وهو محل العلم. وقد يطلق علىالمعرفة كما قال بعض فى قوله عز وجل

إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب

وعنه - صلى الله عليه وسلم -

" إن العبد إذا أذنب نكتت نكتة سوداء فى قلبه. فإن تاب وفزع واستغفر صقل قلبه، وإن زايد زادت حتى تعلق قلبه "

لذلك الرين الذى قال الله تعالى

كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون

رواه الطبرى وقال مختصر هذا الحديث يدل على أن الختم على الحقيقة. { وعلى أبصارهم غشاوة } على أبصارهم خبر، وغشاوة مبتدأ، أى على أبصارهم تغطية مشتملة عليها، حدثت بانهماكهم فى التقليد وإعراضهم عن النظر الصحيح فلا يبصرون إبصارا نافعا مؤثرا في القلب كأنه غطى على عيونهم، فكانت لا تبصر أصلا، كما كانت أسماعهم. كأنه غطى عليها، فكانت لا تسمع إذ كانوا لا يستمعون الآيات وينفرون عنها، وإذا سمعوا لم يؤثر فيهم كأنهم لم يسمعوا. ولما كان البصر يختص إدراكه بما قابله فقط ولو من جنب، ولا يدرك ما لم يقابله، جعل المانع للأبصار عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة. والأبصار جمع بصر، وهو إدراك العين، وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة الموضوعة فى العين، وعلى العين. ولعل المراد فى الآية العين لأنها من حيث إنها ذات كوعاء أنسب فى الختم وإنما أميلت ألف أبصارهم والفتح المتولدة هى منها مع أن الصاد قبلها، والمفتوح هو الصاد لأن الراء المكسورة تغلب حرف الاستقلاء لما فيها من التكرير، كأنها حرفان مكسوران، وجملة على أبصارهم غشاوة من المبتدأ والخبر مستأنفة أو حال، أو معطوفة على الجملة الفعلية عطف اسمية على فعليه، ويجوز على مذهب الأخفش المجيز أن يرفع الظاهر فاعلا ولو لم نعتمد أن يكون غشاوة فالعلا لقوله على أبصارهم، لنيابة الظرف على قوله عن، ثبتت فيكون عطف فعلية على فعلية، وقرىء بنصب غشاوة بمحذوف، أى وأثبت على أبصارهم غشاوة، أو واجعل على أبصارهم غشاوة، فيتعلق على بذلك المحذوف، أو النصب بختم على نزع الخافض، وعلى متعلق بختم المذكور بواسطة العطف، أو بختم محذوفا أى ختم بغشاوة، قرىء غشاوة بكسر الغين وفتح التاء وبفتحهما وبضمهما، وغشاوة بكسر الغين وإسكان الشين وضم التاء، وغشاوة بفتح الغين وإسكان الشين مع ضم التاء، ومع فتحها، وعشاوة بالعين المهملة مكسورة، وضم التاء من عشى يعشى كعلم يعلم إذا صار يعشى لا يبصر ليلا، أو من عشاء يعشو كدعا يدعو إذا جعل نفسه كأنه أعشى، قال جل وعلا

ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا

{ ولهم عذاب عظيم } اللام للاستحقاق أى أعد الله لهم عذابا عظيما استوجبوه بكفرهم، والعذاب الإيلام الفادح، ويطلق أيضا على الألم الفادح، وهما جائزان فى الآية وغيرها، والعذاب والتعذيب مستعملان بالوجهين، وسواء كان ذلك الإيلام أو الألم عقابا كما فى الآية عما يردع الجانى من المعاودة أو لم يكن عقابا كذلك، وأصلهما أن يستعملا عقابا، وأصل هذا الأصل أن يستعملا بمعنى الإمساك عن الشىء، ويقال ماء عذب أى مبعد عن العطش ممسك عنه، ولذا يقال نقاح أى يكسر العطش، وفراث أى يسكن العطش، والعذاب أعم من العقاب والنكال، أما العقاب فواضح، وأما النكال فلأنه إما بمعنى العقاب، وإما بمعنى الإمساك عن الشىء وقيل العذاب مأخوذ من التعذيب الذى هو إزالة العذاب، كما يقال قذيت العين بالتشديد، بمعنى أزلت قذاها وأخرجته، فإن التفعيل والإفعال يكونان للسلب، يقال أقردت البعير أزلت قراده، وأعذرن خالدا أزلت عذره، والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فالعظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، فالحقير إذا كان مقابلا للعظيم، والصغير مقابلا للكبير، كان العظيم فوق الكبير لأن العظيم لا يكون حقيرا، والكبير قد يكون حقيرا، كما أن الصغير قد يكون عظيما، والمراد أن لهم على كفرهم عذابا يقصر عنه ما عداه من العذاب، ويحتقر بالنسبة إليه. وتنكير عذاب عظيم، وغشاوة للتعظيم كأنه قيل إن على أبصارهم نوع غشاوة، وليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامى عن الآيات التى تظهر لمن دونهم فى الفهم والفصاحة، ولهم من العذاب نوع لا يعلم غايته إلا الله.

[2.8]

{ ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر } ذكر الله سبحانه وتعالى أولا من آمن بظاهره وباطنه، وذكر ثانيا من كفر بظاهره وباطنه، وذكر ثالثا فى هذه الآية من آمن بظاهره وكفر بباطنه، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله تعالى، لأنهم كفروا بما كفر به من كفر بظاهره وباطنه من إنكار القرآن والرسالة، وإثبات الشريك والصاحبة والولد، وزادوا بسيمة الكذب والاستهزاء والخداع، وإفشاء سر المؤمنين، وعظم ضررهم فى الدين، لأنهم عدو مخالط متلبس بالصديق لا متميز معروف يحذر منه، ولذلك أطال وصفهم وذمهم، وضرب لهم الأمثال، وقال

إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار

ذكروا أن الحجاج الظالم قال لجابر بن زيد رحمه الله يا أبا الشعثاء أخبرنى فيمن نزلت الآية الأولى من البقرة؟ قال فى المؤمنين. قال والثانية قال فى المشركين. قال والثالثة؟ قال فيك وفى أصحابك، يعنى المنافقين، وأشار رحمه الله إلى أن فساق الموحدين يسمون منافقين كما يسمى هؤلاء المشركون الذين آمنوا بألسنتهم فقط منافقين، وأنهم مثلهم فى المعنى ودخول النار. ومن للتبعيض، وأل فى الناس للعهد الذكرى، وهم الذين كفروا المذكورون فى قوله عز وجل

إن الذين كفروا

أى ومن الذين كفروا من لا يكفر إلا بباطنه، وأما لسانه فيقول به آمنا بالله واليوم الآخر، ويجوز أن تكون أل للحقيقة، وأصل ناس أناس، حذفت الهمزة وهى فاء الكلمة، فوزن ناس عال، ووزن أناس فعال بضم أوله، ولما حذفت عوض عنها أل ولا مانع من كونها للتعويض والتعريف جميعا، وقد تحذف أل بعد ما عوضت عن الهمزة، أو يقال تعويضها غالب لا لازم، ويدل على تعويضها أنه لا يقال الإناس بالجمع بين أل والهمزة إلا شاذ كقوله

إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا فتذرهم شتى وقد كانوا جميعا وافرينا

وهما بيتان من مجزوء الوافر، وأناس اسم جمع كرخال بضم الراء وكسرها والواحد إنسان وإنسانة، والرخيل الأنثى من ولد الضأن، وقيل هو جمع إنسان أو إنسانة، وكل ذلك من الأنس ضد الوحشة، لأن الناس يأنسون ويؤنسون، أو من أنس بمعنى ظهر، لأن الناس ظاهرون مبصرون، كما سموا بشرا لظهروهم ضد تسمية الجن جنا لاجتنانهم، أى استتارهم أو سموا بشرا لظهور بشرتهم، أى جلدتهم، بخلاف سائر الحيوان فإن جلدتها مغطاة بصوف أو شعر أو وبر أو ريش، وقيل الناس بوزن فلع بفتح الفاء واللام وتأخير العين مأخوذ من النسيان، لأنهم عهد إليهم فنسوا ولأنهم خلقوا على أن ينسوا، وعلى هذا فلا حذف، وأصله نسى بفتح النون والسين المنونة كفتى قدمت الألف على السين، وأصل تلك الألف ياء متحركة فى الأصل، وبعد التقديم قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولكن حركتها فى الأصل بحسب الإعراب، وبعد التقديم فتحه، وقيل الناس بوزن فعل بفتح الفاء والعين وتأخير اللام، وأصله نوس بفتح النون والواو، وتحركت الواو وانتفح ما قبلها فقلبت ألفا وهو من ناس ينوس إذا تحرك، ومن نكرة موصوفة إذ لا عهد تكون به اسما موصولا كأنه قيل، ومن الناس ناس قائلون آمنا بالله وباليوم الآخر، لأنا لو جعلنا أل فى الناس للعهد فى قوله عز وجل

إن الذين كفروا

ولكن القائلون المذكورون لم يتميزوا فيهم بتعيين ولا بصفة من الصفات تميزهم عن سائر من كفر، هذا ما قلته، وقال القاضى إنه إذا قلنا أل فى الناس للعهد كانت موصولة أريد بها ابن أبى وأصحابه ونظراؤه، وأنهم من حيث صمموا على النفاق دخلوا فى عداد الكفار المختوم على قلوبهم، وأن اختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادة تخلتف فيها أبعاضها، وعلى هذا الوجه تكون الآية تقسيما لقوله

إن الذين كفروا

وعلى الوجه الأول وهو جعل أل فى الناس للحقيقة لا يكون تقسيما، لكن الأقسام على كل حال ثلاثة مؤمن خالص، وكافر خالص، ومنافق مؤمن بلسانه فقط آمنا بالله واليوم الآخر والرسول والقرآن والملائكة وغير ذلك، وإنما خص الإيمان بالله واليوم الآخر لذكر تخصيصا لما هو المقصود الأعظم من الإيمان، وإظهارا لما ادعوه من أنهم اشتملوا على الإيمان من جانبيه، وحازوه كله وإعلاما بأنهم منافقون فيما ظنوا أنهم فيه مخلصون، فكيف فيما قصدوا فيه النفاق، لأن المراد بقوله

من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر

قوم من اليهود، كابن أبى وأصحابه ومن شايعهم من غير اليهود، وهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيمانا خالصا فى زعمهم، لكنه فى الحقيقة منتف، لأن الإيمان بشىء على غير صفته ليس إيمانا على الحقيقة، فإنهم آمنوا بالله وشبهوه بخلقه فى العباء والحلول، واتخاذ الصاحبة سبحانه عن ذلك وعن كل نقص، فكأنهم لم يؤمنوا به، بل بغيره، فإن من اتصف بذلك لا يكون إلها، وآمنوا باليوم الآخر، ولكنهم قالوا إن الجنة لا يدخلها غيرهم، وإن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة ويظنون أن إيمان المؤمنين مثل إيمانهم، وأيضا خص الإيمان بالله واليوم الآخر بالذكر بيانا لتضاعف خبثهم وإفراطهم فى الكفر، لأن ما قررنا عنهم فى زيغ إيمانهم بالله واليوم الآخر لا يكون إيمانا ولو صدر عنهم على نيتهم المذكورة الزائغة فقط، فكيف يكون إيمانا وقد قالوا تمويها على المسلمين، وتهكما بهم، وإنما أعاد الباء فى قوله وباليوم الآخر إعلاما بأنهم ادعوا الإيمان بالله على الأصالة والاستحكام، وباليوم الآخر على الأصالة والاستحكام كذلك، والقول اللفظ المفيد، ويطلق على التلفظ بكل ما وضع وضعا بلغة عربية ولو غير مفيد، أو غير مركب أو بلغة غير عربية، أو بلفظ مهمل، هذا فى اللغة، لأنه حكاية لما نطق به اللسان كائنا ما كان، وأما تخصيصه لغير المهمل فإنما هو عندى فى اصطلاح النحويين، ويطلق على الكلام النفسى وعلى الرأى مجازا، واختيار بعض المنطقتين أنه حقيقة، ويطلق القول بمعنى المقول أيضا على المعانى المذكورة كلها إطلاقا للمصدر، على معنى اسم مفعول، واليوم الآخر وقت البعث إلى ما لا نهاية له، وقيل إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة.

{ وما هم بمؤمنين } الضمير عائد إلى من باعتبار معناه، لأنه واقع على جماعة فأتى به ضمير جماعة، واعتبر لفظه فى يقول فكان فاعل يقول ضمير المفرد وهو مستتر، والمعنى إن ما ادعوه من الإيمان غير ثابت، لأن الإيمان بالشىء على غير إيمان به، وأصل الكلام أن يقال وما آمنوا، ليطابق قولهم آمنا فى التعريض للتصريح بشأن الفعل الذى هو الإيمان، وشأنه فى قوله { ومن الناس من يقول آمنا } إثباته فى قولك وما آمنوا، نفيه دون التعريض للتصريح بشأن الفاعل، ولو صرح به لقيد، ومن الناس من يقول إنا من أهل الإيمان بالله وباليوم الآخر، أو إنا مؤمنون بالله وباليوم الآخر، أو نحن من أهل الإيمن بالله وباليوم الآخر، أو نحن مؤمنون بالله واليوم الآخر، ونحو ذلك كما صرح بشأن الفاعل فى قوله { وما هم بمؤمنين } ، وإنما لم يأت بالمطابقة المذكورة، بل صرح بشأن الفاعل فى قوله { وما هم بمؤمنين } دون قوله { ومن الناس من يقول }... إلخ تأكيدا ومبالغة فى التكذيب، لأن إخراج ذواتهم من جملة المؤمنين، إذ قال { وما هم بمؤمنين } أبلغ من نفى الإيمان عنهم فى صورة ماضى الزمان بقولك وما آمنوا فلقصد التأكيد والمبالغة أكد النفى بالباء إيضاح المبالغة، والتأكيد فى تكذيبهم فى ادعاء الإيمان أنه لو قيل وما آمنوا لكان نفيا للملزوم ابتداء، ولما قال { وما هم بمؤمنين } كان نفيا للملزوم، وبانتفاء لازمه لا ابتداء وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء ملزومه، فكونهم مؤمنين لازم، وكونهم آمنوا إيمانا صادقا ملزوم، وقد نفى اللازم، فانتفى الملزوم، وإن قلت قولك هم مؤمنون جملة إسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبات، فاذا أدخلت النفى عليها كان نفيا لمدلولها الذى هو الثبات للنفى، وتأكيده قلت إنما يكون نفيا لمدلولها الذى هو الثبات، إذا اعتبر الثبات بطريق التأكيد والدوام ونحوهما، ثم نفى، والآية ليست كذلك، بل اعتبر النفى فيها أولا ثم أكد بالباء وجعل بحيث يفيد إثبات الدوام كما أن قولك ما أنا سعيت فى حاجتك لاختصاص النفى، كأنك قلت ما سعيت فيها، بلى سعى فيها غيرى، لا نفى الاختصاص، إذ لم ترد ما سعيت فيها وحدى، بل مع غيرى، فالآية من تقييد النفى لا من نفى التقييد.

وإن قلت فهل المراد بقوله تعالى { وما هم بمؤمنين } نفى ما أثبتوه من الإيمان بالله وباليوم الآخر، أو نفى الإيمان مطلقا؟ قلت أيحتمل أن يكون المراد نفى الإيمان عنهم مطلقا، أشاروا إلى ثبوت الإيمان لهم كله بإثباتهم إياه لأنفسهم بقطريه اللذين هما الإيمان بالله واليوم الآخر، فنفاه الله عز وجل عنهم كله. ويحتمل أن يكون المراد الاقتصاد فى الظاهر على نفى ما أثبتوه فى الظاهر وحده، فكأنه قيل وما هم بمؤمنين بالله ولا باليوم الآخر، فحذف لكونه يعلم من كون الكلام ردا لقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر، ومن نطق بالشهادتين وفرغ قلبه عما يوافقهما وعما ينافيهما، أو فرغ عما يوافقهما فقط لم يكن مؤمنا بذلك النطق خلافا للكرامية. والآية تدل على أن من ادعى الإيمان، وخالف قلبه ادعاءه لم يكن مؤمنا وتقدم الرد على الكرامية، ولا تكون الآية نصا فى الرد عليهم، لأنها فى الادعاء، وخلافهم فى النطق بالشهادتين دون موافقة القلب، وظاهر الشيخ هود رحمه الله إن إيمان هؤلاء كان من قلوبهم، وإنما نفى الله عنهم الإيمان لعدم وفائهم بالأعمال، إذا قال أقروا الله بألسنتهم وخالفت أعمالهم وما هم بمؤمنين حتى يستكملوا دين الله، ويوفوا بفرائضه كإبراهيم الذى وفى، يعنى أكمل الإيمان وأتم الفرائض... انتهى. وسياق الآية يدل على كفرهم بقلوبهم، إذ وصفهم الله بالتكذيب، فتقول مراده رحمه الله أنهم أقروا لله بألسنتهم فقط دون قلوبهم، فاحترز عن ثبوت الإيمان فى قلوبهم، بقوله بألسنتهم، وصرح بنفى الأعمال بقوله وخالفت أعمالهم، أو أراد بقوله خالفت أعمالهم أنه خالفت أعمال قلوبهم، وأعمال جوارحهم إذ لم يعتقدوا فى قلوبهم ما فى ألسنتهم والعمل الصالح فى القلب اعتقاده الحق.

[2.9]

{ يخادعون الله والذين ءامنوا } الخدع بإسكان الدال مع كسر الخاء قبلها أو فتح الخاء أن توهم غيرك خلاف ما نخفيه من المكروه الذى تريد إيقاعه فيه إخفاء تنزله به عما هو بصدده من الاستعداد والمدافعة لو علم، وقد يطلق على فعل المكروه من حيث لا يشعر المفعول فيه ولو بلا إيهام، لأن أصله الإخفاء، ومن المخدع للخزانة بضم الميم وكسرها، وهو بيت فى بيت، ويحتمل أن يكون سمى بذلك باعتبار أن بانيه كأنه جعله خادعا لمن رام تناول ما فيه، وقد بينته فى كتاب الصلاة فى شرح النيل، ومنه الأخدعان لعرقين خفيفين فى العنق، فاستعمل المخدع والأخدع فى مطلق الإخفاء، ومن استعماله بمعنى إيهام خلاف ما يخفى من المكروه للتنزيل على الاستعداد قوله خدع الضب، وخدع كفرح، ويقال أيضا خدع الضب إذا استتر فى بيته، ثم أوهم السائل إقباله إلى الباب الذى رصده فيه، ثم خرج من باب آخر، والوصف خادع كضارب، وخدع كفرح، ويقال أيضا بمعنى مطلق الاستتار، وأما المخادعة والخداع اللذان اشتق من أحدهما يخادع الذى فى الآية، فبمعنى أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه على الحد السابق، ويوهمك غيرك خلاف ما يخفيه من المكروه كذلك، لأن المفاعلة والفعال بين متعدد، وذلك لا يجوز فى حق الله تعالى لا يخفى عليه شئ فلا يصح لهؤلاء أن يدعو إخفاء شئ عليه، ولأنهم لم يقصدوا إضراره خفية ولا جهرا إذ لا يلحقه ضر ولا نفع، وهو الغنى على الإطلاق، ولأنه تعالى لا يوهم غيره تنزيلا له، لأنه إنما يفعل لذلك من عجز عن المقابلة بما يكره، فتحمل الآية على أنه لعلهم اعتقدوا تجويز أن يكون الله مخدوعا مصابا بمكروه من وجه خفى عنه، وأن يدلس عباده ويخدعهم، لأن إيمانهم به تعالى نفاق، فليسوا عارفين بصفاته، ولا بأنه لا يخفى عنه شئ، ولا بأنه غنى عن فعل القبيح. وإما على الاستعارة التمثيلية التبعية إذ شبه متعددا بمتعدد لجامع منتزع من متعدد شبه إظهارهم الإيمان، وإخفاء الكفر وإجراء الله عز وجل حكم المؤمنين عليهم عالما بكفرهم، مستدرجا لهم، وامتثاله مع المؤمنين صلى الله عليه وسلم. أمر الله سبحانه وتعالى فى إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام. عليهم جزاء على صنعهم بالمخادعة التى تقع بين اثنين من كل واحد للآخر، فسمى ذلك باسم المخادعة والخداع، فاشتق منه يخادع، ووجه الشبه الجامع وجود أمور مخفاة وأمور مظهرة تخالفهما، كذا ظهر لى، وإما على تقدير مضاف أى يخادعون رسول الله والذين آمنوا، فعلى الوجهين الأولين يكون رسول الله داخلا فى لفظ المؤمنين على هذا الوجه الثالث لا يدخل فيه لأنه مقدر كما ترى، وإما على أن معاملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، معاملة الله سبحانه وتعالى، لأنه خليفة الله سبحانه وتعالى، والمجازى فى الهيئة التركيبية، وهو مجاز بالحذف، وكان بعد الحذف فى النسبة الإيقاعية إيقاع نسبة المخادعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما حذف المضاف كان ظاهر الكلام إيقاعها عليه تعالى عن ذلك وعن كل نقص، وهذا الوجه قول الحسن بن أبى الحسن، يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضاف الأمر إلى الله تجوزا لتعلق رسوله به، ويدل لهذا الوجه قوله جل وعلا

من يطع الرسول فقد أطاع الله

وقوله تبارك وتعالى

إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم

كما قال قاتل بنو فلان السلطان، والمراد أنهم قاتلوا من قام مقامه فى حضور القتال وتدبيره وجنوده، وإما على أن ذكر الله لقوة الاختصاص والمكانة، وللتمهيد به لذكر ما يختص به، وهم المؤمنون. كما يقال أعجبنى زيد وعلمه، فالأصل أعجبنى علم زيد، ويخادعون المؤمنين، ولما كان للمؤمنين عند الله منزلة عظيمة ذكر الله قبل ذكرهم، ومن ذلك النوع المفعول الأول من باب علم، والمفعول الثانى من باب اعلم، فان المقصود بالذات فى قولك علمت زيدا فاضلا أنما هو معرفتك بفضل زيد لا معرفة زيد فى ذاته، والمقصود بالذات فى قولك أعلمت عمرا زيدا فاضلا إطلاعك عمرا على فضل زيد لا على ذاته، وإن قلت فهل يجوز أن يراد بلفظ الجلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. مجازا؟.. قلت لا يجوز للإجماع على أن قولك الله لا يطيلق على غيره سبحانه وتعالى حقيقة ولا مجازا، وإما على أن المفاعلة ليست على بابها، بل لموافقة المجرد، وكأنه قيل يخدعون الله والذين آمنوا، بإسكان الخاء، وفتح الياء قبله، لكن هذا الوجه إنما يكفى فى دفع أنه سبحانه وتعالى يعجز عن الإضرار جهرا - تعالى عن ذلك - فيبقى البحث كيف يخدعونه، وإنما يخدعون من تخفى عليه الأشياء. فيجاب بأحد الأوجه السابقة عن هذا البحث، ويدل على أن المفاعلة ليست على بابها قراءة أبى حيوة يخدعون، بفتح الياء وإسكان الخاء، ويدعل أيضا على أنها ليست على بابها أن قوله عز وجل { يخادعون } بيان لقوله

يقول آمنا بالله

أو استئناف بذكر ما هو الغرض فى الخدع، وإيضاح الدلالة أنهم إنما يقولون

آمنا بالله وباليوم الآخر

للمؤمنين، كأنه قيل

ومن الناس من يقول

للمؤمنين لا لله، وهذا لا يناسبه أن قال يخادعون الله على حقيقة المفاعلة، اللهم إلا بأحد الاحتمالات السابقة، والمراد بالدلالة المذكورة المناسبة، ووجه الاستئناف أن ذلك بمنزلة أن يقال ما العلة فى ادعائهم الإيمان كاذبين؟ فيجاب بأن العلة فى ذلك إرادتهم الخدع، وإن قلت إذا كان المراد غير المفاعلة فلم جاء اللفظ بصيغتها؟.

. قلت للتأكيد، لأن صيغة المفاعلة وصفة الاجتهاد كل من المتقابلين أن يغلب الآخر ويقوى فعله على فعل الآخر، وحينئذ يقوى داعى الاجتهاد ليكون غالبا، والفعل الذى هو بهذه المنزلة يكون أبلغ وأحكم من الفعل الذى يفعله الفاعل وحده بلا مبالغة لغيره، فاستعملت صيغته فى التأكيد والقوة، ولو خرجت عن حقيقة المفاعلة وعرضهم فى الخدع أن ينجو مما يلحق الكفار من قتل، وسبى وغنم واستعباد وجزية وذل، وأن يكرمهم المؤمنون بما يكرم به بعض المؤمنين بعضا، ويحسن إليهم ويعطونهم من المغانم، وأن يطلعوا على أسرار المؤمنين بمخالطتهم، وينقلونها إلى أحبائهم الكفرة الذين بينهم وبينهم مواصلة بما أحب كل من الآخر، ولم يميزهم الله والنبى للمؤمنين لمصلحة كسر شوكتهم، وإقامة الفتنة، ودفع أن يقول قائل إن محمدا وأصحابه يجفون من ألفى إليهم السلم وغير ذلك، كذا ظهر لى وإبليس أشد فسادا وقد أبقاه الله جل وعلا للملائكة. { وما يخدعون إلا أنفسهم } المراد بأنفسهم ذواتهم لا النفس الأمارة بالسوء، كأنه قيل وما يخادعون إلا إياهم، فالمفاعلة ليست على بابها، بل هى بمعنى الفعل كأنه قيل وما يخدعون إلا أنفسهم، بفتح الياء وإسكان الخاء، كما قال الكسائى وحمزة وابن عامر وعاصم، ولكن أتى بصفة المفاعلة فى القراءة الأولى، وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو لتأكيد المعنى، وأن دائرة ذلك الخداع العظيم راجعة إليهم وضررها محيط بهم، بأن يفضحهم الله سبحانه لنبيه، ويعاقبهم فى الدنيا والآخرة، ولا يصل الله سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا المؤمنين، ويدل على التأكيد قراءة يخدعون، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال مشددة، وإسقاط الألف بينهما، فإن التشديد فيها للمبالغة، ولا مفاعلة فيها، ويدل عليه أيضا قراءتهم يخدعون، بفتح الياء والخاء وكسر الدال مشددة، وإسقاط الألف، بوزن يفتعلون، ومن معانى الافتعال التأكيد، وأصلها يختدعون، بإسكان الخاء، ونقلت إليها حركة التاء، وأبدلت التاء دالا وأدغمت الدال فى الدال، وإن قلت كيف يخدع الإنسان نفسه والخدع إنما يتصور فى من لم يعلم؟ وهم يعلمون فى زعمهم أن ما يفعلونه لا يضرهم؟ قلت شبه فعلهم الشىء الموقع لهم فى المهالك، وهم لا يعلمون أنه يوقعهم فيها بفعل الإنسان شيئا يضر الآخر، بحيث لا يعلم به الآخر، ويدل أيضا على عدم حقيقة المفاعلة قراءة وما يخدعون، بالبناء للمفعول، وإسكان الخاء، وأما قراءة يخادعون بالبناء للمفعول، وإثبات الألف، فتأول على غير المفاعلة كما أولت قراءة نافع ومن معه، ووجه نصب { أنفسهم } على القراءتين الأخيرتين ذواتى البناء للمفعول، أنه على تقدير فى، أو عن، أى إلا عن أنفسهم، أو لا فى أنفسهم، ويجوز على القراءة كلها أن يراد بالأنفس آراؤهم أو قلوبهم أو أرواحهم، فإن النفس يطلق على ذات الشىء كما مر، وعلى القلب لأنه محمل الرافع أو متعلقها، ولأن الذات إنما تعتبر به، وهو ملكها، تصلح به وتفسد به كما فى الحديث، وتعتبر به وباللسان فى عرف، كما قيل فى أن المرء بأصغريه، وطلق على الروح أيضا، لأن الذات تنمو وينتفع بها إذا كانت الروح فيها، إذ لا نفع بميتة وعلو الدم، لأن قوام الذات بالدم، ألا ترى إذا نزف دمه من جرح مثلا مات، وعلى الماء شدة الحاجة إليه، قال الله سبحانه وتعالى

وجعلنا من الماء كل شىء حى

وعلى الرأى لأنه ينبعث من الذات، يقال فلان يؤامر نفسه بالتثنية إذا تردد بين رأيين، سموهما نفسين لصدورهما عن النفس، أو لشبههما بذاتين مشيرتين عليه فى أمر، ويقال أيضا يؤامر نفسه بالإفراد، أى رأيه سموه نفسا للعلتين، وإطلاق النفس على الرأى للشبه المذكور وهو العلة الثانية استعارة تحقيقية، وللصدور المذكور وهو العلة الأولى تسمية للمسبب باسم السبب، والنفس حقيقة فى الذات مجاز فيما عداها، لأن الذات تكون بالروح وبالقلب وبالدم وبالماء، ويجوز إبقاء المفاعلة فى الآية على بابها مجازا، ويكون النفس على هذا الوجه، هى الأمارة بالسوء، وذلك أن يشبههم فى مطاوعتهم إياها بمن يقر إنسانا، ولو كانوا لا يعلمون أن ذلك وبال عليهم، وتشبه هى فى تحديثهم بالأمانى الفارغة، ومخالفة من لا تخفى عليه خافية، بمن يقر إنسانا كذلك. { وما يشعرون } أن مضرة الخداع راجعة إليهم لتمادى غفلتهم والشعور الإحساس، ونفيه أبلغ من نفى العلم، ولذلك قال { وما يشعرون } ، ولم يقل وما يعلمون، فإنه يلوح بالمضرة اللاحقة لهم بالخداع، كالشىء الذى يحس، وأنهم كمن جعل الله فى حواسه آفة، فلم يظهر له الشىء الذى يحسه، ومشاعر الإنسان حواسه ، وأصل ذلك كله الشعر، بكسر الشين وفتحها وإسكان العين، وهو الفهم، ومنه الشعار للعلامة يعرف بها الإنسان فى الحرب أو فى غيرها، وقالت طائفة المعنى وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم فى قولهم آمنا.

[2.10]

{ فى قلوبهم مرض } أى شرك، وفى لسانهم صحة أعنى إسلاما، وذلك فى مبدأ سماعهم بالوحى وغلبة الإسلام، ثم لما قوى الإسلام وأهله، وتضافر الوحى اشتد الشرك فى قلوبهم وكثر، لأنه كلما سمعوا أمارة قوة الإسلام وأهله، أو رأوها، أو أنزلت آية، أو وقعت معجزة، أنكروا ذلك، فكثر إنكارهم، وكل إنكار من ذلك شرك، فكثر شركهم المعبر عنه بالمرض كما أخبر الله عنه بالزيادة فى قوله { فزادهم الله مرضا } أى خذلهم فازدادوا شركا مترتبا ومسببا عن الشرك السابق لهم، بزيادة نزول الآيات وأمر الإسلام، وسمى شركهم مرضا لأنه خفى فى قلوبهم، كما أن المرض يتألم به القلب، وقد لا يظهر أثره على الجسد، وقد يظهر أثره عليه ولا يتعين، فقد ترى أصفر رقيقا فيحتمل عندك أن ذلك من خلقته، وقد يتعين. وعلى كل حال فأصل المرض خفى، والذى يظهر إنما هو أثره. أو سمى شركهم مرضا لأنه يضعف دين الإسلام، كالمرض يضعف البدن، وذلك فى الجملة، لا خصوص دين الإسلام بقيد كونه فيهم، فإنه لا دين إسلام فيهم، لأنهم مشركون باطنا مسلمون ظاهرا، ومرادى بإضعافه فى الجملة أن كثرة الشرك تضعف أهل الإسلام، ودين الإسلام، وأن كل شرك قدح فى الإسلام وأبطأ له ولو قل، وإن فرضنا أن فى قلوبهم إسلاما ضعيفا، كرجل أضعفه الشك الذى يطرأ عليه، ويتردد عليه مرة بعد مرة، كان شكهم شركا يضعف ذلك الإسلام الذى فيهم، كما أن المرض المجامع للصحة فى البدن الواحد يضعفها، أو سمى الشرك مطلقا مرضا لأنه مانع من المنافع المترتبة على الإسلام فى الدنيا والآخرة، كما أن المرض مانع لذة المطعم والمشرب والمنام، بل الإسلام نفسه أمر حسن لذيذ يمنعه الشرك والشك، أو لأنه مؤد إلى تنغيص الحياة بتوقع السلب والمغنم والسبى والقتل، أو الذل والجزية فى الجملة، وإلى حياة عذاب فى الآخرة، كما أن المرض ينغص الحياة. ويحتمل أن يراد بالمرض حقيقة المرض، فإن قلوبهم تتألم بذكر الإسلام وأمره وقوة أهله، وزوال الأمر من أيديهم من الرياسة وغيرها حسدا منهم، فإن الحسود يعذب نفسه لحسده، وكلما ازداد ذلك ازدادوا تألما وحسدا، وكلما ازدادت التكاليف ازدادوا ذلك إذا رأوا المؤمنين متشبثين بالتكليف بها لا يضعفون عنها، وأيضا قلوبهم قد تلأمت بالخوف والضعف والذل حين ولو أمر المسلمين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى ازدياد وتضاعف نصر على الأعداء، وتبسطا فى البلاد، فذلك مرض حقيقى ويحتمل أن يراد الوجهان معا فى الآية، لأن المرض فيهما حقيقى، وإما أن يرادا معا أو أحدهما مع ما مر أولا، من تخريج المرض على المجاز، فلأنه جمع بين الحقيقة والمجاز، ولو أجازه بعض، وضابط ذلك ان المرض حقيقة فيما يخرج به البدن عن الاعتدال الخاص، ويوجب الخلل فى أفعال البدن أو فى خروج البدن عن ذلك، ومجاز فى المعاصى النفسانية كالجهل والشرك والحسد، وحمل الآية على المجاز أولى لأنه أبلغ من الحقيقة، وإنما أسند الله سبحانه وتعالى الزيادة إلى نفسه لأنها بمعنى خذلان خلقه الله لهم.

فاجتازوه ولا جبر هناك. وقال فى الكشاف أسند الزيادة إلى نفسه لأنه سبب فى الوحى إذ أنزله، فكان مرضهم بإنزاله، وكذا فى سائر ما فعله مما يغنمون به، كنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان تفسير الزيادة بالخذلان، المتسبب عنه المرض، أو بخلق المرض وهو الحق، وقرأ أبو عمرو فى رواية الأصمعى فى قوله { فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } بإسكان الراء فى مرض الأول والثانى، وقيل فى قوله { فزادهم الله مرضا } أنه دعاء عليهم على عادة الناس فى الكلام، وليس على الحقيقة. وقال بعضهم كلما كان بلفظ دعاء من الله - عز وجل - فإنما هو بمعنى إيجاب الشىء، لأن الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهى فى قبضته. { ولهم عذاب أليم } أى مؤلم، بفتح اللام، أسند الألم إلى العذاب بطريق البناء للمفعول مبالغة، فذلك من النسبة الإيقاعية، كأنه قيل ولم عذاب أوجعه الله، ويجوز أن يكون بمعنى متألما، بكسر اللام، بإسناد الألم إلى العذاب بطريق البناء للفاعل مبالغة، فذلك من النسبة الوقوعية، كأنه قيل عذاب متوجع، فهو فعيل بمعنى مفعول، أو بمعنى فاعل، ومما يحتمل الوجهين قول عمر ابن معد يكرب الزبيدى

وخيل قد ألفت لهم بخيل تحية بينهم ضرب وجيع

أى رب خيل قد تقدمت إليهم بها تحييهم الضرب بالسيوف لا الكلام باللسان، فالمراد بالخيل الفرسان للمجاورة وللحلول فوقها، أو بتقدير مضاف أى أصحاب خيل أو راكب خيل، وخيل الثانى من وضع الظاهر موضع الضم، ومن الثانى جد جده إذا بالغ فى الاجتهاد حتى نسب الاجتهاد إلى اجتهاده، ويجوز أن يكون أليم فعيل للنسب كأنه قيل عذاب ألمى أو من ألم المتعدى كألم، فهو بمعنى فاعل متعد، كأنه قيل عذاب مؤلم إياهم، بكسر اللام، والوجهان الأولان مجاز، والآخران حقيقة. واعلم أن المتألم هو القلب لا الحسد، ولذا تعذب الكفار فى النار وهم بأجسامهم التى أقرت بالله وصدقته، ولو أنكرت قلوبهم، ويدل لذلك أن السكران والنائم لا يتألمان بما يفعل فيهما، ما دام النوم والسكر، ويتألم النائم فى نومه بما يراه من حلم شىء. والله أعلم. { بما كانوا يكذبون } بسبب كونهم يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما مصدرية والباء سببية، ومفعلو يكذب محذوف، ويجوز كون ما بمعنى الكون اسما موصولا، عائدها مفعول مطلق ضمير محذوف، أى بالكون الذى كانوه يكذبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتشديد على الوجهين للتعدية، ولك أن تقول التشديد للمبالغة، فلا يقدر مفعول، فالتكذيب بمعنى المبالغة فى الكذب، ويدل له قراءة عصام وحمزة والكسائى يكذبون بفتح الياء وإسكان الكاف وتخفيف الذال، أى بسبب كونهم كاذبين، ويجوز أن يكون التكذيب للتكثير، وتدل له هذه القراءة أيضا.

ووجه الدلالة فيها عليهما أنها لا قبل تقدير المفعول به، لأن الكذب فى مثل هذا المقام لازم، والمبالغة تكوين الفعل عظيما، أو التكثير إيقاع أفعال كثيرة، ولو أوقعها واحد يقال بين الشىء، أى أظهر ظهورا عظيما، وموتت البهائم أى كثر موتها، ويجوز كون التشديد من كذب الوحشى، بتشديد الذال، واللزوم بمعنى جرى شوطا ووقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متردد، والمشرك أيضا قد يكون كذلك، وهو مأخوذ من كذب بالتشديد والتعدى، كان ذلك الوحشى والمنافق والمشرك يكذبون رأيهم وظنهم، ويقال للمتردد، مذبذب.. قال صلى الله عليه وسلم

" مثل المنافق كمثل الشاة العابرة بين الغنمين تغير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة "

، ويجوز كون الباء للبدلية، أى لهم عذاب أليم جزاء كونهم يكذبون وعوضا له، ومعناها على الوجه الآخر أنه جزاء ترددهم إذ لم يجزموا، وكان الواجب الجزم بالحق، وفى الآية تحريم الكذب والتكذيب، وتقبيحهما إذا وعد عليهما العذاب الأليم، واختلفوا فى الصور التى قيل بجواز الكذب فيها، فقيل لا يجوز تعمده فيها ولا إرساله بعقله، بل يجوز فيها بقصد المعرضة وهو ما حصلته من كلام الكشاف وأنوار التنزيل، وعليه فتحمل الآثار التى وردت بلفظ جواز الكذب على صورة الكذب لا على حقيقته، لقرينة أن فى المعارض لمندوحة عن الكذب، وقيل يجوز تعمد الكذب فيها بلا تأويل بتعريض، ومن تلك الآثار قوله صلى الله عليه وسلم

" كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثا الرجل يكذب فى الحرب فإن الحرب خدعة، والرجل يكذب على المرأة فيرضيها، والرجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما "

رواه الطبرانى فى الكبير، وقوله صلى الله عليه وسلم

" الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم أو دفع به عن دين "

رواه الطبرانى فى الأوسط، وبعض قصر ذلك وما أشبهه من الآثار على ظاهرها فقط، وبعض توسع فأجاز كلها فى معنى ذلك، وجعل الحديثين ونحوهما تمثيلا لا حصرا فأجاز الكذب للإنسان يرضى به والده أو والدته ونحوها، وصاحبه ورحمه وجاره، وحيث خاف على دمه أو ماله أو بدنه أو خاف ذلك على غيره، وقيل لا يجوز فى غير ما ورد إلا بمعرضة. وقال فى فتح الجليل الكلام وسيلة إلى المقصود، فكل مقصود محمود إذا أمكن التوصل إليه بالصدق، فالكذب فيه حرام، وإن لم يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحا، وواجب إن كان واجبا.

انتهى. والحق أنه لا يجوز فى المباح الذى لم يضطر إليه إلا بتعريض، وهو اللفظ المشار به إلى جانب والغرض جانب آخر، وقيل تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر وهو خلاف التصريح، وسمى تعريضا لأن فيه إشارة إلى عرض أى جانب أو تعرضا للمطلوب فى الحقيقة أو إعراضا عنه بحسب ظاهر اللفظ، وفى حديث الشفاعة لأهل الموقف من رواية البخارى ومسلم

" يقول إبراهيم إنى كذبت ثلاث كذبات "

وذكر قوله فى الكذب

هذا ربى

وقوله

بل فعله كبيرهم هذا

وقوله

إنى سقيم

وفى رواية إثبات قوله لامرأته " قولى للملك إنك أختى " وإسقاط قوله

هذا ربى

وفى رواية كذلك أنه قال للملك " إنها أختى " قال صلى الله عليه وسلم

" ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله "

أى حاول بها عن دين الله، فقال القاضى الحق أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معارضة الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استصغارا لنفسه عن الشفاعة مع وقوعها، لأن من كان أعرف بالله أقرب إليه منزلة كان أعظم خوفا، والكذب الإخبار عن الشىء بخلاف ما هو به عمدا.

[2.11]

{ وإذا قيل } أى قال المؤمنون أو الله والنبى والمؤمنون، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختار الفخر التخريج على أحدهما أو الله عز وجل، أو النبى والمؤمنون، أو الله والنبى والمؤمنون، بإخلاص كسرة القاف من قبل، وكذا حيث وقع وكذا غيض وجىء، وقال الكسائى وهشام ذلك كله بإشمام الضم لأوله. { لهم } أى المنافقين المذكورين وقد علمت أن بعضا يقول أن الكلام على اليهود. { لا تفسدوا فى الأرض } لا تفعلوا ما يؤدى إلى الفساد، فذلك تعبير بالنهى عن المسبب، بدلا للتعبير بالنهى عن السبب، أو تعبير بالنهى عن المسبب بدل التعبير بالنهى عن السبب، أو تعبير بالنهى عن اللازم بدل التعبير بالنهى عن اللزوم، فذلك مجاز مرسل تبعى، فالفساد مسبب ولازم، وفعل ما يؤدى إليه وما سبب ولزوم وهكذا يظهر لى معنى الآية، وإن شئت فقل سمى فعل ما يؤدى غلى الفساد فسادا من باب تسمية الشىء باسم ما يؤول إليه، واشتق منه تفسد بمعنى تفعل ما يؤدى إلى الفساد، وهو مجاز مرسل تبعى ونهى عنه، والداعى إلى هذه الأنواع المجازية أن الإفساد فى اللازم هو قتل الأنفس والإضرار بها، وقتل الدواب والإضرار بها، وقتل الشجر والنخل والزرع والإضرار بها، وغصب الأموال وليسوا يفعلون ذلك حال النهى، بل يفعلون ما يترتب عليه ذلك من تهيج الحرب والفتنة بالكذب والنميمة، وإفشاء السر وغير ذلك مما يقع منهم إلى الكفار فى شأن المؤمنين، وترجيح الكفار، ومساعدتهم على المؤمنين، وإظهار المعاصى والإهانة بالدين المؤفقين فى فساد الخلق، فإن الإخلال بالشريعة يؤدى إلى التعدى إلى حق الغير، ثم ظهر فى فكرى وجه آخر، وهو أن يكون مقولا تفسدوا فى الأرض لا تخالفوا الشريعة فيها، على أن يكون مخالفة الشريعة هو نفس الإفساد فى عرض الشرع، ولو مع قطع النظر عما يؤدى إليه من الفساد المذكور فتكون الآية حقيقة عرفية خاصة مجازا فى أصل اللغة، والفساد خروج الشىء عن الاعتدال والانتفاع به، فالإفساد إخراجه عن الاعتدال والانتفاع به. { قالوا إنما نحن مصلحون } رد على من نسب إليهم الإفساد، ونهاهم بأن أنكروا أن يكونوا مفسدين، وأثبتوا الإصلاح لأنفسهم بوجه بليغ، إذا عبروا بإنما المفيدة للحصر، وهو هنا حصر أنفسهم على الإصلاح وبنوا الكلام على نحن، فكانت الجملة اسمية، ولم يقولون إنما نصلح إصلاحا بإسقاط نحن، وتكلموا بالاستئناف لا بالعطف، والاستئناف يفيد التأكيد لكونه جواب سؤال، وطلب تحقيقا أو تقديرا، والمعنى لا يصح نهيا عن الإفساد لأنه ينهى عنه من هو مفسد، ونحن لسنا بمفسدين، ما حالنا إلا إصلاح لا يخالطه شىء من إفساد وذلك أنه زين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا فليسو بمقلعين عنه، والصلاح كون الشىء معتدلا منتفعا به، والإصلاح تكوينه كذلك بعد أن لم يكن كذلك أو بعد أن كان فاسدا ضارا، والإصلاح يعم كل نافع، والإفساد يعم كل ضار، وقالوا جواب إذ لا محل له لأنه جواب شرط غير جازم، وجملة الشرط والجزاء، وأداة الشرط معطوفة على يكذبون، فهى فى محل نصب لعطفها على خبر كان، كأنه قيل بكونهم يكذبون، وكونهم إذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض، قالوا إنما نحن مصلحون أو معطوفة على يقول، سواء، فلا محل لها لأنها معطوفة على الصلة، كأنه قيل ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض.

إلخ، ومن قال الظروف وسائر الفضلات زوائد عن الجملة لا بعضها قال مرعاة المحل وعدمه إنما هو لمتعلقها، وهو هنا جواب إذا، وكذا العطف وسائر الأحكام، وما اشتهر من أن جواب الشرط غير الجازم لا محل له على الإطلاق، بناء على أن الظرف وسائر الفضلات أبعاض الجملة لا زوائد عنها، ووجه العطف على يقول أن يكون على طريق تعديد قبائحهم، ويفيد اتصافهم بما ذكر قصدوا استقلالا ويدل على أن العذاب لاحق بهم من أجل كذبهم الذى هو أدنى حالهم فى الكفر والنفاق، فكيف بسائر الأحوال، ووجه العطف على يكذبون أنه أقرب، وأنه يفيد سببيته قولهم إنما نحن مصلحون للعذاب، ويفيد أن ما يوجب الفساد يجب الاحتراز عنه لقبحه، كما يجب الاحتراز عن الكذب وفى العطف على يكذبون السلامة من الفصل من الموصول، والصلة بالبيان أو بالاستئناف، فإنك إذا عطفت { وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الإرض قالوا... إلخ } أو { قالوا... الخ } على صلة من كان صلة لها أيضا بواسطة العطف، فيؤخذ الفصل بين الموصول وما هو صلة له، وإن قلت أين الرابط بين المعطوف على خبر كان وبين اسمها إذا عطفنا على خبرها، وبين الصلة والموصول إذا عطفنا على الصلة؟ قلت هو فى قولهم وفى قالوا متعدد، فإن الآية متصلة بما قبلها ومرجع ضمائرها وضمائر ما قبلها واحد، وأما ما روى عن سلمان الفارسى أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد، فلعل المراد أن أهلها لم يأتوا كلهم، بل أتى بعضهم فقط، ويأتى الباقى ممن صفته صفة هؤلاء مشركا كان أو موحدا، فاسقا وكم فاسق موحد تنهاه عن اعتقاد أو عمل فاسد، فيقول إنه صلاح وإنى مصلح، ويجوز بأن يراد بالإفساد الذى نهوا عنه فى الآية موالاة الكفار خصوصا فيريدوا بقولهم إنما نحن مصلحون أن نواصلهم، لأنهم قرابة وأنا نصلح بينهم وبين المؤمنين، وما تقدم أولى من التعميم وأولى فى تفسير الآية فيشتمل منع الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن وغير ذلك.

[2.12]

{ ألآ إنهم هم المفسدون } هذا رد لقولهم { إنما نحن مصلحون } الذى ردوا به على من قال لهم

لا تفسدوا فى الأرض

بوجه أبلغ من الوجه الذى ردوا به، لأنه مصدر بألا التى يفتتح بها الكلام، وهى تفيد السببية، والتنبيه نوع من الاهتمام ومن التوكيد، وتفيد التوكيد مضمون الجملة كما قال ابن هشام، وذلك مستفاد منها بالذات فيها، قيل وقال القاضى والزمخشرى تفيد تحقيق ما بعدها من حيث تركبها من همزة الاستفهام ولا النافية، وهمزة الاستفهام الإنكارى إذا دخلت على النفى أفادت التحقق كقوله عز وعلا

أليس ذلك بقادر على

ولأنه قررت النسبة فيه بأن والجملة الاسمية، وتوسيط ضمير الفصل وصيغة الحصر التى هى تعريف المسند والمسند إليه، ولأنه أتى به على طريق الاستئناف على على طريق العطف، والعدول عن العطف إلى الاستئناف يقصد به تمكن الحكم فى ذهن السامع فضل تمكن لحصوله بعد السؤال والطلب تحقيقا أو حكما، ولأنه أكده بلكن المذكورة بعد، فإنها تفيد التأكيد بالذات أو بتركبها من أن، وتفيد الاستدراك، وفى الاستدراك نوع من التأكيد بيانه تدل على أن كونهم مفسدين مما ظهر ظهور المحسوس، لكن لا إحساس لهم فيدركوه، والحصر فى قولهم { إنما نحن مصلحون } ، وفى قوله عز وجل { ألا إنهم هم المفسدون } قصر موصوف على صفة قصر قلب، وقد يكون تعريف المسند والمسند إليه لقصر الصفة على الموصوف، وهو محتمل هنا فالمعنى على قصر الموصوف عليها أنهم لا يجاوزون الإفساد إلى غيره، وعلى قصر الصفة عليه أن الإفساد لم يتجاوزهم، فتخلق أفعالهم التى فيها عنه ، بل لم تخل عنه قط، ومفيد الحصر هو تعريف المسند إليه، وأما ضمير الفصل فإنما هو حينئذ لتأكيد الحصر. { ولكن لا يشعرون } أنهم هم المفسدون لاعتقادهم أن ذلك منهم إصلاح، هذا ما قلته، وقال بعض المفسرين، لا يشعرون أن الله يفضحهم، وقال بعض لا يشعرون ما أعد الله لهم من العذاب، وبه قال الشيخ هود، وعلى هذا يكون استدراكا لقوله

ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون

وعلى القول الذى قيل هذا يكون استدراكا لقوله { قالوا إنما نحن مصلحون } على أنهم قالوا إنما نحن مصلحون إسرارا لما أبطنوه وخداعا، وقد علموا أنهم مفسدون لما قالوه خداعا وإسرارا ظانين أنهم لا يفتضحون، استدراك الله عليهم لأنهم يفتضحون، هذا ما ظهر لى فى توجيه القولين، وما ذكرته أولى لقرب المستدرك عليه، وهو { ألا إنهم هم المفسدون } وسلامته من فصل وتكلف.

[2.13]

{ وإذ قيل لهم آمنوا }.. إلخ القول فيه كالقول فى

وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض

إلخ، وقوله لا تفسدوا، من باب التخلية بالخاء المعجمة، وقوله آمنوا من باب التحلية بالحاء المهملة، والتخلية مقدمة على التحلية كما جاءت الآية، لأن تحلية الشىء مع بقاء ما يسمجه ويناقض الحلية غير مؤثر بها، ونفع ونظام الدين والدنيا بأمرين الإعراض عما لا ينبغى، وهو الذى ينهى عنه قوله

لا تفسدوا فى الأرض

والإتيان بما ينبغى وهو الذى يؤمر به كقوله { آمنوا... }.. { كمآ ءامن الناس } أى إيمانا ثابتا كإيمان الناس فى الخلوص عن شوائب النفاق، وما مصدرية والمصدر مجرور بالكاف، فالتشبيه بين المفردين المفعول المطلق المحذوف المنعوت بثابت عنه الكاف مع مدخولها، والمصدر مجرور بالكاف، فالتشبيه بين مفردين المفعول المطلق المحذوف المنعوت بثابت، النائب عنه الكاف مع مدخولها والمصدر المقدر مما بعد الكاف، ولا يجوز حمل ما على أنها كافة، لأن الأصل عدم الكف، وقد أمكن عدمه بلا تكلف، ولو أجازه غيرى، ويتعين الكف فى

ربما يود الذين كفروا

إذ لو جعلت مصدرية لكان مجرور مصدرا مضافا لمعرفة إلا أن تجعل ما نكرة موصوفة واقعة على ود ، أى رب ود يوده الذين كفروا، ومتى جعلت ما فى الآية كافة، فالشبيه بين جملتين من حيث متضمنهما، وفى الآية دليل على قبول توبة الذى أظهر الإسلام، وأسر الشرك لأنهم أمروا بإيمان كإيمان الناس فى التجرد عن النفاق، فلو كان غير نافع لم يؤمروا به، واستدل بعض بها على أن الإجراء باللسان ولو لم يكن إيمانا لم يكن عبادة، والآية دلت على أنه عبادة، ولو لم يكن عبادة لم يؤمروا به، قلت يبحث بأن الإيمان الذى أمروا به إنما هو إيمان القلوب، وأما الإقرار باللسان فمرتب عليه، فإن خلص فى القلب كان ما فى اللسان عبادة وإلا لم يكن عبادة، وذكر الفخر ما حاصله لا يقال إن الإقرار باللسان إيمان فى الظاهر وإلا لم يعد التقييد بقوله { كمآ آمن الناس } لا غنى قوله آمنوا عنه، لأنا نقول الإيمان الحقيقى عند الله سبحانه إنما هو المصاحب للإخلاص، وأما فى الظاهر فيحصل بالإقرار فلا جرم افتقر فيه إلى تقييده بقوله { كمآ آمن الناس } وأل فى الناس عندى للعهد الذهنى، لإإنه قد تقرر فى أذهانهم أن الصحابة قد آمنوا إيمانا خالصا، فالناس من عرف بالإخلاص كأبى بكر وعمر وصهيب وبلال وخباب وعبد الله ابن سلام من أى نسب كان، ودخل فيهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه مؤمن بأنه رسول، وبالقرآن وبالله واجب عليه الإيمان بذلك كله، أو من أخلص الإيمان من جنسهم كعبد الله بن سلام، ويجوز أن تكون للجنس الكامل فى الناسية كأنه قيل كما آمن الناس الكامل كونهم ناسا، والمعتد بهم وهم من مطلق من أخلص الإيمان بقطع النظر عن كونه معهودا أو غير معهود، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه بدون اعتبار صفة تأهل لها كقوله

والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا

يستعمل له باعتبارها، فينفى عنه الاسم بانتفاء الصفة كقوله فى جملة أبيات

وما رجل لم يجهد الناس طاقة وعلما وصبرا للبلاء بإنسان

وقد رواه العلامة الضرير محمد بن سليمان النحريرى فى حاشية على شرح الأجرومية لأبى سليمان داود، وحاصله نفى الإنسانية عن الرجل الذى انتفى عنه ما خلق له من إتعاب النفس بالطاعة والعلم والصبر للبلاء. وكقول الشاعر

بلاد بها كنا وكنا نحبها إذ الناس ناس والزمان زمان

بل كالعدم لفقدها فيه، وكقوله تعالى

صم بكم عمى

حيث نفى عنهم السمع والنطق والبصر، ولو وجدت فيهم إذ لم يستعملوهن فيما خلقن لأجله، ويستعمل أيضا فى بعض الأشخاص بدون تعيينها فى اللفظ ولا فى النية بلا قيد صفة كقوله

ولقد أمر على اللئيم يسبنى

أوبقيد صفة أو فى البعث المعين مقيدا بها كما فى قوله تعالى

ذلك الكتاب

وصفة الكمال أو فى بعض معين غير مقيد بها، ومن باب قوله ولقد أمر على اللئيم. قولك الرجل خير من المرأة، وأسامة أشجع من النمر. ولا يصار إلى هذا الباب لقلة جدواه إلا عند تعذر غيره. { قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } الاستفهام إنكارى، أنكروا أن يكون صوابا أن يؤمنوا كالسفهاء أو توبيخ أو تعجبى، وأل فى السفهاء للعهد الذكرى لأنه لا يشترط فيه تكرار اللفظ بعينه، فمنه قولك ما بات عندى إلا زيد، فبات العالم عندى فى كرم، تريد بالعالم زيدا، وكقولك رأيت الأسد فهبت الغضنفر، أى الأسد، وكقولك قاتلنى الكافر فقتلت الخبيث، يعنى بالخبيث ذلك الكافر، وكما تقول لصاحبك، إن عمرا قد سعى بك، فيقول أوقد فعل السفيه، يريد السفيه عمرا الساعى به إلى سلطان أو نحوه، فكذا المراد بالسفهاء الناس المذكورون فى { كمآ آمن الناس } فالمراد بالسفهاء جنس الناس المؤمنين بأسرهم، المعهودين أو نوع معهود منهم كابن سلام، وقال السعد جنس السفهاء بقطع النظر عن كونهم مراد بهم الناس المذكورون فى قوله { كمآ آمن الناس } أو غير مراد بهم ذلك، ويندرج تحت لفظ السفهاء على زعمهم، وإنما نسبوهم للسفه لاعتقادهم فساد رأى من يؤمن بالقرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله وصفته كما هو، وبالبعث والجنة والنار، كما هن. وقد مر إيمانهم بالله على غير صفته سبحانه وتعالى، وبالبعث والجنة والنار على غير ما هن عليه، أو لتحقير شأن المؤمنين حينئذ، إذ كان أكثرهم فقراء كابن مسعود وأبى ذر، وكان بعضهم مولى كصهيب وبلال وخباب وسلمان، وإن فسرنا السفهاء بالنوع المعهود المخصوص وهم من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، فإنما سموهم سفهاء إظهارا للعزة والشجاعة وعدم الذبول بإيمان من آمن منهم، وعدم المبالاة به فى الظاهر مع أنهم قد ذلوا بإسلام هؤلاء وذبلت قلوبهم، وافتضحوا بإيمانهم كسرا فى أعضادهم، وغاظهم إيمانهم ما لم يغظهم إيمان غيرهم، لأنهم لما آمنوا علم الناس أن الإيمان حق، لأنهم أهل التوراة والإنجيل، وإنما ساغ أن يقال هم منافقون مع تصريحهم بتسفيه المؤمنين، لأنهم يصرحون به فيما بينهم، أنؤمن كما آمن سفيه بنى فلان؟ وسفيه بنى فلان؟ فأخبر الله جل وعلا نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بذلك، أشار إليه الشيخ هود وغيره، وظهر لى وجه آخر فى تسفيه من آمن منهم، وهو أنهم بهتوهم بالسفه كالزنى والسرقة والكذب ورقة النسب ونحو ذلك، مما ليس فيهم رحمهم الله، كما روى

" أنه لما أسلم عبد الله بن سلام خبأه صلى الله عليه وسلم، ودعا اليهود وقال لهم " ما تقولون فى عبد الله بن سلام؟ " قالوا حبرنا وعالمنا وابن حبرنا. قال صلى الله عليه وسلم " أرأيتم إن أسلم؟ " قالوا أعاذه الله أن يسلم، فخرج عليهم وصرح بالإسلام وقال اتقوا الله فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله فى التوراة، فقالوا سفيهنا وابن سفيهنا "

، والسفه خفة وقلة رأى يصدران عن نقصان العقل، والحلم ثقل رأى وعظمة يصدران عن تمام العقل، وأكثر الآيات تدل على أن المنافقين المذكورين فى القرآن مشركون، ولا أكاد أقول غير ذلك، وأما القسم الآخر المسمى بالمنافقين، وهم فسقة الموحدين فثابت عندى أيضا لأدلة كثيرة، وليسوا مرادين فى القرآن عندى. والله أعلم. وجمهورنا على غير ذلك، ومن ذلك قول الشيخ هود. قال الله

ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون

إن الله يعذبهم فى الآخرة مع إقرارهم وتوحيدهم، وهذا مما يدل على أن المنافقين ليسوا بمشركين . أنتهى. وليس بمتعين، لأنه إنما بناه على تقدير لا يشعرون أن الله يعذبهم... إلخ وليس تقديرا متعينا. { ألا أنهم هم السفهآء ولكن لا يعلمون } أكد الرد عليهم بما أكد به فى قوله

ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون

إلا أنه قال هنالك لا يشعرون، وهنا لا يعلمون، لتتم المطابقة لذكر السفه، فإن السفه جهل فطابقه العلم، ولأن الوقوف على أمر الإيمان وشرائطه وتمييز الحق من الباطل مما يحتاج إلى نظر وتفكر، فاستعمل فيه العلم لأنه الاعتقاد الجازم الذى لا يقبل التشكيك. وأما النفاق وما فيه من الفتن والفساد، فيدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم، لأنه معروف بالعادة حتى كأنه محسوس، فاستعمل فيه الشعور وهو الإحساس بالشىء لظهوره، أو التفطن له، وقد استعمل الشعور بمعنى العلم فى قوله { وما يشعرون } ويحتمله ما هنا أيضا فيكون التعبير بالعلم تارة، وبالشعور أخرى، تفننا ونظرا إلى ظاهر لفظ الشعور، وتقدير الآية ولكن لا يعلمون أنهم سفهاء، وكذا قال الحسن، وأما السدى فقال ولكن لا يعلمون أن الله يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأما السدى فقال ولكن لا يعلمون أن الله يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بقولهم، والأول أولى وهم جاهلون بجهلهم، فجهلهم مركب، والجاهل جهلا مركبا لا يكاد يقلع عن ضلالته، لأنه يراها رشدا.

[2.14]

{ وإذا لقوا } أصله لقيوا بكسر القاف وضم الياء نقلت ضمة الياء لثقلها عليها إلى القاف بعد سلب كسرته، فالتقى ساكنان الياء والواو، فحذفت الياء، ثم التقى ساكنان الواو ولام أل فحذفت الواو فى التلاوة وثبتت فى الرسم واللقاء أواخر الاستقبال إلى الشىء وأوائل الاجتماع به، وإن شئت فقل المصادفة، يقال لقيه ولاقاه بمعنى، وقد قرأ أبو حنيفة { وإذا لاقوا } بمد الألف وفتح القاف وكسر الواو للساكن بعدها، ويقال ألقيته أى طرحته بحيث يوافيه الماشى ويصادفه، ويجتمع به فأصلهما واحد والمعنى وإذا صادفوا. { الذين آمنوا } واجتمعوا بهم وهم المهاجرون والأنصار ومن يهابونه من المؤمنين. { قالوا } لهم { آمنا } بما أمنتم به، بالله وباليوم الآخر والقرآن، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن قلت هل يتكرر قوله { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } مع قوله

ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا

قلت لا يتكرر معه، لأن قوله عز وعلا

ومن الناس من يقول آمنا

سبق لبيان طريقهم فى النفاق وتمهيد نفاقهم بأن صرح بأنهم يؤمنون بألسنتهم فقط. وأما قوله { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا }.. إلخ فتصريح بأنهم يلاقون المؤمنين بوجه، ويلاقون الكافرين بوجه آخر، وزادوا على ذلك أنهم يخبرون والكفار بأن الوجه الذى نلقى به المؤمنين مخادعة غير حقيق، قال ابن عباس نزلت هذه الآية فى عبد الله بن أبى وأصحابه، خرجوا ذات يوم واستقبلهم نفر من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبى أنظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذهب فأخذ بيد أبى بكر الصديق فقال مرحبا بالصديق سيد بنى تميم، وشيخ الإسلام، وثانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار، الباذل نفسه وماله لرسوله الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر فقال مرحبا بسيد بنى عدى بن كعب الفاروق القوى فى دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد على فقال مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وسيد بنى هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له على اتق الله يا عبد الله ولا تنافق، فإن المنافقين شر خليقة الله تعالى، فقال مهلا يا أبا الحسن لا تقل هذا والله، إن إيماننا كإيمانكم، وتصديقنا كتصديقكم. ثم تفرقوا فقال عبد الله لأصحابه كيف رأيتمونى فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا. رواه الواحدى والبغوى وغيرهما، يزيد بعض على بعض. وختن الرجل عند العرب من كان من جهة امرأته، وعند العامة زوج ابنته وكلاهما صحيح عندى. { وإذا خلوا إلى شياطنهم } إلى بمعنى مع أو عند، ولو قيل خلوا بشياطينهم لكان أيضا بمعنى معهم أو عندهم، ويجوز إبقاء إلى على أصلها من الانتهاء، على أن خلا بمعنى مضى، أى مضوا من المؤمنين أو عن المؤمنين إلى شياطينهم، أو بمعنى جاوزوا المؤمنين إلى شياطينهم، يقال خلاك ذم أى جاوزك إلى غيرك، أو ضمن خلا بمعنى رجع، أى رجعوا إلى شياطينهم فإن الخلو من شىء رجوع إلى غيره، أو ضمن معنى الإنهاء والإبلاغ من خلا فلان إذا سخر منه وعبث به، أى إذا بلغوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها، يقال أحمدك الله، أى أبلغك أنى أحمده على حالك، وأذم إليك عمرا كذلك، فمفعول خلا محذوف كما رأيت تقديره، أو خلا باق على معنى الانفراد واللزوم، فيقدر حال ومفعولها، أى وإذا انفردوا مبلغين السخرية إلى شياطينهم، والمراد بشياطينهم الآدميون الذين يشبهون الجن المتمردين على دين الله فى القول والفعل علانية وتصريحا، وتسميتهم شياطين استعارة تصريحية تحقيقية أصلية، والقرينة إضافة الشياطين إليهم والخلو إليهم المذكور بعد، وهم أولى لقوتهما فى جانب الحقيقة، وإذا جعلنا شياطينهم قرينة فما سواه تجريد وإنما أضيفوا إليهم للمشاركة فى الكفر، أو لأنهم قدوتهم ورؤساؤهم.

قال الحسن شياطينهم هم الآدميون الكفار، وقال أصحابنا رحمهم الله كبراؤهم وقادتهم فى الشر، وكلام الحسن يحتمله، قال ابن عباس رضى الله عنه شياطينهم رؤساء الكفر، وقال مجاهد أصحابهم من المنافقين والمشركين، وقيل المنافقون الكفار. فالقائلون المنافقون الصغار، وقيل شياطينهم كهنتهم، وعن ابن عباس كهنتهم الخمسة المتمردة كعب بن الأشرف من اليهود بالمدينة لعنه الله، وأبو بردة فى بنى أسلم لعنه الله، وعبد الدار فى جهينة لعنه الله، وعوف بن عامر فى بنى أسد لعنه الله، وعبد الله بن السوار فى الشام لعنه الله، وتسميتهم شياطين أشد مناسبة لأنهم يتكلمون مع الشياطين ويأخذون عنهم، إذ لا كاهن إلا ومعه شيطان تابع له، وإطلاق الشياطين على الآدميين المتمردين مجاز فى العرف والعادة والعربية والعامة، وأما فى أصل العربية فاالشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب، ونون الشيطان أصلية والياء والألف زائدة، ووزنه فيعال، فلو سمى به أحد لصرفه وهو من شطن إذا بعد لبعده عن الصلاح والخير، ويدل له قولهم تشيطن أو زائدة مع الألف والياء أصل، ووزنه فعلان، فلو سمى به لمنع الصرف وهو من شاط يشيط إذا احترق، أو بطل، والشيطان باطل ومحترق بالشهب، وفى جهنم، ويدل له تسمية الشيطان بالباطل، وقد ذكر سيبويه فى موضع من كتابه أنها أصل وفى آخر أنها زائدة لا يتنافى ذلك، بل أراد أن فيه وجهين محتملين. { قالوا } لهم { إنا معكم } فى الاعتقاد والديانة التى دنتم بها، وفى الأثر

" ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها "

وعنه صلى الله عليه وسلم

" من شر الناس ذو الوجهين يأتى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه "

رواه أبو داود فى سننه، وقال صلى الله عليه وسلم

" من كان له وجهان فى الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار "

رواه أبو داود فى سننه أيضا. قلت لم قالوا للمؤمنين آمنا معبرين بالجملة الفعلية، وقالوا للكفار إنا معكم بالجملة الاسمية المؤكدة، بأن؟ قالت عبروا للمؤمنين بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث ادعاء لحدوث الإيمان لهم، وأنهم بعد ما كانوا فى الكفر تركوه وخرجوا عنه إلى الإيمان، وهذا ما أمكن لهم أن يخادعوا به المؤمنين، ولا يمكنهم أن يخادعوا بادعاء الإيمان والرسوخ فيه، والتأكيد والمبالغة، ولا بادعاء أنهم أعظم إيمانا داخلون الجنة التى لم يدخلها سواهم، إذ لو ادعوا ذلك لم يقبله المؤمنون عنهم ولم يصدقوهم، بل يكذبونهم، ولأن أنفسهم لا تساعدهم على ادعاء ذلك، لأنه يؤدى إلى ظهور كذبهم وافتضاحهم، ولرسوخها فى الكفر والنفاق حتى لا تطاوعهم إلى ادعاء ذلك كذبا، وربما صدر منهم مكابرة لأنفسهم، وتشجعا موطنين أنفسهم على أن يكذبهم السامع كما مر عن عبد الله بن أبى مع على بن أبى طالب. وأما مخاطبتهم الكفار بالكون معهم فقابلة للتأكيد بالجملة الاسمية وإن، وادعاء البقاء على الكفر، وعدم الخروج منه لأنهم على هذه الصفة من أنفسهم وظاهر منهم ما يصدقهم عليها، فهم يصرحون بها إلى الكفرة فى نشاط وارتياح إلى التكلم بها، وتقبل الكفرة ذلك عنهم وتصدقهم فساغ التأكيد للجملة الاسمية الدالة على الثبوت وبأن وبقولهم { وإنما نحن مستهزءون } فى قولنا للمؤمنين منا فإنا نقوله بألسنتنا فقط، فهذه الجملة مؤكدة الجملة { إنا معكم } ، وبيان التأكيد أن المستهزئ بالشىء المستخف به منكر لذلك الشىء، ودافع لأن يكون معتدا به ودفع الإيمان إصرار على الكفر، كما أن قولهم إنا معكم إصرار عليه، ويجوز أن تكون جملة إنما نحن مستهزئون بدل من جملة إنا معكم، بدل مطابق، فإن الاستهزاء بالإيمان ترك للكون مع أهله، وعدم الكون معهم نفسه الكون مع الكفرة المدلول عليه بقوله { إنا معكم } وإن شئت فقل الاستهزاء به تحقير له وتحقيره تعظيم للكفر، وقولهم إنا معكم تعظيم للكفر، ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا كأنه قيل إن صح أنكم معنا فمالكم تقولون للمؤمنين آمنا؟ فأجابوا بأنا نقول لهم ذلك استهزاء بمحمد وأصحابه والمؤمنين لنا من شرهم، ونقف على سرهم ونأخذ من غنائمهم وصدقاتهم، والاستهزاء السخرية والاستخفاف، وأصله الموت السريع والفعل الخفيف والسريع، يقال هزأ فلان مات فى مكانه سريعا، وهزأت الناقة أى أسرعت وخفت، وهزأ بقوله أسرع به من غير توقف أن يكون من صميم قلبه. { الله يستهزئ بهم } أى يجازيهم على استهزائهم، وذلك من تسمية العقوبة باسم الذنب، فسمى جزاء الاستهزاء باسم الاستهزاء، ذلك مذهب الجمهور، وإنما لم نحمل الاستهزاء على ظاهره لأنه عبث وجهل، كما قال قوم موسى له

أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين

فجعل المستهزئ من الجاهلين، والله جل وعلا منزه عن القبائح من عبث وجهل وغيرهما، ومن ذلك بتسمية جزاء السيئة سيئة إلا أن يقل تسميتها سيئة أو تسمية الجزاء سيئة باعتبار المعنى اللغوى وهى الفعلية تسوئ وتؤلم، وإن قلت فهل لا قيل الله يجازيهم على استهزائهم بدل الله يستهزئ بهم؟ قلت عبر عن المجازاة على استهزائهم بالاستهزاء إما للمشاكلة لقوله { إنما نحن مستهزءون } ، والمشاكلة نوع من أنواع البديع اللفظية، وهى ذكر الشىء بلفظ غيره لوقوع ذلك الشىء فى صحبة ذلك الغير وقوعا محققا أو مقدرا. وستأتى إن شاء الله تعالى فى سورة النحل، وإما لكون الجزاء على الاستهزاء مماثلا للاستهزاء فى القدر، وكلا الوجهين مجاز، فالأول مرسل تبعى لعلاقة المجاورة، والثانى بالاستعارة التصرحية التحقيقية التبعية، أو معنى يتسهزئ بهم ليرد وبال الاستهزاء عليهم، ورده الوبال عليهم كالاستهزاء بهم، وفيه الاستعارة المذكورة، أو معناه ينزل بهم الحقارة والهوان اللذين هما لازم الاستهزاء والغرض منه، فيكون مجازا مرسلا تبعيا من التعبير باسم الملزوم عن اللازم، أو بلفظ المسبب عن السبب نظرا إلى الوجود، فإن الاستهزاء مسبب عن الحقارة الموجودة فى نفس الأمر، أو بلفظ السبب عن المسبب نظرا إلى التصور، فإن الاستهزاء إنما يمكن ويتصور إذا وجدت الحقارة والهوان، وأو باللازم عن الملزوم كذلك، فإن الاستهزاء إنما يترتب على حقارة وهوان موجودين، أو معنى يستهزئ بهم يعاملهم معاملة المستهزئ بأن يفعل بهم فعالا هى فى تأمل البشر هزء، فتكون تلك الاستعارة المذكورة شبه صورة صنع الله بصورة صنع الهازئ مع المهزأ به، وذلك فى الدنيا والآخرة، فأما فى الدنيا فإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالإهمال والزيادة فى النعمة مع تماديهم فى الطغيان، كأنهم شاكرون، وأما فى الآخرة فقد روى أن النار تجمد لهم كما يجمد الشحم المذوب، ويظنون أنها منجاة فتخسف بهم، روى ابن أبى الدنيا فى كتاب الصمت عن الحسن مرسلا، وغيره عن الحسن وابن عباس والشيخ هود رحمه الله، وغيره وهو أطولهم حديثا واللفظ له، وبعض يزيد على بعض. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" يجاء بالمستهزئين يوم القيامة فيفتح لهم باب إلى الجنة "

قال القاضى وهم فى النار فيدعون ليدخلوها، أى بصورة من يدعى ليدخلها - وإلا فلم يدعوا ليدخلوها - بل يقال لهم تعالوا فيجيئوا فيزدادوا فيقع الاغتمام لهم بذلك، فيجيئون أى مسرعين ليدخلوها، فإذا بلغوا الباب أغلق، فيرجعون. ثم يدعون حتى إنهم ليدعون فما يجيئون من الإياس. واختص الشيخ بذكر تكرار دعائهم وردهم حتى يئسوا، وفى رواية عن الحسن وابن عباس تفتح لهم أبواب النار فيدعون فيسرعون للخروج، فتغلق عليهم.

[2.15]

{ ويمدهم } يزيدهم كما يقال مد الجيش وأمده إذا زاده ما يقوى به من ناس أو طعام أو سلاح، وم الدواة وأمدها إذا زادها ما تصلح به من ماء أو مداد، ومد السراج وأمده زاده زيتا، ومد الأرض وأمدها زادها سمادا أو خلطها به من قبل أن يكون فيها شىء منه، وأمده الشطيان ومده فى الغى إذا زاد فى وسوسته، كل ذلك الهمزة وتركها بمعنى واحد، وأكثر ما يأتى مد بلا همزة فى الشر، وأمد بهمزة فى الخير والمعنى يزيدهم. { فى طغيانهم } ما يقوى به طغيانهم، وليس من المدد الذى هو الزيادة فى العمر باللام، يقال مد له فى عمره لا بالهمزة، والذى فى الآية قد يقال فى الهمزة كما أقر ابن كثير وابن محيصن { ويمدهم فى طغيانهم } بضم الياء وكسر الميم، وقرأ نافع وإخوانهم يمدونهم بضم الياء وكسر الميم، وهما فى القراءتين من أمد بالهمزة وهى لموافقة المجرد، وإن قلت إذا كان من الزيادة فأين مفعوله الآخر؟ قلت محذوف تقديره ما يقوى به طغيانهم، وإن قلت كيف ساغ أن يقول زادهم الله ما يقوى به طغيانهم؟ قلت معناه خذلهم ولم يلطف بهم.وهذه قاعده أصحابنا رحمهم الله فى التفسير، وكذا الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية خلافا للمعتزلة، فإنهم لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره كما تعذر علينا، لأن الزيادة فى الطغيان تقوية للكفر بحسب ظاهر الكلام، تأولوه بغير الوجه الذى تأولناه، وهو أنه لما كان خذلانه إياهم ومنع الإلطاف عنهم سببا فى كفرهم وإصرارهم، وفى زيادة قلوبهم رينا وظلمة، كما كان توفيقه المؤمنين سببا فى الإسلام وثباته، وفى زيادة قلوبهم انشراحا ونورا، أسند الزيادة فى الطغيان إلى نفسه، إذ كان مسبب ذلك السبب، بكسر الباء، الأولى من مسبب. والحاصل أنه لما كان تزايد طغيانهم مسببا، بفتح الباء الأولى، خذلانه لهم أسند الزيادة إلى نفسه ولا جبر هناك، أو لما كان إغواء الشيطان إياهم إنما هو بإقدار الله - عز وجل - إياه عليه، أسند الزيادة فى الطغيان إلى نفسه، وعلى كل حال فإنما أضاف الطغيان إليهم، ولم يأت به مجردا عن الإضافة، لئلا يتوهم أن إسناد الزيادة إلى الله تعالى على الحقيقة، وإما أن يضاف الطغيان إلى الله ونحوه من الأفعال فحرام، لأن ذلك مخلوق له لا فعل له، إنما هو فعل الناس، ويدل على أن إضافة الطغيان إليهم لما ذكر أنه لما أسند الإمداد إلى الشياطين فى سورة الأعراف لم يحتج الكلام إلى الإضافة إليهم، إذ قال يمدونهم فى الغى، ولم يقل فى غيهم، وقال مجاهد المعنى يملى لهم فى طغيانهم، فأصل الكلام ويمد لهم حذفت اللام وانتصب محل الضمير على نزع الخافض، لأنه على تفسير مجاهد من المد فى العمر، والمد فيه يتعدى باللام كما مر، وأغنى قوله { فى طغيانهم } عن أن يقال فى أعمارهم، لأن المد فى أعمار المخذولين بسبب الطغيان، وإنما مد فى أعمارهم ليطيعوا وينتهوا، وما ازدادوا إلا طغيانا، توصلوا إلى الطغيان بما خلق وسيلة لهم إلى الشرك، وعلى الأوجه المذكورة يتعلق فى طيغانهم بمد ويجوز تعليقه بقوله { يعمهون } على وجه آخر وهو أن المعنى يمهل لهم فى أعمارهم أو يزيدهم نعما ليؤمنوا ويشكروا، وهم فى ذلك يعمهون فى طغيانهم، وعلى كل وجه فيعمهون حال، والطغيان، بضم الطاء، فى قراءة السبعة، والجمهور، وبكسرها فى قراءة زيد بن على لغتان كلغيان وغينان، بضم أولهما وكسرة تجاوز الحد فى العصيان والغلو فى الكفر، وأصله تجاوز الشىء عن مكانه، وقوله سبحانه

إنا لما طغى الماء حملناكم فى الجارية

يحتمل تجاوز الماء عادته، ويحتمل التشبيه بالعاصى وتخصيص الطغيان شرعا بالمبالغة فى المعصية حقيقة شرعية، ويعمهون يترددون متجبرين، والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام فى البصر والرأى، والعمه خاص بالرأى وهو التحير والتردد، لا يدرى أين يتوجه، يقال رجل أعمه وعمه، أى لا رأى له جازم قال رؤبة

أعمى الهدى بالجاهلين العمه ومهمه أطرافه فى مهمه

أى الجاهلين الذين يترددون ولا معرفة لهم، جمع عامه كراكع وركع، لا جمع عمه كما قيل، وأعمى الهدى خالف الهدى وجاوزه، أو هو صفة من عمه الأمر التبس، وأرض عمهاء لا منار بها يعتمد عليه الرائى فيهتدى به، وبين العمى والعمه عموم مطلق، لأنه خاص بالبصيرة، والعمى عام فيها وفى البصر، قاله الفخر كجار الله، وقال ابن عطية إنه خاص بالبصيرة، والعمى بالبصر، فهما متباينان، ولا منافاة، فإن مراده الاختصاص والمباينة باعتبار الحقيقة، ومراد غيره بإطلاق العمى فى البصر والبصيرة الحقيقة والمجاز فإنه مجاز فى البصيرة، ولم يستعمل العمه فى البصر وإن استعمل كان مجازا، وقيل { يعمهون } يلعبون وقيل يتمادون.

[2.16]

{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } بقوا على الضلالة وأعرضوا عن الهدى بعد ما جاءهم، وأمروا به شبه بقائهم عليها، وإعراضهم عنه بشراء شىء ردىء بشىء كريم، بجامع التمسك بردىء وترك كريم، ففى اشترى استعارة تبعية تصريحية تحقيقية، والمعنى اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى الذى فطر الله الناس عليه، وللفطر عليه وتمكنهم منه صار كأنه بأيديهم، فساغ إطلاق استبداله، وأصل الاشتراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان أو من الانتفاع بها، فإن كان أحد العوضين دينارا أو درهما تعين أن يكون ثمنا من حيث إنه لا يطلب لعينه وبذله اشتراء، وإلا فأى العوضين تصورته بصورة الثمن، فباذله مشتر وآخذه بائع، ولذلك يستعمل اشترى بمعنى باع وباع بمعنى اشترى، وإذا صورت إحدهما بصورة الثمن فهو الذى تدخل عليه الباء، فإدخال الباء فرع التصور ثمنا فيعرف فى كلام غيرك بالباء فلا إشكال فى قولنا فأى العوضين.. إلخ، ولا يرجح عليه قولك الثمن ما دخلت عليه الباء ولو ادعى ذلك زكريا، واستعير الاشتراء للإعراض عما فى يدك محصلا به غيره معنى أو عينا كقوله

أخذت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا وبالطويل العمر عمرا حيدرا كما اشترى المسلم إذا تنصرا

أى كما اشترى المسلم، وهو جبلة ملك غسان، الكفر بالإسلام حين تنصر، والجمة، بضم الجيم، مجتمع شعر الرأس والداء للبدن، والأزعر الأصلع، والدردر بضم الدالين المهملين منبت الأسنان بعد سقوطها، وقال الجوهرى مغارز أسنان الصبى، والعمر بدل من الطويل أو بيانه، والحيدر القصير ثم اتسع فاستعمل للرغبة عن الشىء طمعا فى غيره، وكقول الله عز وجل فيما يعيب به بنى إسرائيل تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة، والضلالة الميل عن القصد وفقد الاهتداء، وتخصيصه شرعا بالميل عن دين الله حقيقة شرعية ومجازا استعاريا لغويا، وقوله عز وجل { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } إلى قوله { بالكافرين } لحيرة العدو وضلاله والتباسه أمره عليه إلى أن يؤول ذلك إلى دماره، تكتب فى خرقة من قميصه الذى عرق فيه، وتكتب فيه اسمه واسم أمه سبع مرات، ثم يدفن ذلك فى عتبة داره فى كوز فخار جديد، وإن فعل ذلك لمن لا يحل أن يفعل له شرعا رجع الضر عليه. { فما ربحت تجارتهم } ذكر الربح والتجارة ترشيح الاستعارة المذكورة فى اشتروا، لأنهما ملائمان للمشبه به، فإن الربح إنما ينفى عما من شأنه أن يقع فيه، ولم يقع وهو الشراء الحقيقى، والتجارة طلب الربح بالبيع والشراء قاله القاضى، وأولى منه أن يقال هو الصرف بالبيع والشراء للربح، والربح الفضل على رأس المال، وكل ذلك ملائم للمشبه به، ولكون الربح الفضل على رأس المال، سمى بالشف يقال لهذا على هذا شف أى فضل، وأشفه فضله، ويستعمل أيضا فى النقص، ونفى ربح تجارتهم تمثيل لخسارتهم وتصوير لحقيقتها.

فيجوز عندى أن يكون ذلك استعارة تمثيلية لا يمنع ذلك كونه ترشيحا للاستعارة السابقة عن هذه. وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد إلى الظرف المجازى، فهو مجاز عقلى ويسمى تجوزا فى الإسناد، وتجوزا فى الحكم، وحقيقة الكلام عما ربحوا فى تجارتهم بإسناد الربح لأرباب التجارة، أو من الإسناد إلى السبب أو الملزوم، فان التجارة سبب للربح وملزوم له ملزوما بيانيا، أو من الإسناد للمخالط المجاور، فإن التجارة تخالطت التاجر أو شبه التجارة بعبدهم أو خادمهم أو من يقيمونه على التصرف فى أموالهم للربح على طريق الاستعارة المكنية، ورمز إليها بالربح فكما أن العبد أو الخادم أو نحوهما جالب الربح، أو خسران كذلك التجارة، وقرأ ابن أبى عبلة تجاراتهم بالجمع بألف وتاء. { وما كانوا مهتدين } إلى الحق أو إلى طريق التجارة، والمقصود بها وهو الربح، فإنهم لم يعرفوا كيف يتجرون فى أمر الدين فلم يحصل لهم الربح، فإن رأس المال هو الهدى ولم يبق لهم مع الضلاة هدى، ومن لم يتحصل عليه لم يتصف بالربح فإنه بعد رأس المال، ولو عرفوا كيف يتجرون لباعوا الكفر بالهدى، فيرعون الهدى، ومما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة فيكونون كمن باع ما لا قيمة له لخسته لما لا غاية لقيمته، وأيضا لك أن تقول كما مر رأس المال ما فطر الله - جل وعلا - الناس عليه من الإسلام، وما منحهم من التمكن منه، ولما اعتقدوا الضلالة بطل استعدادهم من الفطرة، واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوصلون به إلى درك الحق، ونيل الكمال وخير الدنيا والآخرة، فقدوا الأصل والربح، وكما أن جملة { ربحت تجارتهم } ترشيح للاشتراء، كذلك جملة { وما كانوا مهتدين } ترشيح للضلالة، كأنه قيل بقوا على الضلالة التى ضلوها فإن عدم الاهتداء بقاء عليها، فإن من ضل عن بلدة فى الصحراء أو عن شىء قد يهتدى إليه، وهؤلاء لما مالوا عن الحق لم يهتدوا إليه. ولك أن تقول ترشيح لقوله تعالى { فما ربحت تجارتهم } فهو ترشيح للترشيح لأن { فما ربحت تجارتهم } ترشيح للاشتراء وهذا يصح. ولو حملنا { فما ربحت تجارتهم } على غير الاستعارة من أنواع المجاز المذكورة، لأن الترشيخ كما يجوز فى الاستعارة يجوز فى المجازالعقلى والمجاز المرسل نحو اليد الطولى، فإن استعمال اليد بمعنى القدرة مجاز مرسل، لأن اليد الجارحة آلة للقدرة وسبب لها، والطول مما يناسب اليد، وكنى به عن الكمال ومحط جعل هذه الجملة ترشيحا للترشيح أن تجعل المعنى ما كانوا مهتدين لطريق التجارة أو للربح، وما كان ترشيحا لترشيح الشىء فهو ترشيح للشىء، والعرب ترغب فى الترشيح ترشيح المعنى المجازى بملائمات الحقيقة، وكلما ازداد الترشيح أو ابتنى ترشيح على آخر ازداد الكلام حسنا، ألا ترى أن معنى قوله

ولما رأيت النسر عز بن داية وعشش فى وكريه جاش به صدرى

ومعنى قولك ولما رأيت الشيب غلب السواء فى اللحية والرأس وتمكن فيهما تحرك له صدرى معنى واحد، والبيت أدخل فى القلب وأعلق به وأثبت، لما فيه من المجاز المشتمل على تشبيه الشيب بالنسر، والسواد بابن داية، وهو الغراب، وترشيح ذلك بالتعشيش والوكرين، فإنهما مناسبان للغرابة لا للشيب، فإن للغاب وكر شتاء ووكر صيف والتعشيش أخذ العش وهو مهاد يأخذه للتفريخ من رقاق العيدان والأشياء اللينة فى الشجر، وما فى الجدار والجبل، يسمى وكرا ويسمى أيضا عشا.

[2.17]

{ مثلهم } أى فى صفتهم فى النفاق، والمثل فى الأصل بمعنى الشبيه، ويقال أيضا مثل، بكسر فإسكان، ومثيل ككريم، ثم استعمل بمعنى الكلام الذى شبه مضربه بمورده، وهو استعمال عربى، وإنما سمى هذا الكلام المشبه مضربه بمورده مثلا لأنه أخذ من المعنى الأصلى المذكور وهو التشبيه، إذ جعل مضربه وهو ما يضرب فيه شبيها بمورده، وهو ما ورد فيه أولا قبل ضربه مثلا، وضرب المثل نوع من الاستعارة التمثيلية فهى أعم منه، وعمومها مطلق وهو أخص، وخصوصه خصوص مطلق، وبيان خصوصه أنه تعتبر فيه الشهرة، فإنه لا يضرب إلا بما فيه غرابة من بعض الوجوه، ولا يغير لأنه استعارة كما مر وهى تصر يحية، ولفظها لفظ المشبه به كما هو شأن الاستعارة التصريحية، فلو غير لم يكن لفظه لفظ المشبه به، ولم يكن مثلا، بل مأخوذ منه ومشير إليه، فقولك الصيف ضيعت اللبن، بكسر التاء، مثل إذ لم يغير عن اللفظ المقول أولا، وبفتحها أو ضمها مأخوذ من المثل ومشير إليه. وقال الزمخشرى والقاضى حوفظ عليه من التغير لما فيه من الغرابة، وما ذكرته أولى وهو قول السكاكى. وقد كثر ضرب المثل فى كلام الله سبحانه وتعالى وكلام الأنبياء والحكماء، لأنه أوقع فى قلب المخاطب ويراه المتخيل تحققا. والمعقول محسوسا، والغائب مشاهدا وأقمع للمعاند الشديد الخصومة، ومن سور الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال، ثم استعير لفظ المثل لكل ذى شأن وغرابة من حال أو قصة أو صفة، وهو استعمال ثالث متفرع على الثانى الذى هو الكلام المشبه، مضروب بمفرده المتفرع على الأول الذى هو الشبيه، وحمل القرآن إلى الثانى أولى، لأن أكثر أحكام القرآن معقولة غير محسوسة، من حيث الاعتقادات والوهم، وإنما يدرك المحسوس فهو ينازع العقل فى إدراك المعقولة حتى يحجبها عنه، وإذا ضرب المثل بالمحسوس أدركه الوهم فوافق العقل فزالت خصومة الخصم، إلا أن يخاصم مكابرة لعقله، ووجه الحمل على الأمثال فيما إذا صرح بأداة التشبيه أن يقال إن مدخول الأداة والمضروب له يشملهما كلام واحد مشار إليه غير مدرك مذكور فى القرآن نصا بلفظه، ففى الآية يقال إن هؤلاء المنافقين والذى استوقد نارا على الكيفية المذكورة، مثلهما الذى يضرب لهما واحد وهو الدخول فى أمر مرغوب فيه وقطعه، بحيث يكون القطع أضر من ترك الدخول من أول مرة، ألا ترى أن المنافق أسفل فى النار من المشرك المحض؟ وأن الحاصل فى ظلمة أعقبت نورا أهم من الحاصل فيها من أول؟ فالمنافق دخل بلسانه وربما شابته موافقة من قلبه غير خالصة، وقطع دخوله بنفاقه أعنى أبطله به، وأما ما لم يصرح فيه بالأداة فكونه مثلا مضروبا ظاهرا، ولو صرح فيه بلفظ الضرب كقوله عز وجل

ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط...

إلخ السورة، ويجوز حمل القرآن على الاستعمال الأول وهو معنى الشبيه، لأن ما صدقه راجع إلى الثانى، لأنه سيق للبيان والإيضاح، ويجوز حمله على الثالث وهو ذو الشأن والغرابة من حال أو صفة أو قصة، فكأنه قبل صفة هؤلاء المنافقين الغريبة العجيبة الشأن. { كمثل الذى استوقد نارا } أى كصفته الغريبة العجيبة الشأن، حيث استوقد نارا فى ظلمة ثم زالت وبقى متحيرا كما قال مولانا جل وعلا { فلمآ آضآءت } أى النار { ما حوله } ما يقرب منه ويدور به من المواضع، فأبصر بعد أن كان لا يبصر شدة الظلمة، واستدفأ بعد أن كان مقرورا وآمن ما يخافه. { ذهب الله بنورهم } أى أذهبه. { وتركهم فى ظلمات لا يبصرون } ما حولهم فهم متحيرون عن الطريق خائفون، فكذلك هؤلاء المنافقون آمنوا ما يخافونه من القتل والأسر والغنيمة والسبى وغير ذلك، وزوال نعم حين أظهروا كلمة الشهادة وإذا ما يزال عنهم ذلك الأمن كما قال ابن عباس فى القبر وما بعده، وجاءهم الخوف والعذاب لأنهم أضمروا الشرك، ومن كان منافقا بالفسق من أهل التوحيد، فكذلك لأنهم آمنوا فى الدنيا مما ذكر، وتوصلوا إلى مناكحة المسلمين وموارثتهم وغير ذلك، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب، وزال ما معهم من النور الضعيف القليل الذى حصلوه من التوحيد، لأنهم لم يحققوه بعمل، فيجوز أن يكون ذلك مثلا مضروبا لهؤلاء المنافقين بطريقة آخر هو أنه شبه حالهم حين أتاهم الله ضربا من الهدى وهو التوحيد اللسانى فأضاعوه ولم يدخلوه قلوبهم، ففاتهم نعيم الأبد بمن أعطى فى ظلمة عظيمة مخوفة نورا، فلم يتسمك به ولم يحافظ عليه حتى زال، فكلاهما متحير مضر. وهذه الآية مقررة وموضحة لقوله تعالى

أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين

وبطريق آخر هو أنه شبه إيمانهم من حيث إنه سلمت به دماؤهم وأولادهم وأموالهم، وشاركوا المسلمين فى المغانم والأحكام، ثم فضحهم الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأظهر نفاقهم فكان لهم اسم المنافق لا اسم المؤمن بنار أوقدت فانتفع بها قليلا فى الظلمة ثم زالت، وهكذا حال الموحد المنافق بالنظر إلى انكشافه فى الآخرة وقد ينكشف أيضا فى الدنيا، فتزول عنه الولاية وتوابعها، وبطريق آخر وهو أن نرجع ضمير الهاء للكفار المحض والكفار المنافقين بأن يشبهوا فى إعراضهم عن فطرة الإسلام أى فطروا عليها، ونمكن عقولهم من نور الهدى بمن لم يحافظ على النور الذى حصل فى ظلمة فضاع عنه، وبطريق آخر هو أن نرجع الضمير للكفار المحض الباقين على الكفر، والمرتدين إليه بعد الإسلام والكفار المنافقين، فإن كلا قد زال عنه نور الإسلام كزوال نور النار فى ظلمة، وفى معنى ذلك كل من زال عن درجة فى الإسلام إلى ما دونها، ولو لم يكن يحكم بهلاكه ولا بإطلاق أصم وأبكم وأعمى عليه، اللهم إلا بقيد النسبة إلى الدرجة التى نزل عنها، وقال قوم منهم قتادة إن المعنى أن نطقهم بلا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها، والمراد بالذى الجنس، ولذلك عاد عليه ضمير الجمع فى قوله بنورهم، أو لكونه نعتا لمحذوف مفرد فى اللفظ جمع فى المعنى، كالفريق والفوج والقوم ونحو ذلك، مما هو مفرد لفظا جمع فى المعنى، أو لأن المراد مثل كل واحد منهم، كمثل الذى استوقد نارا، ووجه الشبه بين الإسلام والنور أن كلا يزيل الحيرة والهلاك، وضرب المثل بالنار لأن المستضىء بها مستضىء بنور غيره، وإذا ذهب بقى فى ظلمة فلما أقروا بدون اعتقاد كان إيمانهم كالمستعار، ولأن النار تحتاج لمادة الحطب لتدوم، والإيمان يحتاج لمادة الاعتقاد ليدوم، واستعمل الذى بمعنى الذين تخفيفا بإسقاط النون فهى فى الحقيقة لفظ الذين، أو استعمالا كالموصولات المشتركة مثل من، وعلى كل وجه روعى لفظه فى استوقد وحوله ومعناه فى نورهم وما بعده إلا على تأويل مثل كل واحد منهم كمثل الذى فإنه مفرد لفظ ومعنى، وإن قلت جاز مراعاة لفظه فى وجه التخفيف من الذين قلت لأن حقيقة تخفيفه منه إسقاط نونه وجعلها نسيا منسيا، كما حذفت لام يد وهن ونحوهما وأعر بن على العين، وإنما جاز تخفيفه المذكور واستعماله مشتركا كمن، ولم يحز وضع القائم موضع القائمين إلا بإرادة الجنس، لأنه غير مقصود بالوصف به ذاتا، بل المقصود الوصف بصلته، وإنما هو وصله إلى نعت المعرفة بها، ولأنه ليس اسما تاما بل كجزء فحقه أن يستعمل مشتركا كمن، ولا تلحقه الزوائد، وليس الذين جمعا له بل اسم جمع، زيدت فيه زيادة لزيادة المعنى، ولذلك يقول الذين بالياء جرا ونصبا ورفعا على اللغة الفصحى، فليس جمع مذكر سالما، ولغة من يقول رفعا الذون ليست نعتا فى إعرابه، وكونه جمع سلامة له الاحتمال بقائه على البناء والواو أمارة على محله، كما يقال منان ومنون فى الاستفهام ولكونه مستطالا بصلة استحق التخفيف، فقيل الذى بإسقاط النون وتناسيها وإذا أسقطت بلا تناس وجب مراعاة المعنى بخلاف القائم فإن القصد الوصف به وهو اسم تام، والقائمون جمعه وكذا ما أشبهه من اسم الفاعل والمفعول سواء، قلنا أل فى ذلك اموصولة أو حرف تعريف، وإن قلت فلعل أل بقية الذى والذين.

قلت هو بعيد لاختصاصها فى الأشهر بالاسم ولتخطئ العامل لها، ولكونها لا محل لها من الإعراب، والإعراب فى آخر الوصف اللهم إلا أن يقال أشبهت أل الحرفية التى للتعريف قد خلت على الاسم وتخطاها العامل، فلم يكن لها إعراب محلا.

وإخبار الفخر أن المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم تشبيه الجماعة بالواحد، بل شبه قصتهم بقصة المستوقد، كما شبه الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها بالحمار يحمل أسفارا، فالذى مفرد لفظا ومعنى ولا يحتاج لتأويل، فالضمير على هذا فى نورهم وما بعده للمنافقين لا للذى، ومعنى استوقد طلب الوقود وسعى فى تحصيله، واختار هذه الصيغة الدالة على الطلب والعلاج ليكون التمثيل بمن احتاج إلى النور غاية الاحتياج فى لجة الظلمة، فهو يجتهد فى تحصيله ثم زال عنه فبقى فى ظلمة أشد، هكذا أقول والممثل لهم ولو لم يكونوا مريدين لنور الدين ولا طالبين له، لكنهم فى غاية الاحتياج إليه ولم يعلموا، وقال الأكثر استوقد بمعنى أوقد، ووقود النار حصول لهبها وارتفاعه من ذلك وقد فى الجبل إذا صعد وعلا فيه، والنار جسم لطيف مضىء حار محرق، وأما الجسم الذى يمتد منه فجمر، وإطلاق النار على حرارتها مجاز، والنور ضوؤها وضوء كل نير كالشمس والقمر والنجوم واللؤلؤ وهو نقيض الظلمة، ونكر النار للتعظيم، ولفظ النار مأخوذ من نارينور إذا نفر بالنون والفاء، لأن فيها حركة واضطرابا، أو نار ينور هو الذى أخذ من لفظ النار، وأما النور فقيل مأخوذ من لفظ النار، والتحقيق أنه من النور، بفتح النون، الذى هو مصدر، وإنما ساغ ذلك الاختلاف لأن باب الأخذ والاشتقاق الذى بمعناه واسع يكفى فيه وجود المادة، وأصل المعنى وهما موجودان فى كل لفظين متوافقين، ومعنى أضاءت أنارت إنارة عظيمة، فإن الضوء أعظم من النور لقوله تعالى

جعل الشمس ضياء والقمر نورا

ولو ترادفا لغة، لأن الترادف بحسب الوضع كالاستعمال بلغية بحسب الاستعمال، ويستعمل أضاء متعديا بمعنى جعل الشىء للبصر زائلة ظلمته، ويستعمل لازما بمعنى الظهور للبصر، وزوال ظلمته فيحتمل الذى فى الآية أن يكون متعديا، وفيه ضمير مستتر فاعل عائد إلى النار، وما مفعول به وهو الواضح المتبادر، ويحتمل أن يكون لازما وما فاعله، لوقوعه على الأمكنة، لأن ما حول المستوقد هو أماكن وأشياء كائنة فلما ظهرت للببصر الأمكنة والأشياء التى حول المستوقد، وأن يكون لازما وفاعله ضمير مستتر عائد إلى النار وما زائدة، وحوله ظرف متعلق بأضاءت بخلافه على الوجهين الأولين، فإنه صلة. والمعنى على هذا الوجه فلما ظهرت النار وزالت بها الظلمة أو ظلمته أشرقت، وأن يكون لازما وفاعله ضمير مستتر عائد إلى النار وما اسم موصول كالوجهين الأولين، لكنها واقعة على الأمكنة، فهى منتصبة المحل على الظرفية، وهذا أثبته الزمخشرى والقاضى، وعندى أن هذا بعيد ولو جاز وقوع الذى ونحوه ظرفا، نحو جلست الذى جلست فيه، أى فى الموضع الذى جلست، لأن الذى ونحوه يصح النعت به، وما لا ينعت بها ولا يبعد وقوع ما الشرطية ظرفا زمانيا، وهو متبادر فى قوله تعالى

فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم

ومادة الحوق تدل على الدوران والتغير والانقلاب والظهور، سواء كانت على هذا الترتيب - ح و ل أم لا، فسمى ما يقرب من المستوقد حولا لاستدارته به، وسمى العام حولا لأنه يدور، وحال الشىء واستحال تغير، وحال عن العهد انقلب وتحول إلى مكان، ولاحه السفر غيره، ولاح النجم ظهر، ووحل بالكسر وقع فى الوحل وهو الطين، كما أن مادة كمل للقوة ككمل وكلم وملك ومكل ولكم، وجواب لما هو قوله عز وجل { ذهب الله بنورهم } ، ولم يقل بنارهم مع أنه مقتضى الظاهر، لأن النور هو المراد من إيقادها، ولأن الممثل لهم وهم المنافقون إنما يذهب عنهم نور الإيمان، ويجوز أن يكون جواب لما محذوفا للإيجاز وأمن اللبس، لدلالة المقام عليه، وفى حذفه بلاغه كأنه قيل فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين فى ظلام، متحيرين على خمودها بعد طلب إيقادها وعلاجه، وإذا قلنا بحذف جوابها كانت الهاء فى قوله { بنورهم } عائدة إلى المنافقين، وكانت جملة { ذهب الله بنورهم } إما بدلا من قوله { مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضآءت ما حوله } مع الجواب المحذوف، وهو بدل نحوى لأن التحقيق ألا يشترط فى إبدال الجملة من جملة وجود محل الإعراب للجملة الأولى المبدل منها، ولو قال كثير باشتراطه، وفائدة ذلك البدل البيان، وقد أجاز الزمخشرى والقاضى الإبدال هنا، وهو طبق ما ذكرت من عدم الاشتراط، اللهم إلا أن يراد البدل اللغوى وهو أعم لا البدل الصناعى، وأن معنى البدلية قيام الجملة مقام الجملة التى وقع بها التمثيل فى المعنى مع إفادة إيضاح، وإما استئنافا بيانيا كأنه قيل ما بالهم شبهت حالهم بحال الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله خمدت، فقيل ذهب الله بنورهم، وليس هذا الوجه ضعيفا لأن هذا السؤال لا يغنى عنه، فلما أضاءت ما حوله لحذف جواب لما وهو الخمود، وإن قلت إن زوال نور الإيمان بفعلهم واختيارهم إذا اعتبرناه الفطرة التى فطروا عليها أو تمكنهم منه، فكيف شبه بمن زال نور ناره بلا فعل منه واختيار، بل بإذهاب الله؟ قلت ساغ ذلك لأن المستوقد للنار هو أيضا فاعل فى زوال نورها بتضييع أو تعمد يعقبه الندم، لكن فعله مخلوق لله عز وجل، فقال { ذهب الله بنورهم } أو لأن الإزالة بسبب خفى فنسب لله، سواء كان للمستوقد فيه فعل أو لم يكن، أو لأنها حصلت بأمر سماوى كريح أو مطر، أو نسبت الإزالة إلى الله تعالى نسبة الفعل إلى الفاعل، من حيث إنه فاعل لا إلى الخالق من حيث إنه خالق، وذلك مجاز ومبالغة كما تقول ذبحه الله مجازا أو مبالغة، ولك أن تقول إن المستوقد استوقد نار فتنة وعداوة للإسلام، فأضاءت ترشيح أو نار حقيقة فى معصية فأطفأها الله كما عاقبهم بعد اختيارهم ونسبتهم بالخذلان وعدم إلقاء حلاوة الإيمان فى قلوبهم، فأطفئ عنهم نور الإيمان، ففى هذين الوجهين اعتبر أن المطفئ هو الله فى جانب المشبه والمشبه به، وإما إن قلنا زوال نورهم بالموت أو بالافتضاح فالإطفاء فى الجانبين من الله عز وجل، والباء للتعدية كالهمزة، إلا أن معها استصحابا وليس مع الهمزة، يقال ذهب زيد بعمر وأى أذهبه ومضى معه، ويقال أذهبه أى جعله ذاهبا سواء ذهب معه أم لا، فإذا ذهب معه فليس لفظ أذهب هو الدال على المصاحبة، فعبر بالباء فى الآية للمبالغة لدلالتها على المصاحبة وذلك مجاز لأن الوصف بالذهاب وصف بالمكان والتحيز والانتقال، تعالى الله عنه.

ووجه المبالغة إنما ذهبت به قد أزالته عن موضعه، وحافظت عليه وأمسكته وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وقرأ اليمانى أذهب الله نورهم بهمزة التعدية لا ببائها، فليس فيه مجازية الصحبة، والفرق بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء بما ذكر من المصاحبة مع الباء قول المبرد والسهيلى، ورده ابن هشام بالآية، يعنى لأن الله لا يذهب مع شىء، بل يذهب الشىء ويزيله، ويرده ما ذكرت من المبالغة والمجاز، وإنما قال بنورهم ولم يقل بضوئهم مع أن مقتضى اللفظ أن يقال بضوئهم من حيث إنه المذكور فى قوله { فلمآ أضآءت } للمبالغة فيفند إزالة النور عنهم أصلا، ولو قيل بضوئهم احتمل ذهاب ما فى الضوء من الزيادة، وبقاء ما يسمى نورا لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة، ويدل لذلك قوله { وتركهم فى ظلمات لا يبصرون } وإنه مقرر مؤكد فى المعنى، لقوله { ذهب الله بنورهم } حيث ذكر الظلمة التى هى عدم النور وانطماسه بالكلية ونقيضه، وقيل الظلمة عرض ينافى النور وترك فى الأصل بمعنى طرح وخل متعد لمفعول واحد، فضمن معنى صير فتعدى لاثنين كقوله

فتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم

فجزر، بفتح الراء، مفعول ثان لا حال لإضافته للمعرفة والمضاف للمعرفة معرفة، والحال لا يكون معرفة، بخلاف قوله جل وعلا { فى ظلمات } فيحتمل التعليق بمحذوف مفعول ثان، أو بمحذوف حال والتعليق بترك وجزر السباع شاة لسباع، والجزر الشاة المعدة للذبح، وجمع الظلمة ونكرها ووصفها بأنها ظلمة لا يمكن فيها الإبصار إبصار شىء ما للتعظيم والمبالغة ، فذلك أيضا من مؤكدات قوله { ذهب الله بنورهم } وقرأ الحسن بإسكان لام ظلمات، وقرأ اليمانى فى ظلمة بالإفراد، والظلمات ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة يوم القيامة

يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم

أو ظلمة الضلال، وظلمة سخط الله تعالى، وظلمة العقاب الدائم، أو كل ذلك، والجمع للتنصيص على الأنواع مجملة، وإلا فالظلمة مصدر يصلح لذلك ولو مفردا ولذا قرأ اليمانى بالإفراد، واشتقاق الظلمة من معنى قولك ما ظلمك أن تفعل كذا، أى ما منعك، لأن الظلمة تسد البصر وتمنع الرؤية.

قاله الزمخشرى والقاضى. والمشهور أن أصل الظلم معنى النقص كقوله تعالى

ولم تظلم منه شيئا

أو معنى وضع الشىء فى غير موضعه، كما قال الجوهرى، وقد يجتمع بين ذلك بأن مرادهم المنع عن عدم النقص والمنع عن وضع الشىء فى موضعه، وينصر فى الأصل متعد ونزل هنا منزلة اللام لعدم تعلق الغرض بمفعوله المطروح، فليس مفعوله مقدرا مبينا الكلام على تقديره ونيته، وجملة لا يبصرون مفعول ثان بعد مفعول، أو لمحذوف حال، أو حال من الهاء كما فى ظلمات حال منها.

[2.18]

{ صم } عن الهدى فلا يسمعونه سماع قبول، فإذا لم يقبلوه فكأنهم لم يسمعوه، فإذا لم يسمعوه فكأنهم لا يسمعون شيئا أصلا، إذ لا عبرة بسماع الأشياء مع عدم سماع الهدى، ولك أن تقول الآية إخبار عن كونهم صما عن كل شىء الهدى وسائر المباحات، كما يدل عليه الإطلاق، إذ كان سمعهم لا ينفعهم لعدم الاهتداء وهو جميع أصم، والأصم من لا يسمع، وسببه أن يكون باطن خرق الأذن مجتمعا لا تجويف فيه يشمل على هواء يسمع الصوت بتموجه فيه، وأصله الصم الذى هو صلابة من اجتماع الأجزاء وتصامها وكثافتها، ومنه حجر أصم وصخرة صماء وصمام القارورة وهو سدادها. { بكم } عن الهدى لا ينطقون به، وإذا نطقوا به فنطق لا يطابقه اعتقادهم، فإذا كانت هذه حالهم فكأنهم بكم فى كل شىء لا يطيقون النطق بشىء ما، إذ لا عبرة بنطق بالأشياء مع عدم النطق بالهدى، النطق بالمطابقة للاعتقاد، والمراد أنهم بكم عن كل كلام إذ كان نطقهم لا يكون نطقا موافقا له الاعتقاد، فهو لا ينفعهم فكأنهم لا ينطقون أصلا وهو جمع أبكم وهو من لا ينطق، ويقال له أيضا أخرس، وقيل من لا ينطق ولا يفهم أبكم وهو الذى ولد أخرس، ومن لا ينطق ولكنه يفهم أخرس، وهو الذى يسمع فكان يفهم ثم كان لا يسمع. { عمى } عن طريق الهدى فلا يبصرونه، وإذا ادعوا إبصاره ودخوله والعمل به فخداع لا تحقيق، فإذا لم يبصروه تحقيقا فكأنهم لم يبصروه، فكأنهم لا يبصرون بعيون وجوههم، إذ لا عبرة بالنظر بالعين مع عدم الاستدلال بها، أو المراد أنهم عمى عن نظر الأشياء رأسا من حيث الإطلاق، ومن حيث الاستدلال، إذا النظر بلا استدلال لا عبرة به، فكأنه لم يكن وهو جمع أعمى، والعمى عدم البصر كما من شأنه أن يبصر فلا يقال لغير الحيوانات أعمى، ولما لما لا عين له منها، فمن خلق بلا عينين لا يقال له أعمى لأنه ليس من شأنه أن ينظر بلا عين، وكذا من خلق بعين واحدة لا يقال لموضع عينه الأخرى أعمى، ويطلق العمى أيضا على عدم نور القلب، فمن لا نور فى قلبه يميز به الحق فلا فائدة فى نظر عينيه، لما لم يستعملوا آذانهم وألسنتهم وعيونهم فيما خلقت له من الهدى، سموا بأسماء من لا سمع ولا نطق ولا بصر لهم إذ لم ينتفعوا بها، فكانت كالعدم فهم كمن إيفت حاسته، بكسر الهمزة وإسكان الياء، كبيعت أى أصيبت بآفة. قال الشاعر

ما بال قوم صديق ثم ليس لهم عهد وليس لهم دين إذا أتمنوا صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

أى إذا مسعوا خيرا ذكرت به صاروا كمن لا يسمع فلا ينطقون به ولا ينشرونه، وإن ذكرت بسوء كانت لهم آذان السمع فيعونه وينشرونه أو من أذنت للشىء إذا أصغيت إليه. وقال آخر

أصم عما ساءه سميع

وقال آخر

أصم عن الشىء الذى لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد

وعدى أصم بعن لتضمين معنى التغافل. وقال آخر

وأضممت عمرا وأعميته عن الجود والفخر يوم الفخار

وكل من لفظ أصم وأبكم وأعمى صفة مشبهة لا اسم تفضيل، والآية من باب الاستعارة التصريحية باعتبار كل واحد من لفظ صم ولفظ بكم ولفظ عمى، فتلك ثلاث استعارات أو ذلك كله استعارة تمثيلية، وإنما قلت بأن ذلك من الاستعارة مع كون المشبه والمشبه به كليهما مجتمعين فى الكلام، من حيث إن المشبه به خبر للمشبه المحذوف المقدر المجعول من أجزاء الكلام، فكأنه مذكور، أى هم صم بكم عمى، أو هؤلاء صم بكم عمى، لأنه لا فرق عندى فى الاستعارة بين عدم كون المشبه من أجزاء الكلام، وكونه من أجزائه مذكورا أو مقدرا، إذا لم يقصد المتكلم التشبيه، بل قصد أن المشبه هو نفس المشبه به مبالغة، فقولك فى زيد المقدام زيد أسد استعارة وهو مختار السعد، وكذا قال السبكى مؤلف " جمع الجوامع الأصولى فى شرح تلخيص القزوينى " بجواز ذلك، إذ قال ما حاصله إنه تارة يقصد فى نحو زيد أسد التشبيه بأداة مقدرة فلا استعارة، وتارة لا يقصد فيكون لفظ أسد مستعملا فى حقيقته، وذكر زيد والإخبار عنه به قرينه صارفة إلى الاستعارة، فيكون لفظ أسد استعارة، ولا تنافى الاستعارة كونه مستعملا فى حقيقته، لأن معنى كونه فى حقيقته أنه ليس على طريق التشبيه والاستعارة، إنما هى فيه من حيث إنه على حقيقته وادعى أن زيدا أسد حقيقته هكذا ظهر فى توجيه كلامه، وقال قوم منهم الزمخشرى والقاضى إن الآية والمثال ونحوهما ليست على الاستعارة، بل تشبيه بليغ، لأن المشبه مذكور أو مقدر الذكر بناء على الاشتراط فى الاستعارة ألا يذكر المشبه، ولا يكون محذوفا مقدرا من أجزاء الكلام، بل يطوى عنه بحديث يمكن حمل الكلام على المشبه به لولا القرينة، وبحيث يقبل ظاهر الكلام الحمل على الحقيقة، وإذا قلت فى الضال السامع بالإذن مجرد السمع إنه أصم لم يكن لعارفه أنه سامع أن يحمل ظاهر الكلام على الصمم الحقيق، وإذا قلت فى زيد المقدام زيد أسد لم يقبل ظاهر الكلام أنه أسد حقيقى. وكذا قول عمران بن حطان رحمه الله فى الحجاج

أسد على وفى الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر

وفتخاء مسترخية الجناح، والنعامة مثل فى الجبن بخلاف قول زهير

لدى أسد شاكى السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم

فإنه لم يذكر لفظ المشبه ولا نوى ذكره فحذفه، فاحتمل ظاهر الكلام لولا القرينة الحمل على الحقيقة، والقرينة هى لدى، وشاكى السلاح أى تامه تجريد عن بعض المبالغة فى جعل الشجاع من جنس السبع، لأن تمام السلاح مما يلائم المشبه، وأصل شاكى شائك أخرت الياء عن الكاف فلم تقلب بعدها همزة كما قلبت إذا كانت قبلها، وقد تحذف الياء المنقلبة همزة قبل الكاف فيعرب على الكاف، كما إذا ثبتت، ويحتمل حذفها بعد تأخيرها عنها، وفيه ضعف لان فيه خروجا عن الأصل مرتين التأخير والحذف، غير أن الحذف من الآخر أنسب ولو كان الآخر فى نية التقديم، ومقذف مرمى باللجم أى مكثر فيه أو مرمى به فى الحروب، وله لبد ترشيح وتقوية للمبالغة، لأنه ملائم المشبه به، فإن اللبد الشعر المتلبد على رقبة الأسد، ومعنى أظفاره لم تقلم لم يعتره ضعف، لأنه يقال فلان مقلوم الأظفار أى ضعيف، ويحتمل أن يكون المراد ظاهره من عدم تقليم الأظفار، فإن السبع لا تقلم أظفاره بخلاف الإنسان فيكون ترشيحا آخر، وقد تكلمت فى شرحى على شرح عصام الدين على البيت، وترى الآيتين بالأمر الفلق، بكسر اللام، أعنى العجيب يعرضون عما يوهم التشبيه إعراضا إذا أراد إكثار المبالغة، وتأتون بما ينافيها كقول أبى تمام

ويصعد حتى يظن الجهول بأن له حاجة فى السماء

فإن ظن الجهول أن له حاجة فى السماء ينافى أن يكون صعوده على التشبيه، مع أن المراد فى نفس الأمر التشبيه، وما ذكر من الاستعارة أو التشبيه مبنى على المبتدأ المحذوف ضمير عائد إلى المنافقين، أو اسم إشارة عائد إليهم كما مر التقدير على أن الآية فذلكة التمثيل ، والفذلكة ذكر الشىء مجملا بعد ذكره مفصلا أخذا من قولك بعد التمام، فذلك كذا، وإن قلنا بعوده إلى الذى استوقد نارا على أحد الأوجه فى رد ضمير الجماعة إليه، فالكلام حقيقة مجرد عن التشبيه بالصم والبكم والعمى، بل هو من تمام المستوقد الممثل به، كأنه قيل ترك المستوقدين فى ظلمة عظيمة لا يمكن فيها إبصار ما، بحيث اختلت آذانهم عن السمع وألسنتهم عن النطق، وعيونهم عن الإبصار لقوة الدهش، وجملة المبتدأ والخبر حال من الضمير فى لا يبصرون، أو من هاء تركهم على كل وجه ويدل له قراءة بعضهم صما بكما عميا بالنصب على الحالية، أو الجملة مستأنفة وهذا الوجه مختص برد ذلك إلى المنافقين. { فهم لا يرجعون } عن الضلالة التى اشتروها إلى الهدى الذى باعوه، فإن كانت الآيات فى منافقين معينين عند الله سبحانه وتعالى، أو عنده وعند النبى صلى الله عليه وسلم، فذلك واضح، إن كانت مسوقة على الإجمال، فالمعنى أنهم لا يرجعون ما داموا على الحال التى وصفهم بها، وهذا الوجه أصح ويجوز جعل هذا المعنى فى وجه تعينهم بحسب ما يظهر للخلق من إمكان زوالهم على الحال المذكور، ولو كانوا عند الله لا يزولون عنها، ويجوز أن يكون لا يرجعون بمعنى أنهم محيرون لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، ولا يدرون كيف ترجعون إلى الوضع الذى ابتدءوا منه، وهذا الوجه يحتمل عود الجملة إلى المستوقد وهو أنسب، وإلى المنافقين.

وما قيل هذا الوجه يختص بهم، وقالوا من كتب سبع شينات فى خرقة حرير صفراء وثلاث واوات ثم كتب بعدها { صم بكم عمى فهم لا يرجعون } وقابلها للنجوم ثلاثة ليال، وحرز عليها وحملها على تاجه دخل بها على من أراد انعقد لسانه بإذن الله تعالى.

[2.19]

{ أو كصيب } عطف على قوله

كمثل الذى استوقد نارا

بتقدير مضافين، أى كمثل أصحاب صيب كما ذكر فى المعطوف عليه المثل، وصاحب الاستيقاد، ويدل لتقدير أصحاب أيضا رجوع الضمير إليه فى قوله { يجعلون } وأن الممثل به أصحاب الصيب لا الصيب نفسه، أو لأحد الشيئين أو الأشياء، وإن شئت فقل لتلعيق الحكم بأحد الشيئين فصاعدا بقطع النظر عن التخيير والإباحة والشك والتشكيك والإبهام والتقسيم والإضراب، فإن المقيدة لأحد المعانى المذكورة بخصوصه هو التركيب بواسطتها لا هى نفسها، فإنها لا تفيد بذاتها إلا تحصيل الحكم لأحد شيئين أو أشياء، وإذا أضيف إليها أفادت أحد تلك المعانى فمجاز مثل أن يقال أو تقيد الشك أو التخيير أو الإباحة أو نحو ذلك وأما أن يقال أو للشك أو للتخير أو نحو ذلك بمعنى أنها تستعمل حيث أريد ذلك، أو أنها معونة فيه فليس بمجاز، ويعلم من قولى بقطع النظر.. إلخ أن أو حقيقة فى المعنى الموجود فى تلك المعانى جميعا وهو مطلق حصول الحكم لأحد الشيئين أو الأشياء، مجاز فى تعيين ذلك الحصول على طريق التخيير أو طريق الإباحة أو نحوهما، وهذا أقعد من قول الزمخشرى والقاضى إن أو فى الأصل للتساوى فى الشك، ثم اتسع فيها فأطلقت للتساوى من غير شك، مثل جالس الحسن وابن سيرين، فإنها تفيد التساوى فى حسن مجالسة الحسن وابن سيرين من غير شك، ومثل قوله عز وجل

ولا تطع منهم آثما أو كفورا

فإنها تفيد التساوى فى وجوب عصيانه الآثم والكفور، لكن قولهما وفق باللغة، وإذا استعملت أو بمعنى الواو فمجاز لا غير، وأو فى قوله عز وعلا { أو كصيب } تحتمل أن تكون بمعنى الواو وأن تكون مستعملة فى تحصيل الحكم لأحد الشيئين، والحكم هو التشبيه، وذلك التحصيل على طريق التخير بمعنى أنه يصح تشبيه المنافقين بالذى استوقد نارا، أو يصح بأصحاب الصيب كلاهما سواء فى الجواز فأنت مخير فى تشبيههم بالمستوقد أو بأصحاب الصيب، والمشهور فى التخير عدم صحة الجمع، فإيضاح تخريج الآية أن يقال المعنى إنك إذا أردت الاختصار وتشبيههم تشبيها واحدا فقط فشبههم بالمستوقد فقط، أو بأصحاب الصيب فقط، وإن شئت فقل التحصيل فى الآية على طريق الإباحة، أى شبههم بهما أو بأحدهما، ولست أريد أنهما سواء فى التشبيه من كل وجه، بل سواء فى أصل الجواز كما صرحت به، إذا قلت سواء فى أصل الجواز، وإلا فتشبيههم بأصحاب الصيب أبلغ لأنه أدل على شدة الحيرة والأمر وفظاعته، ولذلك أخر فى الآية على سبيل الترقى من الأهون إلى الأغلظ. وتعلم من كلامى أنه لا يشترط التصريح بالطلب فى التخير والإباحة أو تقديره، بل تكفى عنايته وهو ظاهر كلام ابن مالك، فإن معنى الآية شبه المنافقين بالمستوقد أو بأصحاب الصيب فإن الطلب لم يصرح به فيها، ولم يكن محذوفا مقدرا واشترط كثير أن يكون مصرحا به أو محذوفا مقدرا، والصيب المطر سواء فسرنا السماء بالسحاب أو بسماء الدنيا، ويجوز تفسير الصيب بالسحاب على أن السماء سماء الدنيا، وسمى المطر والسحاب صيبا من الصوب بمعنى النزول، لأنهما ينزلان إلى الأرض، ونزول السحاب إليها نزول مائه، وقد قيل أيضا إنهما ينزلان من السماء، وأيضا قد يدنو السحاب من الأرض بعد ما كان أبعد، ومن استعمال الصيب وصفا للسحاب قول الشماخى

محا آيه نسج الجنوب مع الصبا وأسحم دان صادق الوعد صيب

وآيه جمع آية ونسج والهاء للمنزل الجنوب مع الصبا تخالفهما كتخالف الطعم والغزل لتقابلهما، فيدخل كل فى الآخر، فالجنوب ريح من ناحية سهيل عن يمين مستقبل المشرق، والصبا ريح من المشرق، والأسحم السحاب الأسود والدانى القريب من الأرض، سمى كونه بحال يطمع فى أمطاره مطرا نافعا وعدا تنزيلا لحالة منزلة النطق بوعد الأمطار، فوصفه بصدق الوعد، والصيب الكثير الأمطار وتلك الصفات أولى بالسحاب، فحمل الصيب عليه أولا، وإن كان يجوز حمله على المطر باطلاق أوصاف السحاب على المطر مجازا لتقاربهما غالبا، والأكثر فى الآية على المراد المطر وهو تفسير مجاهد، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال

" اللهم صيبا هنيئا "

وأصله صيوب بفتح الصاد وإسكان الياء الزائدة وكسر الواو، اجتمعت الواو والياء وسكنت السابقة منهما فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فوزنه فيعل بذلك الضبط، ويجوز أن يكون أصله صويبا بوزن كريم، قدمت الياء على الواو فكان الاجتماع المذكور فالإدغام المذكور، وسكون الياء قبل التقديم ميت لكونها بعد كسرة ، وبعده حى لكونها بعد فتحة، فوزنه على هذا قبل التقديم فيعل ككريم، وبعده بحسب اللفظ فيعل وفيه فى سيد من الأوجه، وقد ذكرتها فى شرح عصام الدين، ونكر الصيب تعظيما لأن المراد نوع من المطر أو من السحاب شديد، كما نكر النار فى قوله

كمثل الذى استوقد نارا

وقرى أو كصائب والصيب أبلغ. { من السمآء } من السحاب أو من سماء الدنيا أحد السماوات السبع، وكلما علاك وأظلك يسمى سماء كسحاب وسقف وثوب منشور فوقك، وإذا قلنا السماء سماء الدنيا، فأل للعهد الحضورى أو الذهنى أو الذكرى، فإنه قد عهد فى الذهن من ذكر صيب ومن ذكر غيره فى غير هذه الآية، وتقرر أن الماء من السماء على المتبادر من سائر الآيات، وكذا السحاب ويؤيد هذا التبادر قوله عز وجل

وينزل من السماء من جبال فيها من برد

إلا إن أراد ينزل من جهة السماء، وفى ظاهر ذلك رد على الحكماء الزاعمين أن المطر ينعقد من أبخرة الأرض، وعلى من قال ينعقد من البحر فذكر السماء مع أن المطر لا يكون إلا منها للرد عليهم، ويجوز أن تعتبر كل قطعة من السماء سماء فيكون كلما تحت تلك القطعة من أفق يسمى سماء، فتكون أل للاستغراق فيفيد أن الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء، ولا شك أن المطبق المظلم المريد المبرق كذلك أعظم تخويفا من الغمام الذى هو دون ذلك، فهذه مبالغة عظيمة مع المبالغة لتنكير الصيب ويجمع الصاد المستعلية وتشديد ما بعدها مع الباء الموحدة التى صفتها الشدة، وبها قيل إن الصوب فرط الانسكاب والوقوع، وبأن صيب فعيل وهو صفة مشبه دالة على الثبوت سواء قلنا أصله فعيل ككريم، أو غير منقول عن فعيل أو بأنه صفة مبالغة محولة عن صائب وأصله صويب كنصير، وإذا قلنا السماء السحاب فأل للحقيقة، وإن قلنا السماء السحاب وسماء الدنيا لنزول الماء منها جميعا وعلوها كما جمعا بين الحقيقة والمجاز بلفظ واحد إن قيل السماء حقيقة فى أحد السماوات مجاز فى السحاب، وكان جمعا بين معنيى كلمة واحدة قيل حقيقة فيهما وفى كلما علاك.

{ فيه } أى فى الصيب بمعنى السحاب أو بمعنى المطر أو فى السماء بمعنى السحاب. { ظلمات ورعد وبرق } بيان حصول الظلمة والرعد والبرق فى الصيب بمعنى السحاب، أو فى السماء بمعنى السحاب أن فيه ظلمة سواده، وظلمة تكاثفه وظلمة تطبيقه، وظلمة الليل الحاصلة فيه وتحته، وأن فيه الرعد والبرق وإنما يصلنا البرق من داخلة، وقيل ظلمات السحاب ظلمات تكاثفه وفقط، وبيان حصول ذلك فى الصيب بمعنى المطر إن فيه ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، وظلمة غمامه، وظلمة الليل الحاصلة فيه، وأن الرعد والبرق فى أعلاه، وحيث يصوب ملتمسين به فكأنهما فيه، فلفظة فى جاءت استعارة تبعية للملابسة المخصوصة الشبيهة بملابسة الظرفية، الحقيقة تقول زيد فى البلد وما هو إلا فى موضع واحد يشغله جسمه، وما يلتحق به من ثياب التى لبسها ونحوها تشبيها لكونه فى بعض البلد، يكون مظروف عم جميع الظرف، ولكن يلزم على ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز بكلمة واحدة، فإن حصول الظلمات فى المطر حقيقة، اللهم إلا أن يقال إن ذلك من عموم المجاز، واختلف فى الجمع بينهما على جوازه مرجوحة، وخلاف الأصل، ويتخرج أيضا من الجمع بينهما بتقدير فيه هكذا، فيه ظلمات وفيه رعد وبرق، وبيان التجوز المذكور كله، أن الرعد والبرق فى الجزء المتصل بحيث ينحدر المطر لا فى كله ولا هما تابعان له حيث ما تصوب، وإن قلنا المراد بالظلمات ظلمات السحاب، أضيفت إلى المطر، كان الكلام مجازا أيضا فى جهة الظلمات، ولذلك أن تقول المجاز مرسل لعلاقة المحاورة بأن تعتبر ظلمات السحاب، فإنهن والرعد والبرق مجاورات للمطر لا فيه، إذ لم نعتبر حصول الرعد والبرق فى المطر حيث ينحدر ويصوب، وفيه خبر، وظلمات مبتدأ، والجملة نعت لصيب أو حال من السماء أو من صيب لنعته بقوله { من السمآء } أو لتعلقه به أو نعت للسماء إذا جعلنا فيه للحقيقة، فإنه يجوز نعته حينئذ والحالية له، ويجوز كون النعت أو الحال فى ذلك كله هو قوله { فيه } فيكون ظلمات فاعل له مرفوعا به، لاعتماده على منعوت أو ذى حال، وقرئ بإسكان لام ظلمات كما مر، وللتعظيم والتهويل نكر الظلمة وجمعها، ونكر الرعد والبرق، وللتنويع كأنه قيل نوع عظيم من الظلمات والرعد والبرق، فهن ظلمات داجنة ورعد قاصف وبرق خاطف، ولم يجمع رعد وبرق لأنهما فى الأصل مصدران، والمصدر يصلح للقليل والكثير، فالجمع المقصود فيهما يفيده لفظهما بلا تغيير له إلى صيغة الجمع، واعتبر أصلهما فى جواز استعمالهما فى معنى الجمع أو لأنهما باقيان على المصدرية، كأنه قيل وإرعاد وإبراق بكسر الهمزتين مصدرى أرعد وأبرق، ويقال أيضا رعدت السماء رعدا، وبرقت برقا، والرعد صوت يسمع من السحاب كما قال الجوهرى، وسببه فيما ألهمنى ربى سبحانه وتعالى ضرب الملك الماء بعضه ببعض، والمشهور أن سببه اضطراب اجرام السحاب واصطكاكها إذ ساقتها الريح، فاضطرابها واصطكاكها بالريح، ويطلق الرعد على الملك والمشهور الأول وهو أنسب بالآية، وهو مشترك بين الملك والصوت.

ففى بعض الأحاديث أنه ملك موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه إلى حيث يشاء الله، وصوته ما يسمع، وفى بعض الأحاديث أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعى بغنمه، وفى بعضها أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادى الإبل بحدائه، وفى بعضها أنه ملك يسمى به وهو الذى يستمعون صوته، فعن ابن عباس وشهر بن حوشب ومجاهد وغيرهم هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفته سحابة صاح بها، فاشتد غضبه فطارت النار من فيه هى الصواعق، وأكثر العلماء أن الرعد ملك، وذلك الصوت تسبيحه وزجر للسحاب، وقال على بن أبى طالب الرعد اسم الصوت المسموع وهو مأخوذ من الرعدة، سواء بمعنى الصوت أو الملك، فإن ذلك الصوت مرتعد والملك مرتعد من صوته، وأيضا ذلك الصوت على القول بأنه من الماء، سببه ارتعاد الماء واضطرابه، والبرق هو النور الذى يلمع من السحاب مأخوذ من قولك برق الشىء بريقا أى لمع، قيل هو لمعان الصوت الذى يزجر به السحاب، وقال على بن أبى طالب عن النبى صلى الله عليه وسلم المخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب، وقال ابن عباس هو سوط نور بيد الملك يزجر به السحاب، وعنه أن البرق ملك يتراءى. { يجعلون } هذا وما بعده إلى قوله { قاموا } عائد إلى تهويل الصيب وظلماته ورعده وبرقه، فالجملة نعت أو حال لصيب أو لرعد وبرق، وهو أولى لعدم الفصل بالعطف والرابط محذوف، أى الصواعق منه أو منهما أو الرابط أل أى صواعقه أو صواعقهما هذا ما أقول.

وقال غيرى الجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف حالهم مع تلك الشدة والهول الحاصلين من الظلمات والرعد والبرق والصيب؟ فقيل يجعلون أى يجعل أصحاب الصيب، فحذف المضاف للصيب وروى هنا كقوله

يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل

فمن، بفتح الميم، مفعول يسقون، والبريص مفعول ورد، ومعنى ورد بلغ ووصل، والبريص نهر تشعب من بردى، وبردى نهر كبير بدمشق وألفه للتأنيث، وهو فعلى من البرودة، مفعول ثان يسقون على حذف مضاف، أى ماء بردى، وقد روعى هذا المضاف فى قوله يصفق بالتذكير أى يصفى ماؤها، ولو روعى المضاف إليه وهو بردى لقيل تصفق، والباء بمعنى مع. { أصابعهم } أى أناملهم وهى رءوس الأصابع، فأطلق اسم الكل على البعض للمبالغة فى سدهم آذانهم حتى لا يسمعوا شيئا من الصوت، فهو مجاز مرسل علاقته الكلية أو البعضية، أو هما، إذ سمى البعض باسم الكل، فالأصابع كلمة مستعملة فى غير ما وضعت له، ويجوز أن يقدر مضاف أى أنامل أصابعهم أو رءوس أصابعهم، فيكون مجاز الحذف، وعليه فالأصابع كلمة مستعملة فيما وضعت له، وفى حذفت المضاف أيضا مبالغة إذا يبقى ظاهر اللفظ كأنهم يجعلون أصابعهم كلها لا أناملها فقط، وذلك على سبيل التوزيع، أى يجعل كل واحد أصبعا فى أذنيه، فلكل واحد أذنان يجعل فى كل واحدة أصبعا من أصابعه، كقولك لبس القوم نعالهم، والمراد بالأصابع السبابات إذ هى المعهودة فى سد الآذان، ولم تذكر لأن اسمها من السب فتركت لآداب القرآن ولم يسمها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدعاء لأنهم لا يعرفونها بهذه الأسماء، لأنهن مستحدثات، أو أطلق ولم يعين بالاسم، لأنهم قد يسدون آذانهم بغيرها كالصغيرة لرقتها، فيدخل منها ما لا يدخل من غيرها، والتى تليها لغلظ أعلاها فتعم السد، وكالوسطى لغلظ أعلاها وطولها وقوتها، وكالإبهام لأنها أمكن فى العمل وأقوى وأغلظ وأوسع، ويشير إلى أنهم لشدة هولهم لا يتخيرون أصبعا بل ما تيسر من الأصابع. { فى ءآذانهم } جمع أذن. { من الصواعق } من للتعليل متعلقة بيجعلون نحو سقاه من العيمة بفتح العين أى سقاه لأجل شدة اشتهائه اللبن، وإنما جمعت الصاعقة على صواعق لأنها ليست صفة في الحال، وإن أبقيناها على الوصفية فصفة غير عاقل، تجمع على فواعل قياسا، والصاعقة قصفة رعد هائل معها نار لا تمر بشىء إلا أهلكته، وتؤثر فى الجبل، وهى لطيفة سريعة الخمود سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف وطفئت، وقد تكون بلا رعد. والقصف الكسر، والمراد بقصف الرعد صوته أو شدة صوته. وقال التفتازانى شدة صوته، والتعريف المذكور ذكره الزمخشرى والقاضى وهو مجاز.

والحقيقة ما قال الجوهرى الصاعقة نار تسقط من السماء فى رعد شديد، وذكر بعض أن الصاعقة ثلاثة الموت كقوله تعالى

فصعق من فى السماوات

والعذاب كقوله تعالى

أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود

والنار كقوله تعالى

ويرسل الصواعق

قال الطيبى هذه الأشياء متولدة من الصاعقة، فإنها الصوت الشديد من الجو، ثم يكون منه نار أو عذاب أو مزن، وهو مبنى على أنها الصوت، وقد مر أنه مجاز، ومثله قول بعض الصاعقة الصيحة التى يموت كل من سمعها أو يغشى عليه، وقيل قطعة من العذاب ينزلها الله على من يشاء. وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال

" اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك "

رواه الترمذى، وقال حديث غريب، ولفظ الصاعقة مأخوذ من الصعق وهو شدة الصوت، وقد يطلق لفظ الصاعقة على كل هائل مسموع أو مشاهد، ويقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت، ولفظ الصاعقة فى الأصل اسم فاعل، أى قصفة صاعقة، أو صيحة صاعقة، أى مهلكة، وتغلبت عليه الاسمية، والتاء للنقل، أعنى أنها مستصحبة من حيث كان اسم فاعل لا محدثة للتأنيث، ويجوز أن يكون فى الأصل، قبل تغلب الاسمية نعتا للرعد، أى رعد صاعق، أى قاصف، وعلى هذا الوجه فالتاء محدثة للمبالغة، أى كثير الصعق، كما يقال زيد راوية، أى كثير الرواية، ويجوز أن يكون مصدرا بوزن اسم فاعل كعافية، وكما يستعمل لفظ كاذبة كقوله تعالى

ليس لوقعتها كاذبة

أى كذب، وكاشفة كقوله

ليس لها من دون الله كاشفة

أى كشف، ولاغية كقوله تعالى

لا تسمع فيها لاغية

أى لغو، وخائنة كقوله تعالى

لا تزال تطلع على خائنة

أى خائنة. والعاقبة كقوله تبارك وتعالى

والعاقبة للمتقين

أى العقبى على أحد أوجه فى الآيات، وقرأ الحسن من الصواقع بتقديم القاف على العين، يقال صقعته الصاعقة وصقعه وصعقه بمعنى واحد، فليس أحدهما مقلوبا من الآخر، وفرعا عليه، لأن كلا مستقل يتصرف، يقال صقع يصقع فهو صاقع صقعا، وهن صواقع، يقال صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع، أى مجهر بخطبته، فهما كجبذ وجذب فلو كان مقلوبا لم يتجاوز عن صورة واحدة، وقال الرغب، اللفظان متقاربان وهما الهدة الكبيرة، إلا أن الصقع يقال فى الأجسام الأرضية، والصعق فى الأجسام العلوية. انتهى، أى غالبا. أو معنى قوله يقال بعت وبدليل الآية فى القراءة الثانية وبدليل صعق عمر، وبمعنى هلك أو سكر وصعق بزلزلة الأرض. { حذر الموت } مفعول لأجله منصوب مضاف لمعرفة، والكثير فى مثله الجر بحرف التعليل قيل وهو نادر، واختلف فى قياسه كما بسطته فى النحو ورويت فى قراءتى فى شرح الشريف بن يعلى الحسنى الفاسى على الأجرومية شاهدا على ذلك قول حاتم الطائى

* وأغفر عوراء الكريم ادخاره *

أى أغفر فعلته أو كلمته أو خصلته السيئة لادخاره وتمامه.

* وأعرض عن شتم اللئيم تكرما*

والشاهد فى الأول، وأما تكرما فمفعول لأجله نكرة، ولذلك شواهد أخر، وقرأ ابن أبى ليلى حذار الموت، بكسر الحاء، وبالألف بعد الذال، وفيه مبالغة أو هو مصدر حاذر، وفى الإتيان به أيضا مبالغة، لأن المفاعلة صيغة مجالدة ومعاندة، وإن قلت كيف صح تعليلان لشىء واحد بلا بدلية ولا عطف ولا بيان ولا تأكيد لفظى، فإن من التعليلية وحذر تعليلا ليجعل؟ قلت التعليل بحذر منظور فيه إلى يجعلون مع قوله { من الصواعق } لا لمجرد قوله { يجعلون } كأنه قال سبب جعلهم أصابعهم فى آذانهم الحاصل لأجل الصواعق هو حذر الموت، أو من بمعنى عن أو فى أو عند، أى فى حال الصواعق أو عند الصواعق، أو حذر حال مبالغة أو حال بتقدير مضاف، أى ذوى حذر الموت أو بالتأويل بحاذرين أى حاذرين الموت، بنصب الموت أو حاذرين الموت بجره، او مفعول مطلق ليجعلون.. إلخ، لأن الجعل محاذرة للموت أو المحذوف أى يحذرون الموت حذرا، فحذف يحذرون وأضيف حذر الموت كسبحان الله، أى يحذرون سماع الصواعق حذر الموت، كضربته ضرب الكافر، ثم رأيت الوجه الأول قد ذكره ابن هشام، إذ قال وزعم عصرى فى تفسير له على سورة البقرة وآل عمران فى قوله تعالى { يجعلون أصابعهم فى ءاذانهم من الصواعق حذر الموت } أن من متعلقة بحذر أو بالموت، وفيهما تقديم معمول المصدر، وفى الثانى أيضا تقديم معمول المضاف إليه على المضاف، وحامله على ذلك أنه لو علقه بيجعلون وهو فى موضع المفعول له لزم تعدد المفعول له من غير عطف، إذ كان حذر الموت مفعولا له، وقد أجيب بأن الأول تعليل للجعل مطلقا والثانى تعليل له مقيد بالأول، والمطلق والمقيد متغايران، فالمعلل متعدد فى المعنى وإن اتحد فى اللفظ... انتهى. والعصرى بإسكان الصاد نسبة إلى العصر، والمراد به ابن عقيل، وهما فى عصر واحد وبيان تعدد المعلل أن { يجعلون } معلل بقوله من الصواعق، وأن { يجعلون أصابعهم فى ءاذانهم من الصواعق } معلل بقوله { حذر الموت } والموت زوال الحياة عما كانت فيه، وإن شئت فأسقط قولك عما كانت فيه، لأن لفظ الزوال يعنى عنه لأن أصل الزوال العدم بعد الوجود، وذكر صاحب شرح المواقف أن الموت عدم الحياة عما اتصف بها الفعل، وإنما ذكر قولك عما اتصف بها بالفعل لأنه عبر بالعدم، والعدم كما شاع استعماله فى العدم بعد الوجود شاع فى العدم بدون وجود، فيكون بمعنى نفى الوجود، واعتبر صاحب المطالع الزوال بمعنى العدم، فذكر ما نصه الموت زوال الحياة عما من شأنه الحياة، فزاد عما من شأنه الحياة ليخرج ما عدمت فيه الحياة، ولم تكن فيه بل ذلك كالحجر، ولو أبقى الزوال على ظاهره لم يحتج لهذه الزيادة، مع أن عبارته توهم تسمية الجنين قبل حلول الحياة فيه ميتا، وعلى هذه الحدود التقابل بين الموت والحياة تقابل العدم والملكة، وقال بعض الموت عرض يضاد الحياة لقوله تعالى

خلق الموت والحياة

فجعل الموت مخلوقا والعدم لا يخلق، ورد قول هذا البعض بأن الخلق بمعنى التقدير والإعدام مقدرة، وإن قلنا الخلق بمعنى الإيجاد فالمعنى خلق أسباب الموت والحياة، وعلى قول ذلك البعض التقابل بين الموت والحياة تقابل التضاد، وفى معناه عبارة بعضهم الموت عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة، والصحيح ما ذكرته أولا، وهو المشهور عن أهل اللغة، ويوافقه أن نقول الموت مفارقة الروح الجسد، وعلى جميع الأقوال هو عرض، وأما ما ورد فى الأحاديث من أنه جسم حيث قيل إنه على صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات فمؤول بأنه لم يقصد بالموت حقيقة، بل أراد أنه تصور بصورة كبش، كما ورد فى البخارى ومسلم

" يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار... "

الحديث، ومن لازم الموت على كل قول فساد بنية الحيوان، فتفسير الزمخشرى له بفساد بنية الحيوان تفسير باللازم، وإن قلت ما معنى تقابل العدم والملكة؟ قلت معناه تقابل انتفاء الشىء وصلاحيته للثبوت، فالملكة الإمكان والصلوح، وأقسام التقبل فيما يظهر لى أربعة، لأن المتقابلين إما وجوديان أو وجودى وعدمى، فإن كانا وجوديين لا يتصور أحدهما إلا بالآخر كالبنوة مع الأبوة، والأخوة بين الاثنين فمتضايفان، وتقابلهما تقابل التضايف، وإن تصور أحدهما مستقل ولو لم يكن الآخر فمتضادان، وتقابلهما تقابل التضاد، كالسواد والبياض، والموت والحياة ، إذا فسرنا الموت بالعرض الذى لا يجامع الحياة، فإن حاصله موجود فى نحو الحجر، وليس حاصل الآخر وهو الحياة موجودا فيه، وإن كان أحدهما عدميا والآخر وجوديا فإن اعتبر فى العدمى كون الموضوع قابلا للوجود بحسب شخصه كعدم اللحية عن الأمرد، أو نوعه كعدمها عن المرأة، أو جنسه القريب كعدمها عن الفرس، أو جنسه البعيد كعدمها عن الشجر فهما متقابلان، وتقابلهما تقابل العدم والملكة، ومنه عدم الحياة عمن كانت فيه المسمى بالموت وعدمها من الجنين عند صاحب المطالع، وإن لم يعتبر ذلك فمتقابلان تقابل الإنجاب والسلب، كالسواد وأن لا سواد، والحياة وأن لا حياة، وقيل معنى { يجعلون أصابعهم.. إلخ } أنهم كرهوا الجهاد إذ لا رغبة لهم فى الشهادة. { والله محيط بالكافرين } أى وعقاب الله أو إهلاكه محيط بهم إذا جاء فى الدنيا والآخرة لا يجدون عنه خلاصا، فحذف المضاف، ويجوز أن يكون ذلك استعارة تمثيلية، بأن يشبه إنفاذ وعده فيهم، وتعميمه إياهم، وعدم خلاصهم منه، بخدع أو حيلة، بإحاطة المحيط على المحاط به كله للانتقام، وعدم الخلاص بحيلة أو خدع، أو شبه شمول علمه بهم، وقدرته عليهم بإحاطة القوم المحصى المطلق على المطلق به وفعل الله وصفته أقوى، ومع ذلك يشبهان بفعل غيره وذلك للإفهام والتصوير للحس، ويجوز أن تكون الاستعارة مفردة فى قوله { محيط } فتكون تبعية تصريحية، بأن يشبه مجرد إنفاذ وعيده أو شمول علمه بهم، أو شمول قدرته بالإحاطة بالشىء بقطع النظر عن توابع ذلك فلا تدخل فى التشبيه، فلا منافاة بين الاستعارتين التمثيلية والمفردة، كما قيل إلا أن يقال إنه أراد المنافاة فى جمعهما فى حال واحد، فإن جمعهما لا يصح، بل تحمل على هذه فقط أو هذه فقط، والجملة معترضة، لأن ما قبلها وما بعدها متصل معنى من قصة واحدة.

قلنا ما قبلها فى تهويل أمر الصيب وما بعده كذلك، لإن الصواعق من ذلك الصيب والبرق الذى كاد يخطف أبصارهم منه أيضا، والجملة بعدها مستأنفة ونكتة الاعتراض تعقيب ذكر حذرهم بذكر أنه لا يفيدهم خلاصا، فالاعتراض كما يكون بين المتصلين صناعة ومعنى كالفعل والفاعل، والتابع والمتبوع يكون بين المتصلين معنى وإن جعلنا جملة يكاد البرق حالا أو نعتا لصيب أو للسماء أو حالا من هاء فيه كان الاعتراض بين متصلين صناعة ومعنى.

[2.20]

{ يكاد البرق يخطف أبصارهم } تقدم إعراب هذه الجملة مستأنفة وغير مستأنفة، وعلى الاستئناف، فهو بيانى، فكأنه قيل ما حالهم مع ذلك البرق العظيم؟ فأجيب بأنه من عظمة يكاد يخطف أبصارهم او كأنه قيل ما مضرة البرق فإنه نور حسن؟ فأجيب بأنه هائل يكاد يضر أبصارهم.. هكذا أقول. وقا القاضى كأنه جواب لمن يقول ما حالهم من تلك الصواعق؟ فأجيب بأن من أدنى مضرة البرق الهائل الذى يكاد يخطف أبصارهم، وكاد لمقاربة الخبر من الوقوع لعروض سبب الوقوع، لكن لم يقع لفقد شرط أو عروض مانع، فيخطف أبصارهم قريب الوقوع لعروض شدة البرق، لكنه لم يقع فضلا من الله تبارك وتعالى، فإذا تقدم نفى فالأصل أن يكون نفيا لمقاربة الخبر عن الوقوع، فيكون المعنى إنه لم يقرب وقوعه فضلا عن أن يقع، وتارة يكون نفيا لوقوع الخبر عن قريب فيثبت وقوعه عن بعيد، والغائب أن يكون خبرها مضارعا تنبيها على أنه المقصود بالقرب مجردا من أن، لأن أن للاستقبال المنافى للقرب، بخلاف الحال، وإذا لم يجرد فحملا على عسى لتشاركهما فى أصل المقاربة، فإن عسى إما رجاء ورجاء الشىء طلب له واستجلاب وحب لقربه، وإما توقع للمكروه، والمكروه لو كان بعيدا يخاف وقوعه ويصور بصورة القريب تحرز أو نفورا عنه، وأيضا المحبوب حاضر فى القلب يصور بصورة الواقع إذا اشتد حبه، والخطف الأخذ بسرعة، وقرأ مجاهد يخطف أبصارهم، بكسر الطاء، على أن ماضيه مفتوح، وقراءة السبعة وغيرهم، بالفتح، أفصح على أن ماضيه مكسور، وكسر ماضيه أفصح. وقرأ ابن مسعود يخطتف بوزن يفتعل، وقرأ الحسن يخطف، بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة، والأصل يختطف كقراءة ابن مسعود نقلت فتحة التاء إلى الخاء وأبدلت التاء طاء وأدغمت الطاء فى الطاء، وعن الحسن أيضا يخطف بذلك الضبط والنقل والإبدال والإدغام إلا الخاء، فإنه كسرها فى هذه الرواية إلحاقا بالطاء بعدها فى حركتها، وهذا أولى مما قيل إن الرواية جاءت على لغة من يدغم بلا نقل، بل بسكن ويدغم، ويجيز إبقاء الساكن الأول على حاله، ويجيز تحريكه لالتقاء الساكنين، وهى لغة رديئة. وقرأ زيد بن على يخطف بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الطاء مكسورة. وقرأ أبى يتخطف كقوله تعالى

ويتخطف الناس من حولهم

لكن بالبناء للفاعل، بخلاف يتخطف الناس فإنه للمفعول، وفى تلك القراءات كلها مبالغة غير قراءة الجمهور ومجاهد، والفعل فى الجمع متعد. { كلمآ أضآء لهم مشوا فيه } كل ظرف زمان أساغ ظرفيتها كونها مضافة لمصدر نائب عن اسم الزمان، وما مصدرية أى كل إضاءته، أى كل زمان إضاءته، وهو متعلق بمشوا وضمير أضاء وضمير فيه عائدان إلى البرق، ويقدر مضافان فى الثانى، أى مشوا فى مطرح نوره، أو الظرفية التى أفادتها فى مجازية لا حقيقة، فلا يقدر شىء، أو يقدر واحد، أى فى نوره، وإن قدرنا هكذا فى مطرحه كانت حقيقة أيضا، ومفعول أضاء محذوف، أى كلما أضاء لهم مومضا أو شياشجره، أى نوره مشوا فى مطرح نوره، فالهاء عائدة إلى البرق، ويجوز عودها إلى الوضع الذى أضاء لهم المحذوف، ويجوز كونه لازما أى كلما ظهر لهم البرق ولمع مشوا فيه، ويدل له قراءة ابن أبى عبلة كلما أضاء لهم بترك الهمزة الأولى والهاء للبرق، ويجوز عود ضمير أضاء إلى الله على الأوجه كلها، وجملة مشوا مستأنفة أو حال من البرق أو من ضميره فى يخطف، وفيه الأوجه السابقة فى يكاد البرق.

. إلخ، وعلى الاستئناف فهو يأتى كأنه قيل ما يفعلون فى حين خوف البرق وحين خفته فقال { كلمآ أضآء لهم مشوا فيه }. { وإذآ أظلم عليهم قاموا } والجملة هذه معطوفة على مشوا فيه، فعلى أن الظروف والفضلات لسن من الجملة، فالمعطوف قاموا على أنها منها فالمعطوف إذا وشرطها وجوابها، فإذا تقرر هذا علمت أن جواب إذا ونحوها قد يكون له محل، ويدل على ظرفية كل مقابلته بإذا الظرفية ، وإنما قال مع الإضاءة كلما، ومع الإظلام إذا، لأنهم حراص على المشى، فكلما أمكنت لهم مشية بادروها، وليس القيام عند الإظلام بهذه المنزلة، ومعنى قاموا. وقفوا وتركوا المشى، كقولك قامت السوق أى سكنت، ضد قامت بمعنى نفقت، وقولك قامت بمعنى سكنت لانتهائها، وقام الماء جمد وترك المشى الحابس، وكأنه قيل وإذا أظلم عليهم قاموا، وزعم بعض أن الإقامة عند الإظلام مراد تكريرها، وأن ترك ذكر تكريرها استغناء بذكره فى الإضاءة، أو لاستفادته من الإظلام، فإن تكرير الإضاءة لا يتحقق إلا بتكرير الإظلام، وهذا الوجهان لا حاجة إلى ذكرهما، أما الأول فلأنه لا دليل عليه، وأما الثانى فلأنه ظاهر صريح الأخذ من بعض اللغة، فلا يحسن أن يجعلا مقابلين لما ذكرته أولا ولا رادين له، فإنما ذكرته أولا هو أنه ذكر اللفظ الذى هو نص مسوق لمجرد التكرير، لأنه لا تسلم دلالتها عليه، وإذا كان المعنى عليه فالمفيد له المقام لا هى، وأظلم لازم وضميره للبرق، ويجوز كونه متعديا فضميره للبرق، أو لله، أى أظلم الله عليهم ممشاهم، أو أظلمه عليهم البرق بسبب خفاء به، والمتعدى من ظلم بمعنى كان لا ضوء فيه، ويشهد للتعدى قراءته يزيد بن قطيب أظلم بالبناء للمفعول ثم ظهر لى أنه يحتمل أن يكون فى قراءة لازما كما يقال مر يزيد فليس نصا فى التعدى، والنائب على كل حال هو قوله { عليهم } سواء كان لازما أو متعديا بالجواز نيابة الظرف عن فاعل متعدى إذا لم يذكر مفعوله، ويحتمل على بعد أن يكون متعديا ونائبه ضميره عائد إلى الممشاء المدلول عليه بالمقام إذ لم يتقدم له ذكر، وجاء متعديا فى قول حبيب بن أوس

هما أظلما حالى ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب

فحالى مفعول أظلم، ويحتمل أيضا كونه ظرفا فيكون أظلم لازما، وهو من المحدثين لا يستشهد بكلامه فى اللغة والنحو والصرف ونحو ذلك، لكنه عند قومنا ثقة من علماء العربية، فيجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، كما يقال ذلك فى سيبويه ونحوه، يقال لو لم يرووا مثل ما قالوا عن العرب ولم يستمعوا نظيره لما قالوه. وبحث التفتازانى بأن مبنى الرواية على الوثوق والضبط، ومبنى القول على الدراية والإحاطة بالأوضاع والقوانين، والإتقان فى الأول لا يستلزم الإتقان فى الثانى، والقول بأن قوله بمنزلة نقل الحديث بالمعنى ليس بسديد، بل هو بعمل الراوى أشبه، وهو لا يوجب السماع، والمحدث بإسكان الحاء وفتح الدال الشاعر الذى أحدثه الله - جل وعلا - بعد الصدر الأول من الإسلام، كحبيب بن أوس والبحترى وأبى نواس، ولا يستشهد بكلامهم لأنهم بعد فساد الألسنة، ويقابلهم الجاهليون كامرئ القيس وزهير، والمخضرمون وهم من أدرك الجاهلية والإسلام كحسان ولبيد، والمتقدمون من أهل الإسلام كالفرزدق وجرير، ويستشهد بكلامهم، أو المحدث، بفتح الحال والدال المشددة من يلهمه ويلقى الغيب فى روعه، أعنى فى قلبه كأن أحدا يكلمهم ويخبرهم، والمحدث، بفتح الحاء وكسر الدال المشددة، من اعتنى بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العلماء ينطق به ويعلمه الناس، وهما فى البيت عائد إلى الدهر والعقل، وحالاه حاله الدنيوى والدينى، ومعنى أجليا كشفا ومعنى عن وجه أمرد أشيب عن وجهى وأنا شاب فى السن شيخ أشيب فى تجربة الأمور، وأشيب فى غير وقت الشيب لمقاساة الشدائد، فنفى ذلك تجريد وأسند الإظلام إلى العقل والدهر، لأن العاقل لا يطيب له عيش والدهر يعادى كل فاضل. والله أعلم. واختلف المفسرون فى المقصود فى التمثيل فى الصيب المذكور، فقال الجمهور مثل الله سبحانه وتعالى بالصيب لما فيه من الإشكال على المنافقين من حيث إنهم فى ظلمات الكفر والمعاصى، وما فيه من الوعيد والزجر وهو الرعد، وما فيه من الحجج الباهرة هو البرق، وتخوفهم وروعهم وحذرهم وهو جعل أصابعهم فى آذانهم، وفضح نفاقهم واستشهار كفرهم، وتكاليف الشرع التى يكرهونها من نحو الجهاد والزكاة هى الصواعق، وعن ابن مسعود أن المنافقين فى مجلس رسول الله - صل الله عليه وسلم - كانوا يجعلون اصابعهم فى آذانهم لئلا يستمعوا القرآن فيميلوا إلى الإيمان، فضرب الله المثل لهم وهو وفاق لتأويل الجمهور، وفى رواية عنه كلما صلحت أحوالهم فى زروعهم ومواشيهم وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوا وثبتوا فى نفاقهم، وعن ابن عباس كلما سمع المنافقون وظهرت الحجج آنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يشق عليهم قاموا، أى ثبتوا على نفاقهم، وعن مجاهد كان المنافقون إذا أصابوا فى الإسلام رخاء طابت أنفسهم وسروا، وإذا أصابتهم شدة لم يصبروا ولم يرجوا عافيتها، وعن الحسن البرق نور الله، وعن ابن عباس نور القرآن وهما متقاربان أو واحد، وقيل المطر هو القرآن لأنه حياة القلوب، كما أن المطر حياة الأرض، والظلمات ما فى القرآن من ذكر الكفر والشرك والنفاق والرعد ما خوفوا به من الوعيد، وذكر النار والبرق ما فيه من الهدى، والبيان والوعد ذكر الجنة.

يسدون آذانهم لئلا تميل قلوبهم إلى الإيمان، لأنه عندهم كفر والكفر موت، وقيل المطر الإسلام، والظلمات ما فيه من بلاء ومحن، والرعد ما فيه من الوعيد والمخاوف فى الآخرة، والبرق ما فيه من الوعد، يجعلون أصابعهم فى آذانهم إذا رأوا فى الإسلام شدة هربوا حذرا من الهلاك

والله محيط بالكافرين

لا ينفعهم الهرب { يكاد البرق } دليل الإسلام يأخذ أبصارهم إلى الإسلام، ويزعجهم إلى التدبر الحق، لولا ما سبق من الشقاوة، كلما أضاء لهم تركوا بلا شىء مشوا فيه على المسالمة بإظهار كلية الإيمان، وقيل إذا نالوا غنيمة وراحة فى الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم، وإذا رأوا شدة تأخروا، وقيل شبه الإيمان والقرآن وما أتى الإنسان من المعارف التى هى بسبب الحياة الأبدية، بالصيب الذى هو حياة الأرض وما اختلطت من الشبه المبطلة، واعترضت دونها من الاعتراضات المشكلة بالظلمات وما فيها من الوعد والوعيد بالرعد، وما فيها من الآيات الباهرة بالبرق، وتصاممهم عما يسمعون من الوعيد بحال من تهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أذنه عنها، مع أنه لا خلاص لهم منها، وهو معنى قوله { والله محيط بالكافرين } وتحركهم لما يلمع لهم من رشيد يدركونه، أو رفد تطمح إليه أبصارهم، بمشيهم فى مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم، وتحيرهم وتوقفهم فى الأمر حين تعرض لهم شبهة أو تعن لهم مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم، وقيل شبه أنفسهم بأصحاب الصيب وإيمانهم المخالط للكفر والخداع يصيب فيه ظلمات، ورعد وبرق بحيث إنه وإن كان نافعا فى نفسه لكنه لما وجد فى هذه الصورة عاد نفعه ضرا، وشبه نفاقهم حذرا من نكايات المؤمنين وما يطرقون به من سواهم من الكرة بجعل الأصابع فى الآذان من الصواعق حذر الموت، من حيث إنه لا يرد من قدر الله شيئا، ولا يخلص ما يريد بهم من المضار، وشبه تحيرهم لشدة الأمر وجعلهم ما يأتون وما يذرون، بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة، مع خوف أن يخطف أبصارهم فخطوا خطوات يسيرة، ثم إذا خفى وفتر لمعانه بقوا متقيدين لا حراك لهم، كما شبه ذوات المنافقين بالمستوقدين، وإظهارهم الإيمان باستيقاد النار، وما انتفعوا به من حقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك، بإضاءة النار ما حول المستوقدين، وزوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم وإفشاء حالهم، وإبقائهم فى الخسار الدائم والعذاب السرمدى، بإطفاء نارهم وإذهاب نورهم، وذلك تشبيه مفردات بمفردات، وتخريجها على الاستعارة المركبة التمثيلية أولى كما مر، وهى إن يشبه كيفية منتزعة من مجموع تضامت أجزاءه وتلاصقت حتى صارت شيئا واحدا، بأخرى مثلها، ومن تشبيه مفرد بمفرد قول امرئ القيس بن حجر الكندى

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالى

شبه قلوب الطير الرطب بالعناب واليابسة بالحسف البالى، ومن التمثيلية قوله جل وعلا

مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا

شبه حال اليهود فى جهلهم بما معهم من التوراة بحال الحمار فى جهله ما يحمل من أسفار الحكمة. { ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } هذا من تمام تهويل ذلك الصيب الممثل به بتهويل رعده وبرقه، حيث إن رعده بلغ من القوة أن يذهب بأسماعهم، وأن برقه بلغ منها أن يذهب بأبصارهم، لولا أن الله جل وعلا أبقى عليهم أسماعهم وأبصارهم، فضلا منه أو استدراجا، ليتمادوا فى الغى والفساد فيشتد عذابهم، ولو شاء إبقاءها لذهبت، ولكنه لم يشأ فلم تذهب، لأن السبب لا يتأثر فى المسبب إلا بمشيئة الله تعالى، ومفعول شاء محذوف دل عليه الجواب، وقام مقامه، ولا يكاد يذكر بعدما وقع شرطا لأدوات الشرط من نحو شاء وأراد وأحب، مما يدل على حب الشىء أو إرادته وتقديره، ولو شاء الله ذهابا بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ولما حذف من الشرط هو ومتعلقه ذكر منه الفعل فى الجواب وأظهر متعلقه، ولم يؤت به ضميرا وهكذا تقدر أبدا من لفظ الجواب، وإذا كان غريبا لذاته أو لمتعلقه ذكر قول أبى يعقوب الخزاعى من قصيدة يرثى بها خزيم بن عامر، وقيل يرثى بها ابنه لا خزيما

فلو شئت أن أبكى دما لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

فان البكاء نفسه غير غريب، ولكنه يستغرب لكونه بالدم، والمعتاد كونه بالدمع فذكر مع ما تعلق به ليتقرر فى نفس السامع ويأنس به، وقل ذكره إذا لم يستغرب كقول أبى الحسن على بن أحمد الجوهرى

ولم يبق منى الشوق غير تفكرى فلو شئت أن أبكى بكيت تفكر

أى لو شئت البكاء الحقيقى المطلق لم يتيسر. لفناء مادة الدمع لشدة نحولى بل أجد مكان بكاء مجازيا مقيدا بالفكر. بدل الدمع الحقيقى الواقع فى الصور، فليس هذا البيت كالذى قبله لأنه ليس المراد لو شئت أن أبكى تفكرا، فليس ما فى الجواب من جنس ما فى الشرط، فضلا عن أن يدل عليه ويقوم مقامه، ويجوز أن يراد بالبكاء فى قوله فلو شىءت أن أبكى، البكاء مطلقا بقطع النظر عن كونه حقيقا وكونه بكاء تفكر، وإن قلت فلعل المعنى أن الشوق أفنانى فصرت لا أقدر على الدمع، إنما أقدر على التفكر فقط، فلو شئت أن أبكى تفكرا بكيت تفكرا، فيكون كالبيت السابق، لكن على التنازع فى تفكر.

قلت لا يخفى أن قوله فلو شئت أن أبكى بكيت تفكرا، متفرع على قوله ولم يبق منى الشوق غير تفكرى. وذلك الاحتمال لا يصلح على هذا التفريع لأن بكاء التفكر ليس إلا إيقاع التفكر والقدرة على إيقاعه لا يتفرع على ألا يبقى فيه الشوق غير التفكر بخلاف عدم القدرة على البكاء الحقيقى، بحيث يحصل منه بدل الدمع التفكر، فإنه مما يتفرع على ألا يبقى فيه غير التفكر. والله أعلم. ولو هذه امتناعية تدل على امتناع شرطها لامتناع جوابها، فإن الملزوم ينتفى بانتقاء لازمه، هذا مذهب ابن الحاجب، والصحيح قول الجمهور إنها تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها، وقيل إنها لمجرد الربط، مثل إن وغير ذلك، إنما يفيده المقام والسياق، وقد قال التفتازانى الظاهر أن لو هنا لمجرد الشرط بمنزلة أن لا بمعناه الأصلى من انتفاء الشىء لانتفاء غيره ووافقة السيد الشريف، ثم ذكر جواز إبقائها على ما فسر به الآية أولا وقد يقصد بها استمرار الشىء فيربط بأبعد النقيضين عنه نحو لو أهاننى لأكرمته، وقول عمر لو لم يخف الله لم يعصه، وقرأ ابن أبى عبلة لأذهب بأسماعهم وأبصارهم، فالباء فيها صلة للتأكيد ومدخولها مفعول به والتعدية بالهمزة لا بها بخلافها فى قراءة الجمهور، فإنها للتعدية لعدم الهمزة فيها، وإنما جعلت حرف التعدية فى قراءة ابن أبى عبلة هو الهمزة، والصلة هى الباء، لأن الأصل فى التعدية الهمزة لا الباء، ولأنها الكثير فى التعدية والباء فيها قليلة بالشبه. { إن الله على كل شىء قدير } هذا كالتصريح بأن وجود المسببات مرتبط بأسبابها واقع بقدرته تعالى، كما نسبه عليه بقوله عز وجل { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } ، والشىء عندنا وعند قومنا الموجود فى الحال، وما قد كان موجودا وفنى وما سيوجد، وإنما صح إطلاقه على ما وجد وفنى أو سيوجد باعتبار وجوده الماضى أو المستقبل، والأصل ألا يطلق على ما لم يوجد ولا يوجد، سواء أكان جائز الوجود أو ممتنع الوجود، لأنه فى الأصل مصدر شاء يشاء بفتح همزة شاء، فتارة يطلق بمعنى اسم فاعل كشاء بكسر الهمزة المنونة كقام اسم الفاعل شاء بفتح الهمزة بمعنى مريد، وهمزة شاء كقاض هى الياء المبدلة ألفا فى شاء بفتح الهمزة ويشاء، وأما همزة شاء يشاء هذين فأبدلت ياء وحذفت الياء كحذفها فى قاض، فيتناول كل مريد، ولذلك أجيب بالله - سبحانه وتعالى - يعد السؤال عنه فى قوله تبارك وتعالى

قل أى شىء أكبر شهادة قل الله

وقد يطلق على ما لم يوجد لكنه جائز الوجود، وتارة بمعنى اسم مفعول كأنه قيل مشىء بفتح الميم كمبيع أو بإبدالها ياء وإدغام الياء فى الياء، وهما اسم مفعول شاء يشاء، والمراد مشىء وجوده، بفتح الميم، وما شاء الله وجوده فهو موجود باق، أو موجود ماض، أو سيوجد، وكل ذلك بحسب مشيئته تعالى، ومنه قوله تعالى { إن الله على كل شىء قدير } أى قدير على كل ما أراد، وذلك مذهبنا، وقيل ويحتمل وقوعه متناولا لما يمكن وقوعه، ولو كان لم يقع، وقالت طائفة من المعتزلة الشىء يطلق على الموجود والمعدوم والممكن، وقال جمهور المعتزلة، الشىء ما يصبح أن يوجد وهو يعلم الواجب والممكن، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضا فيخصون عموم الآية ونحوها بالممكن، إذا لا معنى لقولك إن الله قادر على الواجب فى حقه كوجوده علمه وسائر صفاته الذاتية، لأنه قديم. وإن قيل ذلك لا على معنى الحدوث والتجدد، فلا بأس، بل بمعنى مطلق بثبوت ذلك له تعالى، ولا معنى لقولك إن الله قادر على المستحيل فى وصفه، فإن هذا حرام وكفر، فكأنه قال إن الله على كل شىء مستقيم قدير، فخرج بلفظ الاستقامة المستحيل، فإنه لا يقال هو قادر عليه ولا عاجز عنه، فلا يتوهم دخوله تعالى فى عموم كل شىء، كما أن قولك زيد أمير على الناس لا يشمل زيدا وإن كان فى جملة الناس. قال سيبويه فى باب مجاز أواخر الكلم من العربية وإنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن الشىء يقع على كل ما أخبر عنه، من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟ والشىء مذكر وهو أعم العام، كما أن الله أخص الخاص يجرى الجسم والعرض والقديم، تقول شىء لا كالأشياء أى معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم والمحال، انتهى. وورش يمكن الياء من شىء، رفعا وجرا ونصبا، وكهيئة واو السوء وشبيهه إذا انفتح ما قبلها، وكان مع الهمزة فى كلمة إلا موئلا والموءودة، وحمزة يقف على الياء من شىء وكهيئة فى الوصل خاصة، والباقون لا يمكنون ويقفون والقدرة التمكن من إيجاد الشىء، وقيل صفة تقتضى التمكن من إيجاد الشىء وإيجاد الإنسان وغيره الشىء وهو فعله الفعل، والشىء الفعل، وإيجاد الله الشىء خلقه جسما أو عرضا، كفعل الإنسان وغيره، فإنه مخلوق الله تبارك وتعالى، وقيل قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل، وقدرة الله عبارة عن نفى العجز عنه، كما أن التكلم فى حقه بمعنى نفى الخرش، والقادر هو الذى إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل، القدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذا قل وصف غير الله تعالى به، ولفظ القدير مأخوذ من التقدير لأن التقدير يوقف فعله على مقدار قوته وما يتميز به من العاجز، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته، وتبين بذلك أن الحادث حال حدوثه وحال بقائه مقدوران، وأن مقدور العبد مقدور لله تعالى، لأن المقدور شىء وكل شىء مقدور، والممكن مقدور ما دام ممكنا باقيا على الإمكان.

قال التفتازانى المقدور إن أريد به ما تعلقت به القدرة فلا يكون إلا موجودا أو إن أريد ما يصلح تعلق القدرة به يكون معدوما، وهو المعنى بقولهم إن الله - تعالى - قادر على جميع الممكنات، وأن مقدوراته غير متناهية، وعرف بعضهم القدرة بأنها الصفة المؤثرة على وفق الإرادة، وتأثيرها الإيجاد، وإن قلت على هذا كيف صح لبعض أن يقول الشىء مختص بالموجود، لأن إيجاد الموجود محال؟ قلت المحال إيجاد الموجود بوجود سابق وهو غير لازم، واللازم إيجاد موجود وهو أثر ذلك الإيجاد وليس بمحال. والله أعلم. ومن أراد أن يحبه أحد محبة عظيمة فيأخذ مرآة من فضة جديدة أو عاج ويكتب فى كاغد { يكاد البرق يخطف أبصارهم } إلى قوله { قديرا } لا قوله { وإذا أظلم عليهم قاموا } فى يوم الجمعة فى زيادة الهلال ويأخذ نملتين من شجرة تكون الواحدة طالعة والأخرى هابطة، وما فيها ثم تجتمعان ويقفان قليلا وجه الواحدة إلى وجه الأخرى، فتجعلان داخل المرآة ويجعل عليهما الكاغد، وتتستر المرآة وما عليها، ثم يريها لمن أراد محبته، بعد أن ينظر فيها هو، فإذا نظر فيها من أراد فليأخذها منه بسرعة ويخفيها عنه، ولا يراها بعد ذلك ويسترها عنده، وقيل فى قوله { ولو شاء الله }... إلخ مستأنفا عن القصة وإن المعنى لو شاء لذهب بسمعهم وأبصارهم الظاهرة، كما ذهب بالباطنة إذ لم يقروا ولم يوفوا، أو أقروا ولم يوفوا، أن الله قدير على ذلك وغيره لا منازع له ولا معقب لفعله، وقد تقدم ذكر الوعيد فناسبه ذكر القدرة هنا فلذا خصت بالذكر هنا.

[2.21]

{ يا آيها الناس اعبدوا ربكم } لما ذكر المؤمنين والمشركين والمنافقين وخواص هؤلاء الفرق الثلاث، ومصارف أمورهم كصرف المؤمنين حواسهم إلى الحظوظ الآجلة، والمشركين والمنافقين حواسهم إلى العاجلة، أقبل عليهم بالخطاب على طريق العرب، فى التفاتها من الغيبة إلى الخطاب، تحريكا للسامع وتنشيطا له، واهتماما بأمر العبادة وتفخيما لشأنها، فإن التفنن فى الكلام والخروج فيه من تصنيف إلى تصنيف ما يستدعى زيادة إصغاء، هذا كما تقول لمخاطبيك إن من فعل كذا أو كذا لحميد وإن جزاءه من الخير كذا وكذا، وإن من فعل كذا وكذا لذميم، وإن عقابه كذا وكذا يا بنى فلان أنه حق عليكم أن تنظروا لأنفسكم ولا تهملوها وتلزموها طريق النجاح لتفوزوا عن الهلاك إلى الفلاح، ولما كان فى عبادة الله - عز وجل - مشقة يلزم الشيطان ساحتها، ويقوى ما ضعفت منها جبرها الله - جل وعلا - بخطابه الناس، لأن فى خطابه إياهم لذة وإيناسا. وإنما ناداهم بيا وهى للبعيد والله - سبحانه وتعالى - أقرب من حبل الوريد، لأنهم بسهوهم وغفلتهم منزلون بمنزلة البعيد، وللتأكيد فى النداء إيذانا بإنما يتلو النداء مما يهتم به الغافل، والبعيد يعتنى بأمره خوفا عليه أكثر مما يعتنى بالقريب، وأما دعاؤنا الله بيا فاستبعاد لأنفسنا واستقصار لها عن مظان الزلفى الموسومة للمقربين، وهضم لها وإقرار بالتفريط فى جنب الله، ومبالغة فى الدعاء وطلب الإجابة، وأى اسم جنس مبهم جعل وصلة لنداء ما فيه أل، لأن حرف النداء وأل متماثلان، ولا يجتمع تعريفان، وهى نكرة مقصودة، ولما كان اسم جنس مبهما لزم بعده اسم جنس آخر مقرون بأل يزيل إبهامه، أو ما يجرى مجرى اسم الجنس نحو يا أيها الزيدون، ويا أيها ذا، ففى ذلك فائدة الإيضاح بعد الإبهام، وهو نوع تأكيد، وها للتنبيه جاء بها تعويضا عما يستحق أى من المضاف إليه، والتنبيه تأكيد، فهذا تأكيد آخر، فذلك ثلاث توكيدات النداء بياء والتنبيه والإيضاح بعد الإيهام، ولا يقطع ما بعد أنها عن الضم إشعارا بأنه المقصود بالنداء، والضمة فيه أو نائبها مناسبة للفظ أى وهو مقدر النصب بفتحة أو نائبها لا إعراب ولا بناء، لكن لما كانت حركة المنادى وحرفه النائب عنها كحركة الإعراب أو نائبها لحدوثها بحرف النداء اتبع فيه المنادى، وهذا أولى من أن يجعل ذلك فى تابع أيها إعرابا على نية أن المنادى نائب الفاعل تقدير الفعل النداء مبنيا للمفعول، كقولك فى الإنشاء يدعى الناس وللتوكيدات الثلاث فى ذلك كثر النداء بمثل ذلك فى القرآن فى كل أمر عظيم حقيق بالتفطن له والإقبال عليه، والأصل فى أل العموم فاذا لم يدل دليل على العهد أو غيره حملت على العموم أو الجنس، سواء دخلت على الجمع كالملائكة أو اسم الجمع كالناس أو المفرد كالإنسان، ولذلك صح الاستثناء منها والتوكيد بما يؤكد الجمع نحو

فسجد الملائكة كلهم أجمعون

والعصر إن الإنسان لفى خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات

، وما زالت الصحابة يستدلون بعموم ذلك، فالناس فى الآية يعم الموجودين وقت النزول عموما ظاهرا متبادرا من لفظ النداء والخطاب، ويعم من سيوجد عموما ملحقا تنزيلا منزلة الموجودين لما تواتر أن ما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - شامل لمن يأتى بعد إلى قيام الساعة، إذ لا نبى بعده إلا ما خصه الدليل بمن فى زمانه أو بمن بعده، وقال الرازى عموم من سيوجد من دليل خارج لا من الآية، وهو المتواتر المذكور والمشهور الأول، والله - عز وجل - قد أمر فى الآية الكفار والمؤمنين بالعبادة، أما العبادة التى أمر بها الكفار فالإيمان بالله والرسول والأنبياء والكتب والبعث وغير ذلك مما يجب الإيمان به، وعمل الفرائض من وضوء وصلاة وصيام وزكاة وغير ذلك وترك المعاصى كالزنى والسرقة والغصب وغير ذلك، وأما العبادة التى أمر بها المؤمنين فالثبات على الإيمان وعلى عمل الفرائض وترك المعاصى والارتياد من ذلك، وإن شئت فقل التى أمر بها المؤمنين ما ذكر، والتى أمر بها المشركين أداء الفرائض فعلا وتركا، وهو أمر يستلزم من الأمر بالإيمان، إذ لا تتم عبادتهم إلا به، فإن الأمر بالشىء أمر بها لا يتم الشىء إلا به، فالأمر بالعبادة أمر بتقديم الإيمان عليها، كما أن الأمر بالوضوء أمر بتقديم غسل النجس عليه، وكثيرا ما يذكر النجس فى كتب الفقه والحديث، ويقتصر على ذكر الوضوء دون ذكر غسل النجس، لما علم أنه لا يصح وضوء مع وجود نجس، وكما أن الأمر بالصلاة أمر بالوضوء قبلها، فالشرك لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب تركه والاشتغال بها بعد تركه، وعن ابن مسعود وابن عباس وعلقمة والحسن أن كل شئ نزل فيه { يا أيها الناس } فمكى، و

يا أيها الذين آمنوا

فمدنى، ولم يصح رفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا فضلا عن أن يكون حديثا حسنا أو صحيحا، وقد تقرر أن البقرة مدنية وقد ذكر فيها { يا أيها الناس } وكذا النساء والحجرات اتفقوا على أن الثلاث مدنيات، وقد ذكر فيهن { يا أيها الناس } وسورة الحج مكية، وقد ذكر فيها

يا أيها الذين آمنوا

، إلا أن يقال إن { يا أيها الناس } مكى، و

يا أيها الذين آمنوا

مدنى حيث كانا، وإن المراد بكون السورة مكية أو مدنية كون غالبها كذلك، وعلى صحة الرفع لا يوجب تخصيص الآية بالكفار، لأن عبادتهم إنما تعتبر بعد كونهم مؤمنين، أخرج الحاكم فى مستدركه، والبيهقى فى الدلائل، والبزاز فى مسنده من طريق الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال ما كان

يا أيها الذين آمنوا

نزل بالمدينة وما كان { يا أيها الناس } فبمكة، وأخرجه أبو عبيد فى الفضائل عن علقمة مرسلا، وأخرج عن ميمون بن مهران قال ما كان فى القرآن { يا أيها الناس } أو

يا بنى آدم

فإنه مكى، وما كان

يا أيها الذين آمنوا

فمدنى، قال ابن عطية وابن الفرس وغيرهما هو فى

يا أيها الذين آمنوا

صحيح، وأما { يا أيها الناس } فقد يأتى فى المدنى، وقال ابن الحصار قد اعتنى المتشاغلون بالنسخ بهذا الحديث واعتمده على ضعفه، وقد اتفق الناس على أن النساء مدنية وأولها { يا أيها الناس } وعلى الحج مكية وفيها

يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا

وقال غيره هذا القول إن أخذ على إطلاقه فيه نظر فإن سورة البقرة مدنية وفيها { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } ،

يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض

وسورة النساء مدنية وأولها { يا أيها الناس } وقال مكى وهو عالم أندلسى معاصر لأبى عمرو والأندلسى الدانى هذا إنما هو فى الأكثر وليس بعام، وفى كثير من السور المكية

يا أيها الذين آمنوا

وقال غيره الأقرب حمله على أنه خطاب المقصود به أو جل المقصود به أهل مكة أو المدنية، وقال القاضى عياض إن كان الرجوع فى هذ إلى النقل فمسلم، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم وباسمهم وجنسهم ويؤمر غير المؤمنين بالعبادة كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها، والازدياد منها، نقله فخر الدين فى تفسيره، وأخرج البيهقى فى الدلائل من طريق يونس بن بكر عن هاشم بن عروة عن أبيه قال كل شىء نزل من القرآن فيه ذكر الأمم والقرون، فإنما نزل بمكة وما كان من الفرائض والسنن فإنما نزل بالمدينة، وقال الجعبرى لمعرفة المكى والمدنى طريقان سماعى وقياسى، فالسماعى ما وصل إلينا نزوله بأحدهما، والقياسى كل سورة فيها { يا أيها الناس } فقط أو كلا، أو أولها حرف تهج سوى الزهراوين والرعد أو فيهما قصة آدم وإبليس سوى البقرة فهى مكية، وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية فهى مكية، وكل سورة فيها فريضة أو حد فهى مدنية، وقال مكى كل سورة فيها ذكر المنافقين فهى مدنية. قال غيره إلا العنكبوت، وفى كامل البذلى كل سورة فيها سجدة فهى مكية وقال الدرينى

وما نزلت كلا بيثرت فاعلمن ولم تأت فى القرأن فى نصفه الأعلى

وحكمة ذلك أن نصفه الأخير نزل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول وما نزل منه فى اليهود، ولم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم ذكره العمانى، وإنما قلت أنا والفخر وغيره دوام المؤمنين على العبادة وازديادهم منها دفعا لتحصيل الحاصل، وهو مردود كما أشار إليه من قال من بحر الخفيف

فلو انى فعلت كنت كمن تسأله وهو قائم أن يقوما

وإنما قالاعبدوا ربكم، ولم يقل اعبدوا الله أو الرحمن أو نحو ذلك إشارة إلى أن موجب العبادة هو الربوبية. { الذى خلقكم } صفة للتعظيم والتعليل، والموصوف ربكم، أما التعظيم فلأنه الخالق ولا يقدر سواه أن يخلق، وفيه مدح، وأما التعليل فلأن الموصول مع صلته كالمشتق، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعليته، فكأنه قيل اعبدوا الله لأنه ربكم، ولأنه خلقكم، وهذا صحيح - إن شاء الله تعالى - سواء جعلنا الخطاب للمؤمنين والمشركين، أو للمشركين وحدهم، لأنهم مقرون بأن الحقيق بالربوبية هو الله - جل وعلا - وأنه الخالق كما قال جل وعلا

ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله

ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله

فلكونهم مقرين بذلك أخرج الكلام مخرج ما تقرر عند المخاطب، وكان المخاطب مسلما إذ جعل الخلق صلة للموصول والصلة معهودة للمخاطب ثابتة عنده فى أصل الكلام، فلو قلت لمن يعترف بمجىء زيد أكرم زيد الذى جاء، لم يكن كلامك مقبولا، إلا إن أردت التلويح إلى استبعاد إنكار مجيئه، وإلى أن مجيئه كالشىء الذى لا يمكن إنكاره، فحينئذ تخاطبه فى إثبات ما أنكر كأنك تشير إليه أنك معاند مكابر، أو أنك لو نظرت أدنى نظر لتمكنت من العلم بمجيئه، فجوز فى الآية أيضا أن يقال. أخرج الكلام مخرج ما تقرر بالنسبة إلى مشركى العرب المقرين بأن الخالق الله لإقرارهم بالنسبة إلى كل من لم يقر بأن الله - عز وجل - هو الخالق لتمكنه من العلم بأنه هو الخالق، أو نظر أدنى نظر، ولو قال اعبدوا ربكم وهو خلقكم، أو لأنه خلقكم، لكان الكلام غير مخرج مخرج ما تقرر عند المخاطب جزما، فإنهما يقالان لمن تقرر عنده ولمن لم يتقرر عنده، ويجوز أن يكون الوصف فى الآية للتوضيح إذا جعلنا الخطاب للمشركين المقرين بأن الله هو الخالق، فإن الرب عندهم يشمل الصنم والله سبحانه وتعالى، فاحترز بالذى خلقكم من الصنم، والخلق إيجاد الشىء على تقدير واستواء، وهذا مختص بالله - جلا وعلا - وأصله التقدير وهذا يوصف به المخلوق أيضا، ولذا قال جل وعلا

تبارك الله أحسن الخالقين

فأثبت تعدد الخالقين أى المقدرين، يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس، وقرأ أبو عمر وخلقكم بإبدال القاف كافا وإسكان هذه الكاف وإدغامها فى الكاف بعدها، ولم يدغم أبو عمرو من المتقاربين فى كلمة إلا القاف فى الكاف التى تكون فى جمع المذكرين إذا تحرك ما قبل الكاف نحو خلقكم ورزقكم ويخلقكم ويرزقكم، وواثقكم به وأظهرها إن سكن ما قبلها نحو ميثاقكم وبورقكم، بإسكان الراء عنده، أو لم يكن الكاف للجمع نحو خلقك ويرزقك، واختلف أهل الأداء فى قوله

إن طلقكن

فى التحريم، فكان ابن مجاهد يأخذ بالإظهار، وعلى ذلك عامة أصحابه، قال أبو عمرو والدانى وألزم اليزيدى أبا عمر وإدغامه فدل على أنه يرويه عنه بالإدغام وهو القيام لثقل الجمع والتأنيث. انتهى. { والذين من قبلكم } عطف على كاف خلقكم أى وخلق الذين تقدم زمانهم على زمانكم، ويستعمل لفظ قبل ونحوه فى التقدم بالذات، كتقدم الجزء على الكل والواحد على اثنين، وقرأ أبو السميدع

وخلق من قبلكم

بإثبات من بفتح الميم مكان الذين، وفتح لام قبلكم وقرأ زيد بن على والذين من قبلكم بإثبات الذين، ومن بفتح الميم ولام قبلكم بزيادة الموصول الثانى، وهو من بفتح الميم تأكيدا لفظيا، ومع بالمرادف شذوذ وقبلكم صلة الذين أو من خير لصدر صلة الذى محذوف الطول الخبر الذى هو من بصلتها، أى والذين هم من قبلكم بفتح الميم واللام، وقبلكم صلة من ومما زيد فيه الاسم كقول جرير

يا تيم تيم عدى لا أبالكم لا يوقعنكم فى سوءة عمر

فتيم الأول مضاف لعدى والثانى زائد بينهما، وقال المبرد الثانى مضاف إلى عدى والأول مضاف إلى محذوف أى يا تيم عدى تيم عدى. { لعلكم تتقون } حال من الواو فى { اعبدوا } على معنى قولك اعبدوا ربكم راجين الاتقاء عن مناهيه أو هو على تقدير القول، أى قائلين فى قلوبكم طمعا لعلكم تتقون، وعلى هذا الوجه يكون فى ذلك التفات من التكلم إلى الخطاب على مذهب السكاكى، إذ مقتضى الظاهر أن يقول لعلنا نتقى، أو الجملة حال من الكاف فى خلقكم والذين، أى خلقكم والذين من قبلكم فى صورة من يرجى منه التقوى والكمال أسبابه ودواعيه من عقل ومصنوعات الله وأفعاله فى الأمم السابقة، ومعجزات النبى صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله سبحانه وتعالى فى هذا الوجه تغليب المخاطبين على الغائبين فإن الكاف للمخاطبين والذين اسم ظاهر للغائبين، وليس فى { تتقون } إلا الخطاب، والمعنى على إرادتهم جميعا، ولعل فى هذه الأوجه كلها للترجى مصروفا إلى البشر، وقيل لعل للتعليل وهو تعليل لقوله تعالى { خلقكم والذين من قبلكم } أى خلقكم والذين من قبلكم لكى تتقوا، كما قال

وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

وحكى البغوى عن الواقدى أن جميع ما فى القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله

لعلكم تخلدون

فإنها للتشبيه، وكذا قال ابن أبى حاتم من طريق السدى عن أبى مالك، ونص البخارى أنها فى

لعلكم تخلدون

للتشبيه، وعن قتادة كان فى بعض القراءات كأنكم تخلدون، وكونها للتشبيه غريب، والتعليل أيضا ضعيف، والصحيح أنها للترجى أو التوقع مصروف إلى البشر حيث وردت من كلام الله عز وجل ، وقد أطلت البحث عن ذلك فى النحو، وإذا استعملت فى شأن عظيم، فهى للترجى كذلك، واليقين إنما يفيده الحال، حال ذلك العظيم إذ كان تلويحه بشىء على طريق غير الجزم جزما، لأنه عظيم الوفاء والغنى عما طلبه منه غيره، فلا يمنعه عنه، قال الشاعر

وقلتم لنا كفوا القتال لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق

فلولا أنها لليقين ما قال وثقتم لنا كل موثق، إلا أن يقال هى فيه للتعليل، والآية تدل على أن التقوى فوز بالهدى وفلاح، مستوجبان لرضى الله وثوابه، وإن التقوى منتهى درجات السالكين، وهى ترك المعاصى والإعراض عما سوى الله تعالى، ووجه إرشاد الآية أنها إلى منتهى درجاتهم، أنها جعلت غاية للعبادة، أى اعبدوه تصلوا هذه الدرجة، أو خلقكم والذين من قبلكم على أن تناولوا التقوى، وتدل الآية أيضا على أن العابد لا يغتر بعبادته، بل يرجو ويخاف كقوله عز وجل

يدعون ربهم خوفا وطمعا

وقوله

يرجون رحمته ويخافون عذابه

أو على أن الإنسان غير مهمل، أى خلقكم على أن تتقوا، وتدل آية أيضا على أن الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانية واستحقاقه العبادة النظر فى صنعته والاستدال بأفعاله، قال القاضى وإن العبد لا يستحق بعبادته عليه ثوابا فإنها لما وجبت عليه شكورا لما عدده عليه من النعم السابقة، فهو كأجير أخذ الأجرة قبل العمل. انتهى.

[2.22]

{ الذى جعل لكم الأرض فراشا } صفة ثانية لربكم أو منصوب بمحذوف أى امدح الذى، أو خير لمحذوف أى هو الذى، أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا لله، والرابط هو لفظ الجلالة، وضعا للظاهر وموضع المضمر، وإنما ساغ ذلك الإخبار مع اختلاف زمان الجعل الأول، والثانى مضيا واستقبالا، لأن الأول باق أثره إلى زمان الثانى، أو لأن القول مقدر فمقول فيه لا تجعلوا لله أندادا، وعلى هذا الوجه يجوز نصبه على الاشتغال أرجح من الابتداء، والجعل هنا بمعنى التصيير بالفعل، وقد يكون تصييرا بالقول أو بالاعتقاد، ويجوز كونه بمعنى الخلق وعليه ففراشا حال من الأرض مقدرة، ومعنى جعلها فراشا جعلها كالفراش فى التوسط بين الصلابة واللطافة، وفى البسط، حتى صارت مهيأة أن يناموا أو يقعدوا عليها كالفراش المبسوط، فلو جعلها صلبة كالحجر لعسر النوم عليها والقعود، ولو جعلها لطيفة كالماء لم يمكن النوم والقعود على سطحها، ولا دليل فى كونها كالفراش على كونها غير كرية الشكل، لأن الجسم الكبير يتراءى بسيطا ولو كان كريا، فالبيضة على دورها تظهر بسيطة لما صغر جدا كالقملة، وتتبين كرية الشكل وبسيطة بالرؤية والحس. { والسمآء بنآء } معطوفان على قوله الأرض فراشا عطف معمولين على معمول واحد، وكأنهما جملة اسمية معطوفة على الأخرى غير أنهما تسلطا عليهما معنى الجعل واكتسى لفظهما بالإعراب الذى اقتضاه، ولذلك كان عاطفهما وعاطف ما أشبههما حرفا واحدا وأيضا أصلهما هنا مبتدأ وخبر والمبتدأ والخبر جملة يعطفها حرف واحد، وليس كل معمولين معطوفين كذلك، فإذا لم يكونا كذلك كما إذا جعلنا الثانى حالا، وكقولك ضرب زيد عمرا وبكر خالدا، فلما ساغ العطف بواحد لأنه فى التحقيق داخل على العامل أى وجعل السماء بناء، وضرب بكر خالدا، والسماء اسم للسماء الواحدة لا يدل على اثنين فصاعدا، إلا من جهة أل إذا قصدت الدالالة بها على ذلك، فهو اسم جنس يقع على الواحدة وما فوقها من جهة أل كالدينار والدرهم، وقيل هو جمع سماءة، والبناء اسم لما بنى بيتا أو قبة أو خباء، يقال بنى على امرأته وابتنى بها، كناية عن الدخول عليها بالجماع الأول، لأنهم إذا أرادوا ذلك ضربوا عليها بناء من جلد أو كتان أو غير ذلك، وأصل البناء مصدر، بمعنى وضع البيت أو القبة أو الخباء أو نحوهن وتركيبه، فهو من التسمية بالمصدر كالنبات يطلق على خروج الشجر من الأرض، وعلى نفس الشجر، وفى الآية تلويح بأن الله - جل وعلا - لعظم فضله ورحمته جعل الإنسان كالعروس وكذا المرأة، وإن شئت فقل كالملك بكسر اللام فى بيت مفروش معد فيه ما يحتاج إليه، فالسماء كالسقف والأرض كالبساط والنجوم كالمصابيح، وفيه أصناف النبات والثمرات، وفيه الحيوانات والماء، وهذه المنافع عمت الناس فيجب على كل مكلف منهم شكرها، فأفقر الفقراء قد وصلته منافع الدواب، سواء تملكها أو لم يتملكها.

وذكروا عن الحسن

" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوما لأصحابه ما هذه أو قال ما هذا يعنى السماء فقالوا السماء، قال " هذا الرقيع موج مكفوف غلظها خمسمائة عام، وغلظ كل سماء خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السابعة ألف مائة عام، وغلظ كل أرض خمسمائة عام، وبين الأرض والسماء خمسمائة عام، وبين كل أرض وأرض خمسمائة عام " "

وعنه صلى الله عليه وسلم

" إنى أراكم تجزعون من حر الشمس وبينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام، فوالذى نفسى بيده لو أن بابا من أبواب جهنم فتح بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى منه دماغه حتى يسيل من منخرية "

خاطبهم بذلك فى مسير له فى يوم شديد الحر إذا نزل منزلا فرأى رجلا ينتعل ثوبه من شدة حر الأرض، وفى هذا الحديث دليل على كون الشمس فى هذه السماء الدنيا لا فى الرابعة كما شهر. { وأنزل من السماء ماء } المطر وهو إما من السماء أحد السماوات السبع، أو المراد بالسماء السحاب، سمى سماء لأنه علا فأظل، أو لأنه من جهة السماء كما هو ظاهر قول تعالى

أو كصيب من السماء

وأنزلنا من السماء ماء

أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع فى الأرض

قال خالد بن مقدان المطر ماء من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع فى سماء الدنيا، فتجىء السحاب السود فتدخله فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها حيث يشاء، وعلى كل حال، من للابتداء فإن المطر يبتدئ من الجنة أو السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض وكذا إذا قلنا إنه من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء، فينعقد سحابا ماطرا. { فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } الفاء تدل على أنه ليس بين الإنزال والإخراج إلا مدة القلة، وعلى السببية فهى للترتيب، وترتيب كل شىء بحسبه أو المراد وخصت مدة فأخرج به، أو أراد بإخراج الثمرات خلق مادتها وأصلها فى الشجرة، وجملة أخرج معطوفة على جملة أنزل، وجملة أنزل معطوفة على جملة جعل، والله - جل وعلا - قادر على إخراج الثمار بلا ماء وعلى إيجادها بلا شجر ولا أرض، وعلى خلق الحيوان بلا نطفة وعلى إيجاده بلا أم ولا أب ولا من الأرض ولا غيرها، وكذا سائر مخلوقاته التى يخلق بأسباب ومواد، هو سبحانه قادر على أن يخلقها بلا سبب ولا مادة، ويدل على قدرته أنه خلق الأسباب والمواد بلا سبب ولا مادة، وما خلق منها بسبب ومادة فقد انتهى إلى ما ليس بسبب ولا مادة، وإلا لزم التسلسل والدور، ولكن فى خلق الأشياء بأسباب ومواد برهان محسوس مشاهد لا يمكن إنكاره ولطف بخلقه بأن يقبل المعرض، وينتبه الغافل، ويتبصر الأعمى.

إذا شاهدوا تدريج الشىء من حال إلى حال، وتولد شىء من شىء تدريجيا، تولدا يستحيل فى عقولهم أن يكون بالذات بلا فاعل، وأن يكون بصنع مخلوق، فلو خلق الأشياء بلا سبب ومادة ولا تولد ولا تدرج لم يكن فى خلقها من العبر والسكون إلى قدرته العظيمة ما فى خلقها الأشياء بسبب ومادة وتولد وتدريج، وذلك حكمة. وجعل الماء الممزوج بالتراب والتراب الممزوج بالماء سببا فى إخراج الثمرات، ومادة لها بأن أفاض صورة الثمار وكيفيتها على المادة الممتزجة من الماء والتراب، أو أبدع فى التراب قوة فاعلة وفى الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمر، ونعتقد فى ذلك كله أنه لا خالق إلا الله، فكل من القوة التى فى الماء وفعلها والقوة التى فى الأرض وقبولها مخلوق الله تبارك وتعالى، ومن فى قوله { من الثمرات } للتبعيض لقوله

فأخرجنا به ثمرات

فإن ثمرات بالتنكير جملة من الثمرات بالتعريف، كما أن رجالا جماعة من الرجال فالثمرات بأل كل، فإنما يفيد بالتبعيض بواسطة من، ويدل على كونها للتبعيض أيضا توسطه بين المنكرين ماء ورزق، المراد بهما بعض الماء وبعض الرزق، إذ لا شك أنه لم ينزل من السماء الماء كله، ولا أخرج بالمطر الثمرات كلها، ولا جعل كل الرزق ثمرات، وليس الماء كله يخرج بعض الثمرات فقط، فكأنه قيل فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، ويجوز أن تكون من للتبيين ومفعول أخرج هو من التبعيضية على القول باسميتها ومحذف نابت عنه هى ومجرورها على القول بحرفيتها وهو الصحيح، فأخرج به شيئا ثابتا من الثمرات، ورزقا بمعنى المصدر مفعول لأجله، أو بمعنى مفعول أى مرزوق بدل من المفعول الذى هو من أو محذوف أو رزقا بمعنى مرزوق، ومفعول به لأخرج ومن الثمرات حال من رزقا، ولكم نعت لرزقا على أنه بمعنى مرزوق أو مفعول به لرزقا على أنه بمعنى المصدر قوى باللام كأنه ليس رزقا إياكم ولا مانع من كونه نعتا لرزق بمعنى المصدر، ويجوز تعليق لكم بأخرج، ويجوز كون رزقا مفعولا من أجله لأنزل وهو أعم، لأن المعنى وأنزل من السماء ماء ليكون منه الرزق، وهو يشمل المأكول والمشروب وغيرهما كالملبوس، والثمرات جمع قلة، لأنه جمع بألف وتاء، وإنما ساغ جمع القلة هنا والمقام مقام كثرة، لأن اللفظ ولو كان لفظ قلة لكن المراد الكثرة لأن الثمرات جمع الثمرة، والثمرة بالإفراد مراد به ثمار كثيرة، إما لأجل أل أو من تسميتهم الثمار المتلاحقة الكثيرة ثمرة، كما يقال أدركت ثمرة بستانه فكل مفرد من أفراد الجمع الذى هو قوله الثمرات هو ثمار، فالثمرات بهذا القصد أدل على الكثرة من الثمار الذى هو جمع كثرة، ويدل لذلك قراءة محمد بن السميدع من الثمرة، بالإفراد، لأن المراد بها الجماعة لا الواحدة، أو استعمل جمع القلة فى الكثرة كقوله تعالى

كم تركوا من جنات وعيون

بدليل كم التكثيرية كما عكس فى قوله

ثلاثة قروء

بدليل لفظ العدد لا أصله أن يضاف لجمع القلة هكذا حكم ثلاثة وعشرة وما بينهما، أو نفاذ الكثرة من أل فتكون أل جائزة لجمع القلة ملحقة له بجمع الكثرة، وأجاز القاضى أن يلوح بالآية زيادة على ظاهرها إلى معنى باطن، وهو تمثيل البدن بالأرض والنفس بالسماء والعقل بالماء، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة، والأرض المنفعلية بقدرة الفاعل المختار، فإن لكل آية ظهرا وباطنا، ولكل حد مطلعا. انتهى. وقوله بقدرة الفاعل المختار عائد إلى قوله الفاعلة والمنفعلة تنازعاه، وقوله فإن لكل.. إلخ هو حديث رواه الحسن مرسلا وظهر الآية ما ظهر لأهل العلم بالظاهر وباطنها ما تضمنه من الأسرار التى أطلع الله عليها أرباب الحقائق، وقيل ظاهرها تلاوتها وباطنها فهمها والحد أحكام الحلال والحرام، والمطلع الإشراف على معرفتها. { فلا تجعلوا لله أندادا } متصل فى المعنى بقوله

اعبدوا ربكم

إما على أن لا حرف نهى وتجعلوا مجزوم، والجملة معطوفة على جملة اعبدوا، عطف نهى على أمر، وكلاهما غير إخبار، وإما على أن لا نافية وتجعلوا منصوبا بأن مضمرة وجوبا، فى جواب الأمر والمصدر معطوفة بالفاء مصدر مقدر من اعبدوا، أى لتكن منكم عبادة ربكم فعدم جعلكم لله أندادا، أو متصل فى المعنى بقوله { لعلكم تتقون } ، على أن لا نافية وتجعلوا منصوب كذلك على جواب الترجى، لأن الترجى فى عدم القطع مثل الأمر والنهى ونحوهما، مما ينصب المضارع فى جوابه أى لعلكم يكون منكم الاتقاء وعدم جعل الأنداد لله، وقد تقدم جواز اتصال ذلك فى المعنى بقوله { الذى جعل } بأن يكون الذى مبتدأ ولا تجعلوا خبرا ولا ناهية، أو الذى منصوب على الاشتغال وتجعلوا مشغول والفاء فى الخبر أو المشغول لتضمن المبتدأ أو المنصوب على الاشتغال معنى أو شرط ففيها تلويح بالسببية، ومن منع الإخبار بالأمر والنهى يقدر القول أى مقول فيه لا تجعلوا، والمعنى على اتصال ذلك بالذى جعل على أوجهه أن من هدى إليكم هذه النعم العظام والآيات الجسام ينبغى أن تزدجروا وتنتهوا عن إشراك الأنداد به، والنداء المثل الذى يعادى ويقاوم. قال جرير

أتيما تجعلون إلى ندا وما تيم لذى حسب نديدى

وإلى فى البيت بمعنى اللام متعلق بتجعل أو هى على أصلها على تضمين تجعل معنى تضم متعلق بتجعل أو حال من تيما أو ندا أى مضموما إلى، والنديد والند بمعنى واحد ، وهما مأخوذان من ندندودا أى نفر نفورا.

ومنه حديث الإيضاح ما ند لكم فاصنعوا به هكذا، وناددت الرجل خالفته قيل خص بالمخالف المماثل فى الذات، كما خص المساوى بالمماثل فى القدر، وذكر بعضهم أن الند المشارك فى الجوهر، وأن المثل يقال فى أى مشاركة كانت، فكل ند مثل ولا عكس، وتفسير الشيخ هود رحمه الله بالعدل تفسير بالمقاوم، وقد فسره بعضهم بالمقاوم والمضاهى، أو تفسير الشيخ هو تفسير بالمساوى يقال هذا عدل ذاك أى مقابله وموازنه، ويقال عدله أى مساويه، وعبارته يعنى أعدالا أى لا تعدلونهم بالله تعبدونهم. انتهى. وفسره بعض بالمثل كأنهما مترادفان، وأما تفسيره بالشريك بالعبادة ففيه ميل إلى التفسير بالمعنى المقصود فى الآية. وإن قلت لم سمى الله ما يعبده المشركون أندادا مع أن الند هو المساوى فى الذات والصفات المخالف فى الفعل، وهم لم يزعموا أن معبوداتهم تساوى الله فى الذات والصفات، ولم يزعموا أنها تخالفه فى الفعل؟.. قلت لأنهم تركوا عبادة الله وعبدوها، وسموها آلهة فشابهت حالهم حال من يعتقد أنها تساوى الله فى الذات والصفات، كوجود الوجود والقدرة، فكأنهم قالوا تدفع عنهم ما قدر الله عليهم من بأس، وتعطيهم ما منعهم الله من خير، ففى ذلك استعارة تمثيلية مقصود فيها التهكم لا تهكمية، هى استعارة أحد الضدين للآخر. ووجه التهكم ما شنع عليهم به، من أنهم جعلوا أندادا متعددة لمن يمتنع أن يكون له ند، حتى نهاهم عنها وعليهم كيف تتخذونها وأنتم تعلمون. قال زيد بن عمرو بن نفيل، وهو موحد جاهلى، له ذكر فى مسند الربيع بن حبيب رحمه الله

أرب واحد أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الرجل البصير ألم تعلم بأن الله أفنى رجالا كان شأنهم الفجور وأبقى آخرين ببر قوم فيربو منهم الطفل الصغير

فارق دين قومه ووجد الله - جل وعلا - ومعنى أدين أطيع وأنقاد له، وشأنهم بالنصب خبر كان والفجور اسمها وشأنهم فعل ومفعول، والفجور فاعل أو الجملة خبر كان واسمها ضمير الشان، وبر قوم بكسر الباء إحسان القوم، وهو ضد الفجور، ويربو ينمو ويزيد، والخطاب فى الآية للمشركين الذى يعلمون أن الخالق الرازق هو الله كما علمت، فالمراد بالعلم فى قوله تبارك وتعالى { وأنتم تعلمون } العلم الخاص وهو العلم بأن الله تعالى خلق الخلق، وأنزل الماء، وأخرج الرزق. وقيل الخطاب لكفار بنى إسرائيل، أى وأنتم تعلمون من الكتب التى عندكم أن الله سبحانه لا ند له. وقال ابن فورك يحتمل أن تناول الآية المؤمنين الجمهور على الأول.

أى وأنتم تعلمون أن الله هو الخالق الرازق لا غيره، ولا يكون إله إلا من يخلق ويزرق، لو تعلمون أن تلك المعبودات لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، كقوله تعالى

هل من خالق غير الله

وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها

هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء

ولك ألا تقدر ليعلم مفعولا بأن تنزله منزلة اللازم، ولا تستحضر متعلق العلم فى قلبك، ولا تستشعر أنه كذا ولا كذا، كأنه قيل وأنتم أهل للعلم والنظر والرأى، ولو تأملتم أدنى تأمل لاضطر عقلكم إلى العمل، بمقتضى أنه الخالق الرازق، ومقتضى ذلك هو ألا تعبدوا سواه، وإذا قدرت المفعول، فالمقصود التهديد على فسادهم، لا تقييد النهى عن الأنداد بالعلم بالمفعول، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء فى التكليف بترك الأنداد. والتهديد هنا أوكد من التهديد فى عدم تقدير المفعول وهو مقصود فيهما جميعا وجملة أنتم تعلمون، حال من واو تجعلوا. قال اليافعى قوله

يا أيها الناس اعبدوا ربكم

إلى { وأنتم تعلمون } لصرف الآفات والعاهات والحيات والأذى عن الجنان والزرع والحدائق وجميع الأشجار. يتطهر ويصوم يوم الخميس ويخرج يوم الجمعة سحرا ويصلى فى أركان الموضع الأربعة ركعتين فى كل ركن متصلات، الأولى بأم القرآن وأرأيت الذى يكذب، والثانية بأم القرآن والفيل وقريش.. ويكتب الآية بقلم الزيتون أو الطرفا أو الطومار فى ورقة خضراء من الطومار بزعفران وماء ورد، ويبخر بعود، ويجعلها فى قصبة، ويقرأ الآية أيضا عليها ويجعلها فى رأس أعلى الشجرة، وكذا من أراد حفظ بلد ودار بجعلها فى أعلاه ويصلى فى أركانه قبل الجعل.

[2.23]

{ وإن كنتم فى ريب } شك { مما نزلنا على عبدنا } محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب - صلى الله عليه وسلم - وقرأ بعضهم { على عبادنا } أى محمد وأمته، والإضافة فى القراءتين تشريف وتنبيه، على أنه أو أنه وأمته على اختصاص بالله وانقياد لحكمه. روى أن اليهود قالوا إن القرآن ليس وحيا لأنه لم يشبه كلام الوحى، فنزلت الآية تحديا لهم أنه إن كان من كلام البشر فليأتوا بمثله. وعلى هذا فالخطاب لليهود، وهذا أنسب بالقراءة الثانية. وقيل قال لك كفار مكة فنزلت. ويجمع بينهما بأن اليهود قالته فتبعتهم كفار مكة. وكذا يقال فى قوله تعالى

وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة

ووجه قولهم أنه لا يشبه الوحى، أنهم سمعوا أنه ينزل شيئا فشيئا بحسب الوقائع. كما يركب الشاعر قصيدته شيئا فشيئا والتأثر كلامه شيئا فشيئا والخطيب خطابته. { فأتوا بسورة من مثله } وأنتم أفصح العرب العرباء وأبلغهم وفى كثرة العدد والمضادة والمضارة وحب المغالبة مشمرون فى ذلك فاجهدوا جهدكم فى ذلك لعلكم تأتون بسورة من مثله تركبونها شيئا فشيئا. { وادعوا شهدآءكم } آلهتكم. وقال ابن عباس من شهدكم وحضركم من عون ونصير. { من دون الله } ليعينوكم على ذلك. { إن كنتم صادقين } فى قولكم إنه من كلام البشر والسورة من القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو غير ذلك من كتب الله طائفة مسماة باسم خاص أقلها ثلاث آيات. وذكر الجعبرى أن السورة قرآن يشتمل على آى ذى فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات. والواو أصل وهى منقولة من سورة المدينة لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محورة على انفرادها مجتمعة اجتماع البيوت، كما يحيط سور المدينة ببيوتها، ومن هذا المعنى السوار لإحاطته بالساعد، أو لأنها محيطة بأنواع من العلم إحاطة السور بالمدينة والسوار بالساعد. وقيل سميت سورة لأنها مرتفعة الشأن لأنها من كلام الله، والسورة المنزلة الرفيعة. قال النابغة

ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها بتذبذب

وقال أيضا من قصيدة أخرى له

ولرهط حراب وقد سورة فى المجد ليس غرابها بمطار

وحراب وقد رجلان من بنى إسرائيل. وسورة منزلة رفعية. وقوله ليس غرابها بمطار، كناية عن كثرة الرهطين، ودوام المجد لهما فإن النبات إذا كثر فى موضع لا يطير غرابه، لأن الغراب إذا وقع فى موضع الخصب أصاب فيه ما لا يحتاج معه إلى أن ينتقل منه إلى مكان آخر، أو كناية عن كثرة الثمار المكنى بها عن عمار الموضع والبقاء فيه، وقيل من السورة بمعنى مطلق المنزلة والمرتبة لا من حيث كونها مرتفعة. ولو كانت السورة عالية الشأن أو من المنزلة والمرتبة من حيث إن القارئ يرتقى فيها أو لأن لها مرتب فى الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة وقد علمت أن السورة فى البيتين المنزلة والرتبة.

وقيل سميت سورة لتركيب بعضها على بعض، من التسور بمعنى التصاعد والتركب، ومنه

إذا تسوروا المحراب

ويجوز أن تكون الواو بدلا من الهمزة من السؤرة التى هي البقية والقطعة من الشىء، يقال أسأرت أى أفضلت وأبقيت من الشراب أو الطعام أو غيرها، وسورة البناء القطعة منه بعد الأخرى، وبعضهم يهمز الواو. وحكمة جعل القرآن سورا. تحقيقا كون السورة تجردها معجزة وآية من آيات الله عز وجل، والإشارة إلى أن كل سورة طريق مستقل فى نوعه. فسورة يوسف تترجم عن قصته. وسورة براءة تترجم عن أحوال المنافقين وأسرارهم والتنبيه على أن الطول ليس من شرط الإعجاز إذ كان منه طوال وقصار وأوساط، وكلها معجز، وهذه سورة الكوثر ثلاث آيات، وهى معجزة إعجاز سورة البقرة، فلو تفاوت الإعجاز بالطول والقصر والتوسط لأمكن لهم أن يأتوا بمعجز قصيرا وكادوا يأتون به، ولا يمكن لهم ذلك أبدا ولو اجتمع الخلق.. فافهم. وتدريج الأطفال من السور القصار إلى الأوساط والطوال وكذا الضعفاء فى الحفظ من الرجال والنساء والعبيد والعجم تيسيرا من الله على عباده لحفظ كتابه، وتنشيطا على الحفظ والدرس والتعليم والتعلم وتطرية وتجديدا

لكل جديد لذة غير أننى وجدت جديد الموت غير لذيذ

ولذلك جزءوه أرباعا وأحزابا وغير ذلك، فكيون متناوله كمسافر، إذا قطع ميلا أو فرسخا استراحت نفسه إليه وانتشطت لما بعده. فلو جهل ذلك لضاق ذرعا بما هو فيه من المشقة. وبما بقى له منها لجهله به إلا أن عرف كم يوم أو كم مرحلة، فقد يستريح بعدد الأيام والمراحل، ولذلك المعنى بوبنا تأليفنا وترجمنا بها. وأيضا الجنس إذا انطوت تحته أنواع، واشتمل على أصناف، كان أحسن من أن يكون ضربا واحدا. وتنويعه منصور بجعله سورا وإذا ختم المتعلم السورة حافظا لها اعتقد أنه فاز بطائفة من كتاب الله، مستقلة بنفسها، لها مبدأ ومختم فيعظم عنده ذلك، ويغتبط به كفوز من ظفر بكنز وفرحه. وقال أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا، ولذا كانت القراءة فى الصلاة بسورة تامة أفضل. وأيضا التفضيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض. وبذلك تتلاحق المعانى والتراكيب، وكذلك سائر كتب الله قد جعلها الله سورا. لذلك أخرج بن أبى حاتم عن قتادة كنا نتحدث أن الزبور مائة وخمسون سورة كلها مواعظ وثناء، ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود. وذكروا أن فى الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال، وليس كما قال الزركشى إن سائر كتب الله غير مسور. بل سورة القرآن لأنها لم تكن معجزة من جهة التركيب والترتيب.

ولأنها لم تنشر للحفظ. والله علم. و { من مثله } متعلق بمحذوف نعت لسورة. والهاء عائدة لما نزلنا. ومن للتبعيض أو للتبيين، أى بسورة ثابتة بعضا من جنس الكلام الذى يماثله، وهو الكلام الذى يقدر عليه الله لا غيره، وليس من القرآن ولا من سائر كتبه أو بعضا من جنس كلام البشر الذى يماثله، لو كان بعض كلامهم مماثلا له، لكنه لم يماثلة بعضه ولا كله أو بسورة من مثله. ومن أجاز زيادة من فى الإثبات كالأخفش أجاز جعلها صلة للتأكيد فيكون مثله نعتا لسورة، أى فأتوا بسورة مماثله له، ووجه الشبه البلاغة وحسن النظم، أعنى حسن التركيب. ويجوز أن تكون الهاء لعبدنا، فتكون من للابتداء أى بسورة كائنة من مثل عبدنا، أو صادرة من مثله، أو مخترعة من مثله. ووجه الشبه كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ كتابة ولم يتعلم العلم، وإن قلت فهل يجوز أن تكون للابتداء مع كون الهاء لما نزلنا؟ قلت لا يجوز لأنه يلزم من كونها للابتداء مع كون الهاء لما نزلنا أن يكون للقرآن مثل محقق موجود، وإنما عجزوا عن الإتيان به وليس كذلك، ولأن كلمة من على ذلك ليست بيانية ولا تبعيضية، لأن الإنسان لا يكون سورة ولا بعض قرآن. وليست صالحة لمعنى من معانيها ولا يتخيل إلا الابتداء وهو ضعيف كضعفه فى قولك أتيت من الدراهم بدرهم، لأن الكل فيه يكون مبتدأ للإتيان بما هو بعض منه، بخلاف ما إذا لم يكن ذلك فإنه حسن قوى، نحو أتيت من زيد بشعر، ويجوز أن تكون للابتداء متعلقة بقوله { فأتوا } والهاء للعبد وما ذكرته أولا من كون الهاء للعبد أحسن لأنه المطابق لقوله فى سورة هود

فأتوا بسورة مثله

دون { من } ومعلوم أن السورة لا تكون مثل النبى - صلى الله عليه وسلم - ولو جعلنا الهاء للعبد لكان المعنى فأتوا بسورة مماثلة له، ولأنه المطابق أيضا لسائر آيات التحدى، ولأن الكلام فى المنزل وهو القرآن لا فى المنزل عليه وهو العبد المذكور - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى { وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا } ولم يقل وإن كنتم فى ريب من أن محمدا منزل عليه، فحق الكلام أن لا ينفك عن ذكر المنزل ليتسق التركيب والترتيب، فإن المعنى وإن ارتبتم فى أن القرآن منزل من عند الله فأتوا بشىء مما يماثله، ولو كان الضمير للمنزل عليه لقيل وإن ارتبتم فى أن محمدا منزل عليه فأتوا بقرآن من مثله، ولأن مخاطبة الكثير بأن يأتوا بقليل مما أتى به واحد منهم، هو وهم سواء فى العشيرة، وعدم الكتابة، وعدم قراءتها، وعدم التعلم، أبلغ فى التحدى، من أن يقال لهم ليأت مثل هذا العبد بمثل ما أتى هذا العبد، ولأن القرآن معجز فى نفسه لا بالنسبة إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى

قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا

ولهذا العلل رد الجمهور الهاء إلى ما نزلنا، ولو رددنا إلى العبد لأوهم إمكان صدور مثل الصورة ممن لم يكن على صفته، ولكان قوله { وادعوا شهدآءكم من دون الله } غير ملائم لذلك الإمكان إذ لا معنى للاستظهار بشهدائهم على أن يأتوا بسورة واحدة من مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن قوله { ادعوا... الخ } أمر تعجيز بأن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم، سواء كان مثله أم لا، والشهداء جمع شهيد بمعنى حاضر أو قائم بالشهادة أو الناصر أو الإمام. سمى به لأنه يحضر النادى، أعنى المجلس، وتبرم بحضرته الأمور لأن لفظ الشهادة، وما تصرف منه لحضور الشىء بذاته أو بعلمه، ومنه سمى القتيل فى سبيل الله شهيدا، لأنه حضر ما كان بمجيئه يرجوه أو حضرته الملائكة، وفيه أوجه تأتى إن شاء الله فى محلها. وقال الله جل وعلا

شهد الله أنه لا إله إلا هو

أى علم الله أنه لا إله إلا هو. ويجوز أن يكون الشهداء جمع شاهد كعالم وعلماء، وعاقل وعقلاء، وشاعر وشعراء، والله أعلم. ومعنى { دون } أدنى مكان من الشىء، ولست أريد أن مادة دون الدنو وما تصرف منه واحدة، بل مادتان اختلفتا فى إعلال العين واللام وتصحيحهما، ومن ذلك تدوين الكتب، لأنه أدنى البعض من البعض بأن تضم المعانى والنقوش وتضم كل ورقة إلى أخرى، ويقال دونك هذا أى خذه من أدنى مكان منك، ثم استعير للرتب فقيل عمرو دون زيد، أى فى الشرف، ومنه قولهم الشىء الدون، أى الردىء، ثم اتسع فيه فاستعمل فى كل تجاوز حد، أو تخطى أمر إلى آخر. وإن خلا عن اعتبار المنزلة والرتبة. قال جل وعلا

لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين

أى لا يتجاوز ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. وقال أمية بن أبى الصلت

يا نفس مالك دون الله من واق ولا لسع بنات الدهر من راق

أى إذا تجاوزت وقاية الله، فلا يغنيك غيره ومن متعلقه بادعوا. والمعنى وادعوا لمعارضة القرآن بالإتيان بمثل سورة منه، من حضركم أو رجوتم معونته من الإنس والجن والأصنام، فإنه لا قدرة لكم على الإتيان بمثلها ولا تدعوا الله لذلكم فإنه القادر وحده على الإتيان بمثل القرآن. أو المعنى ادعوا من دون الله من يشهد لكم من الناس إنما أتيتم به مثله، وصححوا دعواكم ولا تقصروا على قولكم الله يشهد إنما ندعيه حق فإنه من عادة الذى يقول البهتان ويعجز عن إقامة الحجة والأمر على هذين المعنيين للتبكيت والتعجيز، أو المعنى ادعوا من دون الله شهداءكم الذين اتخذتموهم أولياء من دون الله، وهم شرفاؤكم ليشهدوا أنكم أتيتم بمثله، وليسوا بشاهدين بذلك.

وأما المؤمنون فلا مطمع لكم فى الشهادة بذلك. و { من } على المعانى الثلاثة متعلق بادعوا. والأمر على المعنى الثالث لاستدراج. والمعنى ادعوا شهداءكم الذين اتخذتموهم آلهة وهم الأصنام وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة أنكم على الحق، ولا تدعوا الله. والأمر على ذهاب المعنى أيضا للتهكم أو المعنى ادعوا أصنامكم التى تشهد لكم بين يدى الله أنكم على الحق. والأمر على هذا المعنى للتهكم أيضا. والمعنى ادعوا شرفاءكم ورؤساءكم يشهدوا أنكم آتيتم بمثله، متجاوزين أولياء الله المؤمنين فإنه لا شهادة لهم فى ذلك. يعنى أن شرفاءكم ورؤساءكم لا يشهدون بذلك لظهور بطلانه. و { من } على المعانى الثلاثة الأخيرة متعلقة بشهداء والأمر على الأخير لاستدراج، أو يجوز تعليق { من } بمحذوف حال فى تلك المعانى كلها، إلا الخامس فتعلق فيه بشهدائكم أو بمحذوف ليشهدوا. أى من دون الله ومن استعمال دون بمعنى بين قول الأعشى

تريك القذى من دونها وهى دونه إذا ذاقها من ذاقها يتمطق

أى تريك زجاجة الخمر القذى من قدامها وهى قدام القذى من ذاقها أى الحمر أو الزجاجة، أى خمرها يتمطق، أى يمتص فمه وشفتيه للذتها، وقل من دون الله بمعى من دون أولياء الله، وأن المراد بشهدائكم فصحاء العرب ليشهدوا أن ما آتيتم به مثله. فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده، لرجوع ذلك عليه بالذم، إذا نسب إلى الجهل وعدم التمييز، فليسوا بشاهدين لكم، وقد اعترف الفصحاء بإعجاز القرآن، وكان قد تحدى الله به من حيث تأليفه ومعانيه وإخباره بالغيب، وكان فى زمان هاجت فيه فحول الشعراء، وفصحاء الكلام، فتحداهم بتأليفه كما تحداهم بمعانيه وإخباره بالغيب، وعجزوا كلهم وانكشفوا. وقد قال الوليد بن المغيرة فى وصف القرآن والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أصله لغدق وإن أعلاه لمثمر... والله أعلم. والآية نص فى أنهم كاذبون فى ادعائهم الإتيان بمثله إذ قال { إن كنتم صادقين } وقال

فإن لم تفعلوا...

إلخ الآية. والصدق الإخبار المطابق للواقع سواء طابق اعتقاد المتكلم أم لا، وقيل بشرط أن يطابق الاعتقاد عن دلالة أو أمارة. وقيل هو مطابقته لاعتقاد المتكلم، سواء كان اعتقاده حقا أو خطأ. فالأول مذهب الجمهور، والثانى مذهب الجاحظ، والثالث مذهب النظام. فالكذب على الله عدم مطابقته للواقع، سواء طابق الاعتقاد أم لا. وعلى الثانى عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنه غير مطابق. وعلى الثالث عدم مطابقته اعتقاد المتكلم، ولو كان خطأ ولا واسطة بين الصدق والكذب إلا فى مذهب الجاحظ المذكور ويوصف المتكلم والكلام بالصدق والكذب، ومرادى بمطابقة الإخبار مطابقة حكمه، فان الصدق والكذب راجعان أولا إلى الحكم، وراجعان إليه بالذات، أعنى أنهما يرجعان إليه بلا تفرع على شىء، ولو تفرعا فى الرجوع إليه على شىء لم يكن رجوعهما أولا، وهما راجعان إلى الإخبار ثانيا، راجعان إليه بالواسطة، وذلك أن الإخبار إنما يقع بعد الحكم، فهو ثان بواسطة الحكم.

ومرادى بالحكم هنا العزم على إثبات شىء، يقطع النظر عن كونه صدقا أو كذبا. ومرادى بالواقع فى قولى المطابق للواقع ونحوه ما فى نفس الأمر. وإن شئت ففسر الواقع بما هو بحاله الذى عند الله، بحسب معتاد الناس، وإن شئت فقل هو الخارج الذى يكون بنسبة الكلام الخبرى. فالخارج فى مقتضى قولك قام زيد هو القيام الماضى. وفى قولك يقوم هو القيام أو المستبقل. والنسبة التامة تعليق أحد الأمرين بالآخر، بحيث يحسن السكوت. كقام زيد. والناقصة تعليق أحد الأمرين بالآخر، حيث لا يحسن السكوت كغلام زيد وإن قام زيد. والنسبة إما ثبوتية أو سلبية يعتقدها المتكلم إما صادقا فيها أو كاذبا. وهذه النسبة الذهنية. والسامع بجزم بالنسبة إنها موجودة مع قطع النظر عما فى اعتقاد المتكلم، إما موافقة لنسبة المتكلم فصدق، وإما مخالفة فكذب. وقول القائل السماء فوقنا فصدق عند الجمهور، ولو اعتقد أنها تحتنا لمطابقته الواقع. وقوله تحتنا كذب، ولو اعتقده لعدم مطابقة الواقع. وأما على قول الجاحظ فقولك السماء فوقنا معتقد أنها قوقنا صدق، وقولك معتقدا أنها تحت كذب. وأما على قول النظام فقولك السماء تحتنا معتقدا أنها تحتنا صدق. فقولك فوقنا غير معتقد أنها فوقنا كذب. والمراد بالاعتقاد الحكم الذهنى الجازم أو الراجح، فيعم العلم وهو حكم جازم لا يقبل التشكيك. والاعتقاد المشهور وهو حكم جازم يقبله. والظن وهو الحكم بالطرف الراجح، فكل ذلك صدق. فيخرج الموهوم فإنه كاذب لأنه الحكم بخلاف الطرف الراجح، فليس بصدق عند النظام لخلوه من الاعتقاد المذكور، الذى هو الحكم الذهنى الجازم أو الراجح، وأما المشكوك فكذب أيضا لعدم ذلك الاعتقاد فيه، أيضا لأن الشك التردد بين الطرفين بلا ترجيح. وإذا كان الكلام الكاذب خبرا فكيف لا يكون كلام الشك خبرا، مثل أن تقول قام زيد، مع الشك، فلا يقال المشكوك ليس صدقا ولا كذبا، واستدل النظام بقوله تعالى

إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون

لأن الله - جل وعلا - نسبهم إلى الكذب فى قولهم { إنك لرسول الله } مع أنه مطابق للواقع إذ لم يعتقدوا أنه رسول الله، فسماه كذابا إذ قالوه من غير أن يعتقدوه. وأجيب بأنه إنما نسبهم إلى الكذب فى ادعائهم اعتقاد رسالته، ولا شك أن هذا الادعاء غير صحيح، لأنهم لم يعتقدوها. وهذا الادعاء مستفاد من المقام، لا من خصوص قولهم { نشهد } لأنه ليس بإخبار بل إنشاء فضلا عن أن يقال إن قولهم { نشهد } غير مطابق للواقع.

وأجيب أيضا بأن المعنى إنهم لكاذبون فى المشهود به، وهو الرسالة، إذ لم يثبتوها فى اعتقادهم، فإثباتهم إياها بألسنتهم كذب إذ لم يوافقها اعتقادهم، فهم عالمون بأنهم كاذبون فأخبرنا الله سحبانه بهذا الكذب الذى صدر منهم، وعلموا به ولو كان فى نفس الأمر صدقا، لمطابقته الواقع الذى هو ثبوت الرسالة عند الله. وإن قلت هل يصح أن يجاب أيضا بأن المعنى إنهم لكاذبون فى تسمية قولهم { إنك لرسول الله } مع عدم اعتقادهم رسالته شهادة، لأن موافقة القلب للنطق مشروطة فى الشهادة؟ قلت لا يصح أن يجاب بذلك لأن نسمية ما ليس شهادة باسم الشهادة خطأ لا كذب لأن التسمية ليست إخبارا. ولو قلت مشيرا إلى السماء هذه الأرض ممطرة، لكنت خاطئا فى تسيمة السماء أرضا، لا كذبا لأنك أردت السماء الحق. وإنما تكون التسمية كذبا، حيث جعل فيها كلام تام مثل قولك هذا الهيكل العلوى أرض، واسم هذا الهيكل العلوى أرض لأن سلمنا تسمية التسمية كذبا على الإطلاق إذا خالفت الواقع لتمنعن اشتراط موافقة القلب للنطق فى اسم الشهادة بل نشرطها فى المشهود به. وأجيب أيضا بأن التكذيب راجع إلى حلف المنافقين وزعمهم أنهم لم يقولوا لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا لأن الآية نزلت بعد وقوع هذا منهم. وتبقى أربعة أقسام لا تسمى صدقا ولا كذبا عند الجاحظ المطابقة مع عدم اعتقادها، والمطابقة بدون اعتقاد أصلا، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة، وعدم المطابقة بدون اعتقاد أصلا، وأما الصدق فالمطابقة مع اعتقادها وأما الكذب فعدهما مع اعتقاد عدمها فهذه ستة أقسام فالصدق والكذب بتفسير الجاحظ أخص منهما بتفسير الجمهور والنظام، واستدل الجاحظ بقوله تعالى

افترى على الله كذبا أم به جنة

لأن الكفار حصروا إخبار النبى - صلى الله عليه وسلم - بالحشر فى الافتراء والإخبار حال الجنة على سبيل منع الخلود ، ولا شك أن المراد بقولهم { أم به جنة } أن الإخبار حال الجنة، غير الافتراء لأنهم أتوا به قسيما للافتراء، ولا شك أن الإخبار حال الجنة غير الصدق أيضا إذ لم يعتقدوا الصدق بل اعتقدوا عدمه، ولا شك أنه ليس معنى قوله { أم به جنة } أم صدق فنحصل فى الجملة افتراء. وإخبار حال الجنة وصدق وجعل عدم اعتقاد الصدق دليلا على عدم إرادتهم كونه صدق لا على عدم كونه صادق فضلا عن أن يعترض بأنه لا يلزم من عدم اعتقاد الصدق عدم الصدق وأجيب بأن معنى { أم به جنة } أم لم يفتروا فعبرو عن عدم الافتراء بالجنة لأن المجنون لا افتراء له، لأن الافتراء هو الكذب عن عمد، ولا عمد للمجنون فعدم الافتراء المعبر عنه بالجنة قسيم الافتراء، والافتراء أخص من عدم الافتراء.

والمراد بعدمه الكذب بلا عمد، فيكون ذلك حصر للكذب فى نوعين الكذب عن عمد والكذب بلا عمد. ولو سلمنا أن الافتراء بمعنى مطلق الكذب عمدا أو بلا عمد، لقلنا إن المعنى أقصد الافتراء أى الكذب أم لم يقصد، بل كذب بلا قصد لما به من الجنة، وتفسير الافتراء بكذب العمد لا بمطلق الكذب صح عن أئمة اللغة، ودل له استعمال العرب، فإن قلت فهل يشترط فى الإخبار القصد، وإن لم يكن القصد لم يسم الكلام إخبارا فلا يسمى كلام المجنون ونحوه كالنائم والساهى ممن لا قصد له إخبارا لأنه لا قصد فيه يعتد به، فيكون مرادهم حصره فى كونه خبرا كذبا أو ليس بخبر لصدوره حال الجنة، فلا يثبت خبر ليس صادقا ولا كاذبا، قلت الذى عندى تسمية اللفظ المفيد من المجنون ونحوه كلاما، لظهور أن مرجع التسمية به إلى التلفظ. وقد تلفظ وركب وأفاد. ولو اشتهر عدم تسمتيه كلاما، ولا يسمى عندى إخبارا لأن مرجع التسمية بالإخبار الصدق والكذب، ونحو المجنون لا يسمى صادقا ولا كاذبا بالعدم قصده، وهذا معروف فى القلب معتاد، وإذا أطلق على كلامه الصدق، فعلى معنى الاتفاق، وإذا أطلق عليه الكذب فعلى معنى الخطأ وعدم الاتفاق.

[2.24]

{ فإن لم تفعلوا } أى فإن لم تأتوا بسورة من مثله فيما مضى، وإنما لم يقل فإن لم تأتوا بها، بل قال { فإن لم تفعلوا } لأن الإتيان بها فعل من الأفعال، داخل تحت عموم الأفعال، وساغ التعبير به فى الجملة اختصارا أو إيجازا، أو جرى مجرى الكناية التى تفيد اختصارا أو إيجازا من ضمير وإشارة كنايات اللغة والاصطلاح تقول أكرمت زيدا بكذا فى موضع كذا، أو تعد ما شاء الله من خصال. فيقال لك نعم ما فعلت. ولو قيل نعم الإكرام إكرامك زيدا فى موضع كذا فى وقت كذا بكذلك إن فيه طول. وكذا لو قيل نعم الإكرام مشارا به إلى الإكرام المكيف بتلك الكيفيات، لكان فيه طول بالنسبة إلى نعم ما قعلت. ولم يكن نصا فى معنى قولك نعم ما فعلت فكان التعبير بمادة - ف ع ل - مرغوبا فيه لذلك معدودا أفصح وأوجز فى الجملة، فكان التعبير به أولى ولو فى مقام لا يكون فيه أوجز كالآية. فإن قولك { فإن لم تفعلوا } ذلك أو فإن تفعلوا السورة أى لم تعملوها وقولك فإن لم تأتوا بذلك أو فان لم تأتوا بالسورة متقاربان فى عدم الحروف، وكذا قولك فإن لم تفعلوها أى لم تعملوها. وقولك فإن لم تأتوا بها متقاربان وقولك فإن لم تأتوا، فإن لم تفعلوا متقاربان والفاء استئنافية تفريعية، لأن ما بعدها كالندلة مرتب على ما قبلها من بيان الحق. وما يعرفون به رسالته - صلى الله عليه وسلم - أى إن عجزتم عن الإتيان بسورة بعد اجتهاد، فاتركوا المعارضة، وانقادوا لأمر الله، تسلموا من عقابه، وإن قلت إن للشك أو للظن والله منزه عنهما، وكذا لا يشك مخلوق ولا يظن أن يأتوا بسورة مثله، وقد تحداهم وأفحمهم. فهل لا كان الكلام بإذا التى تساق لكون الشىء سيفعل بدون تلويح إلى الشك، قلت كان الكلام بإن للتهكم بهم، والاستهزاء بإرخاء العنان لهم فيها لا طاقة لهم عليه جزما وتصويره صورة ما يمكن أن يطبقوه، حتى إنه يشك شاك أن يظن أنهم قد فعلوه، وتصويره بصورة ما يقطع به المتغالب، كما إذا نفى أحد أن تقوى على صرعه وقد وثقت من نفسك أن تصرعه. فتقول فإن صرعتك فماذا تفعل؟ أو إن صرعتك لم أبق عليك شيئا من خير أو رفق بل أزيحه عنك كله. أو كان الكلام بأن مراعاة لظنهم وطمعهم أن يأتوا بسورة، لأن العجز عن المعارضة قبل التأمل لم يكن محققا عندهم، بل مشكوكا فيه، أو منفى جزما لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا لا مضمونا فيه. كما قيل وتفعلوا مجزوم بلم، لا بإن، لاتصالها به وتغييرها معناه إلى المضى، بخلاف إن فإنها مفصولة معناها مسلط على لم وما بعدها، فلم وما بعدها فى محل جزم بإن، وقد ردت أن الفعل إلى الاستقبال بعدما صرفته لم إلى المضى، فظهر تسلط معناها عليهما.

كأنه قيل فإن تركتم الفعل وبيان الاستقبال أن الكلام سياق لمعنى قولك فإن صح أنكم لم تفعلوا، والصحة مستقبلة الثبوت، إذ ما شك فيه الإنسان لم يثبت، بل ينتظر الإنسان ثبوته، وزعم بعضهم أن إن بمعنى إذ، وإنما لم نقل بتنازع - إن ولم - لأن إن تطلب مثبتا، ولم هى طالبة للمنفى، وشرط التنازع الاتحاد فى المعنى ولضعف الحرف وأجاز ابن العلج فى البسيط التنازع بين الحرفين، وكذا فى المسائل الدمشقيات الدائرة بين أبى على الفارسى وأبى الفتح بن جنى الإشارة إلى الجواز، ورد عليهم بما ذكروا ما الرد بأن الحرف لا يضمر فيه، وشرط التنازع صحة الإضمار بين المتنازعين، فلا يصح عندى، لأن المراد بالإضمار فى باب التنازع ما يشمل استتار الضمير وما يشمل الحذف، فالإضمار فى الحرف الحذف معه، كما تحذف الفضلة التى عمل فيها الفعل وغيره. { ولن تفعلوا } فى المستقبل، وهذا من أخبار الغيب فهو معجزة، وهذه الجملة مستأنفة، اعترضت بين الشرط والجزاء، ونكتتها الجزم بنفى الإتيان بسورة، بعد ما ساق الكلام مساق الشك فى الإتيان بحسب ظنهم، والله - جل وعلا - يعلم أنهم عاجزون، ويجوز أن تكون الجملة حالا مقدرة، ولا يضر عندى تصدير الجملة الحالية بما يدل على الاستقبال، كلن إذا كانت الحال مقدرة، ولو أطلق غيرى المنع، والمعنى فإن لم تفعلوا فيما مضى، حال كونكم مقدرا عدم فعلكم فى المستقبل، أى قدرة الله، وأما أن تعطف الجملة على جملة { لم تفعلوا } فلا يجوز، لأن لن لا تلى إن الشرطية. وإذا عطفت الجملة فكأنها تلت، إلا أن يقال يغتفر فى الثوانى ما لا يغتفر فى الأوائل. فان أنواع هذا الاغتفار كثيرة جدا، كعطف الظاهر على الضمير المستتر فيما لا يرفع الظاهر، وكعطف المذكر على الفاعل المؤنث، المقرون رافعه بالتاء، وكما ورد من عطف المعرفة على مجرور رب المنكر. وغير ذلك. وكثرتها تدل على القياس، غير أن الظاهر أنه ينظر إلى كل نوع على حدة، فإن كثر قيس كالنوعين الأولين، وإلا فلا كالثالث، وحمل الآية على الشاذ خلاف الأصل مع أنه لا دليل عليه. وقد اقتصر ابن هشام على أن الجملة معترضة إذ قال والخامس بين الشرط وجوابه نحو وإذا بدلنا آية مكان آية. والله أعلم بما ينزل. قالوا إنما أنت مفتر ونحو { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار }... إلخ. { فاتقوا النار } بالإيمان بالله والإيمان بأن القرآن من كلامه لا من كلام البشر، وبترك العناد، وإن قلت حق الشرط أن يكون سببا للجزاء وملزوما له، وحق الجواب أن يكون مسببا عن الشرط ولازما له، وليس عدم إتيانهم بالسورة فى الماضى والمستقبل سببا لاتقاء النار ولا ملزوما له.

ولا اتقاؤها لازما له ولا مسببا عنه، فكيف صح الجزاء باتقوا النار؟ قلت نزلت لازم الجزاء وهو اتقاء النار منزلة الجزاء وهو الإيمان بالله سبحانه وتعالى والقرآن. وترك العناد على سبيل الكناية، فإن الإيمان وترك العناد يصحان جزاء، لأنهما لازمان لعدم الإتيان بالسورة ومسببان عنه. وعدم الإتيان ملزوم لهما وسبب لهما، فأفادت هذه الكناية ترك العناد، وتهويل شأن العناد بإقامة النار مقامه، وإنابة اتقاء النار مناب ترك العناد، وتصريحا بالوعيد وليس غير الكناية يفيد كل ذلك. قال الفخر لما ظهر عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق النبى - صلى الله عليه وسلم - وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار. واتقاء النار يوجب ترك العناد. وأقيم قوله { فاتقوا النار } مقام قوله فاتركوا العناد، وأل فى النار للعهد الذكرى، إذ ذكرت النار فى سورة التحريم نكرة، وهى من السور التى نزلت بالمدينة، والبقرة مدنية أيضا، لكن سورة التحريم متقدمة النزول، بل قيل آية - وقود النار - نزلت بمكة. { التى وقودها } أى ما توقد به. وأما الوقود - بضم الواو - فمصدر، بمعنى اشتعال النار، وقرأ به عيسى بن عمر الهمدانى. إما على المصدرية مبالغة بحيث نزل قوة الاشتعال منزلة الناس والحجار، كأن نفس الناس والحجارة هى الاشتعال، كقولك زيد صوم إذا أكثر الصوم. وقولهم حياة السراج الزيت أى ما يحيا إلا به، فكأنه نفس الزيت. وما تتقد النار إلا بالناس والحجارة. فكأن الاتقاد نفس الناس والحجارة، وإما على المصدرية وتقدير مضاف أى متعلق وقودها الناس والحجارة، أو محل وقودها الناس والحجارة، أو وقودها احتراق الناس والحجارة، أو اشتعال الناس والحجارة بها. وإما على التسمية بالمصدر بدون أن تعتبر المبالغة ولا تقدير مضاف، كقولك زيد فخر قومه وزين بلده، أى والذى يفتخر قومه به ويتزين بلده به، وقيل كل من الوقود، بالفتح، والوقود، بالضم، يكون اسما لما تتقد به ومصدرا بمعنى الاتقاد. قال سيبوية سمعنا من يقول، وقدت النار وقودا عاليا، والاسم بالضم. { الناس } الذين أشركوا والذين نافقوا. { والحجارة } جمع حجر كجمل وجمالة، وهو غير كثير ولا مقيس، وجمع الجمع حجارات كجمالات، وفى الأخبار يكون وقودها الحجارة إخبار بقوتها، لأنها لا تتصل بالحجارة إلا لقوتها، وإذا اتصلت بالحجارة كانت قوتها قوة الحجارة، والمراد بالحجارة، الأصنام المنحوتة من الحجارة، يقرنهم الله بها فى النار

إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون

يعذبون بها لما عصوا بها، كما يعذب مانع الزكاة بماله.

وبذلك يشتد تحسرهم إذا عذبوا بها. وإذا طمعوا فى أن تنجيهم فعبدوها فصارت وبالا عليهم عكس ما طمعوا، وإتيان المكروه من حيث ترجوا النفس إتيان ما تحبه أشد عليها من إتيانها من حيث ما تتوقع. وقيل المراد بالحجارة الذهب والفضة اللذان يكنزان، ولا يؤدون منهما الحقوق. وإن قلت كيف يخص هذا بالمشركين؟ قلت لا تخصيص بل الناس المشركون والمنافقون بالشرك أو بالكبائر. وقال ابن عباس المراد بالحجارة حجارة الكبريت. رواه الطبرى وغيره ورواه الطبرانى والحاكم والبيهقى وغيرهم عن ابن مسعود، فإن كان ذلك منهما حديثا مرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا إشكال، وإن كان من كلامهما فله حكم الحديث المرفوع، وكلاهما سواء أكان حديثا أم لا، دليل على تخصيص الحجارة بالكبريت، ووجه التخصيص أن الكبريت أشد حرا، وأكثر التهابا، وأسرع اتقادا، وأكثر دخانا ومنتن الريح وشديد الالتصاق. وإن قلت لعل ابن عباس وابن مسعود عينا أن الأحجار كله لتلك النار، كحجارة الكبريت لسائر النيران، وليس مرادهم خصوص الكبريت، لأنه تهويل فى الكبريت. لأن كل نار تتقد به وإن ضعفت، بخلاف ما إذا فسرنا الحجارة بالحجارة المعروفة. فإن فيها تهويل حيث اتقدت بما لا يتقد به غيرها. قلت هذا تأويل مخالف للظاهر مع أن النكت لا تتزاحم. فكما تقصد الحجارة المعروفة للتهويل المذكور، تقصد حجارة الكبريت لزيادة الالتهاب والدخان والحرارة والنتن والالتصاق وسرعة الاتقاد. والحجر يطلق على كل جامد يابس صلب، ولو كان أصله الحجر المعروف. وإنما جاء وقودها الناس والحجارة صلة، والصلة والصفة فى غير مقام قصد التهويل للإبهام، يجب أن تكونا معهودتين للمخاطب، وإلا كانتا من باب الخبر، لا من باب الصلة والصفة، لأن هذه الجملة معهودة عندهم، من قوله تعالى فى سورة التحريم

نارا وقودها الناس والحجارة

خوطب بها المؤمنون فسمعوها منهم أو سمعوها منه - صلى الله عليه وسلم - ومن غيره بدون تلاوة الآية أو تلاوتها، أو من أهل الكتاب كأنه قيل فاتقوا النار التى عرفتم أنها ممتازة عن سائر النيران، بأنها، لا تتقد إلا بالناس والحجارة، كما يستفاد الحصر من تعريف الطرفين وهما وقودها، الناس والحجارة، وبأن غيرها من النار إن أريد إحراق الناس بها. وليس بجائز أو إحماء الحجارة بها أو إحراقها أو صنعها جيرا مثلا أوقدوا لا بنحو حطب، وقد تقرر أن أحكام الجن فى التكليف والثواب والعقاب واحدة، فكما يكون وقود نار الأشقياء من بنى آدم هو هؤلاء الأشقياء منهم والحجارة، كذلك يكون وقود نار الأشقياء من الجن هو هؤلاء الأشقياء من الجن والحجارة، فيجازى كل نفس بما يشاكله، ونار جهنم أنواع شتى، والتنكير فى سورة التحريم لهذا أو للتعظيم. { أعدت } هيئت أى هيأها الله. { للكافرين } وجعلها عدة لعذابهم، كما تجعل الخيل والسلاح عدة للقتال.

وقرأها عبد الله بن مسعود أعدت بمعنى هيئت وجعلت عدة. أو بمعنى أحضرت من العدم إلى الوجود. وفى القراءتين دليل على وجود النار الآن. ومن قال لم توجد قال معنى ذلك هو الحكم والقضاء بها. ولا يخفى ما فى هذه الآية من التحدى بتغليظ وتأكيد ولو كان - صلى الله عليه وسلم - على شك أو كان القرآن بحيث يمكن أن يؤتى بمثل بعضه لما أنزل الله هذه الآية هكذا بتغليظ يتحدى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشركين لأن ذلك يؤدى إلى أن تدحض حجته، ولا سيما أن الله - سبحانه وتعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتحديان إلا بحق لنزاهتهما عن الكذب والخيانة، وقد تحداهم بتغليظ ووعيد، فلم توجد منهم المعارضة بسورة من مثله، مع حرصهم على إطفاء نوره وإبطال أمره، مع علمهم بأنهم إذا عجزوا ولم يتركوا العناد سببت ذراريهم ونساؤهم، وغنمت أموالهم وقتلوا ولو عارضوه بشىء لم يكن خافيا لكثرة الطاعنين فى كل وقت وقلة الذابين عنه بالنسبة إليهم. وجملة { أعدت } صلة ثانية للتى عند التفتازانى لأنه أجاز تعدد الصلة بلا تبعية، كما يجوز تعدد الحال والصفة والخبر بلا تبعية، والذى عندى أن المعنى على النعت وأن المراد بالنار الجنس، ولو كانت أل للعهد، لأن المعهودة نار كثيرة يصلح كل جزء منها لهؤلاء المخاطبين. والجملة نعت للنار، وهذا أولى من كونها حالا أو مستأنفة. وما ذكره التفتازانى أحسن جدا من حيث المعنى القريب من معنى النعت على ما ذكرت، لكن أبدع فى تعدد الصلة بلا تبعية ولا بأس به، وعلى الحالية يختلف، هل يستغنى عن تقدير قد؟ ذهب بعض إلى أن الماضى المثبت المنصرف إذا وقعت جملة حالا، لا بد من قد فيه ظاهرة أو مقدرة، وقال بعض لا يلزم ذلك، واعترض على الحالية بأن النار أعدت للكافرين فاتقوها أولا، وأجيب بأنها حال لازمة، ولا تجوز الحالية من الضمير فى وقودها، ولو جعلت الوقود مصدرا للفصل بين الحال وصاحبه بأجنبى وهو الخبر. وذكر التفتازانى أن الاستئناف لا يحسن.

[2.25]

{ وبشر } خبر وأصل البشارة إظهار السرور فى بشرة الوجه وهى جلدته، فإن النفس إذا فرحت انتشر الدم كما ينتشر الماء فى الشجرة. فاستعملت فى الخبر الذى يسر من سمعه، كأنه قيل أظهر أثر الفرح فى وجوه المؤمنين بإخبارك إياهم أن لهم جنات. وإنما يظهر كمال ظهور بالخبر الأول. فمن قال لعبيده من بشرنى بقدوم ولدى فهو حر، فأخبروه فرادى، أعتق أولهم. وقد قيل إن البشارة هو الخبر الأول وإن قال من أخبرنى، فأخبروه واحدا بعد واحد عتقوا جميعا. إلا أن نوى غير ذلك فله نيته. واستعمال البشارة فى الخبر حقيقة، وفى الشر مجاز على طريق التهكم بالاستعارة التبعية لعلاقة التضاد، أو على طريقة قوله تحية بينهم ضرب وجيع، من حيث إنه خبر غير سار وإن لم يكن فيه تهكم والخطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - أو لعالم كل عصر من زمانه - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر الدهر، فشمل النبى - صلى الله عليه وسلم - وخلائقه، وهم العلماء، أو لكل من يتأهل أن يبشر المؤمنين ويقدر عليه، والمتبادر هو الوجه الأول. والثالث أوكد وأبلغ. لأنه يشعر بأنه ثبوت الجنات لهم حقيق بأن يبشرهم به كل من قدر على التبشير به، لعظم شأنه لكن الوجه الأول مع مبادرته قد تضمن هذا، لأن الحكم الذى خوطب به النبى صلى الله عليه وسلم حكم لأمته تبعا له شرعا، فقد أشعر شرعا أن الأمة حقيق لهم أن يبشر به بعضهم بعضا. والثانى أظهر فى المراد، غير أن العلماء أيضا يتبعهم غيرهم فى التبشير، كما اتبعوا هم النبى - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل أبشروا يا أيها الذين آمنوا إن لكم جنات تفخيما لشأنهم، وإشعارا بأنهم احقاء أن يبشروا أو يهنئوا بما أعد الله لهم، والحملة مستأنفة، متصلة فى المعنى، بقوله { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار } لأن كلا منهما وصف لحال فريق وجزاؤه. فالأولى وصف لحال من كفر بالقرآن وكيفية عاقبته. والثانية وصف لحال من أمن به وكيفية ثوابه، وزادت الجملتان اتصالا إذا كان الإيمان والكفر جميعا بشىء واحد، وهو القرآن. وقد جرت سنة الله فى كتابه أن يعقب الترهيب بالترغيب. والترغيب بالترهيب. زجرا عما يردى عن الله وإعزاء بما ينجى أو مستأنفة متصلة فى المعنى بقوله { فاتقوا النار } للمشاكلة بالتضاد بالإنذار والتبشير، لأنهم إذا لم يأتوا بمثل سورة منه بعد التحدى ظهر إعجازه، وإذا ظهر فمن كفر استوجب العقاب بالنار، ومن آمن استوجب الجزاء بالجنة، وذلك يستدعى أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء وقرأ زيد بن على وبشر - بالبناء للمفعول - على أن الجملة مستأنفة متصلة فى المعنى بأعدت.

ويجوز عطفها على أعدت إذا جعلنا أعدت مستأنفة. والمعنى أن النار أعدت للكافرين، والجنات للمؤمنين. لا إذا جعلناها حالا أو صلة بعد صلة، لأن المعطوف على الحال أو الصلة حال أو صلة، فيحتاج لرابط ولا رابط فى بشر. { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ترى الإنسان يقيد كلامه مرة واحدة بقيد، فيحمل سائر كلامه المطلق على هذا القيد، فكيف يسوغ لقومنا أن يلغوا تقييد الله عز وجل الإيمان بالعمل الصالح مع أنه لا يكاد يذكر الفعل من الإيمان إلا مقرونا بالعمل الصالح، بل الإيمان نفسه مفروض لعبادة من يجب الإيمان به، وهو الله تعالى، إذ لا يخدم الإنسان مثل سلطانا لا يعتقد بوجوده وبثبوت سلطنته، فالعمل الصالح كالبناء النافع المظلل، المانع للحر والبرد والمضرات، والإيمان أس فلا ينفع الأس بلا بناء عليه، ولو بنى الإنسان ألوفا من الأسوس ولم يبن عليها، لهلك باللصوص والحر والبرد، وغير ذلك. فإذا ذكر الإيمان مفردا قيد بالعمل الصالح، وإذا ذكر العمل الصالح فما هو إلا فرع الإيمان، إذ لا تعمل لمن لا تقر بوجوده، وفى عطف الأعمال الصالحات على الإيمان دليل على أن كلا منهما غير الآخر، لأن الأصل فى العطف المغايرة بين المتعاطفين. ففى عطف الأعمال الصالحات على الإيمان إيذان بأن البشارة بالجنات، إنما يستحقها من جمع بين الأعمال الصالحات والإيمان، لكن الأعمال الصالحات تشمل الفرض والنفل. والمشروط الفرض وأما النفى فزيادة خير، قلت العمل الصالح ما أمر به الشرع استحبابا أو إيجابا، وقال بعضهم العمل الصالح ما كان فيه أربعة أشياء العلم والنية والصبر والإخلاص. وقال عثمان بن عفان وعملوا الصالحات أخلصوا الأعمال عن الرياء وغيره مما يفسدها، لأن العمل الذى لم يخلص غير صالح، والصالحات جمع صالحة، اسم فاعل فى الأصل، تغلبت عليه الاسمية. ولا مانع من بقائه على الأصل. والتقدير الفعلة الصالحة - بفتح الفاء وإسكان العين - أو العملة الصالحة - بفتح العين وإسكان الميم - أو الخصلة الصالحة أو الخلة الصالحة، ومما يحتمل تغلب الاسمية والبقاء على الأصل قول الحطيئة

كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتينى

قال زكرياء دعا النعمان بحلة من حلل الملوك، وقال للوفود وفيهم أوس بن حارثة بن لام الطائى احضروا غدا فإنى ملبس هذه الحلة أكرمكم، فلما كان الغد حضروا إلا أوسا، فقيل له فى ذلك قال إن كان المراد غيرى فأجمل الأشياء بى ألا أحضر وإن كنت المراد فسأطلب. فلما جلس النعمان فلم ير أوسا طلب وقيل احضر آمنا مما خفت، فحضر وألبس الحلة، فحسده قوم من أهله وقالوا للحطيئة اهجه ولك ثلاث مائة بعير. وروى مائة بعير، فقل كيف الهجاء وما تنفك صالحة البيت وتنفك تزال، ويظهر الغيب حال.

أى ملتبسا بالغيب أى غائبا. والظهر مقحم للتأكيد. معنى الغيب. وتأتينى خبر تنفك. وأل فى الصالحات للاستغراق. على أن المراد به الفروض وإن قلنا الفرض والنقل فللحقيقة الصادقة بالفرض، ولا بد وبالنفل غير مشروط لا للاستغراق إذ لا يكاد مؤمن يأتى بجميع الأعمال الصالحات فرضها ونفلها. { أن لهم } أى بأن لهم. { جنات } الجنة الأشجار المظلة سميت لأنها تستر ما تحتها بالتفاف أغصانها مبالغة أو تحقيقا. قال زهير بن أبى سلمى

كأن عينى فى غربى مقتلة من النواضح تسقى جنة سحقا

فسمى النخل جنة لأنها تستر ما تحتها إذا كانت صغيرة أو تستره عما يعلوها من طائر أو سماء أو غيرهما، والسحق الطوال، والغرب الدلو العظيمة الممتلئة ماء، وهو فى البيت مثنى. والمقتلة الناقة المذللة للسقى، والنواضح جمع ناضح وهو البعير الذى يسقى عليه. وخص المقتلة لأنها تخرج الدلو مليئا بخلاف الناقة الصعبة فإنها تنفر فيسيل الماء من الدلو. وخص النخل لأنه أحوج الشجر إلى الماء وخص النخل الطوال لأنها أحوج النخل. وجعل عينيه فى الغربين ولم يجعلهما غربين. كناية لطيفة، كأنما ينصب من الغربين ينصب من العينين. وتسمى الأرض التى فيها الأشجار جنة أيضا، لأن ما فيها الأشجار ليستر ما تحته لالتفافه. وسمى الله دار ثوابه جنة، لأن فيها أجنة ملتفة ساترة. قال ابن عباس وجرير بن عبد الله وغيرهما سميت الجنة جنة لأنها تجن من دخلها أى تستره، وكل جنان جنة، وجمعها جنت. كما فى الآية. وأصل ذلك كله من جنه أى ستره. ومن ذلك سمى القلب جنانا، وما فى بطن الحامل جنينا، وسترة القتال جنة وضد الإنس جنا وجنة، وقيل سمى دار ثوابه الجنة، لأنه ستر فى الدنيا ما أعد فيها للبشر من أنواع النعم. كما قال الله تعالى

فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين

وقيل الجنات الحدائق ذات أشجار ومساكن. واعلم أن الجنة مشتملة على سبع أنواع كما ذكره ابن عباس جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليين، وكل واحدة من هذه الأنواع السبعة مشتملة على جنات كثيرة متفاوتة، بحسب قوة الأعمال وكثرتها والمبالغة فى الإخلاص وغير ذلك. ولذلك جمعت فى الآية ونكرت، قيل الجنة ما فيه شجرة ونخل. والفردوس ما فيه عنب. واللام فى قوله لهم، لام استحقاق. والمراد أن المؤمنين استحقوا الجنات لأجل الإيمان والعمل الصالح، من حيث ترتب عليهما الاستحقاق، لا لذاتهما، فإنهما لا يكافئان النعم السابقة، ولا يعاد لان الذنوب الصادرة، بل لا لنعمة واحدة ولا ذنبا واحدا، فضلا عن أن يقتضيا ثوابا. ولا سيما ثواب هو الجنة، كيف وهما نعمتان يجب عليهما الشكر، وكل شكر صدر استحق شكرا آخر عليه، لأنه نعمة، ولا يوهمك خلاف ذلك ما ورد فى الآثار أن ثواب العمل كذا وثواب العمل الآخر كذا، لأن معناه أن الله - تبارك وتعالى - جعل من فضله ورحمته أن عمل كذا له كذا من الخير، وليس المراد أن ذلك ثواب يوجبه العمل، ويكون عديلا له مستويا معه استواء ربع الربا له مع خياطة الجبة، وسقى القربة مع مد شعير، ويدل لذلك أنه - تعالى - غنى على الإطلاق، لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية، وأن كل عمل صالح عمله الإنسان أو غيره، فهو نعمة من الله عليه، ثم إن المؤمنين يستحقون الجنات إن ماتوا على الإيمان غير مرتدين ولا مصرين لقوله تعالى

ومن يرتدد منكم عن دينه

وقوله

لئن أشركت

الآيتين. وهذا قيد معتبر حين لم يذكر استغناء بذكره حين ذكر كما مر لك فى اشتراط العمل الصالح، حيث لم يذكر مع الإيمان. وعنه - صلى الله عليه وسلم -

" أن ثياب الجنة تتشقق عنها تمر الجنة "

رواه النسبى عن أبى هريرة. وقال - صلى الله عليه وسلم

" ما فى الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب "

رواه الترمذى عن أبى هريرة، وقال حديث حسن. وأخرج أبو بكر بن شيبة عن النبى صلى الله عليه وسلم

" إن أمتى يوم القيامة ثلثا أهل الجنة إن أهل الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صف وإن امتى ثمانون صفا "

وقال صلى الله عليه وسلم

" أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم "

. رواه الترمذى عن يزيد بن حصيب وقال حديث حسن. { تجرى من تحتها الأنهار } الضمير عائد إلى الجنات بتقدير مضاف، أى من تحت أشجارها، وخصت الأشجار بالتقدير لأنها المحتاجة إلى الماء فى الجملة، ولدلالة الجنات عليها، ولك أن تقدر من تحت أشجارها وقصورها، إشعارا بأن قصورها أكمل وأهلها أنعم، إذ كانت الأنهار تجرى من تحتها. وكيفية تقدير القصور أن يقال إن الآية حذف فيها المضاف وهو أشجار، والمضاف والمضاف إليه، وهما قولك وقصورها، وحذفها من باب حذف العاطف والمعطوف وما يلتحق به. ولك أن تقول لما حذف المضاف الأول، استغنى بالمضاف عن المضاف الذى قبله والذى بعده، من حيث الاشتمال والمعنى، لا الإعراب. ولك تقدير مضاف غير منون ومضاف معطوفا. أى من تحت أشجارها وقصورها، كقولك بين ذراعى وجبهة الأسد، ولك أن ترجع المضمر إلى الأشجار أو إلى الأشجار والقصور بدلالة الجنات، وهى على الأشجار أدل بحسب اللغة. وأما بحسب عرف الناس فى جنة الآخرة فهى على القصور أدل. والأنهار جمع نهر، بفتح النون والهاء، جمع قياس. وأما النهر، بفتح النون وإسكان الهاء، فقياس، جمعه أنهر، بضم الهاء، استغنى عن جمعه بجمع النهر، بفتحتين، هو اللغة الفصحاء، ومعناهما المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، فهو كالفرات والنيل فان مادة - ن ه ر - للوسع فنسمى النهر نهر لاتساعه، ولأن الماء يجفره للجوانب أو الأسفل، وذلك تطويل وتوسيع، يقال أنهرت الشىء وسعته.

قال صلى الله عليه وسلم

" ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكلوه وما وسع الذبح حتى جرى الدم "

وذكر بعض فى معناه أنه ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهر. واستنهر الشىء اتسع، والنهار ضد الليل، وواسع ممتد ويسمى الضور نهارا لامتداده من أول النهار لآخره، والإنهار، بكسر الهمزة، الإسالة بسعة وكثرة، وأنهر الطعن وسعه، ونهر أحدا، غلظ صوته عليه، والتغليظ فيه توسيع. والنهر فضاء يكون بين أفنية القوم يلقون فيها كناستهم، وأل للجنس أو للعهد من قوله تعالى

وأنهار من ماء غير آسن

الآية. لتقدم نزول سورة القتال على نزول سورة البقرة، وذكر فيها لفظة أنهار أربع مرات منكرة، فهن المراد هنا إذا عرفت، فالمراد هنا أنهار الماء، وأنهار اللبن، وأنهار الخمر، وأنهار العسل المصفى. كما ذكرت فى سورة القتال وهن جميعا تحت قصور أولياء الله، وحيث شاء الله، وزاد الماء بالجرى تحت الأشجار وكذا يشمل الأنهار ذلك كله إذا جعلت فيه أل للجنس. واعلم أن البحر والنهر والجدول ونحو ذلك أسماء للأرض التى فيها ذلك الماء ونحوه لا للماء نفسه أو نحوه، فإسناد الجرى للأنهار مجاز عقلى، من إسناد ما للحال للمحل فإن الجارى حقيقة هو نحو الماء لا الأرض. ولك أن تقول المراد بالأنهار الماء ونحوه تسمية للحال باسم المحل فيكون مجازا لغويا مرسلا، ولك أن تقول الأنهار الأرض، ويقدر مضاف أى ماء الأنهار ونحوه، فيكون الأنهار على هذا الوجه مجازا بالحذف، فعلى الوجه الأول تجرى حقيقة وأنهار حقيقة، والتجوز إنما هو فى الإسناد، وعلى الثانى والثالث يجرى حقيقة، والأنهار مجاز، وداعى ذلك كله هو أن الجارى هو الماء ونحوه. قال أنس خادم النبى صلى الله عليه وسلم أنهار الجنة تجرى فى أخدود الماء واللبن والخمر والعسل، وهو أبيض كله فطينة النهر مسك أذفر ورضراضه الدر والياقوت، حافتاه قباب اللؤلؤ. رواه عنه مسروق. والأخدود الشق والماء الجارى من النعمة العظمى واللذة الكبرى، والحنة ولو كانت مخضرة متزينة إنما يتم أبتهاج النفس بها إذا كان فيها ماء جار، وإلا كانت كصورة لا روح لها، ولذلك ما ذكر الله - سبحانه - الجنات إلا مقرونة بذكر الأنهار. { كلما رزقوا } كل ظرف زمان متعلق بقالوا، وما مصدرية، وإنما سوغ ظرفية كل المصدر من الفعل بعد ما لإضافة كل إليه، وقد علم أن المصدر ينوب عن الزمان. فهذا مصدر نائب عنه فاكتسب ما أضيف إليه الظرفية منه، وجملة قالوا مستأنفة مع ما يتعلق بها وتوابعه أو نعت لجنات أو حال منها، ولا حاجة إلى تقدير مبتدأ يخبر عنه بكل تقديره هم أو هى، لأن المعنى تم بدون ذلك، ولأن الزمان لا يخبر به عن جنة، وإن قدر المبتدأ مصدرا فتكلف.

وعلى الاستئناف فهو بيانى كأنه لما قيل إن لهم جنات، قال قائل أثمارها مثل أثمار الدنيا أم أجناس أخرى؟ ووقع فى قلبه ذلك، فأجيب بقوله { كلما رزقوا }.... ألخ. وفى كونها نعتا أو حالا أيضا كشفا لهذا الذى قد سأل عنه سائل. ومعنى رزقوا رزقهم الله أو رزقهم الملائكة، أى أتوهم بما يأكلون من الثمار. ويؤيد الأول قوله رزقنا من قبل أن جعل على رزق الدنيا. { منها } من الجنات. ومن للابتداء، أو بمعنى فى. { من ثمرة } من هذه للابتداء أما إذا جعلنا الأولى فى بمعنى، فلا إشكال. وأما إذا جعلناها للابتداء فإما يصح أن تكون الثانية للابتداء، مع امتناع تعدد الحرف لمعنى واحد، بلا واسطة التبعية، إذا كان عاملها واحدا، لأن الأولى متعلقة برزقوا، والثانية بمحذوف حال من { رزقا } أى رزقا ثابتا من جنس الثمرة، أو مبتدأ منه، أو قوله { من ثمرة } بدل بعض. من قوله منها، على حذف الرابط، أى من ثمرتها، أو من ثمرة فيها، ولا إشكال على هذا لأنه بالتبعية، وسواء فى الحكم تعدده لفظا ومعنى أو معنى أو تعلق الأولى بمحذوف حال من رزقا، الثانية بمحذوف حال من ضمير الاستقرار المستتر فى قوله منها، أى آتيا من الجنات أو ممتدا من الجنات، آتيا من ثمرة، أو مبتدأ منها، فقيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنة آتيا منها بكونه مبتدأ من ثمرة آتيا منها، ويجوز كون الثانية للبيان، متعلقة بمحذوف حال من رزقا أى رزقا هو ثمرة، ويجوز أن تكون للابتداء على طريق التجريد البديعى، أى رزقا متولدا من ثمرة، أو رزقوا من الثمرة رزقا أكد الرزق وعظمة، حتى كأنه ينتج ثمرة، أو أكد الثمرة وعظمها، حتى كأنها ينتج منها رزق آخر غيرها، لكمال الثمرة فى الانتفاع، والرزق ما ينتفع به، أو لكمال الرزق. وقد قال القزوينى والطيبى التجريد أن ينتزع من ذى صفة آخر مثله فى إيهاما لكمالها فيه. واللفظ للطيبى. وسيأتى لفظ القزوينى - إن شاء الله - وإنما قال إيهاما باعتبار مبالغات الناس، وأما مثل الآية فلا إيهام فيه، ولم يذكر القزوينى لفظ إيهام، وتعليق يرزقوا. والأولى ظرفية أو تجل بدلا من الأولى مع مدخوليهما، أو بمحذوف حال من { رزقا } كما رأيت. كما أنك إذا بالغت فى شجاعة زيد قلت رأيت من زيد أسدا، وفى كرمه قلت رأيت منه بحرا. { رزقا } مفعول ثان لرزقوا، والأول هو الواو ونائب عن الفاعل.

{ قالوا هذا الذى رزقنا من قبل } فى الدنيا، والإشارة إما إلى نوع ما رزقوا حقيقة، لا إلى نفس الشىء الذى رزقوه، وحضر عندهم، وإنما ساغ ذلك لأن النوع فى ضمن فرده فبحضور الفرد تحضر الحقيقة وتشخص فى الذهن. تقول حين حضور الأسد هذا أجرأ السباع، ولست تريد خصوص هذا الأسد الحاضر، بل جنس الأسد، أما إلى نفس الشىء الذى رزقوه وحضر عندهم على التشبيه البليغ بحذف أداة التشبيه. والأصل هذا كالذى رزقنا من قبل، أو مثل الذى رزقنا من قبل، كقولك زيد أسد فالكلام على الأول حقيقة لا مجاز ولا حذف، لان المراد النوع، وعلى الثانى مجاز بالاستعارة، ومبالغة، إذ لا يكون فرد عين فرد آخر سواء من نوع أو نوعين واعلم أن الله - جلا وعلا - جعل ثمر الحنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس اليه إذا رأته، لأن الطبع مائل إلى المألوف، نافر عن غير المألوف، وليتبين مزية ثمر الجنة على مثله من ثمر الدنيا، وهى مزية عظيمة لا يعلم غايتها إلا الله - تبارك وتعالى - ولو كان ثمر الجنة جنسا آخر غير معهود فى الدنيا، لظنوا أن ثمر الجنة لا يكون إلا كما ألفوه فى الدنيا، فلا يظهر التفاوت، فلا تتم اللذة تمامها فى اتحاد الجنس وتفاوت الطعم، فإنه إذا اتحد استحضر طعم الدنيا وطعم الآخرة، فيظهر التفاوت العظيم ويدوم الاستعظام والاستغراب { كلما رزقوا } لأنه كلما رأوا ثمرة الجنة حضر فى قلوبهم ثمرة الدنيا، لتشابه اللون فيسبق إلى النفس اتحاد الطعم، فيوجد متفاوتا بالغاية وكذا فى عظم اللون والجثة، كلما رأوا ثمرة الجنة فى أعظم لون وأصفاه. وأكبر جثة حضر فى قلوبهم نقص ثمرة الدنيا عن ذلك، ويجوز أن يكون المراد بقوله من قبل فى الجنة، إذا رزقوا المرة الثانية فى الجنة، قالوا هذا الذى رزقنا فى المرة الأولى فيها، وكذا الثالث والرابعة، إلى ما لا ينقطع كله على شبه المرة الأولى، وهكذا طعام الجنة متشابه الصور، كما حكى عن الحسن أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول هذا الذى رزقنا من قبل، فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف، وإنما قال الواحد رزقنا لأنه يأكل هو وأزواجه الدنيوية وأزواجه الحور. وعنه صلى الله عيله وسلم

" والذى نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هى بواصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها "

قال جار الله فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا هذا الذى رزقنا من قبل. والتفسير الأول أحسن وهو تفسير القبلية فى الدنيا، لأنه إنما يعظم للتعجب والاستغراب، بعظم تفاوت ثمرة الجنة بثمرة الدنيا غاية التفاوت صفاء ولونا ولذة وطعما وكبرا، مع التشابه البليغ فى الصورة، وبذلك أيضا يعظم فرحهم واغتباطهم بما وجدوا، فيذكرون ذلك القول كلما رزقوا، أو لأن التفسير الثانى غير مشتمل على الأعراض الموجودة فى الأول، من كون النفس تميل إلى الثمرة إذا رأتها كثمرة الدنيا أول ما ترى، بخلاف ما لو كانت مخالفة لها فإنها لا تميل إليها حتى تذوق، وكون الطباع مائلة إلى المألوف وكونها غير نافرة من غيره، وكون المزية تتبين بالتفاوت فى نحو الطعم مع التشابه فى الصورة ولأن التفسر الأول استلزم الثانى بلا عكس.

وعن ابن عباس ليس فى الآخرة شىء مما فى الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمختلفة، وهذا يرجح التفسير الثانى. والذى عندى أن قولهم هذا الذى رزقنا من قبلن مجاز مركب، لأنه خرج عما وضع له، موضوع للإخبار ولم يستعمل فيه، بل فى التعجب، فظهر لك أن المجاز لمركب لا يختص بالاستعارة، وكذا قال ابن عباس إنه تعجب وقال جماعة أن ذلك إخبار من بعض لبعض، وأقول ليس قول الجماعة هذا على ظاهره، كما قيل، بل مرادهم أن ذلك إخبار من بعض لبعض، على جهة التعجب، كما قال الحسن ومجاهد يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها والطعم مختلف فهم يتعجبون بذلك، ويخبر بعضهم بعضا. { وأتوا به متشابها } أى أتاهم الله أو الملائكة بالرزق الذى فى الجنة والذى فى الدنيا متشابهين. أما الذى فى الجنة فأتاهم به الملائكة بإذن الله، وأما الذى فى الدنيا فأتاهم الله به فى الدنيا، بمعنى خلقه وجعله آتيا إليهم، فالهاء للرزق الشامل للرزقين، لأنه ولو لم يتقدم إلا ذكر رزق واحد. لكن قوله { هذا الذى رزقنا من قبل } يدل على اثنين لأن فيه إشارة إلى الحقيقة بحضور فرد تقدم فرد نظيره، ولو كان واحدا باعتبار الحقيقة والماهية، أو لأن فيه مشبها أو مشبها به، ويسمى مثل ذلك الضمير الكناية الإيمائية، لأن مرجعه لم يصرح به كل التصريح، لأن المشبه به صريح، على طريق أنه المشبه مبالغة ومن ذلك قوله تعالى

إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما

أى بمطلق الغنى ومطلق الفقير المدلول عليهما، يذكر الغنى والفقر فى الإنسان الواحد على طريق البدلية لا الشمول. وهذا أدق نظرا من أن نقول القبلية فى الجنة. وتقول الهاء عائدة إلى رزق الجنة فقط، المذكورة فى قوله جل وعلا { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا } وقال أبو حيان الهاء عائدة إلى رزق الجنة فقط على أن القبلية فى الجنة لأن رزق الجنة هو المحدث عنه، والمشبه بالذى رزقوه من قبل، فهو العمدة فى الكلام، فليرجع إليه الضمير، ولأن الجملة جاءت محدثا بها على الجنة وأحوالها، ولأن الأصل فى الضمير أن يرجع إلى ما صرح به على أنه هو لا على أنه غيره، ولأن الأصل فى الضمير الذى على صيغة المفرد أن يرجع إلى المفرد لا إلى اثنين، ولكلام ابن عباس، ولكلام الحسن المذكورين فإن الأصل فى التشابه أن يكون فى الطعم والتلذذ واللون والرائحة ونحو ذلك.

وقد مر عن ابن عباس أنه ليس فى الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء، فيضعف التشابه بين طعامهما، وإنما يقوى بين طعامى الجنة لأنهما باللون والتلذذ والطعم وغيرهن حتى لا يميز بينهما، والتشابه بين طعام الجنة طعام الدنيا فى الصورة فقط، على ما فسر به القاضى كلام ابن عباس، وهو ولو كان كافيا فى إطلاق التشابه لكنه ضعيف، وفى التسمية فقط على ما فسره به غيره، وتفسير القاضى أحسن فكبرى رمانات الدنيا لا تفضل عن حد البطيخة الصغيرة، ورمانة الجنة تشبع العيال العظيم كما فى الحديث، وكبرى نبق الدنيا لا تجاوز فلكة المغزل، ونبق الجنة كقلل هجر كما فى الحديث، وظل شجرة الدنيا ما ترى وظل شجرة الجنة أكثر من مسيرة الراكب المجد مائة عام كما فى الحديث. وعن مسروق نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فروعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وأنهارها تجرى فى غير أخدود، والعنقود اثنا عشر ذراعا، قيل متشابه فى اللون والطعم والرائحة، وقيل فى كونه خيارا كله لا ردىء فيه. وقال الكلبى. متشابه فى المنظر مختلف فى الطعم، وكذا قال ابن عباس، فالكلبى رواه عنه. ويجوز عن القاضى أن يكون المراد بقوله { هذا الذى رزقنا من قبل } أن هذا رزقناه فى الجنة هو الذى رزقنا الله فى الدنيا من المعارف والطاعات، أى جزاؤها، فهو يتفاوت بتفاوتها فى اللذة، ووجه الشبه والشرف والمزية وعلو الطبقة، فذلك كقوله جل وعلا

ذوقوا ما كنتم تعملون

لكن هذا فى الوعيد. وآية البقرة فى الوعد وتفسيرها بهذا قريب من تفاسير الصوفية وبمقدار قربها منها يضعف لأن تفاسيرهم لم يأذن الشرع بها، وبها خرجوا عنه إذ اعتقدوا أنها معان نزل القرآن على إرادتها، أعاذنا الله - جل وعلا - والله أعلم. والواو واو الحال، والجملة حال من رزقا، ولو كان نكرة. لأن المراد رزقا عظيما، وتنكيره للتعظيم. فهو مخصوص، وقد خص أيضا بالحال الأولى المتقدمة عليه، التى أصلها أنه نعت له، أو الواو للاستئناف. والجملة مستأنفة معترضة عند الزمخشرى، بناء على جواز الاعتراض آخر الكلام. والأكثرون يسمونه تذييلا، وهو أن يعقب الكلام بما يشتمل على معناه توكيدا لا محل له من الإعراب كما ذكره زكريا، والتذييل تعقيب الجملة بجملة تشتمل على معنى الجملة الأولى، لتوكيد المنطوق به، جار مجرى المثل فى أن يقصد بالجملة الثانية فيه حكم كلى منفصل عما قبله، جار مجرى المثل فى الاستقلال بنفسه وكثرة الاستعمال، نحو

إن الباطل كان زهوقا

ونحو

وهل نجازى إلا الكفور

إذا قلنا إن المعنى هل يعاقب إلا الكفور؟ أو غير جار مجراه نحو

وهل نجازى إلا الكفور

إذا قلنا إن المعنى هل يجازى ذلك الجزاء المذكور ليتصل بما قبله، أو لتوكيد المفهوم كقوله

ولست بمستبق أخلا لا تلمه على شعث أى الرجال المهذب

فإن قوله أى الرجال المهذب تأكيدا لما يفهم مما قبله من أنه لا كامل فى الرجال، والاعتراض أن يؤتى فى أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر، لا محل لها من الإعراب لنكتة، سوى دفع الإيهام، كالتنزيه فى قوله تعالى

ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون

والدعاء فى قوله

إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعى إلى ترجمان

والتشبيه فى قوله

واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتى كلما قدرا

ومن الاعتراض بأكثر قوله تعالى

فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين نساؤكم حرث لكم

فإن عرض الإتيان من حيث أمر الله هو طلب النسل، وقوله

نساؤكم حرث لكم

بيان لهذا الغرض. وأجاز بعض من قال إن النكتة قد تكون غير ما ذكر، كدفع إيهام خلاف المقصود، أن يكون الاعتراض آخر جملة، لا تليها جملة متصلة بها معنى، بل تم بها الكلام. أو تلته جملة غير متصلة بها معنى، وهو اصطلاح مذكور فى مواضع من الكشاف، فيشمل التذييل مطلقا، والذى عندى أن قوله { وأتوا به متشابها } معترض بين كلامين متصلين معنى، فإن قوله { أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار } إلخ متصل بقوله. { ولهم فيهآ أزواج مطهرة } مبرءات مما يختص بالنساء من الأقذار، كالحيض والنفاس، وما لا يختص بهن كالبول والغائط وسائر الأقذار والنتن، وما يغلب فيهن كدنس الطبع وسوء الخلق فى القول والفعل والقذر والخيانة عن الحسن عن رسول الله - صلى الله عله وسلم - أنه قال فى نساء الجنة

" يدخلنها عربا أترابا لا يحضن ولا يلدن ولا يتمخطن ولا يقضين حاجة الإنسان "

وليس فى الجنة قذر. وقيل مطهرة من الإثم والأذى ومساوئ الأخلاق. والمراد فى الآية نساء الدنيا فى الجنة والحور العين، وقال بعضهم هن نساء الدنيا طهرن من أقذار الدنيا، وقيل نساء الدنيا طهرن من مساوئ الأخلاق. ولا ولادة فى الجنة إلا إن اشتهاها السعيد فتلد له فى الوقت بلا وجع ولا قذر. وروى ابن ماجه عن أسامة بن زيد

" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات ذا يوم لأصحابه " ألا مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها، أى لا عوض لها ورب الكعبة، نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة فى مقام أبدا فى حبرة ونضرة، فى دار عالية سليمة بهية " ، قالوا نحن المشمرون لها يا رسول الله، قال قولوا إن شاء الله، ثم ذكر الجهاد وحض عليه "

، ذكره القرطبى. قال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس طعامهم جشاء رشحهم كرشح المسك "

رواه مسلم. وفى رواية ورشحهم المسك وقوله

" يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس "

معناه أنه يجرى الحمد والتسبيح على ألسنتهم كما يجرى النفس فلا يشغلانهم عن شىء كما لا يشغل النفس. ومعنى طعامهم جشاء فضول طعامهم جشاء، والجشاء تنفيس المعدة. والرشح العرق. قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب درى في السماء إضاءة، لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك ومجامرهم اللؤلؤ والبخور عود الطيب، وأزواجهم الحور العين على خلق واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا فى السماء "

رواه البخارى ومسلم، وفى رواية

" ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا "

ورويا أيضا عن أبى موسى الأشعرى، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال

" إن للمؤمن فى الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها فى السماء ستون ميلا، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضا "

وروى الترمذى عن أبى هريرة وقال إسناده حسن، ليس إسناده بذلك القوى،

" أنه قال قلت يا رسول الله مم خلق الله الخلق؟. قال " من الماء " قلت الجنة ما بناؤها؟.. قال " لبنة من ذهب ولبنة من فضله وبلاطها المسك الأذفر وحصاؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، ومن يدخلها ينعم لا ييأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم " "

وروى الترمذى عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

" إن فى الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، من فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس "

وروى البخارى ومسلم عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال

" إن فى الجنة لسوقا يأتونها يوم الجمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو فى وجوههم وثيابهم، فيزدادوا حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون وأنتم والله قد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا "

وروى الترمذى عن على بن أبى طالب، وقال حديث غريب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن فى الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعون بأصوات لم يستمع الخلائق مثلها يقلن نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نيأس، ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كان لنا وكنا له، والله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، والأزواج جمع زوج يقال زوج بلا تاء فى المرأة والرجل. قال الله تعالى

اسكن أنت وزوجك الجنة

والزوجة بالتاء لغة ضعيفة أو لفظ نادر لا يحسن لقول الشاعر

وإن الذى يسعى ليفسد زوجتى كساع إلى أسد الشرى يستميلها

وقول الشاعر

إذا زوجة بالمصر أم ذوى خصومة

وإن قلت فلعل الذى فى الآية جمع زوجة بالتاء، قلت لا يحمل عليه لضعفه وندوره ولذكره بلا تاء حيث ذكر مفردا أو لأن أفعالا لم يعهد جمعا لفعلة بالتاء، فأزواج جمع زوج كثوب وأثواب، وبيت وأبيات، وسيف وأسياف. ويطلق الزوج على كل فرد مقرون بآخر من جنسه كأحد شقى وإحدى النعلين، ومطلق الذكر المقابل بمطلق الأنثى، والكبش بالنعجة، والثور بالبقرة الأنثى، والجمل بالناقة، وأصل التمييز بين المذكر والمؤنث بالتاء إنما هو فى الصفات، وإنما قال مطهرة بالإفراد للتأويل بالجماعة، كما فى قوله تبارك وتعالى ب { أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها } إلى قوله { ولهم فيها } ولم يقل من تحتهن ومنهن وفيهن. وقوله عز وجل

وإذا الرسل أقتت

ولم يقل أقتتلوا. وقرأ زيد بن على بن أبى طالب مطهرات بالجمع على لفظ الوصف. وأنا أقول الوجهان لغة لكل العرب، وقال الزمخشرى والقاضى لغتان ومن الإفراد قول أسلم بن أبى ربيعة من بنى ضبة

وإذا العذارى بالدخان تلفعت واستعجلت بن القدور فملت دارت بأرزاق العفاة مغالق بيدى من قمع العشار الحلب

إذ قال تلفعت ولم يقل تلفعن، مع عود الضمير للجمع وهو العذارى، بكسر الراء بعدها ياء، أو بفتحها بعدها ألف بصورة ياء، جمع عذراء، وهى البكر. ومعنى تلفعت بالدخان أحاط بها وصار لها كغطاء الرأس. وقال ملت ولم يقل مللن، والمعنى شوت اللحم فى الملة، وهى الرماد الحار أو الحفرة نفسها، لشدة الجوع، وقلة الصبر إلى ما فى القدر. وخص العذارى لجمالهن وحيائهن عن الطلب، والأخذ جهرة. وقلة صبرهن. وقال استعجل ولم يقل استعجلن. وفاء فملت عاطفة، ودارت جواب إذا، والعفاة جمع عاف، أى طالب المعروف، كقاض وقضاة، والمغالق جمع مغلق بالغين المعجمة، وهوالقدح فى الميسر، والقمع اسم جمع وهى رأس السنام، والعشار النوق الحوامل التى أتى لها عشرة أشهر، والجلة بالكسر السمان من الإبل. وقرأ عبيد بن عمير مطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء مشددة والأصل متطهرة أبدلت التاء طاء فأدغمت فى الطاء بعدها.

قال بعض العرب ما أحوجنى إلى بيت الله فأطهر به تطهرة، وفى هذا الكلام دليل على جواز لحوق التاء للمصدر الذى على وزن التفعل ولو كان صحيح اللام إذا أريدت الوحدة مثل تعلم تعلمة. وإن قلت لم لم يقل طاهرة أو متطهرة؟ قلت لأن مطهرة أبلغ، لأن معناه أن غيرهن قد طهرهن، وما هو إلا الله - عز وجل - وأما طاهرة ومتطهرة فمعناهما طاهرات، لا إن مطهرا طهرهن، ومتطهرة أبلغ من طاهرة، لأن التفعل للكسب والعلاج، فكأنهن قصدن الطهارة، وبالغن فيها، وكذلك قرأ به عبيد لكن أدغم. وليس طعام الجنة وشرابها لدفع الجوع والعطش وألمهما، ولا لحفظ البتة عن الفساد والموت، ولا الجماع فى الجنة لتناسل وإبقاء النوع الإنسانى، للاستغناء فى الجنة عن ذلك، بل ذلك كله للتلذذ والتنعم، وإظهار قدرة الله ونعمته ووعده أكمل إظهار. { وهم فيها خالدون } دائمون أبدا لا تفنى ولا يفنون، ولا يخرجون منها للآيات والأحاديث الدالة على ذلك، وإلا فالخلود الثبوت الدائم والثبوت الطويل، دون دوام، فهو الثبوت الطويل دام أو لم يدم. ويجوز تفسيره بمطلق الثبوت الطويل، دون تعرض لدوام وغيره، ويستفاد الدوام من الأحاديث وسائر الآيات. والجمهور يفسرون الخلود فى الآية بالدوام، ولولا لفظة أبدا فى قوله

خالدين فيها أبدا

لم تكن الآية نصا فى خلود العصاة الفسقة من الموحدين، ومن استعمال الخلود بمعنى الثبوت الطويل تسمية القلب خلدا، بفتح الخاء واللام، وقوله تعالى

أخلد إلى الأرض

وقول الشاعر

لن تزالوا كذلكم ثم لا زل ت لكم خالدا خلود الجبال

وقولهم للأثافى، وهى الحجارة التى تنصب عليها القدور خوالد، وللأحجار التى تبقى بعدد رءوس الأطلال. ولو كان موضوعا للدوام لكان لفظ أبدا تأكيدا للخلود إذا ذكر معه والأصل عدمه، فلا يحمل على خلاف الأصل بلا دليل، بل قام الديل على أنه لمطلق الثبوت الطويل، وكذا لو جعل الخلود موضوعا للثبوت الدائم، وموضوعا للثبوت غير الدائم، على طريق الاشتراك، كوضع القرء للحيض ووضعه للطهر، لكان اشتراكا والأصل عدمه، فلا يحمل عليه بلا دليل، ولو جعلناه مجازا فالثبوت غير الدائم لكان ذلك أيضا خلاف الأصل بلا دليل، فلم يبق إلا أن يقال موضوع لمطلق الثبوت الطويل من يعتبره فى وضعه الدوام ولا عدمه، كما وضع الجسم لنقيض العرض لا باعتبار كونه حياة أو مواتا. وأعلم أن معظم اللاذت المطعم والمنكح والمسكن، فأعطاهن الله الرحمن الرحيم أهل الجنة، وأتمها بالخلود الدائم، لأن النعمة الجليلة إذا كانت تزول فهى غير تامة وهى منفضة، وإن قلت كيف يكون جسم الإنسان والحور والجن وأشجار الجنة وبناؤها دائما، مع أنه مركب والتركيب داعى الانحلال، ولا سيما الإنسان، فإن اجزاءه متضادة الكيفية فتستحيل؟ قلت إنما كان التركيب داعى الانحلال والأجزاء مضادة الكيفية يجعل الله سبحانه إياها كذلك، فاذا أراد جعل التركيب غير داع للانحلال، وجعل تضاد الكيفية غير داع للاستحالة، بل يجعلهما داعيين للانعقاد والدوام، أو يبعث الإنسان غير مضاد الكيفية وبيعته ومتقادمها ومتساويها متعانقها لا يغلب بعض بعضا، ولا ينافر بعض بعضا، لكن كلامنا فى هذا هجوم على الغيب بمجرد ما ألفته عقولنا القصيرة.

ومن كانت أشجاره قليلة الإثمار فليصم الخميس ويفطر فى المغرب على هندبا، ويصلى المغرب، ثم يكتب هذه الآية { وبشر الذين آمنوا } إلى { خالدون } فى قرطاس، ولا يتكلم ويمضى إلى شجرة تكون فى وسط البستان ويعلقها عليها، فإن كان فيها ثمر فليأكل منها واحدة، وإن لم يكن لها ثمر فليأكل ورقة من ورقها، وإن لم يكن لها ورقة فليأكل من ثمر مثلها، ويشرب عليها ثلاث جرعات من ماء، وينصرف، فإنه يرى ما يسره من حسن الثمرة والبركة إن شاء الله.

[2.26]

{ إن الله لا يستحى } لما نزلت تشبيه حال المنافقين المستوقدين، وأصحاب الصيب، وتشبيه عبادة الأصنام فى الوهن والضعف ببيت العنكبوت، وجعلها أقل من الذباب وأخس قدرا منه. قالت اليهود والمنافقون من نحا نحوهم من كفار قريش الله أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال، ويذكر الذباب والعنكبوت، فنزلت الآية. ومن علم من اليهود أن ضرب المثل بذلك ونحوه حق، وأنه أظهر فى الأفهام، وأن مثله فى التوراة، فإنما قيل ذلك عنادا. روى أن اليهود قالت ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ وعن الحسن وقتادة لما ذكر الله الذباب والعنكبوت فى كتابه، وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام الله، فنزلت الآية. وقيل قال المشركون إنا إنا لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء. وكل من ذلك يصدق عليه قوله تعالى { ماذا أراد الله بهذا مثلا }؟ لأن هذا استفهام إنكار، أنكروا أن يريد الله تمثيلا بذلك، وليسوا منكرين أن الله موجود، ولا مقرين أن الله نزله، ولكن كنوا بذلك عن تكذيبه - صلى الله عليه وسلم - فى قوله إن ذلك من الله عز وعلا كأنهم قالوا لو كان ما تتلوا علينا من الله، لما كان فيه ذكر تلك الأشياء. وكذلك أنكروا أن يذكر الله النحلة والنملة. والاستحياء استفعال من الحياء، والحياء فى شأن المخلوق انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم، وهو بين الوقاحة التى هى الجراءة على القبائح وعدم المبالاة، وبين الخجل الذى هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا، وهو مأخوذ من الحياة، فإن الإنسان إذا كان فيه حياء شبيه بمن ضعفت حياته، لأن الحياء انكسار يعترى القوة الحيوانية، فيردها عن أفعالها، كما قيل نسى أى اعتل عرق النساء فيه، وحشى أى اعتل بطنه. فكذلك يقال حيى، أى ضعفت قوة حياته، والسين والتاء والهمزة، مبالغة وهى راجعة إلى النفى أى انتفا انتفاء بليغا عن الله أن يوصف بالحياء عن ضرب المثل بنحو البعوضة، والحياء فى حل الله هو ترك الشىء إطلاقا للملزوم على اللازم، فإنه يلزم من حياء المخلوق من فعل الشىء أن يتركه، وقد استعمل كذلك إطلاقا على لازمه فى قول المتنبى أبى الطيب من قصيدة بمدح بها أبا الفضل محمد بن الحسين بن العميد يصف نوقا

إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بسبت فى إناء من الورد

والنون فى استحين للنوق يقال استحيت بياء واستحييت بياءين، وقد قرأ ابن كثير فى رواية شبل يستحى بياء واحدة ساكنة سكونا ميتا بعد الحاء المكسورة، والاسم مستح كمهتد بحذف الياء. ومن قال يستحيى بياءين قال فى الاسم مستحى كمهتدى أيضا بحذف الثانية، والمعنى إذا ما تركن ورد الماء، ويعرض نفسه حال من الماء، وكرعن جواب إذا، والكرع الشرب بالفم من محل الماء، أو يعرض جواب إذا وكرعن، بدل يعرض، أى كرعن فيه، وهو بدل اشتمال، فإن إعراضه نفسه متضمن لأن يكرعن فيه، والسبت جلد البقر المدبوغ بالقرظ، وإناء الورد موضع ماء المطر المحفوف بالأزهار، شبه بإناء الورد، كما شبه مشافر الإبل بالجلد المذكور، فإطلاق لفظ الملزوم على اللازم مجاز مرسل.

ويجوز أن يكون يستحين مجازا بالاستعارة، بأن يكون شبه حالهن التى خيل فيها بعض النفور، ويحال من يستحيى فيترك، وإن قلت الاستحياء منفى عن الله فى الآية، فلا مانع من تفسيره بحياء المخلوق، لأنه فى الآية منفى، كما تنفى عنه صفات المخلوق، فلا حاجة لتأويله بالترك؟ قلت قد قيل ذلك لكنه لا يصح، لأنه لم ينف فى الآية نفيا مطلقا بل نفيا منصبا على القيد، وهو كون المثل نحو بعوضة، فلو فسر بحياء المخلوق ونفى لتوهم أنه يستحيى حياء الملخوق فى غير ذلك المثل، أو توهم مكان حياء المخلوق فيه، كما لو قيل لا يأخذ الله نوم فى هذه الليلة لتوهم أن النوم جائز عليه فى الجملة، وأنه نائم فى غير هذه الليلة، تعالى عن ذلك وعن كل نقص. وقد وصف الله تعالى بالحياء على التأويل المذكور فى قوله صلى الله عليه وسلم

" إن الله حى كريم يستحى إذا رفع العبد يديه إليه إن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا "

رواه أبو داود والترمذى وحسنه، وعنه صلى الله عليه وسلم

" إن الله يستحى من ذى الشيبة المسلم أن يعذبه "

رواه البيهقى وغيره. واعلم أن الحياء فى المخلوق يزداد بحياة القلب، فكلما كان القلب حيا كان الحياء أتم، وتعريفه السابق تعريف لغوى. وإن شئت فقل هو تغيير، وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب به، وأما تعريفه الشرعى فهو أن يقال خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع عن التقصير فى حق ذى الحق. قال ذو النون الحياء وجود الهيبة فى القلب، مع وحشة ما يسبق منك إلى ربك، والحب ينطق، والحياء يسكت، والخوف يقلق. قال يحيى بن معاذ رحمه الله من استحيى من الله مطيعا استحى الله منه وهو مذنب، أى من غلب عليه خلق الحياء من الله، حتى فى حال طاعته، فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستح خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحى الله من نظره إليه فى تلك الحال بكرامته عليه، فيستحى أن يرى من وليه ما يشينه عنده، فإن الرجل إذا اطلع على أحب الناس إليه وأخصهم به، كولد فى خيانته إياه، فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع حياء عجيب. حتى كأنه هو الجانى، وهذا غاية الكرم.

ومن أقسام الحياء حياء الكرم كحيائه - صلى الله عليه وسلم - من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا عنده المقام، واستحى أن يقول لهم انصرفوا. وحياء المحب من محبوبه، حتى إذا خطر قلبه فى حال غيبته هاج الحياء من قلبه، وأحس به فى وجهه، فلا يدرى ما سببه، وحياء المعبودية وهو حياء يمتزج بين محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لعبوده وإن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة، حياء المرء من نفسه وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقد قنعها بالدون فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتى كان له نفسين وهو أكمل ما يكون من الحياء، فإن من استحى من نفسه أحذر من أن يستحى من غيره، قال صلى الله عليه وسلم

" الحياء لا يأتى إلا بخير "

رواه البخارى. وقال صلى الله عليه وسلم

" الحياء من الإيمان "

رواه أيضا. قال عياض وغيره إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة لأن الاستعمال له على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم. قال القرطبى الحياء المكتسب هو الذى جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزى، غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب حتى تكاد تكون غريزة، قال وجمع للنبى - صلى الله عليه وسلم - النوعان، فكان فى الغريزة أشد حياء من العذارء فى خدرها. قال عياض كان من حيائه - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يثبت بصره فى وجه أحد، واعلم أنه خص الخدر لأنه مضنة وقوع الفعل بها، فهو مقيد بما إذا توقعت دخول الزوج عليها لذلك او كان معها، وإن قلت إذا كان المراد بالاستحياء الترك، فهلا كانت العبارة بالترك؟ قلت عبر بالاستحياء تمثيلا ومبالغة، بقوله لا يستحى استعارة تمثيلية مركبة، وهى تبعية أصلها فى المصدر. فقد تكون التمثيلية فى المفرد أى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة، ترك من يستحى أن يتمثل بها لحقارتها ويجوز أن يكون فى هذا الموضع سقط بالأصل نحو صفحتين. فلزم التنبيه فيجيبه باستفهام مثل أن يقول زيد يغلب الأسود فتول كيف يغلب عمرا أو لا تقول لا يغلب عمرا فيقول ما عمر؟ وقرأ رؤبة برفع بعوضة وذلك عند البصريين والكوفيين على حذف العائد مع عدم طول الصلة، وهو شاذ عند البصريين قياس عند الكوفيين. وأخبار الزمخشرى كون ما استفهامية مبتدأ وبعوضة خبرها، والمعنى أى شىء البعوضة فما فوقها فى الحقارة، انتهى، كلام ابن هشام، والبعوضة واحد البعوض، وهو البق الصغار، فيما ذكره الجوهرى وليس كذلك. بل هو الحيوان الذى يطير وينتشر فى الأجنة صيفا سمى من البعض بمعنى القطع، يقال بعضه وبضعه وعضبه أى قطعه على الشاعر

لنعم البيت بيت بنى دثار إذا ما خاف بعض القوم بعضا

أى قطعا. ومن ذلك بعض الشىء لأنه قطعة منه، وبعض القوم قطعه منهم، والبعوض يقطع الجلد ويخمشه وقد سمى الخدوش فى لغة هذيل والختوش لكثرة خدشه، وأصله وصف على فعول، فتغلبت عليه الاسمية فصار اسما للحيوان المذكور بعد أن كان وصفا متحملا للضيمر صالحا لكل ما كثر قطعه من بق أو غيره، والبعوض على خلقه الفيل لكنه أكثر أعضاء من الفيل فإن الفيل أربع أرجل وخرطوما وذنبا وللبعوض مع هذه الأعضاء رجلان زائدتان وأربعة أجنحة وخرطومه أجوف، وخرطوم الفيل مصمت، والبعوض يبلع الدم من خرطومه ويوصله جوفه أنه نافد إليه، وبه يطعن فى الجسد، وألهمه الله أنه إذا جلس على عضوه قصد العرق حتى يجده لأنه أرق، فيضع خرطومه فيه، وهو مذكور فى الآية على طريق الاستخفاف. وفى ذلك قال صلى الله عليه وسلم

" لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء "

رواه الترمذى وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح عن سهل بن سعد. وقال صلى الله عليه وسلم

" إن العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب ولا يزن عند الله جناح بعوضة "

ذكره الغزالى فى الباب السادس من أبواب العلم. وروى البخارى عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم

" سيأتى الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } "

ومما قيل فى الاستخفاف بالبعوض قوله

إذا كان شىء لا يساوى جميعه جناح بعوض عند من كنت عبده واشغل جزء منه كلك ما الذى يكون على ذا الحال قدرك عنده

يعنى الدنيا، وقوله

لا تستخفن الفتى بعداوة أبدا وإن كان العدو ضئيلا إن القذى يؤذى العيون قليله ولربما جرح البعوض الفيلا

وقوله

لا تحقرن صغيرا فى عداوته إن البعوضة تدمى مقلة الأسد

وقوله

لا تعجبوا من صيد صقر بازيا إن الأسود تصاد بالجرذان قد أغرقت أملاك حمير فأرة وبعوضة قتلت بنى كنعان

قال جعفر الصادق بن محمد الباقر عن أبيه نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملك الموت عليه السلام عند رأس رجل من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم

" ارفق بصاحبى فإنه مؤمن "

قال إنى بكل مؤمن رفيق. وما من أهل بيت إلا أتصفحهم فى كل يوم خمس مرات، ولو أنى أردت قبض روح بعوضة ما قدرت، حتى يكون من الله تعالى الأمر بقبضها. قال جعفر بن محمد بلغنى أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلاة. قال الزمخشرى

يا من يرى مد البعوض جناحها فى ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها فى نحرها والمخ فى تلك العظام النحل ويرى خرير الدم فى أوداجها متنقلا من مفصل فى مفصل ويرى وصول غذا الجنين ببطنها فى ظلمة الأحشا بغير تمقل ويرى مكان الوطء من أقدامها فى سيرها وحثيثها المستعجل ويرى ويسمع حس ما هو دونها فى قاع بحر مظلم متهول امنن على بتوبة تمحو بها ما كان منى فى الزمان الأول

ويروى

اغفر لعبد تاب من فرطاته ما كان منه فى الزمان الأول

قال ابن خلكان عن بعض الفضلاء إن الزمخشرى أوصى أن تكتب هذه الأبيات على قبره. { فما فوقها } عطف على بعوضة أو على ما، إن جعلت اسما. والمعنى ما زاد على بعوضة فى صغر الجثة كجناحها، كما ضرب به المثل فى الحديث، وهكذا كنت أفسر الفوقية بالغلبة فى الصغر والزيادة فيه. ورأيت بعد ذلك زكريا قال إنه مذهب المحققين لمطابقته البلاغة، ولما سيق له الكلام، وفيه ترقية معنوية وهى الترقى من الأدنى إلى الأعلى فى الحقارة، والحمد الله، وذلك أن الغرض بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشىء الحقير الصغير، وقيل معنى ما فوقها ما زاد عليها فى الكبر كالذباب والعنكبوت، أى لا يستحى أن يضرب مثلا بالبعوضة، فضلا عما فوقها، ويحتمل الوجهين ما روى مسلم عن إبراهيم عن الأسود، أنه دخل شاب من قريش على عائشة وهى بمنى، وهم يضحكون، فقالت ما يضحككم؟ فقالوا فلان خر على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه تذهب. فقالت لا تضحكوا، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

" ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة "

فإنه يحتمل أن يكون المراد ما جاوز الشوكة فى القلة كنخبة النمل أى عضتها فى قوله صلى الله عليه وسلم

" ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة "

ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع كالخرور على طنب الفسطاط. { فأما الذين آمنوا } بالله ورسوله وما جاء به. { فيعلمون أنه } أى المثل أو ضرب المثل. { الحق من ربهم } الثابت من ربهم الواقع موقعه، يقال حق الشىء يحق أى ثبت، ولم يسغ سواء كان ذاتا أو فعلا أو قولا. وحقق الثوب أى أحكم نسجه، فالحق اسم للثابت، ويجوز كونه وصفا أصله حاق، حذفت ألفه للتخفيف، كألف بار، ووصفا كصعب وسهل، على أنه نقل فعله من فعل بفتح العين، إلى فعل بضمها، مبالغة، فيجتمع توكيدات أحدها بأما فإنها قائمة فى مقام مهما يكن من شىء. وإذا ذكر أما فى حكم فقد علق ذلك الحكم بواجب الوقوع، فإن الدنيا لا يخلو من وقوع شىء، ولا بد أن يليها اسم، لأن مما قامت فى مقامه مهما.

ومهما اسم وأن يكون بعده ألفا، لأن مهما اسم شرط يقرن جوابها بالفاء إذا لم يصل شرطا، ولزمت بعد أما ولو صلح شرطا لضعفها بالنيابة. فتقوى الدلالة بها على ما حذف ونابت عنه، أما، والأصل أن تكون الفاء ألفا قبل ذلك الاسم، لأنه من جملة الجواب، ولكن كرهوا أن تلى حرف الشرط، لأنه فى صورة ربط شىء بلا وجود مربوط إليه. وهذا التوكيد موجود أيضا فى حكاية قول الكفار، فدلت أما على كون أمر المؤمنين حميدا وكون علمهم معتدا به، ودلت أما الأخرى على ذم الكفار، لقولهم وعدم الاعتداد بقولهم الثانية إن والثالثة كون الصفة على فعل، بفتح فسكون، فذلك إرشاد ودعاء إلى ما عليه المؤمنون من اعتقاد أن ضرب المثل حق، لأنه يصار إليه لكشف المعنى الممثل له، وإظهاره فى صورة الذات المحسوسة المشاهدة، وليدركه الوهم كما أدركه العقل، فإن شأن الوهم إدراك المحسوس فقط، وأما كون التمثيل بالأشياء الحقيرة، فلكون الكفرة وأفعالهم وأقوالهم واعتقادهم أحقر الأشياء، فلا يحسن التمثيل لهم إلا بالأشياء الحقيرة. وإنما يكتال لكل شىء بما يناسبه، وقد وقع التمثيل فى التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله، وفى كلام العرب وسائر الناس، وقد يقع بعظيم لمناسبة، كما مثل فى التوراة الجبابرة ببقر تتناطح، وذلك ليظهر عظم وقع مضرة فتنتهم، ويأتى مثال منها فى سورة الإسراء - إن شاء الله - ومثل فى الإنجيل غلو الصدر بالنخالة والقلوب القاسية بالحصاة، ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير ووقع التميل فيه بالزوان وحبة الخردل والأردة والدودة، وجاء فى كلام العرب أسمع من قراد، وأطيش من فراشة، وأضعف من فراشة، وأحقر من ذرة، وأجمع من نملة، وألح من ذبابة، وأعز من مخ البعوض، وأضعف من بعوضة، وكلفتنى مخ البعوض، وأصرد من جرادة، وآكل من السوس. وإذا قلت له زن طأطأ رأسه وحزن، وأجع كلبك يتبعك، كلب ببابه نباح، والكلام أنثى والجواب ذكر، كلب جوال خير من أسد رابض، ولقد ذل من بالت عليه الثعالب، ولكل ساقطة لاقطة، ولا يضر السحاب نباح الكلاب، ويكسوا الناس وإسته عارية، ويدرك منك وإن كانت شلاء. { وأما الذين كفروا فيقولون } لم يقل فلا يعلمون أنه الحق من ربهم، كما قال المؤمنين الذين قوبلوا بهم، فيعلمون أنه الحق من ربهم، لأن قولهم الذى حكى الله عنهم بقوله { ماذا أراد الله بهذا مثلا } دليل واضح على كمال جهلهم وبرهان على فساد اعتقادهم، فقد أفاد ذلك وأفاد أيضا ما يفيده قولك، فلا يعلمون أنه الحق من ربهم، وما للاستفهام الإنكارى مبتدأ، وذا اسم موصول خبره و { أراد الله } صلته أو ماذا اسم واحد مركب للاستفهام الإنكارى مفعول مقدم لأراد.

أو ما اسم استفهام إنكارى مفعول مقدم لأراد وذا زائدة. أجازه ابن مالك وجماعة. قال ابن هشام التحقيق أن الأسماء لا تزاد. ومعنى { أراد الله } شاء، أنه فعله أو يفعله بلا سهو ولا إكراه ولا فعال غيره أمره بها، ومعصية العاصى واقعة بإرادته، لأنه جل وعلا هو الذى خلقها منه فقد أراد الله خلقها، والخلق فعل، فبطل ما يغرى إلى هذا التعريف من أن المعصية لم تكن بإرادته وإن شئت فقل إرادته قضاؤه فلا أول لها فهى كالعلم صفة ذات، وتطلق أيضا على تقديره مثل أن تقول لما أراد الله خلق السماوات والأرض فعل كذا، وهى الإرادة المقارنة للفعل. وقال بعض المعتزلة إرادته علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح. فإن علم ذلك يدعو القادر إلى تحصيله، فالإرادة لأفعاله من صفاته السلبية، والأفعال غيره من صفاته الثبوتية، وقالت الأشعرية معنى إرادته وترجيح أحد مقدوراته على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه. فهى صفة ذات قديمة زائدة على العلم، وهو معنى قريب من تفسيرها بالقضاء، وخرج بقولهم وتخصيصه بوجه دون وجه من القدرة لإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه، بل هى للفعل مطلقا، وإن شئت فقل على مذهبهم إرادته تعالى معنى يوجب ترجيح أحد مقدوراته على الآخر، وتخصيصه بوجه دون وجه والإرادة كالمشيئة أعم من الاختيار والحب، فإن فى الاختيار والحب تفصيلا، إلا الاختيار المراد به نفى القهر والضرورة فليستا بأعم منه، وذكر أبو عمار عبد الكافى - رحمه الله - أن الإرادة إنما هى نفى الاستكراه، وأن أهل الإثبات قالوا إن إرادة الله - عز وجل - صفة ذات، ينفى بها عن الله - عز وجل - أن يستكره على فعل من الأفعال، وإن عين الإرادة ما به يتكون المراد على ما أراده المريد، غير مستكره على شىء من الأفعال، وإن قوما من المعتزلة قالوا إنها فعل الله، وليست صفة ذات، واختلفوا فى ذلك الفعل، فقيل إنه أمر منه بطاعته، وقيل إن الإرادة عرض فى غير محل، حكى عن ابن الإسكندرانى، وقيل إنها عرض حال فى المراد، وقالت الجهمية إرادة الله هى المراد. وقال شعيب من الإباضية إرادة الله - عز وجل - للأشياء محبته لأن تكون. ويرد قول الجهمية أنه لو كانت الإرادة هى المراد لكان العلم هو المعلوم والقدرة هى المقدورة عليه وهكذا، وأراد بالإباضية الإباضية غير الوهبية أو مطلق الإباضية، ولكن شعيب المذكور من النكار والإرادة والمشيئة معنى واحد، وهو صفة أزلية غير العلم، والقدرة متعلقة فى الأزل لتخصيص الحوادث بأوقات حدوثها، ونسبة الضدين يمكن أن يقع بها الضد الآخر، ونسبة كل منهما إلى الأوقات سواء، إذ كما يمكن أن يقع فى وقته الذى وقع فيه، يمكن أن يقع قبله وبعده، فلا بد لتخصيصها بالوقوع دون غيره من مخصص يقتضى ذلك لذاته حتى لا يحتاج إلى مخصص آخر غيره ولا يتسلسل وهو الإرادة.

ووقوع الشىء تابع لتعلق الإرادة، وتعلق القدرة تابع لتعلق الإرادة، وتعلق الإرادة لذاتها لا ينافى اختيار الفاعل، والحادث تابع للعلم المتعلق فى الأزل بتخصيص الإرادة، بمعنى أن حدوث الحادث على حسب ما تعلق به العلم القديم وإن كان متبوعا للعلم، بمعنى أن العلم بحدوث الحادث فى وقته المعين تابع، بحيث يقع فيه فلا منافاة بين ما يقال من أن العلم تابع للوقوع، وما يقال من الوقوع تابع للعلم، وهذا المخصص هو الإرادة وهى قديمة، ولو كانت حادثة للزوم كونه تعالى محلا للحوادث، ولا احتاجت إلى إرادة أخرى وتسلسل. وهى شاملة لجميع الكائنات، لأنه تعالى موجود لكل ما يوجد من الممكنات إذ قدرته شاملة، وهو فاعل بالاختيار فيكون مريدا لها، ولأن الإيجاد بالاختيار يستلزم إرادة الفاعل، ومن جملة الكائنات الشر والكفر والمعصية، فيكون مريدا لها، خلافا للمعتزلة. واستدلو بأوجه الأول أن المعصية غير مأمور بها فلا تكون مرادة إذ الإرادة مدلول الأمر ولازمه، فيجاب عن هذا بأن الأمر قد ينفك عن الإرادة كأمر المختبر لأحد هل يمتثل. الثانى لو كانت مرادة لوجب الرضى بها، لأن الرضى بما يريد الله تعالى واجب، والرضى بالكفر كفر، فيجاب بأنه يجب الرضى بقضاء الله تعالى به، وإيجاده عدم سخط القضاء لا بنفس الكفر المقضى لذاته، وبتناول العاصى إياه وبصدوره منه. ووجب الرضى عندى بموت الأنبياء من حيث أنه قضاء الله تبارك وتعالى، وحرم سخطه، ولا توقف فى صحة الرضى بفعل الله تعالى. الثالث لو كانت مرادة لكان الكافر مطيعا بكفره، لأن الطاعة تحصيل مراد المطيع، فيجاب بأن الكافر إذا رضى بقضاء الله تعالى عليه بالكفر، مطيعا برضاه طاعة لا تنفعه لحصول الكفر، والطاعة هى تحصيل ما أمر الله لا ما أراده، فالواجب عليه شيئان فى حال كفره الرضى بالقضاء عليه بالكفر، والانقلاع عن كفره، وبهذا يجاب اليهودى التلمسانى القائل>

أيا علماء الدين ذمى دينكم تحير دلونى بأوضح حجة

ثم قال

قضى بضلالى ثم قال ارض بالقضا فها أنا راض بالذى فيه شقوتى

وقد أجيب بأشعار وذلك فى دولة الإسلام فى هذه العدوة وعدوة الأندلس. الرابع قوله تعالى

ولا يرضى لعباده الكفر

فيجاب بأن الرضى بقضاء الكفر غير كفر. والله أعلم. ويدل على ترادف الإرادة والمشيئة قوله تعالى

يفعل ما يريد

و

يفعل ما يشاء

وإرادة المخلوق ومشيئته نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث تحملها عليه وهذا مع الفعل، ويطلقان على القوة التى هى مبدأ النزوع، وهذا قبل الفعل. والله أعلم. واسم الإشارة فى الآية لاستحقار الكفار ما مثل به كأنهم قالوا ما هذا الدانى القريب التناول، كما قالت عائشة فى عبد الله بن عمرو بن العاص يا عجبا لابن عمرو هذا.

. و { مثلا } حال أو تمييز وناصبه أراد سواه جعل حالا، أى ماذا أراد به، حال كونه مثلا، لو كان من الله كما قال محمد، وصاحب الحال اسم الإشارة أو تمييزا قبل التمييز عن نسبة التعجب والإنكار إلى المشار إليه نسبة إيقاعية، ولا حاجة إلى جعل العامل فى الحال اسم الإشارة، وصاحب الحال الهاء، فى قولك أشير إليه وأجاب قولهم { ماذا أراد الله بهذا مثلا } بقوله تعالى { يضل به } أى يضرب المثل أو بالمثل. { كثيرا ويهدى به كثيرا } فإنه مستأنف من كلامه - تبارك وتعالى - كأنه قيل الذى أراده الله تعالى بضرب المثل هو إضلال كثير من الناس به، وهدى كثير منهم به. وهذا على جعل ما مبتدأ، وذا خبرا، أو بالعكس وأما على جعل ماذا مفعولا أو ما مفعولا، وذا صلة، فكأنه قيل أراد بضرب المثل إضلال كثير به، وهدى كثير به. وفى الجواب بالفعل ما يرجح هذا، وقال مكى إن جملة يضل صفة مثلا، أو مستأنفة. قال ابن هشام والصواب الثانى، لقوله تعالى فى سورة المدثر

ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء

وإنما قال يضل ويهدى بالفعل، ولم يقل إضلال كثير وهدى كثير بالاسم، للإشعار بالحدوث والتجدد، وبيان لقولهم { فيعلمون أنه الحق من ربهم } وقوله { يقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا } لاشتمال كل منهما على الكثرة، واشتمال الأول على الهدى، والثانى على الضلال، وإشعار بأن العلم يكون ضرب المثل حقا هو الهدى والإيمان، وأن الجهل بوجه أراد المثل والإنكار لحسن مورده هو ضلال وفسوق. وإن قلت كيف اشتمل الأول على الكثرة، مع أن المؤمنين قليل؟ والكثير هم الكفار؟ كما قال تعالى

وقليل من عبادى الشكور

وقال

وقليل ما هم

فقال صلى الله عليه وسلم

" الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة "

قلت المؤمنون كثير فى حد ذاتهم، وإنما يكونون قليلا بالنسبة إلى الكفرة، فالمعتبر كثرتهم فى ذاتهم. ويحتمل أن يكون كثرتهم باعتبار الفضل والشرف، وكثرة الكفار باعتبار العدد كقول أبى الطيب المتنبى فى مدح على بن يسار

سأطلب حقى بالقنا ومشايخ كأنهم من طول ما التثموا مرد ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا كثير إذا شدوا قليل إذا عدو

وكقوله

إن الكرام كثير فى البلاد وإن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا

ومعنى قوله كثير أنهم كثير كرما، ومعنى قوله قلوا قلوا عددا، وقوله قل، بضم القاف واللام المنونة، معناه القليل، ويجوز أن يكون، بفتح القاف واللام، على أنه فعل اعتبر فيه لفظ غير. واعتبر معناه فى قوله كثروا.

وقيل أن قوله تعالى { يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا } من كلام الكفار كالكلام قبله، فهو من المحكى بيقولون واتفقوا على أن قوله { وما يضل به الفاسقين }.. إلخ من كلام الله عز وجل، والفسق لغة مطلق الخروج عن الشىء، تقول فسق عمرو عن الدار ومن الدار أى خرج، قال رؤبة يصف نوقا يمشين فى المفازة على غير طريق

يذهبن فى نجد وغور غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا

وغورا ظرف مكان أو منصوب على نزع فى أو معطوف على محل مجرور فى. ولو كان محله لا يظهر فى الفصيح من النثر، وذلك للضرورة. وبعض لا يشترطه. ومعنى فواسقا خوارج، وجوائرا بمعنى مائلات، ويقال فسقت الرطبة عن قشرها أى خرجت. وفسقت الفارة خرجت عن جحرها. والفسق شرعا الخروج عن طاعة الله، والمراد فى الآية المشركون والمنافقون الذين آسروا الشرك، لخروجهم عن الإيمان والطاعة، ودخل اليهود فيهم. والمعصية كلها فسق، إلا أنه عندنا إنما تقول فاسق لفاعل الكبيرة دون فاعل الصغيرة، وقيل المراد المشركون، وعليه اقتصر الشيخ هود وقيل المنافقون وقيل اليهود. وللفاسق ثلاث درجات، الأولى التغابى وهو التغافل، وأصله من الغباوة هو أن يترك الكبيرة أحيانا مستقبحا إياها. والثانية الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير ميال بها، وهو فى الحالتين عندنا منافق يسمى ذا إيمان وموحدا ولا يسمى عندنا مسلما ولا مؤمنا بمعنى كامل الإسلام والإيمان، ولا مشركا وأظن ذلك قول قدماء المعتزلة، ولكن لا يسمونه منافقا بل فاسقا، وربما سماه بعض أصحابنا مسلما ومؤمنا، بمعنى موحدا. فإن الإيمان الكامل التصديق والإقرار والعمل. وكذا قال متأخروا المعتزلة، وكذا قال الأشعرية ويسمونه فى الحالتين مؤمنا إيمانا غير كامل، ويسمونه كافر للنعمة. الثالث الجحود وهو أن يرتكبها مستصوبا لها مستحلا مواجهة وهو مشرك، وإن قلت كيف تفعل فى قوله تعالى

وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا

قلت سماهم مؤمنين باعتبار حالهم الظاهر لنا قبل البغى، أو معناه وإن طائفتان من الموحدين كما سمى البلغ اليتامى باعتبار حالهم قبل البلوغ، وقد مات آباؤهم. ويطلق اسم الفاسق على الثالث، كما يطلق على الأول والثانى. ونزل واصل ابن عطاء - ويكنى أبا حذيفة - الأول والثانى منزلة بين المؤمن والكافر فينبغى أن يحمل على أن المعنى بين كامل الإيمان بالعمل والكافر المشرك لإذعان كل عاقل، إلى أن الفاسق غير شاكر، ومن لم يشكر فقد كفر، فهذا الفاسق كافر كفرا غير شرك. قال واصل بن عطاء كما قلنا إن حكمهما حكم المؤمن، فى أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه، ويدفن فى مقابر المسلمين، وهو كالمشرك فى الذم واللعن والبراءة منه، واعتقاد عداوته وألا تقبل له شهادة. ومذهب مالك والزيدية أن الصلاة لا تجزى خلفه. والله أعلم. وإذا جعلنا الباء فى به، من باب باء الآله، فإسناد الإضلال إلى الله تعالى حقيق، وكذا إذا جعلناها من باب السببية، ولا يظهر لى خلاف ذلك، لأن إضلاله تركه التوفيق.

وزعم الزمخشرى أنه إسناد إلى السبب، لأنه ضرب المثل، فضل به قوم واهتدى قوم، فكان ذلك سببا لضلالهم وهداهم. وعن مالك بن دينار - رحمه الله - أنه دخل على محبوس قد أخذ بمال عليه، وقيد فقال يا أبا يحيى أما ترى ما نحن فيه من القيود؟ فرفع مالك رأسه فرأى سلة، فقال لمن هذه السلة؟ فقال لى، فأمر بها تنزل. وإذا دجاج وأخبصة، فقال مالك هذه وضعت القيود على رجلك. فأسند وضع القيود على رجله إلى السلة، لما كانت السبب بعد التسبب بشراء المستلذات، والتسبب بوضعها فيها فكانت حرزا لما يستلذ فيعتاده، وكلام مالك من الإسناد للسبب بخلاف الآية، ونسبة الإضلال إلى الفاسقين نسبة إيقاعية. والفاسق مشتق. والنسبة إلى المشتق تؤذن بعلية المشتق، له ففسقهم علة لإضلال الله إياهم بالمثل لأن فسقهم فى سائر اعتقادهم وأقوالهم وأفعالهم، صرف أفكارهم عن حكمة التمثيل إلى حقارة الممثل به، حتى رسخت به جهالتهم، وازدادوا ضلالا فأنكروه واستهزءوا به. وقرأ زيد بن على يضل به كثير ويهدى به كثير وما يضل به إلا الفاسقون ببناء يضل الأول والثانى ويهدى مفعول، ورفع كثير الأول والثانى، ورفع الفاسقين.

[2.27]

{ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } الذين نعت الفاسقين نعت ذم. ذمهم وشنع عليه بترك العهد الذى استوثق الله - عز وجل - عليهم به، وهو العهد المأخوذ بالعقل، وهو ما ركز فى عقولهم من الحجة على التوحيد، لما خلق الله فى عقولهم ما يدركون به التوحيد، لو استعملوا عقولهم صار بمنزلة ما أدركوه، واستوثق الله عليهم ألا يتركوه، وأعنى بالتوحيد التوحيد الكامل، وهو التصديق بالله ورسوله وما جاء به من القرآن والوحى، وقد فسر بعضهم قوله تعالى

وأشهدهم على أنفسهم

بركز الحجة على الحجة على التوحيد فى عقولهم، أو المراد بالعهد ما عهد إليهم فى التوارة والإنجيل، ومن إيجاب التصديق بالرسل للمعجزات المقرونين بها، وعدم كتمانهم. ففى التوراة وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم. وفى الإنجيل سأنزل كتابا فيه أبناء بنى إسرائيل وما أريته إياهم من الآيات، وما أنعمت عليهم، وما نقضوا من ميثاقهم الذى أوثقوا به، وما ضيعوا من عهده إليهم، وحسن صنعى بالذين قاموا بميثاق الله، وأوفوا بهداى ونصرى إياهم، وكيف أنزل بأسى ونقمتى بالذين غدروا ونقضوا. وحرف اليهود اسم النبى محمد صلى الله عليه وسلم، كما فعلوا باسم عيسى عليه السلام، فذلك الذى ألزمهم الإيمان هو العهد إذا نعموا بقلوبهم وألسنتهم. بل اتضاح الحجة كانها عهد أقروا به إذ لم تبق شبهة تمنعهم من التصديق، أو المراد عهد الله إليهم ألا يتظالموا ولا يتقاطعوا... وقيل العهود ثلاثة عهد على ذرية آدم جميعا. قال الله تعالى

وإذا أخذ ربك..

إلخ وعهد خص به النبيين أن يقيموا الرسال والدين ولا يتفرقوا فيه، قال الله تعالى

وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم

وعهد خص به العلماء قال الله تعالى

وإذ أخذنا من النبيين

وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتو الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه

وقد فسر بعضهم العهد فى الآية بقوله تعالى

ألست بربكم قالوا بلى

وفسره بعض بالعهد الذى ألزم الله اليهود فى التوراة أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويبينوا نعته وصفته. وبعض بإبطال الكفار والمنافقين ما أبرم الله تعالى فى القرآن من الأحكام الشرعية. والعهد التقدم فى الشىء والوصاية به، والآية فى الكفار. قال عياض كل عهد جائز بين المسلمين، فنقضه لا يحل بهذه الآية. واعلم أن الله - عز وجل - شبه ترك العهد بنقض الحبل، وهو فك طاقاته، تشبيها غير مصرح بأداته، وإنما علمناه من إضافة العهد إلى الله، فاشتق من النقض المستعار من نقض طاقات الحبل، لترك العهد ينقض، بمعنى يترك. فالاستعارة فى ينقضون تبعية تصريحية تحقيقة والعهد قرينة، وإن شئت فقل شبه العهد بالحبل تشبيها غير مصرح به ولا بأداته، وإنما نعلمه بإثباته للعهد ما هو حقيق بالحبل ومناسب له، وهو النقض.

فهذا التشبيه استعارة بالكناية وقرينته النقض. وقيل الاستعارة بالكناية لفظ المشبه به المضمر، وقيل لفظ المشبه المستعمل فى لفظ المشبه به المجازى، وقد أطلت بيان هذه المذاهب فى شرحى على شرح عصام الدين، وإذا جرى على سمعك أن فى تشبيه العهد بالحبل استعارة بالكناية وأن ينقض قرينته، علمت أنه لا يجب فى قرينة الاستعارة بالكناية أن تكون استعارة تخييلية، فإن استعارة لفظ ينقض لمعنى يترك استعارة تحقيقية، ولو لم يكن فى لغة العرب الكريمة إلا بلاغة الاستعارة بالكناية لفاقت لغات العجم كلها، فإن ما فيهن من ذلك مأخوذ منها، وذلك أن يسكت العرب عن ذكر الشىء المستعار، ثم يرمزوا إليه بذكر ما يناسبه، وذلك من أسرار البلاغة ولطائفها، فلو قلت فى إنسان كثير الأكل إنه يأكل من مخلاة، لقلنا إنك قد شبهته بنحو الفرس فى الأكل. فكذلك لما أثبت النقض العهد، علمنا أنه شبهه بالحبل، ووجه الشبه أن الاتصال بين الشيئين كما يكون بين الحبل وما يربط به، كذلك يكون بين المتعاهدين. فإن العهد وصلة بين شيئين كالحبل. إلا أن وصلة الحبل حسية، ووصلة العهد معقولة، كعهد الوصية وعهد اليمين وعهد الدار لأنها يرجع إليها وعهد التزويج لأنه يحفظ والميثاق مصدر بوزن مفعال كالميعاد بمعنى الوعد، ومجىء المصدر بوزن مفعال قليل، يحفظ ولا يقاس عليه، أى يتركون عهد الله بعد وثقه، أى بعد إحكامه وإبرامه. وقيل اسم مصدر، والمصدر إيثاق، فالأصل من بعد إيثاقه، على أنه من أوثق فوضع الميثاق موضع الإيثاق، كوضع العطاء موضع الإعطاء، ولا حاجة إليه لأن وثق يجىء متعديا كما يجىء لازما، وهو بلفظ الثلاثى وهو من اللازم، لكن الإضافة تجوز لأدنى ملابسة، فيجوز أن تكون الهاء للعهد، وهو المفعول الذى يتوصل إليه اللازم بالجار، والإضافة تصح لأدنى ملابسة، فلا مانع أن تكون هاء الفاعل، وهو الله - سبحانه وتعالى - أى من بعد وثوق الله به، وأيضا أن مفعالا من الأسماء المأخوذة من الثلاثى لا من الرباعى، فكونه من الوثوق أولى من كونه من الإيثاق، فيجوز كونه اسم آلة من الوثوق، أى من بعدما وثق الله به عهده من الآيات والكتب، وما وثقوه به من الالتزام والقبول. ولا يجوز أن يجعل اسم آلة من أوثق لأن مفعالا اسم آلة من الثلاثى، ومن على تلك الأوجه للابتداء، لأن ابتداء النقض يتصور بعد حين حصول العهد، وقال ابن مالك بجواز كون من زائدة، مع قبل وبعد، والهاء على الأوجه كلها أيضا عائدة إلى العهد، أو إلى الله سبحانه وتعالى. { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل } قال ابن عباس يقطعون ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، وهم اليهود وقريش، فإن قريشا أنكروا رسالة سيدنا محمد، وقيل يقطعون ما أمر الله به من صلة الرحم، وقيل المراد أنهم يقطعون ما أمر الله به من صلة الرحم والمؤمنين.

والذى عندى أن المعنى أنهم يتركون ما أمر الله به ألا يترك، فيدخل فيه الإيمان بالأنبياء كلهم والكتب، وصلة الرحم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان. وحج البيت، وقراءة القرآن ونحو ذلك من أحكام الدين. ووصل كل شىء من ذلك فهو فعله، وقطعه هو تركه. وأما فعل المحرمات فداخل فى قوله بعد ذلك { ويفسدون فى الأرض } وإن شئت فقل يدخل فى قوله { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل } فالوصلة بين المكلف والنهى عن المحرمات أن يتبع النهى فيترك المحرمات، فإذا طرح النهى وراء ظهره واقتحم المحرمات، فقد قطعه. والأمر فى لغة العرب إنما يطلقونه على الكلام الطالب للفعل فيسمون طلب الأدنى من الأعلى أمرا، وطلب المساوى كما يسمونه طلب الأعلى من الأدنى، وقيل يطلقونه على طلب الأعلى من الأدنى، وأما المساوى فالتماس، وأما الأدنى من الأعلى فدعاء، وقيل يطلقونه على طلب الأعلى من الأدنى، وعلى طلب مدعى العلو على من دونه فى ادعائه، ولو لم يكن كما ادعى، وأما المساوى فالتماس، والأدنى دعاء، والأمر الذى هو واحد الأمور مسمى باسم الأمر الذى هو واحد الأوامر، الذى هو الطلب المذكور، تسمية للمفعول بالمصدر. فإن الأمر الذى هو أحد الأمور مما يؤمر به فى الجملة، فالورقة مثلا أمر من الأمور، سميت لأنه يؤمر بها فتسوى أو تسطر أو تكتب أو تجلد وإن شئت فقل يشبه الداعى إلى الشىء بأمر يأمر به. ويدل لذلك أنه يقال للأمر الذى هو واحد الأمور شأن والشأن مصدر فى الأصل بمعنى الطلب، والقصد يقال شانت شانه أى قصدت قصده، وشانت شانا أى قصدت قصدا، فالشان الذى هو بمعنى واحد الأمور بمعنى مشون فى الأصل قيل تغلب الاسمية على المعنى المفعولى وأن يوصل فى تأويل مصدر مجرور بدل اشتمال من الهاء فى به، وهو أولى لقربه وصراحته فى المراد، ويجوز كونه بدلا من ما، بدل اشتمال من منصوبا. { ويفسدون فى الأرض } بفعل ما نهوا عنه، كالظلم والزنى والغضب والسرقة وصدر الناس عن الإيمان والاستهزاء بالحق. أو بقطع ما أمر الله به أن يوصل، وكالإشراك بالله تعالى. { أولئك الخاسرون } أى الذين كان لهم النقص فى معاملتهم بأن أخذوا الردىء فى الحسن إذ تركوا الجنة وأخذوا النار بتسببهم لها بأعمالهم أو عملوا السوء من الشرك والمعاصى الموصلة إلى النار، وتركوا الإيمان والطاعة الموصلة إلى الجنة، فإن العمل الصالح كالوفاء والوصل شىء حسن فى نفسه. وأيضا يوصل إلى أحسن، وهو رضى الله - جل وعلا - وإلى حسن وهو الحنة، وعمل السوء خبيث فى نفسه، موصل إلى أمر عظيم جدا، وهو غضبه تعالى، وإلى عقاب غليظ وهو جهنم.

[2.28]

{ كيف تكفرون بالله }؟ استفهام إنكارى، أنكر الله جل وعلا جواز كفرهم شرعا، وجوازه عقلا. أو استفهام تعجبى دعاهم إلى التعجب بكفر أنفسهم. وفيه دعاء غيرهم أيضا إلى التعجب، لأن العرب تخاطب الحاضر بصيغة التعجب، وتريد تعجبه وتعجب السامعين. ويجوز أن يكون الاستفهام فى الآية على طريق الاستفهام الإنكارى الظاهر، وهو نفى الوقوع بصيغة الاستفهام، كأنه قيل إن الكفر بالله مع ما ذكر من الإمامة والإحياء والموت غير واقع، تنزيلا له منزلة لم يقع إشعارا ببعده، لقوة الصارف عنه والداعى إلى الإيمان، حتى كأنه مستحيل، فعبر عنه بصورة المستحيل كقولك أتعيش بغير طعام وشراب؟ وقولك أتطير بغير جناح؟ والإنكار بكيف ولو كان إنكارا الحال الكفر التى يكون عليها، لكنها إنكار لنفس الكفر بطريقة الكناية، وهى أبلغ من التصريح، لأنها كلام متضمن للدليل والبرهان. وبيان ذلك أن المخلوق يوصف بالأحوال ولا يتصور بدونها، فاذا نفيت الحال أصلا كان نفيك له نفيا لممكن الوجود والاتصاف لها إذا وجد لكانت له حال ولا بد، فلما نفى حال الكفر كان نافيا للكفر من أصله لعدم تصوره بلا حال. وقد علمت أن نفيه على طريق تصويره بصورة المحال، وكأنه قيل لو كان هو موجودا لكانت له حال، لكنه لا حال فليس موجود، فهذا برهان ودليل، ولا تنكر قولى أن المخلوق لا بد له من حال بنحو الجبل الثابت فإن عرضه حال وطوله حال، وغلظه حال، وخشونته حال، وملاسته حال، وإتيان الليل عليه حال، وظلمته حال، وإتيان النهار عليه حال، وتنوره حال، ولونه حال، وتركيبه حال، وحلوله على الأرض حال، وحلول ما حل فى الهواء أيضا حال وهكذا. فتبين لك أن الإنكار بكيف لأن مدلولها حال الشىء أبلغ من الإنكار بالهمزة لأنها للسئوال عن الشىء نفسه، وأنسب لما بعده من الحال. وهو قوله جل وعلا { وكنتم أمواتا } ، وتتضمن كل من الإنكار والتعجب توبيخا. والخطاب لكفار العرب، وصفهم أولا بسوء الاعتقاد والقول والفعل على طريق الغيبة، ثم خاطبهم على طريق الالتفات ووبخهم على كفرهم المصاحب لعلمهم بالموت والإحياء والإماتة، والإحياء المقتضى أن يكونوا مؤمنين، أى أخبرونى على أى حال تكفرون بالله. { وكنتم أمواتا } أشياء لا حياة فيها، وهى مأكول ومشروب، ثم ما يتولد منها غذاء للبدن، ثم أخلاط ونطف وعلق ومضغ. والجملة من واو تكفرون بدون تقدير قد أو بتقديرها. فمذهب البصريين - إلا الأخفش - لزوم قد مع الماضى المثبت مطلقا، ظاهرة أو مقدرة، وقال الأخفش والكوفيون تلزم مع المقرون بالواو، وتجوز فى المقرون بالضمير والواو، أو بالضمير وحده. والأصل عدم التقدير ولا سيما مع الكثرة والأكثر فى الماضوية المثبتة الحالية قرنها بالواو وقد والضمير، ثم بقد والضمير، ثم بالواو والضمير ثم بالضمير، ذاكره ابن مالك، وجعل ابنه الرابعة أكثر من الثالث.

وأيضا الآية بمنزلة قولك كيف تكفرون بالله، وقصتكم أنكم كنتم أمواتا فجعلكم أحياء، ثم يميتكم بعد هذا الإحياء، ثم يحييكم بعد هذه الإماتة ثم يحاسبكم؟... وقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد معنى قوله وكنتم أمواتا وكنتم معدومين قبل أن تخلقوا. كما يقال للشىء المندرس ميت، فإن الأموات جمع ميت بإسكان الياء يقال لما تصح فيه الحياة وما لا تصح كقوله تعالى

بلدة ميتا

وآية لهم الأرض الميتة

ولكن ذلك عندى على طريق التشبيه والاستعارة التصريحية، ووجه الشبه عدم الروح وعدم الإحساس أو ترك النماء بعد أن كانت، فإنها فى حال وجود النبات وإنمائه كالحيوان الحى. وفى حال زوال النبات كالميت فإن الحياة حقيقة فى وجود الروح مجاز فى نمو ما ينموا، ولأنها من مقدمات النمو، وفى الفضائل كالعقل والعلم والإيمان لأنها كمال وجود الروح وثمرتها، والموت فى ضد ذلك، والمراد بالحياة فى حق الله لازمها من علم وقدرة. { فأحياكم } فى الأرحام وبعد الخروج من الأرحام بنفخ الروح وخلقها فيكم. قال الكلبى أمواتا نطفا وعلقا ومضغا وعظاما. ثم أحياهم فأخرجهم إلى الدنيا، وعطفه بالفاء لاتصال هذا الإحياء بذلك الموت، بخلاف الإماتة والإحياء الثانى والرجوع. فإنهن متراخيان بعض عن بعض، فكان العطف بثم. أما التراخى بين هذا الإحياء الأول والإماتة فظاهر. وأما التراخى بين الإماتة والإحياء الثانى فإن جعلنا الإحياء الثانى هو الإحياء من القبر فظاهر أيضا. وإن جعلناه هو الإحياء فى القبر فظاهر أيضا، لأن بين الإماتة وتسوية التراب عليه فى القبر مدة، وأما الرجوع إلى الجزاء فمتراخ عن الإحياء فى القبر، ومتراخ عن الإحياء منه، فإنا إذا فسرنا الرجوع إلى الجزاء بدخول الجنة أو النار كان التراخى ظاهرا، وإذا فسرناه بالحصول فى الموقف أو بالشروع فى الحساب فقد حصلت مدة أيضا بين الإحياء منه، وبين ذلك، وكذلك إذا فسر بالإحياء من القبر فإن بينه وبين الإحياء فيه مدة البرزخ هم فيها موتى. { ثم يميتكم } لآجالكم، وذلك أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وتعاقب الافتراق والاجتماع والموت، والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بالذات، وما بالذات يأبى أن يزول. { ثم يحييكم } فى قبوركم للسؤال عن الإيمان بالله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبالبعث. ولك أن تقول المراد بهذا الإحياء الشامل لهما، أو هما مرتبطان متصلان فى الانقطاع عن الدنيا، فلا يرى، والسؤال بأنه ترك ذكر أحد الإحياءين وهم ثلاثة، فلم قال فأحييتنا اثنتين. كما قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد المراد إحياء البعث. وكذا قال الكلبى. وهو المختار والمتبادر. { ثم إليه } لا إلى غيره. { ترجعون } للجزاء بأعمالكم. وهو من رجع الثلاثى المتعدى، أو من اللازم المدخل عليه همزة التعدية، وقرأ يعقوب فى جمع القرآن ترجعون، بفتح التاء وكسر الجيم، وما ذكره الله فى الآية هو أمر العامة، المذكور فى قوله جل وعلا

ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين

وأما خواص من الناس فقد أميتوا ثم أحيوا ثم أميتوا، وسيبعثون كالسبعين الذين مع موسى عليه السلام فى قول. وكعزير، وكالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وصاحب بقرة بنى إسرائيل، ومن يحيى عيسى بإذن الله - عز وعلا - وإن قلت المعطوف على الحال حال، والمتعاطف فى حكم المعطوف عليه { فكنتم أمواتا } حال بلا واسطة، والجمل بعده أحوال بوسائط العواطف، وبعض ذلك ماض، وبعضه مستقبل، والحال حاضر. قلت تكون الحال ماضية باعتبار زمان عاملها، وحاضرة مقارنة له ومستقبلة. والآية من الأول والثالث، أى كيف تكفرون بالله الآن؟ وقد كنتم فيما مضى أمواتا فأحدث فيكم الحياة؟ ثم يميتكم فى المستقبل ويحييكم وترجعون إليه؟ ولك أن تقول هى من الثانى على التأويل بالعلم، أى كيف تكفرون بالله وأنتم عالمون بأنكم كنتم أمواتا؟ وأنه أحياكم وأنه سيميتكم وأنه سيحييكم وأنكم سترجعون إليه؟ أى ما أعجب كفركم، مع علمكم بذلك، بل لو قيل الحال أبدا حاضرة لصح على التقدير بالعلم، أما من المتكلم أون من صاحب الحال أو من غيرهما سواء ماضية أو مستقبلة أو على التقدير بنحو قولك ناويا أو مقدرا أو منويا أو مقدرا أو نحو ذلك، إذا كانت مستقبلة وصحت الحاضرة بلا تأويل. وإن قلت لم يعلموا أنه سيحييهم ويرجعون إليه لإنكارهم البعث. قلت نعم لكن لما أوضح لهم الدلائل على البعث نقلية وعقلية، حتى كأنهم عالمون، بل قد علم كثير وعاند، ولا سيما أن فى الآية نفسها ذكر الحجة، وهو أنه أحياهم الإحياء الأول وليس بأشد من الثانى، بل الثانى أهون بالنظر إلى العادة وبادئ الرأى، ولو كان سواء عند الله. فكأنه قيل كيف وقعتم فى الكفر، مع هذه الدلائل المانعة منه؟ أو كأنه قيل كيف كفرتم مع هذه النعم العظام التى من شأنها أن تشكر ولا تكفر؟ وهى الإحياء الأول والثانى والإماتة بينهما؟.. فبقدر عظم النعمة يشتد قبح المعصية أو كأنه قيل كيف تكفرون مع هذه النعم التى هى دلائل؟ وإنما عد الإماتة والإحياء الثانى من النعم المقتضية للشكر لأنهما وصلة إلى البقاء الدائم النافع لمن عمل له. وهو البقاء فى الجنة. كقوله

وإن الدار الآخرة لهى الحيوان

مع أن يجوز كون المعدود من النعم هو المجموع لا الجميع، فلا إشكال فى أن النعمة الإحياء الأول. ويجوز كونه هو العلم بهذه الدلائل، فالخطاب للكفار كما مر، أو لهم وللمؤمنين. أى كيف تكفرون يا هؤلاء الكفرة وترجعون إلى الكفر يا هؤلاء المؤمنين مع هذه النعم والدلائل الصارفة عنه؟ أو للمؤمنين أى كيف يصدر منكم الكفر معها، أو كيف يصدر منكم وكنتم أمواتا، أى جهالا فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان، ثم يزيل عنكم الروح ثم يردها إليكم بالبعث، فيثيبكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بل ما اطلعتم عليه.

[2.29]

{ هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا } هذا بيان للنعمة الأخرى مرتبة على قوله { فأحياكم } أى خلق لهم منافع الأرض ينتفعون بها، ويعتبرون بها. حياتهم الدنيا، واللام للتعليل أى خلق لأجلكم ما فى الأرض جميعا تنتفعون به فى الدنيا والآخرة. ولم يخلق فيها شيئا لغير ذلك. فبعض ما فى الأرض ينتفعون به نفسه لا بد أنكم ودنياكم بلا واسطة، كالثمرة والبطيخ والدلاع والعسل والسكر ونحو ذلك، مما يؤكل أو يتداوى مستقلا وبعض ما فيها تنتفعون به بواسطة غيره كالدباء وأنواع القرع، فإن ذلك ينتفع به بواسطة الطبخ، وكالأدوية المركبة كالجلجلان المسحوق المخلوط بدهن ورد، فإنه نافع للصداع الحاصل من حر الشمس، وكالبحر ينتفع به على السفينة فى تقريب المسافة البعيدة، ووصول أرض لا توصل بالبحر، كجزيرة الأندلس وجربة، وكل ما ينتفع به للدنيا ينتفع به للدين، استدلالا به على وجود الصانع سبحانه وتعالى، وكمال قدرته ويكتسب معرفة لذات الآخرة كما يميل بنعيم الآخرة بنعم الدنيا وينتفع بالدين بكل مخلوق يستدل به على ذلك الجبال والبحار وذات الإنسان وغيره، ويكتسب معرفة عذاب الآخرة من الدنيا، وجمع ما سوى الله مخلوق للتوصل به إلى الله - جل وعلا - لا لذاته، وإن قلت الآية تناولت ما فى الأرض دون الأرض نفسها، قلت نعم فى الظاهر، لكن منافع الأرض فى الحقيقة متناولة فى الآية لأن منافعها الدنيوية والأخروية من جملة ما فيها، فهى متضمنة لها مشتملة عليها، وأيضا تفهم الأرض فى الآية من باب أولى لظهورها وعظمها جرما ونفعا، ولك وجه ثالث هو أن يراد بالأرض الجهة المستفلة بالنسبة للسماء، لا خصوص هذا لجسم السفلى، كما يراد بالسماء تارة الجهة العلوية لا خصوص ذلك الجسم العلوى، فتشتمل الآية باللفظ على هذه الأرض وما فيها، كأنه قيل خلق لكم ما تحت السماء من هذه الغبراء وما فيها. وتفيدنا الآية أن الأرض وما فيها كله مباحان للإنسان وحلال لنا أكلا وشربا ولبسا وركوبا ومداواة وغير ذلك، إلا ما قام عليه دليل، ولا يخفى أن المراد مجموع ما فى الأرض مخلوق مجموع بنى آدم وبعض ما فيها اشتركوا فيه، وبعض اختص به بعض، كالحرير والذهب للمرأة. وجميعا حال من ما مؤكدة له. كما قال ابن هشام لا توكيد لما محذوف الرابط أى جميعه، كما تقول كله، خلافا لابن مالك وابن عقيل. { ثم استوى إلى السمآء } بعد خلق ما فى الأرض. ومعنى استوائه تعالى إلى السماء قصده إليها وتوجيه الإرادة إليها بأن يخلقها. يقال استوى زيد إلى كذا كالسهم المرسل إذا قصده من غير أن يميل إلى غيره. فكذا خلق ما فى الأرض وخلق بعده السماوات بلا خلق شىء بين خلقهن، وخلق ما فى الأرض.

ووزن استوى افتعل بمعنى تكلف السواء وهو أصل معناه. وأطلق فى اللغة على الاعتدال تسوية وضع الأجزاء، تقول استوى زيد على الأرض أى جلس عليها جلوسا مستوية إليه أعضاؤه التى جلس بها معتدلا. ولا يصح حمل الآية على ذلك، لأنه من خواص الجسم والله - جل وعلا - ليس جسما ولا عرضا. ولو كانت الآية على هذا المعنى لقال ثم استوى فى السماء أو على السماء، لا استوى إلى السماء، لكن الله - جل وعلا - لا يوصف بهذا المعنى. ولو قال فى السماء أو على السماء لكان ما ولا بالقهر والغلبة. ويجوز تأويل الآية بهما، لكن تأويلها بالقصد والإرادة أولى، لأنه أقرب إلى أصل الاستواء وهو تكلف السواء، ولتعديته بإلى وللتسوية المرتبة عيه بالفاء. وعن ابن عباس استوى إلى السماء ارتفع إليها، وفى رواية صعد. والمراد ارتفاع أمره أو صعد أمره أو ارتفع إليها، وصعد بقصد وإرادة. قال الطبرى على أمره وقدرته وسلطانه. وقال ابن كيسان قصد إلى السماء أى بخلقه واختراعه، وذلك لأنه تعالى منزه عن الانتفال والحلول. والمراد بالسماء الجهة العليا التى فيها السماوات، لأنه ليس فيها حين الاستواء إليها سماء ولا سماوات، فمعنى قوله { فسواهن سبع سماوات } خلق حينئذ سبع السماوات التى تعلمون الآن فتسويتهن خلقهن مستويات الكيف والجهة، والملاسة والغلظ والقوة، وعدم الفطور وكون كل فى سمة الأخرى، ولو تفاوتن كبرا وجسما، بعض أكبر من بعض، بعض من فضة وبعض من ذهب، وغير ذلك، فالهاء للسماوات التى هن هؤلاء الهياكل العلوية، المدلول عليهن بلفظ السماء، بمعنى الجهة العليا، وذلك شبيه بالاستخدام البديعى. ويجوز أن يراد بالسماء الجهات العلوية، فيكون من الاستخدام، ويجوز أن يراد بالسماء حقيقة ذلك الهيكل العلوى المشرف، فتصدق على السبع من غير أن تكون موجودة حال الاستواء إليها، بل المعنى استوى إلى حقيقة السماء بإرادة خلقها، فخلقها سبعا، فرجع الهاء فى سواهن إلى ما دلت عليه الحقيقة من إفراد. أو أراد بالسماء جنس السماوات، فهى بمنزلة الجمع. كأنه قيل ثم استوى بالقصد إلى السماوات بإرادة خلقهن فخلقهن سبعا، والجمعية فى السماء على هذه الأوجه المذكورة فيها معنى الجمعية للسماء، إنما هى من أل، ولا يمنع من ذلك المذكور من عود ضمير الجماعة عدم وجود السماء حينئذ، لأن الكلام استخدام أو شبيه به، ولو ضعف السعد ذلك بتلويح، وليس كما قال لأن لهذا وجها يدعو إليه أن الأصل فى الضمير أن يعود إلى متقدم، وقيل إن السماء جمع سماءة أو سماوة وليس كذلك عندى. ولك أن تقول الهاء عائدة إلى مبهم مفسر بقوله سبع. كقولك نعم رجلا زيد أو قولك ربه فتى، وقول أبى بكر من النظر

* هو الدهر يأسو *

إذا جعلنا الدهر بدلا من هو أو بيانا، ولم نجعل هو ضمير شان، والدهر مبتدأ وقول القائل

* هى الدنيا تقول بملء فيها *

على حد ما قلت وفى عود الهاء إلى مبهم مفسرا بما بعدها، تفخيم وتشويق وتمكين فى نفس السامع، حاصلات من الإبهام المعقب بتفسير. فهذا الوجه أولى لهؤلاء الحاصلات، ولا يرد على وجه الجنسية فى السماء، وعود ضمير الجماعة كما أورده السعد، لأنا لا نسلم أنها لا تكفى. وقول العرب الدينار الصفر، والدرهم البيض. فنعتوا المفرد بالجمع لأنه جنسه. ولقوله تعالى

والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا

فاستثنى الجماعة من المفرد لأنه جنس. وسبع حال من الهاء على الأوجه السابقة غير عود الهاء إلى مبهم أو بدل بيان على عودها إلى مبهم بناء على جواز كون المعطوف عليه عطف بيان ضميرا، أو جواز بيان النكرة بالنكرة، والمعرفة بالنكرة، والنكرة بالمعرفة، كالمعرفة بالمعرفة، والأفلاك على ما يذكره أهل الأرصاد تسعة، فإن زعموا أن السماوات هى الأفلاك كذبهم القرآن. لأن السماوات سبع وإن زعموا أن الأفلاك غير السماوات فلا دليل صحيح لهم، وإن زعموا أن السماوات أفلاك سبع، والعرش ثامن، والكرسى تاسع، ما صدقوا ولم يثبت فى القرآن ولا فى السنة ولا فى الإجماع دليل على خلاف هذا.. والله أعلم. والآية دليل على أن الأرض وما فيها مخلوقان قبل السماء أما على أن المراد بالأرض فى الآية جهتها فواضح كما مر، وأما على أن المراد بها هذا الجسم، فلأن خلق ما فيها قبل السماء مشعر بخلقها قبل السماء، لأن المتبادر أنه خلق ما فى الأرض، وجعل الأرض مستقرة، لا أنه مخلوق فى الهواء ثم جعل له الأرض مستقرا، وإنما استفدنا الأرض من لفظة ثم، لأنها للترتيب والانفصال ولا يشكل على ذلك قوله تعالى

والأرض بعد ذلك دحاها

أى بعد خلق السماوات، لأن المتأخر عن خلق السماوات إنما هو دحوها، أى يبسطها، فالله - جل وعلا - خلق الأرض مكورة، ثم خلق سبع سماوات، ثم بسط الأرض، وإن قلت لا يلائم بحسب العادة وما يظهر لنا أن يخلق لنا ما فى الأرض وهى كرة. قلت هو منكر ممكن لعظمها فكوريتها لا تمنع من تمكن الأشياء عليها، ويمكن عود الإشارة فى قوله { بعد ذلك } على وصف السماء، وهو تسويتها سبع سماوات، فجرم الأرض مقدم على جرم السماء، ووصف السماء وهو تسويتها سبعا، مقدم على وصف الأرض وهو بسطها، وهذا يناسبه أن تجعل السماء فى قوله تعالى { ثم استوى إلى السمآء } فى فضله جسما علويا. موجودا بعد خلق الأرض فى غلظة سبع سماوات، دحا الأرض بعد فتقه سبعا.

وهذا ما ظهر لى بعد استفراغ الوسع من الأبحاث، وممن ذكر تقدم خلق الأرض على خلق السماوات السبكى. وعن الحسن أنه كان بدء خلق الأرض قبل أن يبسطها، كانت فى موضع واحد، موضع بيت المقدس، ثم خلق السماوات، ثم بسط الأرض فقال لها انبسطى أنت كذا، وانبسطى أنت كذا. والمشهور أن الدحو من تحت الكعبة. قال عطاء بلغنى أن الأرض دحيت من تحت الكعبة، ولا يغايره قول بعض من مكة دحيت الأرض لأن الكعبة فى مكة. وعن مجاهد كان البيت قبل الأرض بألفى سنة، ومدت الأرض من تحته. وعن ابن عباس فى قوله تعالى { وهو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا.. } إلخ. وقوله عز وجل

ءأنتم أشد خلقا أم السماء..

إلخ. أنه خلق الأرض، ثم خلق السماوات، ثم عاد فدحى الأرض، وخلق جبالها وأنهارها وأشجارها ومرعاها. ثم استوى إلى السماء أى قصدها بالفتق سماوات سبعا، وذكر السعد أن الأرض خلقت وبسطت وخلق ما فيها، ثم خلق السماء. وروى مقاتل أن السماء مخلوقة قبل الأرض، وعلى روايته نجعل ثم بمعنى الواو وللترتيب الذكرى بلا تراخ أو للترتيب والتراخى فى العظم والفضل، لا فى الإيجاد. وإن قلت كيف صح للسعد أن يخبر ببسط الأرض قبل خلق السماء مع قوله تعالى

والأرض بعد ذلك دحاها

قلت كأنه جعل البعدية بعدية إخبار. وذكرك ثم، فإنه يقال أعجبنى ما فعلت اليوم، ثم ما فعلت أمس أشد إعجابا لى. كقولك فى غير أداة ترتيب ألم أعطك؟ ألم أرفع قدرك؟ ألم أدفع عنك؟ تقول هذا ولو كان ما أخرت ذكره فى هذا الكلام مقدما فى الوجود، أو كأنه جعل قوله { دحاها } مستأنفا متصلا بقوله { أخرج } غير عامل فى بعد. ويقدر لبعد عاملا يدل عليه، أنتم أشد خلقا، أى تدبروا أمر الأرض واكتسبوا معرفة حالها تنظروا هل أنتم أشد أم هى أيضا؟ وفى هذا تكلف. والتحقيق ماذكرته لك أولا من أن الأرض قبل السماء، وبسط الأرض بعد تسوية السماء جميعا بين الآيات. وبذلك قال الحسن كما مرت روايته، ذكرها الشيخ هود، وذكر الزمخشرى عنه أن الله - جل وعلا - خلق الأرض فى موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر فى موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله

كانتا رتقا

وهو الالتزاق والله أعلم. وسئل السبكى هل كانت الخيل قبل آدم أم خلقت بعده؟.. وهل خلق الذكور قبل الإناث أو الإناث، قبل الذكور؟ وهل العربيات قبل البراذين أو البراذين قبل العربيات؟ وهل ورد فى الحديث أو الأثر أو السير أو الأخبار ما يدل على ذلك؟ فأجاب بأن تختار أن خلق الخيل كان قبل آدم عليه السلام بيومين أو نحوهما، وأن خلق الذكور قبل الإناث، وأن العربيات قبل البراذين.

أما قولنا أن خلقها كان قبل آدم فالآيات فى القرآن سنذكرها آية آية، ونذكر وجه الاستدلال. والمعنى فيه وهو أن الرجل الكبير يهيأ له ما يحتاج إليه قبل قدومه. وقال تعالى { خلق لكم ما فى الأرض جميعا } فالأرض وكل ما فيها مخلوق لآدم وذريته إكراما لهم. ومن كمال إكرامهم وجودها قبلهم فجميع ذلك مقدم على خلقه. ثم كان خلق آدم بعد ذلك آخر الخلق، لأنه وذريته أشرف الخلق، ألا ترى أن النبى - صلى الله عليه وسلم أشرف من الجميع؟ ولذلك كان آخر الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - وتمام كمال الوجود، وما سوى آدم مما هيئ له حيوان وجماد. والحيوان أشرف من الجماد، والخيل من أشرف الحيوان غير الآدمى فكيف يؤخر خلقها عنه؟ فهذه الحكمة تقتضى تقديم خلقها مع غيرها من المنافع، وإنما قلنا بيومين أو نحوهما، لحديث ورد فيه، يتضمن أن بث الدواب يوم الخميس، والحديث فى الصحيح لكن فيه كلام. ولا شك أن خلق آدم عليه السلام كان يوم الجمعة. والحديث المذكور يتضمن أنه بعد العصر، فلذلك قلنا إنه بيومين أو نحوهما على التقريب، وأما التقدم فلا يتردد فيه. والمعنى فيه قد ذكرناه، وأما الآيات التى تدل له فمنها قوله تعالى { خلق لكم ما فى الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } ووجه الاستدلال أن الآية الكريمة اقتضت خلق ما فى الأرض جميعا، قبل تسوية الرحمن السماء، ومن جملة ما فى الأرض الخيل، فالخيل مخلوقة قبل تسوية السماء عملا بالآية ودلالة على الترتيب، وتسوية السماء قبل خلق آدم عليه السلام، لأن تسوية السماء كانت فى جملة الأيام الستة لقوله تعالى

رفع سمكها فسواها

إلى قوله جل وعلا

والأرض بعد ذلك دحاها

ودلالة الحديث الصحيح المجمع عليه أن خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة قبل كمال المخلوقات. أما آخر الأيام الستة إن قلنا إن ابتداء الخلق يوم الأحد كما يقول المؤرخون وأهل الكتاب وهو المشهور عند أكثر الناس، وأما فى اليوم السابع، فهو خارج عن الأيام الستة، كما يقتضيه الحديث الذى أشرنا إليه فيما سبق، الذى فى صحيح مسلم صدره

" إن الله تعالى خلق التربة يوم السبت "

، وإن كان فيه كلام. وأما تأخر خلق آدم عليه السلام فلا كلام فيه. فثبت بهذا أن خلق الخلق قبل خلق آدم عليه السلام، وهو من جملة المخلوقات فى الأيام الستة. قلت قال الشيخ هود رحمه الله خلق الله آدم آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، بعد ما خلق الخلق كلهم. انتهى. ويأتى كلام فى تفسير قوله تعالى

إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام

ومن الآيات قوله تعالى

وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العلم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون

وجه الاستدلال بهذه الآية أن الأسماء كلها إما أن يراد بها نفس الأسماء أو صفات المسميات ومنافعها، وعلى كلا التقديرين المسميات موجودة فى ذلك الوقت، للإشارة إليها فى قوله { هؤلاء } ومن جملة المسميات الخيل فلتكن موجودة حينئذ، والأسماء عام بالألف واللام مؤكدة بقوله تعالى { كلها } فتقوى العموم والمسميات لا بد من إرادتها بقوله تعالى { ثم عرضهم } وقوله تعالى

بأسمائهم

فهذا دليل قاطع فى ذلك والعموم شامل للخيل. فمن رأى دلالة العلوم قطعية يقطع بدخولها، ومن لا يرى ذلك يستدل به فيه، كما يستدل بسائر الأدلة الشرعية. ومن الآيات قوله تعالى فى سورة

آلم تنزيل

الله الذى خلق السماوات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش

وجه الاستدلال اقتضى بها خلق ما بينهما فى الستة أيام وقد قلنا إن خلق آدم عليه السلام خارج عن الأيام الستة بعدها أو حاصل فى آخرها بعد خلق غيره كما سبق. ومن الآيات قوله تعالى فى سورة ق

ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما فى ستة أيام وما مسنا من لغوب

وجه الاستدلال بها ما قدمناه فيما قبلها. فهذه أربع آيات تدل على ذلك فيها كفاية. وأما قولنا إن خلق الذكور قبل الإناث فلأمرين أحدهما شرف الذكور على الإناث، والثانى حرارته، وإن كانت الإناث من جنس واحد من مزاج واحد فأحدهما أكثر حرارة من الآخر. فقد جرت عادة القدرة الإلهية بتكوين أقواهما حرارة قبل الآخر. والذكر أقوى حرارة من الأنثى، فناسب أن يكون وجوده أسبق، ولتحصل المنة به أكثر، ولذلك كان خلق آدم عليه السلام قبل خلق حواء، ولأن أعظم ما يقصده له الخيل الجهاد، والذكر فى الجهاد خير من الأنثى، لأن الذكر أجرى أعنى أشد جريا وأقوى جراءة، ويقاتل مع راكبه، والأنثى بخلاف ذلك، وقد تقطع بصاحبها وهو أحوج ما يكون إليها إذا كانت وديقا ورأت فحلا. ولا يرد على ذلك ركوب جبريل عليه السلام أنثى، لما جاز البحر بموسى عليه السلام، لأن ذلك لركوب فرعون فحلا، فقصد طلبه للأنثى، وعجز فرعون عن إمساك رأسه، وأما قولنا إن العربيات قبل البراذين فلما روى من حديث إسماعيل - عليه السلام - أن الخيل كانت وحوشا، وأن الله تعالى ذللها لإسماعيل. رواه ابن عباس، فهى مخلوقة قبل آدم متوحشة، إلى أن ذللها الله - عز وجل - لإسماعيل، أو ركبت ثم توحشت إلى أن ذللت له، روى الترمذى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - لما أذن الله - تبارك وتعالى - لإبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - لرفع القواعد، فقال الله تبارك وتعالى

" إنى معطيكما كنزا ادخرته لكما "

ثم أوحى الله تعالى إلى إسماعيل " ان اخرج إلى أجياد فادع يأتيك الكنز " فخرج إلى إجياد ولا يدرى ما الدعاء ولا الكنز، فأفهمه الله - تعالى - الدعاء، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته وأمكنته من نصايتها، وذللها الله تعالى. ولأن العربيات أشرف وآصل، والبرذون إنما يكون بعارض أوعلة، إما فيه أو في أبيه أو فى أمه. ولم تكن البراذين تذكر، فيما خلا من الزمان، ألا ترى إلى قصة إسماعيل وقصة سليمان عليهما السلام؟ وإنما البراذين ما انتخس من الخيل. حتى اختلف العلماء هل يسهم له كما يسهم للفرس العربى أو لا؟ وفى حديث مراسيل مكحول فى بعض ألفاظه للفرس سهمان وللهجين سهم. فهذه الرواية تقتضى أن الهجين من لا يسمى فرسا، والهجين هو البرذون. وبالجملة البراذين حثالة الخيل، وما كان الله تعالى ليخلق من الجنس حثالة فى الأول. والله أعلم. قال الشيخ هود - رحمه الله - عن الكلبى خلق الله كل شىء قبل آدم، وأشار بخلقه السماوات وما فى الأرض إلى أنه قادر على جمع مواد الإنسان بعد تلاشيها، وعلى إحيائها، وأشار إلى أنه عالم بها وبمواقعها بقوله { وهو بكل شىء عليم } الجزئيات والكليات، والمفصلات والمجملات أفلا تعتبرون أن من قدر على خلق السماوات والأرض، وما فيها وهن، أعظم قادر على بعثكم؟ فإن إتقان هذا الفعل العظيم، لا يتصور إلا من عالم حكيم، لا يعجزه ما تلاشى بلا نقص منه ولا زيادة إليه، فهذا رد على إنكار البعث، وإثبات لكونه تعالى رحيما وحكيما، إذ خلق ما خلق نفعا للخلق، كأنه قيل هو عليم بمصالحهم فخلق ما خلق على وجه الحكمة، وذلك أيضا تعليل جملى مستأنف معنوى، كأنه قيل خلق ذلك لأنه بكل شىء عليم، وليس التعليل مستفادا من الواو كما زعم بعضهم. قال ابن هشام قال الخازنجى تكون الواو للتعليل، وحمل عليه الواوات الداخلة على الأفعال المنصوبة فى قوله تعالى

أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون

أم حسبتم أن تدخلو الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين

يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين

انتهى. وها هو وهى متحركة عند نافع، وروى عنه قالون إسكانها، وكذا أسكنها أبو عمرو والكسائى، ووجه تسكينها تشبيههما مع ما دخل عليهما من واو أو فاء أو لام بفعل، بفتح الفاء وضم العين، فعل ككرم أو أسماء كعضد وما كان من الثلاثيات مضموم الوسط ومكسورها فيجوز تخفيفه بالإسكان. وسكنها قالون والكسائى أيضا مع ثم، فى قوله تعالى

ثم هو يوم القيامة

والباقون يحركون هاءهما.

[2.30]

{ وإذ قال ربك للملائكة } إذ ظرف زمان متعلق بقالوا أى قال الملائكة أتجعل فى الأرض من يسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك إذ قال ربك لهم { إنى جاعل فى الأرض خليفة } ولما قدمه وما يتصل به أظهره فيما بعد، وأضمر فيما بعد. قال الثانى أو متعلق بمعطوف على خلق المحذوف، أى وبدأ خلقهم إذ قال ربك للملائكة، أو متعلق بمفعول محذوف لا ذكر محذوفا أى واذكر الحادث إذ قال ربك للملائكة. حذف الحادث، وأقام الظرف مقامه، وبهذا أول قوله تعالى

واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه

فليست بدلا من أخا، بل الأصل اذكر أخا عاد، اذكر الحادث إذ، ومن قال إن إذ، تنصرف، أجاز أن تكون بدلا من المفعول وهو أخا ومفعولا اذكر إذ اذكر بلا مفعول نحو،

واذكروا إذا كنتم قليلا

واذكروا إذا أنتم قليل

واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح

واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد

ومفعولا لاذكر مقدرا إذ لم يذكر، أى واذكر وقت قول ربك للملائكة، ووقت كونكم قليلا. وهو صحيح عندى، ألا ترى أنه يصرف إلى الإضافة نحو حيئنذ ويومئذ؟ فكيف لا يصرف إلى المفعول؟ وهو اسم وضع لنسبة ماضية هى النسبة فى الجملة التى أضيف إليها وقعت فيه أخرى هى نسبة ناصبة كما أن إذا وضعت لزمان نسبة مستقبلة، وقعت فيه نسبة أخرى، وبنيا لشبه الحرف فى الافتقار لا لشبه الموصول، نعم هما شبيهان به فى لزوم الجملة بعده، وفى إذ سبب آخر هو الوضع على حرف، وفى إذا سبب آخر هو شبه أن الشرطية فى المعنى وقد استعمل إذ فى الاستقبال، أو فى التعليل، أو فى الجواب والجزاء، نحو أكرمك إذ أكرمتنى، وكذا إذا استعمل لثلاث نحو إذا أكرمتنى أكرمتك. والتى ينصب المضارع بعدها هى إذا، وإذا حذف ألفها للساكن. وقال معمر بن المثنى وأبو عبيدة إذ زائدة للتأكيد فى جميع القرآن. وليس بصحيح لأن الأصل عدم الزيادة ولا سيما فى الأسماء. وأضاف رب إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وخاطبه بالكاف تشرف من الله - جل جلاله - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إظهار اختصاصه به، والملائكة جمع ملك مفتوحة، فلام ساكنة، فهمزة مفتوحة. فكاف. نقلت فتحة الهمزة للام قبلها، فحذفت الهمزة تخفيفا. وردت فى الجمع فهو كشمائل جمع شمال. والأصل مالك بميم مفتوحة، فهمزة مفتوحة، فلام ساكنة. ثم أخرت الهمزة عن اللام، ونقل فتحها إليه وحذفت، وذلك أنه من الألوكة وهى الرسالة، لأنهم وسائط بين الله وبين الناس، فهم رسل الله. وأو كرسل بنى آدم من الله تعالى إليهم.

ولو جمعا على هذا الأصل، لقيل مآلكة بميم فهمزة مفتوحتين، فالألف، فلام مكسورة والتاء لتأنيث الجمع. قاله الزمخشرى قال السعد أى لتأكيد تنيث الجمع. وقيل للمبالغة، كتاء علامة ونسابة وراوية. والأول هو الصحيح. والميم زائدة كما علمت. وقيل الميم أصل من الملك، بكسر الميم أو فتحها، وهو القوة. فالهمزة فى الجمع على خلاف القياس، زائدة فيه. ليس فى لفظ المفرد ولا فى تقديره. وزيادة الميم هو قول الجمهور. فقدر الهمزة فى المفرد. والملائكة أجسام لطيفة من نور، وقيل من غيره، لكنها تضىء كالنور، وليست لحما ولا دما ولا عظما، قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، وهكذا تراهم الرسل، وقالت طائفة من النصارى إن الملائكة هى أرواح الفضلاء الطيبين، من بنى آدم، الذين ماتوا ومن اعتقد هذا حكمنا بإشراكه لقيام الأدلة القاطعة على أن الملائكة ليسوا بذلك، من الأحاديث الدالة على أن بعضا خلق من النور، وبعضا من الذكر ومن اعتقد غير ذلك فهو مخالف للإجماع والواجب أن تعلم أن كل جملة غير الأخرى الملائكة جملة، والجن جملة، وبنو آدم جملة. فإذا قلنا إن الملائكة أرواح الموتى الفضلاء لزم أن يكونوا من بنى آدم. وأيضا قامت الأدلة أن الملائكة تبعث على حدة، فيلزم من أن يكون بنو آدم مبعوثين بلا روح آخر، او غير مبعوثين، أو مبعوثين بأرواح غير ما كانت فيهم فى الحياة الدنيا. وذلك كله شرك، لأنه إنكار للبعث، الموصوف شرعا بأنه بأرواح وحياة، وأنه لا يترك منهم شىء غير مبعوث مما كان فيهم فى الدنيا، فكيف يبعثون بدون الروح التى كانت فيهم؟ وإنما ينادى الملك أيتها الأرواح ارجعى إلى أجسادك. وزعم الحكماء أنها جواهر مجردة، مخالفة للنفوس الناطقة فى الحقيقة، فهى أرواح لم تكن فى أجساد. والملائكة قسمان قسم للعبادة وهم العليون والمقربون والكربيون قال الله جل وعلا

يسبحون الليل والنهار لا يفترون

وقسم لخدمة ما أمر الله به من وحى وسحاب ورجم وغير ذلك. فمنهم المدبرات أمرا أوهم كلهم المدبرات أمرا. أعنى القسم الثانى بعضهم سماوى وبعضهم أرضى، قال الله تعالى

لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون

وإن قلت فمن المراد بالملائكة فى قوله { وإذ قال ربك للملائكة } قلت الذى يظهر لى من السياق أنهم الملائكة الذين فى الأرض، يومئذ سكنوها واختصوا بها، كما توصف اليوم بسكانها. ووصفت ملائكة السماوات بسكونهن. ألا ترى إلى لفظة الخليفة مع قولهم { أتجعل فيها.. } إلخ، وقولهم { ونحن نسبح } ثم وجدت قولا بذلك لمن تقدمنى. وقيل المراد بهم الملائكة وإبليس المحاربون للجن. ودخل إبليس فى خطاب الملائكة وفى ذكرهم، لأنه فيهم، ومتعبد بعبادتهم، وقيل جميع الملائكة لعدم المخصص. وإن قلت لأى فائدة قال الله جل وجلاله للملائكة ما قال لهم؟. قلت قاله لفائدة إقامة الحجة، فيذعن من يذعن وهم الملائكة ويعصى من يعصى ويكابر، وهو إبليس.

وليقولوا ما يقولون، فيظهر لهم الحكمة فى جعل الخليفة، وليزدادوا خضوعا إذا رأوا أن مخلوقا بشهوات وموانع عظيمة عن العبادة داعيات إلى المعاصى، اجتهد وخرقها، وأطاع الله، فيظهر لهم أن عبادته أفضل من عبادتهم، وللتبشير به بشر به الملائكة، فجوابهم له تعجب، كيف يكون هذا من جنس من يفسد ويسفك الدماء مبشرا به، لعدم علمهم بالسبب الحقيق، ولتعظيمه بتسميته خليفة، قبل خلقه ولإظهار فضلة الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم أتجعل فيها؟ وجوابه { إنى أعلم ما لا تعلمون } ولبيان أن المعتبر الغالب فى آدم - عليه السلام - الطاعة، فلا يترك الله - عز وجل - خيرا كثيرا لشر قليل، ولتعليم المشاورة فيشاور العظيم، ومن هو دونه من أهل الثقة والنصح، وإن كان غنيا بعلمه وحكمته، قبل إقدامه على أمر، وليصونهم عن اعتراض الشبهة، بعد جعل الخليفة، فإن الاعتراض بعد الفعل أعظم منه قبله، لأن فيه إبطالا للفعل والرأى وإزراء بالفاعل وهذا فى غير الملائكة. وأما هم فمنزهون. { إنى جاعل فى الأرض خليفة } أى مصير فيها خليفة. فجاعل من الجعل التصييرى متعد لاثنين، الأول خليفة والثانى فى الأرض. أو خالق فيها خليفة، فهو من الجعل بمعنى الخلق، متعد لواحد وهو خليفة، وفى الأرض متعلق على هذا بجاعل. وإنما نصب جاعل مفعولين أو المفعول لأنه للاستقبال، ومعتمد على مسند إليه وهو الياء. والمراد بالأرض الأرض مطلقا، لعموم اللفظ. وقال ابن سابط عن النبى صلى الله عليه وسلم إن الأرض هنا هى مكة، لأن الأرض دحيت من تحتها، ولأنها مقر من هلك قومه من الأنبياء. وإن قبر نوح وهود وصالح بين المقام والركن. والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه. وقرئ خليقة بالقاف أى نفسا مخلوقة، أو نفوسا مخلوقة. والجمهور يقرءون خليفة بالفاء، والتاء فيه تاء النقل من الوصفية إلى الاسمية، إذ أصله وصف وقيل للمبالغة، والمراد بالخليفة آدم - عليه السلام - لأنه خليفة الله فى أرضه، بمعنى أنه يعمل فيها بأمره وشرعه، وكل من يعمل فى موضع بأمر غيره فهو خليفته فيه. فمن يعمل بالمعصية فهو خليفة إبليس - أعاذنا الله من ذلك - وكل نبى خليفة الله - سبحانه وتعالى - فى عمارة الأرض بالعدل، وسياسة الناس، وتكميل النفوس، وليس ذلك لحاجة به تعالى عنها، ولكن خلق الناس غير مطيقين لسماع كلام يخلقه الله بلا واسطة، ولا لسماع كلام الملائكة وخلق الأنبياء مطيقين على سماع كلام الملائكة، فكانوا وسائط إلى الناس، وأطاق الملائكة على سماع كلام يخلقه الله جل وعلا وأطلق عليه بعض الأنبياء كموسى عند إرادة اقتباس النار، وعند المناجاة. وسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج، إذا قيل إنه سرى بجسده، ولا نقول إنه رأى الله.

فالنبى بين الملك والناس، كالغضروف بين اللحم والعظم، لعجز العظم عن أخذ الغذاء من اللحم، لتباعد ما بينهما إلا بالغضروف. وإن قلت لم ذكر الله - جل وعلا - آدم وحده دون ذريته؟ قلت لأنه وحده الخليفة، ولما مات كان ولده الصالح خليفة عنه، فولده خليفة الخليفة. وهكذا كل متأخر خليفة عن متقدم. ولك أن تقول أشار بآدم إلى آدم وبنيه، كما يقال مضر ويراد القبيلة وأبوها المسى مضر. ويطلق اسم أبو القبيلة عليها فقط أيضا. ويجوز أن يكون المراد بالخليفة جنس من يكون خليفة، فيشمل آدم وذريته. وقول ابن مسعود رضى الله عنه خليفة منى فى الحكم يحتمل آدم وحده، ويحتمل آدم وذريته، لكنه نص فى أن الخلافة عن الله - عز وجل - قال ابن عباس - رضى الله عنه - كانت الجن قبل بنى آدم فى الأرض، فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة فقاتلوهم. ولحقوا أكثرهم بجزائر البحار ورءوس الجبال. وخلق آدم وذريته وجعلهم خليفة. فهذا يتبادر منه أن المراد فى الآية الخلافة عن الجن وقيل أرسل إليهم قبيلا من الملائكة، وجعل رئيسهم إبليس فقاتلوهم ودمروهم وألحقوهم بالجبال والجزائر. وقيل الخليفة آدم وأنه سمى خليفة لأنه تخلفه أولاده. وذكر الكلبى أن الله - تعالى - جعل الملائكة عمار السماوات، ولكل أهل سماء دعاء وتسبيح وصلاة، وكل أهل سماء أشد عبادة وأكثر ممن تحتها. وكان إبليس فى جند من الملائكة فى السماء الدنيا، وكان الجن الذين خلق أبوهم من النار عمار الأرض. ولما وقع فيهم التحاسد والعتو اقتتلوا. فبعث الله جندا من الملائكة من السماء الدنيا فيهم إبليس وهو رأسهم ليجلوهم عن الأرض فألحقوهم بجزائر البحار. وسكن إبليس وجند الملائكة، فهان عليهم العمل فيها، وأحبوا المكث فيها، ثم أذن الله أن يخلق آدم وذريته فيكونوا هم عمار الأرض، فقال للملائكة الذين فى الأرض وإبليس { إنى جاعل فى الأرض خليفة } ورافعكم منها، فوجدوا من ذلك فقالوا ما ذكر الله - عز وجل - عنهم بقوله { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } بالمعاصى، وقيل بالشرك. { ويسفك الدمآء } الاستفهام لمجرد التعجب. إذ لم يعلموا ما السبب فى استخلاف من يفسد ويسفك، عمن لا يعصى طرفة عين، وليس اعتراضا على الله، لأن الاعتراض عليه كبيرة، وهم معصومون من الصغيرة والكبيرة، عندنا وعند جمهور قومنا، وزعم بعض قومنا أنهم غير معصومين، لاعتراضهم على الله - جل وعلا - وقد علمت أى ذلك تعجب لا اعتراض ولقصة هاروت وماروت، وسيأتى الجواب عنها، إن شاء الله، قال الله - عز وجل

وهم بأمره يعملون

وقال قبله

لا يسبقونه بالقول

ومن اعترض على أحد فقد سبقه بالقول، بمعنى صدر عن مراده، وكذلك ليس قولهم ذلك طعنا فى بنى آدم، على العموم، لأن ذلك بهتان. ولا فى من يعصى ويفسد ويتوب، لأن ذلك غيبة. بل إما طعن فيمن لا يتوب، وبغض له فى ذات الله لا انتصار لهم، وإما غير طعن بل مجرد تعجب وطلب لعلم السبب، لتزول شبهتهم، كما يسأل المتعلم والجاهل عما يعترض فى قلبه مما لا يجوز اعتقاده، ولم يشكا فى الدين، ولكن يجيبهما العالم. فكذلك هم تكلموا بتعجب ليخبر الله - جل وعلا - بالحكمة التى تلاشت فيها المفاسد والسفك، حتى اقتضت خلق من يفسد ويسفك، بدل من لا يعصى طرفة عين. وإن قلت من أين علموا أن بنى آدم يفسدون ويسفكون؟.. قلت قالوا ذلك قياسا على الجن لأنهم رأوهم فى الأرض قد أفسدوا وسفكوا، وعلموا ذلك منهم حتى قتلوهم بأمر الله - جل وعلا - كما مر. فقاسوا عليهم بنى آدم لأن الله - جل وعلا - أخبرهم أنه يسكنهم الأرض كما أسكن الجن فيها، وليسو مخلوقين فى غير الأرض. ثم أسكنوا الأرض كالملائكة، أو لأن الله أخبرهم أنه يخلقه من أشياء متضادة، كالماء الحار والبارد، والملح والعذب، والتراب الخشن واللين، فعلموا أن هذه الأشياء تتدافع وتتنافر فتحصل منها المفاسد والسفك، أو علموا أنه لا قوة واحدة تدعو للعبادة، وهى القوة العقلية، وقوتين شهوية وعصبية مؤديتين للمعصية، والواحد لا يقوى على اثنين. فتعجبوا ما الحكمة فى استخلافه مع أن الحكمة لا تقتضى خلقه فضلا عن استخلافه، لما فيه من القوتين الشهوية والعصبية، وأخبرهم الله بأنهم يكون منهم الإفساد والسفك، أو تلقوا ذلك من اللوح المحفوظ. أو ركز فى عقولهم أن المعصية من خواصهم، أو أعلمهم الله أنها من خواصهم، أو تلقوها من اللوح، أو قال الله لهم جل وعلا { إنى جاعل فى الأرض خليفة } بعدما خلقه من أشياء متضادة، وعلموا أنه مخلوق منها. وذلك قبل نفخ الروح أو بعده، فقالوا ذلك لعلمهم أن الأخلاط تؤدى للتنافر، فيحصل بها الحقد والغضب كما علمت، أو لما روى أن الله - تعالى - خلق النار، فخافت الملائكة وقالوا لمن خلقت هذه النار؟ قال لمن عصانى فلما قال { إنى جاعل فى الأرض خليفة } قالوا هذا الخليفة يكون منه من خلقت لهم النار. فهذه أوجه محتملة. قال ابن زيد وغيره إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون، فقالوا ذلك تعجبا من استخلاف الله من يعصيه، أو تعجب الملائكة إلى آخر تعديد نعمة تعم الناس كلهم، لأن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على الملائكة بأن أمرهم بالسجود له إنعام يعم ذريته، أو تعجبا من عصيان من يستخلفه الله، وينعم عليه بالاستخلاف ومن استخلاف من يعصيه.

وقال أحمد بن يحيى تغلب رأت الملائكة وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم من الدماء فى الأرض، فجاء قولهم { أتجعل فيها.. } الآية. على جهة الاستفهام المحض،هل هذا الخليفة يا ربنا على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟. وقال قوم كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق فى الأرض خلقا يفسدون ويسفكون الدماء. فلما قال لهم سبحانه بعد { إنى جاعل فى الأرض خليفة } قالوا ربنا أتجعل فيها؟ على جهة الاسترشاد. هل هذا الخليفة هو الذى كان أعلمهم به سبحانه قبل أو غيره. والاستفهام على القولين حقيقى لا تعجبى. وأما قول ابن جرير الطبرى قولهم أتجعل فيها ليس بإنكار لفعله - عز وجل - بل الاستخبار هل يكون الأمر هكذا؟ فليس جاريا على الاستفهام الحقيقى كم قد يتوهم، بل تعجبى لأنهم علمو أن الأمر يكون هكذا. فقالوا هل يكون الأمر هكذا؟ وقيل إن العبد المخلص فى حب سيده يكره أن يكون له عبد آخر يعصيه فكان سؤالهم على وجه المبالغة فى إعظام الله - جل وعز - وهذا أيضا غير خارج عن التعجب كما قد يتوهم، ويجوز أن يكون الاستفهام حقيقيا بطريق آخر غير ما تقدم، وهو أن يتسلط على القيد الذى هو الحال المقرونة بالواو فى قوله { ونحن نسبح بحمدك } ولا نشرك كما يشرك جنس الخليفة. { ونقدس لك } كأنهم قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ ونحن باقون على التسبيح والتقديس؟ أم نتغير عن هذا الحال؟ وقولهم نحن نسبح بحمدك.. إلخ على هذا الوجه استخبار على بقاء التسبيح والتقديس. وأما على أوجه التعجب والاستفهام غير هذا الوجه، فهو تمدح ووصف لحالهم، كقول يوسف إنى حفيظ عليم. وهو أيضا حال. وماضى سفك يسفك، بفتح الفاء، وقرئ يسفك. بضم الفاء، وماضيه، مفتوح الفاء، كذلك. وقرئ يسفك، بضم الياء وإسكان السين وكسر الفاء، مضارع أسفك بالهمزة بمعنى المجرد منها وقرئ يسفك بضم الياء وفتح السين وكسر الفاء مشددة، وهذا عندى للمبالغة لا لموافقة المجرد. وقرئ يسفك بالبناء للمفعول وإسكان السين، ورفع الدماء. وعلى هذه يكون الرابط محذوفا، أى من يسفك فيهم الدماء. والسفك صب الدم أو الدمع فى اللغة. والمراد هنا الأول. كما صرح به لفظ الدماء. والسبك فى الجواهر المذابة كالفضة، يقال سبكت الفضة بمعنى أذبتها وأفرغتها فى قالب من القوالب.. والسبك الصب من أعلى والشن بالشين والسين، فى الصب من فم القربة ونحوها، وسننت التراب صببته، بالسين، وسننت الماء على وجهى متفرقا، بالسين، صببته. وإن صببته فى الأرض مثلا متفرقا فبالشين. والتسبيح عن الشىء الإبعاد عنه، أى نبعدك عما لا يليق بك من الصفات، يقال سبح فى الأرض والماء إذا ذهب فيهما إلى مكان بعيد إلى أمام أو تحت.

والأصل نسبحك فحذفت الكاف. أو نسبح لك، على أن اللام تأكيد، أو على تضمين نسبح معنى تخضع، والتسبيح حقيقة فى الذهاب فى الماء فقط، مستعار فى غيره. وبحمدك متعلق بمحذوف جوازا حال من الضمير فى نسبح، أى ملتبسين بحمدك، والباء للإلصاق المجازى، إذ بمعنى مع أى ثابتين مع حمدك، ومعنى الالتباس والاصطحاب المقارنة بلا فصل يفتتحون الحمد عقب ختم التسبيح، قال قتادة تسبيحهم قولهم سبحانه على عرفه فى اللغة، وبحمدك معناه نصل التسبيح بحمدك، فتراه صرح بالوصل به بعده، ولم يتكلف اتحاد الوقت. وروى البخارى ومسلم عن أبى ذر

" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أى الكلام أفضل؟ فقال " ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحانه الله وبحمده " "

فتراه أشار إلى تسبيحهم بحمده هو قولهم سبحانه الله وبحمده، فترى الحمد بعد التسبيح متصلا به. وأما أن يجعل أحدهما بالقلب والآخر باللسان ليتحد الوقت فتكلف، ويأتى كلام فى ذلك. وقال ابن عباس وابن مسعود تسبيح الملائكة صلاتهم. ولك تعليق بحمدك نسبح أى ننزهك بالثناء عليك. فإن التلفظ بلفظ الثناء تنزيه له - تعالى - والتقديس أيضا الإبعاد. قدست الله أبعدته عن النقص، وقدس عمرو فى الأرض أبعد فيها. والتقديس بمعنى التطهير مجاز مفرع على معنى الإبعاد، واللام للتأكيد، والأصل ونقدسك. ويجوز أن يكون قولهم يحمدك تبرأ عن الحول والقوة إلى الله، كأنهم قالوا نسبحك بإذنك وتوفيقك إيانا إلى المعرفة والتسبيح، ويناسبه تكبير التسبيح بالتنزيه، وتفسيره بالصلاة، قال أبو ذر قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم

" ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى سبحانه الله وبحمده "

وعنه صلى الله عليه وسلم

" كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم "

ويجوز أن تكون لام لك للتعليل، ومفعول نقدس محذوف، أى نبعد أنفسنا أو نطهرها من الذنوب لأجلك، ولا نعصى كما يعصى من يستخلفك بسفك الدماء، الذى هو من أعظم الأفعال الذميمة، وقال الضحاك معنى نقدس لك نظهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك، فهلى لام شبه التمليك. وقال آخرون نعظمك ونظهر ذكرك مما لا يليق به. وكذا قال مجاهد. والله أعلم. قال بعض الأندلسيين حكى جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن على أن سبب وضع البيت فى الأرض والطواف به أن الله - تعالى - قال للملائكة { إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }؟ قال خلف بن ياسين بلغنى أن الله - تبارك وتعالى - أعرض عنهم ثلاثمائة سنة قبل أن يجيبهم، فخافوا أن يكونوا قد سخط عليهم الله فى إعراضه إذ لم يوح عليهم، فطافوا حول العرش ثلاث مائة سنة، وطافوا حوله ثلاث طوفات يدعون ربهم ويسترضونه، واستغفارهم

غفرانك ربنا وإليك المصير

فرضى عنهم وأجابهم بما ذكر الله عز وجل بقوله { قال إنى } بفتح الياء عن نافع وابن كثير وأبى عمرو، وإسكانها عند الباقين. وكذا فى قوله

ألم أقل لكم إنى أعلم

{ أعلم ما لا تعلمون } وقال لهم ابنوا لى بيتا فى الأرض، يعوذ به من سخطت عليه من بنى آدم، ويطوف حوله كما فعلتم بعرضى فأرضى عنكم. فبنوا له الكعبة، ومعنى { إنى أعلم ما لا تعلمون } أنى أعلم من وجوه المصلحة والحكمة فى جعل الخليفة فى الأرض. وقيل أعلم أنهم يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم. وقيل أعلم من يطيعنى وهم الأنبياء والأولياء والصالحون، ومن يعصينى وهو إبليس. قال قتادة لما قالت الملائكة { أتجعل فيها... } إلخ وقد علم الله أن فيمن يستخلف فى الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعته قال { إنى أعلم ما لا تعلمون } يعنى أفعال الفضلاء. قال ابن عباس أعجب إبليس بنفسه ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا، واعتقد أن ذلك لمزية، فلما قالت الملائكة { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } وهم لا يعلمون أن فى نفس إبليس خلاف ذلك، قال الله سبحانه وتعالى { إنى أعلم ما لا تعلمون } يعنى ما فى نفس إبليس. ويجوز أن يكون المعنى إنى أعلم ما لا تعلمون من غلبة القوة العقلية، على القوة الشهوية والغضبية، فإنهما تضمحلان فى القوة العقلية اضمحلال الظلمة عند النور، ومن أنه إذا زادت غلبة العقلية عليهما استعملهما حيث يريد، وصارتا مطواعين له، فيستعمل الغضبية فى جهاد المشركين والمنافقين، وفى قهر النفس والشيطان، فيغضب عليهما فيجتهد فيما يغضبهما، وفى الأمر والنهى غضبا لله من قلبه، مع غضب بدنه ولسانه، إذا كان الصالح غضبهما، ويستعمل الشهوية فيما يشتهيه من أمر الآخرة والدين وإعزازه وإقامته، فإن الملائكة لما علموا بالقوى الثلاث القوة الشهوية والغضبية والعقلية ترجح عندهم أو تعين أن الواحدة لا تغلب اثنتين وغفلواعما ذكرت. وعن المخلوق يحصل ما لا يحصله غير المركب من نوعين فصاعدا، ألا ترى الأدوية المركبة، كيف تنفع نفعا لا تفيده الأجزاء التى تركب منها، كذلك الإنسان لما تركب من أجزاء مختلفة، وقوى متباينة، صار مستعدا لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات، مستنبطا للصناعات ومحيطا بالجزئيات ومستخرجا لمنافع الكائنات من القوة إلى الفعل، من عبادة وصناعة، وآراء سديدة، وسياسات مما به صلاح الدين والدنيا. والله أعلم. وذلك مقصود بالاستخلاف لكون فوائد استخلافه لا يحصيها إلا خالقها، أجابهم بجواب مبهم تفخيما له إذ قال { إنى أعلم ما لا تعلمون } ولم يقل إنى أخلقه لكذا. قال فى عرائس القرآن قالت الحكماء خلق الله تعالى الخلق ليظهر وجوده، فلو لم يخلق الخلق لما عرف أنه موجود، وليظهر كمال عقله وقدرته، بظهور أفعاله المتقنة، لأنها لا تتأتى إلا من قادر حكيم.

وليعبد فإنه تجب له عبادة العابدين، ويثيبهم عليهم على قدر أفعاله لا أفعالهم، وإنه غنى عن عبادة خلقه لا تزيد فى ملكه طاعة المطيعين، ولا تنقص من ملكه معصية العاصين، قال الله تعالى

وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

وليظهر إحسانه أنه محسن، وأوجدهم ليحسن إليهم وليتفضل عليهم بفضله، لأنه يقضى بالعدل وخلق المؤمنين خاصة للرحمة. كما قال الله عز وجل

وكان بالمؤمنين رحيما

وقال

ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم

وقال جعفر بن محمد الصادق والضحاك أى للرحمة خلقهم وليحمدوه، فإنه يجب له الحمد. ويروى أن آدم عليه السلام لما خلقه الله تعالى، عرض عليه ذريته، ووجد فيهم الصحيح والسقيم، والحسن والقبيح، والأسود والأبيض. قال يا رب هلا سويت بينهم، فقال الله تعالى إنى أحب أن أشكر. قال أبو الحسن خلق الله تعالى الملائكة للقدرة، وخلق الأشياء للعزة، وخلق بنى آدم للمحبة. قال الله تعالى

الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم

قالت العلماء خلقكم لإظهار القدرة، ثم رزقكم لإظهار الكرم، ثم يميتكم لإظهار القهر، ثم يحييكم لإظهار الفضل والعدل والثواب والعقاب. ومنهم من قال خلق الخلق جميعا لأجل محمد - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس رضى الله عنه أوحى الله تعالى إلى عيسى - عليه السلام - أن آمن بمحمد وأمر أمتك يؤمنوا به. ولولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن. قيل خلقهم لأمر عظيم غيب عنهم، لا يظهره حتى يحل بهم ما خلقهم له. قال الله تعالى

أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون

قال على بن أبى طالب يا أيها الناس اتقوا ربكم، فما خلق امرؤ عبثا فيهملكم. قال الأوزاعى بلغنى أن فى السماء ملكا ينادى كل يوم ألا ليت الخلق لم يخلقوا، ويا ليتهم إذا خلقوا عرفوا لماذا خلقوا، وجلسوا فذكروا ما عملوا. وكان ابن عبد الرحمن الزاهد يقول فى مناجاته اللهم غيبت عنى أجلى، وأحصيت على عملى، ولا أدرى إلى أى الدارين تصيرنى، لقد أوقفتنى وقفة المحزونين ما أبقيتنى. وقال أبو الهيثم الحكيم إن الله تعالى جعل ابن آدم بين البلوى والبلى فما دام الروح فى جسده لا يخلو من البلوى، فاذا فارق الروح صار إل البلى، فأنى له السرور وهو بين البلوى والبلى؟ وكان بعض الحكماء يقول يا ابن آدم انظر إلى خطر مقامك فى الدنيا، إن ربك حلف لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين.

وإن إبليس حلف فقال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. فأنت المسكين بين الله وبين إبليس، مطروح لاه ساه، ولما أراد الله خلق آدم عليه السلام، أوحى الله إلى الأرض إنى خالق منك خلقا منهم من يطيعنى ومن يعصينى، فمن أطاعنى أدخله الجنة ومن عصانى أدخلته النار. ثم بعث إليها جبريل عليه السلام ليأتيه بقبضة من تراب الأرض، فما أتاها ليقبض منها القبضة قالت الأرض إنى أعوذ بعزة الله الذى أرسلك أن تأخذ منى اليوم شيئا يكون فيه للنار نصيب، فرجع جبريل عليه السلام إلى ربه، ولم يأخذ منها شيئا. فقال يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها، فأمر الله ميكائيل فأتى الأرض فاستعاذت بالله أن يأخذ منها شيئا، فقال يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها. فبعث الله ملك الموت فأتاها فاستعاذت بالله أن يأخذ منها شيئا فقال وأنا أعوذ بالله أن أعصى له أمرا، فقبض من أعلاها من سبختها وطيبها وأبيضها وأحمرها وأسودها، فكذلك فى بنى آدم الطيب والخبيث، والصالح والطالح واختلفت صورهم وألوانهم. قال الله عز وجل

ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم

قال صلى الله عليه وسلم

" إن الله تعالى قبض قبضة من جميع الأرض، سهلها وحزنها، فخلق منها آدم، فلذلك يأتى بنوه أخيافا "

رواه الحاكم وصححه والبيهقى. والحزن ما غلظ من الأرض. والأخياف مختلفون فى اللون والخلق والهيئة. وقال أبو موسى الأشعرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" خلق الله آدم من طينة من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأبيض والأحمر والأسود، والسهل والحزن، والحسن والقبيح، والخبيث والطيب "

وعن ابن عباس خلق الله آدم من طينة بيضاء وحمراء وسوداء ثم صعد بها ملك الموت إلى الله تعالى فأمر أن يجعلها طينا بالماء المر والعذب ولمالح فعجنها ثم جعلها طينا فخمرها، فلذلك اختلفت أخلاقهم، ثم أمر جبريل أن يأتى بالتربة البيضاء التى هى قلب الأرض وبهاؤها ونورها، ليخلق منها محمدا صلى الله عليه وسلم، فهبط جبريل فى ملائكة الفردوس المقربين والكروبيين والملائكة الأعلى، فقبض قبضة من موضع قبر النبى صلى الله عليه وسلم، وهى بيضاء نقية، فعجنت بماء التسنيم وصارت كالدرة البيضاء، ثم غمست فى أنهار الجنة، وطيف بها فى السماء والأرض، فعرفته الملائكة قبل أن تعرف آدم عليهما الصلاة والسلام، ثم عجنها بطينة آدم عليه السلام، ثم تركها أربعين سنة، وصارت طينا لازبا، ثم أربعين سنة وصارت صلصالا كالفخار، وهو الطين اليابس، الذى إذا ضربته صلصل أى صوت، ليعلم أن أمره بالصنع والقوة لا بالطبع والحيلة، فإن الطين اليابس لا ينقاد ولا يتأتى تصويره، ثم جعله جسدا وألقاه على طريق الملائكة، التى تهبط وتصعد فيه أربعين سنة.

فذلك قوله تعالى

هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا

قال ابن عباس - رضى الله عنهما - الإنسان دم والحين أربعون سنة كان آدم حينئذ ملقى على باب الجنة. وفى صحيح الترمذى بالإسناد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى تفسيره سورة البقرة

" إن الله تعالى خلق آدم بيده أى بقدرته، من قبضة قبضت من جميع الأرض السهل والوعر والجبل، والأسود والأبيض والأحمر. فجاءت أولاده على ألوان الأرض "

وسأل عبد الله بن سلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف خلق الله آدم؟ قال خلق وجهه من أرض الحجاز، وصدره وظهره من بيت المقدس، وفخذيه من أرض اليمن، وساقيه من أرض مصر، وقدميه من أرض الحجاز أيضا، ويده اليمنى من أرض المشرق، واليسرى من أرض المغرب، ثم ألقاه على باب الجنة فكلما مر به ملك من الملائكة عجب من حسن صورته وطول قامته ولم تكن الملائكة قبل ذلك رأت شيئا يشبهه فى الصور. فمر به إبليس فرآه ثم قال لأمر ما خلقت ثم ضربه بيده، فإذا هو أجوف، فدخل من فيه وخرج من دبره. وقال لأصحابه الذين معه من الملائكة هذا خلق أجوف لا يثبت ولا يتماسك، أى لا يثبت فى الهواء كالطير والملك والجن. وروى لا يتمالك أى لا يصير ملكا ثم قال أرأيتم أن فضل هذا عليكم ما أنتم صانعون؟ قالوا نطيع ربنا، فقال إبليس فى نفسه والله لا أطيعه، ولئن فضل على لأهلكنه، فذلك قوله تعالى للملائكة

وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون

يعنى ما أظهرت الملائكة من الطاعة وما أسر إبليس فيهم وهو من المعصية فقال

إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين

وفى الخبر أن جسد آدم بقى ملقى أربعين سنة يمطر عليه الحزن، ثم أمطر عليه السرور سنة واحدة، فلذلك كثرت عليهم الهموم فى أولاده، وتصير عاقبتهم إلى الفرح والراحة. وأنشد ابن عوانة الأهرجانى

يقولون إن الدهر يومان كله فيوم مخالفات ويوم مكاره وما صدقوا فالدهر يوم مخافة وأيام مكروه كثير إذاؤه

وأنشد ابن الأعرابى

محن الزمان كثيرة لا تتقى وسروره يأتيك فى الفلتات

وأنشد أبو بكر الموصلى لابن المعتز

أى شىء تراه أعجب من ذا لو تفكرت فى صروف الزمان حادثات السورة توزن وزنا والبلايا تكتال فى المكيال

ولما أراد الله - تعالى - نفخ الروح فى آدم - عليه السلام - أمرها أن تدخل فيه، فقالت الروح كيف أدخل بعيد القعر مظلم المدخل؟ فقال الله لها ذلك ثانية، فقالت كذلك، وقال ثالثة فقالت ذلك، فقال فى الرابعة ادخلى كرها وستخرجين كرها، فدخلت فى دماغه، وبقيت فيه مائتى سنة، ثم نزلت فى عينه، والحكمة فى ذلك أن ينظر آدم إلى بدء خلقه، ويرى باقى جسده طينا يابسا، لئلا يزهو ويعجب بنفسه، إذا تتابعت عليه الكرامات.

ثم نزلت إلى خياشيمه وفمه، فعطس بعد فراغه، فلقنه الله تعالى، فقال الحمد لله رب العالمين. فكان ذلك أول من جرى على لسانه، فأجابه الله عز وجل يرحمك الله يا آدم، للرحمة خلقتك. وقال تعالى ورحمتى سبقت غضى. ثم نزلت إلى صدره، فأخذ يعالج القيام فلم يمكنه. وذلك قوله

وكان الإنسان عجولا

ولما وصلت الروح إلى جوفه اشتهى الطعام، فهو أول حرص دخل على آدم فى جسده. وفى بعض الأخبار أن آدم - عليه السلام - لما قال له ربه عز وجل يرحمك الله، مد آدم يده ووضعها على أم رأسه، وقال أواه، فقال الله تعالى ما لك يا آدم؟ فقال إنى أذنبت ذنبا، فقال له ومن أين علمت ذلك؟ فقال إن الرحمة للمذنبين. فصار ذلك سنة فى أولاده، إذا أصابت أحدهم مصيبة أو محنة، وضع يده على رأسه وتأوه. ثم انتشرت الروح فى جسده كله، فصار لحما ودما وعظما وعروقا وعصبا، ثم كساه الله - تعالى - لباسا من ظفر يزداد كل يوم حسنا فلما قارف الذنب بدل بهذا الجلد، وأبقيت منه بقية فى أنامله ليتذكر به أول حاله. قال عبد الله بن الحارث كانت الدواب تتكلم قبل خلق آدم - عليه السلام - وكان النسر يأتى الحوت فى البحر فيخبره بما فى البر، ويخبره الحوت بما فى البحر. فلما خلق الله آدم جاء النسر إلى الحوت وقال لقد خلق اليوم خلق ليزيلنى من وكرى، وليخرجنك من البحر. وفى رواية له قبض وبسط ولما نفخ الروح فيه قرطه الله وشنفه، وصوره وختمه ومنطقه، ألبسه من لباس الجنة، وزينه بأنواع الزينة، يخرج من ثناياه نور كشعاع الشمس، ونور محمد - صلى الله عليه وسلم - يلمع من جبينه، كالقمر ليلة البدر. ثم رفعه الملائكة فوق سرير على أكتافهم بأمر الله - عز وجل - وقال لهم طوفوا به فى سماواتى ليرى عجائبها وما فيها وليزداد يقينا. وقالت الملائكة لبيك ربنا سمعنا وأطعنا، فحملته الملائكة على أعناقها، فطافت به الملائكة السماوات مقدار مائة عام، حتى وقفوا به على كل شىء من آياتها وعجائبها. ثم خلق الله فرسا من المسك الأذفر، يقال له الميمون له جناحان من الدر والمرجان، فركبه آدم - عليه السلام - وجبريل أخذ بلجامه، وميكائيل عن يمينه، وإسرافيل عن يساره، وآدم عليه السلام يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال الله - عز وجل - يا آدم هذه تحيتك وتحية المؤمنين من ذريتك فيما بينهم إلى يوم القيامة. وروى أن الله - جل وعلا - قال للأرض إنى أخلق منك خلقا منهم من يطيعنى، ومن يعصينى، فمن أطاعنى أدخلته الجنة، ومن عصانى أدخلته النار.

فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة. وروى أنه لما أخذ منها عزرائيل قبضة وصعد منها إلى السماء، سأله ربه - عز وجل - وهو أعلم عما صنع، فأخبره بما قالت الأرض وبما رد عليها، فقال الله عز وجل وعزتى وجلالى لأخلقن مما جعلت به خلقا، ولأسلطنك على قبض أرواحهم، لقلة رحمتك. وإن عدو الله إبليس رآه أجوف فقال هذا خلق لا يتمالك، أى لا يكون ملكا، أو لا يستقل من الطعام والشراب، بل يحتاج إليهما. وإنه لما وصلت الروح منخريه عطس، ولما بلغت لسانه قال الحمد لله رب العالمين، وهى أول كلمة قالها، فناداه الله تعالى رحمك الله يا أبا محمد، ولهذا خلقتك. وجعل فى رأسه سبعة أبواب وهن الأذنان يسمع بهما، والعينان يبصر بهما والمنخران يشم بهمان والفم وفيه اللسان يتكلم به، والأسنان يطحن بهما، وبتاتين فى أسفل جسده وهما القبل والدبر، يخرج منهما ثفل طعامه وشرابه. وجعل عقله فى دماغه، وفكرته فى قلبه، وشرهه فى كلوتيه، وغضبه فى كبده، ورعبه فى رئته، وضحكه فى طحاله، وفرحه فى وجهه. فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم وينطق بلحم. قال صلى الله عليه وسلم

" خلق الله آدم عليه السلام وطوله ستين ذراعا، ثم قال اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة، فاستمع ما يجيبونك فإنه تحيتك وتحية ذريتك. فقال السلام عليكم، فقال السلام عليك ورحمة الله. وكل من يدخل الجنة على صورة آدم "

رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة. قال فلم يزل الخلق ينقص إلى الآن. قال ابن عباس رضى الله عنهما كان جسد آدم ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه، فمر عليه إبليس فقال لأمر خلق هذا. ولما أسكنه الله سبحانه وتعالى الجنة، لم يكن فيها من يجالسه ويؤانسه، فألقى الله تعالى عليه النوم فنام فأخذ الله ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر، يقال له القصير فخلق منه حواء من غير أن أحس آدم بذلك، ولا وجد له ألما. ولو ألم آدم من ذلك لما عطف رجل على امرأة أبدا، ثم ألبسها من لباس الجنة، وزينها بأنواع الزينة، وأجلسها عند رأسه. فلما انتبه من نومه رآها قاعدة عند رأسه، فقالت الملائكة لآدم يمتحنون علمه ما هذه يا آدم؟.. قال امرأة، قالوا وما اسمها؟.. قال اسمها حواء، قالوا ولم سميت بذلك؟ قال لأنها خلقت من شىء حى. قالوا ولماذا خلقها الله؟ قال لتسكن إلى وأسكن إليها. فذلك قوله تعالى

وجعل منها زوجها ليسكن إليها

قال صلى الله عليه وسلم

" خلقت المرأة من ضلع أعوج، فإن تقومها تكسرها، وإن تركتها تنتفع بها على عوجها "

ويقال الحكمة فى الرجال، يزدادون على ممر الأيام والليالى حسنا وجمالا، والنساء يزددن على مر الأيام قبحا، إنهن خلقن من اللحم، واللحم على مر الأيام يفسد. وفى بعض الأقاصيص أن آدم - عليه السلام - لما رأى حواء مد يده إليها، قالت الملائكة مه يا آدم. قال ولم وقد خلقها الله لى؟ قالت الملائكة حتى تؤدى مهرها، قال وما مهرها؟ قالوا أن تصلى على محمد ثلاث مرات، قال ومن محمد؟ قالوا آخر الأنبياء من ولدك، لولا محمد ما خلقت. وروى سعيد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" إذا أراد الله أن يخلق جارية، بعث إليها ملكين أصفرين بالدر والياقوت، فيضع أحدهما يده على رأسها، ويضع أحدهما يده على رجليها، ويقولان بسم الله ربنا وربك الله، ضعيفة خلقت من ضعيف، ينفق عليها إلى يوم القيامة "

وقيل لما انتبه آدم من نومه، رآها جالسة عند رأسه، كأحسن ما خلق الله تعالى. فقال لها من أنت؟.. قالت زوجتك، خلقنى الله لك تسكن إلى وأسكن إليك. وذكر بعضهم أن إبليس كان يطوف بآدم قبل أن ينفخ فيه الروح ويقول إن كنت أجوف فلى إليك سبيل، وإن لم تكن أجوف فليس لى إليك سبيل. وذكر بعضهم أن أول ما خلق الله فى الأرض طير وحوت، فجعل الطير يخبر الحوت بخبر السماء، وجعلت الحوت يخبر الطير بخبر الأرض، فلما خلق الله آدم جاء الطير إلى الحوت فقال لقد خلق اليوم خلق كذا وكذا، فقال الحوت للطير لئن كنت صادقا لينزلنك من السماء. وليخرجنى من الماء. قال الكلبى أشفق إبليس عدو الله منه وقال إنى لأرى صور مخلوق سيكون له بناء.

[2.31]

{ وعلم } هذا نص فى جواز إسناد التعليم إلى الله - تعالى - ولا ينطلق عليه أنه معلم لأن أسماءه توقيفية. وقال القاضى لاختصاص المعلم بمن يحترف بالتعليم. { آدم } وقرئ ببناء علم للمفعول، ورفع آدم وهو اسمه صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا محمد، باسم نبينا - محمد - صلى الله عليه وسلم - ويكنى أيضا أبا البشر. وتكنيته بأبى محمد مزية وخصوصية للنبى - صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن بغيره من أولاده. { الأسماء كلها } إما بإلهام، وهو أن يلقى فى قلبه أسماءها بلا سابقة اصطلاح ولا كلام، وهو من أنواع التعليم، فان التعليم المتأثر تصيير الشىء عالما، سواء بكلام أو إشارة إو إلهام. ومطلق التعليم إحضار أسباب العلم، فإن تأثرت قبل علمه فتعلم، وإن لم تؤثر قبل علمه فلم يتعلم

رب زدنى علما

وإما بخلق علم ضرورى فيه بتلك الأسماء، كما خلق فينا معرفة أن مسمى الاثنين المتساويين أكبر من مسمى أحدهما، وإما بواسطة ملك، وإما بخلق كلام فى الهواء، أو فيما شاء من مخلوقاته يسمعه، هكذا قلت، مستخرجا لتلك الأوجه، ثم رأيت بعضا - والحمد لله - ذكرها أقوالا بل بعضها، إذ قال هذا التعليم إلهام عند قوم وتعليم بواسطة ملك، أو بتكليم قبل هبوط الأرض، فلا يشارك موسى - عليه السلام - فى خاصته. وقال عبد الله بن أبى حجرة، وهو مغربى غير أندلسى لكنه دخل الأندلس تعليمه سبحانه لأدم الأسماء كلها، إنما كان بالعلم اللدنى بلا واسطة. وآدم اسم عجمى لا عربى، فإذا كان عجميا لم يصح أن يقال مشتق من الأدمة، بضم الهمزة وإسكان الدال، كما قيل إن لونه أدمة، وبه قال الشيخ هود، بفتح الهمزة والدال، بمعنى القدوة بالواو، من حيث إنه إمام فى الخير وأصل لأولاده، ولا من أديم الأرض من حيث إنه خلق من أديمها، أى وجهها، ولا من الأدم أو الأدمة، بسكون الدال، بمعنى الألفة لأن الاشتقاق من خصائص العربية فلا يقال أيضا إدريس من الدرس ولا يعقوب من العقب ولا إبليس من الإبلاس، وهو انقطاع الرجاء. اللهم إلا أن يقال إن الأدمة والأديم والأدم والأدمة وردت فى تلك اللغة فى تلك المعانى، ووافقت فيها العربية، وكذا فى إدريس ويعقوب وإبليس، لكن يحتاج إلى دليل على ورود هذه الألفاظ فى العجمة، موافقة لمعانيها العربية. ثم ظهر لى أنه لا مانع من الاشتقاق فى العجمة. ألا ترى أنا نقول فى لغتنا البربرية ءاسوا، بهمزة مفتوحة فألف فسين ساكنة فواو مفتوحة، بمعنى الشرب ويسوى وبياء مثناة مفتوحة فسين ساكنة فواو مضمومة ممدودة بواو ساكنة بعدها. بمعنى شرب ولو كانت التصاريف لا تكمل فيها، وإنما الحجة عدم الدليل على توافق معانى تلك الألفاظ فى العجمة لمعانيها فى العربية، ولا على ورودها فى العجمة، فيشتق منها آدم، فإذا تقرر أنه عجمى فاعلم أن وزنه فاعل كآزر وشالخ، بفتح العين والزاء واللام، وبذلك قال الزمخشرى والقاضى فى تفسيرهما.

قلت إذا قيل بعجمته فوزنه بذلك وزن طبعى لا صرفى، لأنه إذا كان عجميا فيما نعرف أن ألفه فى العجمة زائدة ولعلها أصل، والزائد هو الهمزة قبلها، اجتمعت الهمزتان فقلبت الثانية ألفا. ولعلهما معا أصلان. وقال الزمخشرى فى مفصله إنه عربى وزنه أفعل فالزائد الهمزة والألف بدل من همزة أصلية. والله أعلم. والمراد بأسماء الألفاظ الدالة على مسميات سواء كانت أسماء نحوية، وهى ما قابل الأفعال والحروف، أو كانت أفعالا، أو كانت حروفا، وإطلاق الاسم على ذلك كله، وعلى كل ما يدل على الشىء ويدفعه إلى الذهن، ولو بلا تلفظ. وأصل اللغة ثم اشتهر لفظ الاسم عرفا فى كل لفظ دل على مسمى، ثم فى مقابل الحرف والفعل وقل فى الحرف والفعل، ثم خص فى النحو بمقابل الفعل والحرف. فإن الله - سبحانه وتعالى - علم آدم الأسماء ومعانيها، والأفعال ومعانيها، والحروف ومعانيها. ووجه تعميم ذلك كله بلفظ الاسم أن اللفظ يرفع المعنى إلى الذهن، ويكون عليه علامة فقام علامة على معناه، وبه يرتفع معناه إلى الذهن. وكذا إن وما أشبههما من الأفعال والحروف والمراد فى الآية المعنى الذى ذكرت أنه أصل اللغة، أو المعنى الثانى العرفى، وهو يستلزم الأول لأن العلم بالألفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعانى، وقيل علمه الألفاظ فقط - وهو ضعيف - لخلوه من عظم الفائدة. واستدل مكى والهدوى بالآية على الاسم هو المسمى، ولا دليل فى ذلك، وليس تصحيح مذهبنا متعلقا بهذه الآية ، فى كون الاسم هو المسمى. بل الحق أن الاسم فيها هو اللفظ ولا نكر إطلاق الاسم على اللفظ فى سائر الكلام، فإن قلت فبأى لغة علمه الأسماء؟ قلت قد صح فى حديث أبى ذر أن آدم سريانى، فيقول عمله باللغة السريانية سرا عن الملائكة. وجزم بذلك الشيخ هود. قال ابن عباس علمه اسم كل شىء حتى القصعة والقصيعة. وقيل علمه كل لغة، وإن الأسماء بمعنى اللغات، وعلمهن أولاده، وكلما كثروا وتفرقوا فى البلاد اقتصر كل قوم على لغة. وعلى الأول فباقى اللغات بالوضع. قيل خلق الله كل حيوان وجماد وماء ونبات، وعلم آدم الأسماء كلها. هذا بعير وهذا جمل وهذه ناقة وهذا جبل وهذه أرض وهذا فرس وهذه شاة... وهكذا. قال الكلبى علمه أسماء الخلق، ثم حشر الدواب والسباع والطير وما ذرأ فى الأرض. قال ابن عباس وقتادة ومجاهد علمه اسم كل شىء من جميع المخلوقات، دقيقها وجليلها، وقيل علمه منافع كل شىء ولماذا يصلح.

ونسبة بعضهم للجمهور وليس كذلك. بل الجمهور يقولون أسماء المسميات كلها، ووجه ذلك القول أن المنفعة العظمى تحصل بمعرفة المنافع. وقال الطبرى علمه أسماء ذريته والملائكة، وقيل أسماء ذريته ونسب لعبد الرحمن. وقيل أسماء الملائكة ونسب للربيع بن أنس. وقيل إن الأسماء بمعنى المسميات وأنه علمه الأشخاص والمسميات كلها. والجمهور على أنه علمه الأسماء كما يدل له { أنبئونى بأسمآء هؤلآء } واستدل من قال الأشخاص والمسميات بقوله { ثم عرضهم } فيجاب بتعليم أن المعروض الذوات، لكن دل عليها الأسماء لاستلزامها المسميات. وليست الأسماء هى المسميات واستخبرهم عن أسمائها. والتحقيق أن الله - سبحانه تعالى - علمه الأسماء وأن التعليم، إن وقع بخلق علم ضرورى فيه أو بإلهام، أو بخلق كلام يسمعه ليظهر إيثاره كل الظهور إذ علمه ما لم يعلمهم، وإن وقع بواسطة ملك فوجه الإيثار أنه حفظها بمرة، ولم يجعل الملائكة تقدر على ذلك، وهذا أيضا موجود فى الأوجه المذكورة. وفى الآية دليل على أن اللغات توقيفية، إذ علم الله آدم الأسماء وعلقها له على مسمياتها، ولا يظن أحد أنها وضعها قبل آدم للملائكة أو الجن. { ثم عرضهم على الملائكة } تعجيز لهم، وضمير النصب فى عرضهم عائد إلى المسميات، المدلول عليها بذكر الأسماء، فإن الاسم لا يتحقق بلا مسمى، وأيضا الأصل. وعلم آدم الأسماء المسميات. فحذف المضاف إليه وعوض عنه أل ولا نقول الأصل. وعلم آدم مسميات الأسماء، لأن الأصل فى التعليم أن يكون فى اللفظ، أو فيه باعتبار الذات، ولقوله { أنبئونى بأسماء هؤلاء } ولم يقل عرضها أو عرضهن تغليبا للعقلاء، إذ من جملة ما عرض عليهم الجن والملائكة، فبنى آدم بالتصوير أو بالإشارة إلى آدم، فلم يعرفوا أن بعضا منهم يسمى الكروبيين، وبعضا المقربين، وأن بعض الجن يسمى عفريتا وجنا، وبعضا شيطانا وجنا، وبعضا جنا. وأن جنس آدم يسمى ناسا والإنسان والبشر. وإن قلت كيف تعرض الملائكة على الملائكة؟ قلت يعرض بعضهم على بعض. وقرأ ابن مسعود { عرضهن } وقرأ أبى بن كعب { عرضها } أى عرض مسمياتهن، أى مسميات الأسماء، أو عرض مسمياتها أى مسميات الأسماء فالضمير فى القراءتين للأسماء على حذف المضاف كما رأيت. ويجوز عوده على المسميات، وقال عرضهن أو عرضها لا عرضهم، باعتبار معنى الذوات والمسميات، ويدل على ذلك أن التعليم ألبق بالألفاظ. وقوله { أنبئونى بأسماء هؤلاء }. وأما ما قيل إن العرض يختص فيما يرى بالعين فيعرض عليها فليس كذلك. بل يكون أيضا فيما يسمع وغيره، يقال عرضت عليه القرآن، أو قرأت اللوح، أو الكلام أو الصوت، ليسمع ذلك فيصححه، أو يميز الصوت. { فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء } تعجيزا لهم وتنبيها على عجزهم عن أمر الخلافة لاستحالة التصرف الجائز قبل تحقق المعرفة والتدبير، قبل الوقوف على مراتب الاستعداد، وإقامة العدل قبل تحقيق قدر الحقوق.

ومعنى أنبئونى أخبرونى، فإن الإنباء والتنبئة إخبار لمن علم كما هنا فإن الله - جل وعلا - عالم بالأسماء وبكل شىء، وإخباره لمن جهل كقوله تعالى

قل أتنبئون الله بما لا يعلم

أنكر أن يجهل شيئا فيخبروه به. وقوله { فلما أنبأهم } وذلك أمر تعجيز عندى، كقوله تعالى

فأتوا بسورة من مثله

وليس ذلك تكليفا بالإنباء، فضلا عن أن يستدل به على جواز التكليف بالمحال، كما قيل ولو سلمناه لقلنا غير محال باعتبار الإمكان. { إن كنتم صادقين } فى قولكم إنكم أحق بالخلافة والمكث فيها لعصمتكم، فان قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }؟ بمنزلة قولك أتستخلف عصاة ونحن معصومون عن العصيان أحقاء بالاستخلاف؟ كقول المسكين لصاحب الوليمة أتدعو الأغنياء لها، ونحن محتاجون إليها أحقاء بالدعاء إليها؟ أو إن كنتم صادقين فى قولكم لن يخلق ربنا خلقا أكرم عليه منا، ولا أعلم لسبقنا له ورؤيتنا ما لم يره. وأنه لن يخلق خلقا إلا كنا أفضل منهم وأعلم. وزعم بعض قومنا عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن معنى الآية { إن كنتم صادقين } فى أن الخليفة يفسد ويسفك، وفيه نظر، لأن الله - جل وعلا - عالم بأن بنى آدم يقع منهم الإفساد والسفك، وعلم الملائكة ذلك بإخبار الله تعالى. فلا يقال لهم { إن كنتم صادقين } لأن هذه العبارة ولو كانت قد تقال لمن علم صدقه كالمطالبة له بدليل لكن أصلها لمن لم يصدق أو لم يعلم صدقه. وليست الآية مطالبة لهم بالدليل على وقوع الإفساد والسفك. ولعلهم أرادوا وقوع السفك والإفساد من دم ومن يأتى منه، قبل أن يعلموا أنه يخلقه الله نبيا ورسولا معصوما عن الكبائر، فقال لهم { إن كنتم صادقين } فى أنه يفعل ذلك وأرادوا بقولهم { أتجعل... } إلخ، مجرد كون نبى الله نبيا رسولا معصوما عن الكبائر، فقال لهم صادقين فى تسبيحكم وتصديقكم، فإن الصدق فيهما ينافى المعارضة فى جعل الخلافة، ولسنا نقول إنهم غير صادقين فيهما، ولكن حق الله لا يفى به أحد، ولو اجتهد ما اجتهد، فأدبهم بهذا الكلام ليزدادوا خيرا، فإن معارضتهم شىء لا ينبغى. أو إن كنتم صادقين فى جواب السؤال عالمين بالأسماء أى إن كانت لكم أهلية للجواب والعلم بها، فإن ادعاءهم للأحقية بالاستخلاف كادعاء العلم بها والصدق فيها، فقال لئن كنتم صادقين أو المعنى إن كنتم صادقين فى قولكم إن خلق الخلائق واستخلافهم، مع أن صفتهم الإفساد والسفك لا يليق بالحكيم، وإنما يقولون هذا على التعجب، وطلب العلم بحكمة ذلك لا ردا وإنكارا.

كما أن قولهم نسبح بحمدك ونقدس لك، عجبا وتفاخرا. وهم وإن لم يقولوا لا يليق ذلك بالحكمة تصريحا، لكن تضمنه قولهم { أتجعل فيها.. } إلخ. ويستلزمهم الصدق والكذب يتطرقان لما يتضمنه الكلام ويستلزمه، كما يتطرقان إلى صريح الكلام، فلو أذن المؤذن للصلاة قبل وقتها أو بعد خروجه، لكان فى حكم الكاذب، لأن التأذين بمنزلة أن الوقت قد حضر. ولو قلت لإنسان. قم نتلق المسافر ولا مسافر قادم لكنت فى حكم الكاذب، وكذا لو قلت مشير لعبد لا تملكه اعتقت هذا على طريق الإنشاء للعتق. وإن قلت ما معنى قوله { إن كنتم صادقين }؟ وجوابه محذوف مدلول عليه بما قبله. كأنه قيل إن كنتم صادقين فأنبئونى بأسماء هؤلاء. وما وجه الارتباط؟ قلت قال السعد فى حاشية الكشاف، معناه إن كنتم صادقين فيما زعمتم من خلوهم عن المنافع والأسباب الصالحة للاستخلاف، فقد ادعيتم العلم بكثير من خفيات الأمور فأنبئونى بهذه الأسماء، فإنها ليست فى ذلك الخفاء. والله أعلم. وعندى أن المؤمن أفضل من الملك لأن له موانع عن العبادة، من شهوة طبيعية ونفس وهوى وشياطين الجن والإنس، فعبد الله مع ذلك وعصاهم. ولأن الملائكة خدمهم فى الجنة، ولأن الملائكة لما قالوا لن يخلق ربنا أكرم منا ولا أعلم، خلق آدم وذريته، وجعلهم خلائف، ولأنهم أمروا بالسجود له، ولأنه علم ما لم يعلموا فعلمهم إياه، والأعلم أفضل لقوله تعالى

هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون

والمعلم أفضل من المتعلم، وفى ذلك دليل على شرف الإنسان، ومزية العلم وفضله على العبادة، إذ فضل آدم به لا بها، وإن العلم شرط فى الخلافة بل عمدة فيه.

[2.32]

{ قالوا سبحانك } نزهناك تنزيها عن الاعتراض عليك، وإنما سؤالنا تعجب وطلب لبيان الحكمة لا اعتراض. وقد علم الله ذلك. وعن أن تفعل غير الحكمة، وعن أن يعلم أحد لم تعلمه. كما يدل عليه ما بعد، وهو اسم مصدر، لأن الفعل سبح بالتشديد، كما قالوا نسبح، فالمصدر التسبيح، وهذا أولى من أن يقال هو مصدر سبح الثلاثى بمعنى النزيه، لأن سبح بالتخفيف بمعنى التنزيه قليل. وسبحان كثير ينطق به ويشدد ولا يخفف. فالجمهور على أنه اسم مصدر، وهو لازم للإضافة على جنس التسبيح. وشذ عدم إضافته، وإذا لم يضف كان أيضا غير منون، لأنه علم زيدت فيه ألف ونون فى آخره. ومن عدمها قول الأعشى يمدح عامر بن الطفيل، ويذم علقمة بن علاسة

قد قلت لما جاءنى فخره سبحانه من علقمة الفاخر

والهاء فى فخره عائد إلى عامر بن الطفيل، ومن علقمة جار ومجرور متعلق بسبحان منه أى عجبا منه إذ يفخر. قال فى الصحاح بعد أن ساق هذا البيت العرب تقول سبحان الله من كذا إذا تعجبت منه. وعلقمة هذا صحابى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو شيخ فأسلم وبايع، واستعمله عمر بن الخطاب على حوران ومات بها. وإنما ذمه الأعشى لأن الأعشى لم يسلم، أو أسلم وذمه عصيانا كما يعصى الموحد، أسلم وذم. أو أسلم وذم علقمة قبل إسلامه، أعنى قبل إسلام علقمة. وقد قيل إن الأعشى قدم مكة ليأتى المدينة فيسلم ويبايع، فصده أهل مكة بأنه يحرم الزنى فقال لا حاجة لى فيه. فقالوا إنه يحرم الخمر، فقال أتروى منها عامى، ثم أجنبه، فمات قبل. ولكن أشعاره نص فى إسلامه إذ قال

نبى يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمى فى البلاد وأنجدا

ونحو ذلك من أبيات حسنة، ساقها الثعالبى فى كتاب السيرة، وألفه يحذف فى الخط ويقرأ، ويجوز أن تكتب كسائر الأعلام الرباعية فصاعدا كصالح وسليمان فى جواز الوجهين، وتحذف فى خط المصاحف، وإنما صدر الملائكة الكلام سبحانك، اعتذارا عن طلبهم التفسير وعن الجهل بحقيقة الحال، ولكونهم صدروا به كلام توبتهم، كما صدر به موسى توبته إذ قال

سبحانك إنى تبت إليك

ويونس إذ قال

سبحانك إنى كنت من الظالمين

{ لا علم لنا إلا ما علمتنا } أى لا معلوم لنا إلا ما علمتنا، فالعلم بمعنى المعلوم، وما اسم، ويجوز إبقاؤه على المصدرية، فتجعل ما اسما أيضا على حذف مضاف، أى لا علم إلا ما علمتناه، وذلك منهم مراعاة للذنب بتفويض العلم كله إليه، واعتراف بالعجز عن أن ينبئوه بأسماء هؤلاء، واعتراف بأنه قد ظهر لهم ما خفى عليهم من فضل الإنسان، والحكمة فى استخلافه، وإظهار لشكر نعمته التى هى تعليمه إياهم ما قد علمهم إياه، وهى أيضا كشف ما خفى عليهم من فضل الإنسان والحكمة فى خلقه.

{ إنك أنت } توكيد للكاف، وهو ضمير رفع استعير للنصب، وإنما جاز هذا مع أنه لا يجوز قولك إن أنت لأنه يغتفر فى الثوانى ما لا يغتفر فى الأوائل. ألا ترى أنه يجوز يا هذا الرجل، ويا أيها الرجل دون يا لرجل ويجوز رب رجل وأخيه، دون رب أخيه. ويجوز قم أنت وزيد، برفع زيد بقم ولا يجوز قم زيد على جعل زيدا فاعلا، أو مبتدأ خبره ما بعده، أو ضمير فعل لا محل له. وقد قيل فى ضمير الفصل إنه حرف. وأنا أعجب ممن يجعله بدلا أو بيانا، لأنه لم يفد شيئا زائدا على ما أفاده ما قبله، وكذا منعهما ابن مالك، وليس كجاء زيد أخوك، لأن الثانى يفيد الأخوة دون الأول، ولا كجاء أخوك زيد، لأن الأول يفيد الأخوة، والثانى يفيد العلمية. { العليم } أى العالم بكل شىء علما بليغا كثيرا بكثرة المعلومات. { الحكيم } لا يفعل غير ما فيه حكمة بالغة، لا عبث ولا فساد فى فعله ومصنوعاته، ولا جور فى قضائه والله أعلم. وذلك دليل على أن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لذكرهما معا فى لقوله { إنك أنت العلم الحكيم }. والأصل عدم التكرير. ومن أراد أن يعلمه الله الغائبات، وينقاد له الجن والإنس لوقته وحينه فليتطهر ويصم الخميس الأول من الشهر. ويفطر ليلة الجمعة على سكر وخبز وشعير وبقل وينم ويقم نصف الليل سواء فيتطهر ويستقبل ويقرأ قوله تبارك وتعالى

وإذا قال ربك

إلى قوله عز وجل { العليم الحكيم } ثلاثين مرة. ويقل أيتها الأرواح الطاهرة المواصلة الموكلون بهذه الآية المطيعون لسرها المودوع فيها، أجيبوا الدعوة وأفيضوا أنوار روحانيتكم على، حتى أنطق بالكائنات وأخبر بما خفى خبر صدق، وأميلوا إلى وجوه بنى آدم وبنات حواء وقلوبهم، رغبا ورهبا. ثم اكتب الآية فى جاز زجاج بماء الآس والزعفران والمسك. ويمحها بماء ورد ثم يشربه وينم. يفعل ذلك سبع مرات. وفى ليلة الخميس السابع يتلو الآية سبعين مرة، ويتكلم بذلك الكلام أربعين مرة، ويكون فى بيت خال وهو يتبخر بالعود، فإذا فرغ من ذلك نام فى ثيابه، فإنه يرى فى منامه ما يسره ببلوغ أمله فيما سأل ويصبح وقد تم أمره بقدرة الله تعالى. قال الله تبارك وتعالى { يا آدم أنبئهم }.

[2.33]

{ يا آدم أنبئهم } أخبر الملائكة. { بأسمآئهم } أى بأسماء المخلوقات، أو بأسماء الملائكة على ما مر. فروى أنه عليه السلام سمى لهم كل شىء باسمه، وذكر حكمته التى خلق لها، قال الشيخ هود - رحمه الله - قال آدم هذا كذا وهذا كذا، فسمى كل نوع باسمه، يعنى ميز كل نوع وسماه باسمه. قال وقال بعضهم سمى كل شىء باسمه وألجأه إلى جنسه. يعنى أنه سمى كل فرد من أفراد كل نوع، ونسبه أيضا إلى نوعه. والله على كل شىء قدير. وقرئ أنبيهم بالياء ساكنة سكونا ميتا، بدلا من الهمزة. وبناء الأمر على سكون الهمزة، الذى صار إلى بدله وهو الياء بعد الإبدال، وكان قبله على الهمزة، فلا تحذف الياء بعد، وقرئ بإبدالها ياء وحذف الياء وإنما حذفت تشبيها بياء يرمى. ويقال قلبت الهمزة فى المضارع المرفوع ياء شذوذا، فحذفت فى الأمر كحذف ياء يرمى فى ارم ولم يرم، أو على لغة من يقلب كل همزة فى الطرف تلى حركة ما يجانس الحركة. { فلمآ أنبأهم } آدم. { بأسمائهم } وفى هذا دليل على أن آدم نبى رسول، لأن الله جل جلاله أمره أن ينبئهم فأنبأهم بما لم يكن عندهم، فهو رسول إلى الملائكة وإلى ذريته. ومزية سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم أمروا أن يؤمنوا به رسولا كما أمر سائر الخلق، وليس آدم على هذه الصفة ولو آمن به الملائكة. { قال } عتابا باللملائكة. { ألم أقل }؟ الاستفهام للتوبيخ وإنكار أن يكون قولهم أتجعل مما ينبغى وإنكار أو نكون لم يقل وتقرير أنه قال. { لكم } يا ملائكتى. { إنى أعلم غيب السماوات والأرض } ما غاب عنكم فيهما ما هو موجود، وما مضى وما سيوجد، فقد علم أحوال آدم قبل استخلافه، وعلم أنه أهل للخلافة. { وأعلم ما تبدون } ما تظهرون من قول وفعل وحركة وسكون. { وما كنتم تكتمون } فى عقولكم أو ما تبدون من قولكم نطيع الله ولو فضله علينا وما يكتم إبليس فيكم أنه إن فضله عليه صى وسعى فى إهلاكه، وبه قال ابن عباس. أو ما تظهرون من قولكم أتجعل فيها وما تكتمون من قولكم إن الله لن يخلق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم، فإنهم قالوا فيما بينهم ولم يقولوه لله فسماه مكتوما، وهو تعالى لا تخفى عليه خافية أو تبدوه من قولكم أتجعل فيها وما تكتمون ما اعتقدوه أنهم أحقاء بالخلافة. ويوافق الاحتمال الذى قيل هذا قول الحسن وغيره إنهم لما قال الله عز وجل

إنى جاعل فى الأرض خليفة

قالوا ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا، فهو الذى كتموه، وابتلوا بخلق آدم وكل شىء مبتلى، كما ابتليت السماوات والأرض فقال

ائتيا طوعا أو كرها

انتهى كلام الحسن. وفى إخباره تعالى إياهم بأنه يعلم الغيب وما يبدون وما يكتمون، تلويح إلى عتابهم على قولهم أتجعل؟ حيث قالوه ولم يتركوه. مع أن الأولى تركه، والله تعالى عالم بما عساه أن يقال. فإن شاء بين لهم الحكمة فى جعله خليفة. وقوله عز وعلا { ألم أقل لكم }.. إلى { تكتمون } استحضارا لقوله

إنى أعلم ما لا تعلمون

على وجه أبسطه، فإن قوله عز وجل { إنى إعلم }... إلى { تكتمون } أبسط من قوله

إنى أعلم ما لا تعلمون

لكن لما كان معنى قوله

إنى أعلم ما لا تعلمون

هو شامل لمعنى قوله { إنى أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } لأن معنى

إنى أعلم ما لا تعلمون

أعلم ما لا تعلمون مع ما يعلمون، حكاه بلفظ آخر غير الأول إذ لم يقل ألم أقل لكم إنى أعلم ما لا تعلمون، ففى ذلك دليل على جواز الحكاية بالمعنى، ولو اختلف اللفظ، وازداد أو نقص، وإنما استحضره احتجاجا على قوله

إنى أعلم لما لا تعلمون

لإنه لما بين لهم أن آدم علم ما لم يعلموا ظهر كالشمس إنه يعلم ما لا يعلمون بل زاد ظهورا، وأما أصل الظهور فقد اعتقدوه ولما بين لهم ازدادوا علما، فعلوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، كما دلت عليه الآية وقد ازدادوا كمالا، كما ازدادوا علما، كما دلت عليه هذه الآية. وقوله { أنبئهم بأسمآئهم } مع قوله { فلمآ أنبأهم بإسمآئهم } ، وقوله

قالوا سبحانك لا علم لنا إنك أنت العليم الحكيم

ألا تراهم زادوا خضوعا ومعرفة فى حق الله وطمانيته، ومنع بعض حكماء الإسلام ذلك فى الطبقة العليا منهم، لقوله تعالى

وما منا إلا له مقام معلوم

وليس نصا فى أنهم لا يزيدون. مع أن الأصل الزيادة، إذ هم مكلفون، لهم عقول ورغبة فى الخير. وإنما قلت إن معنى

إنى أعلم ما لا تعلمون

شامل لمعنى { إنى أعلم غيب السماوات.. } إلخ ولم أقل إنه نفس معناه لأنه أعم من معنى { إنى أعلم الغيب.. } إلخ. لأنه شامل لغير غيب السماوات والأرض وغير ما يكتمون، كغيب ما فوق السماوات وما تحت الأرضين، وفى قوله

إنى أعلم ما لا تعلمون

وقوله { إنى أعلم غيب السماوات والأرض } دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل أن تكون. لأن مما لا يعلمون، ومن غيب السماوات والأرض. ما سيكون. ومن ذلك علمه بأسماء المسميات قبل أن تكون. وإن قلت بم خاطب الله الملائكة؟ يعنى قلت خلق لهم كلاما فى الهواء أو فى خلق من مخلوقاته فسمعوه، أو خلق لهم كتابة خاطبهم بها.. والله أعلم. فكلامه - تعالى - على هذه المعانى مخلوق صفة فعل ولا شك، وأما وصفه - تعالى - بالكلام، على معنى نفى الوصف بالخرس، فصفة ذات، ثم إنه لا يشك أحد أنه - تعالى - عالم فى الأزل بلا أول، بكل كلام سيخلقه فى الهواء، أو حيث شاء أو يكتبه وهذا عام لسائر خطابه للملائكة والثقلين وغيرهم بأمر أو نهى وغيرهما.

وهذا ظهر لى بعد استفراغ الوسع والنظر، وهو الحق إن شاء الله من كون كلامه تعالى قسمين الأول صفة فعل ودخل فيه خطابه لمن ذكر كله، قبل أن يخلق الخلق والهواء إن شاء بحكمته، كلاما خلقه مستقلا عن كل شىء حتى الهواء لعدمه، والثانى صفة ذات وهو معنى نفى الخرس، مع التنزه عن الجوارح وصفات المخلوقات، وذاته تعالى كافية فى علم كل شىء بلا أول، ولا إثبات للكلام النفسى، كما زعم قومنا أنه ثابت كما يثبت كلام الإنسان فى نفسه، ثم يتكلم بألفاظ تدل عليه، وجعلوا القرآن وكتب الله تعالى كلها، وخطابه كله لخلقه، وكلامه كله قديما بهذا المعنى، وهو أنه ثابت فى النفس الواجب الوجود بلا أول، كما يجئ وقته فيعبر عنه بألفاظ مخلوقة، حيث شاء. فألفاظ القرآن مثلا عندهم مخلوقة كما عندنا، والعلم بها أنها ستكون وبمعانيها عندنا قديم كما عندهم، غير أنهم أثبتوا الكلام النفسى ونفيناه، والحق نفيه لأنه إثباته يستلزم كون الله - جل وعلا - عن كل نقص ظرفا ومحدودا ومركبا، ويعود بالنقص على ما زعموا من قدم، وانفراد القديم لتباين الظرف والمظروف، سبحانك ربنا عن كل ما لا يليق.

[2.34]

{ وإذ } معطوف على إذ الأولى، أو معمول لمحذوف من جملة المعطوف أو المحذوف مستأنف. وذلك مثل أن يعطف اذكر أو يستأنف به أو يقدر إطاعة الملائكة

وإذ قال ربك للملائكة

فيعطف إطاعة الملائكة إذا.. إلخ. على

قالوا أتجعل

إلخ مع إذ الأولى المتعلقة بقالوا إن علقت فيه، وهذا شروع فى ذكر نعمة رابعة على الناس بعد الثلاثة، فى قوله

وإذ قال ربك

{ قلنا للملائكة } كلهم على الصحيح بدليل فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس. حيث أكد بما يفيد الشمول. وقرئ الكلام بالفاء الدالة على السببية فإنها للسببية عن الأمر بالسجود، أى سجدوا كلهم لأجل أمره إياهم. وقيل ملائكة الأرض. وقرأ أبو جعفر بضم التاء إتباعا لجيم اسجدوا. والفصل بالساكن ضعيف واستهلاك حركة الإعراب لحركة الإتباع كهذه القراءة. وقراءة الحمد لله بكسر الدال لغة ضعيفة فبما قال الزمخشرى وأظن أن معنى كون ذلك لغة، أن قوما من العرب يفعل ذلك فى بعض كلامه جوازا لا وجوبا. { اسجدوا لآدم } سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة، فيمكن أن يكون أمرهم بالانحناء بدون إيصال رءوسهم الأرض أو بإيصالها الأرض، وذلك سواء لأنه على كل حال سجود تحية لا عبادة. وقال الجمهور انحناء وخضوع بلا وصول للأرض، بناء على أن السجود إلى الأرض لم يجز لغير الله، وأصحاب القول الأول قالوا مباح لغيره تحية وتعظيما لا عبادة، حتى نسخ التحية الانحنائية كلها على وصول الأرض، أو على غير وصولها، بتحية الإسلام، وهو قولنا السلام عليكم. وقوله صلى الله عليه وسلم

" لو أمر أحد بالسجود لأحد لسجدت المرأة لزوجها "

يحتمل وصول الأرض على أن الملائكة لم تصلها، ويحتمل سجود العبادة، ويحتمل الانحناء بلا وصول تعظيما وتحية، وتستثنى الملائكة، فالمراد أحد من الناس والجن. ولا يدل قوله

فقعوا له ساجدين

على وصول الأرض، لأن من جثى على ركبتيه واقع، وكذا كل من نكس أعلاه. وممن قال سجود انحناء على بن أبى طالب وابن مسعود وابن عباس. وقال الشعبى إنما كان آدم كالقبلة، والمعنى إلى آدم، فاللام بمعنى إلى، وفى ذلك على كل حال كرامة لآدم - عليه السلام - ويجوز كونها بمعنى عند، أى اسجدوا عند آدم، ومن اللام بمعنى إلى، كقول حسان

ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا عن هاشم ثم منها عن أبى حسن أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالقرآن والسنن

وكأنه قال ذلك حين استخلفوا عثمان، ولم يستخلفوا عليا، أى من صلى إلى قبلتكم، ويجوز كونها للتعليل، أى اسجدوا لأجل آدم، فإذا كانت اللام بمعنى إلى أو عند أو للتعليل، فالسجود إنما هو عبادة لله تعالى بوصول الأرض، وإذا كانت بمعنى إلى فآدم قبلة قطعا تنص عليه إلى.

وأما إذا كانت بمعنى عند فكونه قبلة متبادر، وإذا كانت للتعليل فليس فى ذلك ما يدل على أنه قبلة لهم فى سجودهم. ووجه كونه قبلة لهم تعظيمه أوامرهم باستقباله فى السجود له تعالى لكونه سببا لهذا السجود الذى أمرهم به الله، أو لكونه ذريعة لهم إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات، مثل الصلاة خلق سيد الأولين والآخرين محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء وتكلمهم له وإيحاء القرآن ومناولته والسنة وسائر كتب الله، تبارك وتعالى، وسائر وحيه خصوصا جبريل، بل يكفيهم كون جبريل الذى يلى غالب ذلك منهم، ومثل نزولهم ليلة القدر، وحضور مجلس القرآن والذكر والعلم وكتابة حسنات بنى آدم ونحو ذلك. ولكونه ذريعة إلى ظهور تفاوتهم فى الدرجات، فأفضلهم جبريل لملاقاته سيد الأولين والآخرين وسائر الأنبياء، أو لكونه أصلا لخلق الخلق كلهم، الملائكة وغيرهم الأجسام والأعراض، لأن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يكون منة، وهو لولاه لم تخرج الدنيا من العدم، وأمرهم باستقباله شكرا لما أنعم عليهم بوساطته، ولتعليمه إياهم أسماء الأشياء بأمر الله - عز وجل - أو لجميع ذلك. وهذه الاحتمالات كلها تتأتى إذا قلنا ذلك السجود خضوع لآدم، بإيماء أو بوصول الأرض. ويزداد هذا بأنه أمرهم بالسجود له ليعترفوا بفضله، ويؤدوا حقه الذى يتضمن كلامهم نقصه، ويعتذروا عما تكلموا فيه، وتتأتى جميع الأوجه أيضا إذا قلنا إنه لا سجود إيماء هناك بوصول الأرض، ولا بدون وصولها، بل أمرهم بالتذلل والانقياد بالسعى فى تحصيل ما تتعلق به حياتهم، ويتم به كمالهم. فإن أصل السجود مطلق التذلل. قال زيد الخير

بجيش يظل البلق فى حجراته ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

وفى رواية بجمع يظل البلق البيت. فالأكم جمع أكمة وهو الموضع المرتفع من الأرض، أى ترى المواضع المرتفعة تحت حوافر الخيل، كأنها تنخفض لحوافرها تذللا. وقال أعرابى من بنى أسد

فقدن لها وهما أبيا خطامه وقلن له اسجد لليلى فأسجدا

أى قادة النوق إلى ليلى أو لأجل ليلى جملا ضخما ممتنع الرسم ، وقلن اتضع لليلى فاتضع بحط رأسه لتركبه، يقال أسجد البعير بوزن أكرم بمعنى طأطأ رأسه ليركب، ويجوز كون همزته للتعدية أى اسجد رجليك ويديك ورأسك، فأسجدهن آى وضعهن إلى جهة الأرض، والسجود شرعا وضع الجبهة والأنف والرجلين والركبتين واليدين على الأرض على قصد العبادة. { فسجدوا } له. { إلآ إبليس } استثناء متصل على سبيل المجاز، لما كان بينهم متعبدا بعبادتهم صار كأنه واحد منهم، فسمى باسم الملك مجازا بالاستعارة. ويجوز أن يكون منقطعا. ومن زعم أن إبليس من الملائكة فقد قال بعض أصحابنا إنه يشرك لأن الله - عز وجل - قال

كان من الجن

وأقول لا يشرك لأنه تأول ذلك من الاستثناء، لأن أصله الاتصال. وتأول قوله

كان من الجن

وأنه كان من الجن فى فساد افعل، والاعتقاد والقول، ومن الملائكة أصاله وجسما ونوعا، كما نقول عمر من الشياطين وحاله والبهائم، فهو يقول إن إبليس عدو الله من الملائكة، لكنه فسق كما تفسق الجن، فيصير البحث مع ذلك القائل فى عصمة الملائكة. والحق أنهم معصومون لقوله تعالى

وهم بأمره يعملون

أى لا يعملون إلا بأمره، وأنه ليس من الملائكة لأن قوله

كان من الجن

ظاهر فى أنه واحد منهم، وأن نسبته فيهم، وهذا حقيقة الكلام والمتبادر منه، والتأويل المذكور مجاز، وخلاف المتبادر، فلا يحمل عليه بلا قرينة واضحة، وزعم قومنا أن ابن عباس روى أن من الملائكة نوعا يتوالدون، يقال لهم الجن، ومنهم إبليس. وذكر أصحابنا أن من قال الملائكة ذكورا وإناثا مشرك، وكذا إن قال يتوالدون. وقيل لا يشرك إن قال ذلك فى أفراد منهم أو فى نوع، بل إن قال فيهم عموما لأن قائل هذا تأول قول ابن عباس، الذى زعموا عنه. ومن أطلق الإشراك ولو على من قال ذلك فى أفراد أو نوع، يحمل كلامه على من قال ذلك تعمدا لمخالفة القرآن أو جهلا لا على من قاله اعتمادا على ما روى عن ابن عباس، وكذا يحمل قوله بإشراك من قال إن إبليس من الملائكة على من قاله جهلا أو عنادا للقرآن، لا على من قاله اعتمادا على ما روى عن ابن عباس مثلا، وكذا الكلام فى عصمة الملائكة، فقد قيل إن الملائكة ليسوا كلهم معصومين، ولكن الغالب فيهم العصمة، كما أن الإنس ليسوا معصومين، لكن القليل فيهم العصمة، ويجوز أن يكون الجن أمروا بالسجود كما أمر الملائكة وأن فى الكلام حذفا تقديره وإذا قلنا للملائكة والجن اسجدوا لآدم فسجدوا، يعنى الملائكة والجن، إلا إبليس فيكون الاستثناء متصلا. وإن قلت كيف تسجد الجن وهم شرور؟ قلت يسجد مؤمنوهم طوعا وإخلاصا. ويسجد مشركوهم ومنافقوهم كارهون فى قلوبهم غير مخلصين. وإن قلت إذا قدرت محذوفا هكذا وإذ قلنا للملائكة والجن، فما الدليل عليه؟.. قلت يدل عليه بعض دلالة استثناء إبليس، ويدل عليه أنه إذا أمر الكبار بالسجود وهم الملائكة، فأولى أن يؤمر به الصغار وهم الجن. قيل ويحتمل أن يكون الجن قسمين قسم ملائكة تخالف سائر الملائكة غير معصومة، وخلقت مما خلقت منه الشياطين وسائر الجن، وقسم شياطين، وإن إبليس - أعاذنا الله منه - من القسم الأول لا من سائر الملائكة، فصلح عليه الوقوع فى المعصية، فيكون النور الذى خلقت منه الملائكة قسمين قسم هو نور محض غير نار، ومنه خلقت الملائكة المعصومون. وقسم هو نار، ومنه خلقت الملائكة غير المعصومة ومنهم إبليس. وخلقت الشياطين من نار ودخان مختلطين، كما قال الله تبارك وتعالى

من مارج من نار

أو قيل المارج اللهب الخالص عن الدخان وقال الله تبارك وتعالى حكاية عن عدوه

خلقتنى من نار

وحقيقة النار والنور واحدة، وهى الجوهر المضىء، غير أن ضوء النار مكدر بالدخان مستور به. فإذا كانت النار مصفاة عن الدخان كانت محض نور، وإلا تزايل الدخان حتى ينطفئ نورها، ويبقى الدخان الخالص، وأصل النور مطلقا الإحراق والحرارة، ألا ترى الشمس والقمر كيف كانت فيهما الحرارة؟ ألا ترى النار؟ ألا ترى ما وردت فى الأحاديث من أن الأنوار تحرق، كموسى حين قصة طلب الرؤية، لولا الله لاحترق بالأنوار، وجبريل حين وصل موضعا فوق السماء السابعة فوقف وقال لو دخلته لاحترقت، وذلك ليلة الإسراء... والله سبحانه وتعالى أعلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" خلقت الملائكة من نور، وخلق الجن من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم "

رواه مسلم عن عائشة - رضى الله عنها - وروى عن ابن عباس والحسن إن إبليس أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، ولم يكن قط ملكا. قال الحسن واسمه الحارث وقال شهر بن حوشب كان من الجن الذين كانوا فى الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا، فتعبد مع الملائكة وخوطب معها، وحكاه الطبرى عن ابن مسعود. وزعم الطبرى أن الراجح قول من قال إن إبليس كان من الملائكة، وقال ليس فى خلقه من نار، ولا فى تركيب الشهوة والنسل فيه، حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة وقوله عز وجل

كان من الجن

معناه أنه عمل عملهم. بل الملائكة قد تسمى جنا لاستتارهم. قال الأعشى فى سليمان عليه السلام

وسخر من جن الملائك أنفسا قياما لديه يعملون له جرما

قال عياض ومما يذكرونه قصة إبليس وأنه كان من الملائكة ورئيسا فيهم ومن خزان الجنة، وهذا لم يتفقوا عليه، بل الأكثر ينفون ذلك ويقولون إنه أبو الجن. وإن قلت قد أسبقت أن لفظ إبليس عجمى، فليس مشتقا من الإبلاس، بمعنى انقطاع الرجاء. أو بمعنى البعد عن الخبر. قلت نعم لكن روى عن ابن عباس أنه مشتق من أبلس بمعنى بعد عن الخير، أو بمعنى انقطع رجاه كقوله تعالى

فإذا هم مبلسون

وعليه فهو لفظ عربى بوزن إفعل لكن تشكل عليه منعه من الصرف، فلعله مشتق من ذلك فى لغة العجمة على أنه وجد فيها تلك المادة بهذا المعنى، فيمنع للعلمية والعجمة. ووزنه ما ذكر، لأنه لا مانع من بيان الزيادة فى اللفظ العجمى المشتق فى العجمة، وذلك متبين فى لغتنا البربرية، اللهم إلا أن يقال إنه عربى منع صرفه لشذوذه وقلته. وزعم الزجاج أن وزنه فعايل وكأنه يراه أعجميا، ولم يظهر له فيه تصرف على لغة العجم فحكم بأصالة حروفه غير المثناة، والمناسب على هذا أن يقول أيضا بأصالة المثناة كالهمزة، وقيل كان اسمه بالسريانية عزازيل كما سماه به أبو نصر فتح النفوشى التملوشائى - رحمه الله - فى اليونية.

وبالعربية الحارث. ولما عصى غير اسمه فسمى إبليس. وغيرت صورته. قيل كان ملكا فغيرت صورته عن صورة الملائكة وأجسامهم، فكأنه على هذا القول ملك منسوخ، ونسب لابن عباس وهو ظاهر ترجيح الطبرى السابق { أبى } امتنع عما أمر به من السجود، فإن الإباء الامتناع باختيار، لا بطبع ولا بإكراه. { واستكبر } بالغ فى الترفع عن أن يفعل فعلا فيه خضوع لآدم، واعتراف بفضله وسعى فى صلاحه وعن أن يتخذ آدم وصلة فى عبادة ربه - عز وجل - فإن التكبر أن يذعن الرجل إلى ما تدعيه نفسه من أنه أكبر من غيره، ويطلق أيضا على ما يقتضيه ذلك الإذعان من فعل أو قول، مثل أن يعرض عن الفقير أو يقول فيه قولا غير حسن فيسمى ذلك الإعراض أو ذلك القول تكبرا، هذا ما ظهر لى وهو إن شاء الله أولى من قول بعض إن التكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره والاستكبار المبالغة فى ذلك الإذعان لتعاطيه التزين بما ليس عنده، ويطلق على المبالغة فيما يقتضيه ذلك الإذعان. وهذا أولى من أن يقال هو طلبه أن يرى نفسه أكبر من غيره بالتزين بما ليس عنده، وقيل الاستكبار الدخول فى الكبرياء، وإن قلت إيهما سبق الاستكبار أم الإباء؟.. قلت أما فى الخارج فالسابق الإباء لما أبى ظهر للملائكة أنه استكبر، وأما فى نفس الأمر فالسابق الاستكبار فإنه لما اعتقده تولد منه الإباء. وقال ابن القاسم صاحب مالك قال مالك بلغنى أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر وشح آدم فى أكله من شجرة قد نهى عن قربها، وفى إطلاقه الشح على آدم سوء أدب بحسب الظاهر، لكنه - والله أعلم - أراد شح النفس الطبعى. { وكان من الكافرين } فى علم الله بحسب ظاهره مؤمنا شاكرا عند الملائكة، فإباؤه واستكباره نتيجة ما قضى الله عليه من الكفر، أو المعنى صار من الكافرين، أى ظهر كفره، أو دخل فى الكفر بامتناعه عن السجود، واعتقاده أنه خير من آدم، وأن الفاضل لا يسجد للمفضول، ولا يخضع له ولا يتوسل به، واعتقاده أن أمر الله إياه بالسجود لآدم غير صوب، لأنه أفضل. والمراد بالكفر مطلق الفسق المضاد للشكر، فهو شامل للنفاق والشرك، فترك السجود الواجب عليه نفاق، وكذا استكباره. وأما اعتقاده أن أمره بالسجود غير صواب فشرك. ويحتمل أن المراد بالكفر النفاق، وهو ترك السجود، فالكفر فى الآية إما نفاق كما يتبادر من ذكره بعد الإباء والاستكبار.

وإما عام للنفاق والشرك، قلنا فى الآية دليل على أن فسق الموحد، يسمى كفرا، وإن قلت فقد قال الله سبحانه وتعالى

أستكبرت أم كنت من العالين

ومعنى العالين المعاندون مواجهة أو المدعون الربوبية. فأجابه عدو الله بقوله

أنا خير منه

فيكون هذا الجواب إقرارا بأنه من العالين، كأنه عاند وقال أمرك إياى بالسجود له غير صواب. فيناسب أن الكفر هنا شرك. قلت لا نسلم أن المعنى كذلك، بل المعنى أنت مستعل بلا تأهل للعلو أم عال حقيق بالعلو فلا يلزم أن الأنسب تفسير الكفر لشرك، وإبليس مشرك قطعا، إن لم يشرك من الآية أشرك من غيرها، مثل دعائه الثقلين إلى عبادته. وقد اختلف قومنا هل كفره جهل أو عند؟ الصحيح أنه عناد، وتفيد الآية قبح الاستكبار، إذ هو فى نفس نفاق، وقد يفضى بصاحبه إلى الشرك، وتفيد الحث على امتثال الأوامر، وترك الخوض فى سرها، إلا بعد الامتثال وصميم الاعتقاد، أو بعد الاعتقاد الصميم فى كونها صوابا، وترك الخوض فى وساوس النفس. وتفيد أن الأمر للوجوب إذا جرد عما يصرفه عنه، ولولا أنه للوجوب لم يقطع عذره بعد السجود، بعد مجرد قوله اسجدوا. بل حتى يقول اسجدوا، فان السجود واجب عليكم. أو اسجدوا، ومن لم يسجد أغضب، أو أهلكه أو يكفر أو نحو ذلك. وتفيد ان الشقى كافر تحقيقا ولو فى حال عبادته إذ العبرة بالخاتمة، فهو يختم له بالكفر وهذه المسألة عندنا وعند الأشاعرة، وتسمى الموافاة. وتنسب إلى أبى الحسن الأشعرى، وذلك أنه يوافى الشقى الموت ولقاء الله بالكفر. أو تفيد الآية أيضا تقريع اليهود ونحوهم، إذ كفروا بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع علمهم برسالته من التوراة والكتب والأخبار والمعجزات، حسدا له وللعرب بنى إسماعيل واستكبارا، ومع تقدم نعم الله - عز وجل - عليهم وعلى أسلافهم، فاليهود نظروا إبليس، وكذلك كل من استكبر. وعنه صلى الله عليه وسلم

" إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكى يقول يا ويلتى أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلى النار "

رواه مسلم عن أبى هريرة.

[2.35]

{ وقلنا يا أدم اسكن أنت وزوجك } حواء. { الجنة } أى اتخذها أنت وزوجك منزلا ولا تخرجا منها، ولذلك لم يقل فى الجنة، فوكل اتخاذها منزلا إليهما، فلم يتحفظا عليها ففعلا ما يوجب خروجهما منها. وقد سبق قضاء الله تعالى بذلك، فلم يقل أسكنتك وزوجك الجنة لا تخرجان منها، وهى الجنة التى هى جزاء المؤمنين يوم القيامة. فالآية دليل على أنها موجودة الآن، وذلك كله هو الصحيح. وأل للعهد. وهو أيضا ذهنى، فإن الجنة التى هى فى عرف المؤمنين دار الجزاء والثواب، ويدل لذلك قوله { اهبطوا } فإنه أنسب بالنزول من علو إلى خفض. والجنة فوق السماء السابعة. وزعم بعضهم أن الجنة غير مخلوقة الآن، وأنها تخلق بعد قيام الساعة، وأن هذه الجنة التى كان فيها آدم وحواء بستان، كان بأرض فلسطين من الشام، أو بين فارس وكرمان، خلقه الله امتحانا لآدم، وأن الهبوط الانتقال منه إلى أرض الهند. وإنما خاطب آدم أولا وذكر زوجه بعده على طريق الغيبة، ولم يعكس بأن يقول يا حواء اسكنى أنت وزوجك الجنة، ولم يخاطبهما معا بأن يقول يا آدم ويا حواء اسكنا الجنة، تنبيها على أن المقصود فى السكون بالذات هو آدم، وأن حواء تتبع له، وأن المرأة خلقت لينتفع الرجل بها، وتلد ذكورا وإناثا ليتم العالم الإنسانى، ولتعبد الله. ألا ترى تأخرها فى الوجود ونقصها؟ { وكلا منها رغدا } نعت لمصدر محذوف، أى كلا رغدا أى واسعا رافها لا حجر فيه، وهذا إما على أن رغدا وصف، كما يستعمل مصدرا. أو على أنه مصدر بمعنى الوصف، وإما على تقدير مضاف أى كلا ذا رغدا، أى صاحب وسع. وإما على أنه نعت به للمبالغة، ويجوز كونه مفعولا مطلقا على حذف مضاف، أى أكل رغد. ويأتى كلام فى غير هذه السورة إن شاء الله تعالى - ولك ان تقول الأكل الرغد الأكل الهنىء، أو أكل الرغد أكل الهناء، وهو تفسير فيه زيادة الوسع. { حيث شئتما } أى مكان من الجنة، أباح لهما أن يأكلا فى كل مكان منها. سواء كان المأكول من ذلك المكان الذى يأكلان فيه، أو كان من غيره ونقلاه إليه، وذكر لهما هذه التوسعة امتنانا عليهما، وتنبيها على غناهما بالكلية عن الشجرة. التى ينهاهما عنها. إذ مأكول الجنة غيره هذه الشجرة من أشجارها لا ينحصران. { ولا تقربا هذه الشجرة } نهاهما عن قربها إما على المبالغة فى النهى عن الأكل منها، والمراد النهى عن الأكل منها، ولم يحرم القرب منها، ولكن عبر بصيغة تحريم قربها مبالغة، ووجه ذلك أن القرب من الشىء يدعو إلى دخوله وملابسته، وإما على الحقيقة بأن حرم عليهما القرب منها، كما حرم الأكل منها، لأن القرب منها يدعو إلى اشتهاء النفس لها، فيتناولها منها.

وفى ذلك على كلا الوجهين تنبيه على أن القرب من الشىء يدعو إلى الوقوع فيه، ويورث ميل القلب إليه وشغله عن غيره. وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم

" حبك الشىء يعمى ويصم "

أى يصدك عن الحق ويخفيه عنك، ويعميك عن وصمة تصمه، أى شانه يشينه وعابه، أو هو - بضم الياء وكسر الصاد وتشديد الميم - من أصمه يصمه أى صيره أصم عن سماع ما يقال فى ذلك الشىء المحبوب عن العيب. رواه أبو داود. فمن قرب من ممنوع عنه أحبه فيعميه حبه ويصمه عن الحق فيرتكبه، فينبغى لمن حرم عنه شىء ألا يحوم حوله مخافة أن يقع فيه. قال صلى الله عليه وسلم

" من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام، كالراعى حول الحمى يوشك أن يرتع. فيه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه "

وقرئ ولا تقربا - بكسر التاء - على لغة من يكسر حروف المضارعة غير الياء، وقرئ هذه بإسقاط الهاء الثانية وإثبات الياء. وقد قيل إن هذى بالياء، ياء بدل من هاء هذه بها مكسورة مختلسة أو مسكنة. وقرئ الشجرة، بكسر الشين وكسر الجيم، وقرئ الشجرة، بكسر الشين والياء المثناة التحتية المبدلة من الجيم، وكرهها أبو عمرو بن العلاء، وقال إنها قراءة برابر مكة وسودانها. والشجرة شجرة القمح، وهى الأغصان التى تنبت من حبة القمح التى تبذر وتثمر السنبل. ونسب هذه القول لابن عباس ومحمد بن كعب ومقاتل. وقيل شجرة العنب. ونسب لابن عباس وابن مسعود وقتادة. وقيل شجرة التين وقيل شجرة الكافور، ونسب لعلى بن أبى طالب. وقيل شجرة الحناء، وفيها من كل شىء، وقيل شجرة العظلم، والظاهر أن الصحابة لا يقولون فيها عن رأيهم، وإنما روى عنهم موقوفا، بمنزلة المرفوع إذا صح السند، قال الشيخ هود ذكروا عن ابن عباس أن الشجرة التى نهى عنها آدم وحواء هى السنبلة التى فيها رزق بنى آدم، يعنى سنبلة القمح. قال عبد الصمد الحبة منها كالبقرة، أبيض من الثلج وأحلى من العسل وألين من الزبد. وبعضهم يمنع الخوض فيها لعدم دليل قاطع، وعدم توقف المقصود على تعيينها. ويقول إنها شجرة من أكل منها أحدث. واختلفوا، هل الإشارة إلى شجرة واحدة معينة؟ أو إلى نوع الشجرة المذكورة فى تلك الأقوال كلها؟ ويتخيل لى أنها شجرة واحد معينة، وأنها لم تتعدد فى الجنة. { فتكونا من الظالمين } لأنفسكم بسبب قربكما الشجرة والأكل منها، كما دل عليه فاء السببية التى نصب المضارع بعدها فى جواب النهى عن قربها، ومعنى ظلم الإنسان نفسه تعريضها للعقاب بارتكاب المعصية، أو معناه نقصه حضها بإتيان ما يخل بالكرامة والنعيم، أو معناه وضع الشىء فى غير موضعه فهو بهذا المعنى ضد الحكمة، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على تقربا فيكون معطوفها مجزوما منهيا عنه، أى فلا تكونا.

ولا يطلق على الأنبياء أنهم ظلموا أنفسهم، ولا وصفهم بالظلم. ومن قال إن الإنبياء لا يذنبون فإنه يحمل مثل فعل آدم على فعل ما كان الأولى تركه. وعندى يجوز أن يقال ظلم آدم نفسه بأكله من الشجرة، وأنه عصى ربه لقوله جل وعلا { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } مع قوله { فأكلا منها }. ولقوله عز و جل

وعصى آدم ربه

مجازات مع لفظ القرآن، والمذهب أنهم لا يوصفون بالكبيرة ولا بالصغيرة، قبل النبوة ولا معها، ومن أجاز من قومنا عدم المعصية على الأنبياء قبلها، قال إن آدم لم يكن نبيا حينئذ، ومن ادعى نبوته حينئذ فعليه البيان. وما وصفوا به من ذنب فليس كبيرا ولا صغيرا، ولكن خلاف الأولى. وقد قيل إن ذلك النهى للتنزيه، وأما قوله { عصى } ، { وغوى } ، { فتكونا من الظالمين } ،

ولتكونن من الخاسرين

فلأنه ترك ما هو الأولى له، فظلم نفسه ونقصها الحظ بتركه. ويأتى كلام فى بعض تلك الآيات، وإنما أمره بالتوبة ولقنه إياها، ليتدارك ما فاته مما هو أولى، وإنما أخرجه من الجنة ونزع لباسه وفاء لقوله

إنى جاعل فى الأرض خليفة

وجزاء لتركه الأولى أو جرى عليه الإخراج والنزع، كما يجرى الضر على من تناول سما جاهلا له، فإنه يضر من جهله ومن علمه، لا على المؤاخذة، وذلك من القضاء الأزلى عليه، كما يقضى فى الأزل على من يموت بالسم جهلا به بعد وجوده، وذلك أنه زين له إبليس فقاسمه، فكف نفسه مراعاة لحكم الله، فنسى وسوسة إبليس، وقد أثرت فى طبعه ميلا، فأكل منها بالميل الطبعى، لا لمطاوعة إبليس لنسيانه وسوسته، لكن قول { فدلالهما بغرور } ونحوه من الآيات والأخبار، يدل على أنه أكل باغتراره بها، غير أنه يحتمل التأويلات المذكورة ونحوها مما يأتى، وذكر كثير من قومنا ما يوافقنا. قال عياض فى الشفاء وأما قصة آدم - عيله السلام - وقوله تعالى { فأكلا منها } بعد قوله { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } وقوله

ألم أنهكما عن تلكما الشجرة

وتصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله

وعصى آدم ربه فغوى

أى جهل. وقيل أخطأ فإن الله تعالى قد أخبر بعذره بقوله

ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما

قال ابن عباس نسى عداوة إبليس، وما عهد الله إليه من ذلك، بقوله

إن هذا عدو لك ولزوجك..

الآية. وقيل نسى ذلك بما أظهر لهما. وقيل لم يقصد المخالفة استحلالا لها، ولكنهما اغترا بحلف إبليس وتوهما أن أحدا لا يحلف بالله كذبا.

وقال ابن جبير حلف لهما حتى غرهما، والمؤمن يخدع. وقيل نسى ولم ينو المخالفة. قال ابن عباس إنما سمى الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسى. قيل فى قوله تعالى

ولم نجد له عزما

لم نجد له قصدا للمخالفة. وأكثر المفسرين أن العزم هنا الحزم والصبر. وقال ابن فورك وغيره إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوة، لقوله تعالى

وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى

فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وقيل قد أكلها وهو متأول، وهو لا يعلم أنها الشجرة التى نهى عنها، لأنه تأول نهى الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس. ولهذا قيل إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة. قيل فعل ذلك ناسيا لقوله تعالى { فنسى } فعوتب بترك التحفظ عن أسباب النسيان، ويحتمل أن يكون النسيان غير محطوط عن الأنبياء لعظم قدرهم، وإن حط عن الأمم، قال صلى الله عليه وسلم

" أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل "

رواه الترمذى

" أشد الناس بلاء الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل "

وصححه. وروى الحاكم

" أشد الناس بلاء الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون "

بل فهم بعضهم من قوله صلى الله عليه وسلم

" رفع عن أمتى الخطأ والنسيان "

أنهما لم يرفعا عن سائر الأمم، ويستثنى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء، فإنه مرفوع عنه ذلك لقوله تعالى

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا

وقيل تأول أن الله لم ينهه عنها نهى تحريم بل تنزيه، كما مر. قيل اجتهد آدم فأخطأ حيث أداه اجتهاده إلى أن النهى للتنزيه، أو إلى أن النهى عن عين تلك الشجرة فقط، فتناول من نوعها مع أن المقصود النوع كله. كما قبض - صلى الله عليه وسلم - قطعة ذهب وقطعة حرير بيده وقال

" هذان محرمان على ذكور أمتى محللان لنسائهم "

وأراد الذهب والحرير جميعا، لا خصوص ما بيده منهما فقط. ومعنى ذلك أخرج ونزع لباسه وعوتب تقطيعا للخطيئة لتجتنبن، فيما قررته تعلم بطلان استدلال الخشوية على عدم عصمة الأنبياء بارتكاب آدم ما نهى عنه، والوصف بالظلم والعصيان والغى وبالتوبة واعترافه بالخسران إن لم يغفر له، وبعقابه بما ذكر من الإخراج والنزع وغيرهما. وهم قوم جوزوا الخطاب بما لا يفهم.

[2.36]

{ فأزلهما الشيطان } إبليس أى أزلقهما أو أصدرهما أو أذهبهما، وأصل الزلل فى زلق القدم، فاستعمال الإزلال هنا فى معنى الإخراج والإذهاب مجاز، مبنى على مجاز آخر، وهو أنه لم يأخذهما فيخرجهما من الجنة، بل تسبب فى خروجهما بالوسوسة بقوله

هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى

وقوله

ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين

ومقاسمته أنى لكما من الناصحين، وليس الزلل حقيقة فى الرأى كالقدم كما قيل. وقرأ حمزة { فأزالهما } من الإزالة، ومعنى الإزلال والإزالة متقارب، لأن فى كل منهما الإذهاب عن الموضع، لكنه الإزلال مع عثرة أو علة فى القدم أو فى الأرض. { عنها } عن الجنة وهو المتبادر. وتدل له قراءة حمزة، ويجوز عود الضمير إلى الشجرة فحينئذ تكون عن سببية. أى حملهما عن الزلة بسبب الشجرة، ويدل له قراءة ابن مسعود { فوسوس لهما الشطيان عنها }. فإن قلت كيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له

اخرج منها فإنك رجيم

قلت أجاز الزمخشرى أن يمنع دخولها على وجه التقريب والتكرمة، كدخول الملائكة، ولا يمنع أن يدخلها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء، يعنى فيكونان مكلفين متعبدين بمخالفته كما كلفنا وتعبدنا بمخالفته. وقيل كان يدنو إلى السماء فيكلمهما، ولعل قائل هذا أراد السماء السابعة، فإن الجنة فيها، وخلق الله فى صوته ما يسمع به آدم وحواء فقط، أو فى سمع آدم وحواء ما يسمعانه به. ولو كان بينهما غلظ السماء أو خلق فى غلظ صوته ما يسمعانه به هما وغيرهما، ولم يؤمر غيرهما بطرده عن ذلك. أو دخل غلظ السماء قرب منهما ولم ينفذها، أو دخل بابا ولم ينفذه، أو كان يرى أن الجنة فى السماء الدنيا وخلق فيهما أو فيه ما ذكر. وقيل قام عند الباب فناداهما، وروى أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة، فدخل فى فم الحية فدخلت به وهم لا يشعرون. وقيل تمثل فى صورة دابة فدخل ولم يشعروا، وقيل كانت الجن تدخل الجنة وإنما منع منها إبليس وحده، فأرسل بعض أتباعه منهم، فأزلهما. فنسب الإزلال إليه لأنه آمر به ومحب له. وذكر بعضهم أن الحية كانت صديقة لإبليس. فلما منعته الخزنة من الدخول أتاها فسألها أن تدخله الجنة فى فيها فأدخلته وهم لا يعلمون به، مع أنها مرت عليهم. وكان لها أربع قوائم كقوائم البعير من أحسن الدواب. وكانت من خزان الجنة قيل وسم أنيابها من مكث إبليس فى فيها. ومسخها الله - عز وجل - لذلك ورد قوائمها فى بطنها. وقيل كانا على باب الجنة وكانا يخرجان منها، وكان إبليس عدو الله قريبا من الباب، فوسوس لهما، وقد دخل مع آدم الجنة لما دخل.

ورأى ما فيها من النعيم والكرامة. قال طيبا لو كان خلد فاغتنم ذلك منه الشيطان فأتاه من قبل الخلد. وقيل لا معرفة آدم بعدم الخلد، وإنما عرفه من كلام إبليس. وقيل إن إبليس - عدو الله - لما سمع بدخول آدم الجنة حسده، وقال يا ويلاه أأنا أعبد الله منذ كذا وكذا ألف سنة، ولم يدخلنى الله الجنة. وهذا خلق خلقه الله الآن فأدخله الله الجنة؟ فاحتال فى إخراج آدم عليه السلام، فوقف على باب الجنة ثلاثمائة سنة حتى اشتهر بالعبادة وعرفوه بها، وهو فى كل ذلك ينتظر خروج خارج من الجنة، فبينما هو كذلك إذ خرج الطاووس، وكان من سادات الطيور، فلما رآه إبليس قال أيها الخلق الكريم على الله، من أنت وما اسمك؟ فما رأيت من خلق الله تعالى أحسن منك؟ قال أنا طائر من طيور الجنة اسمى طاووس، فقال له إبليس إنا من الملائكة الكروبيين، وجعل يبكى، فقال له الطاووس ما يبكيك؟ قال إنما بكيت على ما يفوتك من حسنك وجمالك، قال له الطاووس أيفوتنى ما أنا فيه؟ قال نعم فإنك تفنى وتبيد، وكل الخلائق يبيدون إلا من تناول من شجرة الخلد، فهو من المخلد بين الخلائق، فقال الطاووس أين تلك الشجرة؟ قال إبليس إنا أدلك عليها إن أدخلتنى الجنة. قال الطاووس كيف لى بإدخالك الجنة؟ ولا سبيل إلى ذلك بمكان رضوان. فإنه لا يدخل الجنة أحد ولا يخرج منها إلا بإذنه. ولكن سأدلك على خلق من خلق الله تعالى، يدخلها إن قدر على ذلك، فهو دون غيره فإنه خادم خليفة الله آدم، قال من هو؟ قال الحية. قال إبليس فبادر إليها فإن لنا فيها سعادة الأبد، لعلها تقدر على ذلك، فجاء الطاووس إلى الحية فأخبرها بمكان إبليس وما سمع منه. قال. أنى رأيت بباب الجنة ملكا من الكروبيين من قصته كيت وكيت، فهل لك أن تدخليه الجنة ليدلنا