مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا
شبه حال اليهود فى جهلهم بما معهم من التوراة بحال الحمار فى جهله ما يحمل من أسفار الحكمة. { ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } هذا من تمام تهويل ذلك الصيب الممثل به بتهويل رعده وبرقه، حيث إن رعده بلغ من القوة أن يذهب بأسماعهم، وأن برقه بلغ منها أن يذهب بأبصارهم، لولا أن الله جل وعلا أبقى عليهم أسماعهم وأبصارهم، فضلا منه أو استدراجا، ليتمادوا فى الغى والفساد فيشتد عذابهم، ولو شاء إبقاءها لذهبت، ولكنه لم يشأ فلم تذهب، لأن السبب لا يتأثر فى المسبب إلا بمشيئة الله تعالى، ومفعول شاء محذوف دل عليه الجواب، وقام مقامه، ولا يكاد يذكر بعدما وقع شرطا لأدوات الشرط من نحو شاء وأراد وأحب، مما يدل على حب الشىء أو إرادته وتقديره، ولو شاء الله ذهابا بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ولما حذف من الشرط هو ومتعلقه ذكر منه الفعل فى الجواب وأظهر متعلقه، ولم يؤت به ضميرا وهكذا تقدر أبدا من لفظ الجواب، وإذا كان غريبا لذاته أو لمتعلقه ذكر قول أبى يعقوب الخزاعى من قصيدة يرثى بها خزيم بن عامر، وقيل يرثى بها ابنه لا خزيما
فلو شئت أن أبكى دما لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
فان البكاء نفسه غير غريب، ولكنه يستغرب لكونه بالدم، والمعتاد كونه بالدمع فذكر مع ما تعلق به ليتقرر فى نفس السامع ويأنس به، وقل ذكره إذا لم يستغرب كقول أبى الحسن على بن أحمد الجوهرى
ولم يبق منى الشوق غير تفكرى فلو شئت أن أبكى بكيت تفكر
أى لو شئت البكاء الحقيقى المطلق لم يتيسر. لفناء مادة الدمع لشدة نحولى بل أجد مكان بكاء مجازيا مقيدا بالفكر. بدل الدمع الحقيقى الواقع فى الصور، فليس هذا البيت كالذى قبله لأنه ليس المراد لو شئت أن أبكى تفكرا، فليس ما فى الجواب من جنس ما فى الشرط، فضلا عن أن يدل عليه ويقوم مقامه، ويجوز أن يراد بالبكاء فى قوله فلو شىءت أن أبكى، البكاء مطلقا بقطع النظر عن كونه حقيقا وكونه بكاء تفكر، وإن قلت فلعل المعنى أن الشوق أفنانى فصرت لا أقدر على الدمع، إنما أقدر على التفكر فقط، فلو شئت أن أبكى تفكرا بكيت تفكرا، فيكون كالبيت السابق، لكن على التنازع فى تفكر.
قلت لا يخفى أن قوله فلو شئت أن أبكى بكيت تفكرا، متفرع على قوله ولم يبق منى الشوق غير تفكرى. وذلك الاحتمال لا يصلح على هذا التفريع لأن بكاء التفكر ليس إلا إيقاع التفكر والقدرة على إيقاعه لا يتفرع على ألا يبقى فيه الشوق غير التفكر بخلاف عدم القدرة على البكاء الحقيقى، بحيث يحصل منه بدل الدمع التفكر، فإنه مما يتفرع على ألا يبقى فيه غير التفكر. والله أعلم. ولو هذه امتناعية تدل على امتناع شرطها لامتناع جوابها، فإن الملزوم ينتفى بانتقاء لازمه، هذا مذهب ابن الحاجب، والصحيح قول الجمهور إنها تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها، وقيل إنها لمجرد الربط، مثل إن وغير ذلك، إنما يفيده المقام والسياق، وقد قال التفتازانى الظاهر أن لو هنا لمجرد الشرط بمنزلة أن لا بمعناه الأصلى من انتفاء الشىء لانتفاء غيره ووافقة السيد الشريف، ثم ذكر جواز إبقائها على ما فسر به الآية أولا وقد يقصد بها استمرار الشىء فيربط بأبعد النقيضين عنه نحو لو أهاننى لأكرمته، وقول عمر لو لم يخف الله لم يعصه، وقرأ ابن أبى عبلة لأذهب بأسماعهم وأبصارهم، فالباء فيها صلة للتأكيد ومدخولها مفعول به والتعدية بالهمزة لا بها بخلافها فى قراءة الجمهور، فإنها للتعدية لعدم الهمزة فيها، وإنما جعلت حرف التعدية فى قراءة ابن أبى عبلة هو الهمزة، والصلة هى الباء، لأن الأصل فى التعدية الهمزة لا الباء، ولأنها الكثير فى التعدية والباء فيها قليلة بالشبه. { إن الله على كل شىء قدير } هذا كالتصريح بأن وجود المسببات مرتبط بأسبابها واقع بقدرته تعالى، كما نسبه عليه بقوله عز وجل { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } ، والشىء عندنا وعند قومنا الموجود فى الحال، وما قد كان موجودا وفنى وما سيوجد، وإنما صح إطلاقه على ما وجد وفنى أو سيوجد باعتبار وجوده الماضى أو المستقبل، والأصل ألا يطلق على ما لم يوجد ولا يوجد، سواء أكان جائز الوجود أو ممتنع الوجود، لأنه فى الأصل مصدر شاء يشاء بفتح همزة شاء، فتارة يطلق بمعنى اسم فاعل كشاء بكسر الهمزة المنونة كقام اسم الفاعل شاء بفتح الهمزة بمعنى مريد، وهمزة شاء كقاض هى الياء المبدلة ألفا فى شاء بفتح الهمزة ويشاء، وأما همزة شاء يشاء هذين فأبدلت ياء وحذفت الياء كحذفها فى قاض، فيتناول كل مريد، ولذلك أجيب بالله - سبحانه وتعالى - يعد السؤال عنه فى قوله تبارك وتعالى
قل أى شىء أكبر شهادة قل الله
وقد يطلق على ما لم يوجد لكنه جائز الوجود، وتارة بمعنى اسم مفعول كأنه قيل مشىء بفتح الميم كمبيع أو بإبدالها ياء وإدغام الياء فى الياء، وهما اسم مفعول شاء يشاء، والمراد مشىء وجوده، بفتح الميم، وما شاء الله وجوده فهو موجود باق، أو موجود ماض، أو سيوجد، وكل ذلك بحسب مشيئته تعالى، ومنه قوله تعالى { إن الله على كل شىء قدير } أى قدير على كل ما أراد، وذلك مذهبنا، وقيل ويحتمل وقوعه متناولا لما يمكن وقوعه، ولو كان لم يقع، وقالت طائفة من المعتزلة الشىء يطلق على الموجود والمعدوم والممكن، وقال جمهور المعتزلة، الشىء ما يصبح أن يوجد وهو يعلم الواجب والممكن، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضا فيخصون عموم الآية ونحوها بالممكن، إذا لا معنى لقولك إن الله قادر على الواجب فى حقه كوجوده علمه وسائر صفاته الذاتية، لأنه قديم. وإن قيل ذلك لا على معنى الحدوث والتجدد، فلا بأس، بل بمعنى مطلق بثبوت ذلك له تعالى، ولا معنى لقولك إن الله قادر على المستحيل فى وصفه، فإن هذا حرام وكفر، فكأنه قال إن الله على كل شىء مستقيم قدير، فخرج بلفظ الاستقامة المستحيل، فإنه لا يقال هو قادر عليه ولا عاجز عنه، فلا يتوهم دخوله تعالى فى عموم كل شىء، كما أن قولك زيد أمير على الناس لا يشمل زيدا وإن كان فى جملة الناس. قال سيبويه فى باب مجاز أواخر الكلم من العربية وإنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن الشىء يقع على كل ما أخبر عنه، من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟ والشىء مذكر وهو أعم العام، كما أن الله أخص الخاص يجرى الجسم والعرض والقديم، تقول شىء لا كالأشياء أى معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم والمحال، انتهى. وورش يمكن الياء من شىء، رفعا وجرا ونصبا، وكهيئة واو السوء وشبيهه إذا انفتح ما قبلها، وكان مع الهمزة فى كلمة إلا موئلا والموءودة، وحمزة يقف على الياء من شىء وكهيئة فى الوصل خاصة، والباقون لا يمكنون ويقفون والقدرة التمكن من إيجاد الشىء، وقيل صفة تقتضى التمكن من إيجاد الشىء وإيجاد الإنسان وغيره الشىء وهو فعله الفعل، والشىء الفعل، وإيجاد الله الشىء خلقه جسما أو عرضا، كفعل الإنسان وغيره، فإنه مخلوق الله تبارك وتعالى، وقيل قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل، وقدرة الله عبارة عن نفى العجز عنه، كما أن التكلم فى حقه بمعنى نفى الخرش، والقادر هو الذى إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل، القدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذا قل وصف غير الله تعالى به، ولفظ القدير مأخوذ من التقدير لأن التقدير يوقف فعله على مقدار قوته وما يتميز به من العاجز، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته، وتبين بذلك أن الحادث حال حدوثه وحال بقائه مقدوران، وأن مقدور العبد مقدور لله تعالى، لأن المقدور شىء وكل شىء مقدور، والممكن مقدور ما دام ممكنا باقيا على الإمكان.
قال التفتازانى المقدور إن أريد به ما تعلقت به القدرة فلا يكون إلا موجودا أو إن أريد ما يصلح تعلق القدرة به يكون معدوما، وهو المعنى بقولهم إن الله - تعالى - قادر على جميع الممكنات، وأن مقدوراته غير متناهية، وعرف بعضهم القدرة بأنها الصفة المؤثرة على وفق الإرادة، وتأثيرها الإيجاد، وإن قلت على هذا كيف صح لبعض أن يقول الشىء مختص بالموجود، لأن إيجاد الموجود محال؟ قلت المحال إيجاد الموجود بوجود سابق وهو غير لازم، واللازم إيجاد موجود وهو أثر ذلك الإيجاد وليس بمحال. والله أعلم. ومن أراد أن يحبه أحد محبة عظيمة فيأخذ مرآة من فضة جديدة أو عاج ويكتب فى كاغد { يكاد البرق يخطف أبصارهم } إلى قوله { قديرا } لا قوله { وإذا أظلم عليهم قاموا } فى يوم الجمعة فى زيادة الهلال ويأخذ نملتين من شجرة تكون الواحدة طالعة والأخرى هابطة، وما فيها ثم تجتمعان ويقفان قليلا وجه الواحدة إلى وجه الأخرى، فتجعلان داخل المرآة ويجعل عليهما الكاغد، وتتستر المرآة وما عليها، ثم يريها لمن أراد محبته، بعد أن ينظر فيها هو، فإذا نظر فيها من أراد فليأخذها منه بسرعة ويخفيها عنه، ولا يراها بعد ذلك ويسترها عنده، وقيل فى قوله { ولو شاء الله }... إلخ مستأنفا عن القصة وإن المعنى لو شاء لذهب بسمعهم وأبصارهم الظاهرة، كما ذهب بالباطنة إذ لم يقروا ولم يوفوا، أو أقروا ولم يوفوا، أن الله قدير على ذلك وغيره لا منازع له ولا معقب لفعله، وقد تقدم ذكر الوعيد فناسبه ذكر القدرة هنا فلذا خصت بالذكر هنا.
Unknown page