وعن الشعبى أن فى المال حقا سوى الزكاة، وتلا هذه الآية، ولا ينافى الحديثين حديث نسخ الزكاة كل صدقة، وحديث ليس فى المال حق سوى الزكاة، لأن الشعبى أراد بالحق الواجب ما وجب من تنجية المشرف على الهلاك يجوع أو عطش أو برد أو حر أو نحو ذلك مما يتوصل إليه بالمال، وحق ابن السبيل وصلة الرحم، فإنه إن احتاج لمال وجب له وإلا فصلته واجبة بما أمكن، فإن أديت بالمال تأدت، وكذا يجب إعطاء السائل إن رأيت عليه الحاجة الشديدة حتى كاد يهلك، ثم إن هناك وجوبا أدنى من وجوب، ألا ترى حديث من رد سائلا لم تدخل الملائكة يومه، ولا شك أن هذه الأشياء ونحوها واجبة، صرح بها فى أحاديث، ولوح إليها فى أحاديث كثيرة. قال الفخر روت فاطمة بنت قيس أن فى المال حقا سوى الزكاة ثم تلت { وآتى المال على حبه }. وعنه صلى الله عليه وسلم
" لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره طاويا إلى جنبه "
قال بعض الأندلسيين وهو ابن العربى فى أحكامه إذا وقع أداء الزكاة ثم نزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء، وقد قال مالك يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك ما الهم، وكذا إذا منع الولى الزكاة، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء، الصحيح وجوب ذلك عليهم انتهى. واختلف أصحابنا رحمهم الله فى وجوب التنجية بالمال الصحيح عندى وجوبها فانظر شرحى على النيل الذى من الله الرحمن على به، ولا يجب فى المذهب فك الأسارى وأراد ابن العربى فاتفاق العلماء اتفاق علماء المالكية.
{ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } العطف على من آمن فكأنه قيل ولكن البر بر من آمن والموفين، أو لكن ذو البر من آمن والموفون بإفراد ذو المقدرة على أنها للحقيقة أو يجمعها بأن يقدر ذو البر بالنظر إلى مجموع لفظ من، والموفين أو بالنظر إلى معنى من والموفين، والمراد إذا عاهدوا الله جل وعلا أو الناس أو الله والناس، ودخل فى ذلك ما لزمهم من النذور ووعد العبادة، وما وجب الله عليهم من الفرائض، فإنهم قد عاهدوا عليها إذ كانوا ذرا خارجة من آدم، وإذ فهموا عن الله وقامت الحجة، فإن الفهم وقيام الحجة معاهدة، والخروج عن مقتضاهما مجرد عناده، ودخل الوفاء بالوعد للناس، وأداء الأمانات، وأما العهد الحرام فلا يجوز الإيفاء به، بل يجب تركه والطاعة فى تركه، ويجوز ترك عهد فى الطاعة والإحسان للخلق إلى أحسن منه، وكذا فى المباح كما روى عنه صلى الله عليه وسلم. وقرئ والموفين بالياء نصبا على المدح، أى واجب الموفين بعهدهم إذا عاهدوا. { والصابرين } رفع الموفون كما مر ونصب الصابرين على المدح لمزية فضل الصبر كما تدل عليه مشقته، وكون الأعمال جميعا يعود عليها عاملها بالإفساد إذا لم يصبر وهو أفضل الأعمال، والتقدير وأحب الصابرين كما رأيت فى قراءة نصب الموفين، فإن بعضا قرأ بنصب الصابرين ورفع الموفين وهم الجمهور، وعليه القراء العشرة، وبعضا قرأ بنصب الموفين على المدح ونصب الصابرين عطفا عليه، وبعضا قرأ برفع الموفين والصابرين بالواو عطفا على من. { فى البأساء } شدة الفقر. { والضراء } المرض، وقال الأزهرى البأساء فى الأموال كذهاب بعض ماله أو كله أو كونه فقيرا من أول مرة، والضراء فى الأبدان كالمرض وضعف القوة وزوال بعض منفعة الأعضاء، وزوال بعض الأعضاء، وذلك كذهاب البصر والشم والسمع وقطع اليد. روى مسلم على شرطه والحاكم فى المستدرك عن ابن عباس، رضى الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أول من يدعى إلى الجنة الذين يحمدون الله على السراء والضراء "
وروى مسلم عن صهيب رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إذا أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له "
{ وحين البأس } أى حين الحرب والقتال فى سبيل الله، قيل سميت الحرب بأسا لما فيها من الشدة، ويجوز ألا يكون البأس اسما للحرب، بل للشدة والمضرة الواقعتين فيها وهو الأصل، ولكن استعمال البأس بمعنى الحرب وارد، ولك أن تقول شاع استعمال البأس فى بأس الحرب، ويحتمل هذه الأوجه ما رواه البخارى ومسلم عن البراء بن عازب كنا والله إذا احمر البأس نتقى به، وإن الشجاع منا الذى يحاذيه، يعنى النبى، صلى الله عليه وسلم، واحمر البأس اشتد البأس، ونتقى به يتقدمنا ويكون لنا كالوقاية من العدو.
{ أولئك الذين صدقوا } أولئك الجامعون لهذه الخصال صدقوا فى الدين وادعاء البر، وفى طلب البر بدليل أنهم وصلوه، أولئك مبتدأ والذين خبره، والصدق هنا مطابقة لشئ لما يقتضيه، فكلمة الإخلاص تقتضى الاتباع بالعمل، فمن اتبعها به قيل صدق فيها، والاجتهاد فى عمل تلك الخصال صدق فى طلبها، ومقتضى ادعاء الشئ ثبوته كما ادعى، وهكذا ويقال صدق سيفى أى فعلت به ما أعددته لأجله. { وأولئك هم المتقون } التاركون للمعاصى، أو الحاذرون عذابه والآية جامعة للكمالات الإنسانية، وهى ثلاثة أصول صحة الاعتقاد المشار إليها بقوله { من آمن } إلى { والنبيين } ، وحسن المعاشرة المشار إليها بقوله { وآتى المال } إلى قوله { وفى الرقاب } ، وتهذيب النفس المشار إليه بقوله { وأقام الصلاة } إلى آخرها فوصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه واعتقاده، ووصفه بالتقوى اعتبارا بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق، وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم
" من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان "
Unknown page