[2.170]
{ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله } أى وإذا قيل للناس المذكورين فى قوله جل وعلا { يأيها الناس كلوا } ، وفيه التفات من الخطابات السابقة إلى الغيبة ومقتضى الظاهر، وإذا قيل لكم اتبعوا ما أنزل الله قلتم بل نتبع لكن ذكرهم بلفظ الغيبة ليكون الكلام موجها فى تقبيحهم إلى غيرهم، بحيث لا يكون لهم مدخل فى الخطاب به أعلى بضلالهم، كأنه قيل للعقلاء أنظروا إلى هؤلاء الحمقاء، ماذا يقولون إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ولأنهم ليسوا أهلا للخطاب، حيث اتبعوا الشياطين بعد ما نهاهم الله عز وجل عنهم، لشدة جهلهم، وكمال غباوتهم، ويجوز أن يكون الكلام متصلا بقوله
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا
فالالتفات والمراد على الوجيهن المشركون من العرب، أى وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله فى القرآن من الحجج والآيات والأحكام الشرعية، وترك اتخاذ الأنداد، وترك تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم، واتباع خطوات الشيطان. { قالوا نتبع ما ألفينا } ما وجدنا. { عليه آباءنا } من اتخاذ الأصنام وتحريم السوائب، والبحاير ونحو ذلك ميلا إلى التقليد، ولمن يدعى الإسلام طرف من هذا نحاججه بالأدلة والبراهين القرآنية والسنية، فلا يتبعها وبآثار العلماء فيأبى إلا ما وجد عليه بعضا من الناس مما خالف القرآن والسنة والأثر. وعن ابن عباس دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، فقال طائفة منهم كرافع ابن خارجة ومالك بن عوف وغيرهما بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فهم كانوا خيرا منا وأعلم، فنزلت الآية. ومثل هذه المقالة اليهودية يقول بعض من يدعى الإسلام وعلى ما قال ابن عباس يكون الضمير عائدا إلى غير مذكور، أو إلى من فى قوله { من يتخذ } على أن الأنداد الرؤساء فإن اليهود، قبحهم الله، يقندون رؤساءهم، وعلى ما قاله ابن عباس، يكون قوله { ما أنزل الله } ، شاملا للتوراة كالقرآن، لأنها تأمر بما يأمر الحق، ويجب اتباعها فى كل ما لم ينسخ بالقرآن، ويجوز عود الضمير للناس مرادا به اليهود على طريق الاستخدام إن عاد إلى الناس فى قوله { يأيها الناس } وعلى ما يشبه الاستخدام إن عاد إلى الناس فى قوله { ومن الناس }. { أولو كان آباؤهم } الهمزة للاستفهام الإنكارى، أنكر أن يكونوا على صواب فى تقليد الآباء، أو للتعجيب، يعنى إيقاع السامع فى عجب، ومدخولهما محذوف، أى أيقولون ذلك أو يتبعون آباءهم، والواو للحال، وصاحب الحال واو يقولون، أو واو يقلدون، أو آباء المقدر، أو للعطف على حال محذوفة، أى يقولون ذلك أو يتبعون آباءهم لو كان آباؤهم يعقلون ويهتدون، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، على معنى أيقولون ذلك، أو أيتبعونهم سواء علموا أو جهلوا، واهتدوا أو لم يهتدوا، وجواب لو محذوف دل عليه ماء يقدر من قولك أو يتبعون، ويجوز أن تكون الهمزة مما بعد الواو، والواو للاستئناف، أو لعطف هذا الكلام من الله على جملة نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من كلامهم، أو للحال من كلام الله وصاحب الحال من كلامهم، وهو نا من ألفينا، والمعنى أو لو كان آباؤهم الذين يتبعونهم.
{ لا يعقلون شيئا } من الذين. { ولا يهتدون } إلى الصواب. والآية مانعة لمن قدر على الاجتهاد من التقليد، أو مانعة لمن قدر على النظر والترجيح أن يقلد قولا من الأقوال، ويترك نظره وترجيح ما يظهر ترجيحه له، واتباع القرآن والسنة ليس تقليدا واعلم أن الحق هو القرآن والسنة، وما لم يخالفهما من الآثار، فمن قام بذلك فهو الجماعة والسواد الأعظم ولو كان واحدا، لأنه نائب النبى، صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين الذين اهتدوا، وكل مهتد، ومن خالف ذلك فهو مبتدع ضال ولو كان جمهور، هذا ما يظهر لى بالاجتهاد، وكنت أقرره للتلاميذ عام تسع وسبعين ومائتين وألف، فأصحابنا الإباضية الوهبية هم الجماعة، والسواد الأعظم وهم أهل السنة، ولو كانوا أقل الناس، لأنهم المصيبون فى أمر التوحيد وعلم الكلام والولاية والبراءة والأصول دون غيرهم، وأما الفروع فقولهم فيها أصح لأدلته، لكن قد يشاركهم غيرهم فى لاصحة فيما خالفهم، ثم اطلعت بعد ذلك بنحو عامين على ما ذكرته ووجدته نصا للثورى، قال الشعرانى كان سفيان الثورى يقول المراد بالسواد الأعظم هم من كان من أهل السنة والجماعة، ولو كان واحدا والحمد لله. والشاهد فى قوله ولو كان واحدا مع حقيقة قوله أهل السنة والجماعة الصادقة على أصحابنا، ولو أراد هو أهل المذاهب الأربعة وهم أهل أهواء.
[2.171]
{ ومثل الذين كفروا } أى صفتهم الشبيهة بما يضرب مثلا للغرابة ومع من يدعوهم إلى الإيمان والإسلام، وإنما قلت كمذا لقوله { كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } فإن فيه الناعق والمنعوق عليه، فالناعق هو الإنسان الذى يصوت على نحو الغنم كالراعى وما لا يسمع إلا دعاء ونداء هو المنعوق عليه من نحو الغنم، والباء بمعنى على أو للإلصاق المجازى، أو بمعنى مع، فحال المشركين المصرين مع من يدعوهم إلى الإيمان والإسلام كحال الراعى مع دوابه، فهم لا تؤثر فى قلوبهم ما يؤمرون به من الإيمان والإسلام، كما تسمع الدواب صوت الراعى فى غنائه وكلامه ودعائه وندائه لغيرها غير زجره لها وغير سوقه لها ولا تفهمه، وهب أنه دعاها فجاءت، وساقها فانساقت، لكن عادة فيها جارية مألوفة لها من غير أن تعتقد فى ذلك معنى، كما قد تقول لمشرك قل لا إله إلا الله محمد رسول الله وما جاء به حق، فيقول له من غير أن يفهم معناه على الحقيقة، ولا أن يعتقده، والكلام يحتاج إلى تقدير مضاف أو لا آخرا، والأصل ومثل داعى الذين كفروا كمثل الذى ينعق، ومثل الذين كفروا كمثل بهائم الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، وفاعل يسمع ضمير عائد إلى ما، ويجوز أن يكون الدعاء والنداء هما من الناعق، يدعو البهائم ويناديها فتمتثل من غير أن تعرف حقيقة الدعاء والنداء، بل تتبع ظاهر دعائه وندائه، والمشركون كذلك يتبعون ظاهر حال آباءهم جاهلين بما يترتب على اتباعهم، وبحقيقة حالهم، وإن قلت يتعين هذا لقوله { بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } قلت لا يتعين لأنك إذا تكلمت لأحد بحضرة إنسان آخر صح أن يقال تكلمت معه، أى فى حضرته، وأن يقال أوصلت صوتك بسمعه، والصقته به، وأن يقال علوته بكلامك، وهذا على أن العيق بمعنى الصوت مطلقا، وأما على أنه بمعنى صوته على البهائم فيتعير هذا الوجه إلا على المجاز من أن يطلق على مطلق الكلام مجازا، كما هو الوجه الأول الذى أشرت إليه بقولى كما تسمع الدواب صوت الراعى فى غنائه وكلامه، ويجوز أن يكون شبه دعائهم الأصنام بالنعق على البهائم، ثم رأيته قولا لمجاهد، وهذا لا يحتاج إلى تقدير مضاف، لكن لا يساعده قوله إلا دعاءا ونداءا، لأن الأصنام لا تسمع الدعاء والنداء ولا غيرهما، اللهم إلا أن يجعل ذلك من الاستعارة التمثيلية، أى ومثلهم فى دعائهم الأصنام فيما لا جدوى فيه، كمثل الناعق بما لا يسمع، وزعم بعض أن الآية من الاحتباك البديعى، وأن التقدير مثل الذين كفروا معك يا محمد، كمثل الناعق مع الغنم، ويرده أن الاحتباك إن تحذف من كل طرفى كلام ما أثبت نظيره فى الآخر، وهنا حذف قولك يا محمد من طرف واحد، أثبت نظيره فى الطرف الآخر، ولم يحذف من الطرف الآخر شئ موجود فى الأول، وعن ابن عباس وعكرمة والسدى وسيبويه أن المعنى تشبيه واعظ الكفار وداعبهم بالراعى الذى ينعق بالغنم أو الإبل، فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفقه ما يقول، أى لكن تنزجر أو تجئ بذلك الصوت إجمالا من غير أن تفهم أجزاء الكلام وحقيقته، فالنعيق بها كضرب الحجر أمامها فى أنها تنزجر به، قال الحسن كمثل الراعى الذى يصيح بالغنم فترجع رءوسها لا تدرى ما يقول، ثم تضع رءوسها، فكذلك هم إذا دعوا إلى الهدى، واعلم أن الدعاء طلب الفعل والنداء الصوت، قاله الجوهرى، أى الصوت من حيث رفعه، فالصوت من حيث رفعه يسمى نداءا، كما قال إن أندى الصوت أن ينادى، داعيان ومن حيث إنه فى معنى الطلب يسمى دعاء، وقال القرطبى الدعاء للقريب، والنداء للبعيد وهو مشكل، إلا أن أراد بقوله للقريب الكناية عن كون رفع الصوت غير مراد فى مدلول الدعاء، وجملة { مثل الذين كفروا كمثل الذى } إلخ معطوفة على جملة
وإذا قيل لهم ابتعوا
وأما النعيق فقد علمت أنه الصوت مطلقا، قال الزمخشرى يقال نعق المؤذن ونعق الراعى بالضأن. قال الأخطل
فانعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك فى الخلاء ضلالا
Unknown page