منذ أيام قليلة التقيت صدفة بصديقتي بطة «الدكتور كاميليا»، رأيت امرأة عجوزا تملأ وجهها التجاعيد، تتكئ على ذراع زوجها، لم أتعرف عليها، توقفت عن السير حين رأتني وصاحت: نوال! مش معقول!
كانت بطة من أقرب الصديقات إلي، تخرجنا معا من كلية الطب، رغم الاختلاف في كل شيء كنا نلتقي، تمر السنوات دون أن أراها وفجأة يدق جرس التليفون في بيتي وأسمع صوتها: إزيك يا نوال؟ أهلا يا بطة.
كان هناك شيء يجمع بيني وبين صديقتي بطة، التعود القديم أو الإدمان؟! تملأ حياتي الجادة بشيء من الاستهتار، إلى جوارها أحس بالنقاء، يحتاج النقاء لشيء من الفساد ليرى نفسه.
كانت بطة تحب الفن والسينما والرقص، لم تكن تطيق الحديث في السياسة ، لا تؤمن بهذه الكلمات الثلاث الكبيرة: الوطنية، الاشتراكية، الإخلاص الزوجي. تطلق ضحكتها المتقطعة كالشهقات، وتقول: إذا كان ربنا خلقنا درجات الخيانة الزوجية ليه أحيانا نؤمن بالإخلاص، كان ربنا خلقنا درجات ليه نؤمن بالاشتراكية أو العدالة؟! وإذا لم تكن سامية توافق على ما تقوله بطة، تزم شفتيها الرفيعتين وتصف بطة بالبرجوازية المنحلة، تشهق بطة بسخرية وتقول لسامية: أنت شيوعية غارقة لأذنيك في حب البرجوازية. ينسحب الدم من وجه صفية حين تسمع كلمة الشيوعية، كأنما تسمع عن مرض أو وباء، كلمة البرجوازي أيضا كانت تغضبها، تهمس في أذني: بطة وسامية زي القط والفار لازم يتناقروا، يالا بينا يا نوال نلعب ماتش تنس!
كانت صفية أقرب الصديقات إلي، إن غابت عني الصديقات فهي لا تغيب، تزورني في بيتي من حين إلى حين، أراها من النافذة وهي تركن سيارتها الفيات الزرقاء، في شارع جانبي صغير متفرع من شارعنا في الجيزة، في مواجهة سور حديقة الحيوانات. منذ بدأ السادات عصر الانفتاح غرقت الشوارع تحت فيضان من السيارات المستوردة، أصبحنا نستورد كل شيء حتى الخبز وعصير البرتقال، ومن كاليفورنيا أخيرا جاء الفول المدمس في العلب.
اختفت الشجرة أمام بيتي وارتفعت الجدران، حاجبة الشمس والهواء، لم أعد أرى الشارع الجانبي الصغير حيث تركن صفية سيارتها أمام محل البقالة، أتابعها بعيني وأنا واقفة في النافذة بالدور الخامس، يبدو الشارع العريض مسدودا بالسيارات، التي تتلاصق بجوار الرصيف وفوق الرصيف، لا يبقى إلا ممر ضيق لا يسمح بمرور المشاة. أتابع صفية وهي تشق لنفسها طريقا بين السيارات، رأسها مطرق إلى الأرض قليلا. وفي كلية الطب كانت تتهيب الدخول إلى المدرج المليء بالطلبة، تختفي ورائي حين ندخل من الباب، تتعثر خطواتها قليلا حين ترمقها العيون، تكاد تجري لتلحق بي وأنا أمشي بخطواتي الواسعة السريعة أواجه عيونهم أرد إليهم سهامهم، صفية تطرق إلى الأرض، لا تريد النظر إلى هذه العيون المحملقة، تمد ذراعها وتمسك ذراعي، تتشبث بيدي كالطفلة تمسك يد أمها.
قالت صفية: مبروك يا نوال روايتك الأخيرة، أنا أحسدك لا أعرف من أين تأتيك الشجاعة؟! ألا تخافين ألسنة الناس؟! إنها تنهش سمعتك يا نوال، ألا تسمعين ما يقولون؟! ليس عندي وقت يا صفية لسماع ما يقوله الناس، اسمعي هذه القصة القصيرة، انتهيت منها الآن فقط.
تراجعت صفية إلى الوراء فوق الكنبة في الصالة الصغيرة، فوق المنضدة زجاجة بيرة ستلا مثلجة، صحون صغيرة بها قطع جبنة بيضاء، خيار، طماطم، زيتون أخضر وأسود.
تنهدت قبل أن تمسك زجاجة البيرة، مسحت بمنديلها قطرات عرق فوق جبينها، لم يكن العرق يظهر فوق جبينها مهما جرت، كنا نلعب التنس ولم يكن العرق يظهر. شيء ما يحدث في حياة صفية، يظهر رغم إرادتها على شكل قطرات العرق، رعشة خفيفة لأصابعها البيضاء وهي تمسك زجاجة البيرة، تصبها في الكوب بحذر حتى لا تفور الرغوة، قطرات ماء تتكثف على جدار الكوب الزجاجي، تنتشي قليلا، يعود البريق إلى عينيها الخضراوين الناعستين قليلا. الشمس اختفت تقريبا، لم أعد أرى الشمس من نافذتي، إلا شعاعا طويلا رفيعا يتسرب عند الغروب مائلا بين الجدران العالية. أبواق السيارات تزعق في الشارع، لا أكاد أسمع صوت صفية وهي تحكي عما حدث لها بالأمس. أغلق النافذة بالزجاج والشيش، مع ذلك يصلنا صوت الأبواق تصرخ، أصوات الرجال تزعق فوق مآذن الجوامع من خلال الميكروفونات، طرقعات جارتي بالقبقاب فوق بلاط غرفتها المجاورة، الرجل في الشقة الأخرى يؤدب زوجته بالصفعات والشتائم، رياح وعواصف رملية تهب من الصحراء، صفافير سيارات البوليس والإسعاف والنجدة، ماسورة المجاري مكسورة في الشارع المجاور، طبيخ بايت يغلي تتصاعد رائحته من المنور، أصوات قطط تتنافس حول صفائح القمامة، مقلوبة أو مفتوحة بدون غطاء، بائع الروبابيكيا ينادي، وبائع الصحف يزعق: أهرام! أخبار! السادات يزور إسرائيل، أهرام! أخبار! جمهورية!
أفرغت صفية كوب البيرة المثلج في جوفها، أسندت رأسها إلى الوراء فوق المسند، ثم ضحكت جاءه الله في المنام وقال له قم وانهض وسافر إلى إسرائيل! شوفي الراجل المجنون يا نوال! معقول ربنا يقوله في الحلم روح إسرائيل؟ هو فاكر نفسه سيدنا محمد وبيعمل رحلة الإسراء والمعراج؟ لكن العيب مش عليه، العيب على اللي حواليه، كلهم منافقين وكدابين زي الدكتور المحترم جوزي. - المناخ العام الفاسد يا صفية يشجع الناس على الفساد. - أيوه، لكن جوزي مصطفى طول عمره فاسد، عارفة البنت إياها اللي كان ماشي معاها؟ - البنت أنهيه يا صفية؟ - اللي حكيت لك عنها قبل كده.
Unknown page