224

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

بدأت أرى في الحلم ملاءة حمراء بالدم، منذ طفولتي كرهت دم الحيض، ويسألونك عن الحيض قل هو أذى، ولا تقربوا النساء حتى يطهرن. كان الغثيان يصيبني منذ الطفولة حين أرى بقعة الدم في ملابسي أو فوق الملاءة، أصبحت أنشدها في النوم واليقظة، أحلم بها، أستحضرها، أشدها من براثن القضاء والقدر، أضرب بطني بقبضة يدي، أقفز من فوق السور في الشرفة، كنا نسكن في الدور الأول في بيت أبيض كبير من دورين، لم يكن ارتفاع الشرفة كافيا لإسقاط الجنين، إنه جنين شرس يتشبث بجدار الرحم كالقملة تلتصق بجلدة الرأس، جنين مكتنز الوجه عيناه صغيرتان غائرتان في اللحم مثل أبيه وأم أبيه.

حاولت طرد الجنين الغريب من جسدي، ابتلعت حبوبا سامة لأقتله داخل الرحم، حقنت نفسي بعقاقير الإجهاض، قفزت من الشرفة فانكسرت ذراعي اليمنى دون أن يسقط الجنين. أخذتني بطة بسيارتها البويك إلى مستشفى قصر العيني، أصبح زوجها الدكتور حمدي رئيس أحد أقسام الأمراض الباطنية، صورة الأشعة كشفت عن كسر في عظمة «الريدياس»، علق الدكتور حمدي ذراعي في عنقي برباط من الشاش. أخذتني بطة إلى قسم الجراحة لعمل جبيرة من الجبس حول ذراعي، سرت إلى جوارها في الممر الطويل، النوافذ الكبيرة المطلة على النيل، وجوه الممرضات الشاحبة، وجوه المرضى والمريضات الأكثر شحوبا، وجوه الأطباء ممتلئة باللحم رغم الشحوب، تعرفت على بعض الأساتذة وزملاء الدراسة، توقف أحدهم وهتف: مش معقول؟ دراعك ما له يا نوال؟

تذكرت صوته الناعم الرقيق، حين كان يقول عن الطالبات الآنسات الكوارير «القوارير» يقلب القاف إلى كاف كنوع من الرقة. إزيك يا ست بطة، وإزي الدكتور حمدي، إيه الحكاية يا نوال دراعك فيه إيه؟

كنت في حالة من الإعياء، الألم والحزن وغثيان الحمل غير المقدس. ثلاث سنوات مضت منذ جاء إلى بيتنا يطلب يدي من أبي، كان يوما حارا مليئا بالغبار، وكانت أمي في فراش المرض. في غرفة الصالون جلس مع أبي يتحدثان في السياسة. كانت له سيارة شيفروليه زرقاء طويلة، يرتدي بدلة بيضاء لامعة من الشاركسكن، شعره لامع، حذاؤه لامع، الدبوس في الكرافتة لامع، الفص اللامع في الخاتم حول إصبعه، النظارة الزجاجية تلمع فوق عينيه، كل شيء فيه يلمع، لا شيء فيه منطفئ إلا العينان.

كان يرمقني من تحت النظارة بنظرة فاحصة، يرمق ذراعي المعلق في عنقي برباط الشاش، لا بد أن وجهي كان شاحبا؛ لأنه قال: إنتي عيانة ولا إيه يا نوال؟ تطوعت بطة بالرد نيابة عني، عندها كسر في الريدياس يا دكتور رشاد. - ورايحين على فين يا بطة؟ تعالوا معايا ع القسم لازم دراعك يتجبس يا نوال ؟

كان ذلك منذ أربعين عاما، التقيت بالدكتور رشاد عدة مرات أخرى، في اجتماع بوزارة الصحة، أو نقابة الأطباء، أصبح له منصب كبير في الجامعة وفي الدولة وفي المجلس الأعلى للبحوث الطبية. يرمقني من تحت النظارة بنظرة مخلبية. كان من أعوان عبد الناصر، ثم أصبح من أعوان السادات. حين دخلت السجن عام 1981 قال لصديقتي بطة: نوال تستاهل السجن عشان تبطل كتابة! وفي عام 1993 حين عرف أنني أعيش في المنفى خارج مصر قال لصديقتي بطة: تستاهل عشان الكلام اللي كتبته ضد حرب الخليج! ده كلام فارغ!

منذ عامين سألته إحدى الصحفيات في حوار طويل نشر في جريدة كبرى، سألته عن رأيه في كتابات بعض النساء، سهير القلماوي وأمينة السعيد ولطيفة الزيات وغيرهن. قال إنهن نساء عظيمات تستحق كل منهن ما حصلت عليه من جوائز. ثم سألته الصحفية: وما رأيك في كتابات نوال السعداوي؟ وجاء رده: كتاباتها تستهين بالقيم الإسلامية والتقاليد الشرقية، نحن هنا في الشرق نؤمن بالروحانيات لكن القيم في الغرب مادية وإباحية ، وهي تكتب للغرب.

لم أقرأ هذا الحوار في الجريدة، لكن بطة قرأت لي هذه الفقرة عبر الأسلاك، ثم قالت: الدكتور رشاد لم يغفر لك أنك رفضته، الرجل لا ينسى المرأة التي رفضته، يظل الجرح مفتوحا لا يلتئم. على العموم يا نوال الدكتور رشاد أحسن من غيره، إنتي عارفة زكريا، الدكتور زكريا اللي كان بيدرس لنا الفسيولوجي، الراجل ده هو الوحيد اللي أشاع إنه عمل معايا علاقة مع إني لا حبيته ولا فكرت فيه يوم واحد، كان لازم ينفس عن إحباطه بالإشاعات، أي راجل يعلن إنه عمل علاقة بامرأة تأكدي إنها الوحيدة اللي رفضته! والغريب يا نوال إن الدكتور زكريا بقى من كبار الأدباء فجأة، عملوه عضو في اللجنة الأدبية العليا أو معرفش المجلس الأعلى للقصة والرواية، حاجة زي كده مع إنه عمره ما نشر كتابا واحدا في الأدب أو كتب قصة واحدة! المسائل بقت كلها عك في عك؛ وأكبر دليل على العك إن الدكتور رشاد كمان بقى يفتي في الأدب النسائي مع إنه مالوش في الأدب ومالوش في النساء!

كركرت بطة بضحكتها المتقطعة المرحة، لكن صوتها أصبح مبحوحا مشروخا، تتخلله بعض الشهقات من حين إلى حين، تشكو الشيخوخة وآلاما مجهولة السبب، وصداعا في مؤخرة الرأس، فحصها زوجها الدكتور حمدي وقال لي: إنها مثل الحصان ولا شيء فيها مريض إلا عقلها. - تصوري يا نوال صاحبتك بطة اللي عمرها ما عرفت ربنا سافرت مكة ورجعت لابسة طرحة وماسكة سبحة؟ •••

أمام المرآة في غرفة نومي رأيت الوجه الطويل الشاحب، الذراع اليمنى الملفوفة في الجبس الأبيض، معلقة في عنقي برباط من الشاش، البطن المرتفع قليلا تحت الثوب الواسع، عادت إلي الذاكرة شيئا فشيئا، مثل قطرات الماء البارد يتساقط فوق رأسي.

Unknown page