223

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

لم يكن يتركني أكتب داخل غرفتي، لا يكف عن فتح الباب والدخول، يحاول قراءة ما أكتب، لا شيء يجهض الرواية قبل أن تكتمل إلا العين الغريبة، لا أحد يقرأ ما أكتب داخل غرفة بابها مغلق. لا أحب النور الكهربي الشديد الإضاءة، يكفيني الضوء المتسرب من المصباح في الشارع، أو لمبة صغيرة يسمونها سهارة، أو لمبة جاز حين تنقطع الكهرباء. يكفيني أن أرى حروفي فوق الورق، ويغرق بقية المكان في الظلمة. تنمو الرواية في خيالي كالظلال المتحركة في الأركان، تبدأ ذاكرتي تصحو حين ينام الكون. أجلس في الظلمة ساكنة داخل الصمت، لا تصحو ذاكرتي إلا بعد ساعتين أو ثلاث ساعات أنسى فيها مشوشات النهار. أنزع قشرة المخ، الأنا العليا والكذب، أشدها بأصابعي مثل خصلة شعر أو قطعة من فروة الرأس، أحسها تحت يدي مثل الندبة، أو الجرح القديم المفتوح، يلتئم في الظلمة مع مرور الزمن داخل السكون. تبدأ ذاكرتي تصحو، يتحرك القلم فوق الورق، يندفع وحده فوق السطور، صوت في أعماقي كالوحي تمليه الكلمات، تتدقق الرواية كمياه النهر الهادئ، يصبح شلالا الساعة بعد الساعة، ينتفض القلم بين أصابعي، يسري في ذراعي تيار ساخن يصعد إلى رأسي ويهبط إلى القدمين، شحنات من الدم تتدفق إلى جسدي كالمصابة بالحمى، أنتفض وأنا جالسة في مقعدي وراء المكتب.

لم يكن يتركني لأكمل الكتابة، كأنما الرواية جنين في أحشائي من صلب رجل آخر يريد إجهاضها، يفتح الباب ويدخل، إن وجد الباب مغلقا يدقه بقبضة يده، يفتح الراديو بأعلى صوت، يطرقع بالقبقاب فوق بلاط الحمام، يجلس في الصالة ويتحدث في التليفون بصوت يصل إلى الجيران، أو يتحدث مع الزوار في غرفة الاستقبال ويقهقه بصوت يرج الجدران.

كانت أمه تزورنا كثيرا، أسمع صوتهما من وراء الباب المغلق، يشكو لها مني: «اتجوزت يا ماما واحدة مجنونة، تصحى في نص الليل تكتب.»

تمصمص الأم شفتيها في حسرة، «معلهش يا ابني كل شيء قسمة ونصيب، وأنت اللي اخترتها، والكتابة مافيهاش ضرر، أحسن ما تخرج زي النسوان التانية في الشوارع وتصرف الفلوس على مافيش، كان لازمك يا ابني واحدة تانية مكسورة العين تكون بين إيديك وتحت رجليك، لكن خلاص أهي بقت مراتك، يمكن ربنا يهديها لما تولد، ربنا يرزقك بابن يقولك يا بابا، ويقول لي يا نينة، ياما نفسي أعيش وأشوف ابنك يا رب يا كريم، وأهي حامل في شهرين.» - حامل في شهرين؟!

ترن الكلمات في أذني وأنا منكفئة أكتب، أرفع رأسي من فوق المكتب، أتلفت حولي كمن تصحو من الحلم، أو كمن تسقط في النوم، صوت يتحدث عن امرأة حامل في شهرين، صوت غريب لم أسمعه من قبل، والمرأة الحامل أيضا لا أعرفها، ليست هي أنا بالتأكيد، إن كانت هي أنا فالأمر شديد الخطورة، كارثة! كيف يحدث الحمل دون حب ودون زواج، دون أن أفقد العذرية؟!

ربما هو حلم، منذ الطفولة يراودني هذا الحلم، في السابعة من عمري كنت أتحسس بطني تحت الغطاء، أخشى أن يرتفع بالحمل. كانت البنات في المدرسة يتهامسن بكلمة لا أفهمها، الحمل السفاح، تشرحها لي البنات دون جدوى، الشيطان إبليس هو وراء الحمل السفاح، قبل أن أنام أسد شقوق النافذة بالصحف القديمة حتى لا يتسلل منها إبليس، صديقتي القبطية إيزيس لم تكن تسد شقوق نافذتها، كانت تؤمن بالحمل المقدس، وليس الحمل السفاح، تشرح لي الفرق بينهما، ستنا مريم العذراء، تسلل إليها مندوب الله في الليل وحملت بسيدنا المسيح، هذا هو الحمل المقدس، أتحسس تحت الغطاء ارتفاعة بطني، كنت في السابعة من عمري أنشد المثالية في كل شيء حتى الحمل. - حامل في شهرين؟!

الصوت الغريب يخرق أذني مثل رصاصة، أنتفض في مقعدي وراء المكتب، يسقط القلم من يدي، أرفع وجهي من فوق الأوراق، أرى أمامي امرأة عجوزا تلف رأسها بطرحة سوداء، بشرتها بيضاء ووجهها سمين مستدير، عيناها صغيرتان غائرتان في اللحم، ترمقني بنظرة الحدأة، نظرة فاحصة مدققة تهبط إلى بطني تخترق جدار الرحم، تستكشف الجنين في أحشائي، تفتح فخذيه تبحث عن عضو الذكر، تريد التأكيد أنه طبق الأصل من صلب أبيه وليس من صلب رجل آخر.

منذ تزوجت كان الغثيان يصيبني كل صباح، أغلق الباب وأفرغ معدتي في الحوض. في طفولتي سمعت جدتي تقول: إن الزواج يصد النفس عن الأكل، وقالت أمي: إنه الحمل وليس الزواج، عرفت أن الحمل يعني انقطاع الدم.

حملت في الزواج الأول وأنجبت طفلة جميلة، كانت ابنة الحب وليس الزواج، لم أكن أومن إلا بالحب، تصورت أن الزواج بدون حب ينتج عنه أطفال مشوهون. أتحسس بطني وأنا جالسة وراء المكتب، في أحشائي حمل غير مقدس، جنين مصنوع من الكذب، نطقت كلمة «أحبك» لرجل لا أحبه، يقاسمني الفراش تحت اسم الزواج، بشرته بيضاء، وجهه سمين ممتلئ مثل أمه وأنا أحب الوجوه النحيفة الرشيقة، قامته قصيرة، جسمه مربع مكتنز باللحم وأنا أحب القامة الطويلة الممشوقة، يداه صغيرتان بيضاوان ناعمتان خجولتان، أصابعهما قصيرة مضمومة، وأنا أحب اليد الكبيرة الشجاعة المفتوحة.

كل صباح أفتش عن قطرة حمراء في ملابسي أو فوق الملاءة، أفتح عيني كل يوم أبحث عن نقطة دم، تظل الملاءة نظيفة بيضاء ناصعة البياض، يصدمني اللون الأبيض، يذكرني بالموت والمرض والكفن الحريري ومعاطف الأطباء والأسرة البيضاء ورائحة المستشفى.

Unknown page