نلمح السخط على البيئة في شعر أبي شادي منذ صباه، ونلمح هذا السخط مضاعف الشعلة في دواوين شعره الحديث بعد غيابه الطويل في إنجلترا. ولا عجب في ذلك فقد نشأ شاعرنا من الوجهة الثقافية والنفسية نشأة عالية لم تفسدها المتاعب والهموم العائلية في طفولته وصباه وإن صبغتها بلون قاتم، واتخذ خلقه الإنساني صورا عملية شتى من البر والوطنية والتضحية لازمته منذ نشأته، فكان رجلا ناضجا وهو في سن الشباب. ولبث يعمل ويضحي بينما يقنع كثيرون بالثرثرة والدعابات إلى وقتنا هذا، فيلاقي الوفاء مرة ويلاقي الجحود مرات، وقد صدق عليه قول الأحوص في لاميته المشهورة:
متحمل ثقل الأمور حوى له
سبق المكارم سابق متمهل
وتكون معقلهم إذا لم ينجهم
من شر ما يخشون إلا المعقل
وأراك تفعل ما تقول، وبعضهم
مذق الحديث يقول ما لا يفعل
وما زال على هذا الخلق الفذ النبيل والنشاط العجيب إلى وقتنا الحاضر الذي يحمل فيه على كتفيه من الأعباء العامة ومن خدمة الثقافة العالية ما تنوء دونه الجماعات ... والرجل يبذل دم قلبه وعصارة روحه ونور عينيه ورزقه ورزق أولاده فيما كلف به من مثل عليا، فلا يلاقي في معظم الأحوال غير الإساءات والجحود، بل والمن أيضا من كثيرين ممن غمرتهم ديمقراطيته الأدبية بحبه وإحسانه ومؤازرته الجمة، فلم يعنهم من كل هذا إلا أن يترعرعوا بفضل رعايته، وإلا أن يصعدوا على أكتافه ثم يعضوا اليد الكريمة التي خلقتهم من لا شيء، أو التي أخرجتهم من الظلمات إلى النور ... ولا أتردد في أن أقول غير مدافع: إن أبا شادي الرجل الإنساني والمثالي الشاعر، هو رجل التضحية المنقطع النظير في هذا البلد الذي كثيرا ما اعتز فيه المهرجون وأدباء المقاهي. ولم يحاربه ولن يحاربه إلا المخدوعون وأهل الأراجيف والأدعياء، وحيويته العملية هي حيوية شعره الخالد، وشكواه من البيئة هي شكوى الطعين الغبين الذي مهما شكا فلن يعرف الحقد سبيلا إلى قلبه الطاهر، ولن تنال الأحداث مثقال ذرة من عزمه الفولاذي ولا من نفسه الوديعة القاهرة. •••
هذه هي الصفات النفسية البارزة التي تألف وما يزال يتألف منها شعر أبي شادي، والتي نحييها في شعر صباه كما نحييها في شعر شبابه وكهولته.
وشاعرنا واسع الاطلاع والتجاريب، بعيد الجراءة، كاره للتقاليد الجامدة وإن لم يكن هو من المتجردين، وكل هذا ملموح في غاياته الشعرية وفي أساليبه. وإذا استثنينا زفراته وصرخاته المتكررة في وجه البيئة الجاحدة العاقة، فإننا لا نجد أبا شادي من يعبأ بعد ذلك بالناس إلا من ناحيتين: الناحية المثالية التي يتطلع إليها تطلع الأنبياء للتسامي بالإنسانية، والناحية الفنية المحضة من اتخاذهم مادة كبقية مواد الطبيعة لشعره الحي.
Unknown page