إهداء الديوان
شعر الديوان
دراسات أدبية
إهداء الديوان
شعر الديوان
دراسات أدبية
أنداء الفجر
أنداء الفجر
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
إهداء الديوان
إلى زينب
ربع قرن مضى وهيهات تمضي
شعلة الحب عن وثوب وومض
لم أزل ذلك الفتى في جنوني
وفؤادي بنبضه أي نبض
ذكريات الهوى وأشباحه النش
وى أمامي في كل صحو وغمض
أنا منها فكيف أرتد عنها؟!
مرحبا بالخيال لمسي وقبضي!
نشرت في السطور بعد احتجاب
كنثير الحيا على زهر روض
فإذا بي أعود طفلا صغيرا
باكيا لاهيا بأنسي وركضي
فاقبلي يا سماء وحيي زهورا
من حياك السخي لا جود أرضي
وأعيدي على الصبا في نظيمي
نظرة الحب ينتفض مثل نفضي
كم شقينا تفرقا وحياء
وخضعنا لحكم دهر ممض
ورجعنا ننوح نوح يتيمي
ن على ذلك الصبا المنقض
علم الحب ليس غيرك مجدي
في وفاء وليس غيرك خفضي!
يولية سنة 1934
أحمد زكي أبو شادي
تصدير
بقلم محمد عبد الغفور
لا أعرف لذة روحية أشهى لدي من كتابة هذا التصدير للطبعة الثانية من ديوان (أنداء الفجر) - أول دواوين أبي شادي - فقد تجاوبت روحي مع عواطف هذا الشاعر العبقري وأخيلته العلوية تجاوبا هو سر سعادتي النفسية كلما اصطحبت روائعه الساحرة وتمثلت شخصيته الآسرة.
لقد مضى ربع قرن على هذا الشعر الفتي، وأعلم أن أبا شادي هو أول ناقد له، فهو دائم التطلع إلى الكمال ولا يرضى عن آثاره الحاضرة فما بالك بآثاره القديمة، ومع ذلك فآثار الصبا لها جمالها ولها ذكرياتها العذبة وإن اقترنت بالألم الدفين، وإن لم تخل من ضعف ... وإذن فقد أحسن شعراء أبولو الذين ألحوا بإعادة طبع هذا الديوان الصغير، فإن فيه ذكريات عزيزة لا يستطيع أبو شادي نفسه أن يتجاهلها؛ فهو ما يزال يقتات منها، وإن فيها لبذرة من بذور الإصلاح التي كونت مدرسة الشعر المصري الحديث، وإن فيها لدلائل كافية على الشمائل الأدبية والمواهب الفنية التي طبع عليها شاعرنا وضمنت له ما نال من تفوق.
لا أريد أن أسهب في هذا التصدير فآرائي في شعر أبي شادي معروفة،
1
وسأكتفي بالتنبيه إلى المواضع النقدية البارزة: (1)
يلاحظ بسهولة أن أبا شادي الفتى هو أبو شادي الكهل: شاعر الحب والجمال، ومن الطبيعي أن يكون ذلك من روح الصبا ولكنه روح قوي متصل الأسباب والنوازع حتى الآن. وأبو شادي الفتى يتآمر عليه الحياء (وهو يصرح بذلك في أكثر من موضع في شعره)، ولا يزال هكذا أبو شادي الكهل، ولا ترى شذوذه عن ذلك في شعر كهولته إلا نادرا، وربما لم يكن له شخصيا فضل في مصارعة ذلك الحياء الذي أفسد عليه حياته العاطفية، وهو دائم التسامي في حبه، ولو حاول عكس ذلك فسرعان ما يلتجئ بفطرته ثانية إلى ذلك التسامي. وهذا الديوان الصغير لا يمثل نكبته الغرامية فيما بعد، ولكنه يمثل قلقه أصدق تمثيل في تلك الفترة من حياته. (2)
نرى أن الألم الممض يلج بالشاعر منذ حداثته: وآية ذلك أنه نشأ نشأة حزينة قاسية مبعثها الفرقة بين الوالدين، فذاق ألوانا من الحرمان والهموم واقتات بالكآبة والألم منذ طفولته، وزاده اعتلال صحته في صغره. بيد أنه مثال مجسم للشمم وعزة النفس منذ نشأته، معتدا دائما بها ولكن في غير غرور، شأن الفنان الموهوب الكمالي النزعة. وقضى الشاعر صباه في عهد من القلق السياسي الذي ثارت فيه نفوس الشبان، فنرى آلام الوطنية متوثبة متأججة من بيوت شعره، ونسمع صيحته:
قليل على الأحزان ما انهد من جسمي
إذا كان عيش الحر أشبه بالإثم! (3)
نرى أن ولوع أبي شادي بالمعنويات هو هو منذ حداثته (انظر قصيدته «المعنى الأقدس»)، كما نرى افتتانه منذ نعومة أظفاره بحياة الطبيعة ورموزها - ولا أقول بمشاهدها فقط - متغلبا عليه، ونلمح حبه للاطلاع (انظر قصيدة «موسيقى الوجود»)، وجراءته في التخيل والتعبير (انظر قصيدة «الخالق الفنان»)، وإنسانيته العميقة وتأملاته الفلسفية (انظر «فؤادي» و«مسرح الليل» و«أنداء الفجر» وأمثالها من شعره). وإن كانت نماذج ذلك الشعر بعيدة بطبيعة الحال عن أن تمثل نضوجه الفني الحاضر، ولكنها جميعا لها طابع شخصيته الطليقة القوية. (4)
لا يمكننا أن نحدد شعر أبي شادي فنضعه في قسم معين؛ لأن نفسه طموحة متعددة الجوانب عالمية النظرات، وشواهد ذلك لا تخفى على الناقد حتى في شعر صباه الذي يسبق سنه بمراحل بعيدة.
ولكن لنا أن نقول: إن أبا شادي في شعره لا يخاطب جيله وحده بل يخاطب أجيالا لم توجد بعد ويخاطب الغيب والمجهول، وله شره فكري وروحي فلا يقنع بشيء مما يراه أو مما ينظمه. وهو برغم قوته أمين كل الأمانة للطبيعة، فلا ترى فيه الخيال الفاسد ولا الأوصاف الميكانيكية ولا المغالطات المنطقية ولا المحاكاة التي يلجأ إليها الضعفاء وأهل الصناعة، وإنما تجد روحا جبارة شاملة، عظيمة الشره، قوية الطاقة إحساسا وتفكيرا، طموحة إلى الكمال الفني، تستلهم الوجود بأسره كما تستلهم ملكاتها الذاتية، لا تقنع أبدا بإبداعها وإن عظم ذلك الإبداع، وتشعر دائما بحسرة على ما عجزت عن تبيانه، متناسية ما أنجبته كأنه لا شيء، فتعيش دائما في قلق وظمأ ولهفة. (5)
نلمح السخط على البيئة في شعر أبي شادي منذ صباه، ونلمح هذا السخط مضاعف الشعلة في دواوين شعره الحديث بعد غيابه الطويل في إنجلترا. ولا عجب في ذلك فقد نشأ شاعرنا من الوجهة الثقافية والنفسية نشأة عالية لم تفسدها المتاعب والهموم العائلية في طفولته وصباه وإن صبغتها بلون قاتم، واتخذ خلقه الإنساني صورا عملية شتى من البر والوطنية والتضحية لازمته منذ نشأته، فكان رجلا ناضجا وهو في سن الشباب. ولبث يعمل ويضحي بينما يقنع كثيرون بالثرثرة والدعابات إلى وقتنا هذا، فيلاقي الوفاء مرة ويلاقي الجحود مرات، وقد صدق عليه قول الأحوص في لاميته المشهورة:
متحمل ثقل الأمور حوى له
سبق المكارم سابق متمهل
وتكون معقلهم إذا لم ينجهم
من شر ما يخشون إلا المعقل
وأراك تفعل ما تقول، وبعضهم
مذق الحديث يقول ما لا يفعل
وما زال على هذا الخلق الفذ النبيل والنشاط العجيب إلى وقتنا الحاضر الذي يحمل فيه على كتفيه من الأعباء العامة ومن خدمة الثقافة العالية ما تنوء دونه الجماعات ... والرجل يبذل دم قلبه وعصارة روحه ونور عينيه ورزقه ورزق أولاده فيما كلف به من مثل عليا، فلا يلاقي في معظم الأحوال غير الإساءات والجحود، بل والمن أيضا من كثيرين ممن غمرتهم ديمقراطيته الأدبية بحبه وإحسانه ومؤازرته الجمة، فلم يعنهم من كل هذا إلا أن يترعرعوا بفضل رعايته، وإلا أن يصعدوا على أكتافه ثم يعضوا اليد الكريمة التي خلقتهم من لا شيء، أو التي أخرجتهم من الظلمات إلى النور ... ولا أتردد في أن أقول غير مدافع: إن أبا شادي الرجل الإنساني والمثالي الشاعر، هو رجل التضحية المنقطع النظير في هذا البلد الذي كثيرا ما اعتز فيه المهرجون وأدباء المقاهي. ولم يحاربه ولن يحاربه إلا المخدوعون وأهل الأراجيف والأدعياء، وحيويته العملية هي حيوية شعره الخالد، وشكواه من البيئة هي شكوى الطعين الغبين الذي مهما شكا فلن يعرف الحقد سبيلا إلى قلبه الطاهر، ولن تنال الأحداث مثقال ذرة من عزمه الفولاذي ولا من نفسه الوديعة القاهرة. •••
هذه هي الصفات النفسية البارزة التي تألف وما يزال يتألف منها شعر أبي شادي، والتي نحييها في شعر صباه كما نحييها في شعر شبابه وكهولته.
وشاعرنا واسع الاطلاع والتجاريب، بعيد الجراءة، كاره للتقاليد الجامدة وإن لم يكن هو من المتجردين، وكل هذا ملموح في غاياته الشعرية وفي أساليبه. وإذا استثنينا زفراته وصرخاته المتكررة في وجه البيئة الجاحدة العاقة، فإننا لا نجد أبا شادي من يعبأ بعد ذلك بالناس إلا من ناحيتين: الناحية المثالية التي يتطلع إليها تطلع الأنبياء للتسامي بالإنسانية، والناحية الفنية المحضة من اتخاذهم مادة كبقية مواد الطبيعة لشعره الحي.
شعر الديوان
(1) أنداء الفجر
من دموع النجوم، من سهر العا
شق صيغت ومن رجاء الحياة
في حنان ورقة وهي لا تم
لك من عمرها سوى لحظات
في ثغور الأزهار، في ألق العش
ب، وفوق الغصون تحيا وتفنى
وهبت حسنها الضحية للشم
س كأن الفناء للشمس أغنى
ويعود الفجر الوفي بها بع
ثا ولكن تعود تمضي الضحيه
هي ملك لنا حياة وموتا
وهي بالروح صورة الأبديه (2) الحب والأمل (نظمها الشاعر وهو عليل)
وفى الربيع فحي الحب والأملا
وسائل الذكر إن كان الفؤاد سلا
واحفظ حديث الغواني في أزاهره
واحرص على النفس أن يدنى لها الأجلا
من كل هيفاء إن ماست وإن نظرت
لم تترك القلب إلا حائرا وجلا
رنت إلي بلحظ ناطق لعب
والسحر إن عز لا أبغي له بدلا
يا رائق الشعر هل بلغتنا نبأ
عن حال من كان لولا العهد مرتحلا
1
يخطو إلى الموت والآلام تلفته
إلى العهود فيثنى جازعا خجلا
ليت الوفي الذي تنسى مروءته
ما عاهد البدر أن يرعاه ممتثلا
إن عاش كانت على التسهيد نضرته
أو مات أزجى المنى من قبره رسلا
لا يستقر له رأي على سبب
ورب صوت ثنى
2
من همه وجلا
سهل لديه التأسي عن مدامعه
يوم اللقاء، فأما في الوداع فلا!
رأى النعيم هموما في صبابته
وقرب الحسن مثواه له فحلا
ما أجزع الصب يبكيه متيمه
من الجمال، وما أهناه لو وصلا •••
ودعت همي، وهمي كله أمل
يا رب لحظ ولفظ في الهوى قتلا
مرت كحلم يجاريه الدلال فلا
نمت عليه، ولا أخفت له مثلا
وداعبتني بصوت خافت وبكت
وقربتني وقالت حسبنا جدلا!
الدهر فرقنا، والدهر ألفنا
فانس الذنوب، ولا تعتب لما فعلا
الكون زاه قشيب، والظلام سنا
والنور كنز معان تبهج المقلا
فاجل القريض وحدث طائرا غردا
وادع النسيم ولحن بعده زجلا
فسرت في الروض من فرط الهوى ثملا
مثلي النسيم بدا من رقة ثملا
والطير دان فلما جئته خطرت
فيه الظنون فخلى إلفه وعلا
والله لست الذي يرضى السهاد له
حتى يخاف، ولكن لست من عذلا
يا طير آلمت نفسي - كلنا دنف
ما كنت باعدتني لو كنت من عدلا
ويا زهورا كساها من مدامعه
هذا الغمام عقودا نضرة وحلى
ويا شعاعا سحرنا من تألقه
يبكي ويلعب بساما ومقتتلا
ويا نجوما توافينا وما برحت
تفشي حديث الدجى، لا تعرف الخجلا!
ويا أديما جلسنا في بدائعه
يأبى علينا الهوى أن نترك الغزلا
ويا ملاكا يحيينا وما فتئت
منه اللحاظ سهاما ... ليته غفلا
ويا زمانا نعمنا من نضارته
والأنس وقف عليه دام أم أفلا
ويا ربوعا وقفنا في معابدها
أسرى الجمال، نزف الحب والأملا
لا قلت معنى يروق الشعر جوهره
لو أن بعض نعيمي من هواك خلا! (3) حياتان
أمي (الطبيعة)! في نجواك إسعادي
وفي ابتعادي أعاني دهري العادي
وفي حمى إخوتي من كل طائرة
وكل نبت نبيل وحيك الهادي
ما بالها هي صفوي وحدها فإذا
رجعت للناس لم أظفر بإسعاد
كأنما الناس أعداء: فبعضهمو
حرب لبعض وحساد لحساد! (4) حظ الناقمين
فؤادي برغم الحادثات كبير
وطرفي وإن عز العفاف كسير
تلين لي الأيام في كل شدة
ولو أن جل الفاتحين أسير
سلخت من الأعوام بضعا وعشرة
أقيم على دين العلى وأسير
وفي النفس حاجات وفي القلب لوعة
على أن كلي همة ومرير
3
وما انقطعت أسباب أنس ونعمة
ولكن حظ الناقمين عسير! (5) التبرم
يا رب! كيف خلقتني متبرما
بالناس حين وددت هذا الناس
أتراك أنت معلمي، وكأنما
قد عشت في ندم وعشت تواسى! (6) الألوهية
ملكت قلبا عليلا
جنى الغرام عليه
فراقب الله فيمن
فؤاده في يديه
4
وسائل اللحظ عمن
يذوب شوقا إليه
وسامح العبد يوما
فأنت رب لديه (7) الشاعر المصور (أصلح الشاعر ببراعته صورة حبيبته التي لم يحسن المصور إخراجها)
كذب الضياء على المصور مرة
أخفى بها المشهود من آياتها
فوضعت في كفي يراعة عاشق
كان البيان يجول في لفتاتها
ونقشت تأثير العيون لأنني
أدرى بوقع السحر من نظراتها (8) قوس قزح
ملهى السماء يرشنا بنثيره
والماء ذوب أشعة وأغاني
والسحب تلعب فيه لعبة صاعد
أو هابط درجا من الألوان! (9) على صفحة الماء
يشق القارب المزهو مثلي
طريقا في المياه مع ابتهاجي
فيكسر صفحة للماء راقت
ونسمع صوت تكسير الزجاج! (10) إلى سجين القلم (محمد فريد بك)
من كان يدرك في الوجود هواكا
أسفا عليه إذا بكى ولحاكا
لست الذي يجد الحياة بغفلة
ويعاف في بث اليقين حراكا
نفس لديها المجد خدمة قومها
تستعذب الآلام والإنهاكا
تشقى وتضرع أن تموت على هدى
لا ترهب الأغلال والأشراكا
حجبوا سناك عن العيون وما دروا
أن القلوب خلالهن سناكا
أكرمت نفسك هاديا ومفاديا
شعبا يقيم على الدوام فداكا
والحر أولى أن يجود بنفسه
من أن يروم عن الصواب فكاكا
سيان كنت بنعمة أو نقمة
ما دمت ترضي بالجهاد حجاكا
سيان كنت مقربا أو مبعدا
ما دام حرب العابثين مناكا
وكفاك فخرا أن تناضل دولة
كم أرهقت من مصلحين سواكا
والعمر ساعات يطيب أمرها
لو أن في حسم الضلال هلاكا (11) عهد الصبابة
خطرت فمكنت الهوى تمكينا
وشدت فرجعت القلوب رنينا
نزعت برقتها الشعور فأشفقت
وبكت فكان أنينها التأبينا!
تخشى الملامة في الغرام إذا عفت
فجفت وكنت على الشقاء أمينا
عودت مر العيش حتى لم أبت
إلا بصيرا بالهموم رزينا
ما ينفع الصب الكئيب من الجوى
حتى يحن إلى البكاء حنينا!
أسفي على عهد الصبابة لم يكن
إلا شعاعا كاذبا مظنونا!
أسفي عليه وقد فقدت شبابه
ووهبت فيه فؤادي المغبونا
وظللت محزونا أكفكف أدمعي
أملا، وعشت متيما مفتونا
متصدعا من لوعة، متراجعا
من هيبة، مستغفرا، مسجونا
يا حسرة القلب الضعيف إذا رجا
من لا يزال على الوفي ضنينا! (12) غدر الجمال
بسمت فما فتكت وما عبثت
إلا بمهجة صبها العاني
ورنت فما أحيت وما قتلت
إلا المشوق لطرفها الراني
الله في حسن يحيرنا
من لحظها المتخشع الجاني! (13) بعد الفراق
ويوم أثار البين كامن لوعتي
وأغرقت في شكوى تخفف من همي
5
نفضت الكرى وارتحت للبث بعد ما
تهالكت ما بين الصبابة والسقم
يكاد يكون الحب دينا أعزه
وهذا الشقاء العذب من منتهى همي
6
ولكن يهون البؤس في كل لحظة
إذا زاد حفظ العهد غما على غمي
نزحت عيوفا عن بلاد أحبها
تساق بها الأحرار للخسف والضيم
أقمت بها عمرا على الوجد صابرا
وخلفتها بين التلفت والأم
ذكرت بها بدرا ضللنا لبعده
فأرسلت توديع الفؤاد على اليم
سلام على حسن دفنا سهامه
بأضلعنا بين التكتم والنم
سلام وفي نفسي شجون كثيرة
تفيض لدى التذكار في مدمعي الجم
تحملت قلبا دام رهن ودادهم
وما زال مملوكا على الطوع والرغم! (14) الطب الحائر
نظر الطبيب إلي نظرة ناقد
أعياه مكمن علتي ودوائي
والطب يقصر عن شفاء مسهد
ألف الأسى لتسفل الأهواء
ما كل بأس في الجسوم بصحة
أو كل وهن للجسوم بداء
والعيش عيش حقائق ودقائق
والموت موت سلامة الآراء
نفسي تحركها الهموم إذا بدت
مكنونة في أنفس الضعفاء
والناس في هذي الحياة غنيهم
قد يستطيب تحرق التمساء
أين العقول وأين أرباب النهى؟
أين الشعور وحكمة الرحماء؟
في القلب هم لا أجل بغيره
والمرء صورة حسه المترائي (15) دمعة على قبر (قيلت في حسناء انتحرت يأسا لفقد عزيز لديها)
مودعة الأيام والعمر شقوة
عليك سلام الحب في القرب والهجر
فزعت من الدار التي طال همها
وبنت، وهذا البين أقرب للغدر
نفوس على الوجد الذي فيك كله
تقلب بين الموت واليأس والصبر
تلمس في الأحزان سلوى، وهكذا
يعيش شقي العمر في السقم والمر
أميطي لثاما أسدل الموت تشرقي
حنانا ... عساه الآن يطفئ من جمري
حرام على قلب عرفنا كماله
يرد رجاء الحي للترب والقبر
حرام على شمس أضاءت بطهرها
تغيب ونحن اليوم أحوج للطهر
حرام على روض نمونا بمائه
يجف بلا ذنب جنينا ولا عذر
أكان الردى حلوا لفقد فقدته
فأحببته حبا وإن كنت لم تدري
وخلفت آمالا على العسر لم تحل
وكنت أظن العسر يخلف باليسر؟!
فيا دهر ما أقساك! للبأس غاية
وأنت تخال اللين يعقب بالخسر
حنانا ورفقا بالألى غاب أنسهم
وشتته فقد الملاحة والبر
دموعي وإن قلت - وفي الدمع راحة -
نداء شجون يزدحمن على صدري! •••
وأنت أيا سرا من الله لم نكن
لنذكره إلا على الطهر والبشر
ذكرتك مبكيا شباب خذلته
وحسن حواه النعش في غيبة البدر
بخلت على الوافين بالعيش والردى
ولا بد هذا الجمع يتبع في الإثر
فلا تهزئي من عبرة هاجها الأسى
فما كل دمع سال عن ذلة يجري
ولا تضحكي من دار جهل ونقمة
وأوحي إلى الأحياء عن مخبأ الفجر
فما البؤس كل البؤس في الفضل والهدى
وما الحظ كل الحظ في الشر والمكر
وليس جزاء الميت بالحي يرتجى
وكيف وكل الناس في حيرة السفر
فخارك في الدنيا عفاف عبدته
ونبل رواه النبل في ذكرك العطر
إذا قلت لم أنطق عن الزيغ والهوى
وحسبك أني لا أرخص من شعري
جمالك في نفسي، وذكرك في فمي
وشخصك في عيني مقيم وفي فكري (16) الدنيا
لمست قلبي بكف مسها وجل
من الخفوق فلم أعرف له سببا
إن كان همي من الدنيا وفتنتها
عم الهوان فما بات الشقا عجبا (17) الراحل المقيم (قيلت في جنازة المرحوم محمود عبد الغفار بك النائب الوطني الكبير والعضو بمجلس المعارف الأعلى)
ماذا تؤمل من رحيم صامت
والموت حق والمؤمل راحل؟
يبكي عليه الناشئون وما بكوا
جسدا يشيعه الجبان الغافل
والذكر يفقده الخؤون لقومه
والحر يرفعه الشعور الكافل
والعقل أسخف ما يكون مؤلها
بأسا يعز به الذليل السافل
غضوا العيون فما الرجال بكثرة
وابكوا فقد ذهب الحكيم العامل
واصغوا إلى صوت تردد داويا:
إن الحياة مآثر وجلائل
فالموت أصدق ناطق عن عبرة
والفضل يعرفه الأبي الفاضل
والخلد أقرب ما يكون لو انما
تعزى إليه رواتب ومنازل! (18) شفيعي
شفيعي لدى الحسن الذي لاح سره
بعيدا وما أدريه في لحظة القرب
خيال أطال الحب مثواه آمنا
بنفسي، وصفو العيش في سكرة الحب
إذا كان لا يرثي لضعفي وشقوتي
فإني برغم «العهد» أشكو إلى ربي
أروم النوى - والبعد في ذكره جوى -
وهيهات بعد البين يسعدني قلبي
ومن كان لا يحييه سخط ولا رضى
فكيف يقضي العيش في حيرة اللب؟ (19) عيش الحر
قليل على الأحزان ما انهد من جسمي
إذا كان عيش الحر أشبه بالإثم
بكيت وما أبكي على سالف الهوى
وحولي الألى يبكون من خشية الفهم!
يصيحون من خوف على سر عيشهم
إذا غاب نور الحس بالحالك الجم
جسوم على الإفساد تفني رجاءنا
وتدفعها الأطماع للخسف والضيم
جسوم برغم الزجر أسرى لعصبة
تحركها الغايات في القيد والكم
ومن كان لا يرضيه إسعاد قومه
أحق بفقد الذكر لا القدح والذم!
تريدون إعزاز النفوس التي هوت
وما يصنع المغلوب بالسيف والسهم؟
تريدون تسخير العقول التي سمت
وتخشون من بأس الحقيقة والعلم
أفيقوا فإنا أمة الدهر لم نزل
نهش إلى الذكرى فكونوا على وجم!
أفيقوا فلسنا اليوم نغضي على القذى
وردوا الرزايا من غرور ومن وهم
فهيهات تستعلي على الحق قوة
وهيهات أن يبقى بناء على ظلم
وأقسم أن الشعب لا بد يعتلي
وكل فساد أو ضلال إلى هدم
ولو شاء رب الملك إسقاط أمة
تقدسه لارتد بالخزي والغرم
فيا مجد من يسعى بنفس أبية
ويا ذل من يرضى عن الذل والهم!
إذا صح أن الأمس ولى بخيبة
فلا بد من فوز المجاهد في اليوم! (20) إلى الصديق الشاعر الرقيق عبد الحليم حلمي المصري
يا ناشر السحر في يوم بكيت به
عذبت خلا بحكم الحب لم ينم
ما كان ضرك لو أمهلتنا زمنا
فرقة الشعر تحيي ميت الألم؟
من البيان شفاء النفس سالية
وما عرفت شفاء الصب في القلم
يهفو الجمال لشعر قلت أعذبه
ويبسم الزهر في سكر وفي حلم
ورب قلب - لمعنى روحه فتن
يحيا الجمال بها - ناج من العدم
أحنو عليه وأتلوه كأن به
وعد الحبيب، وأدني لفظه لفمي!
فما عبست قليلا في بدايته
إلا طربت وولى بعدها ندمي
وأقدر الناس يبكيهم ويفرحهم
من روحه الحي في شعر وفي نغم (21) المعنى الأقدس
حبيبتي! أنت لي معنى أبجله
فوق المعاني التي تحكى بتعبيري
معنى تقدس في طهر وفي ألق
كالنور، لكن تسامى عن سنى النور
معنى أظل سنين العمر أنشده
ولست أعرف منه غير تقصيري
وكل مغزاه أن ألقاك في شغفي
كلاهما في مداه غير محصور! •••
رضيت هذا الصبا قربان آونة
يجيب فكرك فيها كل تفكيري
ما دمت نائية عني ففي طربي
هم، وفي مرحي شتى الأعاصير! (22) بحر الأماني
حمدت من الصبا بحر الأماني
ففيه سفينتي وبه أماني
ولولاه ارتطمت بكل صخر
فكم في العيش من نوب الزمان
نشأت على الدموع غذاء روحي
فدان إلى بواعثها كياني
فصرت إذا ابتسمت رأيت دمعي
هو البسمات في صور المعاني •••
أزينب! إن حييت فما حياتي
سواك، وما عداها الآن فاني
ترى هل بعض أشواقي يرجى
لديك، أم الطفولة لا تعاني؟!
كلانا في الهوى طفل، ولكن
أنا الطفل الغبين، أنا المعاني
ويا بحر الأماني أنت عوني
ولو غرق الهوى بين الأماني! (23) فؤادي
تشجع في المصائب يا فؤادي
وكن بصلابة الحجر الكريم
ألست كجوهر في طي جسمي
خبيء لا يعرف للئيم؟
إذا الأحداث عضت فيك فاكسر
نيوبا لن تنال من العظيم
ولا تك في الأسى لحما ورخوا
فتدمى بالكلوم وبالكلوم
فؤادي ما عددتك بعض جسمي
فما أصل القلوب من الجسوم
ولكن نفحة طافت ووافت
على خفق الشعاع من النجوم
ففيك من النجوم شواظ نار
وفيك تدفق النور العميم
تلوذ بك الحياة وأنت منها
بمنزلة اليتيم من اليتيم
فصاحبها مصاحبة المفدي
ولازمها ملازمة الحكيم
ولا تجزع على دنيا تساوي
نفوس البهم بالحر الصميم
ففيما تشتكيه نعيم يأس
وبعض اليأس من صور النعيم! (24) أول الشهداء
لا تندبوا هذا الشهيد فإنه
لتراث أجيال وفخر قرون
ذهب الضحية للحياة بشعبه
متنزها عن مشبه وقرين! (25) إلى صديقي الشاعر المجيد علي الغاياتي
7
رددت شعرك مطربا وعليلا
ولكم أرد من الجمال قتيلا
صح الشعور به فشاق تهافتي
وحلا الأنين به فكان قليلا
قبلته ووعيته فوجدته
عذبا بآمال الأبي كفيلا
وإذا المهيب ترقرقت آياته
وجد النداء إلى القلوب سبيلا
قلم إذا أجرى الوفاء دموعه
أجرى البيان مهذبا وصقيلا
أنا من معان نضرة متمايل
جذلا، وأعشق ذلك التمثيلا
وإذا البيان سمت به حسناته
طبع الجلال به فعاش جليلا
فاربأ بشعرك أن يذال، ولا تقل
إلا لتنظم للهدى إكليلا
إن اليراع وإن تدفق سحره
يبدو بأيدي العابثين ضئيلا
فاذكر لنا قيم الرجال وقل لنا
حر المقال وأنت ترضي (النيلا)
حسب العظيم جلالة وسعادة
أن لا يروم عن الصواب بديلا (26) أوهام ...
غرامك لا عذل عليه ولا رد
فما للسنى حد، وما للهوى حد
بيانك غلاب، وعذرك مفحم
ولحظك بسام، وقلبك منقد
يبيت عليلا خافت النبض متعبا
يئن، فلو أصغى المغرد لم يشد
إلى العين ما يحييك من خطرة حلت
وللقلب داء فيك يسري ويشتد
ولولا اللقا ما كنت جذلان عابسا
ولولا الجفا ما كنت تبكي وتحتد
حياتك لغز، والهوى كله جوى
يهون، فلا غم لديك ولا سعد
فيا لشباب فيك لم تبقه النوى
ويا لجلال منك ما فاته الصد
تركت لحكم الحسن نفسا عزيزة
وأي عظيم النفس في شرعه عبد
ومهما يكن من دفعك السقم والأسى
فأنت على الحالين تفنى وتنهد
ورب صفاء عز في مذهبي عنا
ورب شقاء دام في مذهبي رغد
نعيم الفتى فيما يرى الأنس حوله
وهم الفتى فيما يخال به الوجد (27) حول تمثال مصطفى كامل
ودع القلب بين مضنى وخال
وتناس الأسى وهم الليالي
وانظر العقل ناطقا من جماد
وارقب المجد صادقا في خيال
نظرات على الهوى باقيات
تدع الحر في إسار المعالي
وشباب ما زال تصويره الحق
ق منار الشعور والإجلال
وحياة ما زال تذكارها العذ
ب مقر الحياة والآمال
يا أمير النفوس هل ينقضي العم
ر وركن الهدى حليف الزوال؟!
نحن أسرى على الحياة وإن جل
ت، وأنت العظيم في كل حال •••
لك غال من الهوى غير بال
لوفاء على المدى غير بال
صمتك اليوم مثل سعيك بالأم
س مهيب لمخلد الأعمال
ضجعة الموت رقدة السهد والوج
د لقلب على الردى غير خال
دم حليف الجلال في حفرة القب
ر كما كنت يا حليف الجلال
وادكر مصر وارفع الصوت والذك
ر، كما شئت يا فقيد المعالي
تخطب الدهر من مبيتك في الخل
ق وتأتي بأصدق الأمثال
وتهز العقول للحزم والعز
م إذا أخفقت فحول المقال
وقفة الشعب عند تمثالك اليو
م فخار له وللتمثال
آه! كم يخطئ المضلل في الخل
د وكم يزدرى بحسن الفعال
إن مجد الإنسان في خدمة الإنسان
لا فرق بين دان وعال
خافقات لك القلوب من الحب
ب وإن لم تثب لبأس ومال
واهبات لك الحياة على المو
ت، وإن لم تكن قرين الزوال
يا كبير اليقين في قوة الحق
ق ويا بانيا قلوب الرجال
يا كثير الإباء في دولة البغ
ي ، ويا ناسفا صروح الضلال
أمة تحفل الزمان بماضي
ك وتعزو إليك حسن المآل
وتحيي خيالك الليل والفج
ر بدمع على الهوى فيك غال •••
أيها الصانع المصور إجلال أمة - تعبد الهدى - في جلال
كيف وفقت بين عهد ومجدي
ن وما بين وصف تلك الخلال؟
صنعة تخجل البيان من الحس
ن وتزهى عن كل سحر حلال
صورة تفتن المفكر مبهو
تا وعبدا لصمت هذا الجمال
ثق بشكر القلوب والفضل والجو
د، وته فاخرا بذاك الكمال
ليس بدعا إذا حلفت بما أت
قنت صدقا واختلت أي اختيال
ولك اسم يصونه أثر العل
م ورسم بنضرة المجد حالي (28) أنفاس الخزامى
أي عطر فاق أنفاس الخزامى
في حنان يملأ الروح سلاما
بنت مصر في حياء زهرة
وخشوعا وسلاما وابتساما
لا يراها غير من كانت له
روحها أو من يحاكيها غراما
تجذب النحل إلى أكوابها
وهي سكرى ترشف الشهد المداما
تتوارى عن عيون لا ترى
دقة الحسن وأخرى تتعامى
أيها الأنفاس طيبي وانشري
خطرات الحب حتى يتسامى
كم وقفنا في مجالي نشوة
عند مرآك فتونا واحتشاما
لم نقبل غير معنى حائم
حولنا منك عشقناه دواما! (29) هجر الكريم (إلى أستاذي خليل مطران)
سل النجم كم أودعته الحب من فني
فإن له من صحة القول ما يغني!
ورب جماد صادق الذكر مفصح
وأي حياة لا تحوم على أفن؟
أراقبه في كل ليل وعندها
أبث له ما يشتكي السهد من جفني
وأسأله تبليغ عتبي لهاجري
لعلمي أن الحسن أطوع للحسن
وأحسبه أشجاك في وصف حالتي
وهل كان هذا ما يخفف من حزني؟
أمير القوافي! أنت في اللب ماثل
وليس بياني عن سناك بمستغن
توخيت دارا شئت أن نلتقي بها
لقاء الوفا بالمجد والخدن بالخدن
فلما رأيت الوعد آمال حالم
وأسلمني طول الترقب للوهن
نثرت بها من أدمعي كل درة
وكلفتها تبليغ صدق الهوى عني! (30) عالم وعالم
أرسل الأستاذ الجليل حامل لواء النهضة الأدبية خليل مطران إلى صاحب هذا الديوان قصيدة ودية رائعة مطلعها:
يا ابن أخي بشرتني مرة
بملتقى السبت ولم تحضر
ما دمت في خير وفي صحة
فانس الذي تنساه أو فاذكر
ومنها:
تحكي سهيلا قطرة من دم
وتكفؤ الذرة للمشتري
كلاهما في نوعه عالم
أدقه يدهش كالأكبر!
فأرسل إليه صاحب الديوان الرد الآتي:
يا سيدي العم ويا من له
أدين بالحلو وبالمزهر
ما كنت إلا بضعة من هدى
أهديته أنت إلى معشري
هيهات أن أنسى مواعيدنا
لكن تخالفنا فلم نحضر!
8
وكيف أنساها وأنت الذي
لولاه لم أزهر ولم أثمر؟
مقالة الصدق، وحسبي غنى
مقالة الصدق وحبي السري •••
يا شاعر العصر ويا مرشدي
ورافع الخلق ويا مظهري
نصائح الود التي سطرت
في شعرك الحي جنى أسطري
تفتر بالإلهام وضاءة
كعهدك الدائم بالمبهر
حببت لي الطب كأني به
كفرت بالدنيا ولم أكفر
أستصغر العالم من عزة
بالعلم والجهل وبالمنكر!
كأنما العرف وإنكاره
سيان في الروح وفي الجوهر
ما زلت بالباب ولكنني
كالهارب التائه في عسكر!
والمجهر
9
الكاشف لا ينثني
يشوقني وهما ولا يمتري
أستنبط الأحياء في نوره
كأنني مستنبط عنصري!
كأنني الخلاق في دقة
والعالم الأكبر في مجهري
10
كأنما الإنسان في قبضتي
مستحدثا حيا لدى مخبري!
11
أو أنما تشريحه نفحة
تحييه بالعلم وإن يقبر! •••
ما أعجب الطب وإلهامه
للشاعر الناثر والمجتري
أقصى الخيالات لأشعاره
لا شيء جنب العلم في المخبر! (31) لوعة الخريف
إلى أستاذي خليل مطران
شعري لدى العم الخلي
ل صف الهوى في مدمعي
صف لوعتي حين الخري
ف يئن في ألم معي
حين الصبا رهن الذبو
ل وحين قلبي لا يعي
متقطعا متوجعا
في حلمه المتقطع
حلم يرويه الصبا
فيجف عند المنبع
لهفي على الحلم الجمي
ل مضيعا ومضيعي!
وعلى الهوى بين المعا
ند والمكابر والدعي!
وعلى الصبا يذوي عقا
با للغرام المبدع! •••
شعري لدى العم الخلي
ل عزاء قلبي الموجع
عبر له عن كل آ
لامي ووجدي واسمع
وعد الطيوف من المح
بة هامسا في مسمعي
عد بين آمال الربي
ع من الحنان الممرع
فهو الكفيل بحبه
طبا لحرقة أضلعي
أدبي يدين إلي
ه بل قلبي وغاية مطمعي
وقوام تفكيري الجدي
د ووثبتي وتدفعي
ولديه أغتنم الربي
ع بوحشتي وتفجعي
يطوي الفصول بسحره
فإذا الخريف مودعي
وإذا الربيع أضمه
في نشوة المستمتع
وإذا الحبيب كأنه
ما غاب أو هو مبدعي
سحر من العهد القدي
م بفنه المترفع
يحيي الموات من القلو
ب بلذة المتبرع •••
شتان بين هوى يجو
د وبين حب يدعي
شتان بين هوى به
مجدي وآخر مصرعي!
رد أستاذي مطران
أزكى تحيات الفؤا
د إلى الزكي الأروع
أهدى إلي قصيدة
كخريدة لم تفرع
عمرت مكان الأنس
عندي من فؤاد بلقع
حسناء بارعة المعا
ني في نظام أبرع
تجلى فتحلى أو تغي
ب فحليها في المسمع
من لي بمنصرم الشبا
ب وفكري المتوزع
فأجيد في رد الثنا
ء على الأخ المتبرع
قصرت في شأو البلا
غة عن تمادي مطمعي
أهلا بحاملة الكتا
ب أمينة المستودع
أهلا بناقلة البدي
ع من الطراز الأبدع
أهلا بصادحة شجت
قلبي وأجرت مدمعي
بثت حكاية وجده
بأنينها المتقطع
وشدت على توقيع سر
ب من حمام سجع
نغم الملائك بين مبدو
ء وبين مرجع
أحسنت تأدية البلا
غ عن الصفي الألمعي
كوفائه ليكن وفا
ء الخدن غير مصنع
وكوده فليشرع ال
ود النقي المشرع
وكعزمه في المجد فل
يك عزم كل سميذع
لا خلق أنزع للعلى
بجمال هذا المنزع (32) المتصرف (كتبت على صورة أهداها الشاعر إلى أحد أوفيائه)
القلب لا يرجو دنو مآله
ما دمت أنت مصرفا في حاله
كن كيف شئت مقدرا لجلاله
ونعيم مهجته وحظ «خياله»
لو رمت أسعدت الأسير بأسره
أو شئت أذللت العزيز بآله (33) الاستشفاء
دع الرحيل لدار الحب والغيد
واصبر على القيظ في قاس من البيد
فمدمع العين من حسن تقر به
ولذة السمع في أسر الأغاريد
يحلو الهجير إذا صح الفؤاد به
عن النسيم بتعذيب وتسهيد (34) على قبر الشهيد
وددتك مشنوقا وزرتك مقبرا
ولست على الحالين أبخس من قدري
وقفت عليك اليوم وقفة عابد
يحج لآي الله يا صاحب القبر
وطأطأت رأسا لم تشأ خفضة له
يخر لدى ذكرى مماتك لو تدري
إذا مت محروما مدى النطق بالهدى
فيا حسرة الفاني وآها على عمري
إذا مسني من خشية الظلم هزة
فإني على الإحجام أقرب للكفر! (35) وطني! وطني!
وطني! وطني!
يا ابن الزمن!
أولم تدر
سر الدهر؟
هيهات يسود
باغ وحسود
فيم الأحزاب
والخلف خراب؟
حب ووئام
سر الأيام
فإذا ذهبا
تركا العطبا! (36) الطائر الجديد (لمناسبة اجتياز بليريو خليج المانش بنجاح باهر وانتعاش حركة الطيران)
أيها الإنسان يا ابن الأرض فيما
تشتهي أن تعتلي هذا السديما
لك أن تسمو ما شئت ولكن
أصلح الأرض تجد فيها المفاتن
قبل أن تمضي لهوا وتطير
عمر الأرض ولا تنس المسير
كم خراب شامل فيها نراه
أنت تبقيه على غير انتباه
عمر الأرض تكن فيها آله
إن هذا وحده مجد وجاه
عمر الأرض وعش عيش أخيك
ليس في الإنسان عبد ومليك
ثم طر ما شئت ولتغز الجواء
ليس للأحلام حد وانتهاء! (37) مسرح الليل
مسرح الليل! أي ملهى عجيب
أنت تبدو للشاعر الفنان؟
كم مراء خلقتها وهي شتى
من مديد التناقض الفتان
أنت ملقى العباد والطهر بينا
أنت مجلى التهتك المتفاني
كل راء يرى الذي يشتهيه
ويذوق الذي يرى من معاني
والنجوم التي تطل علينا
في حنان ورعشة وافتتان
بين حب لنا كأم رعتنا
والتياع كخفق قلب الجبان
حبست دمعها فإن بذلته
فشآبيب دمعها النوراني
شهب تستحيل من دمعها الصا
في إلى حرقة إلى صوان
فكأن الأجواء للأرض آذت
ها فحاكت طبيعة الإنسان! (38) نبع الصبابة
هذي الأنامل من أباح لوقعها
قلبي سوى عينيك يا حسنائي؟
لولاهما ما كنت أفهم وقعها
سحرا يميت كما يعيد رجائي
جودي بأنغام الحياة وجددي
ما شئت إلهاما على إلهام
لغة العواطف تستساغ كأنها
نبع الصبابة فاض بالأنغام
أصغيت كالطفل الرضيع لأمه
ورشفت منك بمسمعي حياتي
ونعمت قربك في صلاة حرة
للفن لم تقرن بأي صلاة! (39) لم يحجبونك؟
يا «زين» دنياي التي ما نالني
منها سوى قلقي على حرماني؟
لم يحجبونك؟ هل أثمت بكل ما
أعطيت حسنك من جمال بياني
هل لي سوى دين الطهارة ملة
أو لي سواك حماي أو دياني؟
فإذا حجبت فمن أخص بمهجتي؟
ولمن أعيش؟ ومن له وجداني؟ (40) عبادات
ما لعيني كلما ألقاك بالفرحة تدمع؟
أهي لي الفرحة أم خشية حلم يتصدع؟
بي رجاء ليس يخبو ورجاء ليس يلمع
وأنا كالتائه العاني إلى الأوهام أفزع
هاك قلبي يا حياتي! نبئيه كيف يصنع!
هو في القرب بعيد عنك يهفو ثم يجزع
آه كم يجني حيائي! آه من شوق مضيع!
كم تلاشت قبلاتي في غرام يتورع!
قبلاتي في امتناع هو بعث لي ومصرع
وحياء هو تسليمي بعقل ليس يخضع
وعبادات تناهت وأبت لي كل مطمع! (41) موسيقى الوجود (نظمها صاحب الديوان متأثرا بقصيدة للشاعر جبرائيل سيتون)
حدثوني عن الوجود المغني:
كل ما فيه صادح يتغنى
من جماد ومن نبات وأحيا
ء، فليس الغناء منهن يفنى
وعجيب إذا تناءيت عني
لم أجد للغناء فيهن معنى
وإذا ما ظفرت منك بأنسي
صار هذا الوجود لحنا وفنا! (42) باقة أنغام
إذا استمعت إليك
فتنت من توقيعك
كأن سمعي لديك
عيني بمجلى ربيعك
أصغي إلى هذه الألحان زاهية
كأنها نخب الأزهار للعين
فكل لحن له لون يضيء به
وجمعها باقة من زهرك الفني
وكل لحن له عطر يفوح به
وإن تخيله غيري من الظن
وأنت كوني، وكوني في حقيقته
جم المعاني التي غابت عن الكون
إذا استمعت إليك
فتنت من توقيعك
كأن سمعي لديك
عيني بمجلى ربيعك (43) الإكسير
هو ساعة الدهر يأبى منحها
إلا بتوقيت له وقيود
قد عدت يا أملي إليك فجددي
عمري بنفحة روحك المعبود
ألقاك لقيا خاشع متعبد
والقلب يخفق للعناق سؤولا
فيصدني هذا الخشوع كأنني
أجد العبادة أن أعيش خجولا!
ضيعت أحلامي وسني هكذا
في الشوق والتعذيب والحرمان
أنا لا ألومك يا حياتي بل أرى
حظي كحظ الحارس البستاني
فأنا الأمين عليك غير محاسب
إلا محاسبة الضمير القاسي
فإذا لحظتك كالغريب فإنما
أنا وحدي القربان دون الناس
هذا هو الأسبوع مر وها أنا
قد عدت فرحانا إلى إكسيري
متناولا في الوهم كأس رحيقه
من صمتنا المغني عن التعبير! (44) الخالق الفنان
تبارك ربي مبدعا ومصورا
لقد خلق الآيات كالسحر للورى
يراها الفتى لكن كأن الذي يرى
خيال وخلف الكون كون تسترا
وما عظم الخلاق إلا احتجابه
فسبحانه يبدو ويخفى مكررا
وما شاقني في الكون إلا خفيه
فإن وراء الكون عقلا مدبرا
يعاف نهى الفنان إعلان ذاته
ويعلن عنه الفن أضعاف ما يرى
كذلك خلاق الوجود فإنه
تحجب واستهوى به عقل من درى
فهذا هو الفن الإلهي للذي
يرى الفن والفنان في النجم والثرى
وهذا هو المجلى العجيب لمبصر
يرى الخالق الفنان عينا ومضمرا •••
وكونت أنت الحب لي عالما كما
تحجبت كالخلاق إذ باعد الورى! (45) بنات الخريف
هلمي! هلمي! بنات الخريف
وطوفي وطوفي بهذا الحفيف!
نراك بأوهامنا جائله
كباحثة عن تراث فقيد
وقد حرمت منه في يوم عيد
فتمضي بلهفتها سائله! •••
نراك تطوفين ولهى شريده
تهزين حتى الغصون الوحيده
وتذرين حتى الرياح التي
تظنين فيها خفايا الجمال
وقد حجبتها أيادي الليال
فهل تنتهين إلى غاية؟ (46) الساعة
نمنا جميعا وأنت يقظانه
وقد غفلنا ولست غفلانه
بل كلنا فيه روح غفلته
كفيلسوف يعاف إنسانه
كم دقة منك جد منذرة
فما انتفعنا ودمت لهفانه! (47) الوساوس
هل في الهواء من الحديث محجب
إلا عن الفنان بين الناس؟
ما لي أحس بهاتف وبهاتف
وبعوالم شتى من الإحساس؟
ملئ الفضاء بها وكم في طيها
صور من الماضي العزيز الفاني
فكأنها كل الذي ظفر الورى
بالخلد بين مشاعر الإنسان! (48) الطائر الرقيب
رقيب ولكن يغني لنا
ويعطي الحديقة معنى الغنى
لعل الربيع وقد فاتنا
أهاب به ليريه لنا!
نتابعه في حبور الصبا
ونصغي إلى الشدو مستعذبا
فيا مرحبا ثم يا مرحبا
بهذا الرقيب وما حببا!
ويا طائري أنت يا طائري
بسمت إلى روحي الشاعر
وأصغيت للشاعر الطائر
فهلا أصخت إلى خاطري؟
إذن لعرفت غرامي الدفين
وما لج بي من جوى أو حنين
وحبي الذي مثل حي الغصون
تفرع، بل مثل حي الفنون! (49) وحي المطر
أنا ظامئ والكل حولي ظامئ
فتقطري يا سحب كيف حننت
هذي الغصون تناولت ما خصها
ولبثت في ظمئي لوحيك أنت
تتساقط القطرات من يد زهرة
ليد، لأخرى، والجميع سكارى
وأنا الوحيد فأين أين حبيبتي
حتى ترد جوى وتطفئ نارا؟
هلا بعثت إلى دفين شعورها
برسالة الحب الوفي الباكي
فلعلها تأتي وتنثر عطفها
كالقطر فوق الزهر والأشواك! (50) القطة اليتيمة
جلست قربي كأن قربي
عزاء إحساسك اليتيم
وكم تألمت في حنوي
عليك في صمتك الأليم
فقدت أما وما فقدنا
لكن في عزلتي افتقاد!
كأنني ثاكل شبابي
وسائد الصمت من حداد
أحببت في وحدتي عزاء
مذ لم أنله من الجمال
قد أسرف الحسن كبرياء
أو بره يشبه المحال
فلتغنمي أنت من حناني
ما شئت يا طفلة الغرام
فالحب جان وأي جان
والحب كم يتم الأنام
دراسات أدبية
(1) شاعرية أبي شادي
هزت مشاهد الفجر من القدم عبقرية الشعراء، فتغنى جوت الشاعر الألماني بلون الفجر الأرجواني، وذكر أثره الجليل على شاعريته في رواية فوست، وأرسل الشاعر الإنجليزي كولريدج نشيدا ناجى به مظاهر الطبيعة قبل طلوع الشمس في وادي شاموني. وأثر جلال الفجر في أبي شادي وهو في صباه، فوصف أنداء الفجر بأنها صيغت في حنان ورقة من دموع النجوم ومن سهر العاشق وأن عمرها لحظات نقضيها في ثغور الأزهار وفي ألق العشب وفوق الغصون والأشجار:
من دموع النجوم، من سهر العاش
ق صيغت ومن رجاء الحياة
في حنان ورقة وهي لا تم
لك من عمرها سوى لحظات
في ثغور الأزهار، في ألق العش
ب، وفوق الغصون تحيا وتفنى
وهبت حسنها الضحية للشم
س كأن الفناء للشمس أغنى!
وليست هذه الأنداء إلا رمزا لقلب شاعر تأثر بمشهد الفجر الشاعري فترقرقت من قلمه أنداء على زهرة الشعر في مملكته المقدسة، فإذا بديوان بكر وسمه الشاعر (أنداء الفجر)؛ ديوان تنفس الحب العفيف الصادق وهتف بمرائي الطبيعة الرائعة، ورسم خوالج النفس الحالمة الشاعرة وتأملات الزهد الخفية العميقة، وإذا بنا ننشق عطر الشاعرية فيه ونلمح وميض العبقرية يخطف بالبصر في داج من الظلم .
وعجب أي عجب لنزوع هذا الشاعر في سن مبكرة إلى انتقاء عناوين شعرية لدواوينه وقصائده ومقطوعاته انتقاء فاتنا يتمازج فيه العنصر الشعري بالعنصر الجمالي كما تتمازج أضواء القمر الجميلة بموجات النهر الساجية.
وها نحن نلمس العنصر الشعري في ديوان (أنداء الفجر) في مثل مقطوعته «وحي المطر» التي هتف بها الشاعر في أوائل الشتاء جامعا فيها بين الطبيعة والحب في نفس واحد، وفي قصيدته «بنات الخريف» يناجي بها روح الخريف مناجاة شعرية قوية، وقصيدة «موسيقى الوجود» يغني فيها بمشاهد الوجود من جماد ونبات. وهذا العنصر الشعري يغمر جميع دواوينه، ونذكر بخاصة ديوان (الينبوع) الذي وعى من القصائد الشاعرة «رعشة الحور» و«الأوراق الميتة» و«الورود الحمراء» و«مصر العازفة» و«الأشعة الصادحة» وغيرها، ونقصد بالعنصر الشعري تلك البيئة التي تنزع بالشاعر إلى المرائي والخوالج وتلف قلبه وحواسه في شبه غيبوبة، وتبتعث شعوره إلى أن يهيم في أودية خفية وذهنه إلى أن يجول في آفاق مجهولة! فأوراق العشب، وأنفاس الزهر، وصمت الكون، وأحزان القمر، وظلال السحب، وأنداء الفجر، وتوفز الطير ... كلها وأشباهها من مواد الشاعرية، بينما القصر الجديد، والطيارة ذات الأزيز، والخيل الجارية في السباق، والسيارة الناهبة للأرض، والآلة الميكانيكية، والاختراع الحديث، وكل مظهر من مظاهر الحياة الصناعية، قد تكون جميلة أيما جمال، ولكنها لا تبض بشاعرية، ولا تتفتح عن خيال. وما عرف أبو شادي الجمال متجردا عن الشاعرية، ولا ترنم في ديوان من دواوينه بمظاهر الجمال البحتة. اسمع إليه يقول في قصيدته «حياتان»: حياة الطبيعة التي يجد فيها موضوعاته الشعرية، وحياته اليومية التي يتقزز منها، يبث حنينه للأولى وشجاه من الثانية ... يقول:
أمي الطبيعة في نجواك إسعادي
وفي ابتعادي أعاني دهري العادي
وفي حمى إخوتي من كل طائرة
وكل نبت نبيل وحيك الهادي
وهذا النزوع إلى المواطن الشعرية أكثر من الجمالية ملحوظ في الشعراء الحقيقيين أمثال كولريدج الذي ناجى «البلبل»، ووردزورث الذي هام بالطبيعة، وكيتس الذي آثر الشاعرية على الجمال؛ فتغنى بالزهر وهتف بالطير ولم يهتم بمرأى أبدعته يد الإنسان.
وفيكتور هيجو الذي لم يجاره أحد في تنوع موضوعاته لم يهتم بالجمال المصنوع مثل ما اهتم بالمثابات الشعرية. يقول الفيلسوف الشاب جييو
Guyau
في كتابه (فلسفة الفن والجمال): إن فيكتور هيجو الذي أحاط بكل ضروب الشعر وتحدث في فنونها المنوعة لم يتغن بكنيسة نوتردام دي باري، وكذلك شرب الشاعر الأمريكي الجريء ثورو من الطبيعة فعاش مع الحيوان والطير والزرع وأحب مواطن الشاعرية لذاتها وابتعد عن الناس وعما أبدعته أيديهم من جمال!
وأبلغ العجب أن يند أبو شادي عن هذا النزوع الشعري في قصيدة واحدة من ديوانه هي «عالم وعالم»، فيحدثنا بعظمة وجمال «المجهر» و«المخبر» وآثارهما للعالم، ويحدثنا عن الطب وعجائبه، وهذه الأدوات العلمية الحديثة من المواطن التي ينبو عنها الشعر. يقول:
ما أعجب الطب وإلهامه
للشاعر الثائر والمجتري
أقصى الخيالات لأشعاره
لا شيء جنب العلم في المخبر!
بيد أني لا أنكر على الشاعر أن يبرز من مثل هذه الأدوات معاني شعرية، ولكن لا يجعلها هي بالذات موضوع الشعر، كما فعل أبو شادي في قصيدته «الطب الحائر» التي لم يتحدث فيها عن الطب المجرد لا من قرب ولا من بعد، ولكنه أبرز من ملابسات الطب فلسفة عميقة ذكية. يقول:
ما كل بأس في الجسوم بصحة
أو كل وهن للجسوم بداء
والعيش عيش حقائق ودقائق
والموت موت سلامة الآراء
نفسي تحركها الهموم إذا بدت
مكنونة في أنفس الضعفاء
وقراءة متعمقة في ديوان (أنداء الفجر) تكشف لنا عن روح شعرية مبكرة لشاعر حقيقي. وتتألف تلك الروح الشعرية من انفعال ينبض نبض القلب في الجسد، وعاطفة تسري سريان النسيم اللطيف في الأفق، وفكر يضيء كشعاع وردي في ليل بهيم!
سرى الانفعال الشعري في قوته في هذا الديوان البكر، ومن آيات ذلك قصائده «عبادات» و«موسيقى الوجود» و«بنات الخريف» وغيرها. اسمع إلى الشاعر يقول في قصيدة «عبادات»:
هاك قلبي يا حياتي!
نبئيه كيف يصنع!
هو في القرب بعيد
عنك يهفو ثم يجزع
آه كم يجني حيائي!
آه من شوق مضيع!
ويقول الشاعر في قصيدة «بنات الخريف» يخاطب الريح في انفعال وثاب:
هلمي! هلمي!
بنات الخريف!
وطوفي وطوفي
بهذا الحفيف!
وأبرز ما يبهر العين أن هذا الانفعال الشعري اقترن بعاطفة الحب غناء متنوعا حتى ليكاد الديوان يتنفس حبا نابضا، وأبلغ مثال لاقتران الانفعال بالعاطفة نجده في بعض أبيات جاءت في قصيدة «بحر الأماني»:
أزينب! إن حييت فما حياتي
سواك، وما عداها الآن فاني!
كلانا في الهوى طفل، ولكن
أنا الطفل الغبين، أنا المعاني!
وقوله وهو يصرخ صرخات العاطفة الطاهرة في مقطوعته «لم يحجبونك؟»:
لم يحجبونك؟ هل أثمت بكل ما
أعطيت حسنك من جمال بياني؟
هل لي سوى دين الطهارة ملة
أو لي سواك حماي أو دياني؟
فإذا حجبت فمن أخص بمهجتي؟
ولمن أعيش؟ ومن له وجداني؟
وهذه العاطفة الطهورة مقرونة بهزة الانفعال النبيل هي من مميزات كل فن خالد. ونجد ذلك بارزا في موسيقى بيتهوفن وفي شعر ملتون وفي قصائد تنيسون وكولريدج، فإذا عبر الشعر عن عاطفة حسية تعبيرا قويا منفعلا فإن هذا أدخل في فنية الشعر لا في سموه الخلقي وخلوده. ومن نماذج الشعر الفني الذي لم يصل إلى المرتبة العالية مقطوعة لعباس محمود العقاد دعاها «حسرة متلفة» يمثل بها القبلة في انفعال قوي واشتهاء حسي، يقول:
يا له من فم
يا لها من شفه
يا لشهد بها
كدت أن أرشفه
يا لزهر بها
كدت أن أقطفه
حلوة ويحها!
غضة مرهفه
حسرتي بعدها
حسرة متلفه!
وقد سبقنا شعراء الغرب إلى إبراز قوة انفعالاتهم في بعض قصائدهم الخالدة، ومن هؤلاء الشعراء من دق شعورهم وصفا حتى لتكاد تسمع نبض أعصابهم، ومن هؤلاء نذكر دي موسيه الحساس، وبودلير الهوائي، وشيلي العصبي، وكيتس النابض، وويليام بليك المنفعل، ولعل أغنية الأخير «الوردة المريضة» هي من الشعر العبقري، وقد وصف حالتها في انفعال أليم فذكر أن دودة مجهولة طارت إليها في الليل على أجنحة الزوبعة الزائرة ودخلت في مخدعها الفارح وبيد خفية قتلتها! وقد استهلها بقوله:
O Rose! Thou art Sick!
وليس من شك في أن أبا شادي تغلب عليه نزعة التفكير والتأمل في شعره ، وهذه أظهر ما تكون في دواوينه الجديدة لا في ديوانه البكر. وأخص بالذكر من هذه الدواوين «أطياف الربيع» و«الينبوع» و«أشعة وظلال». وتبدو فيه هذه النزعة التفكيرية من صباه الباكر إلى يومه الحاضر، ومن دلائل تفكيره العميق وتأثره الفني قصيدته «أنفاس الخزامى» وقصيدته «الخالق الفنان». أما قصيدته «أنفاس الخزامى» فهي قصيدة فريدة في طرازها ولم يسبق شاعر من قبل - على ما أظن - إلى التفكير في هذه الزهرة والانتباه إلى وجودها بهذه المعاني، ولعل الذي نبهه إليها اشتغاله بالنحل من عهد الفتوة، وهو بهذا التفكير يحاكي شيلي الذي تنبه إلى صوت «القبرة» وبيرنز الذي تنبه إلى جمال زهرات اللؤلؤ في حقول اسكتلندة، ويحاكي كيتس وكولريدج في مناجاتهما «البلبل» وفيكتور هيجو في وصفه لزهرة المرغريت الوديعة. يقول أبو شادي في مطلع هذه القصيدة الفذة:
أي عطر فاق أنفاس الخزامى
في حنان يملأ الروح سلاما
لا يراها غير من كانت له
روحها أو من يحاكيها غراما!
تجذب النحل إلى أكوابها
وهي سكرى ترشف الشهد المداما!
وبودي لو يتم القارئ تلاوتها في الديوان، ليتبين ما فيها من رائع المعاني، وبودي أيضا لو يرجع القارئ إلى قصيدة «الخالق الفنان» فإن فيها معاني تتطلب التفكير، وفيها شعور بالإيمان الصوفي، وبودي أيضا لو يرجع القارئ إلى قصيدة «مسرح الليل» فإنه سوف يجد فيها أفكارا عميقة وخيالات قوية جريئة.
وليس من شك في أن بث الفكر الأصيل في الشعر من سمات كبار الشعراء البارزين، وذلك لأن أصالة الشعر لا تأتي إلا بالفكر الواسع، وأصالة التأمل لا تكون إلا بالذكاء لا بالحواس. يقول جيبو «المفكر الحقيقي هو الفنان الحقيقي»، فالشعر عند إمرسون كان أفكارا، والشعر عند بروننج كان أفكارا عميقة غامضة تحتاج إلى التروي وتقليب الرأي، والشعر عند كولريدج ينزع إلى التفكير.
استمع مثلا إلى قصيدته «ذكريات الحب» التي تطفر بجمال الفكرة وهو يصرخ إلى حبيبته صرخات العاطفة فيصفها بأنها فكرة وأنها حلم يذكر في حلم! يقول:
You stood before me like a thought,
A dream remembered in a dream.
But When these meek eyes first did seem
To tell me, love within you wrought,
O Greta, dear domestic stream.
ولقد خلع أبو شادي على الروح الشعرية رداء منسجما مع هذه الروح وملونا بلونها دون أن يهتم بتجميل القافية ولا بتفخيمها، وجمع في هذا الديوان على الخصوص إلى صفاء الفكرة لطف الديباجة، وإلى براعة الخيال قوة الأداء، وهذا مما يرضي نزعات المحافظين والمجددين على السواء، وأبرز مثال على هذا الشعر الرصين قصيدته «عيش الحر» وهو خطاب حار ناري موجه إلى مساوئ الاستعمار، وقد استهلها بقوله:
قليل على الأحزان ما انهد من جسمي
إذا كان عيش الحر أشبه بالإثم
وقصيدته «أنفاس الخزامى» وقد أتينا عليها آنفا، وقصيدته «الحب والأمل» ومقطوعته «الاستشفاء» التي تلمس فيها الديباجة البدوية الرصينة وقد استهلها بقوله:
دع الرحيل لدار الحب والغيد
واصبر على القيظ في قاس من البيد!
وقصيدته الرصينة «دمعة على قبر» تلك التي رثى فيها حسناء انتحرت يأسا لفقد عزيز لديها جاء فيها:
حرام على قلب عرفنا كماله
يرد رجاء الحي للترب والقبر
حرام على شمس أضاءت بطهرها
تغيب ونحن اليوم أحوج للطهر
حرام على روض نمونا بمائه
يجف بلا ذنب جنينا ولا عذر
ويختم هذا القصيد ببيت رائع المعنى بارع الأداء يتنفس الإخلاص الصادق، يقول:
جمالك في نفسي وذكرك في فمي
وشخصك في عيني مقيم وفي فكري!
وهذا الجميع بين صفاء الفكرة وجمال الديباجة وبين براعة الخيال وصدق العاطفة هو سمة كل شعر يشق لنفسه طريق البقاء ويحمل في ذاته عناصر الحياة، وقد امتاز شعر الشعراء النابهين بهذه السمة أمثال المتنبي، وأبي العلاء المعري، وشكسبير، وتنيسون، والبارودي، وشوقي، وحافظ، في طائفة من قصائدهم.
وديوان (أنداء الفجر) يضم كثيرا من أمثال هذه القصائد المقفاة الرصينة، ولكن يلاحظ إلى جانب هذه القصائد المقفاة نوع جديد من القافية المزدوجة أو شبه الطليقة تظهر نزوع الشاعر إلى الطلاقة وإلى التحرر من عبودية القافية الواحدة، وهذه الطلاقة تعطي في كثير من الأحايين مسحة جميلة للتعبير الشعري. فإنا لنرى أن طائفة من قصائد هذا الديوان تعلن الثورة على القافية الواحدة كما يتجلى ذلك من قصيدة «الطائر الجديد» التي أتى في كل بيت منها بقافية مغايرة، وقصيدته «بنات الخريف» التي نوع القافية فيها. ورأينا أبا شادي يلجأ أيضا إلى القافية المزدوجة في كثير من قصائده التي نذكر منها «وحي المطر» و«القطة اليتيمة» و«الوساوس» و«الطائر الرقيب» و«الإكسير» و«أنداء الفجر». وهذا الميل إلى الطلاقة والتحرر من عبودية القافية في سن باكرة يحمل بذور ثورته التي تجلت اليوم في شعره المرسل، ذاك الشعر الذي كان هو وعبد الرحمن شكري من رواده، وتجلت أيضا في شعره الحر الذي كان هو أول من أدخله في الشعر العربي، وهذا الميل إلى التحرر من القافية هو الذي أثار هائجة المحافظين فزعموا أن هذا التحرر يذهب الموسيقى ويضيع النغم. وهذا القول صادر عن جهل بأبسط المعارف الموسيقية: فإن آلات الأوركستر مثلا لا يلزم أن تكون كل الأصوات المتصاعدة منها منسجمة النغمة بل قد تكون بعض الأصوات غير منسجمة ولا منغومة، والعبرة بوحدة الأصوات التي تكون النغم الموسيقي. فإذا فهمنا هذا الأساس أمكننا أن نفهم عدم ضرورة القافية الواحدة، ما دامت القافية المنوعة تكون وحدة موسيقية منسجمة، ويكفي أن يخرج من كل بيت صوت موسيقي ولا يلزم أن يكون في كل بيت نغمة موسيقية.
فالموسيقى ولا شك توجد في القافية المنوعة، ومن الملحوظ أن أعلام الشعر البارزين كانوا من أنصار الطلاقة في النظم ومن زعماء القافية المحررة. وقد لجأ الكثير منهم إلى القافية المنوعة إذا آنسوا أن المعنى قد تفسده القافية الواحدة أو أحسوا أن القافية الواحدة تخمد العاطفة وتطفئ الانفعال. ونعرف من شعراء الغرب الذين لم يهتموا بالنغمة الموسيقية الشاعر الفرنسي الحساس «ألفرد دي موسيه» الذي لجأ في بعض الأحايين إلى الشعر المرسل ووجه إلى محبي القافية الواحدة من جماعتي الرومانتيكيين والبرناسيين عبارته الحادة الساخرة: «لا تنظروا إلى ردائي وأحذيتي بل انظروا إلي وجها لوجه، انظروا إلى وجهي وحاولوا أن تقرأوا فكري من أعماق عيني.»
ولكنا نجد في كل زمان ومكان جماعة التقليديين والمحافظين والحفريين لا يحبون هذه الطلاقة لا في اللفظ ولا في المعنى ولا في القافية، ولا يميلون إليها جميعا، ونعرف من هؤلاء في فرنسا المسيو دي بانفيل الذي كان يرى أن تفكير الشاعر هو القافية، وأن الشاعر لا رأي له، وإنما الشاعر هو من يؤلف القوافي ذات النغمات الموسيقية! ويتجاوب مع هذا التقليدي المريع جماعة المحافظين في مصر، وأولئك جميعا يكفرون بالفكرة ولا يعرفون موسيقاها ... أولئك لن تعمر أعمالهم أكثر من تعمير رنينهم في الآذان الأسيرة، بل أولئك جعلوا - مع الأسف - من الشعر صناعة وأفقدوه رسالته المقدسة التي جاء من أجلها وهي تثقيف الشعور وتنبيه الفكر وشحذ الانفعالات وتهيئة الطمأنينة للروح، وأولئك قد شنوا حربا شعواء على شعراء الشباب المجددين واستقبلوا بصيحات الغربان قصائد المجددين الذين يرون الجمال والموسيقى في الفكر وفي انسجام الترتيل. ولقد حملوا على شكري حملة غير شريفة، وها هم الآن يوجهون سهامهم إلى أبي شادي القوي المراس، وإلى غيره من الذين ينادون بالشخصية في الأدب وبالطلاقة والحرية والذين يهتمون بالفكرة ويدخلون الألفاظ الشعرية الجديدة والأخيلة الطريفة في أساليبهم الشعرية ويلبسون قصائدهم مسحة من الجاذبية الحبيبة لذوي النفوس المتصوفة والطبائع السمحة. وسوف تذهب هذه الصيحات الناعبة أدراج الرياح، وسوف يتجاوب الناس بشعر المجددين لأنه الشعر الطبيعي ولأنه القائم على تفهم روح الأشياء وعلى العاطفة الشعرية والتأثر الصادق والفكرة العزيزة، والزمن كفيل بأن يعيد المتعنتين إلى مهيع الصواب وسبيل الإنصاف، فيتجاوبون مع نفوس المجددين ويستمعون إلى مقياس أبي شادي الصائب في الحكم على الشعر حين يقول:
كن أنت نفسي واقترن بعواطفي
تجد المعيب لدي غير معيب
شعري - الذي تأباه - أنفس مهجتي
وكفاه أن يحيا بنفس أديب
عبثا تحاول فهمه بتحامل
إن العداء يرد كل حبيب
لو طرت في دنيا خيالي لم تكن
إلا رفيق مسرتي ووجيبي
ما كان هذا الشعر من لغة الورى
لكنه قلبي وروح حبيبي!
ولعله يأتي قريبا ذلك اليوم الذي يتجاوب فيه سواد الناس مع هذا الشعر الجديد، عندما يدركون مذهب الشعر ورسالته، وليس من شك في أن أرواحا تتجاوب مع شعر المجددين في أقطار الشرق يجهلها المجددون كما يقول الشاعر الموهوب لامارتين في قصيدة «الخريف»:
لعل في سواد الناس روحا أجهلها تفهم روحي وتتجاوب معي
Aurait compris mon âme, et m’avait répondu.
ونحن نرحب بهذا الديوان الصغير العزيز لا باعتباره ذكرى من ذكريات حب الشاعر التالد، بل باعتباره نفحة من نفحات تورثه الفتية، وآية من آيات التجديد في أغراض الشعر ومعانيه وأسلوبه. ورجعة خاطفة إلى الديوان ترينا الشاعر قد احتفل بذكر الحب في كثير من القصائد، ونجد الروح الوطني ينعكس علينا من مرآة الماضي. فها هو الشاعر يرسل تحية بارعة إلى سجين القلم محمد بك فريد ويعتز بعاطفة الآباء في قصيدته «عيش الحر» ويحيي صديقه الشاعر البارع علي الغاياتي، ويحيي شهيدا من شهداء السياسة، ويقف متحدثا بخلال مصطفى كامل رحمه الله في حجه حول تمثاله، ويضم إلى صدره وطنه الكليم في حنو وإشفاق، ويذكر في تأثر ودموع الخلف بين الأحزاب المصرية من ربع قرن بروح نزاعة إلى القومية الصادقة عازفة عن التحزب البغيض، وهي الروح الصافية التي صاحبته منذ حداثته إلى الآن. فها هو مثلا يخاطب المجاهد النبيل فريد بك قائلا:
سيان كنت بنعمة أو نقمة
ما دمت ترضى بالجهاد حجاكا
سيان كنت مقربا أو مبعدا
ما دام حرب العابثين مناكا
وكفاك فخرا أن تناضل أمة
كم أرهقت من مصلحين سواكا
وها هو يصف الزعيم الأبي الشجاع مصطفى كامل بقوله:
يا كبير اليقين في قوة الحق
ق ويا بانيا قلوب الرجال
يا كثير الإباء في دولة الب
غي ويا ناسفا صروح الضلال
إلى جانب هاتين العاطفتين المنبثتين في شعر أبي شادي، وهما عاطفة المحبة الطاهرة وعاطفة الوطنية المتحمسة، نجد الديوان يحوي نماذج من الشعر الفلسفي والشعر الغنائي وشعر الطبيعة. فشعره الفلسفي يتجلى في قصائده «التبرم» و«حظ الناقمين» و«الدنيا» وغيرها من القصائد. والشعر الغنائي ظاهر في قصيدته «وطني! وطني!». أما شعر الطبيعة فما أحفل الديوان به، وقد أتينا على نماذج منه في قطعة «حياتان» التي يذكر الشاعر الطبيعة فيها ويجد في حنانها ووداعتها لذته وأنسه، وفي «أنفاس الخزامى» التي فاح في الديوان عطرها، وفي قطعة «وحي المطر» وفي قصيدة «مسرح الليل» التي وصف فيها الليل بأنه مسرح للطهر والتهتك:
مسرح الليل! أي ملهى عجيب
أنت تبدو للشاعر الفنان
أنت ملقى العباد والطهر بينا
أنت مجلى التهتك المتفاني!
ثم يصف فيها وحي النجوم وصفا دقيقا إذ يقول:
والنجوم التي تطل علينا
في حنان ورعشة وافتتان
والذي يثير إعجابنا حقا أن نجد الشاعر الشاب يسبق جيله في طرق موضوعات تبدو تافهة، موضوعات غريبة على معاصريه، كما نجد ذلك واضحا في قصيدته «القطة اليتيمة» التي أخذ يخاطبها بقوله:
جلست قربي كأن قربي
عزاء إحساسك اليتيم
وكم تألمت في حنوي
عليك في صمتك الأليم
ثم ينتهي بمخاطبتها في حنان ورقة إذ يقول:
فلتغنمي أنت من حناني
ما شئت يا طفلة الغرام
وهذا الميل إلى الخطرات التأملية ومعالجة الأشياء البسيطة ظهر واضحا جليا في شعره فيما بعد، وقد أتينا على نماذج من هذه الخطرات في مقال عن «أبي شادي الشاعر» نشر بملحق (السياسة) الأدبي، ولعل هذا الميل أيضا هو آية من آيات المزاج الشعري الدقيق والذي سبقنا إليه بعض شعراء الغرب الكبار مثل شاعر الطبيعة الإنجليزي وردزورث الذي كان يرى أن أحقر الأشياء تصلح للشعر، ومثل الشاعر الفرنسي بودلير الذي رأى «كلبا ميتا» مسجى على العشب بين الأزهار النضرة، فأخذ يصفه وصفا غريبا مدهشا، والذي وصف قطه الجميل ذا العينين الزمردتين والذي تمثلت له فيه زوجته! فنظراتها كنظرات هذا الحيوان الوديع!
وما أروع وأبدع ما قاله أبو شادي في وصف هذا الميل الشعري في أبياته الساخرة الحنونة:
من كان يشعر دائما بشعوري
في الليل أو في الفجر أو في النور
ويصاحب الأجرام في حركاتها
ويجوز عيش الناس كالمسحور
وجد التجدد دائما إلفا له
في النفس أو في العالم المعمور
ورأى الحياة بما تجدد دائما
أسمى من الإفصاح والتعبير
توحي وتوحي دائما، فإذا الذي
أوحته بعض جديدها المقدور
لو أنصف الشعراء ما قنعوا بما
خلقوه من شعر ومن تصوير
كم في الحياة مجدد لا ينتهي
ولكم حقير وهو غير حقير
من هذا نرى أن شعر أبي شادي تأثر في حياته الأولى بالحب الطهور، وامتزج بالعاطفة الوطنية الحارة، وتأثر بالطبيعة المصرية، وتلون بإيحاء أعلام الشعراء وإن تجلت فيه شخصيته بدرجات مختلفة. تلون بوطنية حافظ الصادقة، وموسيقى شوقي المنغومة، وأخيلة مطران الحرة. وهذا التأثر ظاهر في كثير من قصائده، ويتجلى ذلك مثلا في قصيدته «الحب والأمل» التي جاء فيها:
وفى الربيع فحي الحب والأملا
وسائل الذكر إن كان الفؤاد سلا
واحفظ حديث الغواني في أزاهره
واحرص على النفس أن يدني لها الأجلا
من كل هيفاء إن ماست وإن نظرت
لم تترك القلب إلا حائرا وجلا
فإن أثر شوقي محسوس في هذه القصيدة. ولكن أبا شادي لم يقف عند حد مثل هذا التأثر ولا عند حد تجاوبه مع زعيم المجددين خليل مطران، بل تحول إلى الأدب الإنجليزي وتأثر به على قدر مطالعاته في ذاك الحين. وظهر أثر هذا التأثر في قطعة «موسيقى الوجود» التي نظمها متأثرا بقصيدة «موسيقى العالم» للشاعر جبرائيل سيتون. وإلى هذا فإنا نلحظ في هذا العهد نزوع الشاعر النسبي إلى الابتكار وإلى التفكير الحر وإلى الطلاقة الشعرية، كما يتجلى ذلك في قصيدته «أنفاس الخزامى» وهي من أفكاره الأصيلة، وفي قصيدته «بنات الخريف» التي نزع فيها نزعة مستقلة متجردة عن آثار كبار الشعراء في عصره، وهذا ينم عن وجود شخصية فنية فتية تعمل للبروز وللحياة، شخصية بدأت مرحلتها الفتية مدفوعة بعاطفة الحب الفردي والحب القومي وأخذت تتطور إلى العاطفة الإنسانية العامة، وغمرت تلك العاطفة الأخيرة دواوينه التي نشرت حديثا. فعاطفة الحب الفردي اختفت تقريبا من دواوينه الأخيرة وإن كان قلبه لا يزال يندلع به اللهب، وعاطفة الوطنية المتحمسة هدأت واعتدلت وتسيطرت عليها العاطفة الإنسانية التي جعلته يميل إلى «الأسلوب المتعادل» يعبر به عن شعوره، وينزع إلى الطلاقة في التفكير والصدق في الطبيعة، وإلى الانسجام في الترتيل، وإلى الروح الشعرية العامة التي تجعل شعره قابلا للترجمة إلى أية لغة، وبهذا كون أبو شادي لنفسه نزعة خاصة، وشخصية فنية مستقلة. •••
ولنا كل الحق بعد هذا أن نرحب بهذا الديوان البكر في ثوبه الجديد لأنه قطعة من نفس الشاعر وعمل يفتخر به كبار الأدباء في نشأتهم، ولأنه من البذور الأولى لأزهار الشعر الحديث ومن الإرهاص الأول لحركة التجديد الأخيرة.
ونكرر التأكيد بأن هذا الديوان سوف يرضي بجمال ديباجته جمهرة المحافظين وقد أرضى أمثالهم من قبل، كما سوف يبهج بجرأة أخيلته وبراعة تصويره أذهان المجددين. ونحن بلا ريب نفخر بجهود أبي شادي التعاونية الحاضرة وبروحه الأدبية النبيلة المتسامحة، التي لا نجدها في جمهرة أدبائنا، ولا نريد أن نترك القلم حتى نسجل أسفنا للحملات المجنونة التي يشغب بها فريق من المحافظين وبعض العاثرين من عجزة الأدباء ضد أبي شادي وضد أدباء الشباب، بل نأسف أكثر من ذلك لتلك الطعنات التي يوجهها إليه حتى بعض من أشاد أبو شادي بذكرهم. ويسرنا أن أبا شادي يقابل تلك الحملات بالسماحة، وبالإنتاج الفكري المطرد، تاركا لأعماله ذاتها إنصاف نفسها بنفسها، وقد تعود الآلام والجحود من قديم في بيئتنا المصرية المتأخرة فناجى نفسه مناجاة قوية في قصيدته الرائعة «فؤادي» التي يقول فيها:
تشجع في المصائب يا فؤادي
وكن بصلابة الحجر الكريم
ألست كجوهر في طي جسمي
خبيء لا يعرف للئيم
إذا الأحداث عضت فيك فاكسر
نيوبا لن تنال من العظيم!
ولا ريب أن الأدب المصري يغتبط أشد الاغتباط بمثل روح أبي شادي كما يشجى أشد الشجى من تصرفات الأدباء الناقمين، وأن التاريخ الأدبي ليجذل أيضا بخروج هذا الديوان من اعتكافه لأنه يحمل ذكريات أيام طيبة خالية، ويزيح الستار عن صورة التطور الروحي للشاعر، ويكشف عن شخصيته الفتية التي بدأت تتفتح للنور وتشق طريقها إلى الفن وإلى المجد. ولكأنى به يرسم خطرات نفسه الطموح في عهد الحداثة بقوله في مقطوعة «حظ الناقمين»، يقول:
سلخت من الأعوام بضعا وعشرة
أقيم على دين العلا وأسير
وفي النفس حاجات وفي القلب لوعة
على أن كلي همة ومرير!
وبودي لو يتنبه جمهرة القراء إلى جهود هذا الشاعر الإنساني، ويتمعنوا في شعره وأخيلته ليلمسوا ما يعيه من شاعرية صافية ويمسوا ما فيه من جمال محجب .
ولا يسعني أخيرا إلا أن أقدم للشاعر إعجابي بروحه الأدبي النبيل، وثنائي على ديوانه البكر الفريد،
مصطفى عبد اللطيف السحرتي (2) شخصية أبي شادي ومميزات شعره
إنها لفرصة سعيدة، تلك التي أتاحها لنا الشاعر المجدد الدكتور زكي أبو شادي بإعادة طبع ديوانه الأول (أنداء الفجر) لنتحدث عنه وعن الباكورة الأولى، وما اشتملت عليه من شعر الطبيعة والتصوير والعاطفة، ومميزات الشخصية في هذا الشعر، وخصائص التجديد فيه.
وإذا أردت أن أتحدث إليك عن الشاعر أبي شادي أو أرسم لك صورة عنه فلا تظن أني سأجمع كل أدوات التهويل والتضخيم مستعينا بها! كلا، فما تصورت أن أتناول الناس بمثل هذا، ولا أحسبه يرضى بذاك، ولكن سأحاول أن أرسم لك صورته دون زيادة أو نقصان، وإن كنت لم أره غير مرة واحدة إلى اليوم. إن أبا شادي رجل اعتيادي لا يروعك صامتا، ولكنه إذا ما تحدث إليك راعك منه أنه يحيا في الحياة، بنفس طفل، وقلب شاعر، وفكر فيلسوف. وهو لا يحاول التحامل على الغير كاتبا أو محدثا، فهو إذا حدثك عن أديب أو شاعر، ذكر لك محاسنه ومساوئه كما يرى هو دون تحيز أو افتئات، وموقفه ممن يسيئون إليه دائما هو موقف الرثاء لهم، أو الإشفاق عليهم، وكم مطاعن وجهت إليه فاستقبلها باسما ثابتا، كما يثبت الطود الأشم للإعصار العتي، وكثيرا ما عادت عليه هذه المطاعن، بعكس ما كان ينشده أصحابها:
كم من مطاعن لي تكال كأنها
شرف يكلل هامتي بالغار!
وهو لا يندم إذا ما جزاه الناس على حسناته بالقحة والتقول، ولكنه يلتمس لهم المعاذير، لعلمه أن هذه هي طبيعة الحياة:
فيم الندامة إن شتمت دناءة
وجزاء ما أسديت من حسنات؟
النحل يعطي الشهد جودا سائغا
ولكم يكافئه الورى بأذاة!
فهذا الشاعر هو في الواقع رمز التسامح والنبل، وكلما أحرجت صدره المحرجات هرب من هذه الدنيا الخسيسة إلى دنيا التفاؤل والخيال، ليتلهى بمناظرها وليغرق في محيطها ما علق به من أوشاب حياتنا الذميمة:
وأعيش في دنيا التفاؤل ناسيا
دنيا تفيض قساوة وعداء !
ولم يخدم الأدب والشعر في هذه الأيام أحد بمثل ما خدمهما ذلك الشاعر، فلقد أنشأ مجلة (أپولو) وجعلها منبرا حرا للشعر والدراسات الشعرية، فأوجد بذلك نهضة في الشعر حرية بالالتفات إليها، كما كشف لنا عن أكثر من خمسين شاعرا، كانوا لولاه سيظلون مغمورين مجهولين، لا يحس بهم أحد، ولا يعلم من أمرهم شيئا. وأكثر من هذا أنه كان وما زال ينشر الأبحاث ناظرا لأهميتها دون أصحابها، وكثيرا ما كان ينشر الأبحاث لأعدائه، يذمونه فيها ويعيبون طريقته، وكثيرا ما كان يؤثر هذه الأبحاث على أبحاث أخرى ترد إليه وكلها مدح فيه، واستحسان لطريقته ومذهبه، فقل لي بربك من رئيس التحرير هذا الذي ينشر لخصومه سهامهم المفوقة إليه؟ أما أنا فلا أعلم أن أحدا من رؤساء التحرير بلغ به النبل أو التسامح إلى هذا الحد، ولكني أعلم أنهم يفرقون كل الفرق من النقد الخفيف يوجه إليهم، كما أعلم أنهم لا يتورعون عن أن ينشروا كل كلمة من مدح أو استحسان تصاغ فيهم، حتى ولو كان صاحبها يقصد بها إلى المداعبة والسخرية من طرف خفي.
ذلك هو شاعرنا المتجدد أبو شادي في كلمات قصار. وأعود الآن بك أيها القارئ إلى ديوانه الأول (أنداء الفجر) بعدما تشعب بنا وبك الحديث، فالكلام عن هذا الديوان هو الغرض الأول وبيت القصيد، ولعل الذي حفز الشاعر إلى إعادة إخراج هذا الديوان من جديد هو تحقيق رغبة حبيبته الأولى «زينب» صاحبة هذا الديوان، وموحية فرائده، والتي يهدى إليها الديوان في قصيدة رائعة مؤثرة منها:
ربع قرن مضى وهيهات تمضي
شعلة الحب عن وثوب وومض
لم أزل ذلك الفتى في جنوني
وفؤادي في نبضه أي نبض
ذكريات الهوى وأشباحه النشوى
أمامي في كل صحو وغمض
نشرت في السطور بعد احتجاب
كنثير الحيا على زهر روض
كم شقينا تفرقا وحياء
وخضعنا لحكم دهر ممض
ورجعنا ننوح نوح يتيمين
على ذلك الصبا المنقض
علم الحب ليس غيرك مجدي
في وفاء وليس غيرك خفضي!
ولعل الذي دعاه إلى ذلك، هو إلحاح إخوانه وأصدقائه عليه بإعادة طبعه، لما فيه من روح الصبا، التي لم يبق له منها غير الذكريات التائهة والحنين الشارد. ولعل الذي دعاه أكثر من ذلك، هو شوق أشقاء هذا الديوان وهم كثر بين أنين ورنين، ومصريات، وزينب، ووطن الفراعنة، والشفق الباكي، وأشعة وظلال، ووحي العام، والشعلة، وأطياف الربيع، والينبوع ... وغيرهم، إلى أن يجدد والدهم البار شباب شقيقهم الأكبر فيسعدوا بطلعته، ويحيوها ليلة شاعرية في مولده.
أما نحن فإنه ليهمنا كثيرا أن يظهر هذا الديوان، ولو لم يعمل الشاعر على إظهاره مؤثرا كعادته الإنتاج الجديد لطالبناه به لأننا نريد أن نعرف، هل كان المذهب الشعري الذي يدعو إليه شاعرنا في هذه الأيام متميزا في أشعاره الأولى أم هو طارئ عليه بعد الدراسة الطويلة في الآداب الفرنجية؟ وهل شخصيته التي تطالعنا في دواوينه الحديثة هي شخصيته الأولى، أم أصابها شيء من التحوير؟ وما هي الأغراض والدواعي التي كان يقول فيها الشعر، في الوقت الذي كان فيه كثرة الشعراء المعاصرين يفنون أوقاتهم في معارضة المتنبي أو البحتري أو أبي فراس وغيرهم؟ أو في نظم القصائد المهلهلة في مدح من لا يستأهل المدح، أو رثاء من لا يعرفون، رغبة في الظهور على جثث الموتى وأشلاء الذاهبين؟ •••
يتلخص مذهب أبي شادي الشعري في تجديد اللفظ والأسلوب والقافية والمعنى، فهو كثيرا ما يترفع عن الألفاظ والأساليب التقليدية حتى يظن المتزمتون أنه يتهاون في ألفاظه وأساليبه، وهو يحل نفسه من قيود القافية في كثير من شعره، حتى ليخيل إليهم أن ذلك ضعف وعدم قدرة على مسايرة القافية الواحدة. وهو يتعمق في كل معنى يلمسه، ويجيل طرفه في كل ما يحيط به كبر أو صغر، فيخرج منه معنى شعريا جديدا، فيحسب الجامدون أنه لا يتخير موضوعات شعره، فإذا سمعوه ينظم في «ذباب الصيف» صاحوا به: أوحتى الذباب يستأهل منه العناية والالتفات؟ يا للعجب! وما يبقى للشاعر أيها الفقيه إذا لم يسجل كل ما تنفعل له نفسه هان أم عظم؟ ولكن الشاعر لا يجشمنا مشقة الرد عليهم في ذلك ، فيدحض هو هذه الفرية في قصيدة «التجدد»:
لاموا شبوب عواطفي وتخيلي
وتدفقي بالشعر ملء شعوري
وأنا الخجول أمام ما أنا ناظر
من كل موح بالغ التأثير
فيهزني هزا، ولكني الذي
مهما أجدت أحس بالتقصير
وأكاد أوقن أن من هو لائمي
إما ضرر أو شبيه ضرير
إنا بكون كله شعر بلا
حصر، وكم من عاجز مغرور!
وقد جمع أبو شادي في (أنداء الفجر) ألوانا من شعر الوصف، والحب، والوطنية، والهيام بالطبيعة، والفلسفة، وهو في كل ناحية من هذه النواحي، لم يشذ عن طريقته أو يخرج على مذهبه.
فاستمع إليه وقد أخذ يصور لك أنداء الفجر، على ثغور الأزهار، وفي ألق الشعب، وفوق الغصون، بشعر لم يسعد الشعر العربي بأبدع منه لفظا ومعنى ورقة وعذوبة، فيقول:
من دموع النجوم، من سهر العا
شق صيغت، ومن رجاء الحياة
في حنان ورقة، وهي لا تم
لك من عمرها سوى لحظات
في ثغور الأزهار، في ألق العش
ب وفوق الغصون تحيا وتفنى
وهبت حسنها الضحية للشم
س، كأن الفناء للشمس أغنى
ويعود الفجر الوفي بها بع
ثا ولكن تعود تمضي الضحيه
هي ملك لنا حياة وموتا
وهي بالروح صورة الأبديه
إن هذه المقطوعة البارعة من الشعر التصويري حسنة من حسنات الشاعر، ولو لم يكن له غيرها في الوصف لكفته غنى فنيا.
ويرى شاعرنا القارب يشق طريقه على صفحة الماء في زهور وابتهاج، فيشجيه هذا المنظر ويسترعي خياله، فإذا به يطرفنا بصورة صغيرة:
يشق القارب المزهو مثلي
طريقا في المياه مع ابتهاجي
فيكسر صفحة للماء راقت
ونسمع صوت تكسير الزجاج
فهنا يذكرنا أبو شادي بأيام طفولته وابتهاجه، أيام كان يكسر الزجاج وغيره كما يكسر القارب صفحة الماء الرائقة.
وأزهار الخزامى، ماذا كان شأنها مع الشاعر؟ إنها لأزهار مصرية صميمة ومن مصر انتشرت إلى سائر الأقطار، ولقد وقف أمامها الشاعر يحدثنا في غزل صوفي عن أنفاسها ويصف ما توحي به إلى النفوس الشاعرة، من خطرات ومعان ساميات:
أي عطر فاق أنفاس الخزامى
في حنان يملأ الروح سلاما ؟! •••
لا يراها غير من كانت له
روحها أو من يحاكيها غراما
تتوارى عن عيون لا ترى
دقة الحسن، وأخرى تتعامى
أيها الأنفاس طيبي وانشري
خطرات الحب حتى يتسامى
كم وقفنا في مجالي نشوة
عند مرآك فتونا واحتشاما
لم نقبل غير معنى حائم
حولنا منك عشقناه دواما!
واستمع إليه وهو يصف لك مسرح الليل وما يختلف عليه من مراء ومشاهد عجيبة، تخلقها يد الليل الساحرة، أو تمعن في مقطوعته «بنات الخريف» والتي يقول في مطلعها:
هلمي! هلمي!
بنات الخريف
وطوفي وطوفي
بهذا الحفيف
نراك بأوها
منا جائله!
فإنك لا شك واجد ضروبا من الوصف جديدة تشهد لصاحبها الناشئ بأن سيكون له في المستقبل شأن عظيم في الوصف. أوليس هو القائل بعد في ديوان (الينبوع) عن فتيات الريف قد اجتمعن على شاطئ الغدير يملأن الجرار ويغسلن الثياب:
ما بالهن لدى الغدير حوانيا
ينشدن للماء النشيد الغالي
والماء يضرب في حنان دافق
أقدامهن فما تراه يبالي؟!
يغسلن عابسة الملابس تارة
والشط مزهو بهن مبال
إني لأكاد أسمع من خلال هذه الأبيات أناشيد الريفيات وامتداد الماء إلى الشاطئ مرتميا على أقدامهن في حنان دافق، كما أكاد ألمس فرحة الشط بهن، ومع ذلك يتصايح الجامدون: أين الشاعر المصري الذي يصف الحياة المصرية؟!
ثم أليس قد أبدع أيضا إذ وصف الجدول الصغير جاريا كما تجري الطفولة في ابتهاج على حين قامت حوله الحور كأنها تحرس جسمه العاري فيقول:
وبدا الصغير الجدول الجاري كما
تجري الطفولة فرحة وحنانا
فغبطته، والحور قامت حوله
كالأهل تحرس جسمه العريانا
ويجب أن ننبه هنا إلى أن أبا شادي يكثر دائما من تقديم الصفة على الموصوف للتنبيه الشعري كما يقول «وبدا الصغير الجدول»، وأنا لم أر ذلك لشاعر من قبله ولعلها إحدى حسناته.
فمما تقدم تستطيع أن تدرك أيها القارئ مدى تفوق شاعرنا في الوصف، وقدرته على أن يريك ذوات موصوفاته كائنات حية تفرح وتغتبط.
أما الغزل فله النصيب الأوفى من الديوان، وما هو إلا صلوات يتقرب بها إلى حبيبته الأولى «زينب ». ولقد اشتدت العلة بشاعرنا يوما، فإذا هو ينشد بين الحب والأمل قصيدا سائغا، يصف فيه حاله، ويعتب على الدهر، ويعد عليه ذنوبه، ويوسع معبودته جدلا طويلا على نومها عنه، وهي تداعبه وتبكي له وتقربه:
مرت كحلم يجاريه الدلال فلا
نمت عليه، ولا أخفت له مثلا
وداعبتني بصوت خافت وبكت
وقربتني، وقالت: حسبنا جدلا
الدهر فرقنا، والدهر ألفنا
فانس الذنوب، ولا تعتب لما فعلا!
فانظر إلى قوله: «قربتني.» في البيت الثاني، وإلى حذف متعلق الفعل، ثم قل لي: أي سحر أو حسن، وأي أفق من النعيم، يختفي وراء هذه الكلمة العذبة بعد الحرمان الطويل؟ وتقذف الأمواج من على شاطئ الحب، وتباعد الأيام بينه وبين عهود صبابته الأولى، ثم يلتفت فجأة ليرى أين هو من هذه العهود، فإذا هو قد بعد عنها، أو قد بعدت هي عنه، وإذا هو لا يرى معلما يهتدي به، أو شرفا مطمئنا يأوي إليه، وإذا هو ينشد في لوعة جازعة، وحسرة غائرة:
ما ينفع الصب الكئيب من الجوى
حتى يحن إلى البكاء حنينا؟
أسفي على عهد الصبابة لم يكن
إلا شعاعا كاذبا مظنونا!
أسفي عليه وقد فقدت شبابه
ووهبت فيه فؤادي المغبونا
وظللت محزونا أكفكف أدمعي
أملا، وعشت متيما مفتونا
متصدعا من لوعة، متراجعا
من هيبة، مستغفرا، مسجونا
يا حسرة القلب الضعيف إذا رجا
من لا يزال على الوفي ضنينا!
وهو لا يمكن أن يتلهى عن «زينب» أو يحيا في غير «زينب»، بل هو ما زال إلى اليوم يسير على وحي «زينب» مهما غبنته ومهما عانى في سبيلها:
أزينب! إن حييت فما حياتي
سواك، وما عداها الآن فاني
ترى هل بعض أشواقي يرجى
لديك، أم الطفولة لا تعاني؟
كلانا في الهوى طفل، ولكن
أنا الطفل الغبين! أنا المعاني!
وتشيع أشعاره في «زينب» فإذا قومها حانقون عليه غاضبون، وإذا هم يحجبونها، ويبالغون في الحجاب، وما أشق الحجاب على نفس الشاعر العاشق، وإن الموت لأهون عليه من أن يحترق بنار الحرمان وجحيم الحجاب، ولولا التقاليد القاسية ما حال بينه وبينها حجاب أو باب، وماذا يحد لو ظهرت المرأة في مجتمعنا المصري، وهل ينتظر التقدم لشعب نصفه مفقود، أو سجين بين الجدران، فلا يستنشق الهواء، ولا يتمتع بنور الشمس؟ إن المجتمع الذي لا تباركه المرأة لا يمكن أن تقوم له قائمة بحال، ذلك أقل ما يطوف برأس الشاعر عندما يذوده الناس عن مورده، كما أنه يرى العدم حيزا من حياة تتحكم فيها التقاليد، وذلك ما حدا بأبي شادي عندما حجبوا «زينبه» أن يصيح:
يا «زين» دنياي التي ما نالني
منها سوى قلقي على حرماني
لم يحجبونك؟ هل أثمت بكل ما
أعطيت حسنك من جمال بياني
فإذا حجبت فمن أخص بمهجتي؟
ولمن أعيش؟ ومن له وجداني؟
وتهطل السحب بالمطر مدرارا، فإذا هو يوحى إليه بالظمأ على حين قد رويت الغصون والأزهار، وإنه ليعجب كيف تتساقط القطرات من يد زهرة ليد أخرى، وهو وحيد ينشد الري، وكيف لا يذكر القطر حبيبته برسالة الحب فعساها تذكر، وتعطف عليه كما يعطف القطر على الأزهار والأشواك؟ وإني لأحس حقيقة بظمئه عندما أقرأ هذه الأبيات:
أنا ظامئ والكل حولي ظامئ
فتقطري يا سحب كيف حننت
هذي الغصون تناولت ما خصها
ولبثت في ظمئي لوحيك أنت
تتساقط القطرات من يد زهرة
ليد، لأخرى، والجميع سكارى
وأنا الوحيد! فأين أين حبيبتي
حتى ترد جوى، وتطفئ نارا؟!
هلا بعثت إلى دفين شعورها
برسالة الحب الوفي الباكي؟
فلعلها تأتي وتنثر عطفها
كالقطر فوق الزهر والأشواك!
وكثيرا ما أبت عليه عبادته المتناهية لزينب كل مطمع، وكثيرا ما جنى عليه حياؤه، وأضاع أشواقه، فإذا كان قريبا منها بجسمه فهو بعيد عنها بقلبه، هذا القلب الذي قد حرم كل شيء، فهو القريب البعيد، وهو هنا في حيرة بين عقله وعاطفته، فهو يريد كل شيء، ولكن عقله يصده عن أي شيء! فماذا يصنع؟ لا شيء إلا هذه المقطوعة من الغزل الرفيع:
ما لعيني كلما ألقاك بالفرحة تدمع؟
بي رجاء ليس يخبو، ورجاء ليس يلمع
وأنا كالتائه العاني إلى الأوهام أفزع
هاك قلبي يا حياتي نبئيه كيف يصنع؟
هو في القرب بعيد عنك يهفو ثم يجزع
آه! كم يجني حيائي! آه من شوق مضيع!
وعبادات تناهت فأبت لي كل مطمع!
ونحن لا نستطيع أن نستقصي بالدرس والتحليل كل ما قاله الشاعر في هذا الديوان من شعر الحب والوجدان، ويكفي أن نعرض عليك زهرات من رياض حبه الأول لتعرف أن الرجل كان يعاني لوعة حب صادق، وأنه كان يتفجر عن معين عذب سائغ، على حين كان كثرة معاصريه في الوقت ينحتون من الصخر شعرا فاترا، يتغزلون به في «ليلى» و«هند» و«دعد» و«الرباب» و«مي» دون أن ينبض قلبهم بحب أو يختلج بعاطفة!
ولكن لن نخرج من الكلام عن غزله حتى نختمه بموشح رائع، هو في الواقع مسك الختام، وفيه يتجلى لك مذهب أبي شادي الشعري واضحا قويا، وإنه ليدلنا دلالة واضحة على أن هذا المذهب ليس وليد الدراسة الجديدة أو وليد اليوم، ولكنه يرجع إلى مبدأ عهده بالشعر، فهو رسالة، كأنه أمر بتبليغها، مهما ناله في سبيلها. فاستمع إلى هذا الموشح «طاقة أنغام» تجد فنونا من المعاني الجديدة، كما تجد ولعه بكل ما هو فني وبكونه المليء بالمعاني التي غابت عن كوننا نحن:
إذا استمعت إليك
فتنت من توقيعك
كأن سمعي لديك
عيني بمجلى ربيعك
أصغي إلى هذه الألحان زاهية
كأنها نخب الأزهار للعين
فكل لحن له لون يضيء به
وجمعها طاقة من زهرك الفني
وكل لحن له عطر يفوح به
وإن تخيله غيري من الظن
وأنت كوني، وكوني في حقيقته
جم المعاني التي غابت عن الكون
إذا استمعت إليك
فتنت من توقيعك
كأن سمعي لديك
عيني بمجلى ربيعك
ولا أبيح لنفسي التعليق على هذه القطعة الفريدة، فإن كل تعليق مهما دق لا يوفيها حقها، وإنما أقول لك: اقرأها مرة ثانية وثالثة فإنك ستلقى فيها فنونا من الغذاء الروحي، قلما تقع على مثلها في ديوان بجملته لشاعر آخر في عصر لم يعرف معظم شعرائه غير التقليد والمحاكاة، ولا عجب في ذلك فالشاعرية لا تتقيد بسن أو عصر أو ثقافة. •••
وبعد، فنريد أن نعرف هل في الديوان الأول للشاعر أبي شادي ما يدل على ولعه بالطبيعة وفنائه فيها هذا الفناء الذي يتجلى في مثل قصائده: بحر السماء، الأشعة الصادحة، أستاذي المصور، أمنا الأرض، الشروق الهادئ، حزن الفجر، صلاة الصباح، وغيرها من القصائد التي يندمج فيها بالطبيعة، وتندمج الطبيعة فيه؟ والجواب على ذلك هين سهل، فأنت إذا قرأت ديوان (أنداء الفجر) تستطيع أن تعثر للشاعر على مقطوعات هي في الواقع بذور صالحة لشغفه بالطبيعة، وعباداته إياها، فقصيدة «موسيقى الوجود» ليست إلا فناء أمام جمال الكون وجلاله وتقديسا لمظاهر الوجود الرائعة:
حدثوني عن الوجود المغني
كل ما فيه صادح يتغنى
من جماد ومن نبات وأحياء
فليس الغناء فيهن يفنى
وعجيب إذا تناءيت عني
لم أجد للغناء فيهن معنى
وإذا ما ظفرت منك بأنسي
صار هذا الوجود لحنا وفنا
واقرأ له مقطوعة «حياتان» تجد فيها هياما بالطبيعة لا حد له، ففي مناجاته إياها يرى السعادة، وفي الابتعاد عنها يعاني الشقاء، وفي حمى إخوته من طيور ونبات يبدو له وحي أمه الطبيعة رائعا جذابا:
أمي (الطبيعة)! في نجواك إسعادي
وفي ابتعادي أعاني دهري العادي
وفي حمى إخوتي من كل طائرة
وكل نبت نبيل وحيك الهادي
ما بالها هي صفوي وحدها فإذا
رجعت للناس لم أظفر بإسعاد؟
كأنما الناس أعداء: فبعضهمو
حرب لبعض، وحساد لحساد!
بل إن هذه المقطوعة لتذكرنا بشقيقتها «أمنا الأرض» من ديوان (أطياف الربيع):
أماه إن لديك صفو حنيني
وإليك مرجع فرحتي وأنيني
ألقاك في كنف السكون عبادة
وأقبل الترب الذي يحييني
وأروح أعشق كل ما أنجبته
فجميعه شعر إزاء حنيني
ما النحل، ما هذي الدواجن كلها
والغرس إلا الشعر ملء رنيني
وأرى الألوهة فيه بين توثب
وتطاير، ووداعة، وسكون
والناس تعجب من توزع خاطري
وهو الموحد فيك غير غبين
أماه! موئل كل لب شاعر
نجواك فهي مفاتني وفنوني
وإذا كنت قد عرفت الآن أن ولع الشاعر بالطبيعة أصيل في نفسه منذ حداثته، فإني أريد أن أزيدك علما بشخصيته، وأنها واضحة قوية في ديوانه الأول، كما هي واضحة قوية في ديوانه الأخير، وأنك تستطيع أن تنقل قصيدة من (أنداء الفجر) إلى (الينبوع) وقصيدة أخرى من (الينبوع) إلى (أنداء الفجر) فلا تكاد تحس أن هناك فارقا، وذلك مما يدل على أن شاعرنا مطبوع وأن شعر صباه يستطيع أن يقف مع شعره الأخير جنبا لجنب، دون تواضع أو استخذاء. ولا أظنك الآن بحاجة إلى أن نحدثك عن خصائص شعر أبي شادي فهي جلية واضحة، وقد سبق أن ألمعنا إليها.
وكنت أحب أن أحدثك أيضا عن وطنيات أبي شادي، وفلسفته، وحبه العام، وإنسانيته، لولا خشية الإطالة، فليكن لذلك بحث آخر، وعسى أن أكون قد وفيت الشاعر بعض حقوقه، فكم له علينا وعلى الأدب والشعر من أياد بيضاء، وبحسبه أن قد بعث الشعر من مرقده، واستثار عناية النقاد بالشعر إلى درجة بعيدة، حتى قامت حوله معارك خطيرة، ودفع الشعراء في طريق التجديد والإنتاج الصحيح، كما قضى على النظم السطحي في المناسبات الطارئة، هذا النظم الرخيص الذي ينسب زورا إلى الشعر.
وما أحوج ناقدي أبي شادي أن يتذكروا دائما بيته المشهور:
كن أنت نفسي واقترن بعواطفي
تجد المعيب لدي غير معيب!
وستريهم الأيام خطر رأيهم فيه وفي شعره، فالأيام وحدها هي الفيصل، وهي لا شك كفيلة بالإنصاف.
عبد العزيز عتيق (3) مطران وأثره في شعري
بقلم صاحب الديوان
لو لم أهد من أهديت إليها هذه المجموعة الأولى المستقلة من شعري لما قل سروري بإهدائي إياها إلى أستاذي الجليل خليل مطران، فقد عرفت محبة هذا الرجل الإنساني وأستاذيته منذ ثلاثين سنة؛ إذ تعهدني صغيرا فبقيت أهتدي بهديه، وكان أول ناقد لأدبي وأنا لم أتجاوز بعد الثانية عشرة من عمري. ولي أن أقول عن تأثيره على شعري ما قاله المازني عن أدب شكري: فلولا مطران لغلب على ظني أني ما كنت أعرف إلا بعد زمن مديد معنى الشخصية الأدبية ومعنى الطلاقة الفنية ووحدة القصيد والروح العالمية في الأدب وأثر الثقافة في صقل المواهب الشعرية . ومع هذا التأثير العميق في نفسي شبت روح الثورة والاستقلال فتحملت مسؤولية خواطري وتعابيري، وبهذا الروح لم أغير كلمة من هذا الشعر الذي له في نفسي قداسة الصبا وذكرياته وإن صرحت الآن في هذه الطبعة ببعض الأسماء وببعض المناسبات، وبهذه العقيدة ربطتني بأستاذي هذا العمر الطويل رابطة مقدسة من المحبة المتبادلة والتجاوب الشامل لم ينل منها كر السنين مثقال ذرة، فكانت وما زالت مضرب المثل في عالم الأدب والصداقة.
وليس هذا هو كل شعري في سنة 1910، فقد كنت مكثرا - إذا جاز هذا التعبير - منذ حداثتي، وإنما هو مختارات منه، وقد سبقته مختارات نشرت في الجزئين الأول والثاني من كتابي (قطرة من يراع في الأدب والاجتماع). فأما الجزء الأول من ذلك الكتاب فمعظم شعره من نظم الطفولة وسني ما بين الثانية عشرة والرابعة عشرة وأقله في الخامسة عشرة، وأغلبه تقليدي النزعة وإن تكن فيه على قلتها حسنات أصيلة. وأما الجزء الثاني ففيه من شعري ما نظمته في السادسة عشرة والسابعة عشرة متأثرا جد التأثر بتعاليم مطران، وهو بدء نضوجي الشعري. وكان مأمولا طبع ديواني الأول كاملا طبعة فنية فيما بعد، ولكني نكبت نكبة عاطفية قاسية غيرت مجرى حياتي فغادرت مصر إلى إستانبول ثم إلى إنجلترا في أوائل سنة 1912 ولبثت مغتربا عن وطني أكثر من عشر سنين نظمت فيها الكثير من الشعر كعادتي ما بين أصيل ومترجم، إلى جانب آثاري الأدبية الأخرى وفي مقدمتها ترجمة كتاب الأستاذ نكلسون في أدب اللغة العربية، وقد تركت ترجمته في مصر مع أوراقي الأدبية الكثيرة. وعدت إلى وطني في أواخر سنة 1922 وحقيبتي مثقلة بآثار أدبية شتى وبرسائل لها أهميتها مع كثيرين من أكابر الرجال وفي مقدمتهم المرحوم محمد فريد بك، فإذا بالجمرك يتشبث بالاحتفاظ بهذه الأوراق وقتيا لفحصها، وقد كان سيف الأحكام العرفية مصلتا فوق الرقاب، وإذا بهذه الأوراق لا تعود رغم ما بذل من المساعي لإرجاعها، وإذا بها قد أبيدت كما أبيدت مأثوراتي التي تركتها في مصر. وما أحسب أديبا جنى عليه الاغتراب والحرب بأكثر مما جنيا علي، وقد ترك كل هذا في نفسي أثرا أليما جدا، ولولا تشجيع أستاذي العزيز مطران وأخي الحبيب حسن الجداوي لزهدت في نشر أي جديد من شعري، فضلا عن جمع ما تيسر جمعه من شتيته القديم، دع عنك إعادة طبع شيء من ذلك القديم ... وأين هذا وقيمته من جيد شعري المفقود ومترجماتي وتصانيفي في أكثر من عشر سنين؟ ومن لي الآن - في كهولتي ومتاعبي - بعواطف الصبا والشباب وبتلك الأحلام الذهبية وبتلك الموسيقية الثائرة التي تلاشت أصداؤها في المحيط؟
ومهما يكن من شيء ففي هذا الديوان الصغير ذكريات عزيزة عندي عاطفيا وأدبيا: فأما الأولى فملموحة في ثناياه، وأما الثانية فترجع إلى ما فيه من التجاوب مع أدب أستاذي مطران خاصة. فطلاقة التعبير وحرية التأمل والاتجاهات الفكرية الجديدة؛ كل هذه تتمثل في معظم مقطوعات الديوان وقصائده، ومنها تدرجت إلى مذهب تحرير النظم كما أومن بتحرير النثر، متأثرا بأدب الجاحظ قديما وبأدب مطران نفسه حديثا وقد تجلى أبدع التجلي في (المجلة المصرية) التي حررها ببراعة أدبية منقطعة النظير.
وقد كان والدي برغم تربيته الأزهرية عصري الروح في كثير من تصرفاته، وكان السلاملك بداره الكبيرة في سراي القبة (من ضواحي القاهرة) بمثابة صالون أدبي في كل خميس، فكان يجتمع لديه الكثيرون من أهل الفضل والأدب والمنزلة الاجتماعية، وبينهم أشهر رجال الصحافة والأدب والشعر في مصر حينئذ، وكان واسطة عقدهم أستاذي خليل مطران. وهكذا تعلقت بحب هذا الرجل النبيل منذ طفولتي، وأتاح لي إصدار والدي لجريدة (الظاهر) اليومية و(الإمام) الأسبوعية فرصا شتى للاتصال بأعلام الأدب حتى أشربت حب الصحافة والأدب منذ صغري، فجرى قلمي بأول كتابة أدبية صحفية في سنة 1905 على أثر حصولي على شهادة الدراسة الابتدائية وقد كان لها ما كان من الشأن في ذلك الوقت، وكأنما كانت بمثابة شهادة أدبية لي أيضا! فلا عجب إذا عنيت في سنة 1908 بإصدار مجلة قصصية هي (حدائق الظاهر) وبإصدار كتابي الأدبي الأول (قطرة من يراع في الأدب والاجتماع)، وإن لم يتجل نضوجي الأدبي قبل سنة 1909، وهو نضوج نسبي على أي حال لا يقاس بجانبه نضوج الشباب في هذا الجيل الحاضر. ولولا افتتاني بمطران لكان الأرجح أن لا تثور روحي الأدبية تلك الثورة في محاولتي أن أقتفي خطواته السريعة، ولولا مطران لما اجتذبت عناية كل من شوقي وحافظ بي. ومطران هو الذي فرح بديواني الأول هذا على صغره أكثر من فرحي، وكان واسطة التحية الكريمة من حافظ لهذا الشعر. وقد أحببت في حافظ وطنياته وحماسياته الفياضة بأصدق الشعور، فسحرتني بساطتها وصدقها واعتبرتها منسجمة مع العناصر الشعرية العالية في أدب أستاذي مطران الذي رأيت فيه مثلي الأعلى ... وهكذا بقي هذا الثالوث مؤثرا في نفسي زمنا، ثم انفرد بالتأثير مطران، وإن كان هذا لا ينفي تأثري في صباي كذلك بشخصيتين بارزتين: الأولى شخصية أحمد محرم الذي أعده في شعره الوطني والاجتماعي أسمى منزلة من حافظ في جميع عناصر الشاعرية، ولكن له نفسية النجم البعيد المتواري لا يلمح تألقه وقوته إلا أهل البصر المديد، والأخرى شخصية مصطفى صادق الرافعي الذي لمحت فيه آيات الذكاء والشاعرية، ولكن يكاد ذكاؤه يفسد عليه عاطفته، فأحببت إلى الآن ذلك الذكاء المتوقد وقد بلغ ما كان ينتظر له بلوغه من الإبداع الأدبي والشهرة الفائقة.
فهذا الديوان في حسناته من ثمار مطران الأولى وفي عيوبه من آثار سني المبكرة، ولا أحب لدي من نشر تهنئته التي تفيض بالغبطة الأبوية وبفرحة المعلم بتلميذه، فهي منه وإليه:
ديوانك الأول فتح له
ما بعده في عالم الشعر
أبرع ما كان بإطلاقه
ممهدا للخلق الحر
أصعدت بالإلهام فيه على
أجنحة النسر إلى النسر
علام لا يطلب مستأسر
فكاكه من رهق الأسر؟
وما يرجى من رقي إلى
أوج المعاني قيد الفكر؟ (زكي) هذي نهضة للنهى
في العصر كانت حاجة العصر
للفن سر ضن دهرا به
وأنت مبدي ذلك السر!
تشف عنه المحكمات التي
نظمتها من فاخر الدر
فالحسن من كل مظناته
يبرز فيها لأولي الذكر (تهنئة مطران بخطه - مصغرة في النقل.)
مسودة قصيدة مطران العينية بخطه (مصغرة في النقل)، وقد فقد الأصل بين ما فقد من أوراق الصبا.
والناقد الأدبي المؤرخ الذي يدرس آثار مطران وآثار تلاميذه - ولي الحظ والشرف أن أكون بينهم - يجد أن روحانية هذا المعلم الجبار وقوته الفنية قد تركت في نفوسنا أبعد الآثار، وأننا إنما نتابع رسالته في خطوات معقولة. فما نشوء الشعر المرسل ولا الشعر الحر ولا ما بلغناه من الحركة التحريرية للنظم ولا ما نتناوله من الموضوعات الإنسانية والعالمية إلا الرقي الطبيعي لرسالة مطران، ولا يستطيع مطران نفسه أن ينكر ذلك بل هو يبارك بإخلاص هذه الجهود وإن شاركناه في تقدير ألوان الجمال عند مخالفينا من أصحاب المذاهب الأخرى قوية كانت أم ضعيفة، وهذا التسامح الفني - وإن يكن تسامحا في حدود - هو خلق مطران المعهود، خلق من يفتش عن ألوان الجمال والسليقة الفنية أينما كانت وإن كان له ذوقه الخاص ومذهبه الخاص.
ومنذ استحسن صديقي الأديب حسن الجداوي أن يضم ما يتاح له من الدراسات القيمة لآثاري المنشورة مساعدة على تفهمها، وجدت من كثيرين من الأدباء مشاركة له في هذا الاستحسان، وعلى هذا النسق الأدبي تصدر هذه الطبعة من (أنداء الفجر). وقد كان في مقدمة من استحسن هذا النسق صديقي الشاعر الناثر الدكتور زكي مبارك؛ لأن هذه الدراسات تنقل القارئ إلى الجو الذي يتنفس فيه الشاعر فيتبين عن كثب حقيقة خواطره وعواطفه والعوامل المؤثرة عليه، وحينئذ تستطيع أن تتذوق آثار الشاعر أحسن التذوق.
يقول الأستاذ جارود (أستاذ الشعر في جامعة أكسفورد، في دراسته للشاعر كيتس، سنة 1926) ما خلاصته: إن الشعر الذي يستحق المطالعة ربما لا يطالعه معظمنا بالعناية الواجبة التي قد تجعلنا أهلا للاطلاع عليه. نحن بطبيعة الحال نطالب الشعر بالمتعة، ولكن الشعر كذلك يطالبنا بالجهد حتى نستمتع به. فقد ألف الناس قراءة الشعر بغير ذلك التأهب الروحي الذي يعد ضروريا في العبادات الأخرى وبغير التنبه الوجداني الحتمي. والناس درجات في تفهم الشعر حتى إن وردزورث قسمهم إلى أربعة أقسام ... وما كانت دراسة الشعر العالي أو نقده بالأمور الهينة، فإن ذلك يتطلب غاية المواهب الفنية ومنتهى الثقافة والدقة حتى يوزن الشعر بمنتهى العناية والأمانة، كما يفحص الصيرفي الجواهر غير مخدوع بمظاهرها الخلابة ولا بصورها المتواضعة ...
ونحن نقرأ الكثير من نقد الشعر في وقتنا هذا مسرورين لاعتبار واحد وهو تنبه الناس إلى أهمية الشعر بين الفنون الجميلة وأثره في تهذيب المدارك وصقل الشعور، وما هذا بالقليل في ترقية الأمة فكريا، ولكننا لا نكاد ننعم النظر في معظم ما ينشر من نقد حتى يتملكنا الأسف الشديد على ما نلحظه من الاستهتار بالدرس والنقد، وعلى تدخل عوامل خارجية (كالحزبية السياسية وما إليها) في الأحكام الأدبية، حتى جرف هذا التيار الغاشم في طريقه غير واحد من مشهوري النقاد، فأصبحنا نرى المتصنعين واللصوص من الشعراء تخلع عليهم ألقاب العبقرية لا لسبب سوى التضليل والحزبية والاعتبارات الشخصية، ونجد غيرهم من الموهوبين ينكر عليهم حتى التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية ولو وردت نظائرها في القرآن الكريم وفي أشعار الفحول من المتقدمين مع أنها أدوات فنية لا غنى عنها للشعراء المتعمقين، وتؤخذ عليهم قوة الاندماج والتصوف فيما حولهم من عوالم جليلة ودقيقة، ويمتهنون لتجاوبهم الكوني ولشعورهم بالشعر في كل شيء وبفنية الحياة المختلفة ... ومحال إقناع هؤلاء السادة بأنهم لم يستكملوا بعد أدواتهم النقدية، ومع ذلك يجيزون لأنفسهم أن يعيبوا على الشعراء المطبوعين عدم استكمال أدواتهم الشعرية، ولو استكملوها باطلاعهم وبمرانتهم الطويلة أو بلغوا منها شأوا كبيرا، وأنه لا يكفي لنقد الشعر أن يكون الناقد شاعرا في روحه نزاعا إلى الإنصاف، بل ينبغي أن يكون كذلك واسع الثقافة واقفا على المذاهب الأدبية وعلى أحدث أصول النقد. وبعد كل هذا فالغالب أن يأتي النقد صورة من نفسية الناقد ومن ذوقه وميوله لا من الحق المطلق الذي لن يتحقق ... فالجزم في الأحكام النقدية أو التعسف إزاء هذا إنما يكون عبثا واستهتارا بالشعر وبالنقد معا.
إن من أولى تعاليم مطران التي تشبعت بها منذ حداثتي وجوب الاطلاع، وقد أكببت على الاطلاع المتواصل منذ نشأتي حتى كنت أقلب «الأغاني» وغيره من أمهات الأدب العربي الميسورة في منتصف العقد الثاني من عمري تقليب المستهام بها، كما أن من أولى تعاليمه ترك التصنع والحذلقة وإرسال النفس على سجيتها ولكن إرسال المستعد المتمكن لا إرسال المستهين المهمل. وقد علقت بهذه المبادئ وطبقتها وترعرعت في نفسي وفي أدبي، فإذا خطوت تحت تأثيرها خطوات جريئة غير مسبوق إليها فلا يعني هذا بتر صلتي بها وإنما يعني بري التام بروحها وغايتها. ولو تدبر الزملاء الناقدون وحاولوا التخلي عن المؤثرات الشخصية ونحوها لما وجدوا في تصرفاتي ونزعاتي الأدبية وفي تصرفات أقراني ونزعاتهم إلا تقدما طبيعيا بتعاليم مطران التجديدية، فالحياة حركة واطراد وأما السكون فهو العدم.
يعتمد الشعر التقليدي وكثير من الشعر الحديث على الاستهواء الموسيقي لتخدير الأعصاب، ذلك التخدير الخفيف الذي يجعل المشاعر قابلة للتأثر برسالة الشاعر أقوى التأثر. ونحن لا نعيب اقتران الشعر بالموسيقى، وكيف نعيب ذلك وقد نظمنا ما نظمنا من المسرحيات الغنائية ومن شعر الغناء وبينما نرى خيرا كثيرا في تزاوج الفنون الجميلة؟ ولكن ما نعيبه هو عبودية الشعر للموسيقى حيثما ينبغي أن تكون للشعر سيادته، فبدل استهواء المشاعر بالأوزان وبالقوافي الرتيبة وحدها، نرى أن الشعر جدير بأن تكون له ذاتيته المستقلة الجميلة المؤثرة، وأن يكون الاستهواء والتأثير الوجداني منه ذاتيا، أي من إيحاء المعاني ومن روعة الخيال، لا من الموسيقى اللفظية أولا وأخيرا.
والشاعر الذي يقول:
الشاعر الساحر من أسكره؟!
من علم الشاعر هذا الشره؟!
عيناك يا روحي ويا نعمتي!
عيناك إلهام الذي صوره!
إلى آخر هذا الشعر الغنائي، وقصائد أخرى كثيرة مثله، لا يشق عليه أن يلتزم هذا الطراز من الأداء الخلاب الرنان، ولكنه يؤثر أن يؤدي رسالة «الشعر بالشعر للشعر» وهي التي يعتبرها مربية للمواهب الشعرية ضامنة لاستقلالها، حتى إذا ما أراد الشاعر في أي وقت تزاوجها والموسيقى اللفظية كانت رائدة ولم تجئ تابعة، بعكس شعر العامة والشعر البدائي الذي تكون فيه الموسيقى هي الغالبة، وهو الشائع الآن.
ولا أستطيع أن أدعي أن في هذا الديوان شاعرية تفوق ما فيه من موسيقية، ولعل هذا هو سر رضاء أصدقائي المحافظين عنه رضاء خاصا، بعكس دواويني الأخيرة التي تتجلى فيها الشاعرية المسيطرة كل التجلي فتؤثر فورا على النفوس المهيأة لها ولا تتحايل عليها بالإيقاع الرتيب، فهذا الشعر الجديد المتحرر لا يرضى عنه أصدقائي المحافظون. ومن هؤلاء الأصدقاء من يعرف مبلغ عنايتي بنقد نفسي بنفسي بشدة وقسوة، فلا يتورط في اتهامي بالإهمال أو بالعجز عن البيان التقليدي؛ لأنه يعلم علم اليقين مبلغ طواعية اللغة لقلمي نظما ونثرا، وإن لم أقنع أبدا بإنتاجي. ومنهم من لا يعرف ذلك فيتورط ذلك التورط، ويساعد سكوتي وقلة مبالاتي على سريان العدوى إلى النقاد - وحتى إلى أذكيائهم - فيهرفون بما لا يعرفون عن طاقتي البيانية وقدرتي على التعبير، في حين أني لو شئت لجعلت كل شعري في مثل ذلك الأسلوب المدرسي الذي رثيت به المثال مختار فهللوا له طويلا وتمنوا علي الإكثار منه، وقد جاء في استهلاله:
1
مناحة الفن! مات الفن والعيد
وماتت اليوم في الجو الأناشيد!
ولو تدبروا وتفهموا لما لجأوا إلى مثل ذلك النقد العجيب، ولحصروا همهم في دراسة مذهبنا الفني في الشعر، معتمدين على القوة الشعرية في ذاتها لاستهواء المشاعر حتى يؤدي الشعر رسالته، من إعزاز الخير وتقديس الجمال، تأدية حرة قوية مستمدة من صميمه، فلا يكون فيها تابعا لفن آخر ... ونتيجة هذا المذهب تقوية المواهب الشعرية إلى درجة بعيدة، فلا نعود نسمع أن الشعر شعر قبل كل شيء، وأن القائل المتوجس: «إني لأسمع صوتا يقطر منه الدم!» هو شاعر شاعر وإن لم تقع ألفاظه في نسق موسيقي، ولا في سلك منظوم وإن لم يعده قومه شاعرا.
وأكرر أني أعد مذهبي هذا هو وحده التطور الطبيعي لمذهب مطران. ومما يؤسف له أن يتصدى لنقدي وللنقد الأدبي عامة كثيرون ليست لديهم المؤهلات لذلك ولا الموهبة النقدية، وهؤلاء يفسدون بجلبتهم الجو الأدبي ويؤثرون عن طريق الإيحاء النفساني حتى على خاصة النقاد أو على بعضهم أحيانا فيخلطون خلطا في أحكامهم، حتى لا يتورع معظمهم عن الحكم على الأعمال المتزنة بالإسفاف، متناسين أن الأديب الناضج المطاع لا يمكن أن يسف، وإنما تنوع آثاره يوهم الناقد السطحي أن فيها العالي والمتوسط والمنحط، بينما لا تكون إلا صورا مختلفة من الحياة المتنوعة التي يعالجها، فحتم أن تجيء مختلفة البيان والروح والقوة والموسيقى حتى تنسجم وموحياتها وظروفها. ولن يكون النقد لشاعر من الشعراء منصفا - على فرض أهلية الناقد - إلا إذا أخذ جميع آثار الشاعر كوحدة أدبية متماسكة.
وإذا ضربنا صفحا مؤقتا عن الشعراء ونظرنا إلى المصورين أمثال محمد حسن ومحمود سعيد وشعبان زكي، فإننا نجد الأول في تصوير أشخاصه يميل إلى نزعة تصوفية تمثل كنه المرسوم وشخصيته المستترة، بينما يميل الثاني إلى ما سميته بالفن التوكيدي الذي يجعل الصورة كالتمثال المجسم الحي، في حين أن الأخير يحن دائما إلى التعبير التأثري الذي يعطيك في نظرة خاطفة الشمائل البارزة للصورة. ولك ولي أن نختلف على أي من هذه المذاهب أفعل في نفسك وفي نفسي، ولكن ليس لي ولا لك أن نتهم أحدا من هؤلاء الفنانين البارعين بالعجز وأن اختيار هذه الطريقة أو تلك راجع إلى قصور في الأداء بدل رجوعه إلى اختلاف في الذوق الفني، بل الأولى بي وبك أن نتفهم رسالة كل منهم في تقدير واحترام وإن لم تجتذبنا إلا إحداها، فكل منهم أستاذ لمدرسته. وهذه الروح السليمة هي التي ما تزال تنقص نقاد الأدب عندنا لتضع حدا لأحكامهم المدهشة ولشططهم وتهورهم.
يقول أستاذي مطران في تصدير (ديوان الخليل): «قال بعض المتعنتين الجامدين من المتنطسين الناقدين: إن هذا شعر عصري، وهموا بالابتسام، توهم أن من بوارق أسرتهم ما يكون أشد من وقع السهام. فيا هؤلاء، نعم، هذا شعر عصري وفخره أنه عصري وله على سابق الشعر مزية زمانه على سالف الدهر. هذا شعر ليس ناظمه بعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن أو القافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الفصيح، ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد ولو أنكر جاره وشاتم أخاه ودابر المطلع وقاطع المقطع وخالف الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه وإلى جملة القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها، وفي تناسق معانيها وتوافقها، مع ندور التصور وغرابة الموضوع ومطابقة كل ذلك للحقيقة وشفوفه عن الشعور الحر وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر ... على أنني أصرح غير هائب أن شعر هذه الطريقة - ولا أعني منظوماتي الضعيفة - هو شعر المستقبل لأنه شعر الحياة والحقيقة والخيال جميعا.»
وقد سمعت من أستاذي مطران في مدى السنين الطويلة التي نعمت فيها بصداقته وأستاذيته الكثير من الشواهد والتفاسير لهذا المذهب الذي تعلقت به نفسي منذ نعومة أظفاري وعملت تدريجيا على التوسع فيه توسع النشوء والارتقاء عن طبع موات، متابعا نضوج سني ونمو ثقافتي وازدياد تجاريبي وتأملاتي، فتطورت لغتي كما تطور العصر الذي نعيش فيه، وتطورت نفسيتي التي أحبت وتعذبت وساحت وجربت، وتطورت تبعا لذلك أخيلتي وتعابيري ومثلي العليا. مثال ذلك تجاوبي والطبيعة، فقد كان ذلك محدودا في ديواني الأول، تقليدي العبارة غالبا، ولكنه لم يكن تقليدي النزعة بل مستمدا من الحياة ذاتها كما في قصيدتي «أنفاس الخزامى» (ص49)، فإني نشأت أحب هذه الأزهار وأحب النحل التي شغفت بها منذ سنة 1910 ولاحظت افتتان النحل بها، ثم تبينت من أستاذي في علم النبات أنها أزهار مصرية صميمة فازداد إعجابي بها. وفي القصيدة المذكورة بعض التطلع إلى المعنويات ولكنها لا تقارن بقصيدتي «حلم الفراشة» (ص77 من ديوان «الينبوع») التي أقول فيها:
تطير إلى الزهر في خفة
لتمتص منها الرحيق الشهي
وما تتمنى سوى زهرة
تبادلها لونها القرمزي
تحوم عليها وتنشق منها
جميل الشذى، فالشذى نفسها
وتأبى التحول في النور عنها
فإحساس زهرتها حسها
كأنا بزهرتها أصبحت
فراشتنا الحلوة العاثره
وتلك الفراشة حين انتشت
على النور زهرتها الطائره
تبادلتا ما لكلتيهما
من الحظ والصورة الفاتنه
فصان التبادل نفسيهما
وعاشا به عيشة آمنه! •••
كذلك تحلم في لهوها
فراشتنا الحرة الباسمه
فدعها تغازل في وهمها
خيالات ساعاتها الحالمه
فهذه الأبيات هي وليدة الطبيعة التي أعشقها والتي تلقيت عن مطران كما تلقيت عن صميم وجداني إيماني بها. وهي متحررة في أسلوبها، عصرية الألفاظ، آخذة بأيسر وأصدق مذاهب البيان ، ولكنها إلى جانب ذلك قوية الخيال مندمجة كل الاندماج في الطبيعة. وليس تشبيه الزهرة بالفراشة بالتشبيه المستحدث، فهو شائع في الأدب العالمي، ولكن هذه الصورة المركبة المتشعبة الدقيقة بأخيلتها ومعانيها هي صورتي، ولا يمكن أن يكون لغيري أي نصيب فيها، لأنها من صنع نفسي وخيالي وعبادتي للطبيعة ومن توليد شاعريتي الحرة. وأنا أدين في كل هذا لمطران، فقد غرس في نفسي حب الاطلاع على سفر الطبيعة، إلى جانب اطلاعي العام الذي شمل مئات الكتب والمراجع في ثلاثين عاما سلختها محبتي للأدب من حياتي، كما غرس في نفسي الاعتداد الفني الذي يزجيني بعد كل هذا إلى إرسال شعري على سجيتي.
وقد تعلمت من مطران احترام المذاهب الأدبية المختلفة واحترام النقد، مهما حق لي أن أتشبث بآرائي الخاصة، فإن الأعمال الأدبية بعد إنتاجها ملك للجمهور، والجمهور حر في أن يقبل عليها أو لا يقبل، والطبائع الإنسانية جد مختلفة، وللنقاد كل الحق في حرية النقد فيجب احترام حريتهم كما نطالبهم باحترام حرية المؤلفين، ولا يجوز أن يعدو نقاشهم البحث الأدبي المحض الذي يستفيد منه الأدب، لا أن يكون لونا من الملاكمة التي تخالف أدب النفس. ولعلي وفقت في حياتي الأدبية إلى تطبيق تعاليمه هذه، وإن تعصب لي في مواقف كثيرة من تعصب من أصدقاء ومريدين.
ولا شك في أن نفسية مطران المتسامحة المستوعبة هي التي ألهمتني حب الجمال على اختلاف صوره وكراهية الفردية ورغبتي الملحة في التفتيش عن مواطن الحسن في كل ما أقرأ من نثر ونظم. فمذهب الفردية في الأدب لم يؤمن به مطران بل كان ضده دائما، وكذلك كنت وما زلت ضده كما تدل كتاباتي الكثيرة وأحدثها كتاباتي في مجلة (أپولو)، واحترام الغير وبغض الإباحية هو في نظرنا كاحترام النفس والحرص على الكرامة سواء بسواء، فاعتدادنا بمذهبنا الأدبي وإنتاجنا لا ينافي تقدير مجهودات من يخالفنا مذهبا ولا يسيغ إباحتها والاستهتار بها. ولذلك أنحى مطران كما أنحيت على من يختطفون خواطر شعراء الفرنجة وغيرهم في غير تورع، بل في انتقاص لمن ينقلون عنهم ... فلكل شاعر أن يطلع، بل عليه أن يطلع، وأن يهضم ما يطالعه، وأن يتأثر بمن يعجب بهم، ولكن عليه بعد هذا أن لا يسقط شخصيته، وعليه أن يرسل نفسه على سجيتها، وأن يعترف بفضل من تأثر بهم حيثما وجدت المناسبات، وتبعا لذلك كانت إشارتي إلى الشاعر جبرائيل سيتون وإن كنت لا أذكر الآن مبلغ تأثري بشعره عندما نظمت أبيات موسيقى الوجود (ص64) فإني لم أهتد إلى قصيدته المشار إليها.
وإذا أخذنا على سبيل المثال الشاعر الروسي بوشكين حامل جائزة نوبل في الآداب فلا جدال في أنه تأثر بشعراء كثيرين من شعراء الغرب كما تأثر شكسبير في إنجلترا وجيته في ألمانيا، بل وعباقرة الشعراء في أنحاء العالم، ولكن تغلبت شخصياتهم على أعمالهم في النهاية، وهذا ما اعترف به دستويفسكي في رسالته عن الشاعر بوشكين. ولقد تأثرت بمطران وشوقي وحافظ ومحرم والرافعي في نواح مختلفة، ولم أنكر مرة فضل هؤلاء الأعلام، حتى في الوقت الذي ثارت ثائرة المدرسة الشوقية على الشعراء المجددين ونالني الكثير من لفحات نيرانها، فإني أبيت إباء مجاراة أصدقائي الذين تعصبوا لي أشد التعصب ... فإذا تجلت شخصيتي وازداد تجليها وسيطرتها التامة على عناصر شعري وقد دانيت منتصف العقد الخامس من عمري فليس في ذلك بدعة، بل لي كل الحق في التمكين لمذهبي الحر الذي أعتبره متفرعا على مذهب مطران أو صورة منه هي صورة الرومانطيقية الشاملة.
يذكر بالخير لسانت بيف انتصافه للشاعر الوجداني ألفريد دي موسيه من زميله ومنافسه الشاعر الشهير لامارتين، وهو انتصاف قوامه الشجاعة الأدبية الجمة. وكم بودي أن أرى مثاله متكررا أمامنا، فتنصف مواهب شعراء الشباب بدل هذه الغيرة الحمقاء التي نراها من بعض الكهول والشيوخ شعراء ونقادا. وروح الإنصاف هذه ملموسة عند مطران، ولولاها لما أنصف مثلي في دوائر الخاصة على الأقل، فهذا فضل آخر لمطران كان له أثره البهيج في شعري بقدر ما كان لجحود البيئة عامة من آثار أخرى في شعري الثائر.
الشخصية الفنية الحرة - بل حسبي أن أقول الشخصية الفنية - هي أهم ما يقدسه مطران، وهي ما تعودت أن أقدسه في ذاتي وفي غيري صديقا كان أم خصيما، وما أعرف إلا الخصومة البريئة: خصومة التفكير، وأما ما عداها فليس أهلا لأن يعد خصومة، بل هو ما يزدرى وينسى. وهذه الشخصية الحرة هي روح شعري، وآبى أن ينكر علي استحقاق حريته، فقد عشت وما زلت أعيش تلميذا على الطبيعة وعلى الثقافة الإنسانية، أجمع بين الاعتداد بنفسي وبين نهم الفنان الذي لا يرضى عما بلغ من مستوى فني ولا تنتهي مطامحه، فهو يتشبث بمذهبه وباعتداده وبكرامته، ولكنه في الوقت ذاته يعزف عن التصنع الشائع وعن الادعاء الباطل وعن الكبرياء السخيفة، فهذه ألوان من التزوير التي تعادي روح الأدب الصميم، وما ابتلي أحد بها إلا كان شرا على الأدب والأدباء. وما ترجع المعارك الدامية المشبوبة الآن بين الأدباء عامة إلا إلى هذا الطراز من المتصنعين والأدعياء، بلغت ما بلغت مكانتهم وذكاؤهم وآثارهم، ومعظمهم ممن انغمسوا في السياسة انغماسا طغى على ضمائرهم وعلى موازينهم الأدبية.
وصفوة القول إن أثر مطران في شعري هو أثر عميق لأنه يرجع إلى طفولتي الأدبية ويصاحبني في جميع أدوار حياتي، وإذا كان استقلالي الأدبي متجليا الآن في أعمالي فهو في الوقت ذاته يمثل الاطراد الطبيعي للتعاليم الفنية التي تشربتها نفسي الصبية من ذلك الأستاذ العظيم، وما زالت تحرص عليها نفسي الكهلة الوفية ناظرة إلى آثار الصبا وإلى معلمي الأول بحنان عميق هو أشبه الشعور بالتقديس والعبادة.
Unknown page