لا أريد أن أسهب في هذا التصدير فآرائي في شعر أبي شادي معروفة،
1
وسأكتفي بالتنبيه إلى المواضع النقدية البارزة: (1)
يلاحظ بسهولة أن أبا شادي الفتى هو أبو شادي الكهل: شاعر الحب والجمال، ومن الطبيعي أن يكون ذلك من روح الصبا ولكنه روح قوي متصل الأسباب والنوازع حتى الآن. وأبو شادي الفتى يتآمر عليه الحياء (وهو يصرح بذلك في أكثر من موضع في شعره)، ولا يزال هكذا أبو شادي الكهل، ولا ترى شذوذه عن ذلك في شعر كهولته إلا نادرا، وربما لم يكن له شخصيا فضل في مصارعة ذلك الحياء الذي أفسد عليه حياته العاطفية، وهو دائم التسامي في حبه، ولو حاول عكس ذلك فسرعان ما يلتجئ بفطرته ثانية إلى ذلك التسامي. وهذا الديوان الصغير لا يمثل نكبته الغرامية فيما بعد، ولكنه يمثل قلقه أصدق تمثيل في تلك الفترة من حياته. (2)
نرى أن الألم الممض يلج بالشاعر منذ حداثته: وآية ذلك أنه نشأ نشأة حزينة قاسية مبعثها الفرقة بين الوالدين، فذاق ألوانا من الحرمان والهموم واقتات بالكآبة والألم منذ طفولته، وزاده اعتلال صحته في صغره. بيد أنه مثال مجسم للشمم وعزة النفس منذ نشأته، معتدا دائما بها ولكن في غير غرور، شأن الفنان الموهوب الكمالي النزعة. وقضى الشاعر صباه في عهد من القلق السياسي الذي ثارت فيه نفوس الشبان، فنرى آلام الوطنية متوثبة متأججة من بيوت شعره، ونسمع صيحته:
قليل على الأحزان ما انهد من جسمي
إذا كان عيش الحر أشبه بالإثم! (3)
نرى أن ولوع أبي شادي بالمعنويات هو هو منذ حداثته (انظر قصيدته «المعنى الأقدس»)، كما نرى افتتانه منذ نعومة أظفاره بحياة الطبيعة ورموزها - ولا أقول بمشاهدها فقط - متغلبا عليه، ونلمح حبه للاطلاع (انظر قصيدة «موسيقى الوجود»)، وجراءته في التخيل والتعبير (انظر قصيدة «الخالق الفنان»)، وإنسانيته العميقة وتأملاته الفلسفية (انظر «فؤادي» و«مسرح الليل» و«أنداء الفجر» وأمثالها من شعره). وإن كانت نماذج ذلك الشعر بعيدة بطبيعة الحال عن أن تمثل نضوجه الفني الحاضر، ولكنها جميعا لها طابع شخصيته الطليقة القوية. (4)
لا يمكننا أن نحدد شعر أبي شادي فنضعه في قسم معين؛ لأن نفسه طموحة متعددة الجوانب عالمية النظرات، وشواهد ذلك لا تخفى على الناقد حتى في شعر صباه الذي يسبق سنه بمراحل بعيدة.
ولكن لنا أن نقول: إن أبا شادي في شعره لا يخاطب جيله وحده بل يخاطب أجيالا لم توجد بعد ويخاطب الغيب والمجهول، وله شره فكري وروحي فلا يقنع بشيء مما يراه أو مما ينظمه. وهو برغم قوته أمين كل الأمانة للطبيعة، فلا ترى فيه الخيال الفاسد ولا الأوصاف الميكانيكية ولا المغالطات المنطقية ولا المحاكاة التي يلجأ إليها الضعفاء وأهل الصناعة، وإنما تجد روحا جبارة شاملة، عظيمة الشره، قوية الطاقة إحساسا وتفكيرا، طموحة إلى الكمال الفني، تستلهم الوجود بأسره كما تستلهم ملكاتها الذاتية، لا تقنع أبدا بإبداعها وإن عظم ذلك الإبداع، وتشعر دائما بحسرة على ما عجزت عن تبيانه، متناسية ما أنجبته كأنه لا شيء، فتعيش دائما في قلق وظمأ ولهفة. (5)
Unknown page