فهذا ضرب من المجاز، استعماله حسن شائع غير منكور، وقد صرح عيسى- عليه السلام- في هذا النص بجهة المجاز، بقوله: «لأن الكلمة صارت إليهم». ومحال أن يريد بالكلمة لفظا ذا حروف، وإنما يريد/ بالكلمة؛ سرا منه يهبه لمن يشاء من عباده، يحصل لهم به التوفيق إلى ما يصيرهم غير مباينين لله عز وجل، بل يصيرهم لا يحبون إلا ما يحبه، ولا يبغضون إلا ما يبغضه، ولا يكرهون إلا ما يكرهه، ولا يريدون إلا ما يريده من الأقوال والأعمال اللائقة بجلاله.
فإذا أصارهم التوفيق إلى هذه الحالة، حصل لهم المعنى المصحح للتجوز. ويدل على صحة هذا التأويل الصارف إلى المجاز المذكور، أنه عليه السلام، احترز عن إرادة ظاهر هذا النص الدال على الاتحاد، بقوله:
«فيكم بالحرا الذي قدسه وأرسله». فصرح بأنه رسول متبرئا من الإلهية/ التي تخيل اليهود أنه ادعاها مثبتا لنفسه خصوصية الأنبياء، وعلو درجاتهم على غيرهم ممن ليسوا أنبياء، بقوله : «فيكم الحر الذي قدسه وأرسله»، أي قد شاركتكم في السبب المصحح للتجوز، وفضلتكم بمراتب النبوة والرسالة.
ولو لم يكن ما ضربه لهم من التمثيل جوابا قاطعا لما تخيلوه من إرادة ظاهر اللفظ، لكان ذلك مغالطة منه وغشا في المعتقدات المفضي الجهل بها إلى سخط الإله، وهذا لا يليق بالأنبياء المرسلين الهادين إلى الحق. لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة/، غير جائز للأنبياء، كيف وفي كتبهم أنه أرسل لخلاص العالم، مبينا ما يجب لله وما يستحيل عليه؟!
وإنما يكون مخلصا للعالم إذا بين لهم الإله المعبود، فإن كان هو الإله الذي يجب أن يعبد، وقد صرفهم عن اعتقاد ذلك بضربه لهم المثل، فيكون قد أمرهم بعبادة غيره، وصرفهم عن عبادته، والتقدير أنه هو الإله الذي يجب أن يعبد، وذلك غش وضلالة، لا يليق بمن يدعى فيه أنه أتى لخلاص العالم، بل لا يليق بمن انتصب للإرشاد والهداية من آحاد الأمم، فضلا عمن صرح بأنه رسول هاد/ مرشد.
فإن قيل: إنما ضرب لم المثل؛ مغالطة ليدفع عن نفسه ما يحذره من شرهم.
قلنا: الخوف من اليهود لا يليق بمن يدعى فيه أنه إله العالم، وموجد الكائنات!!
فليت شعري، ما ذا يقول المعاند بعد أن لاحت له هذه الحقائق أوضح من فرق الصبح؟ وكيف يتقاعد عن تأويل هذا النص وتأويل أمثاله، ويخبط خبط عشواء، وصاحب شريعته قد أوله نفسه «1»؟!
Bogga 40