بسم الله الرحمن الرحيم- وبه ثقتي:
أما بعد حمد الله، والصلاة على محمد خير خلقه وآله، فإني رأيت مباحث النصارى «1» المتعلقة بعقائدهم؛ ضعيفة المباني، واهية القوى، وعرة المسالك، يقضي المتأمل من عقول جنحت إليها غاية عجبه، ولا يقف من تعقيدها على اليسير من إربه، لا يعولون فيها إلا على التقليد المحض، عاضين [بالنواجذ] على ظواهر أطلقها الأولون، ولم ينهض بإيضاح مشكلها- لقصورهم- الآخرون، ظانين بأن ذلك هو الشرع الذي شرعه لهم عيسى عليه السلام، معتذرين عن اعتقادها/ بما ورد من نصوص يعتقدون أنها قاهرة للكفر، غير قابلة للتأويل «2»، وأن صرفها عن ظواهرها عسيرة «3». وهم في ذلك طائفتان:
Bogga 25
- طائفة- وهم الأكثر- لم يمارسوا شيئا من العلوم التي يقف بها الناظر على استحالة المستحيل، فيجزم باستحالة وجوده، وإيجاب الواجب، فينفي عدم وقوعه وإمكان الممكن، فلا محالا لازما لطرفي وجوده وعدمه، بل ارتسمت في أذهانهم صور منذ صغرهم، واستمرت بهم الغباوة «1» إلى أن صار ذلك فيهم ملكة.
فهذه الطائفة برؤها من دائها عسير/.
وطائفة لهم أدنى معقول، وقد ألموا بيسير من العلوم، فتجدهم ناكصين عن هذا المعتقد، لا يسامحون أفكارهم بمقاربته، يعولون تارة على تقليد الفيلسوف «2» في مسألة الاتحاد لإعظامهم ما يؤدي إليه من هدم قواعد تظافر على ثبوتها صرائح العقول، فارين من هذه المعضلة إلى التقليد المحض، معتقدين أن الفيلسوف قد حاول العلوم الخفية، فأبانها جلية مبرهنة. ظانين بأن من هذا شأنه جدير بأن يعول على أقواله، وتقلد «3» في المعتقدات! فلذلك ينفصلون عن مسألة الاتحاد «4» بردها إلى مسألة تعلق النفس بالجسد/.
ولو راجع هؤلاء المساكين عقولهم وتركوا الهوى والتعصب، لعلموا أنهم قد نكبوا عن محجة الصواب، وأخطئوا سبيل الحق لوجوه:
أحدها: أنهم إن جعلوا ذلك من قبيل القياس، فغلط، لأن القياس «5»:
«رد فرع إلى أصل بعلة جامعة هي مناط الحكم».
Bogga 26
وأي علة عقلها هذا القائل مقتضية لحقيقة التعلق الذي يقول به الفيلسوف، ثم بعد ذلك يعديها إلى ذات الباري «1» ليصح له القياس.
وإن جعل ذلك من قبيل التشبيه والتمثيل «2» فغلط أيضا، لأن المشبه به لا بد أن يكون/ معلوما متصورا حتى يكون العلم به مقتضيا للعلم بالمشابهة.
والقائل منهم «3» بهذه المقالة لو بذل جهده على أن يأتي بأدنى شبهة تقفه على حقيقة النفس، وحقيقة التعلق، القائل بهما الفيلسوف، لأقر بالعجز عن إدراك ذلك، فكيف يصح له القياس والحقائق غير معلومة له؟!
Bogga 27
ثم إن مثل هذا القياس لا يسامح الفروعي نفسه في استعماله، بل هو من الأقيسة [المهجورة] «4»، المسمى بقياس التعقيد، وهو أن يحاول إثبات حكم خفي، فيثبته بما هو أخفى منه، أو بما يحتاج في إثباته إلى إعمال الفكر واستخراجه/ بالأدلة الغامضة، كالنفس، القائل بها الفيلسوف، التي لا يتخيل وجودها إلا بتعقيدات وغموض في المأخذ، وإذا كان هذا «5» مهجورا في الفروع المبنية على أيسر ظن، فكيف يعول عليه في الأصول المتعلقة بذات واجب الوجود «1»؟! وكيف يتم ادعاء ذلك، ومناط الحكم لو عثر عليه، لاقتضى أن لا يكون للإله تعلق بذات أحد من البشر على حد تعلق النفس بالبدن، لأنهم يقولون: إن كل نفس تعلقت ببدن فشرط تعلقها به أن يكون بينها وبينه مناسبة وملاءمة، لأجلها كان التعلق.
والإله- جل اسمه- منزه عن مثل ذلك/. ثم لو سلم لهم ذلك، وأن التعلق الذي حاولوه متصور على وفق الآراء الفلسفية، لم يحصل لهم به غناء ولم ينهض ذلك بمقصودهم في إثباتهم الإلهية لعيسى عليه السلام.
لأن الفيلسوف يقول: إن للنفس بالبدن تعلقا تدبيريا، وأن اللذة والألم يحصلان لهما بواسطة تعلقها به، إذا انفعلت القوة الحساسة بالملائم والمنافي، ومحال أن يراد هذا التعلق بجملته مع ما ذكر، لأن حصول اللذات لذات الباري محال.
بقي أن تؤخذ هذه النسبة التدبيرية مجردة عن حصول اللذات، وهذا أيضا غير مجد، لأن الخالق مدبر/ لكل فرد من أفراد العالم، وله إلى كل مخلوق نسبة تدبيرية.
فإن قيل: المراد نسبة ظهر أثرها في خرق العوائد؛ كإحياء الميت وغير ذلك، فيدل إذ ذاك على المقصود.
فالجواب: أن مثل هذه النسبة التي يتمكن المتصف بها من الإتيان بخرق العوائد، ثابتة لغير عيسى عليه السلام، فإنهم معترفون بأن موسى عليه السلام قلب العصا ثعبانا.
وهل إحياء الميت إلا عبارة عن اتصاف الجماد بالحيوانية؟
Bogga 28
بل هذا أدل على المعجز «2»، لأن جعل ما لم يتصف بالحياة قط حيا؛ أدل على القدرة من إعادة الشيء إلى حالته الأولى/. ثم انشقاق البحر وجعل كل فرق كالطود العظيم، من غرائب المعجزات.
وقد شهدت التوراة التي يصدقونها بأن موسى عليه السلام أخرج يده برصاء كالثلج، ثم أعادها إلى لون جسده.
وفي أسفار الملوك والقضاة، وهو من جملة كتبهم العتيقة التي تقرأ في كنائسهم، أن إيليا واليشع تلميذه أقاما الميت، وإحياء إيليا لابن الأرملة عندهم غير منكور، ووقوف الشمس أيضا ليوشع إلى أن أخذ المدينة- أريحا- من بدائع المعجزات.
ثم لما من الأنبياء؛ أنبياء لم ترسل «1»، فما المانع أن تكون هذه النسبة ثابتة/ لكل واحد منهم، لكنها لم تظهر لعدم الرسالة المحوجة إلى البراهين الصادرة عنها؟!
دقيقة يجب التنبيه عليها:
لفظ الكتاب العزيز: واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء «2»، ولفظ التوراة: «وهنا يا ذو مصورا عث كالشولغ».
وتفسير هذا اللفظ العبراني بالعربية: «وهذه يدك برصاء كالثلج».
Bogga 29
صرحت التوراة «3» بالبرص، وصريح الكتاب العزيز بأن بياضها من غير سوء، وفي القلب حسيكة «1» من ذلك في بادئ الرأي، لكن الجمع على الممارس الفهم غير عسير.
وبيانه: أن البرص/ عبارة عن عرض ينشأ عن سوء مزاج يحصل بسببه تلزج بلغم تضعف القوة المغيرة عن إحالته إلى لون الجسد.
ومعلوم أن بياض يد موسى عليه السلام ما نشأ عن سوء مزاج، لأن كل أحد إذا ساء مزاجه على نهج ما وصفناه، حصل له ذلك، وإذا قويت القوة المغيرة إحالته، فحينئذ تذهب خصوصية الإعجاز. بل بياضها كان من قبيل المعجز الخارق.
وشأن المعجز الخارق أن يكون مخالفا للمعهود المألوف، وإلى هذا المعنى إشارة الكتاب العزيز بقوله: من غير سوء. أي أن الله أقدر موسى على أن/ يجعل يده برصاء من غير سوء، وأن يردها إلى لون جسده، من غير قوة مغيرة، ليحصل له بذلك خصوصية بإجراء المعجز الخارق المخالف للمعهود على يده.
وإنما يكون معجزا مخالفا للمعهود؛ إذا أتى بالمسبب منفكا عن سببه العادي، الذي لا ينشأ إلا عنه، ثم عبر عنه بالبياض الذي هو من لوازمه، هذا جمع واضح.
ومما يوهي معتقداتهم في هذه المسألة؛ أن قاعدة الفيلسوف في النفس وتعلقها، إن كانوا جازمين بثبوتها، ومستند جزمهم حسن الظن بالقائلين بها، وهم غير قادرين على الإتيان/ ببراهينها، ظنا منهم أن القائلين بها قد اخترعوا من العلوم الخفية، ما يرجع الفكر ناكصا عن إدراكها، لخفاء مأخذها وصعوبة مبانيها.
Bogga 30
وأن من هذا شأنه تكون أقواله مبرأة من الخطأ، فيجب على هذا القائل أن يقلد الفيلسوف في أن النبوات مكتسبة، وأن العالم قديم لا يقبل الكون والفساد، وأن الباري لا يعلم الجزئيات، وأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وأن إله الخلق وجود مجرد، لم يقم بذاته علم ولا حياة ولا قدرة، إلى غير ذلك مما نقضوا به قواعد المتشرعين وصرحوا فيه بإكذاب الأنبياء «1» / المرسلين.
ومن العجب تقليدهم قوما يمنعون تصور ما يثبت به خصوصية صاحب شرعهم لنصهم على استحالة انعقاد الولد من محض مني أمه من غير مشاركة مني رجل، إما عاقد على رأي كبيرهم، أو مشارك له في الجزئية على رأي جالينوس «2».
فإن حمل قائلا تعصبه وهواه المحرضان له على عدم تركه ما ألفه؛ قائلا: إن ما ذكر قامت البراهين على خطئهم فيه، فتبقى فيما وراءه على مقتضى ظننا بهم.
Bogga 31
فالجواب: أن من ظهر تارة خطؤه، وتارة صوابه، كانت أقواله ممكنة الخطإ/ والصواب، ولا يصار إلى تقليد من هذا شأنه مع عدم الوقوف على مستند أقواله، ونبذ أقوال المتشرعين وراء ظهره، وعدم التفاته إلى التعويل على ظواهر كتابه الدالة على إنسانية صاحب شريعته إلا لنصوص أبت التأويل «3» دالة على ما يدعونه من الإلهية، مستعصية على العقول استعصاء بينا. كيف وفي الإنجيل «4» نصوص مصرحة بإنسانية عيسى عليه السلام «1» المحضة، ونصوص شاهدة بأن إطلاق الإلهية عليه، على ما يدعون محال.
وهذه النصوص في أصح الأناجيل / عندهم؛ إنجيل يوحنا بن زبدا «2».
وها أنا أذكر نصا، نصا، مبينا فصولها المسطرة فيه حذرا من المناكرة، لأن كتبهم غير محفوظة في صدورهم.
وقبل الشروع في ذكرها؛ فلا بد من تقديم أصلين متفق عليهما بين أهل العلم؛ أحدهما: أن النصوص إذا وردت؛ فإن وافقت المعقول؛ تركت ظواهرها، وإن خالفت صريح المعقول؛ وجب تأويلها واعتقاد أن حقائقها ليست مرادة، فيجب إذ ذاك ردها إلى المجاز «3».
Bogga 32
الثاني: أن الدلائل إذا تعارضت فدل بعضها على إثبات حكم وبعضها على نفيه، فلا نتركها/ متعارضة إلا وقد أحسسنا من أنفسنا العجز باستحالة إمكان الجمع، وامتناع جعلها متظافرة على معنى واحد.
Bogga 35
وإذا تقرر ذلك، فلنشرع الآن في ذكر النصوص الدالة على التجوز في إطلاقه ما يوهم الإلهية على نفسه.
Bogga 36
والنصوص الدالة على التجوز في مسألة الاتحاد «1»؛ كقوله:
Bogga 37
«أنا والأب واحد، ومن رآني فقد رأى الأب، وأنا في الأب، والأب في» «1».
ثم نتبع ذلك بذكر النصوص الدالة على إنسانيته المحضة، ونجمع بينها وبين النصوص المثيرة لهم شبها نكصت أفهامهم لقصورها عن تأويلها، فعموا وضلوا.
بالغين/ في إيضاحها، وكشف الغطاء عن مشكلاتها مبلغا يرجع معه الحق باهر الرواء، ظاهر في السناء.
النص الأول:
ذكره يوحنا في إنجيله في الفصل الرابع والعشرين:
«أنا والأب واحد، فتناول اليهود حجارة ليرجموه، فأجابهم قائلا:
أريتكم أعمالا كثيرة حسنة من عند أبي، من أجل أي الأعمال ترجموني؟
فأجابه اليهود قائلين: ليس من أجل الأعمال الحسنة نرجمك، ولكن لأجل التجديف، وإذ أنت إنسان تجعل نفسك إلها.
فأجابهم يسوع: أليس مكتوبا في ناموسكم أني قلت إنكم آلهة، فإن كان قد قال/ لأولئك آلهة لأن الكلمة صارت إليهم، وليس يمكن أن ينتقص المكتوب فيكم بالحرا الذي قدسه وأرسله إلى العالم» «2».
هذا آخر كلامه.
فنقول: هذا النص بالغ في تحصيل غرضنا الذي نحاوله في مسألة الاتحاد، وبيانه: أن اليهود لما أنكروا عليه قوله: «أنا والأب واحد». وهذه هي مسألة الاتحاد نفسها. ظانين بأنه أراد بقوله: «أنا والأب واحد»؛ مفهومه الظاهر، فيكون إلها حقيقة، انفصل عليه السلام عن إنكارهم، مصرحا بأن ذلك من قبيل المجاز، ثم أبان لهم جهة التجوز بضربه لهم المثل/ فقال: «قد أطلق عليكم في ناموسكم أنكم آلهة، ولستم آلهة حقيقة» وإنما أطلق عليكم هذا اللفظ لمعنى، وهو: صيرورة الكلمة إليكم، وأنا قد شاركتكم في ذلك.
Bogga 38
وقد ورد مثل ذلك في شريعتنا، قال سيد المسلمين صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الحق جل اسمه: «ولن يتقرب إلي المتقربون بأفضل من أداء ما افترضت عليهم، ثم لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده الذي يبطش بها» «1».
ومحال أن يكون الخالق حالا/ في كل جارحة من هذه الجوارح، أو يكون عبارة عنها.
لكن لما بذل العبد جهده في طاعة الله، كان له من الله قدرة ومعونة، بهما يقدر على النطق باللسان، والبطش باليد، إلى غير ذلك من الأعمال المقربة «2».
ولذلك يقول من أقدر شخصا على أن يضرب بالسيف؛ ولو لاه لما قدر على ذلك: أنا يدك التي ضربت بها.
Bogga 39
فهذا ضرب من المجاز، استعماله حسن شائع غير منكور، وقد صرح عيسى- عليه السلام- في هذا النص بجهة المجاز، بقوله: «لأن الكلمة صارت إليهم». ومحال أن يريد بالكلمة لفظا ذا حروف، وإنما يريد/ بالكلمة؛ سرا منه يهبه لمن يشاء من عباده، يحصل لهم به التوفيق إلى ما يصيرهم غير مباينين لله عز وجل، بل يصيرهم لا يحبون إلا ما يحبه، ولا يبغضون إلا ما يبغضه، ولا يكرهون إلا ما يكرهه، ولا يريدون إلا ما يريده من الأقوال والأعمال اللائقة بجلاله.
فإذا أصارهم التوفيق إلى هذه الحالة، حصل لهم المعنى المصحح للتجوز. ويدل على صحة هذا التأويل الصارف إلى المجاز المذكور، أنه عليه السلام، احترز عن إرادة ظاهر هذا النص الدال على الاتحاد، بقوله:
«فيكم بالحرا الذي قدسه وأرسله». فصرح بأنه رسول متبرئا من الإلهية/ التي تخيل اليهود أنه ادعاها مثبتا لنفسه خصوصية الأنبياء، وعلو درجاتهم على غيرهم ممن ليسوا أنبياء، بقوله : «فيكم الحر الذي قدسه وأرسله»، أي قد شاركتكم في السبب المصحح للتجوز، وفضلتكم بمراتب النبوة والرسالة.
ولو لم يكن ما ضربه لهم من التمثيل جوابا قاطعا لما تخيلوه من إرادة ظاهر اللفظ، لكان ذلك مغالطة منه وغشا في المعتقدات المفضي الجهل بها إلى سخط الإله، وهذا لا يليق بالأنبياء المرسلين الهادين إلى الحق. لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة/، غير جائز للأنبياء، كيف وفي كتبهم أنه أرسل لخلاص العالم، مبينا ما يجب لله وما يستحيل عليه؟!
وإنما يكون مخلصا للعالم إذا بين لهم الإله المعبود، فإن كان هو الإله الذي يجب أن يعبد، وقد صرفهم عن اعتقاد ذلك بضربه لهم المثل، فيكون قد أمرهم بعبادة غيره، وصرفهم عن عبادته، والتقدير أنه هو الإله الذي يجب أن يعبد، وذلك غش وضلالة، لا يليق بمن يدعى فيه أنه أتى لخلاص العالم، بل لا يليق بمن انتصب للإرشاد والهداية من آحاد الأمم، فضلا عمن صرح بأنه رسول هاد/ مرشد.
فإن قيل: إنما ضرب لم المثل؛ مغالطة ليدفع عن نفسه ما يحذره من شرهم.
قلنا: الخوف من اليهود لا يليق بمن يدعى فيه أنه إله العالم، وموجد الكائنات!!
فليت شعري، ما ذا يقول المعاند بعد أن لاحت له هذه الحقائق أوضح من فرق الصبح؟ وكيف يتقاعد عن تأويل هذا النص وتأويل أمثاله، ويخبط خبط عشواء، وصاحب شريعته قد أوله نفسه «1»؟!
Bogga 40
النص الثاني:
نص عليه يوحنا المذكور في إنجيله، وفي الفصل السابع والثلاثين:
«أيها الأب القدوس احفظهم/ باسمك الذي أعطيتني، ليكونوا معك واحدا، كما نحن» «1».
هذا النص كالنص الذي قبله سواء، مؤكدا «2» في صرفه عن الحقيقة إلى المجاز المذكور، وبيانه: أنه عليه السلام، دعا الله عز وجل لتلامذته أن يكون حافظا لهم باسمه حفظا مثل حفظه له، ليحصل لهم بذلك الحفظ وحدة بالله، ثم أتى بحرف التشبيه، فقال: «كما نحن»؛ أي: تكون تلك الوحدة كوحدتي معك، فإن تكن وحدته مع الإله موجبة له استحقاق الإلهية، فيلزم أن يكون داعيا لتلامذته/ أن يكونوا آلهة.
وخطور ذلك ببال من خلع ربقة العقل، قبيح، فضلا عن من يكون له أدنى خيال صحيح، بل هذا محمول على المجاز المذكور، وهو أنه عليه السلام سأل الله أن يفيض عليهم من آلائه وعنايته وتوفيقه إلى ما يرشدهم إلى مراده اللائق بجلاله، بحيث لا يريدون إلا ما يريده، ولا يحبون إلا ما يحبه، ولا يبغضون إلا ما يبغضه، ولا يكرهون إلا ما يكرهه، ولا يأتون من الأقوال والأعمال إلا ما هو راض به، مؤثر لوقوعه، فإذا حصلت لهم/ هذه الحالة حسن التجوز. ويدل على صحة ذلك، أن إنسانا لو كان له صديق موافق غرضه ومراده بحيث يكون محبا لما يحبه، مبغضا لما يبغضه، كارها لما يكرهه، حسن أن يقول: أنا وصديقي واحد.
Bogga 41
وقد بين عليه السلام أيضا في النص أن وحدته معه مجاز، وأنه ليس إلها حقيقة بقوله: «ليكونوا معك واحدا كما نحن» يريد: إذا حصل لهم منك توفيق، صيرهم لا يريدون إلا ما تريده، كانت وحدتهم معك كوحدتي معك، إذ هذه حالتي معك لأنني لا أريد إلا ما تريده/، ولا أحب إلا ما تحبه. وبقوله أيضا: «أيها الأب القدوس احفظهم باسمك». داعيا لهم الإله الذي بيده النفع والضر، ولو كان نفسه إلها، لكان قادرا على حفظهم من غير أن يتضرع لغيره ويسأله الحفظ.
فاعجب لهذه الإشارات التي نبه بها على إرادة المجاز، وصرف الكلام عن ظاهره.
وقد صرح بولص «1» في رسالته التي سيرها إلى قورنتية «2»؛ بمثل ذلك، لما فهم المراد من هذه النصوص، فقال: «فمن اعتصم بربنا فإنه يكون معه روحا واحدا» «3». وهذا التصريح منه يدل على أنه فهم عين ما فهمناه «4» /، وفهم أن هذه النصوص، ليست ظواهرها مرادة.
النص الثالث:
نص عليه يوحنا المذكور، في إنجيله في الفصل السابع والثلاثين أيضا: «قدسهم بحقك، فإن كلمتك خاصة هي الحق، كما أرسلتني إلى العالم، أرسلتهم أيضا إلى العالم، ولأجلهم أقدس ذاتي، ليكونوا هم مقدسين بالحق. وليس أسأل في هؤلاء فقط، بل وفي الذين يؤمنون بي، ليكونوا بأجمعهم واحدا، كما أنك يا أبة حال في وأنا فيك، ليكونوا أيضا فينا واحدا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني، وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدا،/ كما نحن واحد» «5».
Bogga 42
هذا النص واضح جدا، مؤكد لما قلناه، وبيانه: أنه عليه السلام، كشف غطاء الشبهة مبينا جهة المجاز، بقوله: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدا».
أي: إن ذلك المجد ينظم شملهم، فيقع أفعالهم جمع متظافرة على طاعتك، ومحبة ما تحبه، وبغض ما تبغضه، وإرادة ما تريده، فيصيرون كرجل واحد، لعدم تباين آرائهم وأعمالهم ومعتقداتهم، «كما نحن واحد»، أي كما أنا معك واحد، لأن مجدك الذي أعطيتني، جعلني لا أحب إلا ما تحبه، ولا أريد إلا ما تريده، ولا أبغض/ إلا ما تبغضه، ولا أكره إلا ما تكرهه، ولا يصدر مني عمل ولا قول إلا وأنت راض به.
وإذا ثبت أن هذه حالته مع الإله، دل على أن من أطاعه، فقد أطاع الإله جل اسمه، ومن أطاع الإله فقد أطاعه، وهذا شأن الأنبياء والمرسلين.
ثم بالغ في إيضاح جهة المجاز بقوله: «كما أنك يا أبة حال في، وأنا فيك، ليكونوا أيضا فينا واحد».
يريد: أن أقوالهم وأعمالهم إذا تظافرت واقعة على وفق مرادك، ومرادك هو مرادي، كنا جميعا كذات واحدة، لعدم تباين الإرادات، ثم إنه عليه السلام، لم يقتنع بذلك/ حذرا من تعلق الخيال الضعيف بظواهر هذه النصوص، فصرح بأنه رسول فقال: «ليؤمن العالم أنك أرسلتني». ثم بالغ في البيان، فقال: «وليس أسأل هؤلاء فقط، بل وفي الذين يؤمنون بي، ليكونوا بأجمعهم واحدا كما نحن واحد».
يريد: أن وحدته معه ليست مقتضية لإلهيته، وإلا لزم أن تكون وحدتهم مع الإله الذي سأله أن يكونوا معه واحدا، كذلك.
فانظر كم من حسن اشتمل عليه هذا النص، من صرائح قد صرح بعدم إرادة ظواهرها، [وتجوزات اقترنت بها معان أبت لها أن تحمل] «1» على حقائقها، ومحاسن يمرون/ عليها وهم عنها معرضون.
ولله در القائل:
Bogga 43
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم ولكن تأخذ الأذان «1» منه ... على قدر القرائح والعلوم
«2» وقد صرح في إنجيل يوحنا أيضا، في الفصل الخامس والخمسين بما يدل على أن هذا التأويل الذي ذكر هو المراد، فقال: «من يؤمن بي، فليس يؤمن بي فقط، بل وبالذي أرسلني، ومن رآني فقد رأى الذي أرسلني» «3».
لما جعل طاعته نفس طاعة الإله لزم أن يكون مخبرا عن الإله، فقال:
«ومن رآني فقد رأى الذي أرسلني». أي أنا أخبر/ عنه حقيقة، فأمري أمره، ونهيي نهيه، وجميع أحكامي عنه صادرة. وهذا شأن الأنبياء الصادقين.
ومن أوضح ما يستدل به على أن حقائق هذه النصوص ليست مرادة، وأنها محمولة على المجاز السالف ذكره، أن يوحنا بن زبدى الإنجيلي، المنقولة هذه النصوص من إنجيله، وهو عندهم من أجل تلامذته، حتى إنهم يغلون فيه فيسمونه: حبيب الرب، لما فهم هذه المعاني المذكورة، وعلم أن هذه النصوص مصروفة عن حقائقها إلى المجاز المذكور.
قال في رسالته الأولى المذكورة في كتاب الرسائل:
«الله لم يره أحد قط/. فإن أحب بعضنا بعضا، فالله حال فينا، ومحبته كاملة فينا، وبهذا نعلم أنا حالون فيه وهو أيضا حال فينا، لأنه قد أعطانا من روحه، ونحن رأينا ونشهد أن الأب أرسل ابنه لخلاص العالم» «4».
وذكر فيها أيضا: «من يعترف أن يسوع ابن الله، فالله حال فيه، وهو أيضا حال في الله» «5».
Bogga 44
أطلق هذا التلميذ الجليل- عندهم-، هذه الكلمات مصرحا فيها بالحلول، بقوله: «وبهذا نعلم أنا حالون فيه وهو أيضا حال فينا».
فإن يكن هذا التلميذ الجليل- عندهم- فهم أن الحلول الذي أطلقه عيسى عليه/ السلام في النصوص المذكورة، مقتض للإلهية، فيكون مثبتا لنفسه ولغيره الإلهية، بقوله: «وبهذا نعلم أنا حالون فيه، وهو أيضا حال فينا».
وهم لا يعتقدون فيه ذلك، ولا في أحد من سائر تلامذة عيسى عليه السلام وأتباعه، فتعين أنه فهم من النصوص ما أشرنا إليه من المجاز السالف ذكره.
ويدل على ذلك أنه أومأ إلى جهة المجاز بقوله: «لأنه قد أعطانا من روحه».
يريد: أنه أفاض علينا سرا وعناية، علمنا بهما ما يليق بجلاله،
ثم وفقنا إلى العمل بمقتضاه، فلا نريد إلا ما يريده، ولا نحب إلا ما يحبه، فحينئذ/ تعود الحالة جذعة «1» في إرادة المجاز المذكور.
[دقائق من المباحث في النص الثالث] «2»
لكن بقي في النص الثالث، دقائق من المباحث، لا تستخرج إلا بفكرة وقادة، وهو أنه عليه السلام قال: «وقد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني».
Bogga 45
وظاهر هذا اللفظ يدل على العموم، لأنه عليه السلام أومأ إلى المجد [المعهود، ثم وصفه بقوله: «الذي أعطيتني»، وهذا ظاهر في إرادة جميع الأفراد التي تناولها المجد] «3»، وبيانه: أن القائل إذا قال: أعطيت فلانا الدراهم التي أعطيتني، والهدية التي أرسلت إلي، كان ذلك ظاهرا في العموم. لكنا إذا أنصفنا، علمنا أن الحقيقة ليست مرادة، لأن/ من جملة المجد الذي أعطي له؛ النبوة والرسالة وما يترتب عليهما من الدرجات، والصعود إلى السماء، وإقداره على الإتيان بخوارق المعجزات، فهذه حقائق ليست مرادة بالإعطاء. فلا بد من حمل اللفظ بعد ذلك على معنى، وإلا لزم تعطيله، فلم يبق إلا أن يريد بالإعطاء؛ إعلامهم بما يليق بجلال الله عز وجل، ثم سأل لهم التوفيق إلى العمل بمقتضاه من الإله القادر على ذلك، فقال: «قدسهم بحقك».
أي: أنا قد أعلمتهم ما يليق بجلالك- وهذه وظيفة الأنبياء المرسلين- فأرشدهم أنت ووفقهم إلى العمل بمقتضاه فإن هذه درجة/ الإله القادر على خلق الأعمال.
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون من جملة المجد الذي أعطي له؛ الاتحاد الذي استحق أن يكون به إلها، وقد دل الدليل على عدم إرادته، وأنه ليس معطا «1»، فيكون غير مراد، وإن كان مندرجا تحت لفظ العموم؟
قلنا: هيهات، هاهنا تسكب العبرات.
وهل الإلهية يمكن إعطاؤها؟!
هذا مما أجمع العقلاء على استحالته. وهل هذه إلا مصادرة على المطلوب من غير إتيان بتيت «2» يعول عليه إلا ظواهر؟ وقد حللناها من أيديهم، وأولها صاحب شرعهم معتذرا/ إطلاقها ومحترزا عن إرادة حقائقها!. ومثل هذه المعضلة لا تثبت بمجرد الاحتمال، ما لم تبرهن بالبراهين اليقينية، لا سيما في شخص وضحت إنسانيته، ثابتة لوازمها وملزوماتها وذاتياتها، من الحيوانية، والنطق ، والإعياء، والجوع، والعطش، والنوم، والاجتنان في الرحم، والتألم- في رأيهم- في الصلب، حيث قال:
«إلهي إلهي لم تركتني» «3».
Bogga 46