ومما يبين لك أن العرب قد توقع على الشيء لفظ غيره، إذا كان بينهما مناسبة من طريق ما، وإن لم يتحد المعنى كما ذكرنا في مسألة "أولق"١، قول بعض الفصحاء٢:
شهدت بأن التمر بالزبد طيب ... وأن الحبارى خالة الكروان
فجعل الحبارى خالة الكروان، لما كان اللون، وعمود الصورة فيهما واحدًا، ورأى ذلك قَرابة، وإن كان الحبارى أعظم بدنًا من الكروان.
ومنه قول عمرو بن معد يكرب٣:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إِلَّا الفرقدان
فجعل الفرقدين أخوين، تشبيهًا لهما بالأخوين؛ لتلازمهما. ومنه قول أبي النجم
فظل يوفي الأكمَ ابنُ خالها
فجعل الوحشي ابن خال الأكم؛ لملازمته لها، وقال عليه السلام٤: "نعم العمة لكم النخلة" فجعلها عمة للناس، حين كان بينها وبينهم تشابه من وجوه.
وإنما بسطت القول في الاشتقاق؛ لغموضه، وكثرة المنفعة به في علمه، لما فيه من الاختصار والتقريب، والفهم والحفظ:
أمَّا الاختصار فلأنه يُجتزأ فيه بجزء من الكلمة، ولولا مكانها لاحتيج إلى كلام كثير؛ ألا ترى كيف تدل بالتاء من "تَفعلُ" على معنى المخاطبة والاستقبال، وبالياء في "يَفعل" على الغَيبة والاستقبال؟ ولو جُعل لكل معنى لفظٌ يبين به لانتشر الكلام. ولما فيه من الاختصار عد من أكبر آلات البيان.
وأمَّا الفهم فلِما فيه من المناسبة، والاقتضاء بالمشاكلة. وأمَّا الحفظ فسببه ما ذكرناه من الاختصار. قال أبو بكر: من الفائدة [٥ب] في الاشتقاق أنه ربما سمع العالم الكلمة، لا يعرفها من جهة صيغتها، فيطلب لها مخرجًا منه، فكيثرًا ما يظفر. وعلى هذا أكثر العلماء في تفسير الأشعار، وكلام العرب في الأمثال والأخبار.
وأمَّا التصريف فتغيير صيغة الكلمة إلى صيغة أخرى، نحو بنائك من "ضَرْب" مثل جعفر
_________
١ انظر ص ٤١.
٢ الحيوان ٦: ٢٧٢ ومحاضرات الأدباء ٢: ٢٩٩. والحبارى والكروان: طائران.
٣ انظر تخريجه في شرح اختيارات المفضل للتبريزي ص١٥٩٩.
٤ في النهاية واللسان "عمم": "أكرموا عمتكم النخلة". وقال فيه السخاوي والسيوطي: لا أصل له. انظر كتاب تحذير المسلمين ص ٦٤.
1 / 46