على أنها وإن حطمت أغلال القافية التي أن تحت ضغطها الحديدي الشعر وأدخلت تحسينات في الوزن المعروف من قبل فهي لم تتجاوز هته الحدود المادية كثيرا ولم تعتن بدرس نفسية الأمة درسا مدققا في ذلك العصر الذهبي الجميل ولم ترفع الستار عن سر أطوارها العديدة التي تقلبت فيها حاملة لواء النصر السيادة على إفريقيا وأوربا حتى تترك لنا صحيفة خالدة طافحة بمكامن أسرارها-أي الأمة الأندلسية-وخبايا زواياها ودرجة النهوض التي بلغتها في كل دور من أدوارها.إذ أن بيتا من الشعر صدق صاحبه فيه ونظر عصره بتأمل وأنصاف وبحث دقيق خير من ألف مجلد من مجلدات التاريخ الحافلة بسرد وقائع ذلك العصر سردا لأن العبرة بالإجادة والتحقيق لا بالإكثار والتلفيق.انظر إلى فيكتور هيكوالفرنسي وشكسبير الإنكليزي اللذين صورا لنا عصرهما أحسن تصوير-وإن بحثا في حياة القرون الوسطى أكثر من بحثهما في عصرهما فإنك لا تطالع رواية أوديوانا لهما إلا وتشعر بنفسك كأنها تقهقرت إلى زمانهما وإلى ما قبل فصارت تنظر ما هنالك من رقي وانحطاط وعدل وجور ونظام وفوضى وتدين وإلحاد إلخ ببحث لطيف يسيل رقة وبيانا.وما ذلك كله إلا بالانقياد إلى الإحساس والشعور لا إلى الهوى والنفس والتأثيرات الخارجية كالخوف من الملوك مثلا- ماتت تلك الدولة الأندلسية فمات الشعر العربي معها ولازال ميتا أومغشيا عليه وجثته الهامدة ملقاة تحت عروش الأعاجم إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري حيث قيض الله من ينفخ فيه روح الحياة الجديدة ويحشره من رمسه المظلم إلى عالم النور والهواء العليل.فتشبث بأذياله كثيرون منهم المجيد ومنهم المتوسط ومنهم المتطفل سنة الله في كل شيء توجهت إليه هم خلقه.
Bogga 48