ألهم أهل الجزيرة الفيحاء الشعر وضربوا فيه بسهم صائب وتفننوا في جميع أنواعه البدوية وتمسكوا به تمسكهم بدينهم ولغتهم وقوميتهم وعوائدهم وأخلاقهم بل جعلوه مرآة حياتهم فحفظوا به أنسابهم وتفاخروا به على بعضهم بعضا وعلى من سواهم من الأمم المجاورة لهم فقامت به قبائل وضيعة النسب وقعدت به أخرى جليلة الشأن وبشراراته شنت الغارات ووقعت الحروب الطوال وبه أطفئت وكاد حاملوا لوائه يعبدون من دون الله وهم الذين قال فيهم شاعر الشرق حافظ بك إبراهيم على لسان لغتهم:
سقى الله في ارض الجزيرة أعظما
يعز عليها أن تلين قناتي
حفظن ودادي في البلا وحفظته
لهن بقلب دائم الحسرات
فصار يتدرج في سلم الرقي-تبعا لسنة النشوء والارتقاء-رويدا رويدا بفضل الأسواق والمحافل التي كانوا يقيمونها لأجله في المواسم والأفراح إلى أن طلعت عليه شمس الإسلام المنيرة بأشعتها القرآنية مسحت وجهه ولينت خشونته وهذبته تهذيبا محسوسا وسارت به شوطا بعيدا نحوالأمام.ثم جاءت الحضارتان المبيضة والمسودة فأثرتا فيه تأثيرا عميقا وأدخلتا فيه تحسينات معنوية ذات بال وأهمية كبرى لم تعرف منه قبل.
ولاشك أن الأخيرة أجنبية عنه إذ أنها فارسية أكثر منها عربية ولهذا تجده غالبا في ذلك العصر-العباسي-ممزوجا بثقافة وروح فارسية تكاد تلمس باليد حين تقارنه بشعر من سبق من الأعراب الأصليين المنزويين في جزيرتهم الجرداء.
ولها والحق يقال-أي الحضارة الفارسية-أيد بيضاء في ترقيته والسير به في مدارج الكمال.
ولكن هل بعد ذلك وصل إلى غايته ومنتهاه؟
وهل لبث في مكانه لا إلى الأمام ولا إلى الوراء؟
أم كبى كبوة ذهبت بقوته؟
تلك أسئلة عريضة طويلة تجيبك عنها الدموع الغزار والزفرات الأليمة والتأوه المذيب..
Bogga 46