الشعر كامن في أعماق نفس الإنسان كمون النار في الحجر تظهر آثاره للخارج بالتحاكك والممارسة وقد يشعر العامي الجاهل الأمي ويكهرب النفوس بشيطانيته ويترك أثرا مبينا في قلوب السامعين.ويحاول العالم العروضي مجاراته فلا يفعل شيئا سنة لله في نفوس عباده وهل تجد لسنة الله تبديلا؟
وذلك أن الأول-بقطع النظر عن لحنه وتحريفه-يرسل كلامه من نفس متقدة وروح ملتهب وقلب مملوء إحساسا وشعورا فيلقى رواجا كافيا في أسواق الأفئدة والصدور.
والثاني ينمق كلامه تنميقا ويزوره تزويرا فيرسله مع بريد التكلف والركاكة فيأتي كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات.فهولا يتجاوز الآذان ولا يساوم بابخس الأثمان.فحذرا أيها المنشئ الأديب أن تتقدم خطوة واحدة إلى صناعة الشعر(فهوليس بصناعة ولا بضاعة كما يقولون ولكنه إلهام وجداني ووحي الضمير) بنحوك أوصرفك أوعروضك أوقوافيك أوبلاغتك أوكثرة مادتك إذا لم تجد في نفسك وازعا نحوه وميلا إليه وتلذذا غريبا روحانيا لسمعه يكاد ينسيك نعيم الدنيا وما فيها فإنك إن فعلت ولم تراع هته الشروط اللازمة ضيعت وقتا نفيسا وعمرا ثمينا وجنيت خزيا وعارا.
فالشعر تيار كهربائي مركزه الروح وخيال لطيف يقذفه النفس لا دخل للوزن ولا للقافية في ماهيته وغاية أمرهما أنهما تحسينات لفظية اقتضاها الذوق والجمال في التركيب لا في المعنى كالماء لا يزيده الإناء الجميل عذوبة ولا ملوحة وإنما حفظا وصيانة من التلاشي والسيلان.
فعلى تلك السنة وذاك المجرى وضع العرب"ديوانهم"وهم أميون لم يدخلوا مدرسة ولم يتلقوا حكمة اليونان ولا مدنية الرومان ولم يعرفوا وزنا ولا قافية-بعد قررها الخليل-وإنما حاكوا بشعرهم نغمات الطبيعة المترنمة وكانت صالحة لاحتواء ما يختلج في صدورهم النقية من العواطف كالحب والبغض والسرور والحزن والحلم والغضب فنسبوا وافتخروا وتحمسوا ورثوا ومدحوا وهجوا ووصفوا وبكوا الأطلال.
Bogga 44