وكأنها مرة أخرى تجد بعض الراحة في شرح ألمها بشكل الاعتذار المجلل بالسجع والتورية: «... لم يمكن لي دخول محافل العلماء المتفقهين» ... «فكم التهب صدري بنار شوق إلى محافلهم اليوانع، وأدر جفني على حرماني من اجتناء ثمرات فوائدهم در المدامع. وقد عاقني عن الفوز بهذا الأمل حجاب خيمة الأزار، وحجبني قفل خدر التأنيث عن سناء تلك الأقمار. وأحلاني بسجن الجهل حليف أثقال وأوزار. فكانت تلك الحجب لمن لام في هفوات هذا المسطور أكبر أعذار. فلا تلوموا معشر الأفاضل خيبة، ولا تعبثوا بسجينة شجية ...»
2 ... وخصوصا ... لا تلوموا معشر القراء في هذا العصر كاتبة مسجعة. لأنكم لو رجعتم إلى ما كتبه بعض «كبار» الناثرين في عهد الخديوين لعثرتم على ما ليس فيه شيء من أحكام عائشة ولا ذرة من صدق عواطفها. ولي من هذا البيان معارض لما جاء في جريدة «الأفكار» الصادرة يوم 13 مارس 1923، استهلالا لمقال عن الصالونات الأدبية في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وعلاقة الآداب في تلك البلاد بالدوائر النسائية الفكرية. قالت «الأفكار»:
كنا نريد أن نكتب شيئا عن السيدة عائشة تيمور باعتبار أن تاريخ حياتها يفيض النور على الحركة الأدبية الفكرية في مصر في عهد إسماعيل وتوفيق. ولقد أجهدنا أنفسنا على غير طائل وراء الحصول على وصف ولو مجمل أو غير دقيق للدائرة الأدبية التي ظلت سنين عديدة تجتمع بلا انقطاع في منزلها «بدرب سعادة». ولكننا سنتكلم عن سيدة إنكليزية (ليديا وايت) تشبه السيدة عائشة تيمور من حيث جعل منزلها ملتقى كبار الكتاب والشعراء في عصرها ...
من أين جاء كاتب هذه الفقرة بمعلوماته؟ أهو استند على قول عائشة: ... «صرت أتهافت على حضور محافل الكتاب بدون ارتباك، فأجد صرير القلم في القرطاس أشهى نغمة، وأتحقق أن اللحاق بهذه الطائفة أوفى نعمة» ... وهي تعني بذلك أيام اختلافها ووالدتها في حداثتها القصوى قبل أن تتحجب؟ أم هو رأي ما قد يشير إلى ذلك في القصائد العربية والتركية التي رثت بها بعض العلماء؟ أم لديه دليل آخر؟
حاولت الاستفسار عن ذلك من المسيطرين على «الأفكار» في ذلك الحين، فلم أظفر بالجواب الشافي. وتيمور باشا الذي قال قبلئذ إن شقيقته كانت «محجوبة» أجاب على السؤال الجديد بقوله إنه يظن «أن ذلك لم يحصل.»
أسافرة كانت عائشة - أحيانا - أم محجوبة دواما؟ نقطة في غاية الأهمية ولكن يتعذر جلاؤها، خصوصا بسبب تباين السن تباينا كبيرا بين تيمور باشا وشقيقته. فإذا جاء يوما من يثبت بالحجة الناصعة سفور عائشة في تلك المحافل الكريمة سجل للشاعرة فضلا جديدا وشجاعة فائقة، وأظهر أنها بشير التحرر النسوي ليس الوجه النظري والعلمي فحسب، بل بالعمل كذلك؛ لأنها تكون قد حققت قاسما قبل أن يتكلم قاسم. •••
أما وأندية الرجال ليست، في الظاهر، لشاعرتنا فلنتحول إلى اللاتي قد تتفاهم معهن من النساء. وفي مقدمتهن «ربة الأدب الباهر والقدر الشريف السيدة وردة بنت الفاضل الشيخ اليازجي نصيف» فإن عائشة لتتمثل بها وتذكرها بإعجاب في ديباجة «حلية الطراز»، وأهدت إليها نسخة من ديوانها بعد صدوره. فشكرتها «وردة العرب» نثرا ونظما، وأعقب هذه الصلة الأولى تبادل بعض الرسائل أثبتتها زينب فواز في كتابها «الدر المنثور». لن تجد في تلك المراسلة كل الحياة التي يودعها بعض الأدباء في رسائلهم حتى ليتغذى بها أصحابهم أياما وأسابيع، ويتعشقونها كأنها قطع من أرواحهم. بيد أنك ستجد سبك الكلام اللطيف، والثناء المأنوس، والنظم الحلو الرنان الذي يرضي ويجعلك شاكرا لهاتين السيدتين ما أبرزتا لك من أسلوب المجاملة النسائية الكتابية في ذلك العصر.
3
وهناك سيدتان قيل لي إنهما كانتا تقولان الشعر وهما ابنتا حبيب أفندي الكتخدا، ومن عشيرات الشاعرة. لم أوفق إلى شيء من آثارهما وقد قل من سمع بآدابهما بين المصريين. حتى أني قيل لي مرة عند ذكرهما أني أبتدع شعرهما في مخيلتي على نحو ما فعل زفس بابنته بالاس - أثينا التي أخرجها من رأسه تامة الجمال والكمال. لا شيء من ذلك، بل قال لي أحد الفضلاء إنه قرأ لإحداهما أبياتا جيدة.
ومن معاصراتها الست المغربية والبون بينها وبين عائشة شاسع جدا طبقة وحالة ومعرفة. إلا أنها كانت امرأة ذكية، سريعة الخاطر، تمازح الناس بشيء من الجرأة المتطرفة، وتتطارح الأزجال مع الشيخ علي الليثي وغيره. ومن المأثور عنها من دلائل سرعة الخاطر أنه اتصل بها يوما أن أحد الباشوات كان يرميها بما هو غير حسن وغير ممدوح. فأجابت المغربية بابتسامة ذات معنى خطير: «والله كلام سعادة الباشا في محله» ...
Неизвестная страница