مقدمة
1 - البارق في الظلام
2 - عصر الشاعرة
3 - النشأة والزواج
4 - بيئة الشاعرة
5 - شاعرة بثلاث لغات
6 - أشعارها في الغزل والأخلاق والدين
7 - نثرها
مقدمة
1 - البارق في الظلام
Неизвестная страница
2 - عصر الشاعرة
3 - النشأة والزواج
4 - بيئة الشاعرة
5 - شاعرة بثلاث لغات
6 - أشعارها في الغزل والأخلاق والدين
7 - نثرها
عائشة تيمور
عائشة تيمور
شاعرة الطليعة
تأليف
Неизвестная страница
مي زيادة
عائشة تيمور «شاعرة الطليعة».
مقدمة
الشاعرة عائشة عصمت تيمور هي بنت إسماعيل باشا تيمور. ولدت سنة 1840م بمدينة القاهرة. بدأت حياتها تميل إلى تعلم القراءة والكتابة، وقد آنس منها والدها هذا الميل، فأحضر لها اثنين من الأساتذة؛ أحدهما يعلمها الخط والقرآن والفقه، والآخر يعلمها الصرف والنحو واللغة الفارسية. وبعد ما أتمت حفظ القرآن الكريم تاقت نفسها إلى مطالعة الكتب الأدبية، وفي مقدمتها الدواوين الشعرية، حتى تربت عندها ملكة الأدب. تزوجت من السيد توفيق زاده، وكان ذلك في سنة 1854م وعمرها أربعة عشر عاما، فتفرغت للشئون الزوجية، ثم تاقت نفسها إلى الأدب والعلم، فاستحضرت سيدتين لهما إلمام بالنحو والصرف والعروض، فأخذت عنهما حتى برعت وأتقنت نظم الشعر.
تعلمت اللغة التركية، التي أخذتها عن والدتها ووالدها، ووضعت في الشعر ثلاثة دواوين باللغات العربية والتركية والفارسية، وألفت في النثر كتابين هما: «نتائج الأحوال» و«مرآة التأمل في الأمر» وستقرأ عن هذين الكتابين للآنسة مي في هذا الكتاب. توفيت السيدة عائشة تيمور في 2 أيار السنة 1902 وهي في سن الثانية والستين.
الفصل الأول
البارق في الظلام
دعتني جمعية «مصر الفتاة» دعوة كريمة إلى إلقاء محاضرة على أعضائها في الجامعة المصرية. فوعدت. وخطر لي أن خير موضوع أتخذه هو شخصية نسائية غنية ندرسها معا. فتعرض لنا في سياق البحث موضوعات جمة في الأخلاق والأدب والاجتماع نمحصها قدر المستطاع، بينا نحن نرسم من المرأة صورة شيقة. فنسجل للحركة النسائية في هذه البلاد مفخرة أخرى تثير فينا الرغبات، ونستمد من وحيها المثل والمعونة والفائدة جميعا.
وما خطر لي ذلك إلا وصحبه اسم شجي يحيا دواما بزفراته الحارة المنغومة. زفرات تناقلتها الأصداء يوم لم يكن للمرأة صوت يسمع، فرسمت من الذاتية خطا جميلا حين كانت صورة المرأة سديما محجوبا وراء جدران المنازل وتكتم الاستئثار.
برغم ذلك أنشأت أنقب في تاريخ المرأة المصرية. وكنت كلما دققت نمت «التيمورية» في ذهني وتفردت صورتها أمامي؛ إذ لم يقم على مقربة منها صورة تسابقها أو تشبهها ولو شبها بعيدا. ونظرت إلي بعينيها المجهولتين المرمدتين باثة حسرتها، باكية شجوها، مهمهمة لي في خلوتي أبياتا كثر أمثالها في ديوانها «حلية الطراز»؛ حيث تقول:
Неизвестная страница
حي الرفاق وصف للحي أشواقي
وحدث الركب عن تسكاب آماقي
قد جرعتني صروف الدهر مرتغما
لواعجا كحميم أو كغساق
أسال حر الهوى قلبي وأبرزه
جفني على يد آماقي وأحداقي
هذا شواظ الهوى في القلب ملتهب
وفي التنفس من آثار إحراقي
فطالعت كل ما عثرت عليه من آثارها، وجمعت من المعلومات عنها ما تيسر، وفكرت في نشر بحوث عنها. وكان يدفعني إلى ذلك:
أولا:
Неизвестная страница
أن لعائشة فضل المتقدم بيننا وهي طليعة اليقظة النسوية في هذه البلاد.
ثانيا:
أن الجمهور يعرف أنها «شاعرة» دون أن يلم بما تتكون منه شاعريتها، ودون أن يقف على حال من أحوال حياتها أو يحلل ميلا من ميولها.
ثالثا:
أن النظرة في مقدرتها إنما هي اكتناه للذات المصرية ليس من الجانب النسوي بل بوجه عام. وسنرى بعد التحليل أن لعائشة مكانتها بين أدباء عصرها وليس بين الأديبات الشرقيات وحدهن.
رابعا:
أنها من عمال دولة القلم عاشت في وحدتها كثيرا، وأعطتنا في شعرها ونثرها صورة مؤثرة. أما رأيها في الحياة فحقيق بالانتباه والتبصر؛ لأنه رأي جمهور كبير من الشرقيين والشرقيات كان شائعا في زمانها وليس بالنادر في أيامنا هذه.
خامسا:
أن مثل هذا البحث يرافقه سرور متضاعف. أليس أن جميع طبقات الناس تلذ لها الروايات، وهي إنما تمثل حياة أشخاص وهميين؟ فكيف بحياة أشخاص عاشوا قبلنا وعانوا صامتين كل ما يعانيه أبطال الروايات! هم الذين توفرت لديهم شروط اليقظة أيام كان الجمهور منا في سبات واستكانة! وكم من نابه قضى تاركا آثاره فاكتفينا بالثناء عليها وعليه ثناء النائحات على كل ميت، فظلمناه في مماته بعد أن كان مظلوما في حياته! فلم نستجل من آرائه رأيا ولم نحلل من العوامل التي كونته عاملا.
كلا، لم نحلل بعد رأيا ولم نستجل عاملا؛ لأننا ما زلنا في هذا الفن الجليل أطفالا. نظرة إلى ما يكتب عن ثمرات المطابع عندنا ترينا (مع استثناء صغير) أننا نقابل الكتب الجيدة بأحد الأنواع الثلاثة التالية.
Неизвестная страница
الأول:
أن نغفل ذكرها إغفالا حتى وإن كانت عنوانا قيما ليقظتنا الفكرية، وخطوة واسعة تستدعي الإعجاب والاغتباط. ولا يبرر هذا الإغفال حتى ولا الاعتذار بأن الجمهور يتطلب الآن موضوعات معينة لا يرضيه سواها؛ لأن هذا الجمهور المتهم هو هو الذي يبتاعها ويستهلك طبعاتها، فكيف يجد متسعا من الوقت لمطالعة كتاب بكليته ويضيق وقته وصبره دون قراءة سطر عنه؟
النوع الثاني:
هو إما مرقة دهنية لزجة مزجت فيها مواد الثناء والمدح والإطراء يطلى بها ذكر الكتاب، دع عنك كونه صائبا أو غير صائب، وإما تقريظ بالاستعارات المألوفة التي لم تعد تعني شيئا يختم (كما تختم جميع الصلوات بآمين) بكلمات لا مفر منها مثل «حث الجمهور على اقتناء هذا السفر النفيس» أو «التمني أن يصادف هذا الكتاب الشيق النافع ما يستحقه من الرواج والانتشار».
أما النوع الثالث:
الذي أرادوا أن يطلقوا عليه اسم «النقد الحديث» فهو نقيض «التقريظ» العتيق. ويفكهني أن أتخيل أحيانا أن جميع اصطلاحات الثناء والإطراء «أضربت عن العمل» هي الأخرى لحين ما فتكأكأت في مكان واحد متماسكة متجمدة، ففاجأتها قنبلة تائهة فافرنقعت متطايرة أشظاظا ملتهبة تقمصت بفضل بعض النقدة «العصريين» قذفا وطعنا وتهجما.
ومما يؤسف له أن من هؤلاء النقدة من هو ذو مقدرة كبيرة، لو هو أنال مقدرته كل موهبة من التثقيف والصقل والملاينة والكياسة الفنية، فتذكر أن نقده ليس بالبلاغ العسكري يعلن الأحكام العرفية، ولا هو بالمنشور الأسقفي يحرم عضوا من شركة المؤمنين وشفاعة القديسين، ولا هو بأمر «المعلم» القروي (على الطراز القديم) غضب على تلميذ مسكين لم يحفظ أمثولته كما ينبغي فحظر عليه أن يأكل، أو يشرب، أو يتحرك، أو يتنفس بغير سماحه . كلا. ليس النقد بشيء من ذلك. إن هو إلا نظرة فرد معرض للخطأ في عمل فرد آخر معرض للخطأ يختلف عنه ميولا وتأثيرات وكفاءة ووراثة. وإذا كان الأدب واجبا في الخطاب الشفهي، فهو في الخطاب الكتابي أوجب. وأول مظاهر الأدب هو التهيب أمام شخصيات الناس لكونها شخصيات إنسانية فحسب، فكيف بها إذا هي بذلت مجهودا ما، وكانت ذات ميزة علمية، أو فنية وأخلاقية؟
إن ألزم مميزات الناقد هي العطف. لست أعني العطف بمعنى الإغضاء والتساهل واعتبار العيوب والنقائص حسنات وكمالات. وإنما أعني عكس التحامل والتعنت ليتهيأ له التجرد من ذاتيته تجردا موقوتا يتسنى معه الدخول في حياة المنقود شاعرا معه، متوجعا لحاجته، مراعيا عادات بيئته ومطالبها، خاضعا لجميع مؤثرات المحيط، طالبا لحين غايته من الحياة. وإلا فكيف يدعي أنه فهم المنتقد عليه؟ وإن لم يفهمه فكيف يكون رسوله إلينا؟ كيف يجرؤ امرؤ على تحويل حاجات الناس إلى حاجته، وحصر عقلياتهم في عقليته، وسجن قلوبهم في قلبه، وقياس أحوال حياتهم بمقياس حياته، ثم يأتينا بحكم يزعمه نهائيا بلا نقض ولا إبرام؟! إلا أن ذاك هو الهاجي وليس بالناقد. هو المتصلب وليس بالفنان. هو الذي يتجاهل أن النقد لا يقوم بإظهار العيوب (وجميع الناس بارعون فيه) وإنما هو إحكام التمييز والتعليل، شأن المصور في توزيع الأنوار والأظلال على ما يجب أن تكون في اللوحة الواحدة.
أعلم أن بين نقدة الفرنجة كثيرين من المتحاملين، ولكن ما يأتونه من ضروب الطعن والنهش لم يقنعني بأن العصمة في جانبهم، ولم أر في أحكامهم سوى رأيهم الخاص ليس إلا ... وهذه الصورة التي أرسم من التيمورية إنما هي نظرة فردية في طبيعتها ولا زعم لي أنها صورة مطلقة. وأتمنى أن تتنبه الرغبة في معرفتها في نفس كل من شاء مسايرتي فيدرسها معي متصفحا روحها، راسما لذاته صورة منها خصيصة. فإن الحرية الفكرية هي ما ننعم به ولله الحمد. وبها سيبقى الإنسان كبيرا نبيلا وإن كان في سواها عبدا ذليلا. •••
وقد أحصيت الأسباب العمومية لدرس الشاعرة ، ولكن لدي سببا آخر؛ وهو مقابلة معنوية جرت لي معها منذ حداثتي القصوى.
Неизвестная страница
كان ذلك في تلك البلدة بفلسطين وقد بدا الحي متجليا ببهجة الأعراس وبهائها لزواج ذلك الوجيه السري. ونصب صوان عظيم على سطح الدار الواسعة ليقام فيه مهرجان الفرح كل ليلة. فما يخيم الظلام إلا وتعزف الآلات الشرقية تحت الخيمة الوضاءة بتألق الأنوار ومعالم الزينات، الغاصة بوجوه القوم وأعيانهم من تلك البلدة وضواحيها.
إذ ذاك يهرع أهل الحي إلى الشرفات والنوافذ وسطوح المنازل يتسمعون إلى آهات الطرب الشائعة في الفضاء حتى لتتهادى أصداؤها نحو ما جاور من جبال الجليل. والأطفال مغتبطون بأن يحتضنهم صدر دافئ ويحميهم من أهوال الظلام، فتتنبه منهم النفوس لتفهم أعجوبة الألحان.
كنت على ذلك في ليلة فإذا بصوت ينشد على نقرة العود:
كحل بعينيك أم صبغ من الرحمن
جفن من السحر أم سحر من الأجفان
خال بخديك أم صنع من الديان
توهت فكر الأنام في الجفن والخالات
1
تبارك الله ما أحلاك من إنسان
سمعت وأصغيت ليس بنفسي كما كانت صغيرة وقتئذ بل بكل قواي الكامنة التي سينميها المستقبل وبكل ما في الأيام التي عشتها وسأعيشها من أمل ويأس وسعادة وشقاء. ولعلي استشعرت ببعض ما سأفهمه بعدئذ من نجوى الموسيقى الشرقية ... تقول إن الإنسان يجهل كيف ولماذا ولد، ولكنه يعلم أنه يحتاج إلى السعادة التي لم يفز بعد منها سوى بفتيت موهوم. تقول للطفل والشاب أنهما أكبر سنا مما يظنان، وتقول للقوي الظافر أنه ضعيف مدحور، وتقول لكل أحد إن حياته كانت إلى هذه الساعة خالية سخيفة قحطاء. تقول له إن في الدنيا أمورا لم يختبرها وإن جهله لها فقر وضنك وذل وعبودية وموت سبق الموت. تقول إن الاجتهاد والجهاد عقيم النتائج؛ لأن العمر قصير سريع العطب، وإن كل لحظة يجب أن «تعاش» بأكملها ليستخرج منها أقصى ما تكن. تقول إن القلب روي بالعبرات ينتظر اليد القادرة تضرب عليه ليتفجر كصخرة موسى ... وإذ تنطلق الأصوات سابحة كالأجنحة في فردوس من الألحان، ثم تصبح متفجعة منتحبة ، ثائرة، عاصفة تلج وتتمادى يخيل أن الفزع قد جوف تحتها هاوية تترامى فيها الأصداء المرتعشة. فتعكف النفس على حاجتها ووحدتها وحيرتها بين هذه الهاوية وذلك الفردوس، وتطلب التوازن والراحة في سحر الحب وذوب الحنان ... ولكن العمر قصير سريع العطب، وكل ما فيه موسوم بوسمه ... ولكن الحياة مراوغة في استقامتها، شحيحة في كرمها، وكل ما فيها كريم شحيح مراوغ مستقيم ...
Неизвестная страница
هذا بعض ما قاله لي فيما بعد شهيق الأوتار، فهل فهمت منه عندئذ شيئا؟! لا أدري! ولكن كم ذا انتقش الظلام بالمشاهد الخلابة لذكر ذلك الشخص العجيب الذي لم يكن أحد يعلم ما إذا كان جمال عينيه كحلا أم صبغا من الرحمن! ذاك الشخص الذي تاهت به أفكار الناس فتجمهرت لتهتف: تبارك الله، ما أحلاك من إنسان! أتتصورون أثر هذا الرسم في مخيلة صغيرة شديدة التيقظ، وفي نفس لينة ترتعش أمام مظاهر الفن والجمال حتى لقد تبكي لمرور سحابة زاهية في الأفق الأزرق؟ •••
ولطالما سمعت هذا «الموال» بعدئذ من منشدين أصوليين وغواة يقبلون عليه إقبالهم على جميع الأدوار المصرية المشوقة. ولكن أكانوا يعلمون من هي شاعرته؟
أرجح أن تلك كانت نشوتي الموسيقية الأولى. فأبقت في أثرا، كأنما هو إشارة من روح التيمورية تنبهني. وما تبينت تلك الإشارة إلا عند مطالعة ديوانها والاهتداء إلى ذلك «الموال» فيه. فأدركت أنها حدثتني منذ زمن بعيد تلك الروح التي غاصت نفثاتها الحزينة الطروبة في أرواح المنشدين فحبست على أوتارهم ألحانا، وانطلقت على أمواج الهواء فنا وتغريدا وإبداعا. وهكذا تلك المرأة التي وقعت زفراتها في وحدة خدرها وراء الحجاب، صار الشجن والطرب منها فعالا تتناقله أجواء الأقطار وتتأثر به ليالي الأفراح في نازح الديار.
كذلك برقت التيمورية في تلك الظلمة وكان ذلك النور منها رمزا لنور آخر خطير. إن عائشة عصمت ظهرت حين كانت المرأة في ليل دامس من الجهل. فجاءت بارقا يبشر المرأة المصرية ومستقبلها.
الفصل الثاني
عصر الشاعرة
الحياة الفكرية والاجتماعية
بزغ القرن الخامس عشر على ربوع الغرب فجرا ما برح ينتشر ويعمم حتى شمل بنوره نهضة التجدد الكبرى. وما تولى إلا وقد جاء بحادثين بدلا حظ البحر الأبيض المتوسط وحظ مرافئه في الحركة التجارية والعمرانية. وهما اكتشاف فاسكو دي جاما طريق الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح، بعد أن شق كولمبس البحار وصولا إلى الأقطار الأمريكية. وبينا التطور يتتابع في الغرب حثيثا سواء في العلم وأسباب المواصلات وامتزاج الشعوب والصناعة والتجارة والثروة والحرية الفردية والكرامة القومية - كانت مصر، وقد حرمت من مرور تجارة الشرق، تتقهقر ببطء حتى انقطعت العلاقات بينها وبين العالم. وظلت ثلاثة قرون يحكمها بالاسم ولاة عثمانيون وتدفع الجزية السنوية إلى تركيا إلا أنها تعثو فيها تلك الفئة الطاغية من المماليك «البكوات». ففشت في أنحائها الخزعبلات والأوهام، واشتد العوز مهددا بالأمراض والمجاعات. والدول التي تتنافس الآن في اكتساب صداقاتها كانت قد نسيت حتى الوجود من هذه البلاد الفريدة بتربتها وتاريخها وحضارتها العريقة، الفريدة بموقعها الحربي المنيل النفوذ السياسي والرواج التجاري لجمعه بين القارات الثلاث وسيطرته على طريق المشرقين.
أي عجاجة لا تثير أعمال الرجل العظيم! هبط نابليون الشرق يستغله ويقيم عليه الركن الأول من عرش، أراد أن يخيم ظله على الشرق والغرب جميعا. فهبت الدول تقاتل الجبار وتتحالف لهزيمة جحافله. وصار القطر المهجور محجة للغايات؛ لأن البطل أدخله في خريطة أطماعه.
جاءت القوة العثمانية بقيادة القبطان حسين باشا وتكاتفت والحملة الإنجليزية في الرحمانية فزحفتا معا على القاهرة. فسلم الفرنسيون نهائيا في سبتمبر 1801 بعد الاحتلال بثلاثة أعوام دون جني أية فائدة حربية. وكم من عمل يؤتى في سبيل غاية تفشل، فإذا به موفور العائدة لغاية أخرى!
Неизвестная страница
فقد أسفرت الإغارة الفرنساوية عن ثلاث نتائج:
الأولى قومية:
إذ شعر المصريون بأهمية بلادهم وبمقدرة الشعب على إزعاج الحكومة المستبدة إذا هو اتحد وتضامن. كما لمحوا وميضا من المدنية الأوروبية الحديثة ورغبوا في اقتباسها.
الثانية علمية:
إذ استصحب نابليون جماعة من العلماء الأخصائيين. فدرسوا طبيعة البلاد ومواردها، وأدخلوا الطباعة ونشروا الصحف وأسسوا «المجمع العلمي المصري»، وجاءوا في مختلف الموضوعات بأبحاث قيمة، منها وصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر الذي سيستفيد منه دلسبس، وأحدثوا إصلاحات كثيرة ذهب جلها إنما بقي منها جرثومة ستنمو بعد الآن على يد حكومة البلاد.
الثالثة سياسية:
أن بين ضباط القوة العثمانية كان ذلك الرجل الذي ولد هو ونابليون وولنجتون في سنة واحدة «1847م» وحكم مصر بعد محوه المماليك ... وبين رجال محمد علي رجلان يختلفان أصلا وعملا أحدهما كردي وهو محمد تيمور بن إسماعيل بن علي كرد، الذي كان ضابطا وساعد في استئصال دولة المماليك حتى صار من خاصة الوالي. فترقى في المناصب من كاشف، إلى محافظ، وتوفي سنة «1264ه/1847»، والآخر تركي الأصل وهو عبد الرحمن أفندي الإستانبولي الذي كان كاتبا في الديوان الهمايوني عند السلطان سليم الثالث ثم صار ذا مكانة عند محمد علي حتى أنه بعد وفاته دفنه في القلعة. وكان لسلالة هذين الرجلين أن تحمل علامة اليمن. فقد تزوج محمد تيمور بابنة عبد الرحمن أفندي فكانا جدي الشاعرة. •••
ولدت عائشة سنة 1256 هجرية قبل وفاة محمد علي بتسعة أعوام، وتوفيت بعد تولية عباس الثاني بعشرة أعوام؛ أي إنها شهدت تطور بلادها على عهد أربعة ولاة هم: محمد علي وإبراهيم وعباس الأول وسعيد، وثلاثة خديوين هم: إسماعيل وتوفيق وعباس الثاني.
كان لمحمد علي مطامع سياسية معينة فبذل المجهودات لتأييدها في الداخل بإنشاء المدارس الحربية والمستشفيات العسكرية، وتنظيم الجيش وتخريج الأطباء، ونشر المعارف وإرسال البعوث إلى أوروبا لتتلقى العلوم الفنية والميكانيكية والحربية. أما في الخارج فكان يؤيد مطامعه بالحروب والفتوح.
وتتابع التطور ضئيلا خلال ولاية إبراهيم التي لم تدم سوى شهرين اثنين، وولايتي عباس الأول وسعيد حيث كان غرض التعليم محصورا في تخريج موظفين للحكومة وضباط للجيش. وإن امتاز عهد سعيد بأمور ذات شأن، منها وفاء ديون الحكومة، وحذف الجمارك الداخلية والاحتكارات، وإرجاع الحرية الفردية وحق الملكية إلى الفلاحين - بعد أن كان محمد علي قد جمع الأملاك بين يديه جاعلا الحكومة تسيطر على كل تجارة مع الخارج. وتم في عهد سعيد إنشاء القناطر الخيرية التي بدئ بها بأمر من محمد علي. وسعيد هو الذي فوض إلى صديق طفولته دلسبس أن يباشر حفر قناة السويس.
Неизвестная страница
بيد أن الاندفاع الأكبر جاء في عهد إسماعيل فعاد إلى معالجة مشروعات محمد علي مرسلا البعثات إلى أوروبا، موجدا المكتبة الأهلية ومتحف الآثار المصرية، حافرا الترع للري ومجملا المدن الكبيرة.
وأصدر أمرا في أواخر عهده يعلن رغبته في أن يحكم بواسطة مجلس نظار، بعد أن كان أصدر أمرا بتشكيل مجلس نواب تأخذ الحكومة رأيه فيما تسن وتحور من النظم والقوانين وكان كاهل مصر قد أثقل بالديون مما أدى إلى قبول الرقابة الأجنبية على المالية المصرية. فقام يوما ينكر على الموظفين الأوروبيين حق التدخل في شئون بلاده. فحملته الدول أثر ذلك على التنازل لولده توفيق تحت الرقابة الفرنساوية الإنجليزية فيما يتعلق بالمالية.
وقامت الثورة العرابية مطالبة - فيما طالبت به - بإلغاء الرقابة الأجنبية على المالية المصرية. وكان ما كان من احتلال إنجلترا وتفويضها إلى لورد دوفرن درس مختلف المشاريع وتنفيذها في مصر. وبعد توقف القطر عامين استطرد فيه التنظيم والتقدم بحيث تمكن القاضي المفكر قاسم أمين أن يقول في رده الفرنسوي على الدوق داركور:
إن الحرية التامة سواء في التفكر والكتابة أصبحت مباحة، وإن المصري يتمتع الآن بكل ما ضمنه الإعلان الشهير من «حقوق الإنسان» وإن الجميع يتوقون إلى العلم ويتعلمون معتبرين أن هذا هو السبيل الوحيد للنهوض. منذ ثورة عرابي انتبه الشعب المصري لمكانته وكرامته. استنار ذهنه فجعل يهتم بنظام الحكم وبالشئون العامة يقدرها ويحكم لها أو عليها. وبالجملة فإن مصر تيقظت بالفعل.
1
نشر قاسم هذا الكتاب سنة 1894. ولما توفيت عائشة بعد ثمانية أعوام كانت حركة التطور في ازدياد وقد أضيفت إليها عناصر فنية متنوعة. •••
أهي يقظة الفكر عند الأفراد تهيئ اليقظة القومية أم هي يقظة الجمهور ومطالبه والأحوال المحيطة به التي تخلق الأفراد وتحبوهم بالمواهب الضرورية ليتكلموا بصوت الجماعة؟
أظن أن التفاعل هنا محتم كما هو في كل أمر آخر. فالأفراد يخلقون الجمهور والجمهور يخلق الأفراد؛ لأن القوى البشرية محكمة الترابط فيما بينها، فإذا انتبهت إحداها تأثرت بذلك الانتباه جميع القوى وهبت متجددة نابضة ، مبدعة. كأنها الصوت الواحد يحدث هزة في مكان من الهواء فتتناقله الموجات المسارعة حتى يرن في أقطاب الفلك جميعا.
ولكن يخيل أنه قبل تنفيذ أي عمل يقتضي رسم خريطة خيالية جلية في الذهن الناضج الصافي، خريطة من الخرائط التي يسمونها المتهكمون «نظريات» وهذه النظريات التي تثني لذكرها شفاه العلميين هي من الأهمية بحيث إن الطبيعة لا تجمع عادة (وإن فعلت نادرا بشذوذ جميل) بين مقدرتي النظر والعمل في شخص واحد؛ إذ إن لكل منهما صفات تنافي صفات الأخرى. يهيئ النظريون الخرائط الذهنية، فينظر فيها سواهم بعين النقد والتمحيص مستخرجين منها ما لاءم حاجة الوقت، وينفذها آخرون فتصير شيئا محسوسا يستخدم ويخدم. كأنما هي «المثل الأفلاطونية» التي بموجب نظريتها لا تكون المحسوسات إلا انعكاس أفكار كائنة في ذهن الإله الأعظم. تلك هي حكاية التلغراف اللاسلكي التي ابتدأت مع مكسويل وهرتز وبرنلي نظريات وتعديلات علمية، فصارت مع ماركوني عاملا آليا تعنو له مجاري الجواء في نقل الأفكار. وتلك هي حكاية الغواصات التي كانت في كتب جول فرن الفرنسوي رؤى وأخيلة علمية. فبسط أديسن الأمريكاني لوزارة بحرية بلاده إمكان إنشائها في تقرير نسخه الألمان سرا، وسيروها خلال الحرب مدنا متحركة تخفر البحار وتصادر سفن الأعداء وسفن من كان لهم مواليا وظهيرا. وتلك هي حكاية الثورة الفرنساوية أعدها الكتاب والمفكرون، والثورة الروسية التي مهد لها الروائيون والشعراء سبيلا. •••
وانتحت الحياة الجديدة في مصر هذا النحو. فإنه إلى جانب التحسين الزراعي والحربي والميكانيكي والمدرسي، ظهرت حركة أخرى راودها الغموض في البدء، إنما جعلت تتسع وتنجلي مع الأيام. نشأت عن تواصل الاحتكاك بمدنية الغرب سواء بواسطة النزلاء المقيمين في هذه الديار، وبعوث الشبان العائدين من أوروبا وقد تطعمت نفوسهم بجديد النزعات وحديث الآراء، وجماعات خريجي المدارس المصرية وقد سرت إليهم عدوى الفكر العصري خلال ما تلقنوا من الدروس الأوروباوية. وقدم مصر جماعة من نوابغ السوريين وأحرارهم النازحين أثر النكبات فكان صدم أفكارهم بأفكار المصريين جزيل النفع للفريقين وللفكر العربي عموما.
Неизвестная страница
بلغت تلك الحركة أشدها في عهد إسماعيل وقد بدت أدبية اجتماعية بعد أن كانت ميكانيكية علمية، يمتزج فيها استيحاء الجديد وتجديد «القديم» الاستيحاء بالاطلاع على مؤلفات الأجانب ونقل ما تيسر نقله منها إلى العربية. والتجديد بإعلاء شأن روح اللغة؛ إذ كانت يومئذ آلات مطبعة بولاق الأميرية والمطابع الأهلية الأخرى تشتغل لإعادة نشر مؤلفات «المدرسيين» من كتاب الإسلام وعلمائه الأقدمين. وكثرت الصحف حتى بلغ عددها السبعة والعشرين فترتب على ذلك «نشر أغراض عامة في تلك الجرائد ومباحث علمية وأدبية في صحيفة روضة المدارس وتخريج نوابغ من طلبة مدرسة دار العلوم على يد أستاذهم المرحوم الشيخ حسن المرصفي واستفادة بعض النبهاء من طلبة الأزهر بطول اختلاطهم بالمرحوم الشيخ جمال الدين العالم العصري حين ذاك، سلوك سبل أخرى في الإنشاء تستمد منها الأقلام. فعوضا عن الاشتغال بكتابة التهاني أو البشرى بمولود، أو التأسي على مفقود أو المدح أو الهجاء أو العتاب أو الاستعطاف أو التغزل بالغيد والغانيات أو مكاتبة الأصحاب والأحباب والرجاء والاعتذار التي هي من الأغراض الخصوصية، مالت الأقلام إلى الكتابة في حب الوطن وما يستلزمه من خير العمل والحث على الفضيلة والتباعد عن الرذيلة وحق الحاكم على المحكوم والمحكوم على الحاكم وغير ذلك من شرح حكم عالية هي من الأغراض العمومية. كل هذا كان أعظم مرشد للمطلعين عليها حتى ترتب على ذلك تغيير عظيم في الأساليب الإنشائية، وفي الحركة الفكرية وفي الشعور بالذاتية».
2
ذكر هنا أمين باشا سامي ذلك الرجل الشرقي الشبيه بفلاسفة الماضي كسقراط وسواه الذين لم يكتبوا وإنما أرسلوا تعاليمهم ضمن المحادثات العادية. وكانت أهم المحافل الفكرية هي الحلقة التي تعقد حول جمال الدين «في القهوة التي قرب قهوة البورصة القدي ...» «ولعل تلاميذه لا ينسون في مستقبل الأيام أن يحيوا ذكره بينهم في ذلك المكان» هذا رأي الدكتور شبلي شميل الذي عرف الأفغاني وجالسه وناقشه. ويتابع الحديث عنه قائلا: «لم يكتب فيما أعلم شيئا
3
وإنما يلقي على آخرين مقالات ضافية تنشر في «جريدة مصر»
4
تحت أسمائهم. ولولا الشيخ محمد عبده ويده الكاتبة لما كان لصوته صدى ولبقيت تعاليمه في صدور أكثر الذين تلقوها عنه وماتت معهم؛ إذ كانت كل تعاليمه حديثا يلقيه بحسب مقتضى الحال» «وقبل «جريدة مصر» كانت شهرة جمال الدين مقتصرة على الأخصاء وأعماله محصورة في دائرة مريديه. وأما «جريدة مصر» فكانت سببا كبيرا لإذاعة صيته ونشره في الآفاق.» «ولم يتهيأ له أن وقف خطيبا في قوم إلا مرة واحدة أظهر فيها أنه خطيب مفوه أيضا. وكان ذلك بمسعى أديب إسحق. وفي تياترو زيزينيا على محضر من جمهور غفير من علية القوم من رجال ونساء من السوريين والمصريين. فألقى خطبة اجتماعية سياسية أبدع فيها معنى ومبنى وجرأة وبقي يرتجل الكلام نحو ساعتين من دون أن يبدو أدنى تعب أن يتلعثم حتى خلب العقول وأقام الناس وأقعدهم.»
5
جاء الأفغاني مثالا محسوسا لتفاعل الأفراد والجمهور. إذ رأى ببصيرته النافذة ما يحرك نفوس إخوانه من العوامل المستفزة نفسه، دون أن يهتدوا إلى كيفية التلخيص والإفصاح. فتكلم فيهم بلغته «الممزوجة ببعض لكنة أعجمية تنم عن أصله الغريب وإنما وقعها على الأذن كان محبوبا.
6
Неизвестная страница
تكلم فيهم بفصاحته النارية فكان له اليد الطولى في تحريض الأفكار وإضرام الثورة العربية» فهو زعيم الناقمين في ذلك العهد، هذا الأفغاني الذي أرسلت شعلة روحه الشرر من أفغانستان، إلى بلاد فارس، إلى وادي النيل حيث مر كتيار لفاح.
شعر الفكر المتغير المتكيف بوجوب تبديل أستاره والتجلي بزي يوافق صورته الخفية فكان ذلك التطور في نتاج القرائح والأقلام من شعر ونثر، وإن كان في الشعر أسبق أما في النثر فأوضح. وظهرت مع الشعر الفصيح ضروب من الشعر العامي كالمواليا التي لم يألف معالجتها نفر من كبار الشعراء. وتجدد «الزجل» الطلي. وأما وضوح النثر فجاء من انتشار العلوم الطبيعية والرياضية، فمال الناس معها إلى إحكام المعنى وإخراجه من معمعة السجع والجناس والاستعارة والتورية. وبديهي أنه لم يفلح في ذلك أولا غير النفر اليسير، وتفرقت من الآخرين الطرق. فتحدى بعضهم أسلوب الأقدمين من صدر الإسلام أو من صدر العباسيين. وتسربت إلى أسلوب غيرهم ركاكة لغة الدواوين التي لم تخلص منها حتى في هذه الأيام. ولعل أقرب الأساليب منالا هو أسلوب الصحافة التي كانت وما زالت عندنا ميدانا للعلماء والشعراء والأدباء، وقد تحتم عليها التوفيق بين مختلف الأذواق والكتابة بلغة يفهمها الجميع على السواء. ولصحافتنا في ذلك تاريخ أعز. وما فتئ التحسن يبدو عليها من عام إلى عام وهي عامل كبير في رفع فكر المجموع، وربما كانت العامل الأكبر؛ لأنها العامل الأشمل. •••
وإذا كانت الحالة الفكرية والاجتماعية في تفاعل مستديم، فكيف كانت يا ترى العيشة العائلية؟ كيف كانت حالة المرأة؟ أكان يصل إليها صدى الخارج؟ أكانت تشتغل لرقي بلادها في دائرة الأسرة وتدرك معنى المطامع القومية؟
هاك شبه جواب عن هذه الأسئلة عند أمين باشا سامي الذي يخبرنا أنه في عصر محمد علي كان الأهالي: «عقبة كئودا في طريق تعليم بنيهم. غير أنهم لما تحققوا أن تعليمهم في تلك المدارس ومكثهم بها ينقل حالة أبنائهم إلى حالة أرقى من التي انتشلوا منها تحققت الرغبة عندهم.» «أما تعليم البنات فلم يصادف تسهيلا في عصره حتى اضطر إلى إصدار أمره إلى حبيب أفندي في 4 جمادى الثانية سنة 1247ه (10 نوفمبر سنة 1831م)
7
بشراء عشر جوار سودانيات صغيرات السن ينتخبن بمعرفة كلوت بك لتلقي فن الولادة ومعهن اثنان من آغوات الحرم يتعلمان فن الطب والجراحة.»
8
كانت عامة الفتيات تتعلم التطريز وأشغال الإبرة سواء في بيوتهن أو بالتردد على المعلمات القبطيات وغيرهن. ومنهن من يتعلمن القرآن على فقيه البيت. ونفسي تحدثني أن ذلك الفقيه كان ينطبق عليه وصف صاحب مذهب «هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد.»
ليأخذن التلاوة عن عجوز
من اللائي فغرن مهتمات
Неизвестная страница
يسبحن المليك بكل جنح
ويركعن الضحى متأثمات
فما عيب على الفتيات لحن
إذا قلن المراد مترجمات
ولا يدنين من رجل ضرير
يلقنهن آيا محكمات
سوى من كان مرتعشا يداه
ولمته من المتثغمات
9 •••
أليس هذا قد كان رأي أكثر الأهل في معارف البنت وفي الذين يتولون تعليمها؟ بيد أن السيل متابع مجراه والوفود الأوروبية ترد أفواجا ومعها البعوث الدينية تؤسس المدارس للبنين والبنات. فأنشئت مدرسة راهبات الراعي الصالح في شبرا منذ 1844، وتلتها مدرسة الأمريكان للبنات بالأزبكية سنة 1856، ومدرسة راهبات الفرنسيسكان الإيطالية سنة 1859. وبينا مدارس الجوالي تتكاثر في أنحاء القطر أسست مدرسة البنات بالسيوفية سنة 1873 (ولم يسبقها من المدارس الأميرية سوى مدرسة الممرضات والقوابل منذ عهد محمد علي). وهي المدرسة التي تعرف اليوم بالمدرسة السنية. وتلتها مدرسة القربية سنة 1874 ثم انضمت ومدرسة السيوفية وعرفت بها. وكان عدد المدارس للبنات والبنين في ازدياد سريع حتى أنشئ منها في حياة «عائشة» ما يقارب الألف من مدارس أميرية ومدارس تابعة لمجالس المديريات أهلية وأجنبية عدا المعاهد الدينية والكتاتيب.
Неизвестная страница
بيد أن المرأة لم تكن وصلت إلى دور تثقيف نفسها. بل كانت راتعة في انقطاعها وجهلها شأن من اعتاد الهواء الفاسد يضيق منه النفس ويعتل إذا هو انتقل إلى حيث الهواء نقي. وإنما هي الأقلية المتنورة من الرجال التي كانت تطلب في الزوجة شريكة وصديقة، وللأبناء التربية المنزلية الصالحة، وللبيت ذلك الجو المفرح الذي تخلقه المرأة بعذوبة حبها إذا هي قرنت بالحصافة والمعرفة. وكان أولئك الرجال يتشاكون الغم فيما بينهم، وليس من يقتحم مصادرة الرأي العام. حتى انبرى قاسم لا يبالي بتطعين الحراب، هادئا كمن جس مقاتل الخصم وتسلح بصارم الحق واليقين.
الحياة المنزلية
نحن حوالي منتصف القرن التاسع عشر، في مدينة القاهرة عاصمة الديار المصرية قبل أن تبدل معالمها يد الهدم والبناء. وقبل أن تصقل بعض جوانبها يد التحسين الجديد. مدينة شرقية توالت عليها نوائب التاريخ واختلطت فيها أجناس الشعوب وهي لسرها الطويل كتوم توزعت في مختلف الجهات، منها البقايا الأثرية والجوامع البديعة الفائقة على الثلاثمائة، والحمامات والأسواق و«السبل» المرمرية المقدمة ماءها العذب لكل ظمآن يرتوي وفوق المدينة الجاثمة ترتفع تلك المآذن بقاماتها الهيفاء فيخيل أحيانا أن الإنسانية أعلت هياكلها في الهواء الأزرق ليس ليصل صوت المؤذن إلى المؤمنين على مسافة بعيدة فحسب، بل ليكون المبتهل في صلاته أقرب إلى باريه وأرسخ في الثقة بالاستجابة. وطورا تبدو تلك المآذن كأنها حراب أرسلتها أيادي الإسلام تنبئ الجائب بأنها على دوام الاستعداد لدفع الطوارئ عن الذمار.
في الشوارع والساحات تبصر أخلاطا من الثروة والفقر، أناسا يرتدون الأثواب النفيسة وعليهم دلائل النعمة والرخاء، وآخرين يرتدون الأطمار البالية وعليهم دلائل الذل والشقاء. ولكن «رغم مشهد الفقر والمرض عند الشعب فإن شوارع القاهرة ليست لتوحي الأسف والخيبة اللذين يشعر بهما المسافر في الأستانة ذات المنظر الفخم من الخارج، المحزن في الداخل. نعم إن أكثر هذه الشوارع مظلمة ملتوية متشابكة الواحد في الآخر كأنها مجاهل التيه، يعترضها هنا وهناك ممرات خفية وغاية ما يسع عابرها أن يستسلم لحكمة دابته وثقافتها. على أنها نظيفة يتعهدونها بالكنس والرش المنظم وبدلا من بلاط الأستانة الشنيع وتلك السلالم الحجرية في غلطة وبيرا، لا تجد هنا إلا أرضا مستوية صلبة تسير فوقها بلا عناء. أما المنازل القائمة على جانبي الشارع فهي في الغالب أشهق من بيوت عاصمة تركيا وأتقن صنعة، ففي كل وقت تبصر العين الواجهة المزخرفة بالنقش العربي، أو النافذة ذات المشبك الخشبي الدقيق الفن الأنيق التفاصيل، فيكاد المرء يغتفر لأجلها الغيرة التي أقامت هذا الحاجز بين داخل المسكن وتطلع السابلة.»
10 •••
كاتب أجنبي يجيئنا بهذا القول لا يرى في ذلك «الحاجز» سوى رمز «للغيرة». كأن الغيرة من واردات الشرق التي يتفرج عليها الغرب ولا يكابدها. ولكن هلم نقف أمام أحد هذه المنازل، أمام المنزل الذي نتطلع الآن نحو الماضي لأجله. هلم نستعين بالخيال حين لا وسيلة سواه، فنخترق جانبا من الحديقة الحافلة بالورد والرياحين تحت رعاية الأشجار ذات الظل الوارف. هو ذا الآغا يسير بنا إلى دار الحريم حيث تلقانا طغمة من الجواري والخادمات وتدعونا إلى الجلوس في الفسحة الواسعة الموفورة النور والهواء أرضها تختفي وراء البسط العجمية والطنافس الفاخرة. والمقاعد والأرائك تدور في جوانبها، تتخللها الطاولات الصغيرة وعليها أدوات التدخين من علب اللفائف وأطباق صغيرة للرماد (منافض). وعلى جدرانها تتألق مياه المرايا العميقة الصافية. وقام في وسطها خوان كبير من الخشب المموه بالذهب، تتدلى فوقه الثريا العديدة الشموع المنحدرة من السقف المصنوع من خشب الجوز المجمل بالنقش والزخرف بل هي هبطت من صميم رسم مثل وردة كبيرة تناوب فيها الحفر والتخريم بنتوء مستدير وسيم. فكان النور خلال تلك التخاريم من جهة إلى جهة نفيذا.
هذه هندسة أكثر منازل الطبقة العليا وما دونها قليلا في ذلك العهد وما بعده حتى أوائل القرن العشرين. أما البذخ والترف في بيوت الكبراء فيبدو في اتساع الغرف والردهات، وفي تعدد المقاعد والمرايا ونفاسة الأقمشة والثريات والطنافس. ولا بد من قاعة أو قاعات للاستقبال. على أن السيدات يقابلن عادة في هذه «الفسحة» فسحة الدار، كل شهور الصيف الطويلة. وهنا تنعقد اجتماعات الأسرة سواء في الليل والنهار.
اقتبس هذا الوصف من كتاب الزوجة الأولى لصاحب الدولة حسين رشدي باشا. كانت السيدة فرنسية ووضعت كتابين بلغتها وقعتهما باسم «نية سليمة» المستعار فوصفت فيهما المجتمع المصري وعاداته على ما أدركته في أواخر القرن الماضي. وإنما استندت على هذا الكتاب
11
لأن هدى هانم شعراوي التي تفضلت فأعارتنيه مع الكتاب الآخر
Неизвестная страница
12
قالت لي إنه أصدق ما قرأت من نوع هذه الكتب في وصف العادات المصرية، وأكثرها إنصافا وأقربها إلى الواقع. وإذا أضفنا إلى ذلك أن «نية سليمة» عاشت في ذلك المجتمع وعاشرته وأحبته، غير ضاربين صفحا عن بطء التطور الاجتماعي، ولا سيما في الشرق وفي الأيام الخالية، أمكننا أن نقول إن هذا الكتاب وإن أنشئ في أواخر القرن التاسع عشر فهو يقرب كثيرا إلى ما كانت عليه في أيام عائشة.
فلتكن إذن «نية سليمة» دليلنا. •••
هي تقول لنا إن هذه السيدة الجميلة البشوشة التي جاءت مرحبة وجلست على المقعد قربنا هي ربة المنزل. أما أولئك النسوة الجالسات على «الشلت» فهاك خبرهن: «إنهن من المترددات على المنزل، وليس لهن أن يجلسن قرب السيدات على المقاعد، وإن كن أرفع قدرا من الخادمات الجاثمات على البساط أو على الحصيرة»، «هن من الجواري البيض المعتوقات ومن الجواري السود اللاتي حججن. ومعهن الدلالات بائعات الأقمشة والبضائع. ومعهن المراضع وأخوات الرضاعة وقارئات القرآن وسواهن من النديمات ومن المختلفات إلى المنزل لأغراض شتى. يأتين ويجلسن القرفصاء كل اثنتين أو ثلاث على «الشلتة» الواحدة، ويشتركن في الحديث ويروين الأخبار.» «أما الزائرات المهمات فتأتين وبعد كلمات الترحيب وتقديم لفائف التبغ تحضر القهوة التي يستغرق تقديمها من الزيارة زمنا. فالعادة في الطبقة المتوسطة أن يؤتى بها مصبوبة في الفناجين على طبق من الفضة. أما في البيوت الكبيرة فيتعاون في تقديمها ثلاث خادمات على الأقل: إحداهن تحمل الطبق يجلله غطاء مخملي مزركش وقد تهدلت من حواشيه الهدبات الذهبية والفناجين مصفوفة عليه. وتحمل الخادمة الثانية أبريق القهوة في شبه مجمرة فضية امتلأت بالرماد المتلظي. بينما الخادمة الثالثة تصب القهوة، وتدور بها على الزائرات»
13
أما الأحاديث فهي طبعا لا تختلف عن المألوف حتى اليوم في الدوائر النسائية غير المتنورة و... وربما المتنورة أحيانا. موضوعات لا تنفد مادتها كأنها الماء كلما غالبت في الإسراف منه زاد تدفقا وسيولا. وتلك الموضوعات هي الولادة، والخطبة، والزواج، والموت، وخصام الأزواج، وخصام العائلات فيما بينها، والثروة، والاغتياب إلخ. ولكن يخيل أن السيدات المصريات لم يكن يومئذ لتنطبق عليهن التهمة التي يحب الرجال أن يلصقوها بالمرأة؛ لأن «نية سليمة» تقول بجلاء إنه:
ليس من الغريب أن يقطع الأحاديث غير مرة سكوت طويل وربة البيت لا تقلق من جراء ذلك ولا تجهد ذهنها للاهتداء إلى موضوع جديد. فقد حضرت مجالس السيدات قليلات التزاور فيما بينهن يظللن جالسات معا دقائق طويلة ثم يفترقن دون أن يتبادلن كلمات التبجيل المبتذل والمجاملة الشائعة ذات المراسيم المسهبة والجمل المهلهلة. فهي تنطوي على تمنيات ودعوات صالحات يتيسر ترديدها مرات عديدة دون أن يكون في ذلك غضاضة أو خشية الهزوه والنكتة.» «ثم تأتي زائرات أخريات فتنهض صاحبة المنزل للاحتفاء بهن ويحذو حذوها الجميع، فتلقي الواصلات الجديدات التحية، ولكن ما أدق الفوارق في أساليب التحية! إنهن يقبلن يد السيدة المسنة ويدعونها «عمتي»، ويقبلن وجنة مثيلتهن في السن والمرتبة ويدعونها باسم «الأخت» العذب، ويقابلن معارفهن الأقل مؤالفة بتحية «تركية» أما السيدات الأوروبيات فيصافحنهن باليد.
14
إن اللائي يحضرن اجتماعات السيدات المصريات يعلمن أن وصف صنوف السلام ما زال حيا بحياة الواقع في أيامنا. ولقد كانت دواما ساعات السلام لي أوقات اغتباط ودرس أتبين فيها العادات الراسخة وأحلل أسبابها ما أمكن، بيد أن هناك نوع سلام آخر يدخل في الصنف الثاني الذي وصفته «نية سليمة» إلا أنه يتجاوزه للإفراط في التودد والتعاطف. وهو ضم الخد إلى الخد مرة بعد أخرى وإرسال قبلات سريعة متوالية في الهواء يسمع لها مصيص شائق كأنه تغريد طائفة خاصة من الطير. وفيما يتعلق بالتحية «التركية» أو «اللاتوركا» كما يقولون فهي كما تقول «نية سليمة»:
كم من نبل وكياسة في التحية التركية، وكم تنويعها ميسور؛ فاليد اليمنى تنفتح بهيبة وبلا توتر وتستطيل في تحدر أكثر أو أقل بعدا حتى ليصل إلى الأرض عند الضرورة. ثم إن النصف الأعلى من الجسد الذي انحنى يعود إلى التقويم والاعتدال مسايرا حركة اليد التي تدنو من الفم أولا، ثم من الجبهة دون أن تمسها، وتركن أخيرا إلى موضعها تاركة خلاء في الهواء كما يترك مرور جناح الحمامة.
Неизвестная страница
والوداع يشبه السلام فتعاد عنده طقوس الاحتفاء والتبجيل ذاتها. أما التفصيل الحري بانتباه خاص فهو أن السيدات اللاتي لا يرين مطلقا أزواج صاحباتهن يحسبن مخلات باللائق إن لم يبعثن إليهم بالسلام مع زوجاتهم. وربة البيت لا ترافق زائراتها بل تتقدمهن إلى الباب فيتبعنها.
15
لطيف هذا! ومعناه المشيعة تسهل لزائراتها السبيل وأنها تخرج من منزلها على نوع ما بخروجهن أو هي تودع معهن شيئا منها. وإني لأوثر هذا على السير وراء الزائرات كما تطردهن طردا وتقتفي أثرهن لتكون على ثقة من ذهابهن والتثبت بأنها تخلصت لحين ما من ورطة وجودهن ...! •••
هب أن هذا المنزل الذي زرناه الآن متبينين فيه بعض عادات ذلك العهد هو منزل إسماعيل تيمور باشا،
16
وأن تلك السيدة ربة البيت التي رحبت بنا هي والدة عائشة، «وهي جركسية الأصل معتوقة والدها إسماعيل تيمور باشا»،
17
فأين عائشة الصغيرة نفسها؟ أين الشاعرة العتيدة التي نلتفت اليوم إلى معالم الأمس لننال لمحة من حجر نعمتها وما فيه من خطوط ألفتها فكان هيكل زفراتها وهديلها؟!
ألا فاعلم أن عائشة اليوم بنية صغيرة لا تحضر مجالس «السيدات» ولا تختلط بالزائرات إلا لتقبل أيديهن إن كن من صديقات والدتها وقريبات أسراتها. وإذا شئت أن تراها فعليك بذلك المخدع المنفرد حيث تجدها مع أختيها.
الفصل الثالث
Неизвестная страница
النشأة والزواج
نشأة الشاعرة
مع أختيها؟ إذن بين فتيات ثلاث متقاربات سنا، متماثلات حالا، كيف لنا أن نهتدي إلى ضالتنا؟ لو عرفنا صورتها امرأة لاستدللنا بملامحها المتركزة لنتبينها الآن بين أختيها لاعبة لاهية - أو هادئة راصنة كما كان وما زال كثيرون من الشرقيين يريدون لأبنائهم جاعلين حداثتهم شيخوخة، مكبلين منهم البداهة على نوع ما فيحرمونهم مرح الطفولة الهنيء وذكريات الغفلة ونعومة البال. إلا أن الشخص الوحيدة الذي في وسعه أن يطلعنا على تفاصيل معيشتها، أعني شقيقها الجليل أحمد تيمور باشا
1
يفوته من حياتها قسط وافر؛ لأنه ولد قبل وفاة والده بسنة (1871) يوم كانت عائشة في الحادية والثلاثين، تعيش زوجة وأما في منزلها بعيدا عن دار والدها. لذلك رغم كل ما نقلناه عند أحمد باشا من الاستعداد لتلبية السائل، فإنك لتراه أحيانا يتوقف عن الجواب ريثما يراجع تذكاراته، ثم يقول ببسمة الآسف «والله ما اعرفش.»
بيد أني فزت منه بهذا الوصف الظريف في إبهامه؛ «كانت لا طويلة ولا قصيرة، لا بيضاء ولا سمراء، لا سمينة ولا نحيفة» أما عطوفة إدريس راغب باشا الذي رآها في حداثته في زيارة والدته فطنت هانم حرم إسماعيل راغب باشا
2
فقد رد على استفهامي بقوله: «مش في بالي تمام كانت ازاي، لكن كانت حلوة والله»، كذلك بعد مرور أعوام، وقد تقدمت عائشة في السن، رأتها حرم شعراوي باشا تزور الزوجة الثانية لوالدها محمد سلطان باشا.
3
وقالت لي إن كل ما تذكر منها أنها «كانت ست كدا الأتوركا» مفهوم أنها لم تكن ألافرانكا»!
Неизвестная страница
ولكن أظننا بلا دليل ولا علامة قد نعرفها بمجرد الاستسلام لهدى الفراسة. إن التي ترجح على أختيها بمثل ما رجحت عائشة لا بد أن تحوي ملامحها منذ الصغر شيئا يختلف عما يرى في وجه عادي الصغار. فنحب أن نتصورها طفلة دمثة في العاشرة من عمرها، تنضح شفتاها المتوسطتا الحجم بطلاوة العاطفة وشوق المحبة. شفتان تهمان بالافترار لتذوق المستطاب المستساغ من طعوم الحياة جاهلتين ما وراء ذلك من حنظل وغسلين. ونحب أن نتخيل في العينين القاتمتين من معاني الشجن وغزارة العواطف ما يتفق مع معاني الوجوم واللذاذة في الثغر. ونكاد نرى تينك الشفتين تختمان بالخط اللطيف البارز بدقة كأنه حفر حفرا، الذي يرى في شفاه أهل الفن والذوق، وفي شفاه بعض الشعراء. كأنه يشير إلى الأوزان التي سيضبط توقيعها العواطف المستفيضة الشاردة، ويقتنص الزفرات الملتهبة المتدافعة ليسكبها فيما يظل منضدا على القرطاس نظيما، ويظل على شفاه الطروب من الناس شاديا. •••
من أين جاءت هذه الصغيرة بميلها المبكر إلى الكتب، وبوراثتها الشعرية والبيانية، وميل جدها جلي لحمل سلاح الجندي دون سلاح الكاتب؟! أمر لا تتيسر معرفته، إلا للذي اطلع على ما يجهله كبير الأسرة الحالي، أحمد تيمور باشا، من تاريخ التيموريين قبل الهجرة إلى مصر. بيد أن المعروف عن والدها أنه كان راغبا في العلم والأدب، فألف كتابا ضمنه خلاصة مطالعاته محاكيا به سفينة الراغب
4
ووضع لأسرته تاريخا باللغة التركية كان في نية السيدة عائشة أن تنقله إلى العربية (نروي هذا عن أحمد باشا وقد أخبرته به شقيقته الشاعرة فيما بعد). وجمع مكتبة نفيسة تشتتت بعد وفاته كما تبعثرت أصول الكتابين اللذين لم يطبعا. على أن لذلك الفاضل أجمل أثر يحمد في تعليم ابنته والعناية بتثقيفها في عصر ضنين على النساء بالتعليم والتثقيف وإن عائشة لتذكره دواما بالشكر والتحنان، وترثيه بعد وفاته بقصيدة ملأى بالعبرات:
أبتاه، قد حش الفراق حشاشتي
هل يرتضي القلب الشفوق جفائي؟
يا من بحسن رضاه فوز بنوتي
وعزيز عيشته تمام رخائي
إن ضاق بي ذرعي إلى من أشتكي
من بعدك فقدك كافلا برضائي؟
Неизвестная страница
5
ليس هذا من مألوف الشكوى والثناء. بل هو كان لها على الدوام نصيرا منذ الصغر في جهادها ضد والدتها التي كانت تحثها على تعاطي أشغال الإبرة.
ولا يفوتنا الآن - في هذه النقطة من بحثنا - ما زلنا أيام كان أبناء العظماء، حتى الملوك أنفسهم، يتزوجون من معتوقاتهم. ولطالما استهجن كتاب الفرنجة هذه العادة ذاهبين إلى أن دماء العبيد تجري في عروق أكثرية الشعوب الشرقية. وما هي منهم إلا نظرة سطحية؛ إذ ليس أولئك الجوار دواما من أصل وضيع؛ فمنهم الكريمات أسيرات الحروب. وقد قذفت حرب المورة، مثلا، إلى مصر بكمية وافرة من بنات اليونان، ومنهن الشريفات المخطوفات، ومنهن الشركسيات يبيعهن الأهل مدفوعين بحب الرفعة والتقدم لأولادهم الذين إذا عاشوا في جبالهم كان حظهم محدودا، أما إذا انتقلوا إلى بلاد أخرى عن هذا الطريق فلهم أن يتعللوا بأكبر الآمال ويرتقوا أعلى المراتب.
لست مبررة عمل الأهل، إنما أنا شارحة إحساسهم، نعم إن كثيرين من أولئك الأولاد يحلون بيوتا صغيرة يعملون فيها للخدمة فيجيء الإعتاق متأخرا، ويكون الزواج فقيرا والجهاز ضئيلا. ولكن الشرع الإسلامي شديد الرفق بالرقيق، جم العناية بحاله. ثم قد يسعد الصبي فيصير «مملوكا» ألمعيا، وتصير البنت «هانما» غنية. ولهم أن يحلموا حتى بالعروش.
هذا من جانب الأهل. أما الأزواج فلم يكونوا يومئذ ليطلبوا في المرأة سوى خصائص الصحة والجمال الجسدي وجودة البنية، فتزيد أو تنقص قيمة الجارية بقدر ما تحوز من تلك الخصائص. فيخرجونها على أعمال معروفة كتدبير المنزل، وأشغال الإبرة، وفنون الرقص والعزف والغناء أحيانا، ويربونها على عادات الكبراء وعلى طريقة من الطاعة تتلاقى فيها الأنفة والإذعان.
وهناك سبب اجتماعي آخر في مصلحة الجارية، وهو كونها بكليتها لعائلتها الجديدة. يقول الظرفاء إن آدم كان أسعد الأزواج؛ لأن حواء كانت «مقطوعة» فظل حياته في نجوة من صولات أهلها وجولات أنسبائها. والحق يقال من عيوب المجتمع الشرقي ذلك التطاول المرق الذي يسمونه «وحدة حال» أو «يا سلام! الناس بالناس!» وبه يستبيح بعض الأقارب والأنسباء ما كان يجب أن يحجموا ويقفوا دونه. مسلم أن البر بالأقارب حسن ومحمود، ولكن على شريطة ألا يكون ذلك باعثا على إضرار العائلة وتنغيصها، وألا يكون معناه انتهاك حرمة البيت من ذلك الجيش الجرار الذي تسحبه بعض النساء الشرقيات كأنه الهدية الواحدة من هدايا العرس المنقلبة ضربة لازب، جيش يصير همه ابتداع الأكاذيب وتلفيق الروايات، لا سيما إذا كثر الاختلاط وظهرت أسباب المنافسة والحسد. وإنما باعتدال المعاشرة والاحتفاظ بعادات كل عائلة، والسهر على استقلالها الداخلي وراحتها وأسرارها يتحقق التفاهم بين الأقارب وتنمو المودة، أما التطاول والتهجم فمؤديان إلى القطيعة حتما. وقد بدأ الشرقيون يفهمون أن البنت عند زواجها ثمرة نضجت فسقطت عن شجرتها، فأضحى أول واجباتها محصورا في العائلة الجديدة التي تنشئها، كما تتقيد البذرة بالثمرة الجديدة التي كونتها تنفيذا لناموس الخليقة. ولقد كان هذا الاستقلال العائلي، وتقديس حدود البيت والتفرغ للاعتناء به، والقيام بما يعود عليه بالرفاهية والهناء؛ من أكبر عوامل تقدم الأمة الإنجليزية. كما أن نقيضه في كثير من الأسر الشرقية من أهم عوامل التقهقر؛ إذ كيف يتقدم وينجح من كان في حياته البيتية شقيا!
هذا ما كان ينجو منه زوج المعتوقة. وقد ذكرت «نية سليمة» قول سيدة مصرية معتوقة إنها ستبتاع في الأستانة زوجة لولدها؛ لأن «بنات باشواتنا كثيرات الدلال. أريد لابني زوجة بلا حم ولا حماة لأضمن سعادته»!
6
يدرك القارئ والحالة هذه، أن والدة عائشة لم تكن تفهم تشبث ابنتها بالكتب، ويدرك أنها كانت تجدها شاذة فتسأل الله عليها صبرا ولها معونة! •••
غير أن الأب الحصيف قريب يسمع ويتبصر. فتقول لنا زينب فواز في كتابها «الدر المنثور» إن الباشا عندما رأى الجدل متتابعا بين زوجته وابنته تفرس في هذه النجابة وقال لوالدتها: «دعيها فإن ميلها إلى القراءة أقرب». وأحضر لها اثنين من الأساتذة، وظل يعنى بها، فما تمكنت من معرفة إلا يسر لها الأخذ بأخرى. وتشهد لنا عائشة بفطانة والدها وعطفه في مقدمة كتابها «نتائج الأحوال»؛ حيث تقول والدتها إذ تراها عاكفة على الكتاب والقرطاس كانت تأتي:
Неизвестная страница
وتعنفني بالتكدير والتهديد، فلم أزد إلا نفورا، وعن صنعة التطريز قصورا. فبادر والدي، تغمد الله بالغفران ثراه وجعل غرف الفردوس مأواه، وقال لها: «دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم، ودونك شقيقتها فأدبيها بما شئت من الحكمة.» ثم أخذني بيدي وخرج بي إلى محفل الكتاب، ورتب لي أستاذين؛ أحدهما لتعليم اللغة الفارسية، والثاني لتلقين العلوم العربية. وصار يسمع ما أتلقاه من الدروس كل ليلة بنفسه ...
وهي تتبسط في هذا الحديث في مقدمة ديوانها التركي والفارسي
7
بكلام مشوق، لا سيما أنه أهم ما لدينا لمسايرتها في نشأتها. فتكرر القول أن والدتها كانت تحثها على تعلم التطريز ورأيها «أن هذا النسيج هو أداة النساء وأستاذ المعارف لبنات حواء ...» أما عائشة فلا تراه إلا «كالهم العنيف ...» فتتابع: «وبالرغم مما كان متأصلا في نفسي من الميل إلى تحصيل المعارف من جهة والحصول على رضى والدتي من جهة أخرى، فإن نفسي ما برحت نافرة من المشاغل النسوية.» وكان من دأبي أن أخرج دائما إلى قاعة منزلنا (السلاملك) فأمر بمن يوجد هناك من الكتاب لأصغي إلى نغماتهم المطربة. ولكن أمي - أقرها الله في رياض الفراديس - كانت تتأذى من عملي هذا فتقابلني عليه بالتعنيف والتهديد والإنذار والوعيد. وتجنح أحيانا إلى الوعود اللطيفة والترغيب بالحلي والحلل الطريفة. أما أبي، رحمه الله، فكان يخاطبها بمعنى قول الشاعر التركي:
إن القلب لا يهتدي بالقوة إلى الطريق المطلوب
فلا تجعل النفس معذبة في يد اقتدارك ...
فاحذري من أن تكسري قلب هذه الصغيرة وأن تثلمي بالعنف طهره، وما دامت ابنتنا ميالة بطبعها إلى المحابر والأوراق فلا تقفي في سبيل ميلها ورغبتها. وتعالي نتقاسم بنتينا: فخذي «عفت» وأعطيني «عصمت». وإذا كانت لي من عصمت كاتبة وشاعرة فسيكون ذلك مجلبة الرحمة لي بعد مماتي.
ثم وجه أبي خطابه إلي قائلا: تعالي إلي يا عصمت. ومنذ غد سآتيك بأستاذين يعلمانك التركية والفارسية والفقه ونحو اللغة العربية. فاجتهدي في دروسك، واتبعي ما أرشدك إليه، واحذري أن أقف موقف الخجل أمام أمك» فوعدت أبي بامتثال هداه، ووعدته على أني سأبذل جهدي لأكون موضع ثقته ومحققة أمله.
8
في مناقشة هذين الأبوين وتغلب الأب في النهاية، أمثولة لكثير من الوالدين في هذا العصر. فالأهل يقر رأيهم منذ حداثة أبنائهم في الغالب ، على السبيل التي سيسلكون. فيقولون: نجعل هذا طبيبا، وذاك محاميا، والآخر مهندسا، وأخاه تاجرا ... إلخ. ولو هم تفحصوا الميول والممكنات لربما وجدوا أن المحامي المزعوم لن يفلح في غير الطب، وأن المهندس خلق للتجارة أو للصحافة وأن الطبيب هيأته الطبيعة لبيع الأثاث القديم في المزاد العلني. وهلم جرا. هذا عدا تعويد الولد لباسا وأساليب لا تتفق مع مقدرته المالية، وبث الأطماع الجنونية فيه حيث لا كفاءة ولا حذق يؤهلانه لتحقيق الغايات الكبيرة. كثير من شقاء العالم اليوم راجع لسوء تدبير الأهل. فيصرف الأولاد الأعوام في تلمس السبيل مجهدين نفوسهم في نيل ما ليس لهم، معذبين الآخرين وكل قلق حائر ففي صراع الأنانيات لتركيز الحظوظ وتنظيم المعيشة.
Неизвестная страница