وليست البيئة من خصائص الإنسان، بل للجماد، والحيوان والنبات بيئتها الموافقة لنموها، الملائمة لطبيعتها. إلا أن الإنسان قد يكون في بيئته الحسية يقوم بكل فرائض مرتبته الاجتماعية ومطالبها ويعد فيها من السعداء أو من البؤساء، ويظل في داخله شاعرا بشعور غير هذا الذي يحسبه الناس عليه، ويرتبونه بموجبه. قد يكون جائعا وهو يقيم الولائم، سائرا في القفار وهو يتخطر في الحدائق، مستعطيا متسول الفكر والعاطفة وهو كثير الفضل والمنح. وعلى نقيض ذلك قد يشعر بأجنحة الحرية تصطفق في نفسه وهو مكبل بالقيود والأصفاد. وقد يلمس مكمن مقدرته وهو في أدنى دركات العجز. وقد يتضح في وجدانه أعلى نهج للمعرفة والحكمة وهو أمي جاهل لا يدري، بموجب تعريف البشر، الفرق بين اللغة والفن ولا ماذا يميز بين الموسيقى والكيمياء.
البيئة الاجتماعية هي دائرة الإنسان الاجتماعي. إلا أنها لا يأبه لها الإنسان الخفي في الإنسان، الذي كثيرا ما يحتاج إلى بيئة غير هذه، ويختار أقاربه وعشراءه وأحبابه مختلفين تمام الاختلاف عن الذين تجعلهم البيئة والحياة أقاربه وعشراءه وأحبابه. وفي هذه البيئة المعنوية صورة أخرى من الماضي الباقي. ولكم أنمت الحياة نفسها بحصر هذه المتناقضات في شخص واحد! ولكم خلق الماضي لنفسه مستقبلا جميلا من لهف الحرمان، وزفرات الأسى، وتجمد الدماء التي لا تسيل! •••
وعائشة ابنة ذلك السري الوجيه والموظف الكبير الذي، بعد تقلب المناصب أيام عباس الأول وسعيد وإسماعيل، انتهى بأن يكون رئيسا للديوان الخديوي؛ عائشة لم تفارق مرتبتها الاجتماعية بزواجها من محمد بك توفيق نجل محمد بك الاستامبولي الذي كان حاكما في السودان. ظلت في تلك المرتبة تتمتع بما هيأت لها بيئتها من رغد حسي، وتعاشر مثيلاتها نساء العظماء والكبراء. ولقد ذكرت عرضا في أواخر كتابها «نتائج الأحوال» شيئا عن اختلاطها بالبلاط، وذلك لشرح كلمة «واي واي أي غوث وأنا أي شيذرتوانا» التي تقولها الأعاجم حينما ترمى بهول فجأة قالت: ... كانت تدعوني ربة المعالي وكنز اللآلئ والدة صاحب السمو إسماعيل باشا الخديوي السابق، تغمدها الله برحمته ومنحها فسيح جناته، بالقصر العالي للترجمة عند حضور أقارب ملوك العجم. فكنت أسمع هاته اللفظة من أفواههن. وهي كلمة تقال عند مفاجأتهن بشيء ما. وكنت أقيم معهن على قدر إقامتهن وأتسامر معهن وأستفسر عن عوائدهن وأخلاقهن.
في هذه الأوساط تجد ما ألفته من كياسة وتهيب، وما أحسنته من آداب المحادثة والمجاملة واللطف. على أن أولئك السيدات لا يعنين بغير الشئون المعتادة في العائلة والاجتماع وما أفعمت به من مسرات وأحزان. أما عائشة فشأنها شأن العاشق الذي تبدو له جميع محافل الأنس والطرب مقفرة لتغيب الحبيب عنها.
في تلك المرتبة الرفيعة فخامة الصروح، وضخامة الألقاب، وأبهة المظاهر، ولكنها فيها يعوزها القوت، ويعوزها السرور، وتعوزها الحرية. إنها تتوق إلى الاختلاط بالذين يعرفون ما تعرف، ويفكرون بما تفكر، ويحبون ما تحب. في الخارج حركة التطور تجري مجراها الطبيعي، وإن وثبت حينا، وتريثت حينا. وفي الأفكار غليان، وفي الحماسة فتوة، وفي القلوب أشواق. ولا تخلو المدينة من دوائر علمية يتحاضر فيها أهل الفضل على طريقة العصر، ويتناقش فيها الأدباء كأنهم في وفاقهم وفي اختلافهم أعضاء الأسرة الواحدة. ولكن عائشة المعنوية إن هي تجاوزت نساء عصرها بالمعرفة والفهم، وسبقتهن باقتحام عواطفها وتقدم مطالبها، فإن عائشة الاجتماعية تظل مخدرة محجوبة.
صدمتها الحياة للمرة الأولى في النضال مع والدتها بين الكتاب والإبرة. فأيدها الوالد الحصيف وسيرها إلى ما تريد وجرت خطوات في فرجة الأعوام فإذا بصدمة أشد وأصلب، صدمة العادة والتقليد. هذه لن يحميها منها الوالد القادر ولن تخرج عليها نفسها القلقة. أخبرني كيف تثور على جماعتها امرأة هي ابنة رجل معروف وأم أولاد محبوبين، وليس بين جماعتها صوت ينكر تلك العادة ويدعو إلى تغيير ذلك التقليد؟ يومئذ كان قاسم حدثا، ولعله كان من دعاة الحجاب. ولعلها هي كذلك لم تفكر في وجوب السفور. بل عمدت إلى تلك العلامة الأخرى من علامات النبوغ ورضيت بها: الاحتمال حيث لا منفذ غيره.
امتثلت واحتملت. ولكن حتى للاحتمال والامتثال ساعات لا مندوحة للمرء فيها عن أن ينفس كربته، ويندب حسرته، ويرسل ما هو أشبه ببثة السجين المظلوم. فقالت إنها دعتها:
الرأفة بكل مغبون لقي ما لقيت، ودهي بما به دهيت، إلى أن أبدع له أحدوثة تسلية عن أشجانه عند تزاحم الأفكار، وتلهيه عن أحزانه في غربة الوحدة التي هي أشد من غربة الديار
1 ...
هذه الكلمة تكفي لنشعر مع عائشة بوحدتها المضاعفة. وهذه الكلمة وهي لوحة تصويرية تامة، تدهش عند امرأة سبقتنا بثلاثة أرباع القرن. وغريب أن تهتدي يومئذ إلى حقيقة تلك «الوحدة» وأن تعبر عنها، وهي ابنة عصر التطويل والتبسط، بهذا الإيجاز البليغ.
Неизвестная страница