لقيته بالحرم الخليلي الشريف فسمعت عليه كثيرا من حديث رسول الله ﷺ وغير ذلك من الأجزاء والكتب في فنون شتى وأجازني الإجازة التامة المطلقة العامة وكتب لي بخطه، وأشياخه جماعة كثيرة من جدا ومولده ﵁ بحلب المحروسة في سنة بضع وستين وستمائة خرجنا منها ضحوة يوم الأحد الثاني لشعبان المذكور عشي ذلك اليوم بنفسه دخلنا مدينة بيت المقدس كلأها الله تعالى.
هي بلدة الأفق المنير ونجمه، والنجم الذي لا تمتطي صهواته وصلناها والليل في سن الاكتهال وأيدينا ممتدة بالشكر لله تعالى والابتهال فوافينا مدينة واسعة الرقعة طيبة البقعة، سامية الاتفاع، مشرفة البقاع مباركة الأغوار والتلاع، عذبة المراد، منمنمة الابراد، ممرعة الجنبات، متنوعة النبات ممدودة الظلال، مودودة الخلال، مأمولة السعادة مسعودة الآمال، ضخمة البناء، واسعة الفناء، تشهد لسكانها بالثراء والسناء، قد أخذت من كل المحاسن نصيبا، وفوقت إلى هدف الفضائل سهما مصيبا وملئت ظرفا وأدبا وأوتيت من كل شيء سببا:
محل كأن الشمس تخجل كلما ... نضت توبها عن معطفيه مغيبا
تنم رياح الخلد منه لأهله ... وبطفح تسنيم ويرشح طيبا
ظل ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مدانبه إنسياب الأراقم بكل سبيل، ورياضات تحي النفوس بنسيمها العليل تتبرح لناظرها بمجتلى صقيل، وتناديهم هلموا إلي معرس للحسن ومقيل، فنزلنا منها منزلا بديعا قد عذب ماؤه، وراق روضه، ورق صفاؤه وهواؤه، وتفسحت مساحاتها، وتأرجت أرجاؤه:
وكم مبسم للاقحوانة حوله ... مؤلفه ريق من الطل أشنب
ولمة حقف لم يرمها مخيل ... من الريح يسرى أو من السرب يلعب
يقر بعيني ان تفئ ظلاله ... وأن يتثنى دوحه المتأشب
وان كان لا يمضي النسيم بغصنه ... إذا اجتاز ألا خائفا يترقب
ثم قصدت الحرم الشريف، والمسجد العظيم المنيف، الذي بارك الله حوله، وعرفت كل أمة فضله، المسجد الأقصى موضع المعراج والإسراء، وكفى بهذا شرفا وفخرا، فرأيت بقعة لها نور، وفضل مأثور، وشرف معلوم مذكور، ومسجد له محرمات، ومقام تخطر فيه خطرات وتعرض مقامات، ومحل تفيض عليه بركات، وتستجاب فيه دعوات، ومكان يمكن فيه الالتفات، وتقصر عنه الصفات، وتكل في تصنيف محاسنه الياءات والألفات، قد جمع شرف المقدار إلى طيب التربة وفضيلة الدار، وشهرت مفاخره، فأية البقاع تفاخره؟ وراقت محاسنه فلا منظر يحاسنه! وفاقت مئاثره جميع من يكاثره، وأمتع بكل سليم الود سلم وحيا، وأطلع نور البشر في أفق المحيا:
كأنه من حسنه لم يزل ... يستخدم التوفيق وإلا سعدا
رست بجناه وعلا سمكه ... فطاول الجوزاء والفرقدا
1 / 46