الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلاة على سيدنا وعلى آله وصحبه
قال عبيد الله سبحانه، الراجي عفوه وغفرانه، خالد بن عيسى ابن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن خالد البلوى، لطف الله به وأخذ بيده وبرحمته آمين.
الحمد للذي فرض حج البيت على من استطاع إليه سبيلا، وجعله تأسيس إبراهيم خليلا، وقال وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، ومن أصدق من الله قبلا، وجعل جزاء الحج المبرور الجنة، وأصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا، نحمده على نعمه التي قدمها ظلا ظليلا، وأولاها مقاما ورحيلا، ونصلي على نبيه محمد الذي بعثه بالحق رسولا، وفضله على جميع مخلوقاته تفضيلا، وأنزل عليه الكتاب تبيانا لكل شيء وتفصيلا، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبل نصرته وخدا وذميلا، وذللوا بين يديه أعناق الجبابرة تذليلا، وجردوا الإماطة صدأ الدين عضبا صقيلا، ومهدوا سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ونستوهب من الله سبحانه لأملاكنا الكرام من آل نصر الذين تبوأنا في أيامهم من العدل كل وثير المهاد، وجمعنا بفضل مساعيهم المبرورة، وتحت رايتهم المنشورة المنصورة بين الحج والجهاد، أن يجدد الرحمة على من قضى منهم وسلف، ويتم النعم على من خلف، ويخص بالتأييد والحسنى والمزيد، رافع رايات فخرهم، والقائم بأعباء نصرهم، والمجدد لآثارهم ومآثرهم، والمحيي لمكارمهم ومفاخرهم، فخر الملوك الجلة، وناصر الملة، والبدر الذي زان أفق الملك من أبنائه السعداء والأمراء بالنجوم والأهلة، إمام الهدى، وغمام الندى، وحسام الله المسلول على العدى مولانا السلطان أمير المسلمين وناصر الدين، أبا الحجاج يوسف بن مولانا السلطان هازم أحزاب المشركين وقد جاشت، ومسلط سيوفه العضاب على عاتي تلك الرقاب فما استنت ولا حاشت، أمير المسلمين المقدس السعيد الشهيد، أبى الوليد ابن نصر، وصل الله لهم عادة تأييده وعضده، وحباهم بكل نعمة من عنده.
هذا تقييد، أطلعه عون من الله وتأييد، قصدت به ضبط موارد الرحلة الحجازية، وذكر معاهد الوجهة المشرقية، جعلها الله تعالى في ذاته وابتغاء مرضاته، بمنه وكرمه، وألممت مع ذلك بذكر بعض الشيوخ من العلماء الفضلاء الذين يطئون ذيول البلاغة، ويجرون فضول البراعة، ولهم كلام يتألق منه شعاع الشرق، ويترقرق عليه صفاء العقل، وينبث فيه فرند الحكمة، ويعرض على حلى البيان، وينقش في فص الزمان، ويحفظ على وجه الدهر، ويفضح عقائل الدر، ويخجل نور الشمس والبدر وألمعت بذكر نبذ من فوائدهم، واختيار طرف من أناشيدهم، ومزجتها بما جرت إليه العبارة، وحسنت فيه الإشارة، من قطع الشعر المناسبة قطع النور، المنتظمة من جواهر اللفظ، البعيدة الغور، الغريبة الحفظ، الآخذة من الحسن باوغر الحظ، مقتديا في ذلك كله بقول القائل:
قالوا خذ العين من كل فقلت لهم
في العين فضل ولكن ناظر العين
حرفان في ألف طومارمسودة
وربما لم تجد في الألف حرفين
ولما بوبت ما ألفت، ورصعت ما جمعت، وشعشعت ما وضعت، فجاء كما تراه حسن الزي، عذب الري، عالي القدر، غالي الدر، مسبوك الحلية والتبر، فيه للمسمع مراد، وللفكر معاد، وللألباب مسرح ومرتاد. سميته: بتاج المفرق، في تحلية علماء المشرق. ودعوت الله تعالى في مواطن الإجابة، أن يوفقني فيه للإجادة والإصابة، وأن ينفع به كل من يلتمس النفع به في المطالعة أو الكتابة، وهو سبحانه سميع الدعاء، مجيب النداء، محقق الرجاء، وهو حسبي ونعم الوكيل. فأقول مستعينا بالله سبحانه: أني خرجت قاصدا للحج، وطالبا للعلم من بلدي قتورية: البلد الذي طال سناه، وطاب مغناه، وانتطق بالجوزاء، وناجت أبراجه بروج السماء، فكأنه في الحصانة جبل منيع، وفي الحسن ربيع بديع:
بلد صحبت به الصبابة والصبا
ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه أغصان الشباب تميد
فوقع اتفاق الخروج من صحوة يوم السبت، الثامن عشر لصفر من عام ستة وثلاثين وسبعمائة، مودعا لجميع الأهل، ومتجرعا من ذلك ما ليس بالعذب ولا بالسهل:
ودعت قلبي يوم ودعتهم ... وقلت يا قلبي عليك السلام
وقلت للنوم انصرف راشدا ... فان عيني بعدهم لا تنام
1 / 1
محرم يا عين أن ترقدي ... وليس في العالم نوم حرام
وكان لذلك الوداع موقف مشهور مشهود، نثر فيه من جمان الدمع لؤلؤ منظوم منضود، وفيه قلت:
موقف للفراق أرخص فيه ... كل در لنا وكل عقيق
بجموع كوجدنا في اجتماع ... ودموع كالشمل في التفريق
وقد أعدت الركاب، وطاشت الألباب، وحضر للوداع جميع الأحباب، وأنا أصبر كصبر ميت على النزاع، وأقول ما خلق الله من عذاب أشد من وقفة الوداع، أعالج السياق، وأعاين المنايا بين أخفاف النياق:
أقول لصحبي حين ساروا، ترفقوا ... لعلي أرى من بالجناب الممنع
والثم أرضا ينبت العز تربها ... وأسقى ثراها من سحائب أدمعي
وينظر طرفي أين أترك مهجتي ... فقد أقسمت أن لا تسير غدا معي
وما أنا ان خلفتها متأسفا ... عليها وقد حلت باكرم موضع
ولما تبرأ التابع من المتبوع، وطفئت نيران الوداع بمياه الدموع، وعطف المودعين لي بالعودة لقطرهم والرجوع، وهم بين راجع بالجسم وهو لي بالقلب مصطحب، وضاحك بما يرجوه لي وهو على وداعي منتحب، أخذت في الارتحال، وأنشدت بلسان الارتجال، بل بلسان الحال:
ليت شعري أنلتقي بعد هذا ... أم وداعا يكون هذا اللقاء
فاذكروني وزودوني دعاء ... خير زاد تزودوني الدعاء
ثم امطيت الطرق طريقه، ولم أبلعه في الأناة ريقه، والفراق يردى فريقه، وقلت:
أأذهبت، أيام الشبيبة والنوى ... وأتلفت باقي العمر؟ يا ضحوة السبت
فقل لجديد العيش: لا بد من بلى ... وقل لاجتماع الشمل: لابد من شت
وسرت بعزمة لا يفل حدها، ولا يتجاوز حدها، وخرمة لا يثنى رسنها، ولا يلم بعين وسنها، وأخلقنا في السير شباب ذلك النهار، وجاريت بدموعي جريان تلك الأنهار، وبت بساحة واد حللنا به بين ظفر التوحش ونابه، أكن الوجد ما غاية الثكلى ان تكنه، وأجن من الحنين ما لا تطبق الجوانح أن تجنه، وأردد:
أهذا ولما تمضي للبين ليلة؟ ... فكيف إذا مرت عليك شهور!
حتى إذا بقى من الليل حد الوصية من المال، قضينا على معزول السرى بالاستعمال، وسرت أحمل أنفاس الصبا حقائب الوجد، وأتمتع من شميم عرار نجد، فما طلع من الغد وجه النهار، ولا بدا فيه حاجب الأسفار، إلا وقد أشرفنا على) المرية (، تتلع إلينا أجياد قصابها وغرفاتها وتبتسم عن ثغور أسوارها، وبلج شرفاتها، كالعذارى شددن مناطفا، وتوجن بالأكيل مفارقا، كأن ترابها عنبر، وحصاها عقيق، وهواها نسيم وماءها رحيق، مغان لها عندي معان وأماكن، فسكانها للنفوس سواكن.
دمن طالما التقت ادمع الح ... زن عليها وادمع العشاق
فهناك شاهدت الظباء مختلطة بالآرام، والغزالة أنيسة النفور والشادي يبادر بالسلام، والعطف من العطف لا يخلو، والحقف بحمل الغصن يمر في كل حين وكلما مريحلو، فحمدنا عند الصباح السرى ودخلنا المدينة أم تلك القرى:
ألوى الضلوع من الولوع بخطرة ... من شيم برق أو شميم عرار
وأنيخ حيث دموع عيني منهل ... يروي وحيث حشاي موقد نار
وعند دخولنا إليها مررنا على بعض البساتين المجاورة لها، فحيانا بوجه مشرق، وحبانا من مذانبه برواء مغدق.
ودولاب إذا أن ... يزيد القلب أشجانا
سقى الغصن وغناه ... فما يبرح نشوانا
فدخلت المدينة بقلب غير داخل، وتلقيت المنام بطرف شحيح بالكرى باخل، وكلما فتشت للأوطان في فكري ذنبا، اجعله سببا للسلو، أو عيبا أركن به إلى الراحة والهدوء، قال الاختبار لا سبيل إلى ذلك، وجعل يعرض علي من حسناتها ما جلا به ظلام الليل الحالك، ولولا أني رجعت إلى جميل الصبر بعد الذهاب، وعللت الروح التي راح سرها لقرب الإياب، لأمسيت أثرا بعد عين، ولكنت أحد من قتله يوم البين:
البين جرعني نقيع الحنظل ... والبين أثكلني وان لم أثكل
ما حسرتي! ان كنت أقضي إنما ... حسرات نفسي أنني لم أفعل
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
1 / 2
فحللت منها المحل المودود، وحللت بها المشدود والمعقود، وجددت بعلمائها العهود، وأقمت الازم منها معهدا مألوفا، ومشهدا بالحبائب محفوفا، إلى أن تهيأ غراب دار الصنعة، وتيسر اندفاعه في يوم الجمعة، فجددت الوداع، وشاع خبر الجواز وذاع، وفارقت من فارقت لا عن ملالة، وودعت من ودعت لا عن تعويض، وركبت فيه بباب الديوان في يوم الأحد، السابع لجمادى الأولى من العام المذكور ثم وقفت ماشيا على الماء وقفة المتسلم، وودعت الأندلس وداع المتأمل المتألم، وأنشدت:
خليلي هذا موقف من متيم ... فعوجا قليلا وانظراه يسلم
وسرنا في أطيب هواء، واحسن استواء، إلى أن وافينا) مرسى هنين (فنزلنا بها ضحوة يوم الثلاثاء، التاسع لجمادى الأولى المذكور، فرأيت بليدة نضيرة، لا كبيرة ولا صغيرة، جميلة المنظر، متوسطة بين الصغر والكبر، موضوعة أسفل جبلين، بين بحر وشجر، يخفضها ارتفاع قلعة، دار صنعة، وأسواق موفورة، ومساجد معمورة، ولقربها من الأندلس هي مذكورة، لقيت بها الخطيب، أبا عبد الله بن جابر، فجبر الوحشة بالإيناس وأنشدني لبعض الناس:
أبشر بخير عاجل ... تنسى به ما قد مضى
فرب أمر مسخط ... لك في عواقبه الرضى
ثم خرجت منها صبيحة يوم الخميس، الحادي عشر لجمادى الأولى المذكورة وسرنا نلتهم الأرض التهام الضمير نرتبط بالجد ارتباط الفعل بالضمير، إلى أو وافينا مدينة) تلمسان (، فحللنا به ضحوة يوم الجمعة، الثاني عشر من الشهر المذكور، فرأيت مدينة قل مثلها، وجل عرارها وبانها واثلها، بطاح وادواح، وربى ملاح، وضياء وانشراح، وبسيط له اتساع وانفساح، ومياه لها على در الحصا انسحاب وانسياح، وروضات يعتري ويعترض إليها اهتزاز وارتياح، وجنات ريقها ندى وثغورها اقاح، فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، ممتدة الغاية في الحسن والانتهاء، جوها صقيل، مجتلاها جميل، ونشرها أريج النفس عليل.
وأرض من الحصباء بيضاء قد جرت ... جداول ماء فوقها تتفجر
كما سبحت تبغي النجاة أراقم ... على روضة فيها الأقاح منور
وكم للعباد من أطراد مذانبها واخضرار جوانبها، من نفحات رحمة، وبيضاء تربى على كل مستحمة، تحييك بالوجه الوسيم، وترى الغصن يصلى بتحيات النسيم، فنزلت منها بالمحلة المنصورة، الحاضرة للمدينة المذكورة، محلة السلطان العادل، الهمام الباسل، ملك الإسلام والمسلمين وناصر الدنيا والدين، أبى الحسن بن السلطان الفاضل الغمام الهاطل، أمير المسلمين، نخبة الملوك والسلاطين، أبى سعيد العابد، المرابط المجاهد أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، أبى يوسف يعقوب بن عبد الحق المرينى، أيدهم الله تعالى وأسعدهم، فما حططنا الركاب، ولا وضعنا الاقتاب إلا والشمس يتبين زوالها، وطهارة المكتوبة يتعين استعمالها فأمطنا وعثاء السفر، وأخذنا في غسل الجمعة بالأثر، ثم تمتعنا بالخطبة والخطيب، بعد أن أخذنا بحظ وافر من الطيب، والعود الرطيب، وند ما له ند، تعاطيه من السنة، إذا أدخلته النار حكى رائحة الجنة، وجلنا في المحلة، وهي روض يثمر خيلا وأعنة، وبحر يزخر قنا وأسنة، وذوائب الأعلام تخفق، وألسنة عذباتها تكاد بالنصر تنطق، والأحوال قد استقامت، والأخبية على القاعدين فيها قد قامت، وهي مبيضة كسقيط الثلج، مصطفة كبيوت الشطرنج، وقد أشرق الجو بإشراق الخمائل والنبات وأشرف على مدينة أحدقت بها الأزهار والأنهار من جميع الجهات، فأقمنا هنالك درر الأنباء، ونحتلب در النعماء، وأنا امرح في جهاتها، مرح العين في منتزهاتها، حتى تمتعت في ذلك الجمع الحافل، بلقاء جماعة من الأفاضل، وأنشدني بعضهم لبعض أهلها وهو الكاتب أبو بكر بن الخطاب، رحمه الله تعالى، وهو مع سائر نظمه عندي بالإجازة عن الشيخ الخطيب المحدث الحاج الفاضل أبى عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن رشيد الفهري ﵀، قال أنشدنا شيخنا الكاتب الأديب البليغ أبو بكر بن خطاب بتلمسان لنفسه:
سرى البدر فارتاع الفؤاد لومضه ... فبت وجفني لم يذق طعم غمضه
تبدى كعرق في الغمامة نابض ... يدل على سقمي تواتر نبضه
سجدت له لما تراءى يمانيا ... وأكملت من دمعي طهوري لفرضه
وقضيت من حق الصبابة واجبا ... برئت من العشاق ان لم أقضه
1 / 3
وذكرني عصر الشباب وطيبه ... وعيشا تحلينا مليا بغضه
وعهدا شددنا عقده بيد الوفا ... فلا بطشت كف تمد لنقضه
فيا ساري البرق الذي ضاعف الأسى ... على دنف ما زال يشقى بنضه
أعندك من أهل العقيق رسالة ... أقارضك عن إبلاغها خير قرضه
وإلا فبلغهم تحية موجع ... يعاني الذي ينهد رضوى لبعضه
وجرد على واديهم ذيل ديمة ... تنمنم بالأزهار صفحة أرضه
حنيني إلى الوادي لأجل جوارهم ... مجاورة المخفوض تعدى بخفضه
ثم زرت تربة ولي الله تعالى ابن مدين مرة أولى وثانية، وأقمت بالمحلة أياما ثمانية، وكان خروجي منها ورحيلي عنها في صبيحة يوم السبت، الموفى عشرين جمادى الأولى المذكور، ولم نزل نقطع مهامه قفار، ونجوز في أودية وبحار، ونشاهد من الأرض والسماء كل نهر سائل وغيم مدرار، إلى أن وردنا) مدينة الجزائر (، في آخر يوم الخميس الثاني لجمادى الثانية من العام المذكور والليل قد غول، والنهار قد تحول، والقلب لا يصبو إلا لأول منزل، ولا يحن إلا إلى الحبيب الأول، ولما طرزت طرة الظلام يد إلا صباح، وأرسل الفجر في رداء السحر خيط الصباح أسرعنا مبادرين، وبادرنا مسرعين، وتفرقنا في سكك المدينة أجمعين، فرأيت محيا صبيحا وتربا مليحا ومسجدا عتيقا، وبناء أنيقا، وأناسا قد سلكوا إلى الحسن والإحسان طريقا، من مدينة أقسمت بعلو هضابها إلا بفوز مبسم الثريا برشف رضابها، فلا ترتقيها إلا الظنون، وكأنها ضب ومن يطمع فيها نون، قد أحاط بها البحر إحاطة السوار بالزناد فألبس ذلك الجسم روح المجد، وركب خلائق الوهد على ذلك النجد، فأقمنا بها نحكم في حزن الأنس وسهله، حكم الصبي على أهله، حتى قرب أمد الرحيل، وغلب واجبه على المستحيل، فعزمت على الخروج، وسرت على بياض ذلك الساحل وخضرة تلك المروج.
يا بياضا أدرى دموعي حتى ... عاد منها سواد عيني عقيقا
وخرجنا في صبيحة يوم الاثنين السادس لجمادى الثانية المذكورة فدخلنا في أمر عظيم، وطريق غير مستقيم، وعذاب يوم عظيم، نصعد على التهائم ونغور في النجود ونسلك كل مخدع لم يكن بالمألوف ولا بالعهود. ولا كان مسلكا إلا للذئاب واللصوص والأسود، إلى شعراء بالخوف مشعرة، وأرض خالية مقفرة، وجبال منخرقة في الجو وعرة، تقطع الأسباب، وتخلع الألباب، وتذكر الصراط والميزان والحساب، وأظن الخطابي إياها عنى بقوله:
سلكت عقابا في طريقي كأنها ... صياصي ديوك أو أكف عقاب
وما ذاك إلا أن ذنبي أحاط بي ... فكان عقابي في سلوك عقاب
1 / 4
فبقينا نكابد عظيم ذلك الأمر، ونسير ولا نفارق ساحل البحر، ونرقى العنق التي تقربنا من السماك وتدنينا من النسر، وقد اشتد البرد، وبلغ الجد، وفرع الجهد، ووقع الثلج، وعمى النهج، وابتلى به الفج والمرج، فتصبح وصباحنا أبيض، وجناحنا لا ينهض، والعروق لا تنبض، والبروق لا تومض، والخيام لجمودها واقفة على غير عمودها، والنيران مقرورة، وشفاه الجليد مطرورة، والزناد كابية، والصعاد نابية، والوجوه في عبوس، والوجود في بوس، وقد جمدنا كأننا بلا نفوس، فنبت الأيدي على ان تبطش، والأقدام عن أن تنهض، وأسود يومي منه وان كان به أبيض، وجاءت السماء بسيل عرم، ولهب قر يضطرم، وقد صوب الغمام سهامه، ولبس الجو لحرب المحل لامه، فلم يبق قطر إلا وقد نفدت فيه تلك السهام، ولا أفق إلا وعلاه من خيوط الودق المحتبسة مثل القتام، فلا أحد إلا وجد من ذلك ما أقلقه، وأحرق قلبه بتواليه وان كان في الحقيقة أغرقه، وسرنا والعناء قد بلغ منا الغاية وانتهى بنا إلى النهاية، حتى وصلنا إلى) بجاية (، فدخلناها في يوم الاثنين الثالث عشر لجمادى الثانية) المذكور (بلدة قدرها خطير، وذكرها في كل زمن يطير، وخطابها من الملوك كثير، ومحلها من النفوس أثير، فكم هاجت من كفاح، وملت عليها في بيض وصفاح، يمتد أمامها بسيط أخضر، مد البصر قد أجرى الله فيه مذانب الماء تسقيه، وتضرب في نواحيه، كأنها سبائك اللجين ممدودة في بساط الزبرجد، محفوفة بالزمرد والعسجد، والبساتين ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، والنهر الأعظم ينساب بين يديها قد انعطف عليها انعطاف السوار، والحدائق تنتظم بحافيته، وتفيء ظلالها الوارفة عليه، فهي النضيرة الدوح، العذبة الأنهار، الطيبة الهواء المشرقة الأضواء، التي اجتمعت عليها الأمراء، وسلم لها الهواء، وشيد فيها البناء، وبعد لها الصيت المدود والثناء، انتظم فيها من الوادي والبحر، قلادتان على ذلك النحر، قد حلينا ذلك البلد، وتجلينا كوالد وما ولد، قد مرجها الله بحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فإذا ضاحكتهما الشمس أنعكس الضياء، وزاد الاحتفال في النور والأفياء، إلى حدائق قد انتظمت انتظام الأحباب، وشقائق ترفل في أثواب الشباب، وتسدل أذيالها بين تلك القباب.
ورياض كأنما نثرت فو ... ق ثراها حريرة خضراء
أعين النرجس الجنى نجوم ... واخضرار الرياض منها سماء
للثرى تحتها شيات وللما ... غطيط وللغصون لقاء
فأول من لقيته من أرباب المحابر، وركاب أعواد الكراسي والمنابر، فاضل الأفاضل وكبير الأكابر، الشيخ العالم المحدث، أبو عبد الله محمد بن جعفر ﵀، قصدت لقاءه والأخذ عنه وقدمته وكنت أسمع من ملفوظ حامده، ومحفوظ محامده، ما هو بغية السامع وحلية للمسامع، فلما رويت من مكارمه ما رويت، استصغرت ما سمعت لعظيم ما رأيت واستقللت ما سمعت أذناي، لما عاينته عيناي، وأنشدت لنجم الدين بن مهذب الدين:
كانت محادثة الركبان تخبرني ... عن مجدكم وسناكم أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
فأنزلني بمنزله الكريم، وقابلني بالترفيع والتكريم، وأقمت معه فيه يفيض على من كرمه بحرا زاخرا، ويفاوضني من علمه منهلا لا أجد له أخرا، ويرويني بمسوغاته الفاضلة، ويرويني من مسوعاته الحافلة، فلا أدري من أي بحريه أعجب، ولا أيهما أروى وأعذب، حتى قلت له:
أبكيت عين الغيث لما فته ... كرما فثغر البرق منه يضحك
فارتاح وتهلل، وأكثر من الأفضل وما قلل، وجرى على عادته في المكارم والانطباع فأنشدته:
ولو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
1 / 5
سمعت عليه تصانيف كثيرة، وأجازني وكتب لي بخطه، وكان ﵀ إمام هدى وعدالة، ووحيد معارف وجلالة، حالي الرواية، كامل المعرفة والدراية، رصين العقل، إماما في التحديث والنقل، متفاوت الكرم، بعيد الهمم زكي الشيم، حسن المفازع، مليح المبادئ والمقاطع، واقعا من النفس أحلى المواقع، ذكر لي: قال ذكر لي الشيخ القاضي أبو العباس الرندى قال: كنا جلوسا بحضرة تونس مع القاضي بها أبى العباس ابن الغماز لارتقاب شهر شوال، وإذا بطفل صغير وسيم قد نظر ورآه قبلنا فقال القاضي ابن الغماز: كنا جلوسا مع الشيخ أبى الربيع بن سالم الكلاعى بمدينة بلنسية لارتقاب هلال شوال فأول من رآه غلام وضئ الوجه من قرابة الشيخ، فارتجل الشيخ ساعتئذ:
توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... وغطى بسجف الغيم زهوا محياه
فلما أتى) شقيقه (ليزوره ... تبدى له دون الأنام فحياه
ومما أنشدته فاستغربه وحفظه وكتبه، ما أنشدني الشيخ الخطيب المحدث الحاج الفاضل أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد إجازة قال أنشدني ناصر الدين نصير بن أحمد بن علي المصري المناوي الحمامي بحمامة بمصر لنفسه في فتى اسمه فرج الله على طريق التورية.
أقول لقلبي وقد ذاب في ... هوى شادن حاز حسنا غريبا
تصبر إذا كنت في شدة ... عسى فرج الله يأتي قريبا
وأنشدني لبعضهم عند الوداع:
يا راحلا ودموع العين تسبقه ... هل من سبيل إلى لقياك تتفق
ما أنصفتك جفوني وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو محترق
وقد أفادني من فرائد الفوائد، ما لا يفيده إلا فرائد العلماء إلا ما جد، كانت مجالستي إياه ببجاية آخر العهد به فأنه توفي بعد انفصالي منها ونزوحي عنها على أحسن ما أجرى الله حاله عليه من حسن السيرة وخلوص السريرة، جدد الله عليه من الرحمة والمغفرة، وجعله من الذين قال الله فيهم وجوه يومئذ مسفرة، ثم لقيت بها جملة من الفضلاء وجلة من العلماء قد ضمهم الولاء في فلكه:
لهم همم كما شمخت جبال ... وأخلاق كما هشت بطاح
ترى بهم النجوم، ولا ظلام ... واوضاح النهاو ولا صباح
قصدت الرؤية لهم والرواية عنهم، فنحوا نحوه، وحذوا حذوه، واقتدوا بفعله، وان لم يدركوا شأوه:
يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
ثم أخذت في حركة الخروج من ذلك القطر الذي هو حاضرة البحر ونادرة الدهر، وموطن الفضلاء من أهل العصر الذين طبق ذكرهم تطبيق الغمائم ونم كما نمت بأزاهرها الكمائم، ولهم مآثر بتعاطي الركب حمياها، ويتعاطى نوافح رياها:
وما أراني بمستوف مناقبهم ... ولو نظمت لهم زهر النجوم حلا
ففارقت الصبر عند مفارقة تلك المنازع، وودعت الجلد عند وداعي لذلك المسجد الجامع. وسرت وقلبي في تلك التلاع وتلك الاجارع، وقد خامرني الفرق، واستولى على جفني الأرق، وأولعت بما يولع به المشفق. وأنفقت دمعي وكل امرئ مما عنده ينفق، ورحم الله زهيرا المهلبي، فعن حالي عبر بقوله:
إلى كم جفوني بالدموع قريحة ... وحتى م قلبي بالتفرق خافق
ففي كل يوم لي حنين مجدد ... وفي كل أرض لي حبيب مفارق
ومن خلقي أني ألوف وانه ... يطول التفاتي للذين أفارق
وأقسم ما فارقت في الأرض موضعا ... ويذكر إلا والدموع سوابق
فيممت خير ميمم وفارقت غير مذمم، وخرجت منها في صبيحة يوم الأحد الحادي عشر لرجب الفرد، من العام المذكور، على ضفة الوادي الكبير بين المنازل والقصور:
يا وادي القصر نعم القصر والوادي ... من منزل حاضر ان شئت أو بادي
ترى قرى قرة والعيس واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي
فعبرت من الوادي الصغير بمثل ما أجرته جفوني من الدموع، وخطرت من الرشة على ما أبرزته من الربيع والربوع، واجتزت على الربيع الرفيع، وحررت بالبديع البديع، وسلكت على تلك المرابع الرائقة بالنزهة والتوديع.
ولقد وقفت بها وكف ربيعها ... في نسج حلة نورها يتأنق
وسدا خيوط المزن يرسلها الحيا ... أبدا وأكمام النبات تفتق
والروض تولاه الولي ووسمه الوسمى وجشمته نسمات الرياح، وأظللته رايات الصباح، وغازلت كواكب الفجر عيون نرجسه الوقاح، وباكرت الصبا تقبيل ثنايا غوره الوضاح:
1 / 6
من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح
والأرض قد أخذت زخرفها وآزينت، وبينت من حكمة الله سبحانه ما بينت ورباها قد تعممت بملونات الأزهار، وأراقم المذانب قد انسابت في مغائر الأنهار، والزمان قد استقبل اذاره، وخلع عذاره:
فالنور عقد والغصون سوالف ... والجزع زند والسرى سوار
رقص القضيب بها وقد شرب الثرى ... وشدا الحمام وصفق التيار
ثم جزنا الوادي الكبير وهو بحر عباب، وفي كل رقعة من أثوابنا ميزات. وسرنا والموج غمر، وذلك الماء على الأجساد ثلج وفي أكبادنا جمر، والريح ترمي بحاصب، والودق يأتي من كل جانب، والدوافع ترعب، والمذانب تتعب، والقطر قد ملأ كل خرق وسبسب، وورد آتيه من كل آتي ومذهب، وجاء بكل صبح وغيهب. ولم تزل الأمطار تتوالى وتنزل:
كأن السحاب دوين السما ... نعام تعلق بالأرجل
فادمعها سح وسكب وديمة ... ورش وتوكاف وتنهملان
فسرنا على تلك الحال، ونحن من طوفان تلك السحائب في أعظم الأوحال، وقد أعيا الركوبة ما أدهى حمله من مستنقع الأثقال، حتى وصلنا إلى) قسطنطينة (والركاب فاشلة، والنفوس ذاهلة، والتلاع سائلة، وجفون السحاب هاملة هاطلة، والشآبيب مستمرة، وحلاوة العيش ممرة، والأوحال تمنع من خروج يعيد الأبدان معفرة، والثياب معصفرة، فحللنا منها في حصن حصين، ومكان مكين، وربوة ذات قرار ومعين، وقاعدة أمن وتأمين، وتمهيد وتسكين، صحيحة الهوى، بعيدة المهوى وبسبب ذلك تنسب إلى الهوى المقصور، فيقال: قسطنطينة الهوى، ناهيك من مدينة تحوم حول سحاب القطر، وتسوم بارتفاعها مراقي الكواكب الزهر، وتصون بامتناعها من حدثان الدهر، وتصول ببساط الملك وبسيط الزهر، وتروق بناعم الروض وهامر النهر، وتفخر بجمال المحاسن كل الفخر، ويخترق بطاحها نهر ينساب فيها انسياب الأرقم، ويدور بها دور السوار بالمعصم، ويغوص ببعض حافاتها فيغيب عن العين، ثم يبدو بخارجها كأنه سبائك اللجين، فيسيل على تلك البطاح سيلا، ويتخللها جداوله فتجر بها ذيلا، وتعمها شربا، وتسقي منه بماء واحد ورياه تعود منه بما شئت من صلة وعائد:
نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم يشعر
ما آصفر وجه الشمس عند غروبها ... لا لفرقة حسن ذاك المنظر
بها تتوفر الأرباح، وبأعلاها تتبارى الرياح، وبشتى أقطارها يتلاقى التاجر والفلاح، ويعتز الساكن منها في الحصن الأحمى، والموطن الأسمى، والمحل الأسنى، والعيش الأهنى، ويمسك له في خزائنه الواسعة من ياقوت القوت ما يفنى الدهر وهو لا يفنى، تهابه النفس عند موافاته وتأوي الفتح الكواسر بأدنى حافاته، وتزل أقدام الصاعدين إليه على أكثر صفاته، وتعجز أوصاف الواصفين عن بعض صفاته:
يأوي إليه كل أحور ناعب ... وتهب فيه كل ريح صرصر
ويكاد من يرقى إليه مرة ... من دهره يشكو انقطاع الابهر
وبادرت فدخلناها في يوم الجمعة السادس عشر لرجب المذكور. وبادرت إلى لقاء الفضلاء، ومباحثة النبلاء، اجتلى واجتنى ولا اجتنب، وأنا والطرس في ملأ انتقى منهم وانتخب. فمما أنشدني المنزل، رب المنزل الشيخ الإمام الرواية الحاج الفاضل المتفضل: أبو الحسن علي بن عبيد الله لبعضهم:
ما رأينا ما سمعنا ... كزمان نحن فيه
كل من تلقى تراه ... يشتكي ما تشتكيه
وذكر لي قال كتب بعض السؤال إلى بعض أهل هذه المدينة يستجديه ويستحثه بقوله:
ماذا أقول إذا سئلت وقيل لي ... ماذا لقيت من الجواد المفضل
ان قلت: أعطاني، كذبت، وأن أقل: ... يخل الجواد بما له لم يجمل
فاختر لنفسك ما أقول، فأنني ... لا بد أخبرهم وان لم أسئل
فأجابه المسئول بقوله:
أعجلتنا، فأتاك عاجل برنا ... قلا، ولو أمهلتنا لم نقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تقل، ... ونكون نحن كأننا لم نسأل
وأخبرني قال: أقبل أعرابي إلى داوود بن المهلب فقال له: أني مدحتك فاسمع. فقال على رسلك، ثم دخل بيته وتقلد سيفه وخرج فقال: قل، فان أحسنت حكمناك، وان لم تحسن قتلناك فانشأ يقول:
أمنت بداود وجود يمينه ... من الحدث المغشى والبؤس والفقر
فأصبحت لا أخشى بداود نبوة ... من الحدثان ان شددت به أزري
1 / 7
له حكم لقمان وصورة يوسف ... وحكم سليمان وعدل أبى بكر
فقال له: قل قد حكمناك، فان شئت على قدرنا وان شئت على قدرك. قال:) بل على قدري (فأعطاه خمسين ألفا، فقال له جلساؤه: هلا احتكمت على قدرة الأمير؟ فقال لهم: لم يكن في ماله ما يفي بقدره، فقال له داود: أنت في هذه أشعر منك في شعرك، وأمر له بمثل ما أعطاه.
وأنشدني أيضا قصائد تقيدت في غير هذا، واجازني جميع مروياته، فهو روضة الأدب الناعمة الغضة، وصحيفة الرواية النقية المبيضة، وحامل المكارم المنقضة والمحامد المرفضة، وجامع المحاسن التي بها أدمع الصبابة منفضة، ألسنا لمن وأخاه، السنى في كل ما يتوخاه، العاكف على ما يحمد عقباه. العارف بما رواه ورواه، الحفى بمن آتاه المنيب إلى أواه، الخاشع لمولاه، أبو الحسن بن عبيد الله، تغمده الله برحماه، وجعل الجنة نزله ومثواه، برحمته، ولم أزل أو إلى أهل الولا، واختص بذوي السؤدد والملا، حتى جاء الفراق، ومارق ولا راق، فأنشدتهم وقد قوى العزم، لأبى المغيرة بن حزم:
واجد بالخليل من برحاء الشو ... ق وجدان غيره بالحبيب
ان قلبي لكم كالكبد الحرى ... وقلبي لغيركم كالقلوب
وخرجت منها ضحوة يوم الأحد الثامن عشر من رجب المذكور في جمع وافر، ذي خف وحافر، سرنا نقتفي البيداء، ونغتدى في كل ثنية جرداء، قد دأبنا على الترحال، وركبنا متون الوحال، سمونا على الماء كسمو حبابه حالا على حال، إلى أن وافينا بلد العناب،) وتسمى أيضا بونة (وصلناها أيضا بيمن الله على أفضل الأحوال، ودائرة البيضاء يمنى مركز الزوال، فدخلناها في يوم الجمعة الثالث والعشرين لرجب المذكور، فرأيت مدينة مكينة، وقلعة حصينة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، ومعدومة الشبيه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع قاعدة كبيرة ومائدة من الأرض مستديرة، سامية الأرجاء، واسعة الفناء، موضوعة على نسبة حسنة في الاعتدال والاستواء، والمدينة العجيبة كالعروس في ناديها قد رفلت في درع واديها، وامتنعت بحسامه المسلول من غير الأيام وعواديها، فأخذت به من المطالب معتصما، وتجلت في سواره معصما فبكل مسقط نظرة ما اشتهت الأنفس من نعيم ونضرة، نهر هتان، يحفه بستان، ومرآي لخواطر الأدباء فتان:
نهر يسيل كما يذوب نضار ... وتدور في أيدي السقاة عقار
فإذا استقام فصارم دامي الظبا ... وإذا انحنى جزع به فسوار
مغرورق التيار، ملتطم كما ... خفقت بظهر مهب ريح نار
فاحمر وأخضر النبات بشطه ... فكأن ذا خد وذاك عذار
1 / 8
لها أرض تقتنص النظر بتدييج أزهارها، وأطراد أنهارها، وتؤمن الراكض بها من هفوة غبارها، وكبوة عثارها، كأنما نسج أديمها منسج، واستوت أطرافها وأوساطها فجوها سجسج، ومتى تكلمت الفصول أعاد الله شبابها، فأنشأها خلقا جديدا، وجعل عودها مثمرا وظلها ظليلا مديدا، فيالله اتساع ظواهرها وبواديها، والحسن البادي ببحرها وبواديها، وارتفاع تلك القلعة والحصن، وما أوتي من النعمة والحسن، قد عمرت نجاده وغيطانه، واستقر بين خصب الوادي، ورحب النادي ثواؤه واستيطانه صعدت إليه فرأيت حصنا مستقلا، وكثيرا من الحسن لا مقلا، بل معقل الحسن ومستقره، ومجاز الأنس وممره، قلعة قد عقد الجبل حبوتها، وأزلق العراب أن تطأ ذروتها، وعصم سوار الوادي الملوي معصمها، وحمت غرر دهمائها أدهمها، فالخيل تصعد منها أنجما في فلك، بين طالع كطالعها أو غارب كغاربها، والأرجل منها على كرة لا تستقر بأخمص راجلها ولا بحافر فرس راكبها وكأنها قد اعتزت لولا ما جعل الله الأرض ذلولا، وأمر أهلها أن يمشوا في مناكبها، فمشيت منها في مركب سام، وألف بالنجوم مسام، ثم خرجت من المدينة في صبيحة يوم الأحد الخامس والعشرين لرجب المذكور سالكا سبيل جبل الحفاء، ومالكا من الرجاء ما برح به الخفاء، من جبل يقرع الواصل إليه سن الندم، ولا يكاد يشرب الماء إلا من قليب دم، قد أفرط في الجفا، واشتهر بالحفا، وجمع بين غلظ الشعراء والأرض الوعراء، فسلكنا منه في عقاب كفى بسلوكها للمجرمين من عقاب، نكتنف الفزع ونلتحف الجزع، إلى أن جزمتنا عوامله بالحذف، ومنعتها علاته من الصرف، وأسفر لنا وجهه العبوس ومحياه الذي في مشاهدته البوس، عن قطعة من العرب كقطع الليل، حملت علينا حمل السيل، فكان زوال كل ما ملكناه أسرع من لحسة الكلب أنفه، وناهيك عن صبيحة ذلك اليوم فجاءة حال، وسرعة انتقال " وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال ".
لقونا فضموا جانبينا بصادق ... من الطعن مثل النار في الحطب اليبس
وانقلبت اعدى من جام ونجوت برأس طمرة ولجام، منهزما مكلما، يثعب جرحي دما، وصحابي قد منحوا الأكتاف والرقاب، ودماؤهم تسيل على الأعقاب،
وتركتهم تعس الرماح ظهورهم ... من بين مقتول وآخر مسند
ولم نزل نخوض أحشاء كل واد كالثعبان، نتلقف نفس الجريء فكيف بالجبان، فكأن تلك الأودية سيوف لقتل الأنس مسلولة، ولولا زرقة ألوانها لقلت دماء مطلولة، خاتم نظامها ومسك ختامها، ومنتهى كمالها وتمامها، وآخر عذابها وانتقامها يسمى) أبو جردة (قيل لأنه يجرد الإيمان من قلب شاربه، كفاك هذا من أوصافه ومناقبه، وهو على أثنى عشر ميلا من الحضرة، لم تنبت قط حوله عشبة نضرة، ترابه قد أسود، وماؤه قد أظلم، ويقال أنه من أودية جهنم، تعذر علينا جوازه في القارب فما توسطته راكبا إلا والمركب قد غمرته المياه وحملتني وإياه، وكنا من المغرقين لولا ان رحم الله، ثم خرجت سابحا، وقد ذهب الوادي بأكثر القوم، بسبب ما أنعم الله به علي من معرفة السباحة والعوم، وحصلت على ساحل النجاة ولا شيء إلا مبلولا، ولا شد إلا محلولا آو محمولا.
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
فوصلت إلى) حضرة تونس المحروسة (في ليلة يوم السبت أول من شعبان المكرم من العام المذكور بعد اللتيا والتي، وانضاء جسمي ومطيتي، وأخلاق البيتين اللذين لم أخلهما عن فكري ورويتي.
يقولون تونس مصر عظيم ... وأرجاؤها جنة زاهرة
نعم هي مصر لأربابها ... وللواردين هي القاهرة
فأرحت الراحلة من الرحل، واستبشرت بالخصب بعد المحل، ولابد دون الشهد من أبر النحل، فبتنا بها جيران دولاب يهدل، وأغصان تثني وتعتدل، وستر الظلام ينسدل، وتلك الحضرة تتلفع بثمارها تلفع الكاعب بخضرة خمارها، قد سلت على بساط الروض من المذانب حساما، وضحكت ثغور شرفاتها ابتساما، والدولاب بندب من الزهر الذاوي هديلا، ويتوسل للروض بدموعه فيخلف له بديلا، فبت أجاوب أنين ذلك الدولاب، وأجري بدمعي دمعه في الانسكاب، وأنشد فيه لبعض الأعراب:
باتت تحن وما بها وجدي ... واحن من طرب إلى نجدي
فدموعها تحيا الرياض بها ... ودموع عيني أحرقت خدي
1 / 9
ولما تفرى عن وجنة الأفق عذار العيهب، وتتوج كسرى المشرق بالتاج المذهب، طفقت أتمشى في الأماكن المكينة، وأتخلل سكك المدينة وأتعجب من محاسنها المستبينة، ووضوح قدمها ورسوخ قدمها وبهجتها وانفراجها، وانفساح رباها وأبراجها، ورونق رياضها، وتذلل الهموم لفرجتها وارتياضها، واتساع جنباتها وإفنائها، وكما لها في البلاد البحرية وغنائها، وإيناع حدائقها المحدقات، وإحرام حجيج الأنس في ذلك الميقات، فدخلت منها جنة حفت من طرقها بالمكاره، وعقيلة عقلت قلب الطائع والكاره، فهي الدمية الغراء، والقبة اللعساء، والخريدة العيناء، تزهى بها المحافل، ويحتقبها الطالع والآفل ولله در القائل:
لتونس تؤنس من جاءها ... وتودعه لوعة حيث سار
فيغدو ولوحل أرض العراق ... يحن إليها حنين الحوار
ويأمل عودا ويشتاقه ... اشتياق الفرزدق عود النوار
فالتاح بتونس الأنس، وانشرحت النفس، وصلحت الحال واللبس، ووجدتها كما قال أبو الحسن المري:
تؤنس بالغرب خير دار ... تؤنس من حلها غريبا
حللت عقد البعاد لما ... حللت من أهلها قريبا
وظللت ألقى أكابر الأولياء، وآخذ عن العلماء الأتقياء، فأول من لقيته بها من الأولياء والأفراد، والعلماء الزهاد، السيخ العالم الولي لله تعالى، أبو الحسن علي، المشتهر بالمنتصر، أفاض الله علينا من بركاته. هو صدر من صدور أئمة الدين، وكبير من كبراء الأولياء المهتدين، وقدوة في أفراد العلماء الزاهدين، حامل لواء المعارف، ومحرز التالد منها والطارف، وحافظ للكتاب والسنة، ومحافظ على اتباع الشريعة والملة، قائم بأعباء صلاح الأمة، باسط للضعفاء وذوي الحاجات جناح الرأفة والرحمة، كثير الصيام والقيام، دائم الخلوات ومستجاب الدعوات وقورا صموتا، مهابا معظما:
قابلته فملئت منه مهابه ... شغلت علي فصاحتي وبياني
ولثمت قرب فنائه فكأنما ... قبلت من طرب خدود غواني
رحل إلى المشرق قديما ووعى الكثير، وشأنه كبير، وله من المكاشفات وإجابة الدعوات ما هو أشهر من أن يذكر، حللت بحلاله، وانضويت إلى جلاله، وخيمت بسوارف ظلاله، فألقيت فيه ركنا عظيما ومأوى كريما وابابرا رحيما وإماما أوسعني إفادة ونصحا وتعليما، وسبب ذلك أن أخي أبا بكر محمدا لما خرج إلى وجهته الحجازية، وعلم الله تعالى منه صلاح النية وخلوص الطوية، وانتهى إلى الحضرة التونسية، جملته عوارف الألطاف الخفية، وعطفته عواطف القدرة الربانية، إلى لقاء شيخنا هذا والتبرك به، وطلب الدعاء منه فتفرس ﵁ فيه مخايل النجابة ولاحت له عليه دلائل الصدق والإنابة، فضمه إلى جانبه الشامخ القواعد، وكفله كفول الوالدة والوالد، حتى جعل تحت حرمته، واختص بصحبته، وظهر فيه صدق فراسته وبركة دعوته، ثم ارتحل عنه مشرقا بعد تراخي المدة، وتوالي الأيام والأشهر الممتدة، قرير العين، ملي اليدين، فائزا بحظوة الدارين وحين وردت موارده، وحضرت معاهده، وسألت عن مطلع شمسه، مسير يومه وأمسه، فأخبرت أن الذي نعنيه بالسؤال، قد بانت برحيله الرحال، سقطت على التراب معفرا، وأفضت فأنشدت حين سرى:
ماذا وقوفك والركاب تساق ... أين الجوى والمدمع المهراق
الغير هذا اليوم يخبأ أو ترى ... بخلت عليك بمائها الأماق
حتى لقد رحلوا بقلبك والكرى ... ان النواظر لا الدموع تراق
1 / 10
ثم نزلت منازله، فتمتعت بها دهورا، وأقمت ألازمها ليالي وأياما وشهورا، وجعل الله لي بصحبة هذا الشيخ انتفاعا وظهورا، ولهذا الرجل الصيت البعيد، والباع المديد، زهدا وانقباضا، ونصيحة لعباد الله تعالى وحدبا على ضعفائهم، ووضع له القبول في الأرض فلم يختلف اثنان في فضله، ولي منه حظ لا أعده به حظا عسى الله ان ينفع به) وثانيه (في الفضل والولاية، والعلم المتسع والدراية، الشيخ العالم خطيب الجامع الأعظم، والراقي بقدم الصدق وذروة مناره، المعظم، أبو عبد الله بن عبد الستار، نفع الله تعالى به إمام من أئمة الفروع والتفسير، وسراج يقتدى به في ظلمات الدياجير، انتهى من الفضل إلى أقصى أمده، وكرع في بحره لا في تمده وحل منزلة مقنعة من عالم اللسان، ونظرت به عين التعين كالإنسان، أضاء بأنوار معارفه البلاد، وترادف على محله العلي العلمي القصاد، وعلا سنه وسناه، وبلغ من وعي المعارف الدينية والأحاديث الكريمة النبوية قصده ومناه، له جلالة السبق، ومهابة الولاية والصدق، ومكانة القبول عند الخالق الخلق، ذو في الدنيا وأغراض عن زهرتها، وعزوف عن طلابها، وكان يدرس العلوم في مدرسة الكتبيين التي استوطنها، فسمعت عليه كثيرا من التفسير والحديث والفروع والأصول وغير ذلك، ولازمته وانتفعت به، وشاهدت له كرامات ومقامات تصدر إلا من مثله أو من الولي الذي من قبله.
1 / 11
رحل إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ففاز من ذلك بغاية سوله، ونهاية مطلبه ومأموله، وتواتر عنه أنه لما عاد إلى وطنه، أعاد جميع صلواته التي كان صلاها في سفره، إذ لم ترتضها عبادته النزيهة ومعالي سيره، وها هو قد طعن في السنين، ونيف على التسعين، فما ضعفت له قط موارد العبادة، ولا تعطلت منه تلك المدرسة عن الدول المعتادة ومما تقلت منها: ان الواقدى رفع إلى المأمون قصة يشكى فيها غلبة الدين وقلة الصبر، فوقع عليها، أنت رجل فيك خلتان، السخاء والحياء، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يدك، وأما الحياء فهو الذي بلغ بك ما أنت عليه، وقد أجزنا ذلك بمائتي ألف درهم، فان كنا أصبنا إرادتك فأزدد في بسط يديك وأن كنا لم نصبها فجنايتك على نفسك، فأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد ان رسول الله ﷺ قال للزبير: ان مفاتيح الأرزاق بازاء العرش ينزل الله للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له، قال الواقدى: وكنت أنسيت هذا الحديث فكانت مذاكرته إياي به أعجب إلى من صلته. وأعززهما بإمام الدنيا ومتبوئ الذرة العليا، وسابق الغاية القصيا، والشيخ العالم، قدوة الأئمة وواحد أسانيد الأمة أبو عبد الله بن برال أبقى الله تعالى بركته، رجل أتاه الله تعالى كتابه وفتح عليه فيه أبوابه، ووفقه في أدائه إلى الصواب فأصابه، فاجتمع الناس إليه وتناغى المجودون من أهل القرآن في التلقف منه، وانثالوا إليه عمن سواه فقامت له سوق، وأجلى خبره عن تقديم أمثل الخبرة، وأطباقهم على تفضيله، وكان هذا الشيخ قد أوتي من حسن اللفظ بالقرآن ما لم يؤته أحد ممن بقى على الأرض في هذا الوقت بإجماع، حضرت قيامه في ليالي رمضان بالاشفاع وانتدب الناس إسماعه من النواحي والبقاع فما قرع سمعي ولا وقع في أذن قلبي، أحسن منه صوتا ولا أحلى تلاوة، ولا أطيب إيرادا، ولا أعذب مساقا، ولا أعجب أحكاما، ولا أغرب ترتيلا، ولا أجمل جملة وتفصيلا. ولقد كنت في حين قراءته على قساوة قلبي، وغباوة لبى أتغاشى وأتلاشى ويضج جامع تونس باهله، ويغص جمعه، فبين باك وداع وخاشع وساقط من القيام، وعادم وجوده في ذلك المقام، كلهم يفعل فيه صدقه، ويسكنهم نطقه، ويسكرهم ذوقه، قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السبع جمعا في ختمة واحدة والإدغام الكبير في رواية أبى عمرو بن العلاء وترك الهمز من طريق أهل الرقة، بطريق أبى عمرو الداني رحمه الله تعالى وهو آخر من قرأت عليه السبع من الأئمة المقرئين والأساتذة المبرزين عددهم اثنا عشر شيخا ما منهم إلا من قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السبع إفرادا وجمعا أو أفرادا، أولهم الأب المرحوم ناجلى، الكفيل بتربيتي في نشأتي وناحلى أول موهبة من تدريبي في بدأتي والدي عيسى ﵁ قاضي بلدة قتورية وخطيبها ووالي كافة أمورها مدة من أربعين سنة قرأت عليه بالقراءات السبع على والده جدي الأستاذ الخطيب الحاج الزاهد أبى جعفر أحمد، وقرأ والده جدي بالقراءات السبع على جماعة منهم والده الخطيب الصالح أبو إسحاق إبراهيم وقرأ والده جد والذي بالقراءات السبع كذلك على جماعة منهم والده الفقيه أبو جعفر أحمد بن علي بن أبى خالد رحمة الله على جميعهم، وهكذا تتصل لي هذه السلسلة بالقراءة السبع إلى سابع جد ولله الحمد، وحدثني شيخي هذا انه قرأ بالقراءات السبع أفرادا مع الإدغام الكبير في رواية أبى عمرو بن العلاء وترك الهمز من طريق أهل الرقة ثم جمع السبع في ختمة كاملة، وقرأ قراءة أبى محمد يعقوب الحضرمي على الشيخ الفقيه المقرئ الصالح الرواية أبى العباس أحمد بن موسى بن عيسى بن أبى الفتح الأنصاري المشتهر بالبطرنى وحدثه أنه قرأ بالسبع القراءات على الشيخ الفقيه المقرئ الخطيب القاضي أبى محمد عبد الله بن يوسف بن أبى بكر بن عبد الأعلى المغافري السبرتى بقراءة نافع أفرادا وجمعا وباقي السبع ختمة جمعا لكل إمام ثم جمع عليه السبع في ختمة كاملة مع الإدغام الكبير، قال قرأت على خاتمة المحققين بل المقرئين بشرق الأندلس أبى جعفر أحمد بن يحيى بن عون الله الحصار بقراءة نافع إفرادا وجمعا وجمعت عليه السبع في ختمة كاملة كما قرأت بالقراءات السبع بالأفراد والجمع مع الإدغام الكبير فيهما على الشيخ الفقيه الزاهد أبى الحسن
1 / 12
علي بن محمد بن علي بن هذيل البنسى، قال قرأت جميع ذلك على الشيخ الفقيه المقرئ أبى داود سليمان بن نجاح الأموي، قال، قرأت جميع ذلك على الإمام الحافظ أبى عمرو وعثمان بن سعيد بن عثمان الدانى بسنده في كتاب التيسير، وقد قرأت جميعه عليه وقرأت عليه جميع القصيدة اللامية المسماة بحرز الأماني التي من نظم الإمام أبى القاسم بن فيرة الشاطبى ﵀ قراءة تثبيت وتبيين لمعانيها وإعراب لمشكلها، وإيضاح لأسرارها، واستخراج لغوامضها وجميع عقيلة أتراب القصائد من نظم الشاطبى أيضا وحدثني بجميع ذلك عن شيخه أبى العباس البطرنى المذكور، ولشيخي هذا أسانيد غيرها، وسماع وتبتل، وانقطاع ومواصلة للقرآن واعتناء بذلك الشأن فجمع بين علو الإسناد، والسلسلة الذهبية وتوسع كثيرا في اللغة العربية. وتتبع أنواعا من هذه الطريقة الأدبية يعمر بها مجالسه أنشدني لبعض الشعراء:
أني غريب بأرض لا كرام بها ... كغربة الشعرة السوداء في الشمط
لا أطلق العين في شيء أسر به ... ولا أنال الرضى إلا على سخط
وأنشدني لبعضهم:
ان الليالي للأنام مناهل ... تطوي وتنشر بينها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
وأنشدني لبعضهم:
تمتع بالرقاد على الشمال ... فسوف يطول نومك باليمين
ومتع من يحبك باجتماع ... فأنت من الفراق على يقين
وكان ﵁ رقيق الاشادات، طيع العبارات، حلو الحكايات، عالي الروايات، تبهجك طلاقته ويرضيك بشره مع مروؤة ظاهرة، وتمام خلقة، وهدى وسمت ووقار لأكفاء له، إلى حسن البيان وعذوبة اللسان.
ملح كالرياض غازلت الشم ... س رباها وافتر عنها الربيع
فهي للعين منظر مؤلف الحس ... ن وفي النفس سئودد مجموع
ذكر لي قال دخل بعض الملوك على جارية له، وقد دهن شعره بدهن بيضه به، فقال يخاطبها:
كل البياض مليح ... لا شيء في الحسن بعده
فأجابته:
أهواه من كل شيء ... إلا من الشيب وحده
فاستحسن جوابها، وأحسن ثوابها، وأخبرني، قال دخل بعض الشعراء على بعض الكبراء مادحا له بشعر قاله فيه فوجد عنده حجاما قد قص من شعره وأجزل له في العطاء ولم يعط الشاعر فقال مرتجلا:
أرى من جاء بالموسى مواسي ... وراحة ذي القريض تروح صفرا
فهذا منجح ان قص شعرا ... وهذا مخفق ان نص شعرا
وأخبرني قال: مدح أبو الحسن بن الفضل أحد الوزراء بمراكش وكان أقرع فلم يثبه، فقال:
أهديت مدحي للوزير الذي ... دعا به المجد فلم يسمع
فحامل الشعر إليه كمن ... يهدي به مشطا إلى أقرع
وأخبرني قال: أهدى سالم بن قاسم من بني مهنا الحسنيين لصلاح الدين ابن أيوب مروحة بيضاء وفيها مكتوب بالأحمر بيتين وهما هذه:
أنا من نخلة تجاور قبرا ... ساد من فيه سائر الخلق طرا
شملتني سعادة القبر حتى ... صرت في راحة أبن أيوب أقرأ
1 / 13
وقد كان الرسول بها قال لصلاح الدين، خذ هذه فما أهدى لك ولا لبيك قط مثلها، فغضت السلطان من هذا الكلام فقال الرسول لا تعجل وانظر ما فيها من الكلام، فلما نظرها وقرأ البيتين قبلهما ووضعهما على رأسه وقال: صدق الشريف ما وصلتني قط هدية مثل هذه. وقرأت عليه من كتب القراءات والحديث وغيرها تصانيف كثيرة، استوفيتها بأسانيدها في برنامج رواياتي، وأجازني إجازة تامة، مطلقة عامة، وكتب لي بخطه، ومولده عام ثمانية وستين وستمائة.
وأشفعهم بأوحد الزمان، وفريد البيان والتبيان، العديم النظراء والأقران، والمرتقى درجة الاجتهاد بالدليل والبرهان، الشيخ العالم المشاور أبو عبد ابن الحباب، حبر، بحر، حافظ لافظ، ذو أبهة وبهاء وحبوة مملوءة من علم، خالية من ازدهاء، برع بأحسن الصورة، في مطالع الحسنى إلى أنهى كمال وأكمل انتهاء، برع بأحسن الصورة، وفرع من الجمال أرفع السورة فبسق بسوق الغصن الناضر وأضحت حدائق محاسنه نزهة الأحداق والنواظر، انفرد بفنى المعقولات والمقولات، واتحد في علمي اللسان والبيان فما يجارى، في شيء من ذلك ولا يبارى، وهو فيما عدا ذلك من الفنون يفوق القدور ويفيض على مزاحمة البحور، ويحلى من فوائده الطلا والنحور، وله تآليف وتصانيف فيها للعلوم صنوف، وهي في الأذان شنوف، ولها ظهور على غيرها وشفوف، وقلائد قصائد تنجلي بجمالها الخرائد، وتحسد حسنها النيرات الفراقد ونشربل نور، أو أنجم زهر، أو لجين أو تبر، أو يواقيت أو در، أو حصباء بللها نهر أو شذور رصعت فشطر وشطر:
نظم ونثر في رياض بلاغة ... سجد الربيع لبردها الرفراف
لم أدر من عجب بها وتعجب ... أنظام در أو نظام قواف
كان زمن شبابه، وتعلقه بطلب العلم واستفتاح بابه، رئيس إنشاء الدولة الحفصية، والمستقل بحمل الراية التونسية، فملا الدلو ومد الرشاء، وأنال الإنشاء ما شاء، وأزال عن جفون الطريقة الأدبية العماية والعشاء، فلما أحرز في ذلك الفن قصب السبق وحازه، وقطع فيه صدر العمر واستقبل إعجازه، عطف إلى تعليم العلوم، وعكف على تدريب تدريس المعدوم منها والمعلوم، فأفاد الأفذاذ، والأفراد وأمتع الجهابذة والنقاد، وأسمع الأسماع ما اشتهى كل منها وأراد، إلا أنه كثير الأنس مؤثر لراحة النفس، قلما ينضبط لطالب، ولا يغتبط إلا بذي فهم ثاقب، وسهم في العلوم مسدد صائب، فمجالسه مجالس علم وإيناس، وتقريب لأناس، وتبعيد لأناس، وكنت بحمد الله من الفريق الأول لا بالمشكوك فيه ولا بالمتأول، فسمعت وأخذت وأجازني الإجازة التامة، وكتب لي بخطه أنشدني لبعض المشارقة يعرض بآخر ينعت بسراج الدين، وكانت قبيلته بجيلة فضمنها البيتين وهما:
لنا في البيت من خزف سراج ... عراقي فتيلته نحيلة
يضيء لمن تعاهده بدهن ... فلا كان السراج ولا الفتيلة
وأنشدني لسراج الدين الآمدي:
بني أفدى بالكتاب العزيز ... وراح إليه سريعا وراجا
فما قال لي أف مذكان لي ... لكوني أباه وكوني سراجا
1 / 14
ويتلوه البحر المتلاطم الأمواج، والمنهل الذي نروى بعذبه بقاع الوهاد وتلاع الفجاج، والمجموع الذي نزلت بساحته مفنرقات العلوم نزول الماء الثجاج قاضي القضاة وإمام الفقهاء والنحاة ورب العقل الوافر والحصاة، الشيخ العالم العلامة قطي الشورى وعماد الفتيا، قدوة علماء الإسلام، أبو عبد الله بن عبد السلام ﵁، رجل نشأ في العفة والصيانة وتبوأ ذروة الطهارة والديانة، وصعد من هضبة التقى على أعلى المكانة، فلم تعرف له قط صبوة ولا حلت له على غير الطاعة حبوة، على ان المسهب في الأوصاف الكريمة، والمشيد بالمناقب المشيدة، سكيت مع سبقه ومسيء في إحسانه، وقاصر عن إدراكه، وهيهات يضرب في حديد بارد، ويطلب ما ليس له بواجد، من رام بيده لمس الشمس، وتعاطى برجله لحاق البرق، صرف همته العلية، وفكرته الوفادة الزكية، إلى انتحال فنون العلوم، وافتتاح المعكوم منها والمختوم، ملك أعنتها، وقاد أزمتها، وأوضح أشكالها، ووسم إغفالها، وحل أقفالها وتلقى بالسهل والرجب آنثيالها عليه واقبالها، فهو اليوم وحيد الأوان، وعلامة الزمان، والمشار إليه بالبنان والبيان ما قرن به فاضل من العلماء الارحجه، ولا ألقى إليه مبهم من العلم إلا كشفه وأوضحه، عدلا في أحكامه، جزلا في إقدامه مراقبا لله في فعله وكلامه، له صادقات عزائم، لا تأخذه معها في الله لومة لائم، إلى نزاهة عن الدنيا، وهمة نيطت بالثريا، ولهجة فيها ترقرق ماء البشر فأحيا وحيا.
يقابلني له خلق وضيء ... يصدق بشره خلق رضى
حضرت مغتنما وملتزما تدريسه الذي هو ضالة الناشئ الناشد، وبغية القاصي والقاصد وحديقة الرأي الرائد، وحقيقة الفوائد، فسمعت وانتفعت وأخذت عنه شرحه لكتاب ابن الحاجب الفرعى فقرات وكتبت وأجازني في غير ما مرة، وكتب لي بخطه ومولده سنة ست وسبعين وستمائة وسمعت منه بمنزله من تونس جميع موطا الإمام مالك بن أنس ﵁ في مجالس كثيرة آخرها ضحوة يوم الجمعة الثالث عشر لصفر من عام أربعين وسبعمائة وأذن لي في روايته عنه وحدثني أنه قرأه أجمع بلفظه على الأستاذ المقرئ أبى العباس المشتهر بالبطرنى المتقدم الذكر بسنده فيه وقرأه كذلك أيضا على الشيخ المحدث الرواية المعمر أبى محمد عبد الله بن هارون الطاءي، وحدثه به عن القاضي أبى القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن بقى قراءة لبعضه وسماعا لسائره بمدينة قرطبة أعاداها الله دار اسلام عن أبي عبد الله محمد بن عبد الحق الخزرجي قراءة عليه عن أبي عبد الله محمد بن فرج الفقيه مولى الطلاع سماعا عليه قال سمعته على القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله أبن المغيث عن أبي عيسى يحيى بن عبد الله أبن يحيى بن يحيى عن عم أبيه عبيد الله بن يحيى بن يحيى عن مال بن أنس ﵁ ورحمهم وهذا السند لا يوجد مثله بالمغرب علوا واتصالا بالقراءة والسماع، وقرأته أيضا عام ثلاثين وسبعمائة على والدي وأخبرني أنه قرأ منه جميع كتاب الصلاة عرضا عن ظهر قلب على والده جدى عن جماعة جلة منهم والده الخطيب أبو إسحاق وغيره وقرأته بالمسجد من مدينة مالقة المحروسة عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة على الشيخ الخطيب الزاهد الولي الله تعالى أبى عبد الله محمد بن أحمد الهاشمي الطنجالي بسنده فيه وقد قرأته وسمعته بالأندلس وبغرب العدوة على غير من ذكرته رضى الله عن جميعهم. وقد آن أن يبرز فارس ميدان التسجيل المتميز في عناق تلك الحلبة بالغرة والتحجيل المحرز فضل السبق الموجب للتعظيم والتبجيل الشيخ العالم المتصوف أبو عبد الله بن عمر أرضاه الله تعالى، علم الجماعة، وقلم التأييد والاستطاعة، ورب الفكرة المطاعة، ومن له في النظم والنثر القلم الأعلى، والقدم الأولى، واللفظ الأجلى، والقدح المعلى، والبدائع التي تستفاد وتستعاد وتستحلى، وله في الطريقة الصوفية مقام عال، واشتات معال، وخاطر يجول بين واسع مجال فيبرز نفائس لئال وعرائس جمال ويأتي بسحر حلال، وبحر زلال بين بديهة وارتجال، ووخذ وارقال وانحفاز واستعجال.
مكارم مثل الحصا كثرة ... وخاطر يغرف من كل بحر
1 / 15
رحل إلى المغرب والمشرق فعلت روايته وعظمت آياته، وكثرت مبالاته بالعلم وعنايته، فبدأ في سماء المعالي بل المعارف شمسا تتجلى بزهر هدايته مشكلاتها، ولاح في جيد العوارف سلكا تتحلى بذر كفايته لباتها، وأقام مشتغلا بالعلم سنين، وانعقد النكاح بينه وبين عقائل الآداب بالرفاء والبنين، فيلد من مخلدات فكره خرائد تتهاداها الملوك وفرائد تزدان بها التيجان والسلوك، تحلت به الدولة الأندلسية كما تجلت عنه الخضرة التونسية فهو الآن متولي ديوان إنشائها ومدلى أشطان رشائها قد استقر عنه من عرف له شانه وعاف بعده وشانه واقتنى نظمه فزانه وأذخر مرجان نثره وجمانه. دخلت الحضرة المذكورة على حين أخذ مني البين أخذته وفلذ من فؤادي فلذته، فتفرست أدبه الرائق ومذهبه الواضح الطرائق فكان جنابه العلي مطمح نفسي ومسرح أنسي ومصلح ما نضى من لبسي، وانضى من عنسي فكانت فراسة لاح صدقها، وأومض برقها سحابها، وهمل ودقها، ولما عجت إليه وقصدت منزله للسلام عليه، أنشدت بيتين اثنين استأذنته بهما وهما:
ببابك يا مولى الكتابة كاتب ... أتاك بقلب من أسى البين مفجوع
وحاجته تقبيل يمناك، أنها ... تؤمن من خوف وتسمن من جوع
فارتاح إليهما ارتياح الصداق لبليل القبول، ومد لهما يمين اليمن والقبول، ودارت بيننا المخاطبات نظما وتكررت بيننا المراسلات والمراجعات قلا وكثرا، ولم أزل مدة إقامتي بتلك الحضرة تحت ظله الوارف وفضله المحمود المطارف خرج مستريحا في بعض أزمنته الطيبة إلى بعض جناته التي هي منى النواظر، وملعب الغصون النواضر ومهب الأنفاس العواطر وراحة الأبدان والخواطر، حلال الحلل التي توشيها أيدي الغمائم المواطر، فما ألم بها حتى وجه إلى مع بعض خدامه مركوبا من عتاق الخيل، جامعا لضياء الصباح وغسق الليل نقلني إليه، وأحلني لديه، فوافيت والربيع قد أهدى نوافحه، وأسدى لواقحه، وأسدل ملاحفه وأسبل مطارفه، وألان معاطفه وأفاض معارفه، ومد بروده، وأمال قدوده، وحشد جنوده، وحشر بيضه وسوده، ونشر ألويته وبنوده، وملأ تهامته ونجوده، ونظم جواهره وعقوده، ورقم صحائفه وعقوده، وأعطى مواثيقه وعقوده، والغمام قد بكى على ميت الروض فأحيا نوره وأضحك ثغره وحدق أحداقه، وأرضى أوراقه، وأصفى ملبسه، ووشى سندسه، والنسيم قد جر على بساط البسيطة ذيوله، وأجال بملعبه خيوله، واستنطق أطياره، وشق أنواره، وأفشى أسراره، وأذاع شيحه وعراره، وفضض أنواره، وذهب أزهاره، ونثر درهمه وديناره، وحيا ورده وبهاره، وصافح آسه وجلناره، وأطاب ثناياه وأخباره، والمذانب تسل السيوف، وترى لنفسها على الأنهار الشفوف، وتخترق من مكللات الثمار الصفوف، وتدور على سوق الغصون كالخلاخل، وتلتوي بها التواء اللسان المجادل، وتلك السواقي تحن حنين الحوار، وتضرم في القلب المشوق حر الأوار، وتهيج لوعة الصب المغترب النازح الدار، وتفجر من بين أضلاعها أمثال الشفار، كما قال الرئيس أبو عبد الله بن أبى الحسين:
ومحنية الأصلاب تحنو على الثرى ... وتسقي بنات الترب در الترائب
تعد من الأفلاك أن مياهها ... نجوم لرجم المحل ذات ذوائب
وأطربها رقص الغصون ذوابلا ... فدارت بأمثال السيوف القواضب
وما خلتها تشكو بتحنانها الصبا ... ومن بين مثليها أطراد المذائب
فخذ من مجاريها ودهمة لونها ... بياض العطايا في سواد المطالب
فحللت منها شرفا، وتبوأت عرفا، واجتنيت تحفا وطرفا، وأقمنا فيها ليالي وأياما أمنين، تغازلنا أعين النرجس وتقابلنا خدود الورد وتصافحنا أكف الياسمين:
في رياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تفوق لون الراح
قلت وما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح
ومما أنشدني هناك لنفسه:
حسن المرية ريح ... جرى عليها فعما
فكل وجه تراه ... تراه بدارا أتما
1 / 16
وأنشدني وقال لي: أنشدني الحاج الفاضل أبو زكرياء بن واش الفاسي، وقال أنشدني بعض الشيوخ المجاورين البغداديين وقد مر به بحرم مكة، شرفها الله تعالى، الفقيه أبو جعفر بن شيخنا الإمام رضي الدين الطبري، وهو إذ ذاك فتى، فقال له الشيخ،) ما الذي تقرأ وبم تشتغل من الكتب (، فقال له الفتى،) بالتنبيه (فأنشد الشيخ بديهة.
ومهفهف الأعطاف ساج طرفه ... يغدو على الفقهاء للتعليم
شغلوه بالتنبيه جهلا منهم ... لو انصفوا شغلوه بالتنويم
وأنشدني وقال لي، دخل الأديب الشهير أبو بكر بن قزمان، رحمه الله تعالى، على بعض البلاد فأعطى نعله ليصلح له، وهو مستوفز قد نفد ما عنده، فخاطب في الحال بعض الناس من أهل البلد بقوله:
دفعت قرقي لقراق يصلحه ... وفد تعذر قيراط من الثمن
فامنن على شاعر خفت مؤونته ... قدر السؤال بقدر الناس والزمن
وأنشدني لبعضهم:
خبت نار العلى بعد اشتعال ... ونادى الجود حي على الزوال
فقدنا الجود إلا في حديث ... وإلا في الدفاتر والآمال
ولو أني ملكت الأمر يوما ... لما حاربت إلا بالسؤال
لأن الناس ينهزمون منه ... وقد ثبتوا لا لأطراف العوالي
وقرأت وسمعت عليه جميع صحيح مسلم بن الحجاج، رحمه الله تعالى، فكمل لي جميعه عليه ما بين قراءة وسماع بحق قراءته لجميعيه، بالحرم الشريف تجاه الكعبة المعظمة، سنة ثلاث عشرة وسبعمائة على الشيخ الإمام الخليل ﵇ رضي الدين أبى أحمد إبراهيم بن محمد الطبري المكي الشافعي، قال: قرأته أجمع بالحرام الشريف اتجاه الكعبة المعظمة، سنة خمس وسبعين وستمائة على الشيخ الأوحد شمس الدين أبى عبد الله محمد بن النعمان بحق قراءته، على الشيخ أبى الفضل محمد بن أبى المعالي بن الجياب السعدي، على الشيخ الشريف أبى المفاخر سعيد بن الحسين الماموني، عن الشيخ أبى عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي الفراوي، عن الشيخ أبى الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي، عن الشيخ بن أحمد بن عيسى الجلودى، عن أبى إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، عن الإمام، أبى الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى، قال: " وقال الشيخ أبو أحمد إبراهيم بن محمد رضي الدين الطبري، وأخبرني به، أعلى من هذا الشيخ المحدث أمين الدين عبد الصمد بن عبد الوهاب بن عساكر الدمشقي، قراءة عليه وأنا أسمع، بالحرم الشريف تجاه الكعبة المعظمة سنة تسع وخمسين وستمائة قال: أخبرنا به الشيخ أبو الحسن المؤيد الطوسي، اجارة عن الإمام أبى عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي الفراوى، وبسنده المذكور ". وقد أجازني الإجازة التامة، وكتب لي بخطه.
1 / 17
) وآخر سبعهم (، وموثر شفعهم، إمام المعارف، وروضة الآداب الناعمة الأفنان، الرائقة المطارف، الفائزة من المجد الموثل بالتالد والطارف، الشيخ العالم الولي: أبو عبد الله لبن حريز فرع الأصل الغزير، وطبع الأدب المخجل أسلاك الدر وسبائك الإبريز، والمعترف له في ميدان البلاغة وفرسان البراعة بالسبق والتبريز، سبق في شجرة قرشية أموية كريمة الأعراق، ساطعة الإشراق طيبة الأثمار والأوراق، وتفتح نور بيانه في جنان جنانه، فاجتنى لسانه، واجتلى كالزهر في آداره ونيسانه، وترقى بإجادته وإحسانه، من رجل برع في الطرق الأدبية الصوفية، ونبغ في العلوم العقلية والنقلية، وفرغ لها بالنفس العاصفية، والهمة الأوسية والفكرة الأياسية، فخلق فيها رجوما رافقت الأنكدار، وبدورا فارقت الأبدار، وشموسا على كسوفها من الزمان ما دار، فعلا بعدهم قدمه، وأضحى وجمهور العالم حوله وخدمه، فاقتصر في منزله الكريم على عبادة ربه، وإفادة صحبه، سارحا من فنون علوية، في روضات جنات، ودرجات مقامات، وسائحا من عيون مجلداته في بحر أمهات، وفيض ملمهات، منقبضا عن الناس إلا عن المحتاجين إلى مواساته، والمفتقرين إلى إفادته ومؤانسته، فترى تراكم الخلق عليه تراكم الجراد المنتشر، فمجلسه في داره بتونس مجتمع إليه فيه أصناف أهل العلم، وطوائف أولى التقى والفهم، وهو اليوم هناك كعبة العلوم يحج إليها، وعمدة المحاسن يعول عليها، قد جعله الله تعالى محيا للأنفس، وسببا للتأنس، وأودع فيه من صدق المصاحبة، وحسن المداعبة، وكثرة الخشية لله تعالى والمراقبة، ما سلكه على أحسن أسلوب، وملكه الأنفس وحب القلوب، فهو كما كان محمد بن سيرين ﵁، يداعب ويضحك حتى يسيل لعابه، فإذا أردته على شيء من دينه كانت الثريا أقرب إليك من ذلك.
سماحة لا تبارى الريح غايتها ... جودا ولا تتعاطى شأوها السحب
وهيبة لو رآها الدهر ماثلة ... ولي وللرعب في أحشائه صخب
إلى ما رزقه الله تعالى من القريحة الوقادة، والفطنة النقادة، والخوض في بحور العلوم الشرعية والطبيعية، والورود من مشارع الكمالات النفسية، والمشارب الذوقية الوجدانية، والعنايات السلطانية والحمايات العامة والعطايا الحاتمية، والرتب العليه، والزهد في الدنيا الدنية، وبعد الهمة والمشاركة للخاصة والعامة، من هذه الأمة، وإجابة الدعوة، والخلو من الزهو والنخوة، وأنا من رأيت نجاح دعواته، وصلاح حالي بالتماس بركاته، ولازمته وتردد إليه كثيرا فكنت أجد في مجالسته فوائد تنسي الأوطان، وأرد في موانسته موارد تحيي الهائم الظمئان، قلت له يوما، يا سيدي علم الله تعالى أني أحبك فقال لي: ابشر أني رأيت رسول الله ﷺ في النوم، فقال لي:) يا محمد رزقك الله التقوى وحببك إلى خلقه وجعل من يحبك من عبادة المؤمنين قال ﵁: فمن علمت أنه يحبني علمت أنه من عباده المؤمنين (سمعت من لفظه ﵁ جميع تآليفه البديع المزري بروض الربى وزهر الربيع الذي سماه مهب نواسم المدائح، ومصب غمائم المنائح، في مدح أحد حجاب، الخلافة الحفصية، ونقلته من خطه وصححته عليه، وسمعت وقرأت عليه، وأجازني وكتب لي بخطه، ومولده في الثاني عشر لشهر ربيع الثاني عام اثنين وثمانين وستمائة، وأخبرني ﵁ قال: حضرت محتفلة عند بعض الأصحاب انشد فيه المسمع قصيدة ابن صردر العراقي فأعجبت بها، وما أتمها إلا وقد أشربت فؤادي من سمعة واحدة، وعرضتها في الحين على من حضر وهي:
لحاجة نفس ما يفيق غرورها ... وحاجة صب ليس يفضي يسيرها
أكفكفها هطلا على كل منزل ... فلو أنها أرض لغارت بحورها
وما ينفع العين التسهد والبكا ... أذن تعرفا لي مقلة أستعيرها
وقفنا صفوفا بالديار كأنها ... أهذي التي تهوى فقلت نظيرها
لئن أشبهت أجيادها وعيونها ... لقد خالفت أعجازها وصدورها
ووالله ما أدري غداة رمينى ... أتلك سهام أو كئوس تديرها؟
فان كن من نبل فأين حفيفها ... وان كن من خمر فأين سرورها؟
وان قلتما لي ليس في الأرض جنة ... أما هذه فوق الركائب حورها
يعز على الهيم الخوانس وردها ... إذا كان ما بين الشفاه غديرها!
1 / 18
أراكد الحما قل لي بأي وسيلة ... توسلت حتى قبلتك ثغورها
تنال الذي ما شئت منها وتشتهي ... فصف لي ريا منها فأنت خبيرها
ومالي بها علم فهل أنت عالم ... أأفواها أولى بها لأم نحورها؟
يفوح النسيم الرطب من كل منزل ... وما كل أرض يستطاب عبيروها
وان فروع البان من بطن وجرة ... شهي إلينا ظللها وحرورها
ألذ من العذب الجنى عرارها ... وأشهى من الشهد المصفى رحيقها؟
على رسلكم في الحب أنا جماعة ... إذا ظفرت بالحب عف ضميرها
لعمرك ما سحر الغواني بقادر ... على ذات نفس والمشيب نذيرها
وما الشعرات البيض إلا كواكب ... مطالعها رأس وفي القلب نورها
هكذا أملاها على بلفظه، ﵁، وقرأتها عليه بلفظي مصححها لها مرة ثانية وأنشدني أيضا قال هما لأبي الحسن أبن الزقاق ﵁.
وحبب يوم السبت عندي أنه ... ينادمني فيه الذي أنا أحببت
ومن أعجب الأشياء أني مسلم ... حنيف ولكن خير أيامي السبت
فهؤلاء سبعة الدرارى في علو المقام، أو كسبعة الأيام المحيطة بأزمان أكوان الأنام، آثرت ذكرهم انتقاء من أولئك الجهابذة الأعلام، واقتصرت في عددهم على احب الأوتاد إلى الملك العلام، ولما أراد الله سبحانه ان يسعدني بالأخذ عنهم، ويسعفني في الاستفادة منهم، قيض أول من علم غيبة، ووفر جوده وسيبه، ولطائفه الخفية، وعوارفه الالاهية، صديقا في المحبة، وموافقا على الصحبة، حافظا في الصخور والغيبة،
خير أخوانك المشارك في المر ... وأين الشريك في المرأينا؟
الذي ان حضرت سرك بالود ... وان غبت كان أذنا وعينا!
هو الشيخ الفقيه العالم أبو العباس النقارسى، نفع الله بمودته، حافظ مجيد، وحامل مجيد، وناقل سديد وناقد شديد، وعالم فريد، ومدرس مقيد، له طبع حل فيه الذكاء والنبل، وقل فيه لوابل كرمه الطل والوبل، ان وأخاك رأيت الأنس قد ارتدت ذواهبه، وعادت مذاهبه، ووجدت الزمان قد لانت صعابه، وبانت شعابه، وأولاك ودادا أخلصت سريرته، وحمدت في شرعة الوفاء سيرته، فلا حمد إلا ما قد تصفحته له صفحات الفلا، ولا عهد إلا ما حفظه وإلا فلا،
وحسن الوفاء مرشح بخلائق ... تجري مع الماء الزلال إذا جرى
رحل من بلدة تلمسان قبل أن يلم بها الحصار، ويلقى ريحها الإعصار، ويشرب الزمان صفوها بالأكدار ويحكم فيها الخطوب والأقدار، ويدير عليها من البلاء والمحنة ما أدار، فكانت منه فعلة سنية ونقلة سرية، وفراسة اياسية، والماعية عباسية، فدخل الحضرة مشمرا عن ساعد الجد، ومقتادا بقائد الجد، فطلع في آفاقها كوكبا، ورسى في ساحتها كبكبا وجال في ميدانها ركضا وخببا، وتعلق بعروتها الوثقى سببا فسببا، ولم يزل يفحص في هذه المسالك على الكمال، ويستقي من مناهلها العذبة السلسل الزلال إيثارا للرتب المنيفة، واستطلاعا للمقامات الشريفة، فبلغ المنتهى، وخول ما اشتهى، وحل في الحظوة فوق السهى، فهو الآن أحد المدرسين الأعلام، وأوحد من برع في علمي البيان والكلام، وأوجد الناس للدر إذا خاض بحر العلوم بسوابح الأقلام، أديب العصر ونحويه، وعرضيه وبيانيه، وحكميه ومنطقيه، وعددية وفرضية، وأصولية وجدلية، وتعاليجية وأرتماطيقية، جمع أشتات هذه الفضائل وكان فيها صائلا ليس بضائل، وعلم اللغات وسائرها، وفك الأعاريض ودوائرها، إلى إحاطة بعلم التفسير والحديث، وسلاطة على المطالعة والمذاكرة في القديم والحديث، أما الفروع والأصول فبه كنت فيهما أصول، ولم ترعيني قط شرقا وغربا أسرع منه نسخا وكتبا، ولا أقرأ لكل خط ما عسى أن يكون صعبا، على جودة خطه وصحة نقله وضبطه، وإتيانه للسحر الحلال بأي شيء أخذ من الأرض لا يميل بشقه ولا يفطه.
كالحية الرقشاء إلا انه ... يستنزل الاروى إليه تلطفا
يهفو به قلم يمج لعابه ... فيعود سيفا صارما ومثقفا
1 / 19
دخلت الحضرة وقد كساني البين تلك الغمرة، فنبهني منه أخ شقيق وفرج به عني أزمة وضيق، وقد كان يتشوقني على السماع، وينشط للاتصال له والاجتماع، فلما علم بوصولي وصل في لمة من اخوانه الأعلام، وأعيان ذلك الصقع المتصلين بالسؤدد اتصال الألف بالام، فالتقينا هنالك التقاء النفس والأمل، وانتظمنا انتظام القول والعمل، وأقمت معه في منزل واحد، وأمل وافد، لا يستأثر أحدنا بمقسوم، ولا ينفرد عن الآخر بمكتوم ولا مختوم، وهو في كل ذلك يؤنسني غاية الإيناس، ويأخذ بضبعي إلى معرفة أكابر الناس، ويفيدني بأجل الفوائد، ويأتي من مرسوم فضائله بالزوائد، الخارقة للعوائد، وكثيرا ما كنت أعجب من تطلعه إلى المعالي وتحصيله، وأنجب باحتذائي حدوه في جملته وتفصيله، واقتفائي سننه في دقيق الأمر وجليله، والمرء على دين خليله وما زلنا بتلك الحاضرة، نتجلى أنوار المحاضرة، ونجتني نوار المذاكرة، إلى أن جاء يوم الفراق، باخترام ذلك التلاق، واحتدام ذلك الأعلاق، فسبحان من أوجد العهود ثم أعدمها، ووصل تلك الأسباب ثم حذفها، وهذه شيمة الليالي في أعقاب تجميعها بتفريقها وإشراقها كل نفس بريقها، لا تجمع شملا إلا شتته، ولا تصل حبلا إلا بتته، من أطاعها عصته ومن أدناها أقصته ومن وصلها قطعته، ومن نزع إليها نزعته، ومن أرضاها أغضبته وأحرجته، ومن سكن دارها أزعجته وأخرجته، والغبطة بها مع ذلك شديدة، والآمال فيها على أنها دار البلاء جديدة، حتى كأن حقيقة ما يعلم من استحالتها ارتياب، والرحلة عندها إياب، لقد حق أن يرفضها البصير، ويعد لما إليه تصير، ويسئل الله في أمره فنعم المولى ونعم النصير، ألهمنا الله تعالى طريق إرشادنا، وأعاننا على الأعداد لمعادنا، وقضى في العاجل والآجل بإسعادنا، أنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وارجع إلى تتميم ما بدأت عن الأعلام بفضل هذا الفاضل وجلالته، والالماع من ذكر روايته والرواية عنه بما لا يخشى من ملالته، فأقول: أني قرأت عليه جميع تآليفه في العروض الذي سماه بالروض الاريض في علم القريض، وجميع تآليفه في الأدب الذي لخص فيه رسالة أحكام صنعة الكلام من إنشاء الوزير الكاتب أبى عبد الله ابن عبد الغفور، وكتبها لي بخطه، وأجاز لي جميع ما رواه وألفه من تآليفه التي أبدع فيها تلخيص مشكل الحديث لابن فورك، وكتاب حديقة الناظر في تلخيص المثل السائل في علم البيان، وشرح كتاب المصباح لابن مالك، وكتاب إيضاح السبيل والقصد الجليل في علم الخليل في شرح قصيدة ابن الحاجب العروضية، وله تآليف غيرها مما عرف بحمد الله قدرها، وأشتهر على الألسنة ذكرها،
وسارت مسير الشمس في كل بلدة ... وهبت هبوب الريح في البر والبحر
وأنشدني وقال: أنشدني الشيخ الإمام الأوحد أبو عبد الله محمد بن راشد، رحمه لله تعالى، قال: أنشدني لنفسه معين الدين ابن تولواء التوزى، رحمه الله تعالى ورضى عنه:
يا أهل مصر رأيت أيديكم ... عن بسطها للنوال منقبضة
لما فقدت القرى بأرضكم ... أكلت كتبي كأنني أرضة
وأنشدني لغيره:
لحا الله مصر وسكانها ... وفتت أكبادهم بالحسد
متى يرتجى مفلس عندهم ... غني، وعلى كل فلس أسد
وأنشدني الشيخ المحدث الفاضل فتح الدين بن عمر بن سيد الناس رحمه الله تعالى:
بالله ان جزت بواد الأراك ... وقبلت عيدانه الخضر فاك
فأبعث إلى المملوك من بعضها ... فأنني والله مالي سواك
وأنشدني لبعضهم:
جعلت هديتي لكم سواكا ... ولم أقصد به أحد سواك
بعثت إليك عودا من أراك ... رجاء أن أعود وأن أراكا
وأنشدني قال أنشدني الشيخ الإمام الأوحد ناصر الدين أبو علي منصور بن عبد الحق المشذلى ﵀، قال أنشدني أبو عبد الله بن أبى الفضل السلمى المرسي لنفسه:
عابوا الجهالة وازدروا بحقوقها ... وتهاونوا بحديثها في المجلس
وهي التي ينقاد في يدها الغنى ... وتجيئها الدنيا برغم المعطس
ان الجهالة للغنى جذابة ... جذب الحديد حجارة المغنطس
وأنشدني له أيضا:
تنقل فلذات الهوى في التنقل ... ورد كل صاف لا تقف عند منهل
وان سار من تهوى فسر عن جنابه ... ولا تسكبن دمعا على مترحل
1 / 20