أيام يرمقني الغزال إذا رنا ... شغفا ويطرقني الخيال إذا سرا
وأنشدته من شعر ابن المعلم الواسطي المشهور برقة الغزل قصيدة بارعة منها قوله:
خذ من عيونهم الأمان! وهل لمن ... حمل الغرام من العيون أمان؟
كم في البراقع من قسي حواجب ... يصمى القلوب وثيرها المران
رحلوا بأفئدة الرجال وغادروا ... بصدودها فكرا من الأحزان
واستقبلوا الوادي فأطرقت المها ... وتحيرت بغصونها الكثبان
كأنما اعترفت لهم بقدورها ... الأغصان أو بعيونها الغزلان
وأنشدته من شعر ابن الخياط البغدادي قوله من قصيدة:
وابعث لهن الزافرات لا الصبا ... واستمطر الجفون لا السحائبا
أين عداك الركب يا دار الحما ... منكبا لقد تعدى الواجبا
وقفت أدرى فيك دمعا سائلا ... ينشد من قبلك ربعا ذاهبا
لا زال دمع العاشقين والحيا ... يهمى عليك هاطلا وساكبا
حتى يرى فيك الربيع ناشرا ... على الربا من نوره عجائبا
يهدى إلى تلاعه مطارفا ... منه ويكسو جوها جلاببا
أين الأولى ظمئت مذ فارقتهم ... إذ لا أزال للدموع شاربا
بانوا فما أنظر إلا نازحا ... يجري وما أسمع إلا ناعبا
وخلفوا من الهوى بي حادثا ... لمسمعي عن الملام حاجبا
فما أخاف اليوم إلا واشيا ... حيث أمنت عادلا أو عائبا
خذ بيدي وليس تلقى لي يدا ... تأخذها إذا لقيت جاذبا
دمعي وقد كان مصونا جامدا ... اصاره البين مذالا ذائبا
ذبت فلم يبصر بجمسي عائدى ... لو لم أكن لعائدى مخاطبا
بي يقتدي أهل الهوى لأنني ... لهم شرعت في الهوى المذاهبا
فانسب إلى العشق لا إليهم ... ان كنت من إلى الغرام ناسبا
وطيب أذيال النسيم ما جرى ... بها على تلك الخيام ساحبا
حوى أريجا كلما استنشقته ... أقصى الأسى وقرب الحبائبا
وذكرت له ما حفظته من كتاب سورة الألباب، وذخيرة الكتاب، تآليف أبى محمد الحسن بن الفرج بن إبراهيم الكاتب قال فيه دخلت يوما على الوزير أبى القاسم الحسن بن علي المغربي بالموصل، وفي يدي شيء من شعر أبي النجيب شداد بن إبراهيم المعروف بالظاهر الجزرى فسألني عما في يدي فأخبرته بفضل هذا الرجل وفصاحته وبليغ عبارته ومليح استعارته وبديع إشارته فأستنشدني منها شيئا فأنشدته:
يا منكرا شغفي به ... ومكذبا طول اشتياقي
في أي أحوالي تشك ... فهي أحوال السياق
أمدامعي أم ضر جسمي ... أم ضناي أم احتراقي
كلى إذا انصفتى ... حجج عليك بما ألاقى
فاستحسن ذلك وعمل في الحال:
الله يعلم أنني ... ألتذ فيكم باشتياق
وأكاد من انس التذك ... ر لا أذم يد الفراق
وأغض طرفي بعدما ... ولأته غزلان العراق
وأفر من خجل العتا ... ب متى سعدنا بالتلاق
وأنشدته لبعضهم:
أيها الراكب الميمم أرضي ... بلغن بعضي السلام لبعضي
ان جسمي كما تراه بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض
قد قضى الله بيننا بافتراق ... فعسى باجتماعنا سوف يقضى
فلما أنشدته هذه الأبيات فاضت الدموع، ولحق الخشوع فقال لي المولى الشيخ حيا الله بلادك وبلغك من جمع شملك مرادك، وانفصل المجلس الكريم وخصصت بالمقام مبالغة في التكريم، ومما سمعت منه وأخذت عنه الشيخ العالم الأوحد أبو الأصبغ عيسى بن مخلوف المغيلى أحد الأعلام الجلة، وعلماء الإسلام والملة إمام الأنام وعلم الأعلام، سيما في الفروع والأصول وعلم الكلام، مصيبا في كل ما يعتمده في اختياراته، من استقصاء واستيفاء واقتصار واختصار قد فات قدره في ضبط الفوائد الأقدار، وبحرا يأمن وارد صفوه الأكدار، ويوجب فضله الشبق إليه والابتدار، فهو على الإطلاق العالم الصدر العالي القدر، قد جمع إلى معارفه بين الكرم والمروءة والظرف والفتوة، وتشبت بأهداب آداب وتمسك من الرواية بأسباب إلى عقل وحصاة وفضائل غير مستقصاة، رحل إلى آفاق العراق، فأحرز بما اجتلب خصال السباق، وبرز بما اكتسب بخط يده من الأصول العتاق، مما صحح وحدق إلى طريق الصواب عيونه:
ويبدو لها بشر ونشر كأنما ... تبلج وجه الصبح أو نفح الند
1 / 41