وجمعت الضيافة في منزله المذكور بيني وبين نائبه في التدريس، الشيخ الفقيه الإمام برهان الدين أبى إسحاق إبراهيم بن الشيخ الإمام القدوة المرحوم نور الدين أبى الحسن علي المالكي، فعرفني الشيخ ﵁ بجلالة قدره ورسوخ قدمه في العلم وطهارة فجره ثم تمادى المجلس، فشهدت فيه على العيان، ورأيت منه إمام العصر واحد الزمان، عالما من علماء القاهرة وفقيها من فقهائهم، وصدرا في آبائهم، ومتقدما في علمائهم، حافظا للغة العربية، بصيرا بالغريب والنادر، قيما بالشاهد والمثل، عالما بالخبر والآثار، تام العناية بالفقه والسنة ان فاتحته في هذه الجهة فجرت منه بحرا زاخرا، وان عدلت به إلى الأدب ظننت أنه لا يحسن سواه فصيح اللسان، حسن البيان، صحيح الألفاظ واضح المعاني ناصع البراعة جيد البلاغة شاعرا مطبوعا أبرز ذلك الميدان منه فارسا مجلا وكان يوما أغر محجلا:
حيث الغدير وقد أجادت نقشه ... كف النسيم ومرها في جوشن
وغصون دوح النيرين يهزها ... نغم القمارى بالغناء المحسن
من كل لدن كالقوام يميل من ... شرخ الشباب إلى الدلال فينثني
ما بين ثغر بالأقاح مفلج ... وجبين نهربا لنسيم مغصن
ووجوه هاتيك الرياض سوافر ... غيد تزان من المياه باعين
والأرض تجلى في رداء أخضر ... والجو يبرز في قناع أدكن
وأمره الشيخ أن يسمعني ويجيزني فامتثل أمره، وأسعف رغبته، وهو أعزه الله أهل لذلك، وجاز من طريق الشيخ على أهدى المسالك وما ظنك بخليفة ابن حيان ولم يقعد في موضعه غيره لا فلان ولا فلان سمعت منه بمحضر الشيخ وأجازني إجازة تامة وأستنشدته لي من شعره فأنشدني لنفسه من قصيدة:
أراك النقاهل يبلغ الجزع آعله؟ ... وهل آئب يوما إلى الحي راحله؟
وهل لي وجد في دارك مقيله ... أناشده عن أهله وأسائله
وهل عائد عهدي بمنعرج اللوى ... يغازلني ظبي النقا وأغازله
غزال ومكنون الصدور كناسه ... هلال واحناء الضلوع منازله
فلا خمر إلا من سلافة ريقه ... ولا سحر إلا بين جفنيه بابله
ولا ليل إلا ما أجن جبينه ... ولا صبح إلا ما محياه شامله
ولا الغصن المياس إلا قوامه ... ولا الزهر المرموق إلا شمائله
ومن يك موليه الصبابة والضنى ... فما عادل في شرعة الحب عاذله
وأنشدني في غير ذلك مما كتبته في غير هذا، فلما فرغ من إنشاده جعل مجاوبتي إياه من اعتماده فقال لي أنت قد جبت كل مخوفة وجلبت كل أطروفة، فأنشدنا من طرف ما لديك وإلا حاكمناك إلى مولانا الشيخ فيحكم عليك، فقلت السمع والطاعة ولم أجد إلى العذر من استطاعة وأنشدته من شعر الإمام الشريف أبى القاسم علي ن الحسن الملقب بالمرتضى أخي الشريف الرضي قوله من قصيدة طويلة يفخر فيها:
لو لم تعالجه النوى لتحيرا ... وقصاره وقد انتأوا أن يقصرا
أو كلما راح الخليط تصوبت ... عبرات عين لم تقل فتكثرا
قد أوقدت حرق الفراق صبابة ... لم تستعر، وجرين دمعا قد جرى
شغف يكتمه الحياء ولوعة ... خفيت، وحق لمثلها أن يظهرا
وأنى الركائب لم يكن ما خلته ... صبرا ولكن كان ذاك تصبرا
لبين داعية النوى فأريننا ... بين القباب البيض موتا أحمرا
وبعدين بالبين المشتت ساعة ... فكأنهن بعدن عنا أشهرا
عاجوا على ثمد البطاح وحبهم ... أجرى العيون غداة بانوا أبحرا
وتنكبوا وعر الطريق وخلفوا ... ما في الجوانح من هواهم أوعرا
أما السلوى فانه لا يهتدي ... قصد القلوب وقد خشين تذكرا
قد رمت ذاك فلم أجده وحق من ... فقد السبيل إلى الهوى ان يعذرا
أهلا بطيف خيال مانعة لنا ... يقظى ومفضلة علينا في الكرا
ما كان أنعمنا بها من زورة ... لو باعدت وقت الورود المصدرا
جزعت لو خطأت المشيب وإنما ... بلغ الشباب مدى الكمال فنورا
والشيب ان فكرت فيه مورد ... لابد يورده الفتى ان عمرا
يبيض بعد سواده الشعر الذي ... ان لم يزره الشيب واراه الثرا
ومن الشبيبة لأعدتك تحية ... وسناك منهمر الحيا ما استغزرا
فلطالما أضحى ردائي ساحبا ... في ظلك الوافي وعودي اخضرا
1 / 40