أخبرني هناك من أثقه من العلماء، قال أخبرني أحد كتاب السلطان أنهم كتبوا وأحصوا المراكب الجارية في هذا النيل المعدة لا يساق الزرع خاصة، فألفوها تنيف على مائة ألف مركب ماعدا الزواريق الصغار التي للصيد والركوب، وغير ذلك فكأنها أكثر من أن تحصى واخبرني الشيخ الإمام القدوة شمس الدين الكركي قال عد الصاحب الوزير الملك الطاهر وأحصى الجمال الداخلة إلى القاهرة بالماء في كل يوم فبلغت مائتي ألف جمل ما عدا البغال والحمير والسقائين الذين بالزقزق وغيرهم فان ذلك شيء لا ينضبط ولا ينحصر وهذه الجمال المذكورة تحط بالمدينة في كل يوم من أيام الصيف سبع آلاف وفي الشتاء أقل من ذلك، قال وأحصى دكاكين السقائين المعدة للسقي بالقاهرة فبلغت ستين ألف دكان ما عدا السقائين الذين بالأكواز والأكواب في الطريق والأسواق وغيرها، ولو لم يكن للقاهرة ما تذكر به إلا) المارستان (وحده وهو قصر عظيم من القصور الرائقة حسنا وجمالا واتساعا ما لم يعهد مثله بقطر من الأقطار أحسن بناء ولا أبدع إنشاء ولا اكمل انتهاء في الحسن والجمال وانتماء من قد نعمت أدواحه وخبت على خضر الأغصان وزرق العدران أرواحه فلا غرو أن أمن ورقى، ثم لما كسا وأطعم سقى، آية نعمى وفت بالميعاد، وحسنا مثلها يعد للمعاد قد رويت جوانحه الصادية، وجمعت في شرعته السارية والغادية، فها هو فخره بادي الغرر والأوضاح، منبجس بالماء القراح.
متماثل بالحسن كيف لحظته ... ما شئت من أرض به وسماء
ينساب رونقه فتحسب أنه ... متسربل بنسيجه من ماء
لما رأى فيض الزلال أديمه ... طلب الغئور به من استيحاء
فأراك دمعة ضاحك لم تنحدر ... وتحيرت في مقلة حواء
أو ثغر باسمة تهلل ظلمه ... وبه مجاجة ريقة شنباء
ليس الذي يجري هنالك سلسلا ... لكن ذلك ترقرق الأهواء
أخبرني الشيخ العالم المؤرخ شمس الدين الكركي المذكور أنه يكمل في كل يوم من المرضى الداخلين إليه والناقهين الخارجين منه أربعة آلاف نفس وتارات يزيدون وينقصون ولا يخرج منه كل من يبرأ فيه من مرض حتى يعطي إحسانا إليه، وإنعاما إليه كسوة للباسه ودراهم لنفقاته، وأما ما يعالج به المرضى من قناطير الأشربة المقنطرة والأكحال الرفيعة الطيبة التي تسحق فيها دنانير الذهب والإبريز وفصوص الياقوت النفيس وأنواع اللؤلؤ الثمين فشيء يهول السماع ويعم ذلك الجمع إلى ما يضاف إلى ذلك كله من لحوم الطيور والأغنام على اختلافها وتباين أصنافها مع ما يحتاج إليه كل واحد ممن يوافيه ويحل فيه لفرشه وعرشه من غطاء ووطاء ومشموم ومذرور وشبه ذلك مما هو معد على أكمله هنالك وما ليس مثله إلا في منزل أمير أو خليفة، وقد رتب على ذلك كله من الأطباء الماهرين والشهود المبرزين، والنظام العارفين، والخدام المتصرفين، كل ما هو في معالجته موثوق بعدالته مسلم له في معرفته غير مقصر في تصرفه وخدمته، ولو استقصيت الكلام في هذا المارستان وحده لكان مجلدا مستقلا بنفسه إذ في مبانيه الرائعة وصناعاته وتواريخه المذهبة ونقوشه العجيبة المنتخبة التي ترفل في ملابس الإعجاب، وتسحر العقول والألباب، ما يفتن النفوس ويكسف أنواع البدور والشموس، وتعجز عن وصف بعضها خطى الأقلام في ساحة الطروس، فما وقعت عين على مثله ولا سمعت بشبهه وشكله:
تجاوز حد الوهم واللحظ والمنى ... وأعشى الحجا لالاؤه المتضاوئ
فتنعكس الأفكار وهو خواسر ... وتنقلب الأبصار وهي خواسئ
وفي مصر مارستان آخر على مثاله ولكن ليست حاله كحاله فما كل صهباء خمرة، ولا كل سوداء ثمرة، ولا كل حيوان إنسان، ولا كل مارستان:
وما كل دار أقفرت دارة الحما ... ولا كل بيضاء الترائب زينت
1 / 33