وفتحت لي راحة القلب أبواب النزهة، فأطلقت عنان طرف الطرف نحو الجهة فرأيت فيها من المباني الهائلة والأسواق الحفلة والمساجد العتيقة والمدارس الأنيقة والمرابع البارعة والمصانع الناصعة والأزهار والأشجار الباهرة والآثار العامرة والجنود الوافرة والأمم المتكاثرة ما تحار في ذلك الأوهام وتكل دون وصفه الألسن والأقلام، القاهرة وما أدراك ما القاهرة الظلال الوارفة والمياه الهامرة والأرض الأريضة والروضات العاطرة منابر قام السرور في منبر دوحها خطيبا، ومشاهد بذت مغاني الشعب طيبا، إلى أغصان عقدت الجداول خلاخل بسوقها، ولئالئ مثلت من الرياض بسوقها، فمن حيث استقبلت تلك المدينة أشرقت وكيفما لمحت أساريرها برقت ومعلوم أنها قاعدة المشرق وأم المدائن ومقر الملوك ودار الطمأنينة، قد كمل الله حضرتها، وجمل نضرتها بأن قلد بها أمور المسلمين، وخلد فيها العزو والتمكين للسلطان الناصر الدنيا والدين أبى المعالي محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي قسيم الملك أمير المؤمنين أبى الربيع سليمان بن الخلفاء العباسيين فاستمرت سلطنته الآن مدة من خمسين سنة فجاءت الدنيا في أيامه غضة، وزهرة الأيام بهجة، لما منح الله على يديه من الأمن والسكون والدعة وظلال المسرة والهدنة فانسحب ذيل العز، وأنضرب رواق الأمن، وانسدل ستر العافية على الملأ والكافة والأقطار النازحة والغريبة وخصوصا على هذه المدينة وما ظنك بمدينة عذب فيها البحر وفاض عليها من الجنة واستقبل بها النهي والأمر وانحشر الناس إليها فخيل لرائيها الحشر:
وافي إليها النيل من بعد غاية ... كما زار مشغوف يروم وصالا
وعانقها من فرط شوق بحسنها ... فمد يمينا نحوها وشمالا
ركبت بحر نيلها العذب في جملة وافرة من الصحب أخلاقهم أعذب من مائه وشمائلهم أرق من صفائه، فاستوينا على جارية من تلك الجواري المنشئات وسابحة فوق لجة الماء العذب الفرات وتحسبها جامدة وهي تمرمر السحاب وتنساب في الحباب كالحباب ولما ضمت إلينا، ودخلناها وقلنا اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ولا فرش غير ريحان منضد، ولا سقف غير كتان ممدد، تمخر البحر، فامتطينا بأجوقتها مطاه، وتذلل فصفعنا بأجنحتها قفاه وسرنا في منزهات تلك الأقطار الرفيعة إلى أن قضينا أجمل الاوطار وتمتعنا من تلك المنازل الرفيعة بالحدائق الغضة والنسيم المعطار، بحيث تضاحك الورد والبهار، وتفاوح الروض والعرار، وأرضها مخضر نبت صاغ النور تاجه، وحاك القطر ديباجه، وسماؤنا ملتف أيك سال الماء لجينا بين أكنافه، وحاك الزهر وشيا بين أعطافه، فماء الندى مسكوب، ورواق الظل مضروب، والريح تصفق والغصن يتثنى، والقبر يصرصر والبلبل يتغنى، والطير قد تكلم، والعود قد ترنم وقد خيم السرور، وتضاعف بتضاعف النيل الحبور، وبدا لنا يوم حسن، وحسن يوم تمنت حسنه البدور.
يوم لنا والنيل مختصر ... ولكل يوم مسرة قصر
والسفن تغدو في الفرات بنا ... والماء مرتفع ومنحدر
فكأنما أمواجه عكن ... وكأنما دارته سرر
1 / 32