غرقت في بحر هواه وذا ... ك الردف منه موجه الملتطم
وأنشدته من نظمي بديها:
شكوت هواه إلى ردفه ... وهل يسمع الموج شكوى الغريق
وآرخصت لؤلؤ دمعي به ... ولم ادر كيف يباع العقيق
فقال لي الآن حصص الحق، وها أنا أعترف للأندلسيين بالسبق، فقلت له ليس المشارقة لاعترافك بمنكرين ولتجدن أكثرهم شاكرين.
وفي صبيحة يوم الثلاثاء أول يوم من رجب الفرد المبارك من عام سبعة وثلاثين المذكور اجتمعت به مع أخي أبي بكر محمد وكان خروجه من بلدنا قتورية المذكور أولا في ضحوة يوم السبت أول صفر خمسة وثلاثين وسبعمائة فلما قضى الله تعالى حاجته وحجته، وبلغه منها مراده وبغيته، كر راجعا إلى بلاد الصعيد والديار المصرية فقيض الله سبحانه من أوقع خبري عليه، وألقى جملته إليه، فما راعني إلا دخول البشير على بقدومه، واجتلاء غرته مع تسليمه، فتلاقينا بالتحية وتلافينا وبكينا حتى أبكيناه ووالينا بحمد الله تعالى وأتنينا وكم لله من نعمة علينا، وأنشدته على البديهة بيتي منصور الفقيه وهما:
على خير أوقات الزمان آيات ... على الطائر الميمون والبركات
قدمت فقرت بالقدوم عيوننا ... وقد كن أيام النوى قرحات
ولم نزل نسرح في روض من ذلك الاجتماع، ونشرح ما وجدناه من البعد والانقطاع، إلى أن تهيأ نفرنا، وتأتي في البر سفرنا، فخرجنا من الإسكندرية في يوم الثلاثاء ثامن يوم من رجب المذكور، وسرنا في بسيط من الأرض عريض مرداه لا يخترقه النسيم بمسراه، ويكاد البصر يقف عند مداه، بين مدائن عليها نضره النعيم وبساتين اعتمارها من التعميم، وسرحات مونقة، ودوحات مورقة، ونخلات طلع، وخامات زرع، تموج بدائعها موج البحر، وتلوح طلائعها بين كتائب الزهر من لم ير أرض مصر في أوان ربيعها، وأبان زروعها، لم ير منظرا نضيرا إلى أن وصلنا إلى مدينة) القاهرة (فدخلناها في آخر يوم الأحد الثالث عشر لرجب من العام المذكور فنزلنا منها بقرب الجامع الأعظم المشهور بجامع ابن طولون الذي بناه ابن طولون فيما يذكر على مثال المسجد الحرام بمكة المشرفة طولا وعرضا، ولما أنبت كافور الفجر من المسك الغياهب، وظهرت الشمس المنيرة على النجم الثواقب:
حمدت السرى إذ أنزلتني ربوعها ... وأيقنت أني في اغترابي موفق
وسرنا في أقطار تلك الحضرة التي أرضها سندسية اللباس، وروضها متنوع الجناس، وروائحها عنبرية الأنفاس، ومنظرها يجلب أنواع الإيناس، فهي بغية النفس، وغاية الأنس، ومنية الطرف، ومسرح الظرف وسلوة الفكر، ونبعة العلم والذكر، وشغل الخاطر والذهن، ومحل الهناء والأمن:
ما عداها من جنة الخلد إلا ... أننا لا ننال فيها الخلودا
رياضها تشرق، وأطيارها تنطق، وكأن بكل عود عودا يخفق:
وما كنت أدري قبل ذلك والهوى ... فنون، بأن الروض يهوى ويعشق
1 / 31